أنا هو الطريق، والحق، والحياة


(يو 6: 14)

™gè e„mi ¹ ÐdÕj kaˆ ¹ ¢l”qeia kaˆ ¹ zw

قالها المسيح وهو في أعلى حالاته الاستعلانية القائمة والعاملة في شخصه. وهو هنا يركِّز بشدة على “أنا هو” كاستعلان وتعريف بشخصه، أما المناسبة فكانت حزينة ومُقبضة للغاية، بعد خيانة يهوذا وخروجه، واضطراب التلاميذ وخاصة لما أعلن لهم: “أنا معكم زماناً قليلاً بعد
” (يو 33: 3)، وكأنه يواجههم بمستقبلهم الغامض الوشيك أن يعانوه بعد ذهابه. وباضطراب سأله بطرس: “يا سيد إلى أين تذهب
” (يو 36: 13)؟ فكان الرد غامضاً ورهيباً: “حيث أذهبُ لا تقدر الآن أن تتبعني، ولكنك ستتبعني أخيراً” (يو 36: 13)

من هنا وضع المسيح أمام تلاميذه ملامح الطريق، فبقوله: “حيث أذهب لا تقدر الآن أن تتبعني
” إذاً فهو طريق الموت!! وعندما أكمل القول: “ولكنك ستتبعني أخيراً
” فهنا ملامح الانفراج في البارُّوسيا
المجيء الثاني
الذي عبَّر عنه المسيح: “وإن مضيتُ وأعددت لكم مكاناً آتي أيضاً وآخذكم إليَّ، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً. وتعلمون حيث أنا أذهب وتعلمون الطريق” (يو 3: 14و4)

وهكذا أوضح المسيح معنى “أنا أمضي
” ولكن للأسف، وكالعادة، لم يفهم توما: “يا سيد لسنا نعلم أين تذهب، فكيف نقدر أن نعرف الطريق
” (يو 5: 14). توما يعيش في الماديات وفي حدود بلده وزمانه ولا يتصور كيف يذهب المسيح؟ وإلى أين؟ وما هو هذا الطريق الجديد؟

فلكي يرفع المسيح من ذهن التلاميذ ليركِّزوا في شخصه ويطمئنوا إلى قدراته اللانهائية، قالها لهم صراحة: “أنا هو الطريق والحق والحياة” (يو 6: 14)

ولكي يزيد من التعريف بشخصه وليس بالطريق قال: “ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي
” (يو 6: 14). وهكذا قدَّم لهم طريقاً يحتاج إلى عقول جديدة ليست كعقل توما: “لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً..” (يو 7: 14)، لأن الطريق الذي يتكلم عنه المسيح ليس أكثر من استعلان الآب والابن. الآب أرسل الابن إلى العالم في طريق النزول، ليكمِّل مشيئة الآب لخلاص المفديِّين؛ والابن أكمل الفداء وافتتح الطريق الصاعد إلى الآب، ومعه المُخَلَّصون.

إلا أن المسيح في قوله: “أنا هو الطريق والحق والحياة
” أبرز بصورة قاطعة تقديم شخصه على هذه الثلاثة المستويات، كلٍّ
منها على حدة؛ فهو “الطريق”، وهو “الحق”، وهو “الحياة”. هي ثلاثة مجالات جاء المسيح ليفتح أسرارها على العالم، ولكن لأنكل مجال منها لا يمكن فصله عن المجال الآخر، أصبح الحديث عن كلٍّ منها بمفرده وبمعزل عن المجال الآخر يواجه تقصيراً لا مفر منه.

فنحن لو تكلَّمنا عن المسيح الطريق، فهو حتماً طريق الحق والحياة؛ بالحق اختطَّه، وبالحياة أَكمله.


طريق الحق أو الطريق الحق:

بإضافتنا الحق على الطريق يصير أنا هو “طريق الحق”. وهنا يرتفع الطريق ليأخذ طبيعته الإلهية الفريدة، فهو الطريق من الله للعالم. والله هو الحق الكلِّي، وعالم الإنسان هو موطن الزيف والباطل، مجالان جدّ متخالفين ومتعارضين. فلا مناص من تقابلهما معاً إلا على هيئة صليب، ليبرز التعارض في أقصى قمته، لذلك كانت إرسالية الابن من عند الآب عَبْر العالم محسوباً حساب مخاطرها، بل ومرسومة مأساتها وصليبها مُسْبَقاً. ولم يكن يخفى ذلك عن المسيح أبداً، بل ذكرها مراراً أن ابن الإنسان ينبغي أن يُصلَب ويموت، كمعلومة بل كوصية استلمها من الآب قبل أن تطأ قدماه أرض عالم الأباطيل: “ليس أحد يأخذها (نفسه) مني، بل أضعها (للموت) أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً، هذه الوصية قَبِلتُها من أبي
” (يو 18: 10)، “لأني خرجت من قِبَل الله وأتيتُ، لأني لم آتِ من نفسي بل ذاك أرسلني
” (يو 42: 8). وقد قَبِلَ الآب وقَبِلَ الابن دفع الثمن قبل أن يخوضها: “هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو 16: 3)

ولم يكن شكل المعركة القادمة خافياً على المسيح، بل قاسها طولاً وعرضاً بشبره: “وابتدأ يعلِّمهم أن ابن الإنسان
ينبغيأن يتألم كثيراً
ويُرفضمن الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتل، وبعد ثلاثة أيام يقوم

” (مر 31: 8). وبالفعل فقد عانى المسيح من المقاومة والصدود والإهانة ومحاولات الرجم والمطاردة والتهديد حتى الضرب. هكذا حمل المسيح الحق في طريق العالم عَبْر أباطيله من كذب وغش وخداع ونصب الفخاخ، حتى انتهى الطريق بالقبض عليه والتفنن في إهانته وتأليمه.

وأخيراً توقف الطريق النازل من الله للعالم عند الصليب على رابية الجلجثة. وهنا قمة الصراع الذي اكتمل بين حق الله يحمله الابن الوحيد، وباطل العالم الذي انبرى صاحب أباطيل العالم وكل أعوانه وتلاميذه والمريدون والمنتفعون للدفاع عنه والأخذ بالثأر من الحق المتجرئ على كشف عواره. ولكن انجلت المعركة في النهاية عن هزيمة ساحقة للباطل وصاحب سلطان الموت. وإلى هنا انتهى طريق الحق النازل من الله لعالم الإنسان بفداء كل المحكوم عليهم بالموت ظلماً، وفكِّ أسرى الرجاء المربوطين بحبال الظلم المقيَّدين في الهاوية.


طريق الحياة أو الطريق والحياة:

من وسط الموت، قمة سطوة الباطل وانتصاره الكاذب، انبثق الحق حيًّا، مبتدِئاً الطريق الصاعد حاملاً الحياة من عمق الموت، حياة كلها حياة لا يأتيها موت بعد، بل لا يقربها حزن ولا كآبة ولا تنهد، حياة في نور الحق إلى الأبد. هكذا انطلق الحق في طريقه الصاعد إلى الآب، الابن الظافر حاملاً في موكب نصرته الإنسان وقد أكمل خلاصه، وقد نال إكليل الحياة، ليجلس الابن عن يمين الآب ومعه البشرية التي اشتراها بدمه، وأعدَّ لهم مكاناً في منازل الآب. وتم الوعد: “أنا أمضي لأُعد لكم مكاناً، وإن مضيتُ وأعددتُ لكم مكاناً آتي أيضاً (البارُّوسيا = الظهور الآتي) وآخذكم إليَّ، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً. وتعلمون حيث أنا أذهب وتعلمون الطريق” (يو 1: 14
4)

هذا هو الطريق النازل بالحق والصاعد بالحياة، حيث: “لا أحد يأتي إلى الآب إلا بي
” (يو 6: 14). وهو الطريق الذي عبَّر عنه سفر العبرانيين أقوى تعبير: “فإذ لنا، أيها الإخوة، ثقة بالدخول إلى الأقداس، بدم يسوع، طريقاً كرَّسه لنا حديثاً حيًّا بالحجاب أي جسده” (عب 19: 10)

مَن ذا يستطيع أن يفصل الحق عن الطريق؟ أو كيف يكمل بدون الحياة؟

فإن تذكَّرنا أن الطريق هو المسيح، أدركنا أن الحق حتماً فيه والحياة.


“أنا هو الحق

¢l”qeia


حينما يقول المسيح: “أنا هو الحق
” ف “الحق” هو الله، فحينما يقول المسيح إنه “الحق” وهو إنسان واقف بين الناس، فهذا يعني للتو أنه استعلان الله بالكلمة والعمل وهذا يرجِّحه قوله: “الله لم يَرَه أحدٌ قطُّ. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو
خبَّر
™xhg”sato
” (يو 18: 1). و“خبَّر” جاءت بالإنجليزية “
made him known
”، أي جعله معروفاً، أي أعلنه. وقد شرحها المسيح لبيلاطس: “لهذا قد وُلدت أنا ولهذا قد أتيتُ إلى العالم لأشهد للحق
” (يو 37: 18). لهذا كان تعريفه لتلاميذه: “لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً، ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه
” (يو 7: 14)، “الذي رآني فقد رأى الآب” (يو 9: 14)

ونجد تعريف المسيح ب “الحق” واضح في الإنجيل والرسائل. حيث يأتي الحق الواثق والصحة في الإيمان:

+ “وأما أنتم فلم تتعلموا المسيح هكذا، إن كنتم قد
سمعتموه وعُلِّمْتُم فيه كما هو حق في يسوع” (أف 21: 4)

كما يأتي “الحق” ثابتاً بالإنجيل فيما يخص المسيح هكذا:

+ “ولكن لما رأيت أنهم لا يسلكون باستقامة حسب
“حق الإنجيل”قلت لبطرس..” (غلا 14: 2)

كما يجيء الحق منسوباً للمسيح كمعيار أعلى، كمحك لكل خطأ:

+ “وأما الذين هم من أهل التحزُّب
ولا يُطاوعون للحقبل يُطاوعون للإثم، فسخط وغضب..” (رو 8: 2)

ويجيء الحق كمعيار للدينونة العتيدة أن يمارسها المسيح:

+ “ونحن نعلم أن دينونة الله هي
“حسب الحق”على الذين يفعلون مثل هذه” (رو 2: 2)

كما يشيد القديس يوحنا بالحق كنور بالنسبة للمسيح:

+ “إنْ قلنا إنَّ لنا شركة معه وسلكنا في الظلمة نكذب
“ولسنا نعمل الحق”” (1يو 6: 1)

ويقرن بولس الرسول الحق بالفرح إن كان المسيح نفسه أو أي علاقة به:

+ “ولا تفرح بالإثم بل
“تفرح بالحق”” (1كو 6: 13)

لذلك يعود بولس الرسول وينسب غضب الله لِمَنْ يحجز الحق ويقدِّم الإثم:

+ “لأن غضب الله مُعْلَنٌ من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم الذي يحجزون
“الحق بالإثم”” (رو 18: 1)

كذلك، فالحق الذي في المسيح ينتقل إلى الخليقة الجديدة التي خلقها على صورته مع البر والقداسة:

+ “وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في
البر وقداسة الحق” (أف 24: 4)

كذلك، فالحق في المسيح يمكن، إذا تمسك به الإنسان، أن يكون كمِنْطقة تشد كيان الإنسان روحياً:

+ “فاثبتوا ممنطقين أحقاءكم بالحق، ولابسين درع البر” (أف 14: 6)

كما استطاع بولس الرسول أن يُسقِطَ حق المسيح على الإنجيل بكل قوة:

+ “من أجل الرجاء الموضوع لكم في السموات الذي سمعتم به قبلاً في
“كلمة حق الإنجيل”

” (كو5: 1). وأيضاً:

+ “الذي فيه أيضاً أنتم إذ سمعتم
“كلمة الحق”إنجيل خلاصكم..” (أف 13: 1)

وبطرس الرسول يرى أن الإيمان المسيحي قد رسخ في الحق:

+ “لذلك لا أُهْمِل أن أُذكِّركم دائماً بهذه الأمور وإن كنتم عالمين
ومثبَّتين في الحق الحاضر” (2بط 12: 1)

والمسيح يتكلم عن نفسه في صورة الحق: “تعرفون الحق، والحق يحرركم
” (يو 32: 8). ولكن يعود ويكشف عن ماهية هذا الحق أنه ليس علماً ولا فهماً ولا عملاً: “إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً” (يو 36: 8)

وهنا يظهر بوضوح معنى الحرية ومضمونها أنها ليست فكرية، بل هي فك قيود الخطية: “مَنْ يعمل الخطية هو عبد للخطية” (يو 34: 8)

والحق باعتباره هو المسيح، إنما يقدِّس: “قدِّسهم في حقك، كلامك هو حق
” (يو 17: 17)؛ حيث الكلام ليس هو مجرد التعليم، بل استعلان الذات. فالذات في المسيح هي التي تُغذِّي: “ولأجلهم أُقدِّس أنا ذاتي، ليكونوا هم أيضاً مقدَّسين في الحق” (يو 19: 17)

فالمسيح هو كلمة الله، هو الحق المعلَنْ للعالم ليقدِّس العالم بوجوده. فالمسيح بذاته هو فعل تقديس وحَدَثُ قداسة في العالم، ف “الكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا
” (يو 14: 1)، وهو ملء النعمة والقداسة. فحلول الحق والقداسة، قدَّس وملأ بالنعمة.

وفي قول المسيح عن مطلب الله بالنسبة للعابدين له: “الآب طالِبٌ مثل هؤلاء الساجدين له (بالروح
والحق)

” (يو 23: 4). حيث الروح القدس هو الذي يُدخِل إلى حضرة الله،
والحق هو الاستعلان الذي أكمله المسيح عن الله.ويكون المعنى، إذاً، أن السجود لله إنما يكون بروح الله وفي الاستعلان الصادق لله بالإيمان بالمسيح.

وبالاختصار، تكون العبادة المطلوبة بالروح القدس والإيمان بالمسيح: “لأن الذي أرسله الله يتكلم بكلام الله، لأنه ليس بكيل يُعْطِي الله الروحَ. الآب يُحب الابن وقد دفع كل شيء في يده
” (يو 34: 3و35). كذلك اعتماداً على ما كشفه المسيح عن صلته الأساسية بالله الآب بالنسبة لنا: “ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي
” (يو 6: 14). كما على أساس أن الروح يرشدهم إلى كل
“الحق”(يو 13: 16)، فهو المدعو
“روح الحق”(يو 13: 16)، و
“الروح هو الحق”(1يو 6: 5)

وهكذا رأينا أن بقول المسيح: “أنا هو الحق
” دخلت هذه الحقيقة في صميم العبادة، واستخدمها الآباء الرسل لبناء هيكل الحياة المسيحية برُمَّته.

فحقُّ المسيح هو الإنجيل، والتمسُّك به تمسُّك بالمسيح،

وصار حق المسيح، هو أساس وقاعدة الفكر والعمل والسلوك،

وحق المسيح أصبح هو الفيصل بين الحياة والدينونة، وحق المسيح هو معيار أو ميزان الدينونة،

وحق المسيح هو النور، والسلوك بغيره ظلمة وموت،

وحق المسيح كوَّن هيئة وهيكل الإنسان الجديد في البر والقداسة والحق،

والذي يمسك بالمسيح، يكون كمَنْ يمنطق ذاته بالحق.

وحق المسيح هو الخلاص،

والمسيحية هي الحق الحاضر.

وحق المسيح هو حقيقة الحرية،

والله طالب الساجدين له بالروح وحق المسيح،

والروح القدس هو المنوط به استعلان حق المسيح.

وبنظرة فاحصة نجد أن إعلان المسيح:
“أنا هو الحق”،قام عليه منهج المسيحية برمَّته.


“أنا هو الحياة”:

إن كنا قد رأينا أن “الطريق” الذي عبَّر به المسيح عن نفسه عاملاً منذ أن نزل من عند الآب ثم صعد إليه ليجلس عن يمينه. ف “الحياة الأبدية” كانت هي نصفه الصاعد إلى السماء للجلوس عن يمين الآب، وهي النصف غير المنظور إلاَّ للأخصاء، فهم وحدهم عاينوه وشاهدوه ولمسوه وأكلوا معه. بمعنى أنه إن كانت الحياة الأبدية هي نصيبنا السماوي المكمِّل لخلاصنا المحفوظ لنا في السموات بانتظار تكميل جهادنا بالإيمان على الأرض؛ فهو نصيب غير منظور بالعين الجسدية ولكنه مُعلَنٌ بالإيمان: “إن آمنتِ ترين مجد الله
” (يو 40: 11). ونحن الآن نحيا هذا النصيب غير المنظور، بمعنى أننا نحيا الحياة الأبدية. وبمعنى أفضل وأقوى، نحيا مع المسيح، فالمسيح هو حياتنا الأبدية. وإن كنا لا نراه فيكفينا أنه هو يرانا:
“سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم” (يو 22: 17). فكل فرح يباغتنا ويغطي على قلقنا وأحزاننا، يكون هو هو المسيح، وتكون هي الحياة الأبدية بسَبْق مذاقها السعيد. وإن أعوزنا الإحساس بصدق هذا الوعد، فالإيمان يغطي نقص إحساسنا، ويكفي أن يقول المسيح بثقة: “إني أنا حيٌّ فأنتم ستحيون” (يو 19: 14)

إذاً، فنظرة إيمان إلى فوق نحو السماء، وقلب ينبض بالحب، يجعلنا نثق بصدق قوله إنه حيٌّ فعلاً وإننا أحياء بالحق. فالحياة في المسيح ليست لشبع الجسد من آمال، بل هي حب يلهب القلب ليفجِّر منه أنهار ماء حي لشبع الآخرين.

فالحياة الأبدية ليست مجرد وعد ننتظره بعين الإيمان، بل هي روحٌ حيٌّ، إنها روحه أسكنه داخل قلوبنا يعمل لحسابه. وقد ينشط الروح حتى يغطي كل منافذ وحركات الجسد، فلا يشتاق الجسد إلا إليه. والروح هو مصدر كل معرفة واستنارة: “يرشدكم إلى جميع الحق.. يأخذ مما لي ويخبركم
” (يو 13: 16و14) بالأخبار السارة. مَنْ تتلمذ عليه صار حكيماً، لأنه روح الحكمة والفهم، فهو المدرسة العليا لأولاد الله يتخرجون منها ذوي رتب في البر والتقوى والقداسة والحق وشهادات معتمدة لدخول ملكوت الله بدون فحص. فالحياة الأبدية عند الذين عرفوها وعاشوها حياة تصغر دونها الحياة الحاضرة، يرتقي فيها المجدُّون من مجد إلى مجد، وتتغير أشكالهم الروحية عن صدق وتحقيق لكي تُعدَّ لتكون على صورة خالقها بكل الحق: “أيها الأحباء، الآن نحن أولاد الله ولم يُظْهَر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم أنه
إذا أُظْهِرَ نكون مثله،لأننا
سنراه كما هو” (1يو 2: 3)

فحالنا الآن كحال جماعة أو فرقة تمثيل تتدرَّب باهتمام بالغ على الأدوار التي أُعطي لكل واحد أن يمثلها، فنجد الواحد فيها يظل ليل نهار يحفظ ويسمع دوره، ويقف أمام المرآة ويلقي دوره فلا يعجبه الأمر، فيعود يحسِّن من أدائه وكلماته وحركاته. حقاً يا إخوة، يُرفع الستار فإذا نحن فوق، نأخذ مواقعنا عن حقيقة وليس عن تمثيل. هنا نلبس الأقنعة، رضينا أم لم نرضَ. فيا نعيم مَنْ لَبِسَ قناع الضعف والفقر والمسكنة؛ وأتقن دوره بصدق القلب حبًّا في الذي افتقر وهو غنيٌّ، ولَبِسَ الضعف وهو رب القوة، وتمَسْكَنَ وهو ابن الله. لأن هناك ستُرفع الأقنعة وتوهَب أكاليل المجد. انظروا، فالحياة الأبدية فينا وتبدأ من هنا بكل معطياتها ولكن تحت أقنعة، فلا يُرى منها إلا شقاء هذا الزمان، وهي النعيم الأبدي.


(أغسطس 1994)

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي