الفدية والكفَّارة

uvuvu

يُقال في اللاهوت بحسب جذوره في العهد القديم أن المسيح هو الفدية التي قدمها أبوه الكلي المجد والكرامة، ولكن لا يُقال إنه الفادي، فالآب افتدانا بابنه. فالآب هو الفادي والابن هو الفدية، لذلك لم يأتِ لقب الفادي بالنسبة للمسيح في جميع أسفار العهد الجديد، وذلك عن وعي لاهوتي دقيق وملفت للنظر. لأن الآب هو صاحب المشورة الأزلية والتدبير في تقديم ابنه فدية: “عالمين أنكم افتُديتم لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء، بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح، معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم، ولكن قد أُظهِر في الأزمنة الأخيرة من أجلكم” (1بط 18: 1
20)

فالمشورة الأبوية تمت في الأزل، وتم بحسب فكر الآب اختيارنا في المسيح منذ الأزل أيضاً: “كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة، إذ سبق فعيَّننا للتبني بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرة مشيئته” (أف 4: 1و5)

فالله الآب أكمل الفداء في الأزل، والابن أتم الفداء في الزمن. لذلك أصبح لقب الفادي من أخص خصائص الله الآب بالنسبة لخلاصنا. ولقب الفدية هو لقب الطاعة للابن تجاه الآب، وهو من أعز وأنبل الصفات التي عرفناها عن المسيح وربطتنا به رباط الأبد. فسمتنا الأولى والعزيزة هي أننا المفديون كلقب خلاص للمجد والفخار وعلينا علامة الفداء دم الحمل، نُعرف بها بالروح لدى الملائكة والقوات السمائية وتقشعر منها القوات الشريرة وتظهر لهم كثياب بيضاء: “وأجاب واحد من الشيوخ قائلاً لي: هؤلاء المتسربلون بالثياب البيض مَنْ هم ومن أين أتوا؟ فقلت له: يا سيد أنت تعلم. فقال لي: هؤلاء هم الذين أتوا من الضيقة العظيمة وقد غسَّلوا ثيابهم وبيَّضوا ثيابهم في دم الخروف” (رؤ 13: 7و14)

والفدية قريبة المعنى واللفظ في العبرية من الكفارة، ولكن يُقال إن الله فدانا بابنه، وقدَّمه كفَّارة لنا. فالمسيح لما كفَّر خطايانا، فدانا من الموت
وكلا اللفظين في العبرية يعني “غطَّى”
فالفداء غطاء أي حَجْب الموت عنَّا، والتكفير تغطية بمعنى حَجْب الخطية. والتغطية في اللغة العبرية هي
الكبوراة،وهي بالعربية
الكفارة،وفي اللغة الإنجليزية المتأثرة بالعبرية

Cover
.


الفدية في إنجيل القديس مرقس:

+ “لأن ابن الإنسان أيضاً لم يأتِ ليُخدم بل ليَخدم
وليبذل نفسه فدية

lÚtron

عن كثيرين” (

مر 45: 10)


الفدية في إنجيل القديس متى:

+ ”
كماأن ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدم بل ليَخدم
وليبذل نفسه فدية عن كثيرين” (مت 28: 20)

والفارق الوحيد بين النصَّين دقيق وبديع. فالمسيح يعطي للفدية في إنجيل القديس متى
دافع الخدمة وكرامتها في بذلها،إذ بينما يسردها القديس مرقس كواقع قائم بذاته: “ابن الإنسان فدية”، يسردها القديس متى كمثل يُحتذى به يسلمه المسيح للتلاميذ ليكون رائد الخدمة المتضعة جداً ليرفع من قيمتها اللاهوتية. والذي يوضح هذه النية عند المسيح الآية التي سبقتها: “مَنْ أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن لكم عبداً. كما أن ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدم بل ليَخدم وليبذل نفسه فدية!!..” (مت 27: 20و28)

والعجيب الذي يثير انتباهنا أن المسيح
فعلاً
غسل أرجل تلاميذه قبل أن يكمل العشاء الأخير، إذ قام عن العشاء وغسل أرجل تلاميذه، فصار عبداً حقاً قبل أن يصير سيداً بالحق: “قام عن العشاء وخلع ثيابه وأخذ منشفة واتَّزر بها. ثم صبَّ ماءً في مِغْسَلٍ وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ..” (يو 4: 13و5). وبعدها أكمل ذبح نفسه، وصبَّ دمه في كأس وأكمل الفدية قبل أن يكملها على الصليب.

انظروا يا إخوة، أين موقع الخدمة من الفداء؟ وأي خدمة؟ خدمة العبد! “لأني أعطيتكم مثالاً حتى كما صنعتُ أنا بكم تصنعون أنتم أيضاً! الحقَّ الحقَّ أقول لكم: إنه ليس عبد (أنتم) أعظم من سيده (أنا)” (يو 15: 13و16)

وانظروا يا رجال الكنيسة، وانتبهوا يا رجال الكنائس الذين تجتمعون دائماً لتتنازعوا على لاهوت الفداء وتركتم المدخل.


الفدية عند القديس بولس:

+
“لأنه يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح، الذي بذل نفسه فدية

¢nt…lutron

لأجل الجميع الشهادة في أوقاتها الخاصة.” (

1تي 5: 2و6)

هنا لم يعُدْ موضع “لابن الإنسان”، اللقب الذي استخدمه المسيح عن الفدية في الإنجيل كما هو مزمع أن يقدمها
كالعبد المُهان
على مستوى خدمة البشرية كلها وغسل أرجلها التي تدنست في طرق وطرائق العالم: “مِلنا كلُّ واحد إلى طريقه، والرب وضع عليه إثم جميعنا

” (إش 6: 53). ولكن القديس بولس هنا يستعلن “ابن الإنسان” الذي في الإنجيل، أنه هو هو الذي استعلن الإله والإنسان معاً، وقف وسيطاً يمثل البشرية المهانة
على الصليب
أمام الله الآب يطلب لها الرحمة والغفران. علماً بأن كلمة “الرحمة”

œleoj
هي اللفظة التي اشتُقت منها كلمة
الكفَّارة

ƒlasmÒj
، ثم صارت في الطقس واللاهوت معاً هي غطاء التابوت
ƒlast”rion
المسمَّى كرسي الرحمة الذي اعتبره بولس الرسول أنه هو المسيح (رو 25: 3)، الذي حمل في دمه كل خطايا البشرية فكفَّرها أي غفرها أو غطَّاها، ثم قام من الأموات وظهر أمامنا وتعيَّن أنه ابن الله ممثِّلاً الآب لنا، مُصالحاً ومتبنياً لنا وساكباً حبه مع روحه القدوس.

بولس الرسول يريد أن يقول إن
الفديةالتي قدَّمها (المسيح) لله من أجلنا
حسب مشيئة الله كالتدبير
هي التي أهَّلته أن يقف وسيطاً بيننا وبين الآب، عاقداً باسمنا ولحمنا ودمنا عقد الصلح الأبدي مع الآب بعد أن أخذ خطايانا في جسده على الخشبة وقَبِلَ اللعنة راضياً وبمرارة غَصَّت حلقه على الصليب، حتى إن ذلك الهادئ الوديع، الذي لم يسمع أحد صوته في الشوارع، صرخ على الصليب من عِظم المهانة والفضيحة إذ دخل العار حلقه وكسر قلبه، وراجع الآب في عِظم جفائه والعلقم الذي سقاه، صرخ بصوت عظيم ولم يبالِ لا برعبة الملائكة ولا بشماتة الشيطان: “إلهي إلهي لماذا تركتني”. نعم هذا هو وسيطنا الذي قَبِلَ من الله الآب حكم الموت واللعنة، كيف لا يقسم له أبوه غنيمة بين الأعزاء ويرفعه ويعليه فوق كل العظماء، ويعطيه كل سؤل قلبه صلحاً لنا وسلاماً وبنوَّة في بنوَّته وميراثاً في ميراثه، فنِعْمَ الوسيط!!

يا إخوة نحن أغفلنا حق وسيطنا لدى الآب، وإلى الآن لم نُقدِّم له مثقال ذرة عِوَض جبال الرحمة التي أحاطنا بها، والحب الذي سكبه لنا من قلبه المجروح ومن قلب الآب الذي سُرَّ أن يسحقه بالحزن حتى يعتصر من دمه لنا حياة. لا صلاة شكر قدَّمنا كما يليق، ولا تسبيحاً لا بالليل ولا بالنهار، ولا دخلنا معه في عِشْرة حلوة يجري فيها حديثنا معه سرًّا وبتهليل وأصوات لا تهدأ، تغار منها الملائكة في السماء.

يا إخوة قد أغفلتم عقد المحبة، ما سلَّمكم من جرح جنبه: عقد الخطوبة الذي حرره بولس بيديه، بل زواج يوثِّقه الروح القدس على المذبح كل يوم إذ يسقينا دم العريس ويُطعمنا جسده ويوثِّق الاتحاد ليحيا فينا ونحيا به، كالتصاق العريس بالعروس: “أنتم فيَّ وأنا فيكم
” (يو 20: 14). فأين الحب الذي بادلناه؟ وأين السهر؟ وأين أواني الزيت؟ وأين المصابيح وها الصوت آتٍ من بعيد؟ فماذا أنتم فاعلون؟ الزمان مقصَّر وقد تناهى الليل، وهي الساعة الأخيرة. لقد سوَّفتم العمر باطلاً وزيتكم قد
تناقص،والزمان زمان رديء عَزَّ فيه البيع
والشراء،والكلمة جفَّت في حلق الحكيم وليس مَنْ يعلِّم الحق والكل معلمون. والفادي يناديكم: انظروا جروحي والخطية التي حملت واللعنة التي تقبَّلت والانكسار الذي عانيت. فاتركوا الجهالات وتعالوا إليَّ، لأن عندي الحياة والنور والنعمة، وطهارتي أهبها لكم مجاناً، وميراث حب الآب لي أقتسمه معكم، تعالوا.


الفدية عند القديس بطرس:

+
“عالمين أنكم افتُديتم لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء، بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح، معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم، ولكن قد أُظهِرَ في الأزمنة الأخيرة من أجلكم.” (1بط 18: 1
20)

+
“الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبر.” (1بط 24: 2)

لا يزال الرسل هنا منفعلين بتوصيف
“الفدية”كما قدمها المسيح، أنها على مستوى الخدمة المنسحقة التي للعبيد، مع الاتضاع إلى مستوى غسل الأرجل كالوصية. فهنا يرفع القديس بطرس من هِمَّة الإخوة اليهود الذين ورثوا عادات سيئة وممارسات مشينة من تقليد آبائهم في السيرة الباطلة. ولم يجد ما يلهب قلوبهم إلاَّ آلام “الفدية” ودماؤها التي قدمها المسيح كحمل وديع بلا عيب ولا دنس. ثم يصف القديس بطرس “الفدية” في شكلها العام أنها ليست على مستوى الأمور الفانية، ذهب وفضة، بل فدية على مستوى الحق والصدق والخلود. فالفدية التي قدمها المسيح، يا إخوة، بذبح الجسد وسفك الدم، ثمَّنها الله أبوه بالحياة الأبدية وكل أمجاد السماء والمجلس الأول عن يمينه، ودمه يتكلم بالشفاعة عنا كل حين. وآثارها هي أبدية، قائمة كما هي يوم قُدِّمت، إلى هذه الساعة وإلى نهاية الدهور. فالمسيح ليس أقل من هابيل ولا دم هذا أقل من دم ذاك: الذي “وإن مات يتكلم بعد” (عب 4: 11)

هكذا فدية المسيح، يا إخوة، لا تزال تتكلم وتحكي عن آلامها المروعة وما وُضِعَ عليها من خطايا. فالذي لم يعرف خطية
“جعله الله أبوه خطية” من أجلنا،حتى حينما يهرب منه الزاني أو المستبيح أو المتهتك في القباحة والإثم والمتدنس بأفعال الدنس، يجري وراءه صوت دم ابن الله ليناديه: تعالَ يا ابني وحبيبي، خطيتك عندي وأنا حملتها تماماً كيوم مارستها، ودفعتُ ثمنها ضرباً وسحقاً وصلباً ولعنة وعاراً، وأخذت لك صكَّ غفران عنها وبراءة بل واكتسبت لحسابك نوط جدارة. تعالَ تعالَ، لأفرح بك بقدر ما تعبت من أجلك. تعالَ، لأُلبسك تاج الخلاص وأسكب عليك من حبي وروحي وأُقدمك إلى أبي، فأنت أعزُّ خرافي وقد ثمَّنتُك بدمي!!

القديس بطرس يذكر المسيح هنا مشبِّهاً إيَّاه بالحمل، ولكن لا يقصد الحمل نفسه بل دمه. والحمل مع الدم يستخرج منهما القديس بطرس ذبيحة دموية، والحمل يمثل طهارة الفدية وغاية براءتها. ففي ذهن القديس بطرس شاة إشعياء التي تُساق إلى الذبح لا تفتح فاها: “وبينما كان رؤساء الكهنة والشيوخ يشتكون عليه لم يجب بشيء. فقال له بيلاطس: أَمَا تسمع كم يشهدون عليك،
فلم يُجبه ولا عن كلمة واحدة حتى تعجب الوالي جداً” (مت 12: 27
14)

+ “أما هو فتذلل ولم يفتح فاه.. والرب وضع عليه إثم جميعنا.. على أنه لم يعمل ظلماً ولم يكن في فمه غش” (إش 7: 53و6و9)

ثم بقوله “حمل
بلا عيب”يستحضر أمامنا المناسبة بين “فدية” المسيح وحمل الفصح. فالمناسبة شديدة، ولكن من جهة الخلاص من الملاك المُهلك بسبب التركيز على
“الدم”.فالدم
الكريم

tim…J
يشير إلى ارتفاع قيمة الفدية، فهو
دم ابن الله
ليس في مقابل الذهب والفضة بعد، بل في مقابل فداحة الثمن المطلوب لدفع غرامة خطايا عَجَزَ الناموسُ عن غفرانها. فيا خطاة كل الأرض بكل صنوف خطايا العمد مع سبق الإصرار وتوفُّر النية المبيتة وكل ظروف الحكم بالإعدام بلا رحمة، تعالوا، اقتربوا من الدم الكريم لتجدوا خطاياكم ذابت في لجة قوة هذه الفدية (الغفران بالدم لا يمنع القضاء أن ينفذ قوانينه). فموت الجسد لا يمنع فعل الغفران ونوال الحياة الأبدية، بشرط الاعتراف والتوبة.


“معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم، ولكن قد أُظهر في الأزمنة الأخيرة من أجلكم” (

1بط 20: 1):

الكلام هنا مجمل عن المسيح، ولكن القديس بطرس يقصد بوضوح عملية الفداء وما تم بمقتضاها في مشيئة الآب الأزلية وتدبيره من جهة اختيار الإنسان وخلاصه بواسطة ابنه، الذي إذ تجسد في ملء الزمن نفَّذ المشيئة الأزلية التي للآب، وهكذا استعلن في الزمن ما كان مخفياً في مشيئة الآب في الأزل. أما قول القديس بطرس أن الفداء بحسب مشيئة الآب أُظهر في الأزمنة الأخيرة، فبقوله: الأزمنة الأخيرة، يفصلها عن الأزمنة الأولى التي كانت من نصيب الأنبياء الذين سبقوا فأنبأوا بمجيء البار: “الخلاص الذي فتَّش وبحث عنه أنبياء الذين تنبأوا عن النعمة التي لأجلكم، باحثين أيُّ وقت أو ما (حال) الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها” (1بط 10: 1و11)

والقديس بولس الرسول يؤكد هذه الحقيقة أن الله الآب سبق فاختارنا قبل تأسيس العالم، وحتماً من واقع الفداء الذي كانت صورته كاملة في مشيئة الآب وتدبيره: “الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة، إذ سبق فعيَّننا للتبني بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرة مشيئته
” (أف 3: 1
5). وواضح من كلام القديس بولس هنا أنه سواء كان اختيارنا في المسيح قبل تأسيس العالم
أي في الأزلية
أو مسرة مشيئته من جهتنا بأن يجعلنا قديسين وبلا لوم لنقف أمامه نسبحه ونمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب
باعتبار ما سيكون في الزمن
بحسب مسرة مشيئته منذ الأزل، كل هذه كانت خطة الآب الأزلية المتكاملة من نحونا نفَّذها الابن في ملء الزمن، وسواء كانت في الأزل في تصوُّر قلب الله أو حادثة في الزمن، ينبغي أن نعرف تماماً أنها خطة حب عارم احتفظ بها الله في قلبه وسلمها للابن المحبوب ليكمل له حبه في ملء الزمن، و”يُصالحنا لنفسه

فيا أبناء محبة الله، الذين نقلهم من ملكوت الظلمة تحت قيود الشيطان إلى ملكوت ابن محبته (كو 13: 1)، وحرسهم بنعمته وآزرهم بروح قدسه ونقشهم على كفِّه (إش 16: 49)، ماذا قدمتم لقلب الآب الذي هكذا أحبكم بمشيئة أزلية وازداد حبه لما وهبكم كماله المسيحي وتبنَّاكم لتكونوا خليقة جديدة تقف أمامه تمدح مجد نعمته؟ هل تعلمون أن وظيفتكم التي صرتم بنينَ على أساسها هي وقوفكم أمامه تمدحون مجد نعمته، كخوارس تتقدَّم كل الملائكة، كأبناء تبنَّاهم الله لنفسه ليسرَّ بهم ويفرحون بحضرته؟ القديس يوحنا يقول كمختبر من واقع حي: “الذي رأيناه وسمعناه نُخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا، وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح، ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً
” (1يو 3: 1و4). وماذا كانت شركة الرسل: “هؤلاء كلهم كانوا
يواظبون بنفس واحدة على الصلاةوالطلبة مع النساء ومريم أم يسوع ومع إخوته

” (أع 14: 1)،
“وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات” (أع 42: 2). هكذا بُنيت الكنيسة على النفس الواحدة والصلاة معاً!!


“الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبر”:

هنا
“الفداء”يأخذ قوة ملامحه الأولى عند القديس بطرس. فالأصل في الفداء أن يفدينا المسيح من لعنة الهلاك وحكم الموت الأبدي. ولكن لا يمكن أن يجري هذا الحكم على المسيح أو يقبل جسده الموت واللعنة بأي حال، لأنه قدوس وبلا عيب بشهادة الكتاب وباعترافه هو: “مَنْ منكم يُبكِّتني على خطية..؟

” (يو 46: 8)

ولكن كونه يأخذ جسداً طاهراً من العذراء القديسة مريم، كان هذا أول خطوة لرسم خطة الفداء.

ثم يقبل
هو نفسهبحرية إرادته ولكن بحسب مشيئة الآب، أن يحمل خطايانا (بصفة كليَّة وعامة) في جسده على الخشبة. هنا وضح تماماً أن النية للموت كملت. ويسأل الجميع سؤالاً يتردد منذ البدء كمعضلة لاهوتية: كيف حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة؟

نجد الإجابة على هذا السؤال بالعودة إلى محاكمة المسيح سواء أمام مجمع قضاة إسرائيل أو المحكمة الرومانية: الأول يمثل الله رسمياً وينطق باسمه ويحكم بأمره، والثانية تمثل أعلى محكمة قضائية في العالم.


والآن إلى محضر المحكمة وملابسات الحكم بالموت صلباً:

لأول وهلة يحسب الفاحص لمحضر الجلسة أن القضية ملفَّقة، بدليل أن بيلاطس أعلن أن
رؤساء الكهنة أسلموه حسداً،ولثلاث مرات خرج بيلاطس يعلن أن
المتهم بريء ولم يجد فيه علَّة واحدة للموت،وفي النهاية غسل يديه من ذنب هذا البار وحكم بصلبه. فما هي حقيقة الأمر؟ هل تجنَّى رؤساء الكهنة؟ أو هل تجنَّى بيلاطس؟

وهنا إذ نركِّز على اعترافات المسيح كمتهم نخرج بالحقيقة، لأن أكثر ما يذهل القارئ في كل مفردات هذه القضية هو
موقف المسيح:

فسلوك المسيح هو في الحقيقة الذي جرَّ رؤساء الكهنة ليحكموا بالصلب، وهم في غاية الارتياح من جهة الضمير، وإليك أيها القارئ
سؤال رئيس الكهنة موجَّهاً للمسيح مباشرة:بعد أن تقدَّم شاهدا زور وأدليا بالاتهام، ”
قام رئيس الكهنةوقال له: أما تجيب بشيء؟ ماذا يشهد به هذان عليك؟ وأما يسوع
فكان ساكتاً..” (مت 62: 26و63)


سؤال بيلاطس:

“وقف يسوع أمام الوالي.. وبينما كان رؤساء الكهنة والشيوخ يشتكون عليه،
لم يجب بشيء،فقال له بيلاطس: أما تسمع كم يشهدون عليك؟
فلم يجبه ولا عن كلمة واحدة حتى تعجب الوالي جداً” (مت 11: 27
14)

وفي إنجيل القديس مرقس تتكرر الأسئلة من رئيس الكهنة ومن بيلاطس رئيس المحكمة: ”
ولم يجب بشيء” (مر 61: 14؛ 5: 15)


سؤال هيرودس:

وترجَّى هيرودس أن يرى آية تُصنع أمامه “وسأله بكلام كثير
فلم يجبه بشيء” (لو 9: 23)


المحاكمة في إنجيل القديس يوحنا:

وهنا تختلف مواقف الصمت وتتحوَّل في فم يسوع إلى مهاجمة سواء على رئيس الكهنة أو بيلاطس.


رئيس الكهنة:

“فسأل رئيس الكهنة يسوع عن تلاميذه وعن تعليمه


أجابه يسوع:

“أنا كلَّمت العالم علانية. أنا علَّمت كل حين في المجمع (أمام رؤساء الكهنة) وفي الهيكل حيث يجتمع اليهود دائماً، وفي الخفاء لم أتكلم بشيء.
لماذا تسألني أنا؟ اسأل الذين قد سمعوا(اسأل نفسك) ماذا كلمتهم؟ هوذا هؤلاء يعرفون ماذا قلت أنا” (يو 19: 18
21)


والآن نلخِّص سلوك المسيح:

يُفهم من صمت المسيح إزاء الأسئلة الرئيسية الخاصة بالاتهام، إذ كانت ردود المسيح كلها مسجلة بالصمت، حيث يمعن الإنجيل في ذِكر حالة الصمت أمام بيلاطس بالقول:
“فلم يجبه ولا عن كلمة واحدة حتى تعجب الوالي جداً”،يُفهم من هذا أن المسيح حرص كل الحرص أن لا يجيب على أي اتهام ولا بكلمة واحدة. أما تعجُّب بيلاطس فلأن سلوك المتهم سيؤدي إلى فقدان كل حقوقه وسينتهي بأقسى عقوبة.

ومن هذا السلوك الذي سلكه المسيح في المحاكمة التي اتُّهم فيها رسمياً بأنه فاعل شر ومهيِّج ومُفسد بتعاليمه للأمة، تثبتت عليه هذه التهمة التي تشمل بالضرورة الحط من الناموس وكسر السبت التي عقوبتها بحسب الناموس الصلب!!!

إذاً، فصمْتُ المسيح بهذه الصورة وخاصة أمام رؤساء الكهنة، جرَّ رؤساء الكهنة إلى سهولة الحكم عليه وظنُّوا أنه فعلاً مستحق الصلب. أما صمت المسيح أمام بيلاطس فجعل صوت رؤساء الكهنة هو الوحيد المسموع؛ وإلحاحهم بعقوبة الصلب دون أي اعتراض من المسيح، جعل بيلاطس أخيراً مضطراً للموافقة.

فلو تذكَّرنا كم مرة سبق المسيح وأعلن لتلاميذه أنه سيموت على الصليب
أي تحت اللعنة
ندرك أن المسيح كان يجرّ المحكمة فعلاً للحكم بالصلب، والقصد أن يحمل الخطية واللعنة بإرادته. فلما دُقت المسامير في جسده، دُقت الخطية كعلَّة الموت. ولما ارتفع الصليب عالياً كملت شروط اللعنة: “ملعونٌ كل مَنْ عُلِّق على خشبة

” (غل 13: 3). وهكذا تقبَّل لعنة الناموس بسكوته.

إلى هنا نكون قد أعطينا فكرة لاهوتية مختصرة عن الفدية.

فما هي “الكفَّارة”؟ التي تُحسب بحد ذاتها شرحاً للفدية.


الكفارة في المفهوم المسيحي:


القديس بولس:

+ “متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدَّمه الله
كفارة

ƒlast”rion
بالإيمان بدمه، لإظهار برِّه من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله” (رو 24: 3و25)

هنا فلينتبه القارئ لورود كلمة
إيلاستيريونبمعنى كفَّارة.


القديس يوحنا:

+ “في هذا هي المحبة ليس أننا نحن أحببنا الله، بل أنه هو الذي أحبنا وأرسل ابنه
كفارة

ƒlasmÒj
لخطايانا” (1يو 10: 4)

+ “وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب، يسوع المسيح البار، وهو
كفارة

ƒlasmÒj
لخطايانا ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضاً” (1يو 1: 2و2)


القديس بولس في العبرانيين:

+ “من ثمَّ كان ينبغي أن يشبه إخوته في كل شيء (المسيح) لكي يكون رحيماً
™le”mwn
، ورئيس كهنة أميناً في ما لله حتى
يكفِّر

ƒl£skesqai
خطايا الشعب” (عب 17: 2)


الكفَّارة:

باللغة العبرانية هي الكبوراة، وتعني التغطية، أي التغطية للخطية فلا تعمل عملها في الموت.

وهي باللغة اليونانية:
ƒlasmÒj
وأصلها
†lewj
، وتعني الصفح: “وأكون صفوحاً
†lewj
عن آثامهم
” (عب 20: 8). وهي في العهد القديم تفيد صفة الرحمة الخاصة بالله، ولكن في العهد القديم فقط إذ لا وجود لهذه الصفة في العهد الجديد لأنها أصلاً مستخدمة في كلمة الإيلاستيريون، وهو غطاء تابوت الشهادة الذي احتفظ به موسى في سيناء وكان يحوي لوحي العهد، وقسط المن، وعصا هرون التي أزهرت وأفرخت تذكاراً لأعمال الله مع الشعب العابر في سيناء. فعصا هرون التي أزهرت وأفرخت كانت علامة رضى الله على الشعب بسبب سبط لاوي الذي ترأَّس عليه هرون وكان أول رئيس كهنة، وحُفظت في تابوت الشهادة لبقاء رضى الله على الشعب، إزاء التمرد الذي كان قد حدث: “وقال الرب لموسى رُدَّ عصا هرون إلى أمام الشهادة (التابوت) لأجل الحِفظ علامة لبني التمرُّد فتكفَّ تذمراتهم عني لكي لا يموتوا
” (عدد 10: 17). أما لوحا الشهادة فهما لوحا الحجر اللذان كُتب عليهما وصايا الله. وقسط المن علامة على رعاية الله لشعبه إذ أعطاهم خبزاً من السماء طوال رحلتهم 40 سنة. وكان غطاء التابوت الإيلاستيريون مصنوعاً من الذهب، وكان الله يخاطب موسى من فوقه.

والذي أدخل كلمة
“الإيلاستيريون”إلى العهد الجديد هو بولس الرسول، إذ أوردها في الآية المذكورة أعلاه (رو 25: 3) بمعنى
“كفَّارة”مباشرة. فكان هذا يُعدُّ سبقاً لا مثيل له، إذ جعلنا ننتبه إلى الإيلاستيريون أي غطاء التابوت باعتباره يمثِّل
“الكفارة”،لأن رئيس الكهنة كان ينضح عليه بأصبعه من دم ذبيحة الكفارة فتُغفر كل الخطايا التي اعترف بها الشعب أو الخاطئ على رأس ذبيحة المحرقة قبل ذبحها. وبهذا وضح أمامنا لاهوت العهد القديم مطبَّقاً على ما تم مع المسيح على الصليب باعتباره “ذبيحة مُحْرَقَة”، وأن دمه حمل كل خطايانا فكفَّرها أي غطَّاها على الصليب الذي نضح عليه دمه. ومعروف في الطقس الكنسي أن الصندوق الذي فيه كأس الدم المقدس، يوضع على المذبح حسب التقليد على لوح خشب يسمَّى في الطقس لوح العهد، مأخوذاً
في المعنى
من غطاء التابوت الذي كان ينضح رئيس الكهنة عليه الدم، دم ذبيحة الكفَّارة، فيكفر خطايا المعترفين على رأس ثور الذبيحة، فأصبح هذا اللوح يمثِّل الصليب.

وهكذا دخلت
“الكفارة”،و
“ذبيحة الكفارة”،و
“الإيلاستيريون”
الكلمة التي أدخلها بولس الرسول بمعنى الكفارة
دخلت كلها في اللاهوت المسيحي كوسيلة عملية لشرح مفهوم الصليب والدم المسفوك وقوته في غفران الخطايا، بل وذبيحة المسيح نفسها ومفهوم قوتها الكفارية، مما كشف أمام أعيننا كل أسرار الفداء وغفران الخطايا في العهد الجديد، وصُوَرَه الأولى العملية في طقس العهد القديم.

ويهمنا أن نلفت نظر القارئ إلى أن الله رسم كل الطقوس القديمة لتحمل في طياتها شرح كل اللاهوت بدون مفسر وبدون شرح، إذ كان الشعب يؤمن بها ويمارسها حتى أُلقي الضوء عليها في عهد النور والنعمة.

ومن روائع الطقس الكنسي الذي أُهمل أمره وأُنسي ذِكره، طقس
“اعتراف الشعب”بدون وسيط على دم المسيح فوق المذبح، إذ من صميم لزومية رفع البخور، أن الكاهن يدور دورته على الشعب ويقدم الشورية لكل مؤمن واقف في الكنيسة (وكان يلزم أن يتأنَّى ويقف أمام كل واحد لحظة) حتى يقول اعترافه على الشورية سرًّا، بعدها يتجه الكاهن إلى باب الهيكل ويقف ويقدم البخور إلى فوق وهو يصلي رافعاً عينيه نحو الله ويقول: “.. اقبل إليك اعترافات شعبك.. إلخ”، ويتقدم ويبخر أمام المذبح وفوقه
فوق الكأس
لينقل إلى دم المسيح خطايا شعبه ليكفِّرها أي يغفرها.

وإن كان لا يزال بعض الكهنة يمارسونها شكلاً في الطقس، إلاَّ أنها توقفت عملياً منذ القرن الثالث عشر، وحلَّ محلها الاعتراف على الكاهن (انظر كتاب: “مصباح الظلمة في إيضاح الخدمة” لابن كبر قسيس كنيسة المعلقة، ولكن في مخطوطة غير مشوَّهة، وهو مدوَّن في القرن الثالث عشر).


تصحيح خطأ لاهوتي شائع:


“مات من أجلنا”، وليس “عنا”:

ولكن المسيح قَبِلَ اللعنة من أجلنا، ولا يُقال “عنَّا”، لأنه مات بنا وليس عنا، لأنه أخذ جسداً من جسدنا وأخذ خطايانا في جسده هذا، على الصليب. بمعنى أن المسيح تبنَّى البشرية العتيقة في نفسه، فلما صُلب بها دخلت معه اللعنة حتماً لتوفي عقوبتها؛ أما نحن فأخذنا اللعنة عن آدم باستحقاق خطايانا، أما هو فأخذها بالمشاركة كمشيئة أبيه وباختياره، وليس عن استحقاق قط لأنه كان قدوساً وبلا شر. فالمسيح جاز بالبشرية العتيقة الآلام والموت واللعنة لتستوفي عقوبتها وهي فيه، ثم قام بلاهوته فأقامها معه. فلما مات على الصليب مُتنا معه، ولما دُفن دُفنَّا معه، ولكن لأنه هو ابن الله ولم يكن مستوجباً الموت أو اللعنة، قام من الموت كإله، بما له من قداسة وقوة حياة تدوم، إذ لم يستطع الموت أن يمسك به ولا اللعنة استطاعت أن تحجزه في الهاوية، فقام بكامل مجده الذي له مع الآب منتصراً على الخطية واللعنة والموت والهاوية.

أما نحن فأقامنا معه لأننا كنا فيه.

فلولاه لبقينا في الموت واللعنة إلى الأبد، ولكن لما قام أقامنا معه. ولأنه كان متحداً بنا، غلبنا الموت بغلبته وقمنا بقيامته وأخذنا طبيعة جديدة من طبيعة ليس عليها حكم الموت ولا اللعنة وليس عليها سلطان الخطية بعد. وهذه هي البشرية الجديدة المؤهَّلة بالروح لشركة الحياة الأبدية مع الآب والابن.

فحينما يقول بولس الرسول أن: “المسيح افتدانا من لعنة الناموس
” (غل 13: 3)، فهو يعني أن المسيح فدانا بقبوله اللعنة على الصليب
لأجلنا،وبالتالي صار لعنة أيضاً
لأجلنا،بمعنى أنه صار مصلوباً
لأجلناوليس “عنا”. لأن كلمة “عنا” هنا خطيرة للغاية، إذ تجعل قبوله الموت واللعنة كاستحقاق شخصي وهذا يلغي الفدية إلغاءً، ولكنه قَبِلَ اللعنة
“لأجلنا”وعن محبة فقط، عن حب وطاعة لأبيه، فصار هذا فدية محبة بكل المعنى والموازين “أحبني وأسلم نفسه لأجلي” (غل 20: 2)

وما يُقال في اللعنة يُقال في الآلام. لذلك نقول: “تألمنا معه
“لأنه تألم
لأجلناوليس “عنا” كأنه باستحقاق شخصي، وحاشا.

كذلك يُقال في الموت، فنحن متنا معه لأنه مات
لأجلناوليس “عنا” كأنه باستحقاق شخصي مات.

وهكذا يظهر مقدار الخطأ اللاهوتي في القول بأن المسيح تألم عنا أو مات عنا أو قَبِلَ اللعنة عنا. ولكن وللأسف لا يزال يسقط في هذا التعبير كثيرون حتى الآن. لهذا لزم التنبيه.


ذبيحة المحرقة وكيف فدانا المسيح من لعنة الناموس:

في ذبيحة المحرقة في العهد القديم
ثور مثلاً
كان رئيس الكهنة أو الشعب ممثلاً في رؤساء أسباطه يعترف على رأس الثور، عن خطايا السهو فقط لأن خطايا العمد ليس لها ذبيحة، ثم يذبح رئيسُ الكهنة الثورَ ويأخذ من دمه ويدخل إلى قدس الأقداس،
وينضح منه على غطاء التابوتبحضرة الله الذي يكون قائماً في سحابة البخور الذي يرفعه رئيس الكهنة فوق التابوت من المجمرة التي بيده. بعد ذلك تُحرق ذبيحة المحرقة خارج المحلة وتظل النار مشتعلة أمام الشعب طول الليل
منظر حزين ومرعب
فالثور حمل الخطايا وسُفك دمه وقُدِّم منه على غطاء التابوت أمام الله للغفران ثم أُحرق بكماله. ماذا تمّ؟ ذَبْح الثور أي موته بسفك دمه
ومعروف أن الدم فيه النفس أي الحياة
اعتُبر نفساً بنفسٍ، نفس الثور وحياته عِوَض نفس الخاطئ وموته، وكأن حياة الثور التي في دمه استبقت حياة الخاطئ أمام الله. والمعنى والواقع هو أن تموت الذبيحة ويحيا الخاطئ. والنار تمثل غضب الله واللعنة التي عِوَض أن كانت تنال من الخاطئ أحرقت الثور حتى آخره، فالثور حمل اللعنة والغضب الإلهي عوض الخاطئ. وهنا حُسبت الذبيحة كفارة لخطايا الخاطئ، وحُسب الذبح والموت والدم للتكفير عن الخطايا والحصول على الغفران من الله أمام غطاء التابوت الذي يُنضح عليه الدم وفيه الخطايا، والحريق والنار التي أفنت وجود الثور فناءً حُسب للتكفير عن اللعنة والغضب الإلهي الذي كان يعني إهمال الله للخاطئ والتخلِّي نهائياً عنه. فبهذا التصوُّر يقدم لنا بولس الرسول آيته الفريدة التي يصف بها ما حدث للمسيح

بالنسبة لنا كخطاة وتحت اللعنة هكذا:

+ ”
جعل الذي لم يعرف خطية خطيةً لأجلنا،لنصير نحن برَّ الله فيه” (2كو21: 5)

+ “المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ
صار لعنة لأجلنا،لأنه مكتوب ملعونٌ كل مَنْ عُلِّق على خشبة” (غل 13: 3)


فمن جهة الخطية

تحمَّل المسيح الخطايا كلها عليه، خطايا السهو والعمد، ولكي يُجعل المسيح كفؤاً أن يحمل كل خطية من كل نوع ونوع بكل تحديد دون أن تفلت خطية واحدة لم يحملها المسيح، وضعها القديس بولس في
وضعها المطلق: صار “خطية”،لكي لا يجزع أي خاطئ من نوع خطيته بعد، ظانًّا أن خطيته لا يمكن أن تُحسب بين الخطايا لشناعتها!!

وقد سبق أن وصفنا متى أخذ المسيح خطايانا في جسده على الخشبة؟ وكيف أخذها؟ بقبوله حكم رؤساء الكهنة في المجمع وحكم بيلاطس في المحكمة الرومانية دون اعتراض أو مناقشة، حاسباً كل الاتهامات بكل الخطايا أنها صحيحة بالنسبة له. وهنا المنظر مثير جداً للعواطف لذوي الخيال الحي: فهنا وقف المسيح موقف ذبيحة المحرقة قبل ذبحها صامتاً، والشعب كله يعترف بخطاياه على رأسه وبناءً عليه اعتبره الناموس مستحقاً الذبح والموت. فهنا المسيح وقف نفس الوقفة صامتاً أمام نفس رئيس الكهنة وكل شيوخ الشعب يعدِّدون خطاياه ويصبونها عليه، وهو واقف
صامتاًيتقبلها دون اعتراض أو مناقشة، وأخيراً حدَّدوا آلة موته صلباً كملعون من الله لأنه خالف الناموس، فلم يعترض بل حمل صليب اللعنة على كتفه كمَنْ حمل العار بإرادته قبل أن يرفعوه عليه فيتقبل اللعنة كعقوبة من الله لتحرمه من الله: “إلهي إلهي لماذا تركتني

هكذا
“صار لعنة من أجلنا”لننجو من اللعنة إلى الأبد.

كما
“صار خطية من أجلنا”لنفوز بالغفران والصفح، فننال البر الأبدي.

ولكن هل حلَّت لعنة الله على المسيح حقاً؟ أم أنها مجرد تصوُّر وكلام.

بدأ هذا النزاع الخطير في مسألة اللعنة منذ القرن الرابع، إذ أثار هذه القضية الخطيرة القديس جيروم 324
420م، وأصرَّ أن المسيح لا يمكن أن تحلَّ عليه لعنة إذ هو قدوس، وأن التمسك بالقول بأن المسيح صار لعنة هو تجديف. وانحاز له أساقفة الغرب منذ ذلك الزمان وبعضهم حتى إلى الآن، وانبرى الأساقفة واللاهوتيون يدافعون عن قداسة المسيح تماماً كما صنع القديس بطرس مدافعاً عن فكرة الصلب للمسيح بنوع من القناعة والتشدُّد: “حاشاك يا رب

” فبطرس يعرف أن الصلب هو عقوبة الخطاة المجرمين الذين تحل عليهم اللعنة إذ يُرفعون على الخشبة، فكيف يقول الرب يسوع لهم: “أن ابن الإنسان سيُصلب ويموت”؟؟ ولكن كان رد المسيح بل رد اللاهوت الذي لا يشوبه فكر بشري هكذا: “فأخذه بطرس إليه، وابتدأ ينتهره (ينتهر المسيح؟) قائلاً: حاشاك يا رب، لا يكون لك هذا. فالتفت وقال لبطرس: اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي
لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس” (مت 22: 16و23)

وقد عدَّد العالِم الألماني ماير في كتابه: “شرح رسالة غلاطية” أسماء أعاظم اللاهوتيين المحدثين الذين تزعموا موقف بطرس للمحاماة عن قداسة المسيح واستحالة قبوله اللعنة. ولكن لا نريد أن نجعل من هذه القضية قضية نزاع فهي قلب الإيمان وروحه. إذ أن المسيح إن لم يكن قد تقبَّل لعنة الناموس التي هي لعنة الله عينها، من أجلنا، ما استطاع أن يموت أو ما كان موته حقيقياً بل شُبِّه لهم كما يقولون، وما استطعنا نحن أن نفلت من اللعنة الأبدية والموت الأبدي. فإما يتقبل المسيح اللعنة
“من أجلنا”
ويموت ويقوم في اليوم الثالث، وإما نحيا نحن في اللعنة والموت أي تحت الغضب الإلهي ولا نقوم أبداً. وردًّا على كل دفاع عن استحالة قبول المسيح اللعنة لأنه قدوس وابن الله، يكون الرد: لولا أن المسيح قدوس هو وابن الله ما قَبِلَ الخطية وما قَبِلَ اللعنة أي ما قَبِلَ الصلب والموت، لأنه بقداسته ولاهوته داس الموت بموته وقام من الموت ونفض عنه وعنَّا اللعنة إلى الأبد.

لقد أخذ المسيح خليقتنا بكل ما فيها وما عليها، وأخذ على الصليب خطيتها في جسده وقَبِلَ لعنتها بلا نقصان. أخذها حسب مشيئة أبيه بالتدبير كخطة منذ الأزل بالمشيئة الأزلية لتتم كفعل في عمق الزمن، ليصنع بها ومنها خليقة جديدة لائقة أن تكون مع الآب والابن والروح القدس في شركة حياة أبدية وعلى مستوى الابن في البنوَّة والمحبة والميراث. أما أن تتدخل عواطفنا البطرسية لتنتهر المسيح مرة أخرى وتقول له: حاشاك أن يكون لك هذا، فهذه لا تزال مشورة الشيطان وفلسفته لتنهي على قوة الفداء ومعنى الكفارة بل وتجعل من كل مقولاتها نظريات مزيَّفة.

وإشعياء يصرخ من وراء الدهور ليقول: أيها اللاهوتيون هذه مشيئة الآب: “أما الربُّ فسُرَّ بأن يسحقه بالحزن، إنْ جعل نفسه ذبيحة إثم
” (إش 10: 53). وصوت المسيح من فوق الصليب يرد ويقول: آمين، موافقاً على سحق الآب ومرارة الكأس، ولكن في عتاب لقسوة التأديب: “إلهي إلهي لماذا تركتني
” فالمسيح كان يصرخ من عمق بنوَّته للآب مدافعاً عن الإنسان الذي حمله وهو في حال ذلِّه، وغضب الله عليه.

فإن كان المسيح لم يقبل لعنة الله كلها بلا نقصان، يصبح قول بولس الرسول: “إنه افتدانا من لعنة الناموس”، حقيقة مزيَّفة ومجرد خداع.

فالله الآب الذي رضي بأن يجعله خطية من أجلنا، ويجعله لعنة من أجلنا، حسب المشورة الأزلية والمشيئة الحكيمة لفدائنا وخلاصنا، هو هو الذي أقامه من الموت ورفعه فوق أعلى السموات وأجلسه عن يمينه.

فإن كان لا يزال بعض اللاهوتيين يقولون بأن المسيح لم يقبل اللعنة، يُقال لهم وكيف قَبِلَ الصليب؟ وهو عين اللعنة. بل لحرص المسيح أن يكمِّل اللعنة حتى آخر قطرة أو نسمة حياة ظل يعاني حتى لفظ آخر شهادة: “قد أُكْمِل”!! قد أكمل عمل الصليب الذي هو قبول اللعنة والغضب الإلهي حتى الموت استيفاء للعقوبة كما قيلت من فم الله لآدم. ونحن نعجب من هذه الأفكار الضعيفة التي لا تستطيع أن ترتفع إلى مستوى عظمة الفداء ولا تزال ترى في “كلمة الصليب جهالة!! جهالة الله الذي هو أحكم من الناس!!” (1كو 25: 1)

ولكي نثبِّت فكر القارئ ونزيد الحقيقة تأكيداً، نلفت نظر القارئ إلى اهتمام بولس الرسول في توثيق قوله عن المسيح: إنه
“صار لعنة من أجلنا”،إذ يضيف قرينة البرهان والتأكيد مباشرة من الكتاب:
“لأنه مكتوب ملعون كل مَنْ عُلِّق على خشبة”.ونذكِّر القارئ في عدد المرات الكثيرة التي تغنَّى المسيح فيها كونه “سيُصلب”، كمَنْ يرى في اللعنة القادمة قمة الرسالة وتاج الفداء وانفتاح الباب للعهد الجديد.

أما لماذا أورد القديس بولس هذه الحقيقة الفدائية الخطيرة، وأكَّدها وصمَّم عليها وبرهنها؟

فواضح أنه بانتهاء لعنة الناموس ينتهي الناموس بأكمله، وبانتهاء الناموس يبدأ الإيمان بالله بدون ناموس. فينفتح الباب للأمم للإيمان بالله على طقس إبراهيم حسب الوعد الصادق بالعهد الجديد.

وفي الختام ننقل للقارئ خلاصة بحث قام به أحد علماء الكتاب المقدس، وقد ورد في قاموس كيتل اللاهوتي الألماني في موضوع اللعنة:

[ليس عبثاً يتكلم بولس عن الفداء الذي تم لنا (غل 13: 3)، وعن التبرير الذي حصلنا عليه (رو 21: 3)، وعن التصالح الذي جرى بيننا وبين الله (2كو 17: 5). وبالاختصار عن شركتنا مع الله، قبل أن يتكلم عن: “المسيح الذي
صار لعنة من أجلنا

” والذي
“صار خطية”.

فكون المسيح يصير لعنة من أجلنا، يعني أن المسيح، قد وضعه الله في موضع بُعدنا عن الله وتخليته عنَّا، حتى يُخرجنا من هذه الغربة والتخلية ويُدخلنا إلى الشركة معه].

G. Kittel, TDNT, Vol. I, p. 451
.

[كما لا يوجد أي نفع في محاولة التحديدات التي يحاولها اللاهوتيون في أبحاثهم التي يحاولون بها زحزحة اللعنة لتكون من الناموس وليس من الله أو التي تحاول حصرها في اليهود وليس فينا نحن.]
Ibid

والآن يا إخوة، بعد أن عرفنا وتأكدنا أن المسيح أخذ خطايانا في جسده على الخشبة وقَبِلَ لعنة الخطاة والخطية ورضِيَ بخشبة العار، كل ذلك من أجلنا. وأنه تعيَّن من أبيه أن يكون الفدية لكي بدمه وصليبه يصير لنا غفران الخطايا، وبقيامته حياة جديدة ومصالحة مع الآب وقُربَى ودالة وتبنٍّ وشركة وحياة أبدية. فالآن لم يبقَ لنا إلاَّ أن نحقق الآن ما عرفناه وآمنا به!

ولا توجد وسيلة نحقق بها هذه المكاسب والنِعَم ونحياها ونفرح بها ونسعد بنصيبنا السماوي ونذوق صلاح الرب فعلاً ونهتف بمجده، إلاَّ بالصلاة فهي باب السماء المفتوح على الدوام.

وكل الذين دخلوا شهدوا، وبقيت شهادتهم لنا حافزاً للصلاة والشهادة: “أحبني ومات من أجلي”!!!


ختام:


الحب والفداء:

الأصول الأولى التي نبع منها الفداء والكفَّارة.

بقدر ما يجد القارئ صعوبة في فهم دقائق الفداء والكفَّارة، فإن ينبوعه الأول الذي نبع منه فكر الفداء ورسمت خطته وكل عملياته الدامية هو
حب الله للإنسان.فبكل وضوح وصراحة قال الروح في الإنجيل عن أصل الفداء: “هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (يو 16: 3)

أما أول درجة عملية اتخذها الله، فهي أن أوعز إلى ابنه أن يأخذ جسد إنسان ونفس صورته يتحد بها، ليصيِّره رأس بشرية جديدة بعد أن يزيل من عليها حكم الموت واللعنة ويُدخلها دائرة حب الله الشخصي لتحيا معه من جديد تسبِّحه ويفرح بها. فنزول اللاهوت ليتحد بصورة إنسان فيه ما فيه، ليس من الحب فقط للإنسان بل من التكريم له بما يفوق العقل، مما حدا بالابن أن يُعلن: “لينظروا مجدي الذي أعطيتني.. وعرَّفتُهم اسمك وسأُعرِّفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم
” (يو 24: 17و26) ضماناً أبدياً أن لا يخرجوا مرة أخرى من حضرة الله.

فإن كانت قصة الفداء قد بدأت من طرف الإنسان بحياة الخطية والإثم والتعدِّي، ودوافعها من جهالة العداوة والبغضة والحسد والخصام وما يرافقها من الحيرة والتخبُّط والحزن والبكاء والتنهد والشعور بغضب الله؛ فإن وجه الفداء من طرف الله مُشرق غاية الإشراق، يفيض حبًّا صادقاً ونية حارة للمصالحة. فمن جهة الآب يقول: “إن الله كان في المسيح مُصالحاً العالم لنفسه
” (2كو 19: 5). أما من جهة الابن يسوع المسيح، فأول تعبير عبَّر به بفمه عن الفداء المزمع أن يصنعه للإنسان من دمه أنه قال: “تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أُريحكم. احملوا نيري عليكم.. لأن نيري هيِّن وحملي خفيف
” (مت 28: 11
30). وبدأ يشرح أعمال وصفات الفدية: “لم آتِ لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة

” (مت 13: 9)، “ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدم بل ليَخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين
” (مت 28: 20)، “أنتم تدعونني معلِّماً وسيِّداً وحسناً تقولون لأني أنا كذلك.. قد غسلتُ أرجلكم
” (يو 13: 13و14). وآخر ما قال وأعظم ما قال: “اشربوا منها كلكم، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا.. اصنعوا هذا لذكري.” (مت 27: 26و28، لو 20: 22و19)

وهكذا احتوى المسيح كل مفهوم الفدية بإعطائنا دمه في كأس لنشربه، كحبيب ذبح نفسه من أجل الذي يحبه، وأعطاه دمه ليذكر حبه له الذي قيَّمه بدمه. وقد حوَّل حبه المتدفق من قلبه إلى دمه المنسكب في كأس. فكل لغة لاهوت الفداء مهما بلغت من الصعوبة، فهي توقيعات خفقات قلب الله الآب لا يسمعها الإنسان إلاَّ إذا بدأ يفهم لغة الحب، وإن عبَّر عنها الابن ونفَّذها على ضرب السياط وذبح الصليب وسفك الدم، فذلك لكي يوقظ قلوبنا البليدة لتدرك لغة حب الله من نحو الإنسان الخاطئ، وصدق نيته من نحوه منذ الأزل.

ويكفي أن أكبر لاهوتي في العالم، وبآن واحد، أكبر خاطئ، لما أدرك دقائق سر الفداء وفهم لغة الله وسمع دقات قلبه وشرح كل أعمال فدية الابن على الصليب، أنه عبَّر عن الفداء بتسبحة أخذ يتغنَّى بها طول حياته، من ثلاث كلمات ونصف، تحوي كل سر اللاهوت:
“أحبني وأسلم نفسه لأجلي.” (غل 20: 2)


(فبراير 1994)

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي