أنا هو القيامة والحياة


(يو 25: 11)

 ™gè e„mi ¹ ¢n£stasij kaˆ ¹ zw

شكراً لله فبهذه المقولة من فم يسوع المسيح ابن الله يكون قد انتهى الموت وعصور البكاء والنحيب على الموتى في دائرة أولاد الله! بل وهذا القول بحد ذاته أعطى نهاية لمعنى الكوارث والمصائب والأحزان لعالم أولاد الله لأن روح القيامة تتخطاها والحياة الأبدية تخلفها وراءها. هذه المقولة قالها يسوع قبل أن يقدِّم نفسه للمحاكمة والصلب والموت! وهذا يجعل القيامة التي قامها المسيح في اليوم الثالث ليست حدثاً جديداً على المسيح، لأن بهذا القول تكون القيامة هي طبيعته والحياة الأبدية حياته. وهذه قالها المسيح لمرثا حينما قالت له عن لعازر أخيها الميت: “أنا أعلم أنه سيقوم في القيامة في اليوم الأخير
” (يو 24: 11)، ردًّا على قول المسيح: “سيقوم أخوك!!
” (يو 23: 11). فانفعل المسيح وأعلن لها أنه هو القيامة والحياة. هنا المسيح يستعلن سلطانه لتجاوز الزمن، ف “اليوم الأخير” كاليوم الحاضر، لأن الذي هو بطبيعته أزلي يخضع له الزمن فلا يكون. والذي هو من اختصاص الله في اليوم الأخير من جهة الإقامة من الموت، أخذه المسيح ودخل به العالم ليمارسه لحساب الآب. والذي يؤمن به حتماً يرى القيامة ويرى الحياة. فكان هذا أعظم تعبير عن سلطان لاهوته الذي لا يقف أمامه الموت بكل أشكاله وحوادثه، لذلك نجد المسيح نفسه يشرح قوله إنه هو القيامة والحياة هكذا: “مَنْ آمن بي ولو مات فسيحيا، وكل مَنْ كان حيًّا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد
” (يو 25: 11و26)، أي لا موت لإنسان يحيا مع المسيح. فكيف يموت إنسان وهو ممسك بالقيامة؟ إنه حتماً سيحيا بل وسيعبر الموت وكأنه لم يمت لأنه حامل قيامته في كيانه. وعلى نفس المعنى إن كان إنسان قد نال الحياة الأبدية، كيف تقول إنه يموت؟ إن ما تقوله الكنيسة في أوشية الراقدين حق: “ليس موت لعبيدك بل هو انتقال”. نعم، انتقال من حياة وقتية مظهرية لحياة حقيقية أبدية عَبْرَ إعادة التراب للتراب!! فالجسد الترابي يحجز الآن النور والحياة الأبدية عن أعيننا الروحية، فبمجرد أن نتخلص منه ونستودعه التراب، نرى النور والحياة.

والمسيح صحح فكر مرثا عن القيامة، فهي تعلَّمت من الربِّيين والفرِّيسيين أنه توجد قيامة أجساد في اليوم الأخير، ولكنه بمجيئه إلى العالم حاملاً القيامة والحياة، أصبحت القيامة حاضرة منذ الآن والحياة الأبدية انفتحت على مصراعيها للذين يؤمنون بالمسيح ويقبلون روح القيامة. لذلك قالها: “أنا هو القيامة والحياة” كحقيقة خلاصية
وليس مجرد مقولة إيمانية
حاضرة الآن ترفع عن الإنسان المسيحي رهبة الموت والغُمَّة والحزن على فقدان الأهل والأصدقاء، لأن بدخول القيامة بالإيمان عالم المؤمنين بالمسيح كفَّ الموت أن يكون له وجود، وأصبح الحزن والنحيب على الموتى ضحكة لدى أرواحهم في السماء وجهالة يُحاسب عليها المؤمنون. كما يقول الكتاب: “ابتُلع الموت إلى غلبة. أين شوكتك يا موت أين غلبتك يا هاوية.. شكراً لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح” (1كو 54: 15
57)

كذلك في قول المسيح: “أنا هو القيامة والحياة
” استعلان حقيقة المسيح الإلهية، لأن المعروف في الإيمان أن الله هو الذي سيقيم الأجساد ويعطي الحياة. هنا بقول المسيح إنه: “القيامة والحياة
” معناه أنه يقيم ويُحيي منذ الآن كالله، وهي الأعمال التي اعتُبرت من اختصاصات الله في نهاية الزمان. لذلك فالمسيح يعلن هنا تجاوزه للزمان بإدخاله القيامة وعنصر الحياة الأبدية منذ الآن ليعمل في صميم حياة المؤمنين منذ الآن كالعربون دون انتظار لآخر الزمان.

ويعلِّق على هذه الحقيقة بولس الرسول قائلاً: “إذاً لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح
” (رو 1: 8)، أي أن الذين في المسيح يتجاوزون الدينونة المزمعة أن تكون؛ “نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الإخوة
” (1يو 14: 3)؛ “الذي أنقذنا من سلطان الظلمة، ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته
” (كو 13: 1). وواضح أن هذا كله أصبح حقيقة إيمانية راسخة، لأننا جزنا الموت مع المسيح وقمنا مع المسيح، فلم تعُدْ علينا خطية ولا دينونة، بل نحيا مع المسيح والآب في شركة الحياة الأبدية التي نلناها بالفداء والخلاص الذي تمَّ: “إن كنتم قد قُمتم مع المسيح، فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. اهتموا بما فوق لا بما على الأرض، لأنكم قد مُتُّم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله. متى أُظْهِرَ المسيح حياتنا، فحينئذ تُظْهَرُون أنتم أيضاً معه في المجد
” (كو 1: 3
4). إذن، أصبحت اهتماماتنا وتعزياتنا بما فوق، بمعنى أننا اخترقنا الموت وتجاوزنا الحياة الحاضرة بالإيمان، وقمنا معه وجلسنا معه في السماويات. وأوضحها المسيح بقوله: “إن مَنْ يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة” (يو 24: 5)

والمسيح بهذا لا يلغي القيامة العتيدة ولا الدينونة القادمة، ولكن يعلن أنه نزل من السماء ليبدأها منذ الآن، لأن الذي جاء ليغفر الخطايا حتماً يرفع الدينونة، والذي جاء ليلغي الموت حتماً يعطي القيامة ويعطي الحياة بالضرورة من الآن وفي التو.

ولكن لكي يؤكِّد المسيح لكل مَنْ آمن باليوم الآخر، أن الذي يعطي روح القيامة هنا هو نفسه الذي سيقيم من بين الأموات في اليوم الآخر قالها صراحة وبلا أي لَبْس: “وهذه هي مشيئة الآب الذي أرسلني أن كل ما أعطاني لا أتلف منه شيئاً بل
أُقيمه في اليوم الأخير.لأن هذه هي مشيئة الذي أرسلني أن كل مَنْ يرى
الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية وأنا أُقيمه في اليوم الأخير” (يو 39: 6و40)

إذن، فنحن الآن أمام خطة إلهية فائقة المحبة والرحمة والعدل معاً، أنْ لا نفاجأ بالدينونة في اليوم الأخير حيث لا يخلص أحد ويستد كل فم، لأن الدينونة تكون حسب أعمال كل أحد. فسبق الله وأرسل ابنه الوحيد حاملاً القيامة والحياة الأبدية في صميم كيانه، وبذله ليحمل الدينونة عن الإنسان ويكمل عقاب الموت فينا ويقيمنا معه من الموت الأبدي بقيامته ويحيينا بحياته. وهكذا نكون قد جزنا الدينونة قبل الدينونة، وانعتقنا من الهلاك الأبدي، وأخذنا الحياة الأبدية كالعربون منذ الآن. هذا رآه بولس الرسول وهتف له بالمحبة: “إذاً، لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع السالكين ليس حسب الجسد (بعد)، بل حسب الروح (بالضرورة)
” (رو 1: 8). من هذا نفهم ونتيقن أن المسيح حينما يقول: “أنا هو القيامة والحياة
” يُعلن لكل مَنْ يؤمن به أنه قد تخطَّى اليوم الأخير وجاز الدينونة، ونال البراءة والتبرير بالخلاص الذي أكمله المسيح. يا لمجد الله!!

إنها فرصة نجاة من الهلاك الأبدي ليس لها مثيل، ودخول عهد النعمة مجاناً عِوَض الغضب والنقمة: “الآب يحب الابن وقد دفع كل شيء في يده. الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله” (يو 35: 3و36)

وبعد أن قال لمرثا: “أنا هو القيامة والحياة
” أقام لعازر أخاها بعد أن أنتن في القبر إذ كان له أربعة أيام، قائلاً له: “لعازر هلمَّ خارجاً
” فخرج الميت حيًّا. هنا القيامة التي باشرها المسيح هي بمثابة خلق جديد، لأن الجسم أنتن وفسد ومزَّقه الدود، بل إن الخلقة من تراب أو من لا شيء أهون من إعادة جسد أنتن وتهرَّأ إلى الحياة، إذ هنا تمتاز الخلقة بعمل إلغاء لكل مظاهر الفساد لحظة أن دبَّت فيه الحياة، وهذه لفتة يعلن بها المسيح قدرة القيامة التي يعطيها على إلغاء كل أعمال أخطاء الإنسان وإفساده لحياته تعبيراً عن رفع الدينونة رفعاً شاملاً. يا لمجد الله!

المسيح أعطى إقامة لعازر لتكون نموذجاً حيًّا منظوراً لما يعمله في غير المنظور، وعلى نفس المستوى تماماً فنحن لما أخذنا روح القيامة والحياة سقطت منا سرًّا كل مظاهر الفساد وذابت وانحلت كل أعمال الخطية المحيطة بنا دون أن نحسها أو يحسها أحد وتلاشت الدينونة ولن نراها. وكما حلُّوا لعازر من رباطات الموت وفكُّوا عنه أغطيته، هكذا فعلت فينا قيامة المسيح، وكما أمر المسيح: “.. دعوه يذهب
” صار لنا الأمر بعينه فصرنا أحراراً نتحرك حتى إلى أعلى السماء. يا لمجد الله!

+ “احسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية (أي تجاوزوها)، ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا” (رو 11: 6)

ولكن لعل أقوى تعبير عن حلول روح القيامة حتى إلى قلب الإنسان، قول المسيح: “مَنْ يأكلني فهو يحيا بي
” (يو 57: 6). هذا حدث لما دخلنا في شركة مع المسيح في موته على الصليب وقيامته في اليوم الثالث
(







[1]







)

، فصرنا بالإيمان مع المسيح وفيه، ولكن لما أكلنا من جسده وشربنا من دمه صرنا وكأننا أكلنا القيامة وشربنا الحياة حقاً.

إذن، ف “أنا القيامة والحياة
“مقولة لا تخص المسيح في شيء، بل تخصنا نحن في الصميم وقد منحها لنا كفعل إلهي اخترق أعماقنا فأقامنا من موت الخطية وأحيانا لله. ولكن هنا شرط أساسي يدور حوله كل ما قاله المسيح، وهو السؤال الوحيد الذي سأله لمرثا لكي يقيم لها أخاها، وهو ذات السؤال الذي يسأله حتماً قبل أن يعطينا قيامته أو يُشركنا في حياته: “أتؤمنين بهذا
” فكانت الإجابة النموذجية التي على أساسها قام لعازر ونقوم نحن: “.. قالت له: نعم يا سيد، أنا قد آمنت أنك أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم” (يو 26: 11و27)

ومرة أخرى
(







[2]







)

نقول إن المسيح عندما يقول: “أتؤمن”، لا يطلب أكثر من أن نصدِّق ما يقول. فإن صدَّقنا ما يقول كان لنا في الحال كل ما وعد!! وتصديق الله حالة قلبية يلهبها الحب والفرح والرجاء: “إن آمنتِ تَرَيْنَ مجد الله
” (يو 40: 11). فالإيمان نافذة نفتحها بالتصديق بقلبنا فنرى مجد الله وكل أعمال الله معمولة.

وفي أصحاح سابق، كشف المسيح عن سرِّ قيامة لعازر، وبآنٍ واحد، يكشف عن سرِّ قيامتنا إن شئنا أن تكون:

+ “الحقَّ الحقَّ أقول لكم: إنه تأتي ساعة وهي الآن حين
يسمعالأموات صوت ابن الله
والسامعونيحيَوْن” (يو 25: 5)

نعم، فصوت ابن الله يخترق الآذان حتى لو تهرَّأت وأكلها الدود وصارت إلى تراب، فهو صوت يخضع له الموت، وكل مَنْ كان تحت سلطان الموت. لعازر
سمعصراخ المسيح في أعماق الهاوية وللحال لَبِسَ الجسد وقام. وهذا من أروع النماذج لما يعمله المسيح في الذين آمنوا به وأحبوه الآن:

+ “الحقَّ الحقَّ أقول لكم: إن من
يسمعكلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة” (يو 24: 5)

هنا تتبلور القدرة على امتلاك وعد المسيح لقبول الحياة الأبدية على صلاحية الأُذُن لسماع صوت المسيح أو كلامه: “لماذا لا تفهمون كلامي؟ لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي” (يو 43: 8)

فالقدرة المؤهِّلة لسماع المسيح هي في الحقيقة القدرة على الوعي، أو انفتاح الوعي. وانفتاح الوعي يبدأ من الإنسان على أساس التصميم الداخلي للتتلمذ على الكلمة. فالذي أوقف كل مداركه وانشغاله للتتلمذ على كلمة الإنجيل، ينفتح له سر قول المسيح ويأتي الروح القدس ليكمل انفتاح الذهن لفهم المكتوب أو المسموع.

كان الكتبة والفريسيون يسمعون كلام المسيح بخفة، وينتبهون بشدة لالتقاط الأخطاء منه أو لاتهامه بالخروج عن الناموس أو التقليد، فلم يستطيعوا قط أن يسمعوا له سمعاً شافياً كافياً، ولذلك لم يفهموا من كلامه شيئاً.

أما مَنْ يتتبع كلام المسيح باستعداد السمع مع الإيمان بكل ما يقول، فالمسيح يَعِدْهُ: “.. له حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة
” (يو 24: 5). وأستطيع بكل يقين أن أشرحها للقارئ في جملة واحدة، وهي: إن مَنْ يُخْلِص للمسيح إخلاص الحب ويجعل الإنجيل كتابه الأعز والأغلى من كل كتاب، يكتسب قرباً شخصياً من المسيح ينتهي بالإحساس الدائم بالوجود في حضرة الرب. هذه هي حالة قبول القيامة، وعربون الحياة الأبدية، ورفْع طوق الدينونة من حول رقبة الإنسان مجاناً. يا لمجد الله!


قيامة المسيح من بين الأموات وعلاقتها بقوله “أنا هو القيامة والحياة”:

علينا أن نلاحظ أن “القيامة” كفعل أكمله المسيح عندما قام من بين الأموات في اليوم الثالث، هو في الحقيقة فعل لا يخص الله. فالله لا يموت، وبالتالي لا يقوم من الموت، إنما هو فعل يخص الإنسان بالدرجة الأولى. فالذي يقوم من الموت يلزم أن يكون قد جاز الموت، وهذا قَبِلَه المسيح بالجسد كإنسان معتمداً على سلطان الحياة الأبدية التي فيه كإله. لذلك لا يُقال إن المسيح قام من بين الأموات، إذ لابد أن يُقال إنه قام من بين الأموات
بالجسد،فهو مات بالجسد بإرادته، وبإرادته قام بالجسد.

لذلك فإن المسيح حينما قال: “أنا هو
القيامة

” قالها من واقع تجسُّده “بإنسان أيضاً قيامة الأموات
” (1كو 21: 15). فلولا تجسُّد ابن الله ما استطاع أن يموت أو يقوم من الموت. لذلك فإن قول المسيح: “أنا هو القيامة
” هو باعتبار الحياة الأبدية التي له كإله والتي في الجسد مضافاً إليها سلطانه الإلهي الفائق على إلغاء الموت وكل مفاعيله. إذن ف “القيامة” بالنسبة للمسيح هي حصيلة قوة غَلْبَتِه على الموت ثم استعلان الحياة الأبدية التي له. لذلك حينما يقول المسيح: “أنا هو القيامة والحياة
” فهذا من واقع نفَّذه بالفعل في جسده، إذ ألغى الموت من الجسد، وأعطى الجسد قوة الحياة الأبدية، فقام. والمسيح نفَّذ نصرته على الموت في الجسد، لكي يُمارس هذا السلطان على الموت والحياة بأن يُعطي القيامة ويهب الحياة الأبدية لكل إنسان يؤمن ويلتصق به.

فقصة الصليب والقبر، واليوم الثالث
أي الموت والقيامة
ليست حلقة من حلقات قصة حياة المسيح، بل هي قصة الإنسان الجديد التي أعطته طبيعة الخلود. لذلك فقول المسيح: “أنا هو القيامة والحياة

” إنما هي واقع الإنسان الجديد وكأنما ينطقها المسيح بفم البشرية المفتداة!!

والإنجيل يحقق ذلك معتبراً أن قيامة المسيح هي في الحقيقة الحركة الأولى التي منها وبها تسري على البشرية التي تقبل بهذه القيامة وتؤمن بها:

+ “إن يُؤلَّم المسيح يَكُنْ هو
أول قيامة الأمواتمزمعاً أن يُنادي بنورٍ للشعب وللأمم” (أع 23: 26)

+ “ولكن الآن قد قام المسيح من الأموات
وصار باكورة الراقدين،فإنه إذ الموت بإنسان بإنسان أيضاً قيامة الأموات” (1كو 20: 15و21)

+ “وهو رأس الجسد الكنيسة الذي هو البداءة بكرٌ من الأموات، لكي يكون متقدماً في كل شيء” (كو 18: 1)

واضح أن المسيح افتتح القيامة من بين الأموات بالجسد بسلطانه الإلهي القاهر الموت وبالحياة الأبدية التي هي طبيعته. وبعد ذلك بدأت القيامة من بين الأموات، لأن المسيح منح الذي له لكل مَنْ آمن به، وهكذا ساد المسيح على كل الأحياء الذين أقامهم: “لأنه لهذا مات المسيح وقام وعاش، لكي يسود على الأحياء والأموات
” (رو 9: 14). وهذا هو معنى أن المسيح صار رأس الكنيسة التي هي جسده: “مباركٌ ومقدَّسٌ مَنْ له نصيب في القيامة الأولى، هؤلاء ليس للموت الثاني سلطان عليهم..” (رؤ 6: 20)

ويصف بولس الرسول الصوت الرقيق الذي سيسري بين الراقدين ليقوموا وكأنهم في حال نوم ليروا نور المسيح وهو يخاطب به الذين ينتظرون القيامة الثانية، ولكنه يخاطب أيضاً الذين غلبهم نعاس العالم الحاضر ودخلوا في غيبوبة هموم هذا الدهر، فاختفى عن ناظرهم نور المسيح: “استيقظ أيها النائم وقُمْ من الأموات فيضيء لك المسيح” (أف 14: 5)

والقديس يوحنا الرسول يعطينا فكرة واضحة عن ماهية القيامة الثانية، إذ يقول: “الآن نحن أولاد الله ولم يُظْهَرْ بعد ماذا سنكون، ولكن نعلم أنه إذا أُظْهِرَ (في القيامة العتيدة) نكون مثله لأننا سنراه كما هو
” (1يو 2: 3)، أي في القيامة العتيدة سنحصل على رؤية وإدراك ووعي
كاملنرى به المسيح الإله الحق كما هو في ملء استعلانه الإلهي، وهذا الظهور الكامل للمسيح يكون سببه حصولنا في هذه القيامة على طبيعة منبعثة من المسيح كالأصل والصورة، فكل ما للمسيح سيكون لنا حتى إننا نراه كما نرى أنفسنا. فالنسبة بين القيامة الحالية والقيامة العتيدة كالنسبة بين الآن “لم يُظْهَر ماذا سنكون

” وهناك “نكون مثله لأننا سنراه كما هو
” فهي قيامة الاستعلان الكلي، والمسيح مصدرها أيضاً، أي أن المسيح كما كان هو أساس قيامتنا الأولى بمعنى أننا قمنا بقيامته أو في قيامته حتى إنه لو لم يقم المسيح من الموت ما كنا قمنا إلى الأبد. ولكن استعلاننا لمجد قيامته ورؤيتنا لبهاء مجد لاهوته كان محدوداً للغاية بسبب انحصارنا الحالي في الجسد ومحدوديته القاسية جداً. لذلك حينما نحصل في القيامة الأخرى على انفتاح الرؤيا واتساع الوعي، سنرى قيامته على حقيقتها في كامل بهاء مجدها.


“أنا الحياة”

zw

:

هنا المقصود “الحياة الأبدية”، ولكن يُكتفى بكلمة
“الحياة”فقط، لأن الحياة الجسدية لا يُعترف بها كحياة في مفهوم اللاهوت لأنها مغلوبة للموت. فالحياة الجسدية لا تُحسب عند الله والروحيين أكثر من أنها حياة في الموت أو كتصريح المسيح في قصة الابن الضال: “لأن ابني هذا
كان ميتاً فعاش،وكان ضالاً فوُجِد

” (لو 24: 15)، وكتصريح بولس الرسول عن المرأة المتنعمة: “فقد ماتت وهي حية
” (1تي 6: 5). أما “الحياة”
الحقيقيةفهي حياة في الله أو حياة كل مَنْ يعيش لله حسب الروح، فهو يستمد حياته من الله: “وآمن جميع الذين كانوا مُعيَّنين للحياة الأبدية.” (أع 48: 13)

لذلك لما قام المسيح من بين الأموات واستُعلنت الحياة الأبدية التي فيه قيل إنه يستحيل أن يقربه الموت بعد: “عالمين أن المسيح بعد ما أُقيم من الأموات لا يموت أيضاً، لا يسود عليه الموت بعد” (رو 9: 6)

وباستعلان القيامة، استُعلنت الحياة الأبدية التي في المسيح والتي برهنت بلا نزاع أنه ابن الله: “تعيَّن ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات” (رو 4: 1)

إذن، فمن صميم صفة الحياة الأبدية أنها حياة الله، دخلت الحياة الأبدية لتقيم علاقة الله بالإنسان كوعد إلهي يعطيه الله للإنسان بواسطة يسوع المسيح: “بولس رسول يسوع المسيح بمشيئة الله
لأجل وعد الحياةالتي في يسوع المسيح

” (2تي 1: 1)، وأيضاً: “هذه هي الشهادة أن الله
أعطانا حياة أبدية وهذه الحياة هي في ابنه. مَنْ له الابن فله الحياة،ومَنْ ليس له ابن الله فليست له الحياة

” (1يو 11: 5و12)، “وهذا هو
الوعدالذي وعدنا هو به
الحياة الأبدية” (1يو 25: 2)

وواضح أننا لم نكن نعرف شيئاً عن الحياة الأبدية ولا كنا نظن أن الله سيهبها لنا في ابنه، ولكن القيامة من بين الأموات التي ظفر بها المسيح بغلبته على الموت هي التي فجَّرت الحياة الأبدية في عالم الإنسان، كما فهمها القديس يوحنا: “فإن
الحياة أُظْهِرَتْوقد رأينا ونشهد ونخبركم
بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظْهِرَتْ لنا” (1يو 2: 1)

وحددها القديس يوحنا بعد ذلك أنها هي المسيح نفسه: “ونعلم أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق، ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح،
هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية” (1يو 20: 5)

عجيب حقاً أن يكون تعرُّفنا على الحياة الأبدية هو النتيجة المباشرة لتجسُّده وموته على الصليب ثم قيامته التي فجَّرت الحياة الأبدية لنراها ونلمسها ونعرفها ونشترك فيها لأول مرة في تاريخ الإنسان. فتعرُّفنا على الحياة الأبدية ونوال نصيب فيها، دفع الله ثمنه وكان ثمنه فادحاً للغاية، وهو موت الابن على الصليب.

فإن كنا بموت المسيح قد تصالحنا مع الله لما غُفرت خطايانا وتبرَّأنا من الحكم السابق الواقع علينا، فبحياته
كما يقول بولس الرسول
نلنا الخلاص مجاناً لما وهبنا حياته: “لأنه إن كنا ونحن أعداءٌ (بالخطية) قد صولحنا مع الله بموت ابنه، فبالأَوْلَى كثيراً
ونحن مُصالحون نخلُص بحياته

” (رو 10: 5). فقد صارت الحياة الأبدية التي في المسيح مصدر كل النِعَم والمواهب، نعيش ونتنعم على وعدها الذي يحققه الله لنا بقدر ما نتقرب إليه بالحب والأمانة: “لأنكم قد مُتُّم
وحياتكم مستترة مع المسيحفي الله. متى أُظْهِرَ المسيحُ حياتُنا فحينئذ تُظْهَرون أنتم أيضاً معه في المجد

” (كو 3: 3و4). فحياتنا الأبدية مستترة الآن في المسيح، وحياة المسيح صارت بالسر حياتنا: “.. أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ
” (غل 20: 2). لأن الحياة التي نحياها الآن ليست هي حياة الجسد، لكننا نلنا نصيبنا في الحياة الأبدية التي دُعينا إليها فأصبحت حياتنا هي حقاً حياة المسيح وكل ما نلناه من نِعَمٍ وبركات هي من فيض حياته.

لذلك حينما يقول المسيح: “أنا هو القيامة والحياة
” فهو كأنما يقول: أنا مخلِّصكم من الموت والفساد، أنا هو حياتكم ومجدكم، أنا الواهب لكم حب الله وفرح الرجاء وسر الخلود.

فبالقيامة
كما يقول بطرس الرسول
ولدنا الله لرجاء حي دائم: “مباركٌ الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي
حسب رحمتهالكثيرة
ولدنا ثانية لرجاء حيٍّ بقيامة يسوع المسيح من الأموات

” (1بط 3: 1)، أي بصريح العبارة: إن بقيامة المسيح من بين الأموات كُتبت البشرية في سِفْر الله لحياة جديدة أبدية من ذات الحياة التي قام بها الابن والمخلِّص. فهي خلقة جديدة بكل نوع، وبالحياة الأبدية هذه التي في المسيح دخلنا علناً مع الابن في شركة وفي ميراث الخلود: “لميراث لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل محفوظ في السموات لأجلكم
” (1بط 4: 1). حيث ينتظر الحاصلون على عربون الحياة هنا، ما أعدَّه لهم الرب من رحمة مذخرة: “واحفظوا أنفسكم
في محبة الله، منتظرين رحمةربنا يسوع المسيح
للحياة الأبدية

” (يهوذا 21)، وأُعطيت لنا الحياة الأبدية في المسيح ومعها الميراث حتماً: “مُعْطين إيَّاهُنَّ كرامة
كالوارثاتأيضاً معكم
نعمة الحياةلكي لا تُعاق صلواتكم

” (1بط 7: 3). والحياة الأبدية من الآن لها عمل: “مَنْ أراد أن
يحب الحياةويرى أياماً صالحة فليكفف لسانه عن الشر وشفتيه أن تتكلَّما بالمكر” (1بط 10: 3)

وبولس الرسول يرى أن الحياة الأبدية التي دُعينا إليها هي
بحد ذاتها
هدف جهادنا وسعينا، والإنسان مطلوب منه أن يمسك بها: “جاهد جهاد الإيمان الحسن
وأمسك بالحياة الأبدية التي إليها دُعيت أيضاً

” (1تي 12: 6). فالحياة الأبدية هدف حي واقعي نمسك بها هنا وهناك: “مُدَّخرين لأنفسهم أساساً حسناً
للمستقبل لكي يمسكوا بالحياة الأبدية” (1تي 19: 6)

وهكذا يمكن أن نرى الحياة الأبدية أنها
في الماضيكانت وعداً،
وفي الحاضرحب وفرح وعلة جهاد وإيمان بتمسُّك شديد، والمستقبل للحياة الأبدية منظور من الآن في الحاضر باعتبار الحياة الأبدية تبدأ في المسيح من هذه الحياة الآن وتستمر إلى الأبد بعد أن يقلقها الموت إلى لحظة لتستأنف وجودها بلا عائق في المسيح إلى الأبد: “أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية، أنا أُعطي العطشان (هنا) من
ينبوع ماء الحياة مجاناً.مَنْ يغلب يرث كل شيء..” (رؤ 6: 21و7). والحياة الأبدية هنا عزاء فائق وهناك فرح أبدي: “فقال له سيده: نِعِمَّا أيها العبد الصالح والأمين. كنتَ أميناً في القليل (هنا) فأُقيمك على الكثير (هناك)، ادخل إلى (الحياة الأبدية)
فرح سيدك

” (مت 21: 25). والحياة الأبدية هناك قائمة في مجد ومورثة للمجد: “أنا الشيخ رفيقكم والشاهد لآلام المسيح
وشريك المجد العتيد أن يُعلن..ومتى ظهر رئيس الرعاة
تنالون إكليل المجد الذي لا يَبْلَى..وإله كل نعمة الذي
دعانا إلى مجده الأبديفي المسيح يسوع..” (1بط 1: 5و4و10)

وارتباط الحياة الأبدية بالقيامة، يجعل إعطاء الحياة الأبدية يبدأ حتماً من الآن من الحاضر الزمني، لأن قيامة المسيح تمت في الحاضر الزمني ودخلت معها الحياة الأبدية في حاضر الإنسان الزمني، ونحن الآن محسوبون أننا قمنا مع المسيح بكل يقين، وبالتالي نلنا الحياة الأبدية الآن كالعربون. ولكن الجسد الآن يعطِّل استعلان لانهائية الحياة الأبدية.

وبولس الرسول يؤكِّد أن الحائزين على عربون الحياة الأبدية الآن لهم رائحة المسيح الزكية: “لأننا رائحة المسيح الزكية لله في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون، لهؤلاء رائحة موت لموت ولأولئك
رائحة حياة (أبدية) لحياة (أبدية)” (2كو 15: 2و16)

كما يؤكِّد بولس الرسول أن كلمة الإنجيل، هي كلمة المسيح، هي كلمة الحياة الأبدية، ونحن نتعامل معها الآن وفي كل عمقها وهي التي تربطنا بالحياة الأبدية عن واقعٍ حيٍّ مفرح: “متمسكين “بكلمة الحياة” لافتخاري في يوم المسيح
” (في 16: 2)، “اذهبوا، قفوا، وكلِّموا الشعب في الهيكل بجميع كلام هذه الحياة
” 
والمتكلِّم بهذا هو ملاك الرب للرسل وهم في السجن (أع 20: 5). والمسيح أكَّد ذلك تأكيداً: “الكلام الذي أُكلِّمكم به هو روح وحياة

” (يو 63: 6). وسمع التلاميذ وآمنوا وشهدوا وصارت عقيدة الكنيسة التي نحياها: “فأجابه سمعان بطرس: يا رب إلى مَنْ نذهب، كلام الحياة الأبدية عندك
” (يو 68: 6). وبولس الرسول يؤكِّد حاضر الحياة الأبدية: “.. الله الذي خلَّصنا ودعانا دعوة مقدسة، لا بمقتضى أعمالنا، بل بمقتضى القصد والنعمة التي أُعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية، وإنما أُظْهِرَت الآن بظهور مخلِّصنا يسوع المسيح الذي أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل
” (2تي 9: 1و10)، وهي ليست حديثة فدعوتها أزلية: “ومعرفة الحق الذي هو حسب التقوى على رجاء الحياة الأبدية التي وعد بها الله المنزَّه عن الكذب قبل الأزمنة الأزلية” (تيطس 1: 1و2)

وبولس الرسول يؤكِّد أننا وقد متنا مع المسيح، فنحن حتماً نحيا مع المسيح أو المسيح يحيا فينا، وهذه هي الحياة الأبدية بواسطة المسيح: “مع المسيح صُلِبْتُ، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ. فما
أحياه الآن في الجسدفإنما أحياه (حياة أبدية) في الإيمان..” (غل 20: 2)، “وإن كان المسيح فيكم، فالجسد ميت بسبب الخطية،
وأما الروح فحياة بسبب البر” (رو 10: 8)

والموازنة قائمة فبقدر ما نحتمل أتعاب الإيمان والشهادة ننال الحياة: “حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع لكي تُظْهَرَ
حياة يسوع أيضاً في جسدنا

” (2كو 10: 4)، “لأننا نحن الأحياء (في الحياة الأبدية) نُسلَّم دائماً للموت من أجل يسوع لكي تَظْهَرَ حياة يسوع أيضاً في جسدنا المائت” (2كو 11: 4)

ومعروف أن الحياة الأبدية هي هبة الله: “لأن أجرة الخطية هي موت، وأما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا
” (رو 23: 6)، “وأما الآن إذ أُعْتِقْتُمْ من الخطية (بالخلاص الذي تم والقيامة) وصرتم عبيداً لله فلكم ثمركم للقداسة
والنهاية حياة أبدية” (رو 22: 6)

القديس يوحنا هو الذي ربط بين الحياة الأبدية والنور الإلهي. ففي مطلع إنجيله عرفنا أن النور الذي أشرق على العالم بمجيء المسيح كان هو الحياة الأبدية التي في المسيح: ”
فيهكانت
الحياة، والحياة كانت نور الناس

” (يو 4: 1)، حيث النور هو نور المعرفة واستعلان الله، لأن الله نفسه هو
“النور”.لذلك فمجيء المسيح وفيه الحياة الأبدية كان أصلاً لاستعلان الله، لأن الله هو
“الحياة”،ووصية الله هي نفسها حياة أبدية: “وأنا أعلم أن
وصيته هي حياة أبدية..” (يو 50: 12)

لذلك فالمسيح بتسليمنا وصايا الله وحبه سلَّمنا الحياة الأبدية. وهو نفسه الحياة، وهو خبز الحياة، وماء الحياة، ونور الحياة. وهذه الأوصاف كلها إنما تعني معنىً واحداً، أنه بها يُعلن الله وأنه هو المُعلِن لله. وكلماته هي
بالضرورة
روح وحياة، وكلمات الحياة الأبدية عنده، ولذلك أرسله الآب لنحيا به: “بهذا أُظْهِرَتْ محبة الله فينا، أن الله أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به

” (1يو 9: 4). وأن نحيا به، ينكشف لنا أن إعطاء النور والحياة يتم من الآن، فالحياة الأبدية فعَّالة فينا في الحاضر، وهذا يوضِّحه الإنجيل أشد وضوح بالقول: “هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية
” (يو 16: 3). ولكي يظهر أن هذا يخص الحاضر بكل تأكيد يقول المسيح أيضاً: “الحقَّ الحقَّ أقول لكم: إن مَنْ يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني،
فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة،بل قد انتقل من الموت إلى الحياة

” (يو 24: 5). هذا الوعد يخص الحاضر والمستقبل بآن واحد، ويؤكِّدها القديس يوحنا: “نحن نعلم أننا
قد انتقلنا من الموت إلى الحياةلأننا نحب الإخوة” (1يو 14: 3)

ولكن الأمر العجيب حقاً والمترتب على قبولنا الآن الحياة الأبدية، هو أنه يتحتم أن نكون
بآن واحد
قد قبلنا منذ الآن الأمور الأُخروية، لأن الحياة الأبدية والأمور الأُخروية منطقة واحدة في الله كشفها المسيح وأدخلنا فيها، فمَنْ يغشى هذه يغشى تلك: “الحقَّ الحقَّ أقول لكم: إنه
تأتي ساعة(الأخيرة)،
وهي “ الآن”حين يسمع الأموات صوت ابن الله
والسامعون يَحْيَوْنَ

” (يو 25: 5). وهذا تحقق بالفعل في إقامة لعازر تأكيداً أن المسيح له حياة في ذاته، وأنه حقاً هو القيامة العتيدة، وهو الحياة الأبدية. من هنا جاء حل اللغز الذي طرحه مباشرة بقوله: “مَنْ آمن بي ولو مات فسيحيا
” لأنه هو الحياة الأبدية: “وكل مَنْ كان حيًّا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد
” (يو 25: 11و26). والمعنى في كلتا الحالتين واحد، فمَنْ آمن بالحياة الأبدية يعيشها، ومَنْ يعيشها لا يموت حتى ولو مات. وهذا يشرحه المسيح في موضع آخر هكذا: ”
مَنْ يشرب من الماء الذي أُعطيه(نعمة الروح)، فلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الذي أُعطيه يصير فيه ينبوع ماء
ينبع إلى حياة أبدية

” (يو 14: 4). وعلى نفس المستوى هو: “الخبز الحي الذي نزل من السماء.
إن أكل أحد من هذا


الخبز يحيا إلى الأبد” (

يو 51: 6)

إذن، فوعود المسيح في هذه كلها من جهة إعطاء الحياة الأبدية لا تخص الزمن الأُخروي أو المستقبلي البعيد، بل تخص الحاضر والحال والتو، إذا تم بالإيمان القاطع. ولكن هنا البدء، والتكميل هناك. فالقيامة تمَّت في الحاضر الزمني، ولكنها ستكمل وتُستعلن في النهاية: “وأنا أُقيمه في اليوم الأخير
” (يو 40: 6). والإعفاء من الدينونة يبدأ الآن: اذهب “مغفورة لك خطاياك
” (مت 2: 9)، ويكمل في النهاية. وحتى الخلاص يبدأ الآن ليكمل في النهاية، لأن مجيء ابن الله متجسداً ليعلن لنا الله، هذا في الحقيقة يحتسب حدثاً اسخاتولوجياً مقطوعاً به. كذلك فإن بمجيء المسيح تمَّت القيامة الأولى، ومُنحت الحياة الأبدية كبداية حقيقية مُعاشة: “أتيتُ لتكون لهم
حياة وليكون لهم أفضل

” (يو 10: 10). الحياة الأبدية هي طبيعة الله، إن حضرت فهو يكون حضوراً أبدياً، غير أن استعلانها فينا ومفاعيلها تكون محدودة بسبب محدوديتنا الزمنية والجسدية الآن.

ونحن نعلن عن الحياة الأبدية التي فينا والتي نعيشها الآن بالمحبة الأخوية عديمة الغش والرياء كقول القديس يوحنا: “نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت
إلى الحياة،لأننا
نحب الإخوة

” (1يو 14: 3). كذلك فالحياة الأبدية فينا تُعلن
بالفرح الحقيقي:“كلمتكم بهذا (كلام الحياة الأبدية)، لكي يثبت
فرحي فيكم، ويُكْمَل فرحكم

” (يو 11: 15)، “ولكني سأراكم أيضاً
فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم

” (يو 22: 16)، “وأتكلم بهذا في العالم
ليكون لهم فرحي كاملاً فيهم” (يو 13: 17)

ومرة أخرى أيها القارئ السعيد:

+ “وأتكلم بهذا في العالم ليكون لهم فرحي..”

+ “
وليكون فرحهم كاملاً”.

هذه هي: “الحياة الأبدية”.

وكما رأينا في موضوع القيامة العتيدة أننا سننتهي إلى أن نرى المسيح كما هو في ملء مجد لاهوته، لأننا في هذه القيامة سنصير مثله؛ هكذا في أمر الحياة الأبدية، ففي القيامة العتيدة ستُستعلن لنا الحياة الأبدية كما هي في الآب والابن، لأننا سنحياها كما هي. فإن قال القديس يوحنا الرسول: “وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح
” ثم علَّق على فاعلية هذه الشركة هكذا: ”
لكي يكون فرحكم كاملاً

” (1يو 3: 1و4)، مع أنه يتكلم عن واقع شركتنا الآن ونحن محدودي الرؤيا والنظر، ولا نراها كما ينبغي أن تُرى وأن تكون؛ فإن هناك تصبح هذه الشركة وهذا الفرح إلى حدِّ الملء والكمال: “أيها الآب أُريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي الذي أعطيتني..” (يو 24: 17)


(ديسمبر 1994)




(


[1])

انظر: افتتاحية مجلة مرقس عدد فبراير 1995 “أنا هو خبز الحياة”.



(


[2])

انظر: افتتاحية مجلة مرقس عدد أبريل 1994 “الخلاص والإيمان”، ص 3.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي