أنا هو الراعي الصالح


(يو 11: 10)

 ™gè e„mi Ð poim¾n Ð kalÒj

Pastor bonus

Le bon pasteur


“أنا هو الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف”:


“أنا هو”:

™gè e„mi

بادئة يفتتح بها المسيح كلامه مقدِّماً ذاته، استعلاناً لهويته، فهي بادئة مختصة بيهوه الله في العهد القديم كلقبه الخاص
(







[1]







)

: “اسمع لي يا يعقوب وإسرائيل الذي دعوته، أنا هو
™gè e„mi
. أنا الأول وأنا الآخر
” (إش 12: 48). إذن، فالمسيح يقصد بها أن يلفت نظر السامع أنه يتكلم بشخصية يهوه.


“الراعي الصالح”:

وهذا اللقب أيضاً هو من خصائص الله قديماً. فالله كان يعتبر نفسه راعي إسرائيل الخاص: “لأنه هكذا قال السيد الرب: هأنذا أسأل عن غنمي وأفتقدها.
كما يفتقد الراعي قطيعه يوم يكون في وسط غنمهالمشتَّتة، هكذا أفْتَقِد غنمي وأُخلِّصها من جميع الأماكن التي تشتَّتت إليها في يوم الغيم والضباب..” (حز 11: 34و12)

وهكذا حينما يقول المسيح: “أنا هو الراعي الصالح
” (يو 11: 10)، فهو يشير بذلك إشارة بليغة إلى أنه هو هو يهوه “الله ظهر في الجسد
” (1تي 16: 3) ليكمل عمل الله في العهد القديم، حيث كانت رعاية يهوه للشعب قديماً للتأديب والتعليم. أما رعاية المسيح في العهد الجديد فهي تجيء للفداء: “والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف” (يو 11: 10)

وعجيب على مسامعنا أن يقول الله إنه راعٍ يرعى الشعب كما يرعى الراعي الخراف:
“ويكون في وسط غنمه”.فهذا اللقب الذي اتخذه الله لنفسه يكشف لنا عن صفات وطبيعة جديدة ومُذهلة عن الله كان من العسير أن نصدِّقها لو قيلت في معناها المجرد. فمن يصدِّق أن الله يعمل عمل الراعي: “كراعٍ يرعى قطيعه،
بذراعه يجمع الحملان، وفي حضنه يحملها، ويقود (بتؤدة) المرضعات

” (إش 11: 40). أهذا هو الله العظيم الجبَّار كلِّي القدرة والقوة، يحمل ضعاف وصغار شعبه على ذراعه بل في حضنه، والأُم يحنو عليها ولا يتركها بل يسير بجوارها و“إن نسيت الأم رضيعها فأنا لا أنساه” (قارن إش 15: 49)!! هذه صورة من صور طبيعة الله وصفاته أعظم وأثمن من كل ما عرفناه وقرأناه في علم اللاهوت. إذن، لا نندهش إن كنا نسمع من المسيح وهو الراعي الجديد يقول: “.. تعلَّموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب
” (مت 29: 11)، فهي صفة قائمة في قلب يهوه العظيم استُعلنت لنا في المسيح.

ثم إليك تصوير آخر لإشعياء النبي ليهوه العظيم وهو يرعى شعبه: “لا يجوعون ولا يعطشون ولا يضربهم حرٌّ ولا شمس، لأن الذي يرحمهم يهديهم وإلى ينابيع المياه يوردهم
” (إش 10: 49). هذا تصوير لله وهو يحمل مسئولية إطعام شعبه وإمداده بما يحتاجه من ماء، وأن يظلِّل عليهم في يوم الحرّ والقيظ، هكذا بلغت العلاقة الوثيقة الحميمة بين الله وشعبه كأب خلَّف أولاداً فصاروا في عنقه، لا يهدأ ولا ينام حتى يوفِّر لهم أَوَدَ حياتهم وأكثر!! ولكن مثل الراعي أعمق وأكثر حساسية. فالراعي يتعامل مع غنم لا تنطق ولا تشكو ولا تعرف أين تسير، لهذا فالمسئولية التي وضعها الله على نفسه بأخذه لقب راعٍ جعلتنا ندرك مدى رهافة حسّ الله في رعايته لشعبه ولطفه وحنانه وسهره ويقظته التي فيها لا يغفل ولا ينام: “إنه لا ينعس ولا ينام حافظ إسرائيل” (مز 4: 121)

هل يمكن أن نثق في وعد الله هذا؟ الواقع والتاريخ يؤيِّد ذلك بما لا يدع مجالاً للشك، إذ لما جاع الشعب في البرية أرسل لهم خبزاً من السماء، ولمَّا عطشوا فجَّر لهم ماءً من صخرة!! وإذ طالت مسيرتهم في القفر وسط القيظ الشديد أرسل لهم سحابةً تظللهم بالنهار ونوراً يهديهم بالليل أربعين سنة بالتمام!! ولكي يبرهن المسيح أنه هو هو يهوه القديم حقاً، لما جاع الشعب من حوله خمسة آلاف من الرجال غير الأطفال والنساء، والمكان قفر؛ أطعمهم وأشبعهم من خمسة أرغفة وسمكتين كانا في مخلة صبي. وكانت هذه المعجزة توطئة لأن يعطيهم الخبز الحقيقي ليبقى لهم إلى الأبد وكل مَنْ يأكل منه لا يجوع ولا يموت: “.. مَنْ يأكلني فهو يحيا بي. هذا هو الخبز الذي نزل من السماء، ليس كما أكل آباؤكم المنَّ وماتوا. مَنْ يأكل هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد
” (يو 57: 6و58). فالذي عمله يهوه بالرمز أكمله المسيح بالحق.

ويعود إرميا ويتنبَّأ بفم الله عمَّا هو مزمع أن يكون: “وأنا أجمع بقية غنمي من جميع الأراضي التي طردتها إليها وأردُّها إلى مرابضها فتُثمر وتكثر
” (إر 3: 23). هذا هو تأديب الراعي يهوه العظيم المخوف، بيد يضرب وبالأخرى يعانق ويقبِّل، قالها المسيح عن وعي صادق بقلب الأب، كيف قام الأب وركض ليستقبل الابن الضال: “فقام (الابن الضال) وجاء إلى أبيه،
وإذ كان لم يزل بعيداً رآه أبوه(الآب السماوي)
فتحنَّن وركض ووقع على عنقه وقبَّله” (لو 20: 15)

هذا هو يهوه العجيب أبو ربنا يسوع المسيح الذي أوصى ابنه أن ينزل ويفتقد الخراف الضالة يحملها في قلبه بل بروحه، ويرفعها ويُحضرها إليه في السماء، ليصنع لها الآب وليمة محبته، ويفرح بها وتفرح بها السماء كلها لأنها كانت ميتة فعاشت. هل نحن إزاء معاملة الله حقاً، إن هذا يفوق العقل والخيال. كيف إذن صوَّر المعلِّمون واللاهوتيون، بل وبعض رجال الكنيسة القدامى أن الله: “ملك الدهور الذي الكل مذلول وخاضع له بعنق العبودية تحت خضوع قضيب ملكه”. أيُّ ملك هذا: بختنصر أم القيصر أم هتلر أم أيُّ ملك هذا؟ لهذا نصَّب الله يهوه العظيم نفسه راعياً لشعبه لكي على أساس طبيعة الراعي ومشاعره وأحاسيسه تجاه الغنم، يقنَّن اللاهوت وتُستعلن صفاته كراعي الغنم. الغنم تنام، وهو لا ينعس ولا ينام؛ لا ترى من أين يأتي عدوها، وهو يراه؛ لا تعلم أيَّ طعام تأكل في غدها، وهو قد أعدَّه لميعاده؛ يشعر بألمها قبل أن تصرخ، ويحس باحتياجاتها دون أن تطلب حتى وإن استخدم العكَّاز بالضرب على الظهر فلكي لا تتسرب في دروب الذئاب:

+ ”
في كل ضيقهم تضايق،وملاك حضرته خلَّصهم. بمحبته ورأفته هو
فكَّهم ورفعهم وحملهم كل الأيام القديمة” (إش 9: 63)

لأن راعي الغنم يعرف كيف ينقذ النفس في الضيقة.

+ “ويكون أني قبلما يَدْعُون أنا أُجيب، وفيما هم يتكلمون بعد أنا أسمع” (إش 24: 65)

+ ”
أصغيتُ إلى الذين لم يسألوا، وُجِدتُ من الذين لم يطلبوني.قلتُ: هأنذا هأنذا لأُمةٍ لم تُسَمَّ باسمي” (إش 1: 65)

+ “والقادر أن يفعل فوق كل شيء
أكثر جداً مما نطلب أو نفتكربحسب القوة التي تعمل فينا” (أف 20: 3)

لأن الراعي يعرف كيف يعطي غنماته ما لم تطلبه، وأكثر مما تفكِّر فيه أو تتمناه.

+ “وفي اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع ونادى قائلاً: إن عطش أحد فليُقْبِلْ إليَّ ويشرب..” (يو37: 7)

+ “ومَنْ يعطش فليأتِ. ومَنْ يُرِدْ فليأخذ ماء حياة مجاناً” (رؤ 17: 22)

وهكذا فجأة رأينا الراعي هو نفسه ينبوع الماء الحي وخبز الحياة.

+ “أنا هو خبز الحياة. مَنْ يُقْبِل إليَّ فلا يجوع، ومَنْ يؤمن بي فلا يعطش أبداً” (يو 35: 6)

وفجأة رأيناه يوزِّع جسده طعاماً، كلُّ مَنْ أكله انفتحت عيناه ليرى نفسه وسط قديسيه.

آه، لولا أن يسوع تعلَّم الرعاية من أبيه وورث قلب الراعي، ما كان قدَّم نفسه حَمَلاً تحت سكين أبيه. مَنْ ذا سمع عن راعٍ بلغ به الحب نحو غنماته حتى يذبح ابنه الحمل الوديع ليفدي قطيعه من مخالب الذئب، فيحملها على منكبيه ويعبر بها أهوال الموت والهاوية ويقوم ويرتفع ليقدِّمها لأبيه سالمة سالمة؟!

وإشعياء يرى المسيح وهو عابر الموت ويشق الهاوية والبشرية على كتفيه كراعي الغنم، ثم يقوم لينفض عنه وعنهم الموت كجبار مفيق من الخمر، فيقول:

+ “ثم ذكر الأيام القديمة موسى وشعبه، أين الذي أصعدهم من البحر مع راعي غنمه، أين الذي جعل في وسطهم روح قدسه، الذي سيَّر ليمين موسى ذراع مجده الذي شق المياه قدَّامهم ليصنع لنفسه اسماً أبدياً، الذي سيَّرهم في اللجج كفرس في البرية، فلم يعثروا” (إش 11: 63
13)

ويجيء داود ويزيد عليه أنه لما سار بهم وسط المياه لم يترك أثراً:

+ “في البحر طريقك وسبلك في المياه الكثيرة وآثارك لم تُعْرَف. هديت شعبك كالغنم بيد موسى وهارون
” (مز 19: 77)

وكأن ملحمة دخول الشعب البحر وخروجه سالماً أكملها المسيح بالصعود توًّا إلى السماء. وعن هذا الخروج المكمَّل تحدَّث موسى وإيليا يوم التجلِّي: “اللذان ظهرا بمجد وتكلَّما عن خروجه الذي كان عتيداً أن يكمِّله في أورشليم” (لو 31: 9)

وحينما صعد إلى السماء بمجد، استقبله القديسون والأنبياء الذين ترقَّبوه منذ الدهر ولكنهم رأوا جروحه فابتدروه:

+ “ما هذه الجروح في يديك؟ فيقول: هي التي جُرِحْتُ بها في بيت أحبائي” (زك 6: 13)

فيسألونه: أما ندموا؟ فيرد عليهم: حينما أرسل لهم روح توبة:

+ “وأُفيض على بيت داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرُّعات، فينظرون إليَّ الذي طعنوه وينوحون عليه كنائح على وحيده ويكونون في مرارة عليه كمَنْ هو في مرارة على بِكْرِهِ” (زك 10: 12)

والمسيح وهو قادم إلى الصليب كان لا يزال يرى نفسه الراعي الذي يقود غنماته من خلفه. وأعجب ما كان يفكِّر فيه والموت منصوب أمامه، أنه كان يفكِّر في غنماته، فتذكَّر قول الله على فم زكريا النبي فردده: “استيقظ يا سيف على راعيَّ وعلى رجل رفقتي يقول رب الجنود، اضرب الراعي
فتتشتَّت الغنم” (زك 7: 13، مت 31: 26)

ولكن لماذا العجب وهو قادم على الموت بإرادته ومسرة مشيئته ليفدي الغنم المشتتة؟

هات يا علم اللاهوت صفحاتك وسجِّل كيف انبثقت روح الفدية من روح الراعي؟ وكيف كانت حياة الغنم تستحق الصليب حتى إلى الموت؟ هذا هو القائل: “أنا هو الراعي الصالح، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف
” (يو 11: 10). والصليب يرد ويقول: آمين.

مات الراعي الحبيب ليفتح بروحه أمامهم باب حظيرة الملكوت، وليصنع لهم من جسده طريقاً آمناً موصلاً للسماء، وبدمائه مسحهم ليأخذوا هيئة القديسين، وهو واقف هناك يقدِّمهم بنفسه لأبيه، وكلٌّ له صورة الفادي واسمه ليتسجَّلوا في السماء كأبناء وليرثوا مع الابن ما لله. وهو واقف يشجِّعهم ويفرِّح قلوبهم: “افرحوا مع أورشليم وابتهجوا معها يا جميع محبِّيها، افرحوا معها فرحاً يا جميع النائحين عليها، لكي ترضعوا وتشبعوا من ثَدْي تعزياتها، لكي تعصروا وتتلذَّذوا من دِرَّة (ضرع) مجدها
” (إش 10: 66و11). وكأن الراعي فوق لا يزال يحلب درات الغنم ويسقي الضعفاء. أو كأن السماء صارت أُمًّا والخراف ذهبت لترضع من مجدها. وهكذا انتقل الراعي إلى السماء وأخذ معه غنماته ولا يزال يرعى ويحمل الصغار في حضنه ويتأنَّى على المرضعات.

إن وصف المسيح لنفسه بالراعي الصالح نراه وقد تغلغل كل حياته على الأرض وانتقل معه إلى السماء. وهو لا يشاء أن يرانا إلاَّ غنمات وديعة برسمه تتبعه أينما سار: “هؤلاء هم الذين يتبعون الخروف حيثما ذهب” (رؤ 4: 14)

وبهذا نرى أن كل تعاليم المسيح وتدريباته ونصائحه ومشوراته، هي باعتباره الراعي الذي يعدُّ غنماته، ويطبع عليها صورته، ويكتب اسمه على جباهها، ويعدّها ليأخذها معه هناك.

هنا يدرِّبها ويرشدها، ويعطي كل نفسه لها.

يطهِّرها يقدِّسها، لتصلح ذبائح مقبولة أمام أبيه في السماء.

يرعاها في مرابض الحب، ويسقيها من ماء الحياة لتحيا وتجترّ كلمة الله.

يكتب عليها اسمه، وينقش اسمها على كفِّه، لتُعتمد كغنمات في قطيع السماء.

يلقِّنها كلمة الحياة، ويعطيها رسم الطريق وسر الدخول.

والتي أتقنت الرعي هنا في مراعي النعمة تربض هناك حول العرش.

والتي اغتذت هنا على ثمرة الإنجيل، تغتذي هناك على شجرة الحياة.

يا راعي المجد، يا صاحب سر الحمل، كيف ذَبحتَ ذاتك لتطعم غنماتك بسر لاهوتك؟

فرفعتَ خرافك من مرابض الأرض إلى مراقي المجد.

محيَّر أنا محيَّر بين سر الراعي وسر الحمل!

كيف خلعتَ على الصليب رداء الراعي ولبستَ شكل الحمل.

ما سمعنا قط أن راعياً يأخذ شكل الحمل، ليقود قطيعه، مذبوحاً عَبْرَ وادي الموت، ويصعد معه إلى شاطئ الحياة.

يا راعي النفوس الأمين، نفسي تتبعك!


(فبراير 1995)




(


[1])

ارجع لكتاب: “المدخل لشرح إنجيل القديس يوحنا”، ص 220
246.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي