عمانوئيل

‘Emmanou”l

“عمانوئيل” تُنطق بكسر العين، وبالعبرية
‘Immanû’-êl
.

وترجمتها الصحيحة “الله يكون معنا” باعتبار المستقبل.

لأن إشعياء أخذها كوعد خلاص بعلامة فوق الطبيعة.

لأن مملكة يهوذا وقعت فريسة بين أرام وأفرايم، إذ تعاهدا عليها أن يحارباها ويأخذاها ويُنصِّبا عليها ملكاً من عندهم: “أرام تآمرت عليك بشرٍّ مع أفرايم وابن رمليا قائلة: نصعد على يهوذا ونقوِّضها ونستفتحها لأنفسنا ونملِّك في وسطها ملكاً ابن طبئيل
” (إش 5: 7و6). كان ذلك في أيام آحاز بن يوثام بن عُزيا ملك يهوذا، فأخبر بيت داود (مركز الملوكية): “فرجف قلبه وقلوب شعبه
” (إش 2: 7):

+ “ثم عاد الرب فكلَّم آحاز (بفم إشعياء النبي) قائلاً: اطلب لنفسك آية من الرب إلهك (ليطمئن أن الله
معه) عمِّق طلبك أو رفِّعه إلى فوق. فقال آحاز لا أطلب ولا أُجرِّب الرب، فقال: اسمعوا يا بيت داود، هل هو قليل عليكم أن تُضجروا الناس حتى تُضجروا إلهي أيضاً. ولكن يُعطيكم السيد نفسه آية: ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل” (إش 10: 7
14)

ثم بعد 700 سنة يتمم الله الآية، ويحقق الوعد، ويُعطي المعجزة التي بلغت رِفْعتها حتى إله السماء، وعُمْقها حتى شكل العبد!!

فهذا هو الله، في المحنة يذكر رحمة ويعطي معونة بآية تتحقق في ميعادها، وإن توانت فلا تتضجَّر لأنها تعمل بأثر رجعي لتزيل كل أحزان الماضي ومآسيه، وتمتد لتضمن للمستقبل حياة المجد!

يقول حبقوق النبي:

+ “على مرصدي أقف وعلى الحصن أنتصب وأُراقب لأرى ماذا يقول لي وماذا أُجيب عن شكواي. فأجابني الرب وقال: اكتب الرؤيا وانقشها على الألواح لكي يركض قارئها، لأن الرؤيا بعدُ إلى الميعاد وفي النهاية تتكلَّم ولا تكذب، إن توانت فانتظرها لأنها ستأتي إتياناً ولا تتأخر” (حبقوق 1: 2
3)

وهكذا وعد إشعياء آحاز واليهودية وبيت داود، وهوذا بعد 700 سنة يولد بحسب إشعياء لبيت داود، من عذراء داود، عمانوئيل، ليجعل من اليهودية آية في الأرض كلها ومن بيت داود خلاصاً لكل العالم.

أما
معجزةميلاد الرب من عذراء، فتقف في قوتها وفعلها موقف
معجزةأن يُدعى الله “عمانوئيل” الذي تفسيره “الله معنا”. فأنْ تلد العذراء فهذه معجزة، ولكن أنْ يُدعى المولود منها عمانوئيل فهذه معجزة المعجزات.

إنها مبادرة من الله تكشف عن مدى قلقه كل الدهور السالفة، وهو يترصَّد الوقت والمناسبة لكي يأتي إلينا يطلب القُربَى منَّا والصلح والتودُّد، ويبقى معنا بقاءً أبدياً.

ف “عمانوئيل”، الله
معنا، لم يعُدْ اسماً ولقباً للرب يسوع المسيح المولود من العذراء، ولكنه كيان حقَّقه تحقيقاً ثابتاً أبدياً بأخذه جسداً لنفسه من العذراء بروح الآب. فقد لبسه على مدى تسعة شهور ولن يخلعه أبد الدهور.

فبلبسه جسدنا صار
معنابل صار فينا بل صار لنا، وأدخلنا في كيانه فصرنا وكأننا من لحمه وعظامه. شهوة اشتهى الآب منذ الأزل أن يكون له بنين يحبونه ويمدحون مجده:

+ “.. الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم (قبل الزمن
هناك في الأزل) لنكون قديسين وبلا لوم قدَّامه في المحبة.
إذ سبق فعيَّننا للتبنيبيسوع المسيح
لنفسه حسب مسرة مشيئته(ليكوِّن منَّا خوارس للمدح والتسبيح) لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب” (أف 3: 1
6)

أما ابنه الرب يسوع المسيح فاشتهى أن يكون بكراً بين إخوة كثيرين فصمم أن يشبه إخوته في كل شيء (رو 29: 8، عب 17: 2)!! فلكي يحقق الله اسمه “عمانوئيل”، الله
معنا، دفع ابنه للتجسد ثم الفداء والخلاص والمصالحة والتبنِّي، حتى صيَّرنا بنينَ لله، لنقف أمامه قديسين بلا لوم نمدحه بالمحبة التي سكبها فينا بغنى.

لقد حقق المسيح بجدارة لقب الميلاد “عمانوئيل” الذي أخذه بالنبوة قبل ميلاده بسبعمائة سنة!! “عمانوئيل”
الله
معنا. وكانت طلبته الأخيرة وهو على بعد خطوات من الصليب: “أيها الآب أريد أن هؤلاء
الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنالينظروا مجدي الذي أعطيتني لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم” (يو 24: 17)

فعمانوئيل لم يكتفِ بأن يحقق “الله
معنا”، بل اشتهى أن نكون نحن أيضاً معه!! مما يكشف لنا السر المُخْفَى في عمانوئيل، فالله صار
معنالهدفٍ واحدٍ أن نكون نحن معه. وما هو معنى الفداء والخلاص كله الذي كلَّف الآب بذل ابنه المحبوب للعار والموت؟ أليس لنكون بالنهاية معه!! “تعالوا يا مُبارَكي أبي رِثوا المُلك المعد لكم منذ تأسيس العالم

” (مت 34: 25)، “الله كان في المسيح مُصالحاً العالم لنفسه
” (2كو 19: 5)، “آتي أيضاً وآخذكم إليَّ، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً
” (يو 3: 14)، “وهكذا نكون كل حين مع الرب” (1تس 17: 4)

فإن صرنا مع الله من القلب، صار
الله معنافي القلب. فعلى قدر محبتنا للمسيح يتوقف اسم عمانوئيل أي أن يكون
“الله معنا”.وقديماً قالها النبي:

+ “وكان روح الله على عزريا بن عوديد، فخرج للقاء آسا وقال له: اسمعوا لي يا آسا وجميع يهوذا وبنيامين. الرب
معكم ما كنتم معه،وإن طلبتموه يُوجَد لكم، وإن تركتموه يترككم” (2أي 1: 15و2)

وهكذا أصبح الإنسان وكأنه مسئول عن “عمانوئيل”، أي عن أن يكون
“الله معنا”.هذا جعل القديس بولس يضعها لنا في صيغة التهديد: “إن كان أحد لا يحب الرب يسوع المسيح فليكن أناثيما

” (1كو 22: 16). صحيح هو أحبنا أولاً، ولكننا سنُحاسَبُ على عدم محبتنا له. فإن كان حبُّه لنا كلَّفه حياته، فحبُّنا له يكون لنا حياة!

فإن آية “عمانوئيل” الأولى في إشعياء لها تكملة، ولو أن الاسم لم يُذكر فيها إلاَّ أنها تصف كيف صار عمانوئيل،
الله معنا،إذ يقول إشعياء:

+ “لأنه يُولد لنا ولد ونُعطى ابناً، وتكون الرياسة على كَتِفِهِ، ويُدعى اسمه: عجيباً، مشيراً، إلهاً قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام. لنمو رياسته وللسلام لا نهاية، على كرسي داود وعلى مملكته ليُثبِّتها ويَعْضُدَها بالحقِّ والبرِّ من الآن وإلى الأبد” (إش 6: 9و7)

هكذا ينتقل إشعياء من تصوير عذراء بيت داود كيف حبلت وولدت عمانوئيل، ليرى في حبل العذراء بعمانوئيل، البشرية كلها وقد حملت في أحشائها ضيف السماء وقد اقتحم جسد الإنسان وارتاح فيه كهيكله الجديد. هذه الحقيقة التي عبَّر عنها بولس الرسول بالحرف الواحد: “أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله وأنكم لستم لأنفسكم. لأنكم قد اشْتُريتم
بثمن،
فمجِّدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله” (1كو 19: 6و20)

وإن اعتُبِر هذا الوصف وقفاً على الفرد في هيكل جسده الذي لله، فالوصف الإجمالي يكشف أن الله احتل الهيكل البشري بأكمله ليرتاح فيه هيكلاً ثابتاً له: “مبنيِّين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية الذي فيه كل البناء (البشري) مُرَكَّباً معاً ينمو هيكلاً مقدساً في الرب. الذي فيه أنتم أيضاً مبنيون معاً مسكناً لله في الروح
” (أف 20: 2
22). “هوذا مسكن الله
معالناس وهو سيسكن
معهم،وهم يكونون له شعباً والله نفسه يكون
معهمإلهاً لهم” (رؤ 3: 21)

وإن الإنسان لينذهل، ماذا حدث وكيف تنازل الله إلى هذا الحد؟ وكأن السماء بكل مجدها لم تُرِح قلبه كما رأى ودبَّر وخطط منذ الأزل أنْ يتخذ لنفسه وجوداً حيًّا حقيقياً مع البشرية وفيها، يصنع منها هيكلاً مقدساً لسكناه ليُمارس فيها حبه للإنسان على أعلى مستوى ويتقبَّل أيضاً محبة بني البشر. هذه هي صورة عمانوئيل في ملء حقيقتها ومن بؤرة رؤيتها. ولا نعدم مقدمات مضيئة لقصة هذا العشق الإلهي الفريد من نوعه، ذلك عند بدء أول حركة في عملية الفداء العُظمى التي حمل الله على عاتقه أمر تنفيذها، كيف؟ “هكذا
أحب اللهالعالم حتى
بذل ابنهالوحيد، لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية (مع الله)” (يو 16: 3).

هكذا انكشفت مأساة الحب المذبوح كأعظم تراجيديا سُمع بها منذ الدهر، وكان ابن الله هو صاحب الدور الأعظم والوحيد فيها، وكان الآب هو مدبِّر الحركات وضابط النهاية. وفيها أخذت البشرية خلقة جديدة لتؤهلها للحياة “مع الله”، ليرتاح عمانوئيل فيما خلق!! ولكن الذي لا يزال يخطف أبصارنا وعقولنا، كيف أن الإله الجبار ينزل إلى قامة طفل؟!

وهكذا تجتمع أشد صفات الله بأساً، ويُدعى إلهاً قديراً
Mighty God
êl gibbôr

، مع بساطة طفل في أشد صفات وداعته وتواضعه إلى الدرجة التي يفتخر بها، وكأن بهذه المضادة العظمى يمكن فقط أن يُستعلن الله للإنسان!! كما من خلال هذه الرؤيا تبدأ دراسة اللاهوت، وفهم صفات الله: “تعلَّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم
” (مت 29: 11)، “أخفيتَ هذه عن الحكماء والفهماء، وأعلنتَها للأطفال” (مت 25: 11)

ولكن رؤية هذه المضادة ظلت محجوبة إلى أن فجَّر نورها حادث الأولاد الذين جروا إليه يسعون إلى أن يلمسهم، فانتهرهم التلاميذ. وهنا كأن بساطة المسيح أصابها جرح:

+ “فلما رأى يسوع ذلك، اغتاظ وقال لهم: دعوا الأولاد يأتون إليَّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت الله. الحقَّ أقول لكم، مَنْ لا يقبل ملكوت الله مثل ولد فلن يدخله. فاحتضنهم ووضع يديه عليهم وباركهم” (مر 14: 10
16)

لقد رأى المسيح نفسه في هؤلاء الأطفال، لما انتهروهم أحس وأنه قد جُرح. فنفسه الوديعة لا ترتاح إلاَّ في وداعتهم، تلك القامة الأشد قيمة في كل قامات الإنسان، والتي ترسَّخت في قلب الرب لأنها وجدت صداها في لاهوت محبته. ومن هذه القامة، بل ومن حب هذه القامة وبساطة مُحيَّاها، كان ينضح المسيح على الناس ويُشرق بوجهه عليهم حتى اليوم. ولكي يثق القارئ فيما أقول وفيما أصف، فليسمع ما يقوله المسيح عن علاقة هذه الطفولة الوادعة المتضعة ببساطتها والدخول إلى الملكوت أي إلى حضرة الملك العظيم: “مَنْ لا يقبل ملكوت الله مثل ولدٍ فلن يدخله” (مر 15: 10)

إذاً، بين روح الطفولة ببراءة روحها وتواضع قامتها ووداعة حبها، وبين صاحب الملكوت، مودة واتفاق. ومن دون هذه القامة يتعذر الدخول إلى ملكوت الله. وهذا هو المسيح الرب، مسيَّا الله، الإله العظيم الذي يحمل قلب طفل تنضح منه الوداعة ويفيض الاتضاع. وكأن المسيح لم يختَرْ من قامات الإنسان إلاَّ طفولته التي استودع فيها ملء لاهوته.

ثم أليس أننا قد وضعنا أيدينا الآن على سرِّ “ملكوت ابن محبته
” (كو 13: 1)، أنه قد جعل دخولَه رهناً لِمَنْ كان على ملء قامة روح صاحبه، ولهذا ألحَّ أنْ: “تعلَّموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب
” (مت 29: 11)! والآن ينكشف لنا محيط اسم عمانوئيل ودائرة عمله معنا. فإنه خارجاً عن أُفق وداعة الطفولة لا يكون معنا، بل ولا يستطيع أن يعمل فينا، ولا يفتح ملكوته لأحد.

ولعل خبرتنا الروحية تؤيد هذا الكلام، والكل يعلم ذلك. لأن كل مَنْ يفتقده المسيح ويمنحه عطية الروح القدس، تتبدَّل حياته ويتغيَّر أسلوبه وفكره ويصبح له بساطة الطفولة وبراءتُها وفرحها ورجاؤها، ولا يعود يحمل للدنيا همًّا، بل ويستطيع أن يترك كل شيء حبًّا في المسيح كطفل دون أن يتباهى بشيء.

إذاً، فقامة المسيح في الطفولة هي التي تنسكب فينا عند افتقاد الله لمحبيه. بمعنى أن عمانوئيل حينما يصير معنا، فهو يأتي بروح طفولته ليسلِّمنا مؤهلات ملكوته، ولكي نكون على مستواه في بساطة المحبة وفي البنوَّة التي تُنادي الله: يا أبَّا، كطفل يلغلغ بنداء الدالة.

أما الذي لم يستلم التجديد بروح الطفولة وعجز عن أن يكون له قامة حب الأولاد، فالمسيح يصبح عنده لغزاً له رهبة ومهابة لا يجرؤ تخطيها. وهذا يكون أكثر اندهاشاً لنا حينما نعلم أن المسيح لا يزال يتهافت نحونا تهافت الطفل نحو محبيه. اسمعه يقول: “هأنذا واقف على الباب وأقرع، إنْ سمع أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه وأتعشى
معهوهو
معي

” (رؤ 20: 3). فهو يقرع أبواب محبيه، لأنه لا يزال يشتهي أن يكسر الخبز مع محبيه ويتراءى لهم ويبادلهم حبًّا بحبٍّ: “الذي يحبني، يحبه أبي وأنا أحبه، وأُظهر له ذاتي” (يو 21: 14)

حينما رآه أطفال أورشليم، اندفعوا نحوه حاملين سعف النخيل يضجون بالصراخ: “أوصنَّا، مبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل
” (يو 13: 12). ومن الناحية الأخرى، خرج رؤساء الكهنة والفريسيون يتحرقون غيظاً وينكرون على الشعب تهليلهم، يقولون بعضهم لبعض: “انظروا، إنكم لا تنفعون شيئاً، هوذا العالم قد ذهب وراءه” (يو 19: 12)

+ “أما يسوع.. وهو عالمٌ أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب، إذ كان قد أحبَّ خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى..” (يو 1: 13)

هكذا انتهت حياة عمانوئيل، الله معنا، على الأرض بحصيلة حبٍّ بلغ المنتهى بتعبير إلهي يفوق الوصف!! يوحي بأنه ارتبط بأخصائه رباط حياة بحياة، فكان هذا العشاء، عشاء عهدٍ لحياةٍ جديدةٍ. فجاء معبِّراً عن شهوة اتحاد باقتسام كأس الفصح: “شهوة اشتهيت أن آكُلَ هذا الفصح
معكمقبل أن أتألم

” (لو 15: 22). ليكون فصحه فصحنا، وخروجه خروجنا، باقتسام كأس الموت والحياة معاً!! ذلك ضماناً لبقاء عمانوئيل هنا، عمانوئيل هناك؛ أي كما بقِيَ معنا هنا، نبقى معه هناك.

هكذا صمم، وهكذا اقتسم الكأس بعهدٍ: “وأقول لكم: إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم، حينما أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي
” (مت 29: 26). حيث الفصح الجديد لملكوت الله، هو فصح المجد وشركة النصيب في الميراث الأزلي.

فكما اشتركنا في فصح آلامه، هكذا نشترك في فصح مجده.

فعمانوئيل هو الله معنا، هنا وهناك، دائماً وإلى الأبد.

+ “لا أترككم يتامى.. سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم” (يو 18: 14؛ 22: 16)

أما اليهود فذهبوا يتشاورون كيف يقتنصون الحمل الإلهي، ولكن ليس في العيد لئلا يسيئوا لصاحب العيد، غير عالمين أنه هو هو صاحب العيد، وساقهم الشيطان بالفعل ليذبحوا صاحب العيد، يوم عيده.

ثلاث سنوات ونصف وهم يُطاردون حمل الله، عمانوئيل، الذي تخلَّى عن ملء مجده وجاء ليحيا
معهم،وهو ابنهم والولد الذي أُعطوه: “لأنه يولد لنا ولد ونُعطى ابناً.. ويُدعى اسمه: عجيباً، مشيراً، إلهاً قديراً..” (إش 6: 9)

وفي النهاية غمَّم الشيطان عيونهم، فاقتنصوه واختلوا به في السنهدريم، وظلُّوا لطول الليل يرهقون نفسه الوديعة ويتحسسون منه موضع النهش، وفي الصباح قدموه لبيلاطس، الذي اندهش من إشراق محيَّاه ونور الألوهة الذي يشع من عينيه الوادعتين، فابتدرهم: “أية شكاية تُقدِّمون على هذا الإنسان
” (يو 29: 18)؟ لأن بيلاطس كان قد تمرَّس في غش اليهود، ولأنه بالأكثر قد نما إلى علمه “أنهم أسلموه حسداً
” (مت 18: 27). أما هم فإذ أحسُّوا بتعاطفه نحوه، بادروه بفظاظة: “لو لم يكن فاعل شرٍّ لما كنا قد سلَّمناه إليك” (يو 30: 18)

ارتعب بيلاطس من منظره وأراد أن يتخلى نهائياً عن هذه القضية: “فقال لهم بيلاطس: خذوه أنتم واحكموا عليه حسب ناموسكم
” (يو 31: 18). فكشفوا عمَّا عقدوا النية عليه: “فقال له اليهود: لا يجوز لنا أن نقتل أحداً
” (يو 31: 18). كان هذا على مسمع من المسيح الواقف الموثق اليدين، الذي سبق هو فأشار إلى “أية ميتة (على الصليب) كان مُزْمعاً أن يموت
” (يو 32: 18)، فأدرك الحمل أن الأمور تسير وفق مشيئة أبيه!!

دخل بيلاطس ليتحدث مع المسيح، إذ أدرك أنه هو وحده الذي يعرف سر القضية. وإذ سمع منهم أنه يقول عن نفسه “أنه ملك”، سأله ببساطة: “أنت ملك اليهود
” (يو 33: 18)؟ فلما أجابه: “مملكتي ليست من هذا العالم.. ولهذا قد أتيتُ إلى العالم لأشهد للحق
” (يو 36: 18و37)، تمادى بيلاطس في الاستماع والإصغاء إليه وسأله: “ما هو الحق
” (يو 38: 18)؟ وإلى هنا كان قد نضح عليه المسيح من الحق ما جعله يُدرك أنها قضية مكانها الحقيقي هو السماء وليس قضاء قيصر، فخرج وهو في ملء يقين الشهادة ليُدلي بشهادة أمام الأرض والسماء، وشهد كما من فم الله:
“أنا لستُ أجد فيه علَّة واحدة” (يو 38: 18)! شهادة سجَّلها بيلاطس، لا لحساب سجلات روما، بل لحساب الإنجيل!!

وهل يوجد في الأرض كلها إنسان ليس فيه علَّة واحدة؟ وهل توجد محكمة، أي محكمة، في وسعها أن تصدر حكماً كهذا الحكم؟ أو قاضٍ مهما بلغ من قدرة على فحص ما في السجلات وما في الصدور، أن يعلن عن عدم وجود علَّة واحدة في إنسان هو مُقدَّم للصليب بواسطة محكمة دينية تحكم بأمر الله، وشعب يصرخ مع رؤسائه: “اصلبه، اصلبه” (






[1]







)

. يا لهذا البيلاطس الذي ناب عن كل أمم الأرض ليقدِّم شهادة بفم كل شعوب المسكونة
ما عدا اليهود
ليستحق بمقتضاها أن يكون نصيب الأمم في دم المسيح على الصليب، هو النصيب الأعظم، وتنال الأمم، وباستحقاق، خلاصاً ومغفرة للخطايا. فليس جزافاً أن يصير عمانوئيل هو عمانوئيل كل العالم.

ولما سمع بيلاطس أنهم قالوا: “دمه علينا وعلى أولادنا
” (مت 25: 27)، غسل يديه، وسلَّمه إليهم، فافترسوه وهو بين يديه.

ولكن كان هو قد سبق وأعطى وصية، أن يعطى لحمه لكل مساكين الأرض، ودمه ذخيرة للمسافرين في طريق الملكوت.

وبعد القيامة، ظهر عمانوئيل أنه هو نفسه عمانوئيل “الله معنا”، حينما قال لتلاميذه آخر وصية له، أن يذهبوا ليكرزوا لجميع الأمم، مدعِّماً لأسفارهم بوجوده الدائم
معهم: “ها أنا
معكمكل الأيام، إلى انقضاء الدهر

” (مت 20: 28) كشريك عمل، “والرب
يعمل معهم،ويُثبِّت الكلام بالآيات التابعة

” (مر 20: 16)؛ وبذلك كشف عن سر شهوة قلبه أن يبقى هو هو عمانوئيل على مستوى كل مدينة وكل قرية وعلى كل طريق وزقاق، يدخل
معهمالبيوت والكنائس، يُحيي شعبه ويشفي مرضاه، يكسر معهم الخبز ويسقيهم من كأس الحياة، يدعو أطفاله ويحتضنهم ويضع يديه عليهم ويباركهم، ويختار منهم قديسين له وكارزين.

هذا هو عمانوئيل كل الدهور،

الدهور تفنى والعالم يزول، وعهد حبِّه قائم
معناقيام الأبد:

+ “هأنذا واقفٌ على الباب وأقرع، إنْ سمع أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه وأتعشى
معهوهو
معي” (رؤ 20: 3)

يا عمانوئيل، لقد فتحنا قلوبنا، وبِتْنا ساهرين،

عمانوئيل، تعالَ، ماران آثا..!!


(كُتبت قبل عيد الصعود




يونيه 1994)





(



[1])

اليهود بواسطة رؤساء الكهنة والحكماء في الشعب يتهمونه أنه صانع شر ويذبحونه على الصليب؛ والأمم بواسطة بيلاطس، قاضي الرومان، ونيابة عن كل أمم الأرض، يشهد بأنه ليس فيه علَّة واحدة للموت!! سجِّلي يا أرض، واشهدي يا سماء.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي