المعجزة الثانية والعشرون شفاء المولود أعمى

1 وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَاناً أَعْمَى مُنْذُ وِلادَتِهِ، 2 فَسَأَلَهُ تَلامِيذُهُ: «يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟» 3 أَجَابَ يَسُوعُ: «لا هذَا أَخْطَأَ وَلا أَبَوَاهُ، لكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللّهِ فِيهِ. 4 يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ. 5 مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ». 6 قَالَ هذَا وَتَفَلَ عَلَى الأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ التُّفْلِ طِيناً وَطَلَى بِالطِّينِ عَيْنَيِ الأَعْمَى. 7 وَقَالَ لَهُ: «اذْهَبِ اغْتَسِلْ فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ». الَّذِي تَفْسِيرُهُ مُرْسَلٌ. فَمَضَى وَاغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيراً. 8 فَالْجِيرَانُ وَالَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَهُ قَبْلاً أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى، قَالُوا: «أَلَيْسَ هذَا هُوَ الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ وَيَسْتَعْطِي؟» 9 آخَرُونَ قَالُوا: «هذَا هُوَ». وَآخَرُونَ: «إِنَّهُ يُشْبِهُهُ». وَأَمَّا هُوَ فَقَالَ: «إِنِّي أَنَا هُوَ». 10 فَقَالُوا لَهُ: «كَيْفَ انْفَتَحَتْ عَيْنَاكَ؟» 11 أَجَابَ: «إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ يَسُوعُ صَنَعَ طِيناً وَطَلَى عَيْنَيَّ، وَقَالَ لِي: اذْهَبْ إِلَى بِرْكَةِ سِلْوَامَ وَاغْتَسِلْ. فَمَضَيْتُ وَاغْتَسَلْتُ فَأَبْصَرْتُ». 12 فَقَالُوا لَهُ: «أَيْنَ ذَاكَ؟» قَالَ: «لا أَعْلَمُ». 13 فَأَتُوا إِلَى الْفَرِّيسِيِّينَ بِالَّذِي كَانَ قَبْلاً أَعْمَى. 14 وَكَانَ سَبْتٌ حِينَ صَنَعَ يَسُوعُ الطِّينَ وَفَتَحَ عَيْنَيْهِ. 15 فَسَأَلَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ أَيْضاً كَيْفَ أَبْصَرَ، فَقَالَ لَهُمْ: «وَضَعَ طِيناً عَلَى عَيْنَيَّ وَاغْتَسَلْتُ، فَأَنَا أُبْصِرُ». 16 فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ: «هذَا الإِنْسَانُ لَيْسَ مِنَ اللّهِ، لأَنَّهُ لا يَحْفَظُ السَّبْتَ». آخَرُونَ قَالُوا: «كَيْفَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ خَاطِئٌ أَنْ يَعْمَلَ مِثْلَ هذِهِ الآيَاتِ؟» وَكَانَ بَيْنَهُمُ انْشِقَاقٌ. 17 قَالُوا أَيْضاً لِلأَعْمَى: «مَاذَا تَقُولُ أَنْتَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟» فَقَالَ: «إِنَّهُ نَبِيٌّ». 18 فَلَمْ يُصَدِّقِ الْيَهُودُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى فَأَبْصَرَ حَتَّى دَعُوا أَبَوَيِ الَّذِي أَبْصَرَ. 19 فَسَأَلُوهُمَا: «أَهذَا ابْنُكُمَا الَّذِي تَقُولانِ إِنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى؟ فَكَيْفَ يُبْصِرُ الآنَ؟» 20 أَجَابَهُمْ أَبَوَاهُ: «نَعْلَمُ أَنَّ هذَا ابْنُنَا وَأَنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى، 21 وَأَمَّا كَيْفَ يُبْصِرُ الآنَ فَلا نَعْلَمُ. أَوْ مَنْ فَتَحَ عَيْنَيْهِ فَلا نَعْلَمُ. هُوَ كَامِلُ السِّنِّ. اسْأَلُوهُ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَنْ نَفْسِهِ». 22 قَالَ أَبَوَاهُ هذَا لأَنَّهُمَا كَانَا يَخَافَانِ مِنَ الْيَهُودِ، لأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا قَدْ تَعَاهَدُوا أَنَّهُ إِنِ اعْتَرَفَ أَحَدٌ بِأَنَّهُ الْمَسِيحُ يُخْرَجُ مِنَ الْمَجْمَعِ. 23 لِذلِكَ قَالَ أَبَوَاهُ: «إِنَّهُ كَامِلُ السِّنِّ، اسْأَلُوهُ». 24 فَدَعُوا ثَانِيَةً الإِنْسَانَ الَّذِي كَانَ أَعْمَى، وَقَالُوا لَهُ: «أَعْطِ مَجْداً لِلّهِ. نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هذَا الإِنْسَانَ خَاطِئٌ». 25 فَأَجَابَ: «أَخَاطِئٌ هُوَ، لَسْتُ أَعْلَمُ! إِنَّمَا أَعْلَمُ شَيْئاً وَاحِداً: أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَالآنَ أُبْصِرُ». 26 فَقَالُوا لَهُ أَيْضاً: «مَاذَا صَنَعَ بِكَ؟ كَيْفَ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟» 27 أَجَابَهُمْ: «قَدْ قُلْتُ لَكُمْ وَلَمْ تَسْمَعُوا. لِمَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تَسْمَعُوا أَيْضاً؟ أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَصِيرُوا لَهُ تَلامِيذَ؟» 28 فَشَتَمُوهُ وَقَالُوا: «أَنْتَ تِلْمِيذُ ذَاكَ، وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّنَا تَلامِيذُ مُوسَى. 29 نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مُوسَى كَلَّمَهُ اللهُ، وَأَمَّا هذَا فَمَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ». 30 أَجَابَ الرَّجُلُ: «إِنَّ فِي هذَا عَجَباً! إِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَقَدْ فَتَحَ عَيْنَيَّ. 31 وَنَعْلَمُ أَنَّ اللهَ لا يَسْمَعُ لِلْخُطَاةِ. وَلكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَتَّقِي اللهَ وَيَفْعَلُ مَشِيئَتَهُ فَلِهذَا يَسْمَعُ. 32 مُنْذُ الدَّهْرِ لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ أَحَداً فَتَحَ عَيْنَيْ مَوْلُودٍ أَعْمَى. 33 لَوْ لَمْ يَكُنْ هذَا مِنَ اللّهِ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئاً». 34 قَالُوا لَهُ: «فِي الْخَطَايَا وُلِدْتَ أَنْتَ بِجُمْلَتِكَ، وَأَنْتَ تُعَلِّمُنَا!» فَأَخْرَجُوهُ خَارِجاً. 35 فَسَمِعَ يَسُوعُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ خَارِجاً، فَوَجَدَهُ وَقَالَ لَهُ: «أَتُؤْمِنُ بِابْنِ اللّهِ؟» 36 أَجَابَ: «مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُومِنَ بِهِ؟» 37 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «قَدْ رَأَيْتَهُ، وَالَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ». 38 فَقَالَ: «أُومِنُ يَا سَيِّدُ». وَسَجَدَ لَهُ. 39 فَقَالَ يَسُوعُ: «لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هذَا الْعَالَمِ، حَتَّى يُبْصِرَ الَّذِينَ لا يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى الَّذِينَ يُبْصِرُونَ». 40 فَسَمِعَ هذَا الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ، وَقَالُوا لَهُ: «أَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَيْضاً عُمْيَانٌ؟» 41 قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لَوْ كُنْتُمْ عُمْيَاناً لَمَا كَانَتْ لَكُمْ خَطِيَّةٌ. وَلكِنِ الآنَ تَقُولُونَ إِنَّنَا نُبْصِرُ، فَخَطِيَّتُكُمْ بَاقِيَةٌ» (يوحنا 9: 1-41).

 

كتب القديس يوحنا الإنجيل الذي يحمل اسمه بعد كتابة الإنجيل كما رواه كلٌ من متى ومرقس ولوقا. والإنجيل (بمعنى الخبر المفرح) هو واحد، الذي هو بشرى مجيء المسيح إلى عالمنا، لكن الذين يَرْوون الخبر المفرح الواحد كثيرون. وعندما كتب يوحنا سيرة المسيح كانت معجزات المسيح والكثير من تعاليمه قد عُرفت وانتشرت، فحرص يوحنا على ذِكْر ما لم يذكره الكتَّاب الآخرون من معجزات المسيح وتعاليمه. وعندما كان يكرِّر ذكر معجزة ذكرها غيره، كان يضيف إليها التعاليم التي صاحَبتْها، مع تعليقاته عليها.

 

ذكر يوحنا أربع معجزات جَرَت في الجليل، هي تحويل الماء إلى خمر (يوحنا 2). شفاء ابن رجل البلاط الملكي (يوحنا 4). إطعام خمسة آلاف، ومَشْي المسيح على الماء (يوحنا 6). كما ذكر أربع معجزات أجراها المسيح في اليهودية: شفاء المريض منذ 38 سنة (يوحنا 5) والمولود أعمى (يوحنا 9) وإقامة لعازر (يوحنا 11) وصيد السمك الكثير (يوحنا 21). وهذه لم يذكرها أحد غيره.

 

جرت المعجزة التي نتأملها الآن عند مدخل هيكل أورشليم، حيث يجتمع المتسوّلون، وكان ذلك في يوم سبت، عندما لم يكن اليهود مستعدين لرؤية أي شخص يعمل أي شيء مهما كان حسناً، فحقَّق نبوة إشعياء: «وَيَسْمَعُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الصُّمُّ أَقْوَالَ السِّفْرِ، وَتَنْظُرُ مِنَ الْقَتَامِ وَالظُّلْمَةِ عُيُونُ الْعُمْيِ» (29: 18). ولقد سمع العميان الذين شفاهم صوت إنجيله، وانفتحت عيون قلوبهم، كما انفتحت عيون أجسادهم، ليعرفوه ويقبلوا خلاصه. وقد سجَّل البشيرون لنا من معجزات فتح عيون العمي شفاء أعمى بيت صيدا، الذي جاء شفاؤه على مرحلتين (مرقس 8) وشفاء الأعميين (متى 9) وبارتيماوس (مرقس 10) والمولود أعمى (يوحنا 9).

 

أولاً – المحتاج والمعجزة

1 – أعمى منذ ولادته:

هذا المولود أعمى يمثِّلنا جميعاً، فهو يرمز لعمانا الروحي، نحن الذين بالإثم صُوِّرنا وبالخطية حبلت بنا أمهاتنا. فعمانا الروحي منذ الميلاد، وكلنا كغنم ضللنا، مِلْنا كل واحد إلى طريقه. وتأثير الإنجيل «مَكْتُومٌ فِي الْهَالِكِينَ، الَّذِينَ فِيهِمْ إِلهُ هذَا الدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ الْمَسِيحِ، الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللّهِ» (2كورنثوس 4: 3، 4). ولذلك فالبشر يسلكون «كَمَا يَسْلُكُ سَائِرُ الأُمَمِ أَيْضاً بِبُطْلِ ذِهْنِهِمْ، إِذْ هُمْ مُظْلِمُو الْفِكْرِ، وَمُتَجَنِّبُونَ عَنْ حَيَاةِ اللّهِ لِسَبَبِ الْجَهْلِ الَّذِي فِيهِمْ بِسَبَبِ غِلاظَةِ قُلُوبِهِمْ» (أفسس 4: 17، 18).

 

2 – يعيِّره الناس:

لم تقتصر كارثة هذا الأعمى على عماه، فقد زادتها قسوةً تعليقات المحيطين به، فقد اعتبروا مرضه نتيجة خطيةٍ ارتكبها. ولم يأت دفاعه عن نفسه بفائدة، بل ربما عاد بضرر أكبر، فقد أرجعوا مرضه لخطية والديه أيضاً. مسكين الرجل بعماه ومسكين بقسوة المحيطين به، فالناس دائماً يرجمون غيرهم بالأحجار، ليعاقبوا أنفسهم في غيرهم، ويُسقِطوا عيوبهم على الآخرين.

 

ورفع المسيح في محبته عن الرجل عماه، كما رفع عنه الاتّهام الظالم. ونحن نعلم أن أبوي المولود أعمى خاطئان، وكذلك كلنا، فمَن مِن البشر بلا خطية؟ ولكن المسيح دافع عنهم وقال: «لا هذَا أَخْطَأَ وَلا أَبَوَاهُ، لكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللّهِ فِيهِ» (آية 3). فإن العمى هنا ليس نتيجة خطية من الأعمى ولا من والديه.

 

قد تكون الخطية سبب المرض، كما في حالة المشلول الذي دلاّه أصحابه الأربعة من السقف «فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ، قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ» (مرقس 2: 5). وقد لا تكون الخطية بسبب المرض، كما في حالة أيوب البار الذي كان يتقي الله ويحيد عن الشر (أيوب 1: 8). وعندما أوضح المسيح هذه الحقيقة للسامعين أعاد للمولود أعمى كرامته، وأسكت أفواه المنتقدين الذين يقولون ما لا يعلمون، وينسبون أمراض الناس لخطاياهم، وهم بظروفهم جاهلون، فكثيراً ما تكون المصائب وسيلةً لإعلان رحمة الله.

 

3 – آمن وأطاع:

شفى المسيح هذا الأعمى بأن تفل على الأرض وصنع طيناً طلى به عينيه، وأمره أن يذهب ويغتسل في بركة سلوام. وذهب الأعمى بإيمان إلى البِرْكة وهو لا يزال أعمى. ومع أنه لم يكن يعرف من هو المسيح، إلا أنه أطاعه وذهب، فنال البركة، والبركة دائماً على رأس المطيع.

 

ولنتأمل في إيمان هذا الرجل:

 

كان إيمانه متدرِّجاً، فقال في الآية 11 عن المسيح: «إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ يَسُوعُ». ثم تقدم بعد ذلك إلى درجة أعلى من المعرفة في إجابته على أسئلة مجلس السنهدريم، فعندما سألوه «ماذا تقول أنت عنه؟» أجاب: «إنه نبي» (آية 17) لأنه بعد بعض التفكير أدرك أن المسيح لا يمكن أن يكون مجرد إنسان. وفي الآية 33 قال: «لو لم يكن هذا من الله لم يقدر أن يفعل شيئاً» فبعض الأنبياء الكذبة يعملون معجزات بقوة إبليس، أما هذا فهو من الله، من فوق، وهو فوق الجميع. الذي أتى من السماء هو فوق الجميع (يوحنا 3: 31).

 

وكان إعلان قمة إيمانه التدريجي في آية 38، فقد سأله المسيح: «أتؤمن بابن الله؟» فأجاب: «أُومِنُ يَا سَيِّدُ». ثم سجد للمسيح.

 

لقد نال هذا الشحاذ المستعطي أولاً فَتْح عينيه، ثم نال نعمة التبنّي، فصار الأَخْذُ من الله لا أخذ الشحَّاذين لكن أَخْذ الأبناء. فالبعض غرباء عن الله، يطلبون منه، فيأخذون، ويختبرون عنايته. ولكن عندما يُنعم الله عليهم بالتبنّي، يطلبون منه، فيأخذون ويختبرون خلاصه، كما اختبروا عنايته.

 

4 – شهد للمسيح شهادة اختبار:

يقولون، ويَصْدقون: «درهم اختبارٍ خيرٌ من قنطار عقيدة». وقد اختبر الأعمى اختباراً عميقاً، فكان عظيماً في شهادته للمسيح. وبالرغم من مقاومة الفريسيين له بعد شفائه وتهديدهم بقطعه من انتمائه لشعب الله، وقف ذلك الشحاذ المسكين الذي لم ينَلْ أي قسط من التعليم في حياته أمام سبعين من أعظم رجال الدين، هم أعضاء مجلس السنهدريم اليهودي، ليردَّ على استجوابهم. لقد عرف نفسه وشهد باختباره: «كُنْتُ أَعْمَى وَالآنَ أُبْصِرُ» (آية 25). ثم قال: «قَدْ قُلْتُ لَكُمْ وَلَمْ تَسْمَعُوا. لِمَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تَسْمَعُوا أَيْضاً؟ أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَصِيرُوا لَهُ تَلامِيذَ؟» (آيتا 27، 28) ومضى يقول: «إِنَّ فِي هذَا عَجَباً! إِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَقَدْ فَتَحَ عَيْنَيَّ» (آية 30) فقال إن مصدر الشفاء إلهيّ، لأنهم أرادوا أن يفسّروه باعتبار أنه من عمل الشيطان أو من السحر.

 

وكانت شهادة الأعمى أمام مجلس السنهدريم عقلية ومنطقية واختبارية، فلم يكن قد رأى المسيح من قبل أو نال الحياة الجديدة. ولكنه حال ما عرف أن المسيح هو ابن الله أدَّى العبادة له، وسجد للنبي ابن الله أمام الجميع. وهذه شهادة حية وإعلانٌ لاتِّباعه. وقَبِل منه المسيح هذا السجود لأنه أهْلٌ له.

 

ثانياً – المشاهدون والمعجزة

1 – الجيران:

سمع الجيران بما جرى للمولود أعمى، فأخذوا في حب استطلاعٍ يناقشون ما جرى له، بغير اكتراثٍ ولا اهتمام به هو شخصياً!

 

تساءلوا: «أَلَيْسَ هذَا هُوَ الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ وَيَسْتَعْطِي؟» (آية 8). أجاب البعض إنه هو، وقال البعض الآخر إنه يشبهه. أما هو فأصرَّ أنه هو. ولعل ما جعل الأمور تختلط على هؤلاء الجيران هو أن عيني الرجل انفتحتا، فحدث تغيير في وجهه. كما أن السعادة التي ملأت قلبه بانت على قسمات وجهه، فغيَّرتها.

 

ويشبه هؤلاء الجيران الكثيرين ممن يعيشون على هامش الحياة. يحبون الاستطلاع، ويصرفون وقتهم في الكلام والحديث، ولكنهم لا يكترثون لما هو أهم. لم يهتم أحدٌ منهم بالرجل نفسه، ولم يحاولوا أن يتأكدوا من شخصه، ولكن بعد مناقشة سطحية قادوه للسلطات، وأتوا به إلى الفريسيين.

 

2 – الفريسيون:

أناس منغلقو الفكر، يرفضون ما يختلف عن اعتقادهم، حتى لو كذَّبت عيونهم ما يعتقدون به! لا يحبّون فعل الخير إلا كما يستحسنون. مشكلتهم كامنة في إرادتهم، فلم تكن لديهم الرغبة في الإيمان.

 

وحدث بينهم انشقاق. قال قوم منهم: «هذَا الإِنْسَانُ (المسيح) لَيْسَ مِنَ اللّهِ، لأَنَّهُ لا يَحْفَظُ السَّبْتَ»(آية 16) بينما كانت الشريعة تسمح للذي يسقط ثوره في حفرة يوم السبت أن يخرجه. لكنهم رفضوا عمل المسيح الذي هو تخليص نفس وشفاء جسد، لمجرد أن هذا حدث في يوم سبت، وقالوا: «نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مُوسَى كَلَّمَهُ اللهُ، وَأَمَّا هذَا فَمَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ» (آية 29)، مع أن معجزاته الواضحة تكفي لتقنعهم أنه من الله.

 

ثم رفض الفريسيون الأعمى الذي نال الشفاء، وقالوا له: «فِي الْخَطَايَا وُلِدْتَ أَنْتَ بِجُمْلَتِكَ، وَأَنْتَ تُعَلِّمُنَا!» (آية 34). رفضوا اختباره، وكأنهم لا يعلمون أن التعليم ليس مجرد نظريات، لكنه قبل كل شيء اختبار يُعاش كل يوم!

 

3 – الأبوان:

وجّه الفريسيون لهم ثلاثة أسئلة: (1) هل هذا الولد ولدكما؟ – فأجابا: نعم. (2) وهل وُلد أعمى؟ – أجابا: نعم. (3) وكيف يبصر الآن؟ – فأجابا: لا نعلم! اسألوه فهو يتكلم عن نفسه.

 

كانا يعلمان أن الفريسيين يريدون توقيع الحكم عليهما إنْ هما أعلنا معرفتهما بالمسيح، وإن شهدا أنه صنع المعجزة. وكان الحكم بالحرمان ذا ثلاث درجات. (1) الحرمان من مخالطة الأقارب ثلاثين يوماً. (2) الحرمان مدى الحياة من الاختلاط بالأقارب، إلا في حالة الضرورة فقط. (3) الحرمان مدى الحياة من مخالطة كل الشعب، وقَتْل المحكوم عليه إن أمكن. ولما كان حكم القتل في يد الرومان وحدهم، فكان اليهود يكتفون عادةً بعزل المحكوم عليه.

 

وقد طبَّق اليهود الحكم القاسي الثالث على الأعمى الذي نال البصر «فَأَخْرَجُوهُ خَارِجاً» (آية 34).

 

ثالثاً – المسيح والمعجزة

1 – رأى المسيح الأعمى فبادر بشفائه:

«وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَاناً أَعْمَى مُنْذُ وِلادَتِهِ» (آية 1) فرأى فيه إنساناً محتاجاً للبصر.

 

رأى الأعمى في نفسه مجرد متسوّل لا فائدة فيه، فغيَّر المسيح حياته تماماً، وجعله شاهداً له. فأصبح المتسوّل يعطي خبز الحياة للجياع بالروح، وصارت لحياته أكبر الفائدة.

 

ورأى التلاميذ في الأعمى موضوع مناقشة فكرية عن سبب المرض والألم في العالم.

 

لكن المسيح رأى فيه فرصةَ إعلانٍ لمحبة الله، فتوجَّه إليه ليشفيه بدون أن يطلب الأعمى ذلك، مثلما فعل مع مريض بِرْكة بيت حسدا (يوحنا 5). وما أكثر ما نجهل البركة التي عندنا، فيفتح الله عيوننا عليها، وندرك عظمتها بعد أن نأخذها، ونكتشف أنها امتياز عظيم لنا من الرب، وتتحقق معنا كلمته: «لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ، وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ، وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ» (يوحنا 15: 16).

 

2 – أتمَّ المسيح الشفاء لأسباب:

ليتمجّد الله: قال المسيح: «لا هذا أخطأ ولا أبواه، لكن لتظهر أعمال الله فيه» (آية 3)، وقد أظهر المسيح دوماً أعمال الله، وحقق إعلانه: «مَنْ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ يَطْلُبُ مَجْدَ نَفْسِهِ، وَأَمَّا مَنْ يَطْلُبُ مَجْدَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَهُوَ صَادِقٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمٌ» (يوحنا 7: 18).

 

لأن الوقت قصير: قال المسيح: «يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ» (آية 4). وقد حقّق المسيح بذلك كلماته: «النُّورُ مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ، فَسِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ لِئَلاَّ يُدْرِكَكُمُ الظَّلامُ. وَالَّذِي يَسِيرُ فِي الظَّلامِ لا يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ» (يوحنا 12: 35).

 

ليُعلن رسالةً للعالم: قال المسيح: «مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ» (آية 5)، وحقق ذلك بقوله: «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلا يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ» (يوحنا 8: 12). ولا زالت هذه الكلماتُ صادقةً إلى يومنا هذا، فالمسيح ما زال ينير القلوب. «وَلَكُمْ أَيُّهَا الْمُتَّقُونَ اسْمِي تُشْرِقُ شَمْسُ الْبِرِّ وَالشِّفَاءُ فِي أَجْنِحَتِهَا» (ملاخي 4: 2).

 

صلاة

أبانا السماوي، لقد أعمت الخطية عيوننا منذ وُلدنا، وجعلَتْنا شحاذين نستجدي من العالم ما لا يكفينا، فنعود نستجدي من جديد. افتح عينَيَّ لأرى الحق، فإنك الطريق والحق والحياة. وليكن المسيح لي المخلِّص والطبيب، والمعلّم والصديق. باسم المسيح. آمين.

 

أسئلة

ذكر يوحنا أربع معجزات أجراها المسيح في الجليل، وأربع معجزات أجراها المسيح في اليهودية – اذكرها مع شاهدها الكتابي.

كيف يمثِّلنا هذا الأعمى ويرمز إلينا؟

كيف دفع المسيح تهمة أن العمى هو نتيجة خطية الأعمى أو نتيجة خطية والديه؟

اذكر كيف تدرَّج إيمان الأعمى، وكيف كمل.

«درهم اختبار خيرٌ من قنطار عقيدة» – اشرح كيف ظهر هذا في شهادة الأعمى للمسيح.

لماذا خاف الأبوان من الشهادة أمام مجمع اليهود للمسيح الذي شفى ابنهما؟

لماذا أخذ المسيح زمام المبادرة في شفاء المولود أعمى؟

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي