1 – الملكوت انتقال إلى حالة جديدة

(أ) الملكوت حياة جديدة – مثلا الرقعة والزقاق (لوقا 5: 27-39)

(ب) الملكوت تعليم جديد – مثل الكاتب المتعلم (متى 13: 52)

(ج) دعوتان واستجابتان – مثل الأولاد اللاعبين (لوقا 7: 31-35)

 

(أ) الملكوت حياة جديدة مثلا الرُّقعة والزِّقاق

27وَبَعْدَ هذَا خَرَجَ فَنَظَرَ عَشَّاراً اسْمُهُ لاَوِي جَالِساً عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ، فَقَالَ لَهُ: اتْبَعْنِي. 28فَتَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَامَ وَتَبِعَهُ. 29وَصَنَعَ لَهُ لاَوِي ضِيَافَةً كَبِيرَةً فِي بَيْتِهِ. وَالَّذِينَ كَانُوا مُتَّكِئِينَ مَعَهُمْ كَانُوا جَمْعاً كَثِيراً مِنْ عَشَّارِينَ وَآخَرِينَ. 30فَتَذَمَّرَ كَتَبَتُهُمْ وَالْفَرِّيسِيُّونَ عَلَى تَلاَمِيذِهِ قَائِلِينَ: لِمَاذَا تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ مَعَ عَشَّارِينَ وَخُطَاةٍ؟ 31فَأَجَابَ يَسُوعُ: لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى. 32لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ.

 

33وَقَالُوا لَهُ: لِمَاذَا يَصُومُ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا كَثِيراً وَيُقَدِّمُونَ طِلْبَاتٍ، وَكَذلِكَ تَلاَمِيذُ الْفَرِّيسِيِّينَ أَيْضاً، وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ؟ 34فَقَالَ لَهُمْ: أَتَقْدِرُونَ أَنْ تَجْعَلُوا بَنِي الْعُرْسِ يَصُومُونَ مَا دَامَ الْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ 35وَلكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. 36وَقَالَ لَهُمْ أَيْضاً مَثَلاً: لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ رُقْعَةً مِنْ ثَوْبٍ جَدِيدٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيقٍ، وَإِلاَّ فَالْجَدِيدُ يَشُقُّهُ، وَالْعَتِيقُ لاَ تُوافِقُهُ الرُّقْعَةُ الَّتِي مِنَ الْجَدِيدِ. 37وَلَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ عَتِيقَةٍ لِئَلاَّ تَشُقَّ الْخَمْرُ الْجَدِيدَةُ الزِّقَاقَ، فَهِيَ تُهْرَقُ وَالزِّقَاقُ تَتْلَفُ. 38بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ جَدِيدَةٍ، فَتُحْفَظُ جَمِيعاً. 39وَلَيْسَ أَحَدٌ إِذَا شَرِبَ الْعَتِيقَ يُرِيدُ لِلْوَقْتِ الْجَدِيدَ، لأَنَّهُ يَقُولُ: الْعَتِيقُ أَطْيَبُ (لوقا 5: 27-39).

(ورد هذان المثلان أيضاً في متى 9: 14-17 ومرقس 2: 13-22)

 

مناسبة رواية المثَلين:

روى المسيح هذين المثَلين أثناء وليمة أقامها له لاوي العشار (جابي الضرائب). وكان جمع العشور (أو جباية الضرائب) وظيفة محتقرة عند اليهود، لأن الذي يقوم بها لصٌّ، وخائنٌ لوطنه، لأنه يتقاضى ضرائب أكثر مما يحقُّ له، كما أنه كان يأخذ أموال أبناء شعبه ليؤدّيها للسادة المستعمرين الرومان. فكان العشَّار (في نظرهم) يرتكب خيانتين: خيانةً أخلاقية، وخيانة وطنية.

 

وكان المسيح قد مرَّ بلاوي وهو يؤدي عمله، فدعاه: «اتبعني» (لوقا 5: 27)، فأطاع وترك كل شيء وقام وتبعه. وكان لدعوة المسيح له، ولقبوله هو لتلك الدعوة أثرٌ عظيم في نفسه، فقد شعر أنه ذو قيمة كبيرة في نظر الله. وفاض قلبه بأفراح الخاطئ التائب الذي غُفرت خطاياه، وأراد أن يعبِّر عن ابتهاجه، فأقام وليمة للمسيح احتفالاً بالتجديد الذي جرى له، دعا إليها زملاءه وأصدقاءه من العشارين أمثاله.

 

وفي أثناء الوليمة كانت جماعتان مختلفتان تراقبان المسيح، أولهما جماعة الفريسيين، وهم اليهود المتديِّنون المتزمِّتون، فانتقدوا السيد المسيح والمحيطين به من الذين حضروا وليمة لاوي، وقد اعتبروهم صحابته، وتساءلوا: كيف يقبل معلِّمٌ ديني محترم دعوة الخطاة ويأكل معهم؟ لا بد أنه مثلهم! وأخذوا يراقبون ليروا إن كان لاوي وضيوفه سيراعون مطالب شريعة موسى في الاغتسال قبل الأكل.

 

أما الجماعة الثانية فكانوا بعض تلاميذ يوحنا المعمدان، المعلِّم المتنسِّك المتقشف الذي كان لفرط تقشُّفه «لاَ يَأْكُلُ خُبْزاً وَلاَ يَشْرَبُ خَمْراً» (لوقا 7: 33). وكان قد قال عن المسيح إنه «الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي، الَّذِي صَارَ قُدَّامِي، الَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقٍّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ.. هُوَذَا حَمَلُ اللّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ.. ينْبَغِي أَنَّ ذلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ» (يوحنا 1: 27، 29 و3: 30). فاندهشوا وهم يرون المسيح يأكل ويشرب ويحضر الولائم ويصادق العشارين والخطاة، وهو أسلوبُ حياةٍ يناقض أسلوب معلّمهم المعمدان!

 

سؤالان:

وبسبب هذه الوليمة طُرح على المسيح وتلاميذه سؤالان، أحدهما من الفريسيين، والآخر من تلاميذ المعمدان. سأل الفريسيون تلاميذ المسيح: «لِمَاذَا تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ مَعَ عَشَّارِينَ وَخُطَاةٍ؟» (لوقا 5: 30). وسألوا المسيح: «لِمَاذَا يَصُومُ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا كَثِيراً… أَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ؟» (لوقا 5: 33). وسأل تلاميذ المعمدان السيد المسيح: «لمَاذَا نَصُومُ نَحْنُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ كَثِيراً، وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَلاَ يَصُومُونَ؟» (متى 9: 14).

 

جواب المسيح على سؤال الفريسيين:

 

وأجاب المسيح على سؤال الفريسيين بقوله: «لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ» (لوقا 5: 31 و32). وقد أوضحت إجابة المسيح هذه خمسة أمور:

 

أوضحت طبيعة رسالة المسيح، فهي رسالة الحب الكامل لأنه الطبيب الذي يحب الخطاة، ويتعامل معهم ويختلط بهم، لا لأنه مثلهم، بل لأنه يقدم لهم الشفاء المجاني. إنها رسالة المحبة ذات العرض الذي يشمل كل أمم الأرض، وذات الطول الذي يطول كل العصور، وذات العمق الذي يصل إلى الخاطئ حيثما يكون لينتشله من أعماق سقوطه، وذات العلو الذي يرفع التائب إلى سماء المجد والعظمة. إنها المحبة الفائقة المعرفة، لأنها مجانية، ومتأنية، ودائمة (أفسس 3: 18 و19).

 

أوضحت طبيعة خلاص المسيح، فهو هبته المجانية لمرضى الخطية، ففي المسيح لنا الفداء، «بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ» (أفسس 1: 7). فخلاص المسيح هو الشفاء من مرض الخطية، وهو عطية الطبيب لمرضاه، كما يقول الوحي: «لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ، وَأَمَّا هِبَةُ اللّهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا» (رومية 6: 23). ونحن نخلص برحمة الله ونعمته، فالرحمة تمنع عنا العقاب الذي نستحقه، والنعمة تمنحنا البركات التي لا نستحقها.

 

وأوضحت طبيعة البشر الذين جاء ليخدمهم، فهُم مرضى يحتاجون إلى الطبيب، وهم خطاة يحتاجون إلى التوبة. أما الذين يظنون أنفسهم أبراراً فلا نصيب لهم في شفاء المسيح وخلاصه المفرح.

 

وأوضحت طبيعة الخطية، فهي عصيان يُغضب الله، ويحجب وجهه عن الخاطئ، ويفصل الخاطئ عنه.

 

وأوضحت طبيعة التوبة، فهي رجوع الضال عن ضلاله وتغييره تغييراً كاملاً، لأن روح الله ينيره فيدرك سوء مصيره، ويبكته فيعزم أن يترك خطاياه، فإن «مَنْ يَكْتُمُ خَطَايَاهُ لاَ يَنْجَحُ، وَمَنْ يُقِرُّ بِهَا وَيَتْرُكُهَا يُرْحَمُ»(أمثال 28: 13). كان لاوي مريضاً بحب المال، وكان خائناً لبلده. ولما فتح قلبه وبيته للمسيح نال الشفاء من الجشع، وأقلع عن خيانة بلده.. بل إنه أصبح مبشراً لزملائه الخطاة والضالين، فدعاهم ليلتقوا بالمسيح المخلِّص الذي أنقذه وفرَّح قلبه، ليتمتعوا بما تمتَّع هو به. كما أنه أرادهم أن يشاركوه فرحه، فالسماء تفرح بالخاطئ التائب، كما يفرح التائب بخلاص نفسه.

 

لماذا يصوم الفريسيون؟

 

كان اليهود، ومنهم الفريسيون، يصومون لأن شريعة موسى طالبتهم بصوم يومٍ واحد في السنة هو «يوم الكفارة العظيم» وهو يوم الاعتراف بالخطايا وانكسار القلوب بسببها. وفي هذا اليوم من كل سنة كان رئيس الكهنة يدخل إلى «قُدس الأقداس» في الهيكل، أولاً بدمٍ عن نفسه ليغفر الله له. وعندما يرضى الله عنه يدخل إلى قدس الأقداس مرة ثانية بدمٍ للتكفير عن خطايا الشعب (لاويين 16 وعبرانيين 9: 7).

 

وأضاف الفريسيون إلى هذا الصوم السنوي الذي طالبت به الشريعة صوم يومي الإثنين والجمعة من كل أسبوع، باعتبار أنهما تذكار لصعود موسى إلى جبل سيناء ليأخذ لوحي الشريعة اللذين كتب الرب عليهما الوصايا العشر. وهو صومٌ تطوعي، فوق ما طالبت الشريعة به! وكانت هناك أصوامٌ أخرى، فقد صام بنو إسرائيل يوماً كاملاً مع الصلاة والبكاء، بسبب حزنهم لاضطرارهم للقيام بحرب أهلية (قضاة 20: 26)، وصام دانيال النبي عن الطعام الشهي وعن الاغتسال والادِّهان مدة ثلاثة أسابيع بسبب حزنه، وبسبب انتظاره لإعلانٍ من الرب (دانيال 10: 3).

 

لماذا يصوم تلاميذ يوحنا؟

 

أما تلاميذ يوحنا فكانوا يصومون أصوام الطقس اليهودي. ولما سجن الملك هيرودس معلِّمهم المعمدان حزنوا، فصاموا وصلّوا طالبين أن ينقذ الله معلِّمهم من سجنه.

 

وسأل المسيح: «أَتَقْدِرُونَ أَنْ تَجْعَلُوا بَنِي الْعُرْسِ يَصُومُونَ مَا دَامَ الْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ وَلكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ» (لوقا 5: 34، 35). وفي هذا القول شبَّه المسيحُ يوحنا المعمدانَ، كما شبَّه نفسه بعريس، وتلاميذهما بأنهم بنو العرس. فلن يصوم بنو العرس والعريس معهم. ولكن يحقُّ لتلاميذه أن يصوموا ويصلّوا طالبين نجاته، لأنه كان سجيناً.

 

ولم يكن اليهود يقيمون مراسيم عبادة في حفلات الزفاف، كما نفعل اليوم، بل كانت وليمة العُرس عندهم هي كل شيء. ففي يوم العُرس يُحضِر العريس عروسه من بيتها إلى بيته في موكبٍ يجتاز كل طرقات القرية، يسمعان منهم كل تمنياتهم لهما بالسعادة، ثم يبدأ العشاء الذي يستمر طول الليل. وبالطبع لن يصوم الناس في يوم العرس.

 

لماذا لا يصوم تلاميذ المسيح؟

 

شبَّه المسيح ملكوت السماوات بحفل عرس، وشبَّه نفسه بالعريس، وشبَّه تابعيه بالعروس. وسبب هذا التشبيه أن المسيح العريس هو الرأس المحب، والعائل، ونبع السرور. وأن المؤمنين عروسه لأنهم جسده. ولا يستطيع المؤمنون أن يصوموا ما دام العريس معهم.

 

كانت حياة المسيح على أرضنا مصدر الأفراح والولائم، فبمناسبة ميلاده، قال ملاك الرب: «أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ» (لوقا 2: 10، 11). ولأول مرة في تاريخ أرضنا، احتشد أكبر تجمُّع للملائكة يسبحون الله ويقولون: «الْمَجْدُ لِلّهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ» (لوقا 2: 14). ودُعي اسمه «يسوع» لأنه يخلِّص شعبه من خطاياهم (متى 1: 21).

 

وأفراح خلاصه تبدأ وتستمر، لأنه عمانوئيل «الله معنا» (متى 1: 23). فبعدما تجسَّد المسيح، عمانوئيل، لم تعُد صورة الله عندنا صورة السيد البعيد المتعالي، بل صورة الأب المحب القريب، الذي ندعوه: «يا أبانا الذي في السماوات» (متى 6: 9)، والذي ندنو منه لنسمع تطويباته وهو يصف أصحاب السعادة (متى 5: 1-12)، والذي سكن في وسطنا بحسب وعده: «يَقُولُ الرَّبُّ. وَيَكُونُونَ لِي شَعْباً فَأَسْكُنُ فِي وَسَطِكِ» (زكريا 2: 10 و11). وبسكناه وسطنا يرفع المتَّضعين، ويخفض المتكبرين، كما قالت العذراء المطوَّبة: «أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِين» (لوقا 1: 52) «فَيُعْلَنُ مَجْدُ الرَّبِّ وَيَرَاهُ كُلُّ بَشَرٍ جَمِيعاً» (إشعياء 40: 5).. وكل الذين يقبلونه وينالون خلاصه، يُقال لهم: «فتبتهجون بفرح لا يُنطَق به ومجيد» (1بطرس 1: 8).

 

متى يصوم تلاميذ المسيح؟

 

لا بد أن يصوم تلاميذ المسيح يوم صلبه: «سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ» (لوقا 5: 35). وارتفاع المسيح هو يوم عُلِّق على الصليب، فقد قال: «كَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 14، 15). وقال أيضاً: «وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ» (يوحنا 12: 32).

 

وقد تنبأ المسيح بصلبه قبل حدوثه، فقال لتلاميذه: «ابْن الإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً، وَيُرْفَضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ» (مرقس 8: 31). ثم قال: «ابْنَ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ، وَبَعْدَ أَنْ يُقْتَلَ يَقُومُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ» (مرقس 9: 31). ثم قال: «هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الأُمَمِ، فَيَهْزَأُونَ بِهِ وَيَجْلِدُونَهُ وَيَتْفُلُونَ عَلَيْهِ وَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ» (مرقس 10: 33، 34)

 

ولا شك أن تلاميذ المسيح صاموا يوم رُفع مصلوباً، فكيف يقدرون أن يأكلوا ومعلِّمهم يعاني كل هذه الآلام؟ واليوم يصوم معظم المسيحيين يوم الجمعة العظيمة الذي فيه يذكرون آلام مخلِّصهم. ففي يوم الصليب تحقَّق قول سمعان الشيخ للعذراء القديسة مريم: «وَأَنْتِ أَيْضاً يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ» (لوقا 2: 35)

 

ويصوم تلاميذ المسيح مشتركين معه في آلامه، فقد وُهب لهم لا أن يؤمنوا به فقط، بل أيضاً أن يتألموا لأجله (فيلبي 1: 29). وعندما يتألمون يصومون في انكسار أمام الله طالبين عونه، وهم يعلمون أن أحزانهم ومتاعبهم مؤقَّتة «لأَنَّ لِلَحْظَةٍ غَضَبَهُ. حَيَاةٌ فِي رِضَاهُ. عِنْدَ الْمَسَاءِ يَبِيتُ الْبُكَاءُ، وَفِي الصَّبَاحِ تَرَنُّمٌ» (مزمور 30: 5)

 

وقد علَّمنا المسيح أن نصوم، فقال: «مَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِين… وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِماً، بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً» (متى 6: 16-18). وبالصلاة والصوم نتعلَّم أن نتحكم في أجسادنا، فلا تسود علينا، بل نسود نحن عليها، فنكون خداماً أفضل للمسيح.

 

أولاً – الحاجة إلى خَلْقٍ جديد

يتَّضح لنا من مثلي الرُّقعة والزِّقاق أن هدف مجيء المسيح إلى العالم لم يكن إصلاح أمر الإنسان، بل إعادة خلقه روحياً وتجديده وتغييره تغييراً كاملاً. ويتَّضح لنا أيضاً أن الذي يصبح خليقةً جديدة هو الذي يفتح قلبه للمسيح ولتعليمه.

 

1 – نحتاج إلى ثوب جديد، لأن الترقيع يؤذي ولا يُصلح:

 

قال المسيح عن الرقعة: «لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ رُقْعَةً مِنْ ثَوْبٍ جَدِيدٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيقٍ، وَإِلاَّ فَالْجَدِيدُ يَشُقُّهُ، وَالْعَتِيقُ لاَ تُوافِقُهُ الرُّقْعَةُ الَّتِي مِنَ الْجَدِيدِ… لأَنَّ الْمِلْءَ يَأْخُذُ مِنَ الثَّوْبِ، فَيَصِيرُ الْخَرْقُ أَرْدَأَ» (لوقا 5: 36 ومتى 9: 16).

 

نشأ المسيح في بيئة فقيرة، ولا بد أنه رأى السيدات الفقيرات يرقِّعن الثياب القديمة بقطع قماش جديد، فيزِدْنَ الأمر سوءاً. مع أن الأوجب والأنسب أن يتخلَّصن من القديم ويحصُلن على الجديد.

 

والمعنى المقصود من المثَل أننا نحتاج إلى تجديد كامل، وليس إلى ترقيع القديم. خلق الله أبوينا الأولين آدم وحواء في حالة البراءة، ولكنهما عصيا ربَّهما فأفسد العصيان كل شيء. ولما أخطأ آدم أخطأت ذريته، وسقطت، وصار بعضهم لبعضٍ عدو، فقتل الأخ أخاه! فسدت طبيعتنا ففسدت أعمالنا، وصارت نفوسنا أمَّارة بالسوء، وصرنا بالطبيعة أبناء الغضب. عتُق ثوبنا، الذي هو كناية عن برِّ الإنسان وصلاحه، وصار مهلهلاً لا يستر لابسه، ولهذا لا يرضى الخاطئ بحاله أبداً، ويجد نفسه عاجزاً عن إصلاح نفسه بنفسه. لقد حاول أبوانا الأولان عبثاً أن يسترا نفسيهما بأوراق الشجر، لأن الأرضي مؤقَّت وزائل، ولا يمكنه أن يُصلح الدائم الذي جهَّزه الله للحياة الأبدية.. وكان ما فعله آدم وحواء بأوراق الشجر محاولة ترقيع الثوب القديم بقماش جديد لا يناسبه ولا يساعده. فالترقيع هو محاولة الإنسان العاري أن يستر نفسه بمحاولة ذاتية لإصلاحها بالتوقُّف عن خطية معينة، يتبعها الامتناع عن خطية أخرى.. أعرف شخصاً جرح إصبعه، وكتب تعهُّداً على نفسه بإصلاح أموره، ولكنه عاد إلى سابق عهده، لأنه اعتمد على قوة إرادته وحدها، ولم يأخذ من المسيح قلباً جديداً.. وهناك من يجتهدون لأداء أعمال صالحة بمجهودهم الذاتي، ظانين أن كفَّة حسناتهم الكثيرة تزيل تأثير سيئاتهم، كما أن هناك من يطلب من المسيح أن يُجري بعض التحسينات فيهم، بينما كان الواجب أن يطلبوا منه تغييراً كاملاً، لأن حاجتنا هي إلى تجديد كامل. وهذا ما لا يفعله لنا إلا المسيح، آدم الثاني، الذي لا يُرَقِّع الطبيعة القديمة بل يمنحنا طبيعة جديدة.

 

2 – نحتاج إلى زقاق جديد لأن الزقاق القديم لا يقدر أن يستقبل الجديد:

 

«لَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ عَتِيقَةٍ لِئَلاَّ تَشُقَّ الْخَمْرُ الْجَدِيدَةُ الزِّقَاقَ، فَهِيَ تُهْرَقُ وَالزِّقَاقُ تَتْلَفُ. بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ جَدِيدَةٍ، فَتُحْفَظُ جَمِيعاً» (لوقا 5: 37، 38). كان اليهود يحتفظون بالخمر في أزقَّة تُصنع من جلود الجداء أو الحملان. فبعد ذبح الحيوان يعملون فتحة عند الرقبة، ينفخون فيها ليسلخوا الجلد، ثم يربطون مواضع الأرجل الأربعة، فيُصبح الجِلد زقاقاً يضعون الخمر فيه. وكانوا يضعون الخمر الجديدة في زقاقٍ جديدة، لأن الزقاق الجديدة تحتمل تمدُّد الخمر الناتج عن تخمُّرها، ويمتد عمرها إلى الوقت الذي تحتاجه الخمر لتتعتَّق.

 

والمعنى المقصود أن قلب المؤمن المتجدِّد يحوي معرفة المسيح الجديدة، التي تنمو وتزيد داخله. وكلما عرف نعمة الله يشتاق أن يعرفها أكثر، فينمو في النعمة (2بطرس 3: 18).

 

الزقاق إذاً هي الشكل والقالب، والخمر هي الروح والقلب. وكما أن الخمر الجديدة تتمدَّد فتحتاج إلى زقاق جديدة تتفاعل معها، هكذا روح المسيح فينا يوسِّع قلوبنا، ويعطينا حرية أكثر ومحبة أعمق للآخرين. وكل من يملأه روح المسيح لا يمكن أن يبقى في القالب القديم المتحجِّر الذي لا ينمو ولا يمتد، لأن الحب دائماً يجعل صاحبه يمتد إلى خارج نفسه ليخدم كل من يحتاجون إلى خدمته، مهما كان لونهم أو دينهم. كما أن الحياة الجديدة التي ننالها من المسيح تعطينا امتلاءً وغيرة لنوصِّل رسالة الخلاص إلى غيرنا، فنكون للمسيح شهوداً «فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْض»ِ (أعمال 1: 8). ونجدِّد عهودنا مع الله باستمرار طاعةً للوصية الرسولية: «تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللّهِ الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ» (رومية 12: 2). ونخلع الإنسان العتيق الفاسد، ونتجدَّد دوماً بروح ذهننا، ونلبس الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق (أفسس 4: 22-24 وكولوسي 3: 10).

 

ثانياً – الحاجة إلى تعليم جديد

جاء المسيح بتعليم جديد يُشبع القلب الجديد. وقد لاحظ الناس أنه يعلِّم تعليماً جديداً تؤيده المعجزات، فعندما شفى رجلاً تسكنه الأرواح الشريرة وقف الناس مذهولين يتساءلون: «مَا هذَا التَّعْلِيمُ الْجَدِيدُ؟» (مرقس 1: 27).. وعندما شفى مريضاً بالفالج (الشلل) قال له: «يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ» (مرقس 2: 5) ثم أمره أن يقوم ويحمل فراشه، فبُهِت الحاضرون وقالوا: «مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هذَا قَطُّ!» (مرقس 2: 12)، لأنهم لم يسبق لهم أن سمعوا أو رأوا شيئاً مثل هذا من قبل. ولا زال تعليم المسيح باقياً شامخاً يعلو على كل تعليم، لأنه تعليم المحبة أم الفضائل.

 

وأذكر ثلاثة تعاليم جديدة جاءنا بها المسيح:

 

1 – تعليم جديد عن أبوَّة الله:

 

علَّمنا المسيح أن الله أبٌ محب وأنه قريبٌ منا، وقال: «صَلُّوا أَنْتُمْ هكَذَا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ..» (متى 6: 9-13). عندما نزلت شريعة موسى نزلت على جبل مضطرم بالنار، وسط ضباب وظلام وزوبعة وهتاف بوق، حتى استعفى السامعون من أن تُزاد لهم كلمة، وكان المنظر مخيفاً حتى قال موسى: «أَنَا مُرْتَعِبٌ وَمُرْتَعِدٌ!» (عبرانيين 12: 18-21). أما شريعة المسيح فقد جاءت لسامعيها بالفرح، فقد جلس المسيح ودنا إليه تلاميذه فأخذ يعلِّمهم مبادئ ملكوته مبتدئاً بالقول «طوبى» بمعنى: يالسعادة! (متى 5: 1-3). ولما كان الله أبانا، فإن قوته تعمل في خدمة محبته. وقد كلَّمنا الله في المسيح كلمته المتجسد، الذي عاش بيننا، وكان يأكل ويشرب مع العشارين والخطاة، ودعا نفسه إلى بيت زكا العشار الخاطئ وقضى يوماً في بيته، فكشف لنا وجه الله المحب (لوقا 19: 5).

 

2 – تعليم جديد عن شريعة المحبة:

 

حين سُئل المسيح: «أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ الْعُظْمَى فِي النَّامُوسِ؟» أجاب: «تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ… وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. بِهَاتَيْنِ الْوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ النَّامُوسُ كُلُّهُ وَالأَنْبِيَاءُ» (متى 22: 36-40). وشريعة المحبة تمنح حريةً «لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16). وهو تعليم يسمو على شريعة موسى وفروضها الثقيلة، التي قال عنها الرسول بطرس إنها: «نِيرٌ عَلَى عُنُقِ التَّلاَمِيذِ لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلاَ نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ» (أعمال 15: 10). وهكذا توقَّفت شريعة الطهارة الطقسيَّة، من غسل الجسد والملابس والأواني، وبدأ تطبيق التعليم عن طهارة القلب التي تؤهِّل صاحبها لمعاينة وجه الله (متى 5: 8)، وجاء الجديد بدل القديم، فتعلَّمنا أن ملكوت الله ليس أكلاً وشرباً، بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس (رومية 14: 17).

 

ويسمو ناموس المحبة على كل ناموس، لأن المحبة تكميل الناموس (رومية 13: 10)، وهي أعظم من كل شريعة لأنها تجعل الواجب محبَّباً إلى نفوسنا. في العهد القديم يدعونا الناموسُ عبيداً، أما العهد الجديد فيدعونا «أبناء» و «أحباء» لأن الله أنعم علينا بالتبني، فقد قال المسيح: «لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيداً، لأَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ، لكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي» (يوحنا 15: 15).. ومع أن الله يعتبرنا أبناء، إلا أننا نفتخر بأننا عبيده، نستعبد أنفسنا له بكل رغبتنا، لأننا محتاجون إلى ربوبيته. وهذه العبودية الاختيارية هي التي تحررنا. فعندما نسلم سلاحنا له ونخضع أمامه ننال منه الانتصار.

 

3 – تعليم جديد عن الخلاص:

 

تكلم الله في العهد القديم بالرموز التي تشير للمسيح، أما في العهد الجديد فقد تحقَّقت هذه الرموز.. أشارت ذبائح العهد القديم إلى حمل الله الوحيد الذي يرفع خطية العالم (يوحنا 1: 29)، وكان الختان علامةً في الجسد رمزاً إلى المعمودية التي تعبِّر عن الغسل والتنقية، وكانت وليمة الفصح احتفالاً بالنجاة السياسية والاقتصادية رمزاً لوليمة العشاء الرباني التي تعبِّر عن الحرية الروحية، وكان البخور في الهيكل رمزاً للصلاة التي قال المسيح عنها: «يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلاَ يُمَلَّ» (لوقا 18: 1).

 

وجاءنا المسيح بطريق جديد للخلاص، لا بالطقوس والأعمال، لكن «بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ» (أفسس 2: 5) فقد ظهرت نعمة الله المخلِّصة الساترة لخطايانا. وليست النعمة مثل الشريعة، فالشريعة كالمسطرة التي تُظهِر عوَجنا ونقصنا، ولكنها لا تساعدنا على إصلاح العوَج وتكميل النقص. أما النعمة فيقول صاحبها: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (2كورنثوس 5: 17).

 

وختم المسيح مثَل الزِّقاق بقوله: «لَيْسَ أَحَدٌ إِذَا شَرِبَ الْعَتِيقَ يُرِيدُ لِلْوَقْتِ الْجَدِيدَ، لأَنَّهُ يَقُولُ: الْعَتِيقُ أَطْيَبُ» (آية 39). وهو قولٌ يصف ردَّ فعل من يستمع إلى تعليم جديد، فإنه لأول وهلة يقول إن العتيق الذي اعتاده أفضل. فعندما تُعرَض الديانة الروحية على إنسان يعتنق ديانةً طقسية يقف أمام هذا العرض موقف المتردد، لأنه مستريح إلى القديم الذي عاش فيه. ولكن عندما ينير روح الله قلبه فإنه ينفتح لكلمة الوحي المقدس. وهذا ما حدث مع شاول الطرسوسي الذي كان يهودياً متعصِّباً، ولكن عندما ظهر الله له بنور يفوق نور النهار، قال: «يَا رَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟» (أعمال 9: 6)، فغيَّر الله حياته وجعل منه بولس الرسول.

 

ثالثاً – جاء المسيح بالخَلْق والتعليم الجديدين

كان اليهود يحلمون بالجديد، فكانوا يطلبون اسماً جديداً، كما قيل: «تُسَمَّيْنَ بِاسْمٍ جَدِيدٍ يُعَيِّنُهُ فَمُ الرَّبِّ» (إشعياء 62: 2) والاسم الجديد يعني شخصية جديدة وإنساناً جديداً، لأن المؤمنين يصيرون «مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ اللّهِ الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى الأَبَدِ» (1بطرس 1: 23).. وكانوا يريدون قلباً جديداً، طاعةً للأمر: «اِطْرَحُوا عَنْكُمْ كُلَّ مَعَاصِيكُمُ الَّتِي عَصِيْتُمْ بِهَا، وَاعْمَلُوا لأَنْفُسِكُمْ قَلْباً جَدِيداً وَرُوحاً جَدِيدَةً» (حزقيال 18: 31). وبتعليم المسيح الجديد وخلقه الجديد يصير المؤمنون «رِسَالَةَ الْمَسِيحِ… مَكْتُوبَةً لاَ بِحِبْرٍ بَلْ بِرُوحِ اللّهِ الْحَيِّ، لاَ فِي أَلْوَاحٍ حَجَرِيَّةٍ بَلْ فِي أَلْوَاحِ قَلْبٍ لَحْمِيَّةٍ» (2كورنثوس 3: 3).. وعندما يتغيَّر القلب وتتغير الشخصية يرنمون للرب ترنيمة جديدة ويقولون: «جَعَلَ فِي فَمِي تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً تَسْبِيحَةً لإِلهِنَا» (مزمور 40: 3)

 

وقد نتساءل: من أين لنا هذا الجديد؟ وكيف ندفع تكلفة الحصول عليه؟ ربما نظن أن الأسهل هو أن نرقِّع القديم. لكن الرب الصالح يقدم لنا الجديد الذي دفع هو كل تكلفته. فما أجمل أن نسمع سؤال إسحاق وهو يسير مع أبيه إبراهيم: «هُوَذَا النَّارُ وَالْحَطَبُ، وَلكِنْ أَيْنَ الْخَرُوفُ لِلْمُحْرَقَةِ؟» فيجيبه أب المؤمنين: «اللّهُ يَرَى لَهُ الْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ يَا ابْنِي» (تكوين 22: 7، 8). ويكشف الله عن عيني إبراهيم فيرى كبشاً وراءه مُمسكاً في الغابة بقرنيه، يفدي به ابنه، ويدعو اسم المكان «يهوه يرأه» بمعنى أن الرب يرى ويدبِّر.

 

لا تحاول أن تصلح نفسك بنفسك، فالمحاولة فاشلة كما فشلت محاولة أبوينا الأوَّلين أن يسترا نفسيهما. لكن تعالَ إلى المسيح ليخلق منك إنساناً جديداً ويمتعك بحياة جديدة.

 

سؤالان

ما هو التعليم الجديد الذي جاء به المسيح عن الله، وما هو الفرق بينه وبين التعليم القديم؟

لماذا تفشل المجهودات الذاتية في تغيير الحياة؟ وما هو الطريق الصحيح للتغيير؟

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي