8 – امتياز المجازاة

(أ) المجازاة للجميع – مثل الساعات المختلفة (متى 20: 1-16)

(ب) المجازاة للساهرين – مثل العذارى الحكيمات (متى 25: 1-13)

(ج) المجازاة للعاملين – مثل الوزنات (متى 25: 14-30)

 

(أ) المجازاة للجميع مثل العاملين في ساعات مختلفة

1 فَإِنَّ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلاً رَبَّ بَيْتٍ خَرَجَ مَعَ الصُّبْحِ لِيَسْتَأْجِرَ فَعَلَةً لِكَرْمِهِ، 2 فَاتَّفَقَ مَعَ الْفَعَلَةِ عَلَى دِينَارٍ فِي الْيَوْمِ، وَأَرْسَلَهُمْ إِلَى كَرْمِهِ. 3 ثُمَّ خَرَجَ نَحْوَ السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ وَرَأَى آخَرِينَ قِيَاماً فِي السُّوقِ بَطَّالِينَ، 4 فَقَالَ لَهُمُ: اذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضاً إِلَى الْكَرْمِ فَأُعْطِيَكُمْ مَا يَحِقُّ لَكُمْ. فَمَضَوْا. 5 وَخَرَجَ أَيْضاً نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ وَالتَّاسِعَةِ وَفَعَلَ كَذلِكَ. 6 ثُمَّ نَحْوَ السَّاعَةِ الْحَادِيَةَ عَشَرَةَ خَرَجَ وَوَجَدَ آخَرِينَ قِيَاماً بَطَّالِينَ، فَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا وَقَفْتُمْ ههُنَا كُلَّ النَّهَارِ بَطَّالِينَ؟ 7 قَالُوا لَهُ: لأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْجِرْنَا أَحَدٌ. قَالَ لَهُمُ: اذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضاً إِلَى الْكَرْمِ فَتَأْخُذُوا مَا يَحِقُّ لَكُمْ. 8 فَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ قَالَ صَاحِبُ الْكَرْمِ لِوَكِيلِهِ: ادْعُ الْفَعَلَةَ وَأَعْطِهِمُ الأُجْرَةَ مُبْتَدِئاً مِنَ الآخِرِينَ إِلَى الأَوَّلِينَ. 9 فَجَاءَ أَصْحَابُ السَّاعَةِ الْحَادِيَةَ عَشَرَةَ وَأَخَذُوا دِينَاراً دِينَاراً. 10 فَلَمَّا جَاءَ الأَوَّلُونَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَكْثَرَ. فَأَخَذُوا هُمْ أَيْضاً دِينَاراً دِينَاراً. 11 وَفِيمَا هُمْ يَأْخُذُونَ تَذَمَّرُوا عَلَى رَبِّ الْبَيْتِ 12 قَائِلِينَ: هؤُلاءِ الآخِرُونَ عَمِلُوا سَاعَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ سَاوَيْتَهُمْ بِنَا نَحْنُ الَّذِينَ احْتَمَلْنَا ثِقَلَ النَّهَارِ وَالْحَرَّ! 13 فَقَالَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ: يَا صَاحِبُ، مَا ظَلَمْتُكَ! أَمَا اتَّفَقْتَ مَعِي عَلَى دِينَارٍ؟ 14 فَخُذِ الَّذِي لَكَ وَاذْهَبْ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَ هذَا الأَخِيرَ مِثْلَكَ. 15 أَوَمَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَفْعَلَ مَا أُرِيدُ بِمَالِي؟ أَمْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةٌ لأَنِّي أَنَا صَالِحٌ؟ 16 هكَذَا يَكُونُ الآخِرُونَ أَوَّلِينَ وَالأَوَّلُونَ آخِرِينَ، لأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ (متى 20: 1-16).

 

مناسبة رواية المثل:

جاء شاب غني، كان رئيساً لأحد المجامع (كما يظهر من لوقا 18: 18)، وبحماسة وتواضع سجد أمام المسيح (كما يظهر من مرقس 10: 17). ولعله كان قد سمعه يقول: «أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ» (يوحنا 10: 10) فسأله: «أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، أَيَّ صَلاحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ؟».. فذكَّره المسيح ببعض الوصايا العشر التي لا بد أنه كسرها، حتى يُشعره بحاجته للتوبة التي توصِّله إلى الحياة الأبدية، فقال له: «لا تَقْتُلْ. لا تَزْنِ. لا تَسْرِقْ. لا تَشْهَدْ بِالزُّورِ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَأَحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ». ولعله ظنَّ أن المطلوب هو معرفة الوصايا، كما أن ضميره لم يكن حسّاساً، فقال: «هذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي. فَمَاذَا يُعْوِزُنِي بَعْدُ؟». فعاد المسيح يضع إصبعه على نقطة ضعف أخرى في حياة ذلك الشاب، لعله ينتبه إليها فيعترف بها ويتوب عنها، وقال له: «اذْهَبْ وَبِعْ أَمْلاكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي. فَلَمَّا سَمِعَ الشَّابُّ الْكَلِمَةَ مَضَى حَزِيناً، لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ» (متى 19: 16-22).

 

ولما سمع بطرس هذه الإجابة قارن نفسه بذلك الشاب، فرأى أنه أفضل منه، لأنه ترك شِباك صيده وتبع المسيح ليصير صياداً للناس، فسأل المسيح: «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟» فأجابه أن من يضحّي بأي شيء من أجله «يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ» (متى 19: 27، 29). ثم ضرب مثَل صاحب الكرم الذي استأجر فعلة ليعملوا في كرمه لساعات مختلفة، وفي نهاية اليوم منحهم جميعاً أجراً متساوياً، ليؤكد لسامعيه أن الأجر والحياة الأبدية يُعطَى لكل المؤمنين سواء كانوا أوَّلين أم آخِرين، وأنه لا يحقُّ لأحدٍ أن يدَّعي أنه يستحق الحياة الأبدية لأنه ضحى لأجل المسيح، أو لأنه أكثر من غيره عطاءً للرب.

 

في هذا المثل قال المسيح إن ملكوت السماوات يشبه صاحب الكرم الذي خرج في مطلع اليوم إلى السوق، حيث يتواجد الفَعَلة ليستأجر بعضهم. فوجد مجموعةً أرسلهم للعمل في كرمه، وقال لهم: «أُعْطِيكُمْ مَا يَحِقُّ لَكُمْ» (آية 4). وكان أجر العامل الذي يشتغل طيلة اليوم ديناراً واحداً. ولما كان محصول العنب قد نضج ووجب قطافه قبل موسم المطر، فقد احتاج صاحب الكرم إلى عمال آخرين كثيرين، فخرج في ذلك اليوم إلى السوق أربع مرات، في الساعة الثالثة والسادسة والتاسعة والحادية عشرة من النهار، وفي كل مرة وجد عُمّالاً لم يستأجرهم أحد، فطلب منهم أن يذهبوا للعمل في كرمه، ولم يتَّفق معهم على أجر. ولا بد أنهم توقَّعوا أجراً أقل من دينار، لأنهم لم يشتغلوا اليوم كله.

 

وكان يوم الأجير يبدأ من طلوع الشمس وينتهي بمغيبها. وكان اليهود يعتبرون شروق الشمس الساعة الأولى من النهار (السادسة صباحاً بتوقيتنا)، ويحسبون الغروب الساعة الثانية عشرة (السادسة مساءً بتوقيتنا)، فيكون أن صاحب الكرم استأجر عمالاً في الساعة السادسة والتاسعة صباحاً، والثانية عشرة ظهراً، والثالثة والخامسة بعد الظهر، بحسب توقيتنا. وعندما انتهى اليوم بغروب الشمس أعطى الجميع أجراً متساوياً، لا ظُلم فيه للأوَّلين لأنه اتَّفق معهم على الأجر، وإنما فيه إنعام على المتأخرين.

 

أولاً – كل من يدعو الرب يخلص

يعلِّمنا هذا المثَل أن كل الذين يقبلون دعوة الله في أي مرحلة من مراحل العمر متساوون في نوال خلاصه والحياة الأبدية، لأن «كُلُّ مَنْ يَدْعُو بِاسْمِ الرَّبِّ يَخْلُصُ» (يوئيل 2: 32 وأعمال 2: 21). ولم يتوقَّع أصحاب الساعة الحادية عشرة أن يأخذوا أجراً مساوياً للأجر الذي أخذه الذين اشتغلوا في الكرم أكثر منهم، ولكن إحسان صاحب الكرم منح الجميع بركته.. ويرجع هذا التساوي إلى أن خلاص نفوسنا لا يتوقَّف على ما نفعله نحن، بل على ما فعله المسيح لأجلنا على الصليب، فهو عطيةٌ وإنعامٌ منه، ومِن عمله وحده. فإذا احتمينا بكفارته نخلُص «لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللّهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلا يَفْتَخِرَ أَحَدٌ. لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللّه فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا» (أفسس 2: 8-10).. «كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلادَ اللّهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلا مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلا مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ، بَلْ مِنَ اللّهِ» (يوحنا 1: 12، 13).

 

وبعد قبول دعوة الله لنا نجد أنفسنا تلقائياً نقوم بالأعمال الصالحة التي سبق فجهَّزها لنا لنعملها. فهو لا يُنعِم علينا بالحياة الأبدية لأننا عملنا في كرمه، لكن لأننا قبلنا دعوته. أما عملنا في كرمه فهو ثمر إيماننا. وهو تشريف لا يشتري لنا خلاصنا، لكنه يبرهن أننا خلُصنا، لأنه «مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ» (متى 7: 16، 20). و «مَتَى فَعَلْتُمْ كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَقُولُوا: إِنَّنَا عَبِيدٌ بَطَّالُونَ» (لوقا 17: 10).

 

وتساوي المؤمنين في الحصول على الحياة الأبدية لا يعني أنهم متساوون في الجزاء السماوي «لأَنَّ نَجْماً يَمْتَازُ عَنْ نَجْمٍ فِي الْمَجْدِ» (1كورنثوس 15: 41). صحيحٌ أن المسيح هو الأساس الواحد والوحيد الذي يبني عليه المؤمنون إيمانهم، ولكنهم يبنون هيكلهم الروحي بمواد مختلفة. البعض يبنون بمواد ذهبية وغيرهم بمواد فضية وغيرهم بحجارة كريمة، وغيرهم يبنون خشباً أو عشباً أو قشاً. وفي اليوم الأخير تمتحن النار الإلهية عمل كل واحد، ما هو. فإن بقي عمل أحدٍ قد بناه على المسيح، الذي هو الأساس الواحد، يأخذ أجرة. أما من احترق عمله فسيخلُص، ولكنه سيخسر مكافأة العمل الصالح (1كورنثوس 3: 11-15). ولا شك أن الذي يقيم مبنى من ذهب ينال جزاءً سماوياً أفضل من الذي يبني بالقش.

 

ثانياً – تحذير من التذمُّر

عندما ساوى صاحب الكرم بين العاملين في كرمه تذمر الذين عملوا النهار كله، فقال لقائد المتذمِّرين: «أم عينك شريرة لأني أنا صالح؟». وهناك أسباب كثيرة تمنعنا من التذمر على صاحب الكرم:

 

اهتمام الرب بكرمه: وكرم الرب هو شعبه (إشعياء 5: 7). وهو يحتاج دوماً إلى فعَلة، ويكرمنا بأن يدعونا كل وقت للعمل فيه، كما أمرنا المسيح: «ارْفَعُوا أَعْيُنَكُمْ وَانْظُرُوا الْحُقُولَ إِنَّهَا قَدِ ابْيَضَّتْ لِلْحَصَادِ. وَالْحَاصِدُ يَأْخُذُ أُجْرَةً وَيَجْمَعُ ثَمَراً لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ، لِكَيْ يَفْرَحَ الزَّارِعُ وَالْحَاصِدُ مَعاً» (يوحنا 4: 35، 36). وكل من يعمل ينال أجراً سماوياً.

 

ينال كل مَن يعمل أجراً: فتَّش صاحب الكرم عن الفعلة. ويتنازل الرب ويدعو كل مستعدٍّ للعمل لديه ليتبارك العامل والعمل. إنه يدعو العاملين وأجرته معه ليجازي كل واحد.. وما أعظم الجزاء السماوي العادل لكل من يترك شيئاً ويضحي به في سبيل الله غير ناظر للمكافأة، وهو يقول: «إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ» (فيلبي 3: 8). وما أسعد من يحترس، فلا يقول: «ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك، فماذا يكون لنا؟» وكأن الله مديون له! ولا يجب أن نحسد إخوتنا الذين ينالون إنعامات أكثر منا، كما لم يكن يحقُّ للذين دُعُوا أولاً وتعبوا وقتاً طويلاً أن يطالبوا بجزاءٍ أكبر من جزاء الذين دُعُوا أخيراً وتعبوا وقتاً قصيراً، فإن الجزاء هو الحياة الأبدية لجميع من يقبل دعوة الله ويخدمه. وخلاص الله هو عطية لكل مؤمن.

 

يعطي صاحب الكرم المتقدِّمين والمتأخرين فرصة: يرحِّب الله بالخطاة التائبين الذين يقبلون دعوته، ويكافئهم بأن يمنحهم حياةً أبدية، حتى لو قبلوا دعوته في وقت متأخر من عمرهم.. نعم توجد فرصة للتوبة في كل لحظة من لحظات الحياة، فينال التائب أجراً سماوياً. يقبل بعض الناس دعوة التوبة في عمر الشباب، والبعض الآخر في مرحلة الرجولة، والبعض الثالث عندما يبلغون الشيخوخة، والبعض وهم على فراش الموت، فيقول المسيح لهم جميعاً: «لا تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ فَآمِنُوا بِي. فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ» (يوحنا 14: 1، 2).

 

كان اللص المصلوب التائب من أصحاب الساعة الحادية عشرة، فقد أعلن توبته في اللحظات الأخيرة من حياته، وقال لزميله المصلوب معه: «أَوَلا أَنْتَ تَخَافُ اللّهَ، إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟ أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ، لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا، وَأَمَّا هذَا (المسيح) فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ». ثُمَّ قَالَ لِيَسُوعَ: «اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ» لأن عيني إيمانه رأتا في المصلوب رباً صاحب ملكوت. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ» (لوقا 23: 40-43). وكان الفردوس للص التائب إنعاماً من الله لا يستحقُّه، لأنه كان يستحق الهلاك الأبدي «لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ، وَأَمَّا هِبَةُ اللّهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا» (رومية 6: 23).

 

ولا شك أن كل لحظة من لحظات الحياة فرصة للتوبة، ولو أن أحد الحكماء قال إن 20+40 أفضل من 40+20، ولما سُئل: «كيف يكون هذا مع أن حاصل الجمع في الحالتين هو 60؟» أجاب: «عندما يتوب إنسان في عمر العشرين ويسير مع الله أربعين سنة، يكون أفضل حالاً من الإنسان الذي يتوب في عمر الأربعين، ويسير مع الله عشرين سنة، لأنه يكون قد عاش حياة أفضل وأسعد!». صدق الرجل الحكيم. لذلك يدعونا الوحي: «الْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ فَلا تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ… هُوَذَا الآنَ وَقْتٌ مَقْبُولٌ. هُوَذَا الآنَ يَوْمُ خَلاص» (عبرانيين 3: 15. وما أحكم قول النبي إرميا: «جَيِّدٌ لِلرَّجُلِ أَنْ يَحْمِلَ النِّيرَ فِي صِبَاهُ» (مراثي 3: 27)، فاغتنِم الفرصة لتتوب وتخدم الله لتنال الأجر الآن قبل أن تنتهي أيام العمر.

 

ومن المؤسف أن بعض من يظنّون أنفسهم متقدِّمين يتذمَّرون على قبول الله للمتأخرين، كما تذمَّر يهود عصر المسيح عليه لما زار زكا العشار وأكل في بيته لأنه «دَخَلَ لِيَبِيتَ عِنْدَ رَجُلٍ خَاطِئٍ» (لوقا 19: 7)، لأنهم ظنّوا أنفسهم أصحاب الفرصة الأولى، ونسوا أن الرب يرحِّب بكل من يقبل دعوته ويعمل في كَرْمه، ويمنحه أجراً سماوياً، كما فرح الأب بعودة ابنه الضال، ولو أن ابنه الأكبر تذمَّر على أبيه لأنه استقبل أخاه الراجع من ضلاله، وأخذ يلومه على قبوله والاحتفاء بعودته (لوقا 15: 25-32).

 

الآخِرون أوَّلون: علَّق المسيح قبل رواية هذا المثل، وبعد أن رواه، بالقول: «وَلكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ وَآخِرُونَ أَوَّلِينَ.. هكَذَا يَكُونُ الآخِرُونَ أَوَّلِينَ وَالأَوَّلُونَ آخِرِينَ» (متى 19: 30 و20: 16).. فهناك أولون في نظر أنفسهم وفي نظر الناس ولكنهم آخِرين في نظر الله. وهناك أوَّلون في وصول الدعوة إليهم، مثل بني إسرائيل، لكنهم صاروا آخِرين لأن الأمم سبقوهم إلى ملكوت الله (متى 21: 31 ويوحنا 1: 11، 12). وهناك أوَّلون في الفرصة الممنوحة لهم ليعرفوا الله مثل أهل الناصرة، ولكنهم كانوا آخِرين في نوال فوائد هذه المعرفة (متى 13: 54-58). وهناك أوَّلون في الغِنى والحصول على ممتلكات هذا العالم ولكنهم يكونون آخِرين في الحياة الأبدية، مثل الغني الذي لم يلتفت للعازر (لوقا 16: 19-25).

 

ثالثاً – تحذير من الكسل

سأل صاحب الكرم الفعَلة: «لِمَاذَا وَقَفْتُمْ ههُنَا كُلَّ النَّهَارِ بَطَّالِينَ؟» (آية 6). ولا زال المسيح يسألنا اليوم هذا السؤال نفسه: «لماذا لا تعملون في كرمي؟». هذا سؤال مهم جداً لأن الوقت مقصَّر، فليس عند صاحب الكرم وقت يضيِّعه الفعلة العاطلون عن العمل، وهو الذي قال: «يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ» (يوحنا 9: 4). إنه مستعجل في جمع محصوله قبل هطول الأمطار.

 

والحقيقة الواضحة هي أن الخطاة يمضون إلى مصيرهم الأبدي المحزن بينما المؤمنون يهتمون بما هو لأنفسهم. فلماذا لا يعملون بينما الاحتياج شديد؟ النفوس الموشكة على الهلاك تصرخ: «اعْبُرْ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ وَأَعِنَّا!» (أعمال 16: 9)، ومؤمنون كثيرون لا يردّون، لأن بعضهم خاملون، وبعضهم مشغولون بتفاهات، وبعضهم أصحاب أولويات خاطئة، وبعضهم يقولون إن الناس غير جاهزين للأمور الروحية أو أنهم غير مهتمين بخلاص نفوسهم. وقد يعتذرون عن عدم الخدمة بحُجَّة أن المسؤولين في الكنيسة لم يعطوهم فرصة، وكأن قادة الكنيسة يقدرون أن يكمِّموا أفواه الناس فلا تشهد للمسيح.. مع أن الكرم واسع وجاهز للحصاد.

 

ولكن كم نشكر الله من أجل الفعلة الذين عندما سُئلوا: «لماذا وقفتم هنا؟» أطاعوا الدعوة فوراً. ومنذ وصولهم إلى الكرم عملوا بدون توقُّف، فنالوا أجرهم بالرغم من قِلَّة ساعات عملهم، لأن صاحب الكرم كريمٌ وصالح، لا يُطالب أحداً من فَعَلته بالمستحيل، فهو يعرف ظروفهم، وهو يطعم العاملين عنده ويكافئهم، ولا يوجد صاحب عمل أفضل ولا أكرم منه.

 

في هذا العالم يظلم أصحاب العمل عمّالهم أحياناً، فقد تقدِّم خدمةً لإنسان يتنكَّر لها، وقد تخدم إنساناً اليوم وقت حاجته فيتقاعس عن خدمتك وقت حاجتك، لأن البشر لا يكافئون إخوتهم البشر حقَّ مكافئتهم، بل إنهم قد يسيئون إليهم. أما الله فإنه لا يظلم أحداً، ويقول: «يا صاحب، ما ظلمتك. أما اتَّفقت معي على دينار؟ فخُذ الذي لك واذهب، فإني أريد أن أعطي هذا الأخير مثلك. أوَما يحل لي أن أفعل ما أريد بمالي؟».

 

فما هو مال الرب؟.. إنه الأرض وملؤها، والمسكونة والساكنون فيها، لأن له البهائم على الجبال الألوف، وهو يملك كل شيء (مزمور 50: 7-12).. إنها الآن ساعة لنعمل مع الله، ونقوم ونذهب إلى كرمه المتَّسع، وهو الكريم السخي الذي يدعو: «هَلُمَّ فَأُرْسِلُك»َ (خروج 3: 10)، وأجرته معه ليكافئ كل العاملين. فهيا بنا نعمل عمل الرب بدون رخاوة و «كُلُّ مَا تَجِدُهُ يَدُكَ لِتَفْعَلَهُ فَافْعَلْهُ بِقُوَّتِكَ» (جامعة 9: 10)، لأن الذين لا يعملون يدمِّرون مواهبهم، مثل الرجل الذي أخذ وزنته وطمرها، بينما كان يمكنه أن يستغلها (متى 25: 24).

 

تحدَّث قسيس في إحدى عظاته عن فلاح اشترى محراثين، شغَّل واحداً منهما فكان يلمع، وحفظ الثاني في مخزنه فعلاه الصدأ. وتأثرت سيدة مؤمنة مما سمعت، فقالت للقسيس: «أحتاج إلى مكنسة لأنظِّف غُرف مدرسة الأحد، وأحب أن أعرف أسماء المرضى في كنيستنا لأزورهم وأصلي معهم، لأني لا أريد أن أكون محراثاً صدئاً».. فلنطلب من الرب أن يجعلنا محاريث لامعة.

 

إن المؤمنين الذين لا يعملون يشبهون الفراشة التي تطير فخورة بألوانها الزاهية، أما الذين يعملون فيشبهون النحلة التي تطير لتجمع الرحيق لتصنع منه عسلاً مغذياً ومشبعاً. وينتظر الله منا أن تكون لنا التقوى الجميلة الزاهية الألوان، وأن نبرهن قوة عملها فينا بأن نكون بركة للآخرين. وكل من يخدم يحقِّق نفسه ويشبع قلبه، لأنه يرى نفوساً ترجع إلى الرب فيفرح، وتفرح معه النفوس التائبة وملائكة السماء.. والنفوس المحتاجة للرب كثيرة من حولنا.

 

ربما كنا مشغولين بأشياء كثيرة، ولكنها بالتأكيد أقل قيمة وأهمية من خدمة الرب. فدعونا نعمل في كرم الرب، فننال بركاته العظيمة جداً المذخَّرة لكل عامل مُخْلص. ولا زال صاحب الكرم ينادي: «اذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم فتأخذوا ما يحق لكم». فهيا اخدمه لتأخذ منه ما يحق لك «وَالْحَاصِدُ يَأْخُذُ أُجْرَةً وَيَجْمَعُ ثَمَراً لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ، لِكَيْ يَفْرَحَ الزَّارِعُ وَالْحَاصِدُ مَعاً» (يوحنا 4: 36).

 

سؤالان

ما هو الأجر الذي يتساوى فيه كل العاملين في كرم الرب؟

اشرح العبارة التالية: «كان اللص المصلوب التائب من أصحاب الساعة الحادية عشرة».

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي