أنا هو خبز الحياة


(يو 35: 6)

™gè e„mi Ð ¥rtoj tÁj zwÁj


“أنا هو خبز الحياة”:

من أبسط ألقاب المسيح التي أطلقها على نفسه، ولكن في نفس الوقت أعماقه لا تُجارَى ولا تحد.

فهو:
“الخبز الحقيقي” (يو 32: 6)،
“لأن خبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم” (يو 33: 6)،
“أنا هو خبز الحياة” (يو 48: 6)، “وهذا هو الخبز النازل من السماء
لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت” (يو 50: 6)، و”أنا هو
الخبز الحيالذي نزل من السماء، إن
أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد

” (يو 51: 6)، “والخبز الذي أنا أُعطي
هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم” (يو 51: 6)

مدخل فهم هذا اللقب السرِّي جداً هو قول المسيح: “أبي يعطيكم
الخبز الحقيقي من السماء

” (يو 32: 6). وهو بهذا القول يشير إلى نفسه بوضوح، وذكرها بعد ذلك بقوله الصريح: “أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء..” (يو 51: 6). وهو بقوله:
“الخبز الحقيقي”،إنما يشير بذلك إشارتين،
الأولى:إنه “خبز إلهي” لأن هذا هو معنى “الحقيقي”، إذ لا يوجد حق ولا حقيقي بمعناه المطلق إلا الله وما يُنسب إلى طبيعته؛ والإشارة
الثانية:يُقصد بها أن ينفي الخبز غير الحقيقي أو الخبز الذي لا يمت إلى طبيعة الله، وهو “المن” الذي أرسله الله على شعب إسرائيل وهو مرتحل في سيناء طيلة الأربعين سنة. والمنُّ ولو أنه نزل من السماء موطن الله، إلاَّ أنه لا يمت لله بصلة لأنه إن بقي منه شيء “يتولَّد فيه دود وينتن” (خر 20: 16)، وكل ما ينتن ويفسد لا يُنسب لله عديم الفساد. وهذا المن أسماه موسى “خبز”: “فقال لهم موسى: هو الخبز الذي أعطاكم الرب لتأكلوا

” (خر 15: 16)، وقد أسماه نحميا خبزاً من السماء: “وأعطيتهم خبزاً من السماء لجوعهم، وأخرجت لهم ماءً من الصخرة
” (نح 15: 9)، وأسماه مزمور 24: 78و25 قمح السماء وخبز الملائكة: “وأمطر عليهم منًّا للأكل وبُرَّ السماء أعطاهم. أكل الإنسان خبز الملائكة..”

ومن جهة المن، فهو بالرغم من أنه الخبز الذي نزل من السماء إلاَّ أنه كان لا يُقيم أَوَدَ الإنسان إلاَّ إلى يوم واحد، فكان شعب إسرائيل يلتقط منه يوماً بيومٍ. ومعروف أن كل الذين أكلوا المن النازل من السماء ماتوا كبقية الناس ولم يمنعهم أكل المن عن الموت، كما قال المسيح: “أكل آباؤكم المنَّ وماتوا” (يو 58: 6)

ولكن ليفهم القارئ، أن الموت هنا الذي يقصده المسيح ليس موت الجسد، بل موت اللعنة الأبدي تحت حكم الغضب الذي وقع فيه آدم وانتقل إلى بنيه.

ولكن بالرغم من ذلك كان اليهود يعتبرون المن من أسرار الله الإلهية التي خصَّهم بها. لذلك لما قال المسيح إنه: “خبز الله النازل من السماء” (يو 33: 6)، جزعوا: “فكان اليهود يتذمَّرون عليه لأنه قال أنا هو الخبز الذي نزل من السماء.. كيف يقول هذا إني نزلتُ من السماء” (يو 41: 6و42)

ولكن، في الحقيقة، بدأ المسيح حواره هذا على أساس التعاليم التي كانت راسخة عند اليهود أن المنَّ له اعتبار هام، إذ معروف في التقليد أن بحضور المسيَّا سيُطعم شعب إسرائيل من المنِّ. ومتصل بهذا حقيقة تاريخية، وهي أنه لما أُنشئ هيكل سليمان وُضع فيه تابوت العهد القديم مع لوحي الوصايا العشر، والعصا التي لهرون التي أزهرت وأفرخت، والقسط الذهبي الموضوع فيه المن: “وقال موسى لهرون: خُذْ قسطاً واحداً واجعل فيه ملء العُمر منًّا وضَعْهُ أمام الرب
للحفظ في أجيالكم

” (خر 33: 16). ويُقال إنه لما تهدَّم الهيكل، أخفى إرميا النبي القسط الذي فيه المن ولم يعرف أحد المكان الذي أخفاه فيه. ويقول التقليد اليهودي إنه حينما يأتي المسيَّا سيُخرجه من المكان المُخْفَى فيه ويُطعم منه المؤمنين.

نسمع عن هذا التقليد في سفر الرؤيا هكذا: “مَنْ له أُذن فليسمع ما يقوله الروح للكنائس. مَنْ يغلب فسأعطيه أن يأكل من
“المنِّ المُخْفَى”..” (رؤ 17: 2)

وكانت من تعاليم الربِّيين السائدة أيام المسيح:

[إن بمجيء المسيَّا سوف تبدأ من جديد أعمال موسى ويُحضر لهم المنّ. فالمسيَّا هو موسى الثاني الذي سينزل لهم المن من السماء، وإن هذا المنَّ مذَّخر للأبرار في الدهر الآتي والمستحقون فقط يأكلون منه. فموسى الفادي الأول أنزل المنَّ من السماء، والمسيَّا الفادي الثاني سيعمل هذا أيضاً].

كما كان هناك اعتقاد سائد في الأوساط اليهودية أنه في العصر المسيَّاني سيعمل الرب وليمة سمائية للمؤمنين، وهذه أيضاً نسمع صداها في العهد الجديد. فحينما قال المسيح: “إذا صنعت ضيافة، فادْعُ المساكين الجُدْعَ العُرْجَ العُمْي، فيكون لك الطوبى إذ ليس لهم حتى يُكافُوك، لأنك تُكَافَى في قيامة الأبرار. فلما سمع واحد من المتكئين قال له:
طوبى لِمَنْ يأكل خبزاً في ملكوت الله” (لو 13: 14
15)

من هذا كله يمكن أن نثق أن على هذا الأساس التقليدي الذي يعلمه المسيح تماماً فجَّر المسيح استعلان نفسه أنه الخبز النازل من السماء باعتباره المسيَّا، ذلك حينما فتح اليهود باب الحديث بقولهم له: “ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله. أجاب يسوع وقال لهم هذا هو عمل الله: أن تؤمنوا بالذي هو أرسله. فقالوا له: فأية آية تصنع لنرى ونؤمن بك، ماذا تعمل؟ آباؤنا أكلوا المنَّ في البرية كما هو مكتوب أنه أعطاهم خبزاً من السماء ليأكلوا
” (يو 28: 6
31). بمعنى أنهم طلبوا منه أن يُنزل منًّا من السماء إن كان هو المسيَّا.

لذلك أصبح واضحاً أمامنا أن بقول المسيح: “أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء”، كان يقصد أن يُعلن نفسه أنه المسيا وأن عصر المسيَّا قد افتُتح بمجيئه. ولكن يا لِحزني على هذا الشعب الذي عاش حياته بأنبيائه وقديسيه يترقبون بفارغ الصبر مجيء المسيَّا، فلما جاء وقال: “أنا هو”، لم يصدِّقوه.

ولكن لينتبه القارئ، لأن المسيح في حواره أعلن لِمَنْ له بصيرة، أنه هو ليس المسيَّا فحسب بل والله؛ إذ لما قال اليهود إن موسى أعطاهم المنَّ وكان في اعتقادهم أن بموت موسى انقطع المن، أنكر عليهم المسيح هذا الاعتقاد قائلاً: “الحق الحق أقول لكم: ليس موسى أعطاكم الخبز من السماء، بل
أبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء

” (يو 32: 6). ثم عاد المسيح وأكَّد لهم أنه
هو “خبز الحياة”،وأنه
هو الذي يعطي هذا الخبز:
الخبز الذي أنا أُعطيهو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم” (يو 51: 6)

وبهذا الكلام يكون المسيح قد أوضح أن الآب يعطيهم الخبز الحقيقي حيث الخبز الحقيقي هو طعام الحياة الأبدية، ثم أكمل بأنه هو أيضاً يعطي الخبز الحي (حياة أبدية): ”
والخبز الذي أنا أُعطيهو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم

” وهنا يكشف المسيح ضمناً أنه هو المسيَّا وأنه هو والله واحد، إذ يعمل عمل الله وهو إعطاء الحياة الأبدية. ولينتبه القارئ، لأن مَنْ يعطي الحياة الأبدية يعني حتماً أنه له سلطان على إلغاء الموت. إذاً، بقول المسيح: إنه يعطي الحياة، نكون نحن أمام سر الخلود.


سر الخلود:

ليس في جميع الأسرار التي تصادفنا في حياة المسيح وأقواله ومعجزاته ما يُعادل هذا السر الرهيب، سر الخلود، الذي أبقى المسيح إعلانه حتى آخر ساعة من حياته. ففي الليلة التي كان مزمعاً أن يسلِّم فيها نفسه للموت من أجل حياة العالم، جلس مع تلاميذه ومهَّد للسر بإعلان حبِّه لخاصته الذين في العالم، حبًّا وصفه الإنجيل أنه حتى المنتهى (يو 1: 13).

ولم يكن المسيح مغالياً حينما قال: “أنا هو خبز الحياة”. إذ في العشاء الفصحي الأخير، لما أخذ الخبز على يديه ونظر إلى فوق، بثَّه روح الحياة الأبدية التي فيه.
فحمَّل الخبز ذات الحياة الأبدية التي في جسده،فصار الخبز الطبيعي معادلاً لجسده الإلهي الحي، أي خبزاً للحياة. وتمادى المسيح في إجراء السر على السر، إذ كسر الخبز من واقع ما سيتم على الصليب. وهكذا بثَّ الخبز الحي موته المحيي، أي حمَّله قوة الفداء والغفران بآن واحد. وهكذا أصبح كل مَنْ يأكل من هذا الخبز يعْبُر
كما عَبَرَ المسيح
بالجسد من الموت إلى الحياة، أي صارت في هذا الخبز الحي قوة القيامة من الأموات. ولذلك أعلنها المسيح في النهاية: “وشكر فكسَّر وقال: خذوا كلوا
هذا هو جسدي المكسور لأجلكم،اصنعوا هذا لذكري” (1كو24: 11)

وهكذا حمَّل المسيح الخبز
كسر الجسد،كما حمَّل الكأس
سفك الدم وغفران الخطايا:“وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً: اشربوا منها كلُّكم، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد
الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا

” (مت 27: 26و28). وهنا بقوله “شكر” وهو رافع عينيه إلى فوق، يكون قد استودع الدم روح الحياة الأبدية التي فيه.

وهكذا حمَّل المسيح الخبز والكأس، سر كسر الجسد وسفك الدم على الصليب، ومغفرة الخطايا. ومن مضمون مغفرة الخطايا تُستعلن الحياة الأبدية. وإذ عبَّرهم الموت بأكلهم الجسد المكسور وشربهم الدم المسفوك للفدية، فنالوا مغفرة الخطايا وقاموا معه لحياة أبدية، يكون قد سلَّمهم
“سر الخلود”الذي سمَّاه القديس إغناطيوس “ترياق عدم الموت”. وبقول أوضح، ولكن أكثر سرِّية، يكون قد سلمهم ذاته ووجوده: جسد ودم، وروح وحياة!!

وبإعطاء المسيح الخبز حاملاً روح الحياة الأبدية، وسر كسر الجسد على الصليب، ثم وبالضرورة كأس الدم المسفوك وفيه روح الحياة الأبدية، يكون قد أعطانا سر الشركة الكاملة في موته وحياته. والشركة هنا ليست مجازاً بل فعلاً وتحقيقاً، وهذا يثبته ويحققه قوله: “مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه
” (يو 56: 6). هنا الثبوت المتبادل هو حالة تواجد للمسيح دائم في حياة الإنسان، الذي يؤهِّل حتماً للحياة الأبدية: “مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أُقيمه في اليوم الأخير” (يو 54: 6)


مستوى الأكل والشرب من سر الجسد والدم:

حينما بثَّ المسيح روحه في الخبز فصار جسده وفي الخمر فصار دمه، وأحدر للجسد فعل الكسر المزمع أن يكون على الصليب وفعل السفك للدم؛ استودع الجسد والدم فعل الفداء عندما قال: “مكسور لأجلكم” للجسد، و“مسفوك لأجلكم” للدم، فصار الجسد والدم يحملان شخص المسيح، وبالتالي شركة الحياة الأبدية معه. وهذا كله تم بفعل “الكلمة”، أي بسلطان الخلق الذي للمسيح الذي يخلق من العدم وجوداً ومن الموت حياة. ولكن المسيح استخدم سلطان الخلق هنا لتحويل الوجود المادي للخبز والخمر إلى وجود روحي من وجوده، فصار الخبز جسد المسيح بالحق والخمر دم المسيح بالحق، وجوداً إلهياً لا يُرى ولا يُحس بقوة اللاهوت الذي فيه وعلى مثاله، قائم فعَّال محيي، ولكنه غير منظور ولا محسوس. “إني أنا هو، جسُّوني وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي
” (لو 39: 24)، هنا بسبب عدم إيمان التلاميذ جعل لاهوته يُنظَر ويُحَس، كما نظر توما جروحه وجسَّ بيده وإصبعه، فأدرك قوة اللاهوت بالحق وصرخ: “ربي وإلهي
” (يو 28: 20)، فكان تعقيب المسيح على ذلك أنه بالإيمان وحده لا بالعيان واللمس ينبغي أن نؤمن بالمسيح ولاهوته: “قال له يسوع: لأنك رأيتني يا توما آمنتَ، طوبى للذين آمنوا ولم يروا
” (يو 29: 20). هذا هو المسيح نفسه القائم في سر الإفخارستيا في الجسد والدم، إن لزم فإن المسيح يعلنه للعين واليد، ولكن بالإيمان ينبغي أن يُقْبَل المسيح بلاهوته.

من هنا أصبح الأكل من الجسد أي الخبز المتحوِّل، والدم أي الخمر المتحوِّل؛ ليس مأكلاً أو مشرباً عادياً، بل هو مأكلٌ ومشربٌ حقٌّ أي مأكلٌ ومشربٌ إلهيٌّ بالدرجة الأولى، لأن
“الحق”كما قلنا هو إفادة مباشرة لما هو الله أو ما لله: “أنا هو الطريق
والحقوالحياة

” (يو 6: 14). لذلك نبَّه المسيح ووعَّى: “لأن جسدي
مأكلٌ حقٌّ،ودمي
مشربٌ حقٌّ

” (يو 55: 6). لأجل هذا أصبح الأكل من الجسد والشرب من الدم له فاعلية إيمانية سرية صادقة ومباشرة للثبوت في المسيح كثبوت المثيل في المثيل: “مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه
” (يو 56: 6)، بمعنى الاتحاد!! “أنتم فيَّ وأنا فيكم”. كما أن النتيجة المباشرة للثبوت في المسيح وثبوت المسيح في المؤمن المتناول من الجسد والدم، اندفاق الحياة الأبدية التي للمسيح في المتناول من جسده ودمه: “مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي
فله حياة أبديةوأنا أُقيمه في اليوم الأخير

” (يو 54: 6)، بمعنى أن مَنْ يأكل الجسد ويشرب الدم يثبت في المسيح والمسيح يثبت فيه، وتصبح الحياة الأبدية مفتوحة عليه، وبالتالي وبالضرورة تكون “القيامة” التي هي مصدر الحياة الأبدية قائمة فيه.

وقد جمعها المسيح كلها في آية واحدة جامعة شاملة لِمَنْ يأكل جسد المسيح ويشرب دمه: “كما أرسلني الآب الحيُّ وأنا حيٌّ بالآب،
فمَنْ يأكلني فهو يحيا بي

” (يو 57: 6). وهنا كشف المسيح السر القائم في الإفخارستيا كشفاً واضحاً مختصراً قوياً حاضراً وفعَّالاً هكذا: إن مَنْ يأكل الخبز المتحوِّل للجسد والخمر المتحوِّل للدم، يكون قد
“أكل المسيح”شخصياً ويكون قد ظفر بسر الخلود. من هنا كان تعريف القديس والشهيد إغناطيوس للتناول من الجسد والدم أنه بمثابة تعاطي
“ترياق عدم الموت”أي “دواء الخلود”. والشهيد إغناطيوس محق كل الحق في وصف الإفخارستيا أنها عقار أو دواء عدم الموت، لأن فيها أولاً: شفاء “مغفرة الخطايا”، وثانياً: النصرة على الموت والظفر بالحياة الأبدية.


تعليق بولس الرسول على سر الجسد والدم:

أول ما يسترعي اهتمام بولس الرسول وهو أكبر شارح لأسرار العهد الجديد برمتها، هو سر الشركة المتحصلة من أكل الجسد وشرب الدم، شركة المؤمن بالمسيح وشركة المؤمنين المتناولين معاً: “كأس البركة التي نباركها أليست هي شركة دم المسيح، الخبز الذي نكسره أليس هو شركة جسد المسيح” (1كو 16: 10)

ويستخلص القديس بولس من حقيقة الشركة الإلهية المتحصلة من تناول المؤمنين معاً من الجسد الواحد والدم الواحد الذي لسر الإفخارستيا، حصول اتحاد للمؤمنين معاً في المسيح وبلوغ الوحدة البشرية التي سعى إليها المسيح بموته على الصليب لتقديم البشرية كإنسان واحد لله:

أ. “فإننا نحن الكثيرين خبز واحد
جسد واحد،لأننا جميعنا نشترك في الخبز الواحد” (1كو 17: 10)

ب. “لأجل تكميل القديسين لعمل الخدمة
لبنيان جسد المسيح،إلى أن ننتهي جميعنا إلى
وحدانية الإيمانومعرفة ابن الله، إلى
إنسان كامل،إلى قياس
قامة ملء المسيح” (أف 12: 4و13)

والقديس بولس يقصد من هذين البندين في التعليم على سر الإفخارستيا، أن بالتناول تنتهي الفوارق كل الفوارق في الجنس والشكل والطباع والعادات والنزاعات والمخالفات والأضداد والعداوات الكاذبة، لأن التناول من الخبزة الواحدة يجمعنا في جسد المسيح الواحد، والشرب من الكأس الواحدة يوحِّد قلوبنا وأرواحنا بروح المسيح الواحد إلى وحدانية تجمعنا في المسيح مع مسرة فائقة. ولكي أوضِّح ذلك للقارئ السعيد أقول: فلنفرض أن جماعة عظيمة اجتمعت من كل الكنائس والبلاد بإيمان صادق بفاعلية سر الإفخارستيا وتناولوا جميعاً من الجسد الواحد والدم الواحد، ثم دعاهم الله للانتقال المفاجئ إلى عالم النور، فماذا يتبقى لهم من جنسياتهم المتعددة واختلاف طرق حياتهم وأفكارهم وعاداتهم ومبادئهم وعقائدهم؟ الحقيقة أن كل ما للجسد البشري والعالم يزول في الحال ولا يبقى إلاَّ جسد المسيح الذي يجمعنا وروح المسيح الذي يحيينا في حبٍّ وأُلفة منقطعة النظير.

ولكن المطلوب الآن أن نحقق هذه الوحده هنا وفي هذا الزمان، لأنها قائمة فينا وإن كانت مختفية وراء عوائق ومعاكسات وظروف وعداوات كلها جسدية كاذبة. فمتى نستيقظ لحقيقة الجسد الواحد والروح الواحد والحب الواحد الذي فينا وسر الخلود الواحد الذي يجمعنا؟

ولكي أُعطي نموذجاً حيًّا في هذا الدهر وفي صميم هذا العالم لجماعات متعددة الجنسيات، متعددة الأفكار والمبادئ والعادات، كيف اتحدت معاً بصورة إلهية في وحدة روحية أنهت على كل الفوارق والتعددات الشكلية مرة واحدة وبقوة سرِّية فائقة دون أي معونات أو تعليم، أقول ارجع لجماعة المسيحيين الأوائل بعد يوم الخمسين واسمع كيف صاروا بالحقيقة واحداً في المسيح:

+ “وجميع الذين آمنوا (من كل الجنسيات والبلاد) كانوا معاً، وكان عندهم كل شيء مشتركاً، والأملاك والمقتنيات كانوا يبيعونها ويقسمونها بين الجميع كما يكون لكل واحد احتياج. وكانوا كل يوم يواظبون في الهيكل بنفس واحدة، وإذ هم يكسرون الخبز (الإفخارستيا) في البيوت كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب، مسبِّحين الله ولهم نعمة لدى جميع الشعب. وكان الربُّ كل يوم يضم إلى الكنيسة الذين يخلصون..

وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة، ولم يكن أحد يقول إن شيئاً من أمواله له، بل كان عندهم كل شيء مشتركاً. وبقوة عظيمة كان الرسل يؤدُّون الشهادة بقيامة الرب يسوع ونعمة عظيمة كانت على جميعهم” (أع 44: 2
47؛ 32: 4و33
)


وهكذا، وبهذه الصورة، وعلى هذا الأساس، قامت كنيسة الله الواحدة.


سر الإفخارستيا هو سر الكنيسة:

رأينا بوضوح أن التناول من الجسد والدم، يُنتِج بالروح والإيمان شركةً مع المسيح وقبول الحياة الأبدية. كما رأينا أن الجماعة المؤمنة إذا تناولت من الجسد والدم تدخل سرًّا في وحدانية معاً وبالمسيح. ثم عقَّبنا على هذا، أن الكنيسة قامت على أساس التناول من الجسد الواحد والدم الواحد الذي ربطهم في المسيح برباط الإيمان والحب العامل لرفع الفوارق.

وهكذا، وبمنتهى الاختصار، يصبح المنطق الإيماني الإلهي أنه إذا غاب عنصر الوحدانية الأخوية من الكنيسة القائمة
أصلاً
على إلغاء الفوارق والمحبة الصادقة بسبب التناول من الجسد الواحد والدم الواحد ونوال الروح الواحد، فهذا بالتالي يكشف في الحال عن عجز خطير في فهم وممارسة التناول من جسد المسيح ودمه الذي أكَّد المسيح نفسه أنه “مأكلٌ
حقٌّومشربٌ
حقٌّ

” الذي تفسيره أنه على مستوى إلهي مهيب.


شروط التناول من الجسد والدم على مستوى الحق الإلهي


بحسب بولس الرسول:

بولس الرسول بعد أن أعطى الجسد والدم الصفة الإلهية المطلقة التي للمسيح، نسمعه يُعطي التحذيرات المخيفة للمتهاونين الذين يقتربون من هذا السر وهم على غير استحقاق له، لا من جهة أعمال أو ممارسات، بل من جهة عدم الإيمان بلاهوت المسيح أولاً ولاهوت الجسد والدم بالتبعية:

+ “إذاً، أيُّ مَنْ أكل هذا الخبز أو شرب كأس الرب بدون استحقاق يكون مجرماً في جسد الرب ودمه” (1كو 27: 11)

هنا نعت الإنسان الذي يقترب من السر الأقدس، بدون استحقاق، أنه يكون مجرماً في جسد الرب ودمه، بمعنى أنه يكون قد أساء لقداسة ولاهوت هذا السر الرهيب.

وبولس الرسول يفسِّر سبب حسبان مَنْ يتناول بغير استحقاق أنه يكون مجرماً في جسد الرب ودمه، بقوله بوضوح إنه حينما يتقدم إلى الجسد والدم
دون أن يميِّزبين أكل الخبز العادي وشرب الخمر العادي، وبين التناول من حقيقة جسد الرب ودمه الإلهيَّين: “لأن الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق يأكل ويشرب دينونة لنفسه
غير مميِّزجسد الرب

” (1كو 29: 11). بمعنى أن الشرط الواحد والأعظم ليكون الإنسان على استحقاق أن يتقدَّم للتناول من الجسد والدم، هو أن يكون على وعي روحي إيماني صادق بماهية التحوُّل السرِّي الذي يحدثه المسيح بنفسه في الخبز والخمر، ليصيرا جسداً ودماً له وفيهما الغفران والحياة الأبدية. فالذي ينكر هذا التحوُّل أو يتجاهله كمَنْ يتجاهل المسيح ويجترئ على التعامل معه كإنسان ساذج وهو الإله.

وبولس الرسول يعطي المشورة لتصحيح وضع المتقدِّم للتناول من هذا السر:

+ “ولكن ليمتحن الإنسان نفسه، وهكذا يأكل من الخبز ويشرب من الكأس” (1كو 28: 11)

ومن أقوال القديس بولس هذه عن سر الجسد والدم، ندرك بوضوح أن هذا القديس والرسول كان على وعي فائق بسرِّ الإفخارستيا، وكان يعتبره بحال المسيح نفسه قائماً على المائدة ليكسر من جسده ويُعطي بيديه ويعتصر من دمه ويسقي من الكأس. وهذه النظرة الإلهية العالية رفعت هذا القديس إلى حال من التقوى ومخافة الله، وبآن واحد، من الحب والدالة والاستنارة لم يجارِه فيها أحد، لا من قبل ولا من بعد.

أما قصدنا من هذا، فهو أن نوحي إلى القارئ أن في ممارسة هذا السر بهذا التحفُّظ والوعي والتمييز والمهابة اللائقة يكون أساس التقوى الحقيقية التي تُلهم الإنسان السلوك وكأنه في حضرة الله الدائمة، لأن مَنْ يحتفظ بجسد المسيح ودمه في قلبه يكون كمَنْ يحتفظ بالحياة الأبدية وقد ارتبط بسرِّ الخلود.

هذا سر “أنا هو خبز الحياة”!!

ويا لِعمق هذا السر،

ويا لِسعد مَنْ دخل هذا العمق!!


(سبتمبر 1994)

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي