(ب) تواضع السلوك مثل المتكأ الأخير

وَقَالَ لِلْمَدْعُوِّينَ مَثَلاً، وَهُوَ يُلاحِظُ كَيْفَ اخْتَارُوا الْمُتَّكَآتِ الأُولَى: «مَتَى دُعِيتَ مِنْ أَحَدٍ إِلَى عُرْسٍ فَلا تَتَّكِئْ فِي الْمُتَّكَإِ الأَوَّلِ. لَعَلَّ أَكْرَمَ مِنْكَ يَكُونُ قَدْ دُعِيَ مِنْهُ. فَيَأْتِيَ الَّذِي دَعَاكَ وَإِيَّاهُ وَيَقُولَ لَكَ: أَعْطِ مَكَاناً لِهَذَا. فَحِينَئِذٍ تَبْتَدِئُ بِخَجَلٍ تَأْخُذُ الْمَوْضِعَ الأَخِيرَ. بَلْ مَتَى دُعِيتَ فَاذْهَبْ وَاتَّكِئْ فِي الْمَوْضِعِ الأَخِيرِ حَتَّى إِذَا جَاءَ الَّذِي دَعَاكَ يَقُولُ لَكَ: يَا صَدِيقُ، ارْتَفِعْ إِلَى فَوْقُ. حِينَئِذٍ يَكُونُ لَكَ مَجْدٌ أَمَامَ الْمُتَّكِئِينَ مَعَكَ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ» (لوقا 14: 7-11).

 

جاء في التلمود اليهودي: «إذا وُجدت ثلاثة أماكن في وليمة، فإن المكان الأوسط هو أفضلها، يليه المكان الذي عن اليمين، ثم المكان الذي عن اليسار». وذات يومٍ دعا أحد الفريسيين المسيح للطعام في بيته، فلاحظ كيف اختار المدعوون أماكن الصدارة الأولى، فقدَّم نصيحته الحكيمة وهي أن يختار الضيف المكان الأخير، وعلَّق على هذا بالقول: «كل من يرفع نفسه يتضع، ومن يضع نفسه يرتفع».

 

ولا زال المسيح يراقب البشر ويضعهم تحت ملاحظته ليرى ماذا يختارون، لأن اختيارهم يكشف عما في قلوبهم من كبرياء أو تواضع، قسوة أو رحمة، كراهية أو حب. فتصرفات الإنسان تكشف ما يكمن في أعماقه، كما أن ما ينطق به اللسان يكشف مكنونات القلب.. وقد جلس المسيح مرةً تُجاه الخزانة التي يضع فيها العابدون عطاياهم، وأخذ يراقب «كيف يلقي الجمع نحاساً في الخزانة». لم يراقب «كم» يلقون، بل «كيف» يلقون (مرقس 12: 42) «لأن عيني الرب تجولان في كل الأرض ليتشدَّد مع الذين قلوبهم كاملة نحوه» (2أخبار 16: 9).

 

ولا شك أن الضيف الذي يختار المتكأ الأول حول مائدة الطعام يفعل هذا لأنه يشعر أنه أعظم من غيره، وأنه أجدر بالمكانة المتقدِّمة، لأنه سبق أن تعلّم أن التواضع صفة مكروهة لأنها صفة العبيد. ولكن المسيح علَّمنا التواضع بمثاله وكلامه، فقد وُلد في مذود بسيط مع أنه الملك، ولم يكن له أين يسند رأسه مع أنه رب المسكونة والساكنين فيها (متى 8: 20). ثم علَّم أن الخير والكرامة يبدآن بالتواضع واختيار المكان الأخير، فينال المدعوُّ الرفعة. وهذا خيرٌ من البدء بالكبرياء واختيار المكان الأول، فيصيب المدعوَّ الخزيُ والخجل، وهو ما قاله الحكيم: «لا تتفاخر أمام الملك، ولا تقف في مكان العظماء، لأنه خيرٌ أن يُقال لك: ارتفع هنا، من أن تُحطَّ في حضرة الرئيس الذي رأته عيناك» (أمثال 25: 6، 7).. وهو ما قاله الرسول بولس: «مقدِّمين بعضكم بعضاً في الكرامة.. مهتمّين بعضكم لبعضٍ اهتماماً واحداً، غير مهتمين بالأمور العالية، بل منقادين إلى المتَّضعين. لا تكونوا حكماء عند أنفسكم» (رومية 12: 10، 16).. وما قاله الرسول بطرس: «كونوا جميعاً خاضعين بعضكم لبعض، وتسربلوا بالتواضع، لأن الله يقاوم المستكبرين، وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة. فتواضعوا تحت يد الله القوية لكي يرفعكم في حينه» (1بطرس 5: 5، 6).. وما أعلنته العذراء المطوَّبة: «شتّت المستكبرين بفكر قلوبهم. أنزل الأعزّاء عن الكراسي ورفع المتَّضعين. أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغين» (لوقا 1: 51-53).

 

ولا زلنا نحتاج إلى هذا الدرس، فأولادنا يحبون الجلوس في مقعد السيارة الأمامي، أو إلى جوار النافذة لأنه الأفضل في نظرهم، والمتحدثون يذكرون مفاخرهم ونواحي قوتهم وما قدموه للفقراء وما خدموا به مجتمعهم وكنيستهم. لذلك قال المسيح: «احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لينظروكم.. فمتى صنعت صدقةً فلا تصوِّت قدامك بالبوق كما يفعل المراؤون في المجامع وفي الأزقة، لكي يُمجَّدوا من الناس» (متى 6: 1، 2).

 

ولم يكن المسيح هنا يعلِّم آداب السلوك، بل كان ينادي بتغيير دوافع البشر الداخلية التي تصنع السلوك، فالطبيب لا يهتم أولاً بارتفاع درجة حرارة المريض، بل بعلاج أسباب ارتفاعها. فليست المشكلة في اختيار المكان الأول للجلوس، لكن في نيَّة وأفكار القلب المتكبِّر المتعالي على الآخرين.

 

ويقدم الكتاب المقدس لنا شخصيات عظيمة متواضعة مع أن الله منحها كل شيء بسخاء، فموسى الذي مكث في حضرة الرب وقتاً طويلاً حتى انعكست نعمة الله على وجهه ببهاء، فصار وجهه يلمع حتى خاف الشعب أن يقتربوا إليه لم يكن يعلم أن جلد وجهه صار يلمع (خروج 34: 29).

 

ويوحنا المعمدان الذي قال عنه المسيح إنه أعظم المولودين من النساء (متى 11: 11) تواضع وأنكر ذاته وقال عن نفسه «أنا صوتُ صارخٍ في البرية» (يوحنا 1: 23) فاعتبر نفسه مجرَّد صوت! وقال عن المسيح: «هو الذي يأتي بعدي، الذي صار قدامي، الذي لست بمستحقٍّ أن أحلَّ سيور حذائه» (يوحنا 1: 27). وعندما تركه تلاميذه ليتبعوا المسيح لم يتذمر ولم تُجرَح كبرياؤه، بل قال: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص.. الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع» (يوحنا 3: 30، 31).

 

ونرى في الرسول بولس صورة حية للتواضع وهو يقول: «بولس، عبد الله ورسول يسوع المسيح لأجل إيمان مختاري الله» (تيطس 1: 1) «أنا بولس أسير المسيح يسوع لأجلكم.. أنا أصغر جميع القديسين» (أفسس 3: 1، 8). «لأني أصغر الرسل، أنا الذي لست أهلاً لأن أُدعى رسولاً» (1كورنثوس 15: 9). ومع أن الله ميَّزه بالصعود إلى الفردوس حيث سمع كلماتٍ لا يُنطَق بها، إلا أنه لم يرتفع بفرط الإعلانات، وقال: «من جهة هذا أفتخر. ولكن من جهة نفسي لا أفتخر إلا بضعفاتي» (2كورنثوس 12: 4-10).

 

كل هؤلاء تتلمذوا على يد معلم صالح متواضع، قدّم نفسه نموذجاً لما علَّم به، فغسل أرجل تلاميذه «قبل عيد الفصح، وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب، إذ كان قد أحبَّ خاصَّته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى- يسوع وهو عالم أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه، وأنه من عند الله خرج، وإلى الله يمضي، قام عن العشاء وخلع ثيابه وأخذ منشفة واتّزر بها، ثم صبّ ماءً في مغسل وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ ويمسحها بالمنشفة التي كان متزراً بها.. فلما كان قد غسل أرجلهم وأخذ ثيابه واتكأ أيضاً قال لهم: أتفهمون ما قد صنعتُ بكم؟.. فإن كنتُ وأنا السيد والمعلّم قد غسلت أرجلكم، فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض» (يوحنا 13: 1، 3-5، 12، 14).

 

فلنتضع أمامه لأننا لن ننسى اتضاعه، لأنه ترك لنا مثالاً لكي نتَّبع خطواته (1بطرس 2: 21).

 

أولاً – مساوئ رفع النفس

تحذيرات الوحي من رفع النفس: رفع النفس كبرياءً وتعظُّماً خطية كبيرة، حذرنا المسيح منها بقوله: «تحرَّزوا من الكتبة الذين يرغبون المشي بالطيالسة، والتحيات في الأسواق، والمجالس الأولى في المجامع، والمتكآت الأولى في الولائم» (مرقس 12: 38، 39). ومع أن الكتبة كانوا أساتذة الشريعة ومفسِّريها إلا أنهم رفعوا نفوسهم، وأرادوا أن يحتلوا المراكز الأولى، وأطالوا صلواتهم أمام الناس ليُظهِروا تقواهم فينالون المديح، فقال المسيح لهم: «ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون، لأنكم تأكلون بيوت الأرامل، ولعلَّة تطيلون صلواتكم. لذلك تأخذون دينونة أعظم» (متى 23: 14).

 

كانت خطية الكبرياء سبب سقوط أبوينا الأولين، إذ عصيا الرب وأطاعا نصيحة الحية التي قالت لهما: «يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما، وتكونان كالله عارفين الخير والشر» (تكوين 3: 5). ولهذا حذَّرنا الوحي بالقول: «هكذا قال العليُّ المرتفع، ساكن الأبد، القدوس اسمه: في الموضع المرتفع المقدس أسكن، ومع المنسحق والمتواضع الروح، لأحيي روح المتواضعين، ولأحيي قلب المنسحقين» (إشعياء 57: 15)، فقلب الرب القدوس، صاحب المكان العالي، نحو المسكين بالروح ليحييه، ونحو المتواضع ليرفعه، و «طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات» (متى 5: 3). أما عن المتكبر فيقول المرنم: «مستكبر العين ومنتفخ القلب لا أحتمله.. لأن الرب عالٍ ويرى المتواضع، وأما المتكبر فيعرفه من بعيد» (مزمور 101: 5، 138: 6)، لأنّ رائحة كبريائه تزكم الأنوف! لهذا قال المسيح: «إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه.. ويتبعني» (لوقا 9: 23).

 

ولإمام الحكماء أقوال عظيمة عن خطورة الكبرياء، منها: «أبغضتُ الكبرياءَ، والتعظُّمَ، وطريقَ الشر، وفمَ الأكاذيب» (أمثال 8: 13) و «تأتي الكبرياء فيأتي الهوان، ومع المتواضعين حكمة» (أمثال 11: 2) و «الخصام إنما يصير بالكبرياء» (أمثال 13: 10) و «الرب يقلع بيت المتكبرين» (أمثال 15: 25) و «قبل الكسر الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح» (أمثال 16: 18) و «أرأيت رجلاً حكيماً في عيني نفسه؟ الرجاء بالجاهل أكثر من الرجاء به!» (أمثال 26: 12). و «كبرياء الإنسان تضعه، والوضيع الروح ينال مجداً» (أمثال 29: 23).

 

رفع النفس يضع النفس: الذي يرفع نفسه يعطيها مكاناً ليس من حقها، لأن الرفعة لله وحده. وقد صوَّر الواعظ الشهير «بل برايت» الكبرياء بأنها وضع الذات على عرش القلب، بينما المسيح على الصليب. وصوَّر التواضع بأنه المسيح يتربَّع على عرش القلب، بينما الذات على الصليب. فإن الكبرياء تقطع صلة المتكبر بالله وتجلب عليه تأديبه «فإن لرب الجنود يوماً على كل متعظم وعالٍ وعلى كل مرتفع فيوضع» (إشعياء 2: 12). ويستجيب الله ما طلبه أيوب: «انظر إلى كل متعظم وذلّله، ودُس الأشرار في مكانهم» (أيوب 40: 12).

 

ومن مشكلات المتكبِّر أنه يحب الذين يرضونه ويمدحونه ويتوافقون معه، ويُعرِض عمَّن يعارضونه أو يقدمون له النصيحة، فالكبرياء غرور وسوء تقييم للنفس.. يعطي الربُّ الإنسانَ نجاحاً فينسى صاحب الفضل، ويعزو النجاح لذكائه وقدراته ومواهبه الطبيعية. ولكن عندما تأتي ساعة التجربة يدرك المتكبر من هو المعطي الجواد.

 

ورفع النفس أسرع طريق لضعة النفس والأسرة، فإذا تكبَّر أحد الزوجين على شريك الحياة وافتخر بماله أو جاهه، فإنه يُضعِف المحبة في شريكه أو يقتلها، ويفرِّق أبناءه عن طاعته وطلب مشورته، ويجلب النكد على أسرته.

 

كما أن رفع النفس يؤدي إلى انهيار الممالك وسقوط الحكام. قال فرعون: «من هو الرب حتى أسمع لقوله فأطلق إسرائيل؟ لا أعرف الربَّ، وإسرائيل لا أطلقه» (خروج 5: 2) فحلَّت الكوارث بالمصريين، ومات بكر فرعون، وغرق جيشه فلم يبق منهم واحد (خروج 14).

 

وعندما انتصر بنو إسرائيل على أريحا ارتفعوا في نظر أنفسهم، ونتيجة لاستكبارهم ذهبوا ليهاجموا مدينة عاي وقالوا لقائدهم يشوع: «لا يصعد كل الشعب، بل يصعد نحو ألفي رجل أو ثلاثة آلاف رجل ويضربوا عاي. لا تكلِّف كل الشعب إلى هناك، لأنهم (أهل عاي) قليلون». فصعد من الشعب إلى هناك نحو ثلاثة آلاف رجل، فهزمهم أهلُ عاي (يشوع 7: 3، 4). فاتَّضعوا لأنهم ارتفعوا في نظر أنفسهم!

 

وهذا ما جرى لنبوخذنصر الذي قال: «أليست هذه بابل العظيمة التي بنيتها بقوة اقتداري ولجلال مجدي؟» فأزال الرب المُلك عنه، وطُرد من بين الناس وأكل العشب مع الحيوان، حتى تعلم أن «العليَّ» متسلطٌ في مملكة الناس، يعطيها من يشاء. وأدرك قوة الرب وعظمته ورحمته، فقال: «أنا نبوخذنصر رفعتُ عينيَّ إلى السماء، فرجع إليَّ عقلي وباركت العلي وسبحت وحمدت الحيَّ إلى الأبد، الذي سلطانه سلطان أبدي وملكوته إلى دور فدور.. وهو يفعل كما يشاء في جند السماء وسكان الأرض.. فالآن.. أسبِّح وأعظم وأحمد ملك السماء، الذي كل أعماله حق وطرقه عدل، ومن يسلك بالكبرياء فهو قادر على أن يذله» (دانيال 4: 28-37).

 

وقد هلك الملك هيرودس الذي في يوم معيَّن، لعله عيد ميلاده، لبس الحلة الملوكية وجلس على كرسي المُلك يخاطب الشعب. فصرخوا: «هذا صوت إله لا صوت إنسان! ففي الحال ضربه ملاك الرب لأنه لم يعطِ المجد لله، فصار يأكله الدود ومات» (أعمال 12: 21، 22).

 

ثانياً – بركات وضع النفس

كل من يضع نفسه ويأخذ الموضع الأخير ينال الرفعة، ويُقال له: «يا صديق، ارتفع إلى فوق!.. لأن كل من يرفع نفسه يتضع ومن يضع نفسه يرتفع». وما أجمل الوصية: «أن لا يرتئيَ (الإنسان) فوق ما ينبغي أن يرتئيَ، بل يرتئي إلى التعقُّل، كما قسم الله لكل واحد مقداراً من الإيمان» (رومية 12: 3). «فإنك حينئذ تتلذَّذ بالرب، وأُركِّبك على مرتفعات الأرض» (إشعياء 58: 14).

 

نصائح الوحي بوضع النفس: يقدم الوحي المقدس لنا المسيح نموذجاً في التواضع الذي يرفع صاحبه، فقد دخل وهو الملك عالمنا مولوداً من عذراء فقيرة في مذود، إذ لم يكن له موضع في المنزل، وبذل نفسه لأجلنا على الصليب مسحوقاً لأجل معاصينا، فجعلنا نطيع قوله: «تعلَّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم» (متى 11: 29)، ونجتهد أن نطبِّق النصيحة الرسولية: «لكم محبة واحدة بنفس واحدة، مفتكرين شيئاً واحداً، لا شيئاً بتحزُّبٍ أو بعُجب، بل بتواضع، حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم. لا تنظروا كل واحد إلى ما هو لنفسه، بل كل واحد إلى ما هو لآخرين أيضاً. فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً، الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد، صائراً في شِبه الناس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب. لذلك رفَّعه الله أيضاً، وأعطاه اسماً فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب» (فيلبي 2: 2-11).

 

ما يساعدنا على وضع النفس: يساعدنا تقييمنا الواقعي لنفوسنا على التواضع، لأن الإنسان يميل إلى تقييم ذاته بأفضل مما هي عليه، وقد يكون في هذا التقييم الخاطئ مخلصاً أشد الإخلاص، كما قال بطرس للمسيح: «وإن شكَّ فيك الجميع فأنا لا أشكُّ أبداً» مع أن المسيح سبق وقال: «كلكم تشكون فيَّ في هذه الليلة، لأنه مكتوب: أني أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية» (متى 26: 31، 33). ومع أننا نجد الكثيرين يقيِّمون ذواتهم تقييماً عالياً لا يتفق مع الواقع، إلا أننا نجد البعض يُنقِص من قدر نفسه فيعذبه الإحساس بالدونية. وما أقل من يقيِّمون نفوسهم تقييماً صحيحاً.

 

ولا يمكن أن يكون الإنسان متواضعاً إلا إن كان عظيماً حقاً. فالكبرياء تعبير النفس التي تخشى عدم احترام الآخرين، والتي لا تقدِّر نفسها، فتريد أن تفرض نفسها على المحيطين بها. ولكن لو عرف المؤمن أنه ملح الأرض، وأنه نور للعالم، لامتلأت نفسه بالإحساس بالقيمة التي تعلِّمه التواضع. ولا يوجد من يستحق أن يكون عظيماً إلا الذي فتح قلبه للمسيح فأصبح هيكلاً للروح القدس، ينتمي للرب الذي دُعي اسمه عليه، فالرب دائماً يميِّز تقيَّه (مزمور 4: 3).

 

وأذكر ثلاثة عوامل مساعدة تعيننا لنتواضع:

 

نقيِّم أصلنا: يجيء البشر من خلفيات مختلفة، وينشأون في عائلات غنية أو فقيرة، متعلمة أو بسيطة، فهُم يختلفون في مراكزهم الاقتصادية والعلمية. لكنهم جميعاً يتشابهون في أنهم تراب، وإلى تراب يعودون، فقد جبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفساً حيَّة (تكوين 2: 7 و3: 19). وعند الموت «يرجع التراب إلى الأرض كما كان، وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها» (جامعة 12: 7). وقد قال المرنم: «لأنه يعرف جبلتنا. يذكر أننا تراب نحن. الإنسان مثل العشب أيامه. كزهر الحقل كذلك يزهر. لأن ريحاً تعبر عليه فلا يكون، ولا يعرفه موضعه بعد» (مزمور 103: 14-16). فلنذكر أصلنا لنتواضع!

 

نقيِّم ما عندنا: عائلة وعِلم ومواهب ومال، وكلها من عطايا الله لنا «لأنه من يميِّزك؟ وأي شيء لك لم تأخذه؟ وإن كنت قد أخذت فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟» (1كورنثوس 4: 7). ولنسمع تقييم الرسول بولس للمؤمنين: «فانظروا دعوتكم أيها الإخوة: أن ليس كثيرون حكماء حسب الجسد، ليس كثيرون أقوياء، ليس كثيرون شرفاء. بل اختار الله جُهّال العالم ليُخزي الحكماء، واختار الله ضعفاء العالم ليُخزي الأقوياء.. لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه.. حتى كما هو مكتوب من افتخر فليفتخر بالرب» (1كورنثوس 1: 26-31).

 

نقيِّم حالنا الروحي: يظن كثيرون أنهم يؤدون كل الطقوس الدينية الواجبة، مثل الشاب الغني الذي سأل المسيح: «أيها المعلم الصالح، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟» فأجابه: «أنت تعرف الوصايا». فقال له: «يا معلم هذه كلها حفظتها منذ حداثتي!» ولكنه عند الامتحان اغتمَّ من أوامر المسيح ومضى حزيناً! (مرقس 10: 17-22). ويرجع سبب هذا الغم إلى تقييم النفس تقييماً روحياً خاطئاً.

 

فلنحترس من أن نقيس قامتنا الروحية بالتقييم المبالغ فيه لأنفسنا، أو بالبشر الناقصين مثلنا. ولنسعَ للنمو في النعمة «إلى أن ننتهي جميعنا إلى قياس قامة ملء المسيح» (أفسس 4: 13) الذي قال: «متى فعلتم كل ما أُمرتم به، فقولوا: إننا عبيدٌ بطالون، لأننا إنما عملنا ما كان يجب علينا» (لوقا 17: 10). فعلى كل من يحتل مركزاً قيادياً في الكنيسة أن يقول إنه «عبدٌ بطال»، وهكذا يجب أن يقول كل الأعضاء البارزين والمترددين على الكنائس، لأننا نعرف أنه «لا فرق، إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله، متبرِّرين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح» (رومية 3: 22-24). ولنقُل دائماً إننا خطاة مخلَّصون بالنعمة.

 

سؤالان

لماذا يقيِّم معظم الناس نفوسهم بأعظم من واقعهم؟

اذكر ثلاثة أمور تساعد الإنسان أن يضع نفسه.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي