الباب الأول


حقائق تمهيدية

انه لما كان تقديم الحقائق التمهيدية على كافة الأبواب من أهم الأمور فقد قدمناها هنا ليستعين بها حضرات قراء ” رَبّ الْمَجْدِ ” ليستنيروا بنورها، وليسترشدوا في أبحاثهم بها، وليجعلوها أساساً لبناء دراستهم لمواضيع هذا الكتاب، إحقاقاً للحق.

 

الحقيقة الأولى

(في اثبات وجود الله)

ليس لنا أن نقدم لقراء كتاب ” رَبّ الْمَجْد ” شيئاً عن الله أو عما يختص بالله أو عن أي موضوع من المواضيع المتعلقة بلاهوت رَبّ الْمَجْد إلا إذا بدأنا بإثبات وجود الله قولاً وعملاً بأدلة قاطعة لا تقبل جدلاً لكي يستنير المعترفون، ويخزى الذين هم لوجود الله منكرون.

أن الله سبحانه وتعالى دَق خفاؤه عن الإفهام
فلا يمكن لبشر أن يدرك كنهه تعالى مهما أوتي من الدرجات العلى حتى قال بعضهم:

العجز في طلب الإدراك
إدراك .. والبحث في عين ذات الله إشراك

فالله خفيّ عن عقول المنكرين الجاهلين الذين ادعوا العلم وهم عنه مبعدون بمقدار ما هو ظاهر بآياته المتجلية في مخلوقاته أمام أبصار وبصائر الباحثين عن الحق بالإخلاص، ذوي النيات الحسنة والطوايا السليمة، والغايات القويمة، والآمال المستقيمة. وعلى هذا فأمامنا صنفان من الناس، أحدهما منكر لله ومؤله للطبيعة، وثانيهما مؤمن بالله مبرهن على صحة إيمانه بالبراهين الساطعة، والحجج القاطعة، والقضايا العملية، والنظريات المؤيدة. فبينما نرى الفريق الأول، فريق الإنكار، متخبطين في دياجير الحيرة، متوكئين على عكاكيز الزيغ والضلال والبغي، جادين في سبل تحبيذ الكفر الشنيع، متوهمين أن الطبيعة دائرة حول نفسها بلا مدبر، موجودة بلا موجود، لا بداية لها ولا نهاية، وانه لا آدم ولا قيامة، نرى كذلك الفريق الثاني، فريق الاعتراف بحقائق الحقائق، باحثين في الجلائل والدقائق، واصلين بأبحاثهم ودروسهم وتأملاتهم إلى صخرة الإيمان، آمنين من الغرق في محيطات الكفران، ثابتين على الاعتراف، سالكين سبيل الانصاف، داعين إلى الحق بلا خلاف، صارفين النظر عن كل متدرون (أي تابع داروين صاحب نظرية ” النشوء ” المشئومة التي تقول أننا معشر بني آدم أصلنا القردة!) وقع في هاوية الاتلاف. وها نحن نأتيكم بأقوى الأدلة، لتعرفوا الحق اليقين.

 

أدلة من البحر والبر:

قيل أن ملكاً كافراً أرسل وراء أسقف مدينته المسيحي، وحكم عليه أن يريه الله الذي يؤمن به ويعبده ويدعو إليه إذا كان صادقا في دعواه، وان لم يفعل فانه لا محالة من المقتولين. فوعده الأسقف أن يريه الله مرتين لا مرة. ثم جاء الأسقف إلى الملك في يوم كثرت أنواؤه، وهاجت زوابعه، وانهمرت أمطاره، فأخذه ليريه الله إتمأما للوعد. فأنزله في سفينة صغيرة، وسار به فوق أمواج المحيط إلى الأعماق، فصارت السفينة كريشة ضئيلة في مهب الريح تعلو وتهبط وتميل إلى الماء كثيرا حتى كادت تنقلب بهما مراراً، وصار الماء يتسرب إليها، فانزعج الملك خوفا على حياته، وجزع جداً، وصار ينتفض من الخوف والبرد والماء. وتضرع إلى الأسقف أن يعيده إلى الشاطئ لان الموت عرقاً صار منه قاب قوسين أو أدنى. فنظر الأسقف نظرة أسد وقال: يا سبحان الله!! ألا تقدر، يا جلالة الملك الأعظم، أن تؤثر على نسمة صغيرة من نسمات الله فتسكتها حتى تراه؟ فأين جلالك أما جلاله؟ ألا تقدر أن توقف المطر فلا ينزل من السماء حتى لا تبتل ثيابك الملكية؟ألا تقدر وأنت الملك المطاع أن تأمر البحر فيهدأ، والريح فيسكت، والسفينة فتعتدل وتشق بك عباب الماء فوق متون هذه الأمواج العالية؟ ألا تقدر أن تصبر على هذه الحال حتى ترى الله جيدا حسب أمرك؟ فقال الملك: ” إذا كانت هذه نسمة من نسمات الله فكيف تصير الحال إذا غضب؟ لقد ضعفت وانهزمت جدا الآن، فلا اقدر أن احتمل سماع هزيم الرعد، ولا صفير الريح، ولا تلاطم الأمواج التي هي كجبال تتلاقى، ولا انهمار الأمطار فوق سطح البحار. ولا أطيق رؤية الماء يتسرب إلى سفينتنا. فعد بي سريعاً، أيها الأسقف، إلى الشاطئ عسى أن نصل إليه ونحن على قيد الحياة. ودع هذا الأمر إلى أيام الصيف.” فعاد به الأسقف الماهر في فن الملاحة إلى الشاطئ بين تلاطم الأمواج بكل صعوبة، ووصلا إلى ميناء السلامة.

وفي وسط أيام الصيف أرسل الملك وراء الأسقف فحضر. فأمره بإنجاز وعده، فأجاب بالسمع والطاعة. وأخذه إلى جبل عال أجرد وقت الظهيرة، وقال له: افتح عينيك، يا أيها الملك، وارفع نظرك وثبته جيدا في قرص الشمس المتوهجة لكي ترى الله. ففعل الملك، ولكنه ارتد في الحال كليل الطرف كثير الدمع، ونكس رأسه وقال للأسقف: ” كادت الشمس تخطف بصري، فلا أستطيع التحديق بها مطلقاً. ” فأجابه الأسقف ” في الشتاء لم تقدر على نسمة من نسماته، وفي الصيف لم تستطع النظر إلى إحدى مصنوعاته، فكيف تقدر أن تراه ببهاء ذاته، وجلال صفاته؟ ألم تتأكد من وجوده إلى الآن بعد أن رأيت ما رأيت من عظمته في مخلوقاته؟ ” فخجل الملك، وصغرت نفسه لديه، وهتف باسم الرب شاكراً له ثلاثاً، وانقلب إلى أهله مسروراً.

ومن هذا المثل الواقع تتأكد لديكم قدرة المؤمن الحي على إثبات وجود الله، لان سبيل الإقناع حسب القاعدة الذهبية التي وضعها رَبّ الْمَجْد بقوله: ”
من فضلة القلب يتكلم الفم” (مت 12: 34) فهل انتم مقتنعون؟

أدلة من صوت الطبيعة:

أن الطبيعة بنظامها العام قد خدمت قضية إثبات وجود الله اجلّ الخدمات، فأعلنت لنا وجود الله، وأيدت إعلانها، أثبتته بأقوى البراهين العملية، لان سيرها على هذا النظام المضبوط البديع ينادي الملأ بوجود منظم حكيم قدير جدا، وينادي معلنا أن الكائن الذي نظم الطبيعة وسيرها يجب أن يكون اقدم منها نفسها، لأن الوالد سابق المولود (وهذا القياس ينطبق على المخلوقات المادية التي خلقها الله، وأما الروحيات فلها قياس آخر حسب القواعد اللاهوتية. فانتبهوا) وأن هذا الكائن هو الذي انشأ الطبيعة أولا، ثم سيرها على نظامها الجميل ثانياً. وإلا فكيف يضبط سيرها ونظامها إن لم يكن هو الذي أنشأها؟ وهل يقدر سائق السيارة أن يسيّرها أن لم يكن عارفاً كيف يركّب آلاتها ثم يفكها حين اللزوم؟ وهل توجد سيارة ركّبت نفسها وسارت بنظام دون أن يركبها مهندسها ثن يسيرها؟ فإذاً لا تمشي الطبيعة مضبوطة بلا ضابط، ولا يضبطها إلا الذي أنشأها. وبما انه لا بد للطبيعة من منشئ ضابط لها فهو الله. وهذا برهان ظاهر لقوم يعقلون. وفوق هذا وذاك فان الطبيعة بنظامها الدقيق تنادينا أنها بهيكلها ونظامها وحي الهيّ عمليّ كامل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وان سطور هذا الوحي العجيب تقرأ دائماً في حوادث الطبيعة المتتالية، ليلاً ونهاراً، صيفاً وشتاء”، لمن ألقى السمع وهو شهيد.

أدلة على وجود الله من نهر النيل وأمثاله:

قفوا بنا أمام نهر النيل أو غيره من الأنهار لنتأمل في نظام النهر ومصدره، بصرف النظر ” مؤقتاً ” عن آراء القائلين أن نهر النيل مصدره الجنة وينبوعه نقطة باء بسم الله الرحمن الرحيم، لان هؤلاء القصاص الجهلاء لا يعرفون ما وراء وادي حلفا جنوباً، ولا ما وراء بحر الروم شمالاً، ولا ما وراء جبل المقطم شرقاً، ولا ما وراء صحراء الأهرام غرباً. فماذا نرى في نهر النيل؟ وماذا نرى في مصادره؟ أننا نرى ما يخلع القلوب هلعاً، ويحير الألباب جزعاً، ويذهل كل مرضعة عما أرضعت! نرى بخاراً قد ولدته حرارة الشمس في فصول معلومة من السنة فصعد من ” الاوقيانوسات ” المحيطات العظيمة، وتجمّع في الفضاء فكوّن سحباً هائلة سارت إلى اتجاه معلوم، كأنها جبال مارة بين السماء والأرض بقوة الرياح، أيأما محدودة إلى جهات معينة، فتصل إليها في أوقات مخصوصة. وهناك تتزاحم السحب، وتتلاطم في الجو بعد تلطيف الهواء لمائها وذهاب ملوحته، فيحدث هزيم الرعد، وتتوالى البروق فينصب المطر من هذه السحب كأفواه الجداول الجارية فوق رؤوس الجبال، فتمتلئ الكهوف والمغاور والحفر والمسالك والوديان، وتفيض إلى أن تغطي قمم الجبال وتعم الصحارى، فلا يبقى نفق أو حفرة أو سهل أو جبل إلا هو ممتلئ بالمياه في تلك الجهة المعينة. ويستمر الحال على هذا المنوال أيأما معلومة، فتفيض على البحيرات فتملأها، ويجري الماء منها في عدة جداول ذات مسالك متنوعة إلى أن يجتمع وينتظم في رأس النهر أو ينبوعه، فيسير فيه جارياً بفيضان عظيم حاملاً معه تراب الجبال والصحارى التي مر بها أو نزل عليها، فتعلو مياه النهر في أيام معلومة من السنة، فتروي الأراضي الزراعية كلها حول النهر وعلى طوله من منبعه إلى مصبه بماء مشبع بتراب الجبال الذي يكسب الأرض قوة تعادل القوة التي تكتسبها من الماء ذاته على الأقل، وهذا في أوقات مناسبة تمأما للزراعة، بنظام أدق واضبط من نظام الساعة، من بدء الخليقة إلى قيام الساعة. فحالما انتظم سير الطبيعة في بدء الخليقة انتظم سير هذه الأنهار بالأوقات المعينة من تلك الأيام إلى الآن دون خطأ ولو صغير. وعلى رغم القيود الصناعية التي ابتدأ البشر يقيمونها بكل همة لأجل تحويل منافع هذه النظامات الطبيعية إلى ما يشاؤون والى من يشاؤون، فان القوات الطبيعية النهرية التي نظمها الله لفائدة قوم لا يقدر على تغيير نظامها شيء في الوجود. ومما يدل على هذا الناموس الطبيعي باق لا يتغير هو نفس مقدار الماء الذي يكاد يكون متوازياً كل عام، وهذا اعظم برهان على قدرة اليد الإلهية المسيرة لنظام الطبيعة. ولقد وافق القرآن على نظريتنا هذه بقوله: ” أفرأيتم الماء الذي تشربون؟ أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون؟ “

ولقد أعلن لنا الوحي المقدس أن الله هو الذي سيّر نظام الطبيعة بقدرته وحكمته وارادته وحده، لأنه هو خالقها منذ البدء، كما قال تعالى ”
ومن حجز البحر بمصاريع حين اندفق فخرج من الرحم. إذ جعلت السحاب لباسه والضباب قماطه وجزمت عليه حدّي واقمت له مغاليق ومصاريع وقلت إلى هنا تأتي ولا تتعدى وهنا تتخم كبرياء لججك. في أي طريق يتوزع النور وتتفرّق الشرقية على الأرض” (أيوب 38: 11و24)، وكما قال حينما كلمنا في ابنه ”
لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات. فانه يشرق شمسه على الاشرار والصالحين ويمطر على الابرار والظالمين” (متى 5: 45). فبرهن لنا بهذه المعلنات السمائية، في كلامه عن الماء والنور، على حقيقة وجوده، وعلى أزليته وتكوينه للخليقة، لان هذين العنصرين هما علة حياة الأحياء تحت قبة السماء. ألا تستيقظون!

أدلة على وجود الله من نظام الطبيعة في سوريا وفلسطين وغيرها:

وكذلك توجد أراض وبلاد، كنيوزيلاندا* وأمثالها، ينزل الله فيها ماء المطر فيكون كافيا لحياة زراعتها وأشجارها ومواشيها وسكانها بلا نقص فيظمأون، وبلا زيادة فيغرقون. فهم لا يحتاجون إلى نهر كنهر النيل كما في بلاد مصر والسودان مثلا. فهل يتصور عاقل أن الطبيعة نظمت نفسها بلا منظم بهذا المقدار؟ ألا يدل وجود هذا النظام على وجود إصبع الله في خلقها ونظامها؟

والأعجب من كل ما مر هو أن المياه التي تتبخر من الاقيانوسات (المحيطات) سنويا، وتحملها الرياح إلى الأماكن التي رتب الله أن تنزل فيها جهة منابع الأنهار أو الأراضي المحتاجة إليها، لم تنقص سنويا في كل مكان عن حاجة العالم الضرورية والأراضي الزراعية والغابات التي يسافر فيها الراكب شهوراً حتى يصاب سكان اليابسة بالشرق والقحط (نعم قد يقع من المطر في بلاد أرض الموعد مثلا في بضع سنوات اقل مما هو لازم للزراعة الخ. لكن ما هو السبب يا ترى؟ – إذا عرف السبب بطل العجب – فاعلم أن السبب مذكور بل ومشروح بإيضاح في سفر تثنية الاشتراع 11: 13-17 حيث نقرأ قوله تعالى ”
إذا سمعت لوصاياي أعطي مطر أرضكم في حينه” – وإلا فلا -. تأمل في هذا واحترس.) ولم تزد عن المطلوب في جميع الأرض عامرها وغامرها حتى تتلف المزارع والمصانع ويصاب الناس بالغرق. ومما هو من الغرابة بمكان أو الاقيانوسات لم تنقص بسبب التبخر مثقال ذرة سنة من السنين من بدء الخليقة إلى الآن. فهل هذا الترتيب العجيب رتبته يد الصدفة كما زعم المنكرون؟ ألا يدل هذا الإبداع الواضح في عالم الطبيعة على وجود الكائن الحق المعبود؟ إن في هذا تذكرة لكم لعلكم تتفكرون.

أدلة من التراكيب الآلية على وجود الله:

تأملوا في قفل من الأقفال التي تغلق بها الأبواب، وعندئذ تتأكدون أنه صنع بنظام مخصوص لغرض مخصوص هو إغلاق الباب به حتى لا يفتحه إلا مفتاحه المخصوص. فهل القفل هو الذي صنع نفسه هكذا، أم صنعه صانع للغرض الذي صنع له؟ تأملوا.

تأملوا في الساعة لتعلموا أن كل قطعة منها قد ركبت فيها بنظام خاص، وبعد أن تم تركيبها كنظامها تعينت لغرض خاص هو ضبط الأوقات. فهل هذه الساعة صنعت نفسها، وركبت اجزاؤها فيها بيد الصدفة الطبيعية فقط، وبدون غرض معين، كما قال عباد الطبيعة الكافرون؟ أم صنعها صانع حكيم ماهر لغرض هام هو ضبط الوقت بالتمام؟ تأملوا فإذا كان ذاك القفل وهذه الساعة لم يصنعا إلا لغرض خاص كان موجوداً في علم الصانع قبل أن يصنعهما، فهل هذه العوالم الطبيعية كلها قد وجدت بلا بداية، وصنعت بلا صانع؟ وهل يوجد في العقلاء من يصادق على هذا المجون؟ ألا يدلنا منطقنا، وترشدنا عقولنا، وتعلمنا علومنا، أنه لا بد لكل مصنوع من صانع؟ ألا نفهم بالبداهة أن الصانع اقدم أقوى من المصنوع؟ ألا يقودنا الصحيح إلى أن العوالم كلها مصنوعة، والى أن صانعها الأعلى هو الله الحكيم القدير الأزلي؟ ألا يقودنا هذا المنطق إلى أن كل مصنوع هو حادث أما أزلية الإله الصانع الذي بيده كل شيء وهو عل كل شيء قدير؟

أدلة من الأنظمة الفلكية على وجود الله:

لقد فتش أيوب النبي في قواميس المدح والثناء ليجد احسن الألفاظ التي يتشرف بأن يصف الله تعالى بها احسن وصف، فلم يجد احسن من هذه الألفاظ التي صاغها في وصفه عز وجل فقال: ”
الباسط السموات وحده، والماشي على أعالي البحر، صانع النعش والجبار والثريا ومخادع الجنوب” (أيوب 9: 8و9) ومن شاء فليراجع خطاب الرب لأيوب (ص 38و 39) في الموضوع.

وكذا داود النبي، راعي الغنم، ألفت نفسه التأمل في سفر نظام الكواكب، فسبّح الله قائلاً: ”
السموات تحدث بمجد لله. والفلك يخبر بعمل يديه جعل للشمس مسكناًفيها، وهي مثل العروس الخارج من حجلته، يبتهج مثل الجبار للسباق في الطريق. من أقصى السماوات خروجها ومدارها إلى أقاصيها ولا شيء يختفي من حرها” (مز 19: 1-6). وبعد هجوم الأسد والدب على الغنم وقتل داود إياهما شدد الحراسة الليلية جدا وداوم السهر فكان يباشر دوران الكواكب ويكثر من مشاهدات أنظمة الأفلاك إلى أن جعلها ساعته الخاصة التي يميز الأوقات الليلية بواسطتها. ولذلك امتلأ نعمة وفرحا فرفع وجهه إلى الصانع الأعلى الذي نظم هذه الأفلاك وصلى قائلاً: ”
إذا أرى سمواتك عمل أصابعك القمر والنجوم التي كونتها فمن هو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده ما امجد اسمك” (مز 8: 3-9).

من المعلوم أن الرومان كانوا يعبدون إمبراطور هم مع أصنامهم في عصر المسيح وتلاميذه، وكانوا يحتقرون اليهود الذين يعرفون الإله الواحد، وحقدوا على المسيحيين الأولين الذين بشروا بنعمة الخلاص بالفادي وبمحبة الإله الواحد. ولذلك قال الرسول في رسالته إلى الرومانيين: ”
إذ معرفة الله ظاهرة فيهم لان الله أظهرها لهم. لان أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى انهم بلا عذر. لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم واظلم قلبهم الغبي. وبينما هم يزعمون انهم حكماء صاروا جهلاء أبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى الذين استبدلوا حق الله بالكذب واتقوا وعبدوا المخلوق دون الخالق الذي هو مبارك إلى الأبد آمين” (رومية 1: 19-25). وقال هذا الرسول الكريم أيضاً للاثينويين: ” أيها الرجال الاثينويين أيراكم من كل وجه كأنكم متدينون كثيراً.
لأنني بينما كنت اجتاز وانظر إلى معبوداتكم وجدت أيضاً مذبحاً مكتوباً عليه لإله مجهول. فالذي تتقونه وانتم تجهلونه هذا أنا أنادي لكم به. الإله الذي خلق العالم وكل ما قيه هذا إذ هو رب السماء والأرض لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي. ولا يخدم بأيادي الناس إذ هو يعطي الجميع حياة ونفساً وكل شيء لإننا به نحيا ونتحرك ونوجد” (أعمال 17: 22-28). فكان هذا الرسول يجتهد في تحويل أفكار الوثنيين وأبصارهم من الأرض إلى السماء، لان السماء، بما فيها من الكواكب ذات النظام البديع، برهان مفحم على وجود الله، ولان كل كوكب من السيارات يدل على وجود بارىء الأرض والسموات.

فالسماء بكواكبها، والكواكب بمنازلها، ومناظرها، ومظاهرها، ونظاماتها، براهين على وجود الله صانعها. والقضايا العملية الفلكية التي لا ريب فيها إنما هي شرح لما ابتدأ داود النبي وأيوب وغيرهما بإعلانه من الحقائق النبوية، وهذا ظاهر لقوم يتفكرون.

أدلة من خلق الحيوان والإنسان على وجود الله:

أننا إذا تأملنا في مصنوعات الله ندهش وتذهب عقولنا من شدة العجب لان أعمال الله عظيمة. ولكن، لو تأملنا في وجود الحيوانات كطبائعها الغريزية، لظهرت لنا براهين جديدة على أن الله هو خالقها. فحالما يولد الحيوان يكون بدون اختبار، وقبل أن يعرف كيف يفتح عينيه يبحث عن ثدي أمه التي ولدته ويرضعه، وكلما نما زاد اختباراً وطاعة ونفعا للإنسان. فالإبل في الجبال وما ماثلها من الأفيال تعرف المسالك، وتسير فيها بأصحابها أيأما وليالي، وتحفظ أصحابها في الظلماء. وكذلك الخيل تخاف على أصحابها، وتعمل لحياتهم. حتى أن الفرس لتروغ في الميدان إذا رأت الطعنة موجهة إلى صدر صاحبها، وتميل به يميناً وشمالاً لنجاته أو لنيله من خصمه. وكذلك الحمار يركبه صاحبه ويسير به في الظلام الشديد فيعرف الطريق المطلوبة لحياة صاحبه، ويذهب فيها ولا يميل عنها ولو ضربه صاحبه (عدد 22: 22-23). والكلاب تقوم بالحراسة الامينة، وما شاكل ذلك. فنرى الحيوانات تتحرك وتعمل لمرضاة صاحبها، وتطلب ما فيه طعامها وشرابها، ولا ينقصها إلا النطق. ألا يدل وجود الحيوانات بهذه الكيفيات البديعة على وجود مبدع قد أبدعها؟ ألا تؤمنون أن هذا المبدع هو الله؟

تأملوا في الإنسان تروا انه ذو جلد ولحم وعظم ودم ككل حيوان، ولكنه يمتاز عن جميعها بأشياء. (أولها) أن الحيوانات تمشي على أربع، والإنسان يمشي على اثنين. (وثانيها) أن الحيوان ليس له عقل ليكون له سلطان على غيره، وأما الإنسان فقد أعطاه الله عقلاً ليكسو نفسه ستراً لعورته، وليستعمل كل ما وقع عليه نظره وتصل إليه يده من إنسان وحيوان وجماد وماء ونبات لأجل منفعته حسب إمكانه. (وثالثها) أن الله ميزه بان أعطاه نفساً خالدة لتحيا في العالم الآتي أما في نعيمها وأما في شقائها. ولذلك أرسل الله من الإنسان إلى الإنسان أنبياء ورسلا بكتب سماوية قيمة. فوجد الإنسان، والحال هذه، أقوى برهان على وجود الله. فجميع نظامات الطبيعة في السماء والأرض، وجميع المخلوقات العلوية والسفلية والإنسانية والحيوانية، كلها براهين على وجود الله.

 

الحقيقة الثانية

إثبات وجود الوحي وضرورته وصحة الكتاب المقدس

في الحقيقة الأولى
أتثبتنا وجود الموحي وهو الله خالق الأكوان. وفي الحقيقة الثانية
نتقدم إلى إثبات وجود الوحي وصحة الكتاب المقدس الذي نستمد منه براهيننا أو أفكارنا دون غيره، لتكونوا على بينة من أمره،
ولتعلموا أننا لا نستند إلا على
براهين ساطعة، وحجج قاطعة، وأمور واقعة، أعلنها الله وآمن بها الناس. وتأكدوا أن الله هو اصل جميعها، وأنه هو الذي شاء فأعلنها لرجاله الأنبياء تدريجاً حسب اللزوم. ولهذا فها نحن نأتيكم بما يؤكد لكم أن الكتاب المقدس وحي حق الهي، وان وحيه صحيح لا ريب فيه، لعلكم به تؤمنون، وله تخضعون، متخلصون.

وقد قسمنا أدلتنا إلى فطرية، وخارجية، وداخلية.

(أولاً) من الأدلة الفطرية على صحة الكتاب المقدس ما يأتي:

من البين لكل مفكر أن المعرفة العقلية، مهما سمت،
لاتصل
إلاإلى معرفة الفرق بين الأزلي والحادث، والى أن الخالق موجود، والى انه هو وحده خلق الخلق بلا شريك في عمله ولا في ملكه.
ولكن صفات هذا الخالق وغايته ولماذا خلق الخلق – كل هذه الأمور لا يمكن لمخلوق ما أن يصل إليها مهما سمت مداركه وارتقت مباحثه وامتدت آراؤه.
ولذا فنحن في اشد الاحتياج إلى وحي من الإله الأزلي
ليعلمنا ما يأتي:

إننا محتاجون إلى وحي سمائي
ليعلمنا عن سمو ذات الله الذي أوصلتنا عقولنا إلى الاعتراف به والإيمان بوجوده، وليعلمنا عن مخالفة ذاته تعالى للحوادث وانه إله متفرد بالبقاء، ليس كمثله شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع البصير، وانه باق حي خفي لا يفنى ولا يرى، وليظهر لنا جلاله وبهاءه (خروج 19: 14-20).

إننا محتاجون إلى وحي سمائي
ليعلمنا عن المعلنات السمائية التي بواسطتها نفهم مبادئ وقوانين معاملة الله للإنسان، ومعاملة الإنسان لله، ومعاملة الإنسان لأخيه الإنسان، وليعلمنا كيف يتصرف الإنسان في ما حوله من النباتات والجمادات والسوائل والطيور والحيوانات بما يعود على الهيئة الإنسانية الاجتماعية من المنافع العامة، وبتمجيد الخالق المانح لهذه العطايا كلها (مز 19: 1 ومز 115).

إننا محتاجون إلى وحي سمائي
ليعلمنا عن
كمال الطبيعة البشريةمبدئياً حين خلق الله أبوينا الأولين آدم وحواء ووضعهما في جنة عدن، وليعلمنا عن
نقص الطبيعة البشريةذاتها من حين سقوط آدم وحواء ورفضهم لطاعة القدوس صاحب الحنان إلى عبودية الشيطان وطردهما من جنة عدن، وليعلمنا عن استمرار هذا النقص والفساد من يوم السقوط إلى الآن بل إلى نهاية العالم ما دام مولود المرأة يدرج على ظهر البسيطة بدمه ولحمه وعظمه وجلده (تك 6: 5 و8: 21).

إننا محتاجون إلى وحي سمائي
ليعلمنا أن نقص الطبيعة البشرية وفسادها قد أدى بجميع البشر إلى الهلاك الأبدي المحتم،وان الناموس أغلق على الجنس البشري أجمعين تحت الخطية التي حبلت ثم ولدت موتاً أبدياً (يعقوب 1: 15)

إننا محتاجون إلى وحي سمائي
ليظهر لنا قيمة محبة الله للبشر بإعلانه طريق الخلاص في نبوات أنبياء بني إسرائيل في العهد القديم

أولا، وبإعلانه تجسد ” رَبّ الْمَجْد “

ثانياً، وأعني به سيدنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي بتجسده العظيم حل المجد في أرضنا، والذي به ظهر الكلمة في الجسد بسر عظيم فائق الإدراك، والذي به تم الفداء المجيد بآلامه وصلبه وموته، والذي به تم التبرير بقيامته المجيدة وصعوده المبارك وجلوسه عن يمين عرش العظمة في الأعالي، والذي ليس بأحد غيره الخلاص: ”
من آمن واعتمد خلص” (مرقس 16: 16)

(ثانياً) من الأدلة الخارجية على صحة كتاب الله المقدس ما يأتي:

أن تواتر الكتاب المقدس من أيام كتابته سفراً فسفراً، وثباته في موقفه الجليل بين الله والناس، وثباته كما هو منذ وجوده إلى هذا اليوم على رغم أنوف رؤساء القوات الإبليسية الذين وقفوا في وجهه وقفات هائلات في مواقف تاريخية مشهورة، حتى أن بعضهم، مثل انطيخوس الرابع، أمر بإبادة كل نسخة من نسخ الكتاب، وبإلزام جميع اليهود بعبادة الأصنام عموماً وصنم المشتري خصوصاً، وبقتل كل من يتمسك بعبادة الإله الحي، وأمثاله من ملوك اليونان وملوك الرومان الذين أرادوا ملاشاة هذا الكتاب ليخلو الجو لوثنيتهم _ كل هؤلاء وأولئك جاهدوا ضد الكتاب المقدس بكل وسيلة لئيمة وفظيعة وغير مشروعة – ومع كل هذا فقد عاد الكتاب المقدس من كل هذه الميادين الدموية فائزاً منصوراً لأنه هو الكتاب الوحيد الذي قد جردت عليه سيوف أقوى المحاربين المجرمين، وأقلام فصحاء وسفهاء الكاتبين. ومع هذا فلم تزده الوقائع كلها إلا ثباتاً على ما هو عليه كما هو بأسفاره وفصوله واعداده وجمله وكلماته وحروفه ونقط حروفه بلا نقص ولا زيادة،ولم تزده المحن إلا نشاطاً وانتشاراً بين الناس، على اختلاف قبائلهم وشعوبهم، بكثير من اللغات. وها هو شاهد عيان، كما ترونه الآن.

انه لا يوجد في العالم اجمع كتاب يضارع هذا الكتاب المقدس في تأثيره على الأفكار والأفئدة لأنه هو الكتاب الوحيد الذي به أصلحت القلوب، وكشفت الكروب، أعلنت وسائط مغفرة الذنوب، وارتقت الآداب، وانتشرت المدنية الحقة بين جميع الناس، مهما اختلفت العادات والأجناس.

انه هو الكتاب الإلهي الوحيد الذي لم ير علماء الاجتماع وشعراء العالم كله خيراً منه ولا مثله. ولذلك فقد فضلوه على سائر مؤلفات العالم، واقتبسوا منه في مؤلفاتهم ورواياتهم وأشعارهم وتاريخهم، حتى أن جميع الآباء الكرام الذين هم آباء البيعة الأولون ذكروا في مؤلفاتهم بلا ترتيب وعلى غير قصد منهم كل آيات الكتاب شغفاً به وبروحه وبأهميته وبضرورته لحياتهم ولحياة أتباعهم دنيوياً وأخروياً، حتى أن الذي يريد أن يجمع الكتاب من وسط هذه المؤلفات الروحية يمكنه أن يفعل ذلك. وهذا من الأنواع التي بها حفظ الله كتابه وهو خير الحافظين.

أن جميع الآثار والتاريخ والاكتشافات شهادات ناطقة بصحة الكتاب المقدس، وبصحة نسبته التاريخية تماماً. وكل المستندات الأثرية والتاريخية المحفوظة في متاحف لندن وأورشليم وبرلين وارلندة وباريس وواشنطن وغيرها من المتاحف تثبت للملاء اجمع أن الكتاب المقدس جاء بالحقيقة في الإعصار التي عينت تاريخياً لكل سفر من أسفاره لان اصطلاحات كل كاتب من كتبة الأسفار الملهمين وافقت العادات والاصطلاحات السائدة في العصر المنسوب إليه بالتمام.

أن وجود النسخ الخطية القديمة التي يرجع تاريخها إلى القرن الثالث قبل ميلاد المسيح رب المجد شهادة حية ناطقة ضد الذين أقاموا بعد هذا التاريخ بمئات من السنين وادعوا تحريف الكتاب المقدس وتبديله، وشهادة محسوسة ملموسة على أن الكتاب المقدس أعلى من أن تتناوله أيدي الغايات الدنيئة لتغيير ما جاء فيه،
إن كنتم بالأدلة تتعظون.

أن من أهم القوانين الصارمة التي سنها معلمو إسرائيل وفرضوها على كتبة الناموس (الذين هم نساخ الوحي) ما جاء فيها بالحرف الواحد: ”
قبل أن تنسخ كلمة واحدة من كلام الله يجب عليك أن تغسل جسدك كله، وتلبس الثياب العبرانية، وتجهز نفسك بالأفكار الخشوعية. وأما الرقوق التي تكتب عليها فيجب أن تكون من جلود الحيوانات الطاهرة شرعاً. وكذلك الحبر الذي تكتب به يجب أن يكون اسود نقياً مجهزاً من خليط الكتن ” أي الهباب ” والكربون ” أي تراب الفحم البلدي والعسل. ومع انك تعرف، بل تحفظ كتاب الوحي قلبياً، فلا تكتب كلمة واحدة من ذاكرتك. ارفع عينيك إلى نسختك، والفظ الكلمة بصوت عال قبل أن تخطها. وقبل أن تكتب اسماً من أسماء الله يجب عليك أن تغسل قلمك. وقبل أن تكتب اسم الله الأعظم يجب عليك أن تغسل جسدك كله. وبعد النهاية من نسخ نسختك إذا وجدت فيها ثلاث غلطات فيجب عليك أن تعدم تلك النسخة

قد فرض أيضاً على كل ناسخ كاتب من كتبة الشريعة أن يعدّ أحرف كتابه، وفرض عليه أن يعرف كم حرفاً من كل نوع سيكتب في الصفحة الواحدة قبل أن يبتدئ فيها بالكتابة، وفرض عليه أن كل صفحة من الرقوق تكون سطورها مساوية للأخرى وان كل سطر يكون ثلاثين حرفاً. وفرض على كل من لا يقدر على القيام بهذه الواجبات أن يذهب من بين نساخ الوحي الإلهي.

ولقد استمر كتاب الله باقياً في الوجود كما هو على رغم أنوف المضطهدين له. ونذكر، على سبيل المثل، أن انطيخوس الرابع المار الذكر حينما حاصر أورشليم بفيالقه آمن أهلها فسلموا إليه وفتحوا له الأبواب. ثم غدر بهم وذبح الجميع ذبح الأغنام. وصوبت جيوشه الأسلحة إلى باب الهيكل ليلاً ونهاراً، ومنعوا العابدين من الصلاة لله بأوامر قيصرية، وألزموا كهنة الرب بأكل لحم الخنزير والذبح للأوثان في الهيكل على مذبح الرب. واصدر أوامره المشددة بإتلاف جميع نسخ التوراة إتلافاً تاماً عاما وهدد كل من يحفظ نسخة منها بالموت. وفعلا تمت هذه الأوامر ليس في أورشليم فقط بل في جميع بلاد اليهودية أيضاً حتى صار الكتاب في خطر الفناء التام. وفي تلك الأيام وصلت رسل هذا الملك إلى بلدة ” مودين ” من البلاد اليهودية بهذه الأوامر، وكان فيها كاهن شيخ مع أبنائه يدعى متتيا. فجاء إليه هؤلاء الرسل وأمروه بلسان الملك أن يذبح للمشتري هو وأبناؤه وإلا فانهم يذبحونهم ذبح الأغنام. فصرخ الكاهن متتيا في وجوههم بشدة، وشهد للرب إلهه واله آبائه. ثم التفت فرأى يهودياً جباناً خاف من مخالفة أوامر الملك الفاتح فتقدم ليذبح للمشتري، فغار الكاهن غيرة للرب وقتل اليهودي الخائن الجبان، وقتل رسل الملك ونادى في مودين بصوت عال قائلاً: من كان يحب الرب الإله الحي فليتبعني. وركض إلى محلته فوق قمة الجبل وأعتصم فيه، واجتمع حوله المؤمنون هناك، فصار رئيساً لجيش صغير ولكنه قوي جداً. وابتدأ يشن الغارات على جماعات الوثنيين ويطاردهم من بلدة إلى بلدة، ويطهر البلاد شيئاً فشيئاً حتى كبر جيشه ووصل إلى أورشليم. فهاجمهم فيها ودحرهم وطردهم وطهر الهيكل وهدم مذابح الأصنام. ثم جمع النسخ الباقية التي كانت مخبوءة عند أصحابها من جميع بلاد اليهودية بكل إجلال واحترام، وأمر النساخ أن يشتغلوا بنسخها كما كانوا يفعلون قبلا وكما هي حرفاً حرفاً، ففعلوا. ولم يمض غير قليل حتى انتشر الكتاب ثانية بسرعة أدهشت العالم أجمع، وأعادت المياه إلى مجاريها على رغم قوات الظلمة لان النور يدرك الظلمة والظلمة لا تدركه.

السند المتصل لكتبة الوحي

ولقد ورد في كتاب (برقي أبهوث) العبراني ما معناه: ” نزلت التوراة على موسى في جبل سيناء، واستودعها موسى إلى يشوع، وهذا سلمها إلى شيوخ إسرائيل، وهؤلاء سلموها إلى الأنبياء، وسلمها الأنبياء إلى السنهدريم (مجمع اليهود الأعظم) الذي أسسه نبي الله وكاهنه عزرا بقصد المحافظة على التوراة وتعليمها للشعب. فوضع المجمع ثلاث وصايا:

(الأولى) ” احترس في القضاء “.

(الثانية) ” علم كثيرين “.

(الثالثة) ” كن حصناً حصيناً للتوراة “.

وفرض المجمع هذه الوصايا الثلاث على كل فرد من أفراد الشعب ثم قام سمعان العادل، أحد خلفاء المجمع، فقال كلمته المأثورة وهي: ” العالم قائم على ثلاثة أعمدة:
التوراة والعبادة والعمل الصالح“. وورد في كتاب التلمود أيضاً انه بعد نهاية السبي البابلي أعاد المجمع الأعظم التوراة إلى مجدها وجلالها القديم، تحت رئاسة عزرا النبي والكاهن. وهذا يدلكم على عظم المحافظة على صحة الكتاب المقدس محافظة” لا مزيد عليها، قديماً وحديثاً، إلى الآن، بل إلى اليوم الأخير.

أن كثرة اللغات واختلافها، وتباعد أعصار الترجمات عن بعضها مع موافقة المعاني لبعضها في كل كلمة من كلمات الكتاب المقدس، من اكبر الأدلة على صحته الكلية.

أن قرارات المجامع المسكونية المسيحية الخاصة بقانونية أسفار الكتاب المقدس سفراً فسفراً من أعظم الشهادات الناطقة في تاريخ الكنيسة على أن هذا الكتاب صحيح وحق لا ريب فيه، وأنه ملحوظ بعيني الله القادر على كل شيء.

قد وجدت صفائح آشورية في خرابات نينوى ونقلت إلى المتحف البريطاني مكتوبة من قبل ظهور موسى بأجيال كثيرة، وفيها ذكر قصة الخلق وظهور أبوينا الأولين وسقوطهما، وقصة فلك نوح والطوفان، وقصة بناء برج بابل وبلبلة الألسن. ووجد أيضاً في معرض المتحف البريطاني عمود بابلي أثري قديم جداً وقد رسمت فيه صورة تمثل أبوينا الأولين آدم وحواء والشجرة بينهما والحية خلف حواء تغريها على الأكل من الشجرة حسب النصوص المذكورة في سفر التكوين في مواضع هذه الحوادث تماماً. وهذا دليل على صحة الكتاب المقدس. وكذلك وجد لوح من خرابات أشور ذكر فيه خراب سدوم وعمورة بالنار والكبريت، كما هو مذكور في سفر التكوين. ووجدت كذلك آثار شهدت بصحة أخبار غزوة كدر لعومر ملك عيلام وحلفائه في فلسطين، ومن جملتهم امرافل ملك شنعار وجنوب بابل كما في التكوين. وكل هذا دلّ على صحة الكتاب المقدس.

نعم أن هيرودتس الروماني وبلوطارخ اليوناني المؤرخين الكبيرين الوثنيين قد اتفقا في تاريخيهما على انتقاد رواية موسى النبي في سفر التكوين عن وجود خمر العنب في مصر أيام يوسف الصديق، وقالا أن هذه الرواية برهان على عدم صحة التوراة. ولكن الله القدير صاحب التوراة قاد خطوات المكتشفين الأثريين حتى عثروا على أطلال وقبور مصرية قديمة جداً يرجع تاريخها إلى ما قبل يوسف بعشرات الأجيال. ووجدوا على حيطان هذه القبور صوراً منقوشة ومحفورة تصف شجر العنب كم غرسها كبزرة في الأرض إلى نقلها وتعهدها إلى أثمارها ونضج ثمرها إلى جنيه إلى عصره ووضع خمره في الآنية إلى صبه في الأقداح وشربه. وفعلا اكتشفوا في تلك القبور زجاجة من عصر بناء هذه القبور المذكورة مكتوب عليها بالخط الهيروغليفي كلمة واحدة تنطق (إرب) وترجمها المكتشفون فوجدوا معناها (خمر). وهذا برهان على كذب هذين الوثنيين المفترين على الناس بلا دليل ولا برهان! بل هذا حجة قاطعة على صحة الكتاب المقدس. وكذلك وجد هؤلاء المكتشفون من الآثار ما دل حقيقة على حصول الجوع الشديد في أرض مصر زمن يوسف حسب نص التوراة تماماً.

وأيضاً الحجر الموآبي الذي وجد في الآثار محتوياً على 30 سطراً بالحروف الفينيقية. فقد تكلمت هذه السطور عن حروب ميشع ملك موآب مع يهورام ملك إسرائيل (كما هو مذكور في 2 ملوك 3: 6-27) وضد الادوميين أيضاً. ولو شئنا لطال بنا المدى في هذا الباب. فلنكتف.

وعلى هذه البراهين كلها أقول أن الكتاب المقدس هو كتاب الله الصحيح، ووحيه الصريح، لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه باطل.

(ثالثا) الأدلة الداخلية على صحة الكتاب المقدس (أي ماذا يقول الكتاب عن نفسه)

أن جميع أسفار الكتاب المقدس ومواضيعه متآلفة المباني، مترابطة الأسلوب، متحالفة المعاني، مع تفاوت درجات معارف الكتبة الملهمين، ومع كثرة أنواع البواعث الدالة على ظهور أسفار هذا الكتاب المبين. بل مهما تنوعت الأحوال، فلا تؤدي جميع أسفار هذا الكتاب إلا إلى وحدة المآل.

لما أراد هؤلاء الأنبياء الملهمون أن يمجدوا لله في كتابة أسفارهم أنكروا أنفسهم، ولم يجعلوا في أعمالهم فخراً لأنفسهم. حتى أن النبي منهم كان يحاول إفناء ذاتيته في الله عند الإشارة إلى نفسه، بدليل ما جاء عن لوقا الطبيب انه قصد نسبة الفضل في تأليف بشارته إلى غيره بقوله: ”
كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداما للكلمة” (لو 1: 2)، وبدليل ما جاء عن بولس انه قصد الاتضاع وإنكار النفس في أمجد أقواله عن إعلانات الرب له: ”
انه لا يوافقني أن افتخر. فإني آتي مناظر الرب وإعلاناته. اعرف إنساناً في المسيح قبل أربع عشرة سنة أفي الجسد لست اعلم أم خارج الجسد لست اعلم، الله يعلم، اختطف هذا إلى السماء الثالثة. واعرف هذا الإنسان أنه اختطف إلى الفردوس وسمع كلمات لا ينطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها” (2 كو 12: 1-4).

أن صحة الكتاب واضحة كالشمس لأن أسفاره يفسر بعضها بعضاً بلا أدنى مناقضة، ولما فيه من التأديب الرباني والسمو الروحاني، ولما فيه من التصريحات الجلية المعبرة عما هو داخل قلب الإنسان وعما هو كامن في أفكاره. حتى أن الإنسان لا يمكن أن يعرف ما هو داخل قلبه وفكره شخصياً إلا من قراءة الكتاب المقدس (تكوين 6: 5 و8: 21 ومزمور 56: 5 وتث 29: 29 ورسالة رومية).

أن المسيح، له المجد، لفت أنظار مقاوميه إلى تفتيش الأسفار المقدسة ليتأكدوا أنه هو رَبّ الْمَجْد الآتي لأجل خلاص العالم. ولذلك قال لهم: ”
فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية. وهي التي تشهد لي” (يو 5: 39).

أن الكتاب المقدس ذاته شهد لنا على انه موحى به من الله لأننا نرى فيه أن الله خاطب موسى وأمره بتأليف كتابه ففعل كما أمر

ونرى في أسفار الأنبياء الذين جاءوا من بعد موسى أمثال هذه العبارات: ”
هكذا يقول رب الجنود” ”
وكانت كلمة الرب إلى النبي” ”
هكذا تكلم الرب قائلاً اكتب كل الكلام الذي تكلمت به إليك في سفر” الخ.

أن فاعلية الكتاب المقدس في قلوب قارئيه سعياً وراء الحق، ولو كانوا من غير المؤمنين، وسلطانه المطلق الذي خضعت له مئات بل ألوف الملايين على مر الأيام والسنين، وجلال عباراته التي تلزم القارئ بالوقوف في موقف الخشوع والإكرام والاحترام لما يستولي على فؤاده من آي المهابة والإجلال – لهي أدلة على انه وحي من الله السميع العليم، وانه صحيح سليم.

أن الكتاب المقدس دستور كامل لكل فرع من فروع حياة البشر عموماً، والمؤمنين منهم خصوصاً، لان كل إنسان يرى فيه كل ما هو في احتياج إليه في السر والنجوى من أنواع الإرشادات والنصائح والتحذيرات والإنذارات.

أن الكتاب المقدس هو كلمة الله التي قيل عنها في الرسالة إلى العبرانيين 4: 12 ”
لان كلمة الله حيّة وفعالة وامضى من كل سيف ذي حدّين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته“. بل هو السلاح الكامل وسيف الروح الذي أشار إليه الرسول بولس (افسس 6: 11-17). وهو الذي تسلح به سيدنا المسيح كابن الإنسان يوم التجربة في البرية ضد إبليس ليعلمنا أن لا نحارب الشيطان إلا به لننتصر، وذلك بقوله ”
مكتوب” ثلاث مرات.

أن الكتاب المقدس لم يكتب حسب رغبة فلان أو فلان، أو حسب رغبة الكاتب وتبعاً لأهوائه، بل كتب كله بإلهام الله وأمره، بدليل شهادة الرسول القائل: ”
لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس” (2بطرس 1: 21).

” كل الكتاب هو موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البر لكي يكون إنسان الله كاملاً ومتأهباً لكل عمل صالح ” (2تي 3: 16و17). ”
لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية بل بما يعلمه الروح القدس قارنين الروحيات بالروحيات” (1كو 2: 13). ”
كما تكلم بفم أنبيائه القديسين الذين هم منذ الدهر” (لوقا 1: 70). ”
فالآن اذهب وأنا أكون مع فمك أعلمك ما تتكلم به” (خروج 4: 12). ”
هكذا تكلم الرب قائلاً. اكتب كل الكلام الذي تكلمت به إليك في سفر” (ارميا 30: 2).

انه هو الكتاب الأوحد الذي أعلن الله فيه افتتاح طريق السماء، وعقد معاهدة الصلح بينه وبين الإنسان وختمها بدم يسوع المسيح، ومقدار التنازل الإلهي لأجل خير البشر أجمعين بلا فرق بين جنس وجنس وأمة وأمة.

وهذه البراهين الفطرية والخارجية والداخلية كلها تؤكد لنا صحة الكتاب، وضرورة الاعتماد على نصوصه في موضوع كتابنا هذا. وان هذا الاعتماد له المقام الأول لأنه لا يمكن لبشر أن يعترض على الوحي إلا إذا كان معترضاً على الموحي به والحفيظ عليه. فهل انتم بهذا مقتنعون؟

 

الحقيقة الثالثة

أن هذه الحقيقة تؤيد سلامة الكتاب المقدس من النسخ الكلي والجزئي الذي نسبه إليه أعداء الوحي.
ولذا فلنا فيها ما يأتي:

النسخ لغة هو الإزالة والإبدال، كنسخ الليل للنهار والشيب للشباب والموت للحياة. وهذا التعريف يكشف لنا عن نيات وغايات الطاعنين القائلين بوجود النسخ في الكتاب المقدس. فعدد مجموعة أسفار الكتاب المقدس معروف وهو 63 سفراً (صموئيل وملوك وأخبار الأيام هي أسفار موحدة 7
x9
) ” مبتدأة بسفر التكوين مختتمة بسفر الرؤيا. وقد ابتدأ الله بذكر الأزلية في بدء الوحي، فذكر الخلق ثم سقوط آدم وحواء وما نشأ عنه. ثم استمر في ذكر التاريخ المقدس بحوادثه تماماً وتفصيلا لكل شيء من آدم إلى موسى ومن موسى إلى سبي بابل. ثم ذكر نبوات الأنبياء والأشعار الروحية المقدسة إلى عصر ملاخي آخر الأنبياء الموحى إليهم في العهد القديم قبل ولادة المسيح بأربعمائة سنة. فيرى المتأمل في العهد القديم أن كل سفر منه أساس للسفر الذي بعده. ولذا ازدادت الإيضاحات والإعلانات وصراحة النبوات شيئاً فشيئاً إلى أن جاء رجاء العالم، فصار في مقدور الباحث أن يحضر الموضوع الواحد من كل أسفار الكتاب تقريباً.

ولما جاء ملء الزمان تجسد ابن الله مولوداً من عذراء وعاش بيننا 33 سنة ونصفاً كان فيها مثالا أتم للقداسة السماوية. فتمت في ولادته وحياته وأقواله وأفعاله وموته وقيامته وصعوده وحلول روحه القدوس كل نبوات العهد القديم ورموزه. ثم أرسل الله رسل المسيح بعد حلول الروح القدس فكتبوا العهد الجديد بتاريخه وتعاليمه ونبواته من بدء ولادة المسيح إلى انتشار المسيحية في أهم أركان العالم بين اليهود والأمم حتى دخلت قصر قيصر. وعندئذ أوحى الله إلى يوحنا اللاهوتي سفر الرؤيا التي أعلنت لنا المسيح بجلاله وجماله وجبروته وملكوته وكمال لاهوته، وأنبأتنا بأواخر الأيام ونهاية الخليقة ومجيء المسيح الثاني وأهوال القيامة. وكما ابتدأ سفر التكوين بالأزلية وخلق السماء والأرض وما بينهما، هكذا اختتم سفر الرؤيا بذكر السماء الجديدة والأرض الجديدة بعد أن تنحل العناصر الطبيعية ملتهبة”. وعطّر خاتمة الأسفار الحياة الجديدة والنعيم السماوي أمام عرش الله وبذكر الأبدية اللانهاية لها. وهكذا نرى علاقة العهد الجديد بالعهد القديم اشد أقوى من علاقة الروح بالجسد، فلا محل للنسخ بوجه من الوجوه مطلقاً.

إذا تأملنا في العهدين يظهر لنا أن الكتاب المقدس من أوله إلى آخره ضروري لنظام الحياة الاجتماعية والأدبية والروحية إلى يوم القيامة. فحينما أراد الله تعالى أن يعلن لنا أفكاره ويؤكد لنا ضرورة بقاء الكتاب والعمل به إلى نهاية العالم قال بلسان وحيه الأقدس: ”
كل الكتاب هو موحىً به من الله ونافع للتعليم” (2تي 3: 16). وهذا الإعلان العجيب هادم لفكر النسخ الغريب، قاطع لقول كل خطيب.

الكتاب المقدس لم ينسخه كتاب آخر: بما أن الكتاب المقدس قد ابتدأ بذكر الأزلية والخلق وانتهى بذكر الأبدية والسماء الجديدة، فهو كاف شامل لاحتياجات البشر من بدء الخليقة إلى يوم النشور. ومن القضايا العملية الواضحة أن الشيء الكافي الشامل الصالح لا يحتاج إلى شيء آخر يزيله ويحل محله. وقياساً على هذه القاعدة أقول أن الكتاب المقدس نافع للتعليم دون سواه إلى يوم القيامة، ولم ينسخه كتاب ما. ولقد حكم المسيح باستحالة وجود كتاب آخر بعد الكتاب المقدس حتى ينسخه فقال: ”
فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر” (متى 28: 19و20) أي إلى اليوم الأخير.
فهل كان المسيح يأمرنا أن نعمل بما أوصانا به في كتابه إلى انقضاء الدهر لو كان الكتاب المقدس سينسخ بكتاب آخر؟
وهل يرضى المسيح أن يستمر معنا بدون كتابه؟
وهل يقبل تغيير تعاليمه بما يناقضها وينفي كفارته ويكذب فداءه؟
بالطبع لا – لأنه معنا ما دمنا نحن عاملين بوصاياه حافظين كتابه بدليل قوله: ”
أن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي واليه نأتي وعنده نصنع منزلاً” (يو 14: 23).

فكل ما يأتي بعد كلام الله لا يكون ناسخاً بل زائداً من الناس. وهذا هو حكم الله على كل زيادة من الناس: ”
إن كان أحد يزيد على هذا يزيد الله عليه الضربات المكتوبة في هذا الكتاب” (رؤيا 22: 18). فليس لنا قول ولا عمل لهدم أفكار المعتقدين بالنسخ إلا ما قاله رَبّ الْمَجْد نفسه: ”
السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول” (متى24: 35). وقد تأكدنا مما قاله المسيح له المجد أن الكتاب المقدس باق بحرفه ومعناه ما بقيت السماء والأرض، وان الذي يأتي بعده بشيء خارج عنه يصب الله على رأسه جميع ضربات غضبه الإلهي لأنه تعالى جعل الذين اتبعوا المسيح وحافظوا على ما انزل الله في إنجيله فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة.

وأما غير المؤمنين الذين قالوا أن لهم كتاباً نسخ الكتاب المقدس فهم زائغون عن حق الله من كل وجه
، لأنه لم توجد عندهم حجة أو كلمة واحدة من الله الحقيقي تؤيد دعواهم هذه. فإذا نسخت فقرة من كتابهم أو جملة أو قضية أبدلت بخير منها أو مثلها فذلك حجة عليهم لا لهم، لان الموحي الخبير لا يمكن أن يصدر أمراً أو نهياً في كتابه الموحى به منه إلا وهو يعلم صلاحيته للاتباع. وأما إذا وضع اليوم مبدأ وغيره غداً أو بعد أسبوع أو شهر أو سنة مثلا، فقد دل ذلك على جهل الواضع بما سيحدث في المستقبل. فلو فرضنا وامتدت حياة الموحي إليه مائة سنة أخرى، فمن يعلم إذا كانت قد بقيت قضية واحدة من قضايا وحيه على اصلها أم نسخت مثنى وثلاث ورباع؟فالمؤلف البشري يعتني بما يضعه في كتابه لكي لا يضطر إلى تغييره ولو بعد سنين، فكم بالحري خالق البشر؟ فالقول بإباحة النسخ دليل على الارتباك والجهل بما سيحدث في المستقبل، أجارنا الله.

الكتاب المقدس لم ينسخ بعضه بعضاً
: لقد ظن بعض العقليين العصريين أن النسخ الجزئي قد حدث في الكتاب المقدس. فقال بعضهم أن العهد الجديد نسخ العهد القديم، لان العهد القديم عهد النواميس الطقسية الخ ولان العهد الجديد عهد النعمة والمحبة. ونحن نقول أن النعمة والمحبة قد غرست بزورهما في العهد القديم، وتم نموها في العهد الجديد (قال بعضهم عن علاقة العهد القديم بالجديد: ”
الجديد اختبأ في القديم – القديم استعلن في الجديد“). ونقول أن
المحبة والنعمة أمران ثابتان في العهدين معاً، كما أن أحكام غضب الله على الأشرار ثابتة في العهدين معاً كذلك بلا فارق، لان العهدين كتاب واحد صادر من الإله الواحد. وإذا أردت أن تعرف قيمة مراحم الله في العهد القديم فانظر (اشعياء 49: 14و15و 45: 7-10 و55: 1-7 ومز27: 10 و130: 3-8 وارميا 31: 20وحز 18: 31و32 وهوشع 11: 8). وإذا أردت أن تعرف قيمة غضب الله في العهد الجديد، وانه لم يذكر الرضى إلا بجانب الغضب، ولم يذكر الحياة إلا بجانب الهلاك فانظر (يوحنا 3: 16-18و36 ورومية 5: 20و21و6: 23 الخ) مثلاً. وهذا نموذج صغير، فضلا عما هو موجود في سفر الرؤيا الذي بنى على شرح أنواع عقوبات العاصين الرافضين ومثوبات الطائعين التائبين السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح وتفصيل ما يتبع العقوبات من الأهوال والمثوبات من حسن المآل. فلا فرق بين العهدين من هذه الوجهة. وليس أحدهما ناسخاً للآخر لان نسخ الشيء معناه الحكم بصلاحية الناسخ وعدم صلاحية المنسوخ، وان واضع الناسخ ابعد نظراً من واضع المنسوخ. وعندنا، نحن المسيحيين، أن واضع العهدين واحد هو الإله الواحد الحكيم الخبير العليم الذي يضع الشيء بحكمته وعلمه، فلا يحتاج إلى شيء آخر ينسخه. فكل أسفار العهدين مظهرة رحمة الله وفداءه لأنها حية وفعالة أمضى من كل سيف ذي حدين على الدوام، ولان القسم الأول من الكتاب المقدس يسمى العهد القديم لأنه عهد طقوس ورموز وإشارات ونبوات والقسم الثاني منه يسمى العهد الجديد لأنه عهد تحقيق لما فات وإيضاح لما هو آت. فالعهد القديم عهد الناموس، وهذا الناموس أنواع.

(النوع الأول) الناموس السياسي
: وقد دعي الناموس السياسي شريعة الملك، فكان الملك ملزماً أن يمشي عليه كما عينه الله ما دامت المملكة قائمة في إسرائيل. نعم، أن الناموس السياسي تم في شخصه ملك الملوك ورب الأرباب ربنا يسوع المسيح، وسيتم بصورة علنية في ملك المسيح الألفي عندما تنحني كل ركبة ويعترف كل لسان في كل المعمورة من أمريكا إلى الصين والهند وكل بلاد العرب والفرنجة كفار ومؤمنين أن يسوع المسيح هو رب المجد وهو الذي قامت على أساسه العديد من دساتير البلدان الغربية ” كمال وإتمام “

(النوع الثاني) الناموس الأدبي
: الناموس الأدبي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحث على المحافظة على أوامر الله ووصاياه. وهذا الناموس لم ينسخ
بل كُمل في المسيح الذي قام بكل مطاليب الشريعة دون سواه.ومما يدل على عدم نسخ الناموس الأدبي أن المسيح نفسه، له المجد، حينما سُئل من الناموسي عن اعظم وصية في الناموس قال: ”
تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها. تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء ” (متى 22: 34-40) وهذا لا ينسخ أبداً.

(النوع الثالث) الناموس الرمزي:
الناموس الرمزي هو شريعة الأمة، اعني بها الهيكل بطقوسه وذبائحه وكهنته. نعم، كان اليهود يواظبون على الصلوات في الهيكل، ولكن المسيح هو الهيكل الحقيقي وهو الذي قال بفمه المبارك:
انْقُضُوا هذَا الْهَيْكَلَ، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ.. وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ.. وكانوا يقدمون الذبائح الصباحية والمسائية واليومية والأسبوعية والشهرية والسنوية، ولكن المسيح هو ذبيحتنا الدائمة الذي قدم نفسه للفداء مرة واحدة للتكفير عن خطايانا لننال به نصيباً مع المقدسين. وكانت الذبائح تقدم إلى الرب بأيدي الكهنة، والآن لنا كاهن سماوي أعظم، هو الرب يسوع المسيح، الذي لم يدخل قدس الأقداس السماوي إلا بدم نفسه لمغفرة خطايانا وكهنوته لا يزول. فالناموس الرمزي أدبنا وأدى بنا وقادنا إلى المسيح المرموز إليه بالهيكل والذبيحة والكاهن معاً. وإتمام الرموز في المرموز إليه لا يسمى إتماماً. فلو كان العهد الجديد قد نسخ العهد القديم
لقال المسيح ” قد نسخ “.
ولكنه لم يقل ذلك بل قال ” قد اكمل “وبعد هذا ”
نكس رأسه واسلم الروح” (يو 19: 30) وهذا وصول إلى النعمة لا إلى النسخ. فنحن نعتبر الكتاب كله كتاباً واحداً ووحي الله الثابت بلا تغيير. ونكتفي هنا بإيراد هذه الأنواع الثلاثة، ولكننا نؤيدها بالملاحظات الآتية:

إن الأعمال التي أتاها الآباء قبل وجود الشريعة وظهورها على يد موسى النبي لا تسمى هذه الشريعة ناسخة لها لا كلياً ولا جزئياً لان الآباء عملوا بالاجتهاد الإلهامي لا بالوحي المكتوب. ولا يمكن أن تسمى أعمال الآباء من آدم إلى أيام موسى شريعة أو شرائع البتة. فلو فرضنا وكان كل أمر أو نهي في الشريعة الموسوية ناسخاً لما كان قبل شريعة موسى في شرائع الآباء المزعومة لكانت العرافة والعيافة واستخدام الجان والتوابع والتنجيم وما أشبه ذلك محسوبة من شرائع أولئك الآباء الذين سبقوا موسى. وهذا لا يقول به عاقل في الوجود.

إن عجز البشر عن القيام بواجبات الناموس الرمزي لا يسمى نسخاً لان المسيح جاء فقام بما عجزنا نحن عنه، لأنه كاهننا الأبدي الدائم. فمثلا أمر الله بذبح اسحق، ولكنه رحمه فقدم كبشاً عوضاً عنه. وهذا هو أنموذج إتمام الأوامر لا نسخها. لم يأمر العهد الجديد بمنع الختان ولكنه أمر أن يفهموا الغرض منه فيختنوا قلوبهم لان الاقتصار على تأدية الطقوس الخارجية مضيع للنعمة الباطنية. ولما كان المسيح الذبيحة الدهرية قد قدم نفسه مرة واحدة فقد اكمل التمييز بين الحيوانات لان الغرض تم في المسيح ذاته، فضلاً عن كون أوامر العهد القديم كانت لشعب خاص وكون أوامر العهد الجديد صدرت لجميع الأمم في العالم اجمع. فلا ناسخ ولا منسوخ فيها كلها بدليل قول الرسول: ” كل الأشياء تحل لي ولكن ليس كل الأشياء توافق “.

أن الله تعالى يعد عباده الطائعين بمواعيده المفرحة. فإذا عصوه وارتكبوا كل أنواع المحرمات فجردهم مما كان لهم جزاء عصيانهم فهل يسمى هذا نسخاً؟ أليس الأفضل والموافق لحقائق الوحي الشريف أن يسمى هذا التجريد عقاباً؟ فأنتم ترون من كل هذا أن النسخ غير موجود وغير مقبول، وإن وحي الله بريء منه براءة النور من الظلمة والطهارة من النجاسة والحق من الباطل.

——————-

لقد أتممنا بنعمة الله واجب الباب الأول بإثبات ثلاث حقائق تمهيدية وهي (1) وجود الله سبحانه وتعالى (2) ضرورة الوحي وصحة الكتاب المقدس (3) سلامة الكتاب المقدس من النسخ.

ولنتقدم الآن إلى الباب الثاني الذي يحتوي على موضوع التلميحات والظهورات في الأسفار الموسوية والتاريخية. والله لنا نعم المعين.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي