رئيس الحياة

Ð ¢rchgÕj tÁj zwÁj

The Author of Life

لا يوجد كائن حيٌّ بذاته إلاَّ الله! والحياة الأبدية طبيعة إلهية مطلقة أي أزلية وأبدية معاً.

ونحن لم نكن نعرف نوع الحياة التي يحياها الله، وهي المنزَّهة عن الموت والتغيير، حتى تجسد ابن الله؛ ولكنه عاش بيننا بالجسد حياة بشرية حتى إلى الصليب والقبر، ولكنه في اليوم الثالث قام من بين الأموات
حيًّا بذات الجسد.وهكذا ولأول مرة عرف الإنسان وشاهد ولمس الحياة الأبدية في المسيح القائم من الأموات حيًّا بقوة لا تزول ولا يسود عليه الموت بعد. وهكذا أدرك الإنسان الحياة الأبدية، حياة الله.

هذه الحقيقة يعبِّر عنها القديس يوحنا الرسول في رسالته الأولى هكذا: “فإن الحياة أُظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا
” (1يو2: 1). هكذا أُظهرت الحياة الأبدية، وهي حياة الله، لما “الله ظهر في الجسد
” (1تي 16: 3)، أي عندما تجسد ابن الله.

ولكن الحياة الأبدية لم تستعلن في المسيح إلاَّ بعد أن دخل مع الموت ومَنْ له سلطان الموت أي إبليس في صراع مكشوف على الصليب. وقَبِلَ المسيح المراهنة وهو واثق من الحياة الأبدية التي فيه! فلما مات الابن على الصليب وأُنزل إلى القبر، وجاء الشيطان ليستلم فريسته ويدسَّ فيها عناصر النتن والفناء، وجد الجسد ينبض بحياة إلهية ليست من هذا الدهر. وهكذا وأمام الجسد الحي القائم من الموت بسلطان الحياة الأبدية التي فيه والتي له، فَقَدَ الشيطان سلطانه على الموت الذي أسسه غشاً على الخطية والإثم، مدركاً أن كل أحكام الموت التي استصدرها من رؤساء الكهنة التي قامت على الحسد والغش والكذب، انتهت عند الله بالبراءة والتبرير، وافتُضح الشيطان أنه بالغش قَتَلَ رئيس الحياة:
“أنتم أنكرتم القدوس البار وطلبتم أن يُوهَب لكم رجل قاتل،
ورئيس الحياة قتلتموهالذي أقامه الله من الأموات، ونحن شهود لذلك” (أع 14: 3و15)

كان أساس تجسُّد ابن الله، هو الدخول الرسمي في هذه المعركة الخطيرة غير المنظورة مع الشيطان والموت والخطية وحكم اللعنة الواقع على جنسنا. كان لابد أن يتجسد حتى يستطيع أن يأخذ حكم الموت الواقع علينا ويلغيه في هذا الجسد، وأن يحمل خطايانا أيضاً في جسده هذا على الخشبة (1بط 24: 2)، حتى يموت بمقتضاها رسمياً من واقع نص الحكم بالموت واللعنة، غير أنه كان واثقاً من النصرة على الموت وعلى مَنْ له سلطان الموت، وبالتالي على أسباب الحكم من عصيان وخطية وتمرُّد، وذلك بمقتضى قوة الحياة الأبدية التي فيه، وبسبب قداسته المطلقة التي له.

وهكذا انتهت المعركة بين الموت والحياة التي دخلها رئيس الحياة لحسابنا؛ بأن أخذ موتنا في الجسد بالصليب، وأعطانا حياته الأبدية في ذات الجسد بالقيامة من الموت. وهكذا صار للإنسان شركة مع رئيس الحياة، في الموت وفي الحياة.

والمسيح لم يشأ أن تظل هذه المعركة المصيرية التي تمت بين الموت والحياة مخفية في مجالها غير المنظور. ومن أجل هذا أسس المسيح هذا السر، سر تحوُّل الموت إلى الحياة، على مستوى حفلة عشاء سرائرية سكب فيها كل حبه في ذبيحة سرية رُفعت عنها السكين كما رُفعت من يد إبراهيم: “أما يسوع قبل عيد الفصح، وهو عالمٌ أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب، إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى
” (يو 1: 13)، “أخذ يسوع خبزاً وبارك وكسر وأعطاهم وقال: خذوا كلوا، هذا هو جسدي” (مر 22: 14)

عزيزي القارئ، انتبه، فإن موضع تأسيس هذا السر بكل دقائقه جاء متقدماً ثلاثة أيام. فموضع هذا العشاء بحسب واقعه ومفهومه العملي ينبغي أن يكون في يوم أحد القيامة، وهو مجتمع معهم في العلِّية ليعطيهم بيده من الخبز المكسور والكأس بالدم من واقع الذي تم على الصليب، إذ يكون قد توضَّح لهم تماماً أنه كان فعلاً ذبيحة حقيقية قُدِّمت عن خلاص العالم. ولكن المسيح سبق قَبْلَ الصليب وقَبْلَ القيامة، أن أسَّس هذا السر ليكشف أنه هو في الحقيقة القيامة والحياة، قبل الصليب كما بعد الصليب، سيَّان؛ وأن ما فيه من إرادة الموت، هي على مستوى الذبيحة قبل أن يكشفها التاريخ ويسجِّلها لتصبح وكأنها واقع لاإرادي، كما سبق وكشف سر قيامته والحياة الأبدية التي فيه حتى لا يُقال أنها جاءته من خارجه لما قام. وبذلك أصبحت قيمة سر العشاء يوم الخميس عالية القدر لاهوتياً كإعلان مادي ملموس أنه قدَّم ذاته بإرادته وحده ذبيحة عن خلاص العالم، مستخدماً الموت الذي أخذه منَّا ليصنع منه ذبيحة يبثها حياته ويقيمها بعد الموت لتكون مدخلاً للحياة الأبدية بالنسبة للإنسان في العالم الجديد: “الخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي
أبذله من أجل حياة العالم

” (يو 51: 6)، لأن بذبيحة جسده الذي أقامه حيًّا بعد الموت دخلت الحياة الأبدية إلى العالم، لأن “مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي،
فله حياة أبدية وأنا أُقيمهفي اليوم الأخير” (يو 54: 6)

ونحن حينما نأكل الخبز المكسور ونشرب الدم المسفوك، نأخذ سر الموت المتحوِّل إلى حياة، بل شركة في ذات الموت وذات القيامة للحياة الأبدية: “مَنْ يأكلني فهو يحيا بي

+ “أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم” (يو 51: 6)

ولكي يكشف المسيح قصده من هذه الآية يعود فيقول: “هذا هو الخبز الذي نزل من السماء، ليس كما أكل آباؤكم المنَّ وماتوا. مَنْ يأكل هذا الخبز فإنه
يحيا إلى الأبد” (يو 58: 6)، لأن فيه الحياة الأبدية.

وبهذا التعبير يكشف المسيح سرَّه العميق، أن جسده الذي جاز به الموت والتحوُّل من الموت إلى الحياة، يحوي سر الحياة الأبدية ذاتها. فمَنْ يأكله يحيا إلى الأبد!! أو بصورة أكثر توضيحاً، إن مَنْ يأكله يجوز التحوُّل من الموت إلى الحياة!! لأن “مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي، يثبت فيَّ وأنا فيه” (يو 56: 6)

على أن التحوُّل يتم بالإيمان على مستوى الوعي والإرادة، ويتم أيضاً على مستوى عمل النعمة غير المنظور: “تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تُكْمَل” (2كو 9: 12)


“أنا هو الطريق والحق والحياة”:

لكي يكون هو الحياة، يتحتم أن يكون هو الحق. ولكي يكون هو الحق، يتحتم أن يكون هو الطريق. و“الحياة” كما عرفناها، هي الحياة الأبدية، حياة خِلْوٌ من موت أي خِلْوٌ من تغيير أو زوال. أي ليست هي الحياة التي على الأرض القائمة على التغيير المنتهي بالزوال ونهايتها الموت.

إذاً، فالطريق هو طريق السماء للحياة فيما فوق، وهذا أكمله المسيح كقول سفر العبرانيين: “فإذ لنا، أيها الإخوة، ثقة بالدخول إلى الأقداس (العليا) بدم يسوع، طريقاً كرَّسه لنا حديثاً حيًّا بالحجاب أي جسده
” (عب 19: 10و20). بمعنى أن بتقديم جسده ذبيحة حتى الموت، قام من الأموات بالحياة الأبدية التي فيه غالباً الموت، وارتفع إلى أعلى السموات مفتتحاً الطريق إلى الله، إلى الحق والحياة والخلود. وإذ غلب الموت وأبطل الخطية بالجسد، أبطل بالتالي كل ما هو غش وخداع وباطل وكل ما هو متغيِّر وزائل، وبهذا كشف الحق الذي فيه بلا منازع.

أما قوله أنا “الحياة”، فهو التعريف بذاته كأصل ومنشأ كل حيٍّ، على الأرض في حياة مادية تزول، وفي السماء في حياة روحية لا تزول، أي كما يقول التقليد: “خالق ما يُرَى وما لا يُرَى” (قانون الإيمان). ولكن إذ نتكلم الآن عن الطريق والحق
والحياة،فنحن بالدرجة الأولى أمام “رئيس الحياة”، أي الحياة بمفهومها الأزلي والأبدي، وهي الحياة المخفية في الله، والتي لم يتعرف عليها أحد، ولم يُسمَع بها، ولم تُرَ إلاَّ يوم أن قام المسيح من بين الأموات
بجسده الذي مات به
حيًّا لا يسود عليه الموت بعد، فتعرَّفت الحياة الأبدية التي فيه بأنها حياة ما بعد الموت أو الحياة رغماً عن الموت لأنها حياة الخلود والأزل، حياة الله!

هذه الحياة الجديدة والتي هي قائمة بروح الله والتي فجَّرها المسيح من عمق جسده الذي قام به من الأموات: أعطاها الله لكل مَنْ يؤمن بالابن أنه مات وقام ليعطينا هذه الحياة الجديدة:

+ “فوضع يده اليُمنى عليَّ قائلاً: لا تخف أنا هو الأول والآخِر، والحيُّ وكنت ميتاً وها أنا حيٌّ إلى أبد الآبدين آمين، ولي مفاتيح الهاوية والموت” (رؤ 17: 1و18)

+ “مَنْ آمن بي ولو مات فسيحيا، وكل مَنْ كان حيًّا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد” (يو 25: 11و26)

+ “الآب يحب الابن وقد دفع كل شيء في يده. الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله” (يو 35: 3و36)

هذه هي الحياة الأبدية التي كانت مخفية في الله، لأنها عنصر الوجود المطلق لله وطبيعته الأزلية والأبدية، هذه هي التي فجَّرها الابن في عالم الإنسان لما قام من الأموات حيًّا بجسده الذي أخذه منَّا. وهكذا بث الحياة الأبدية في صميم طبيعتنا الجديدة، وهي الطبيعة البشرية التي نالت حق القيامة من الأموات للبقاء في الابن ومع الابن إلى الأبد.

وهذه الحقيقة يشرحها القديس يوحنا في رسالته الأولى هكذا:

+ “فإنَّ الحياة أُظهِرَت، وقد رأينا ونشهد ونُخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهِرَت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا، وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح، ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً” (1يو 2: 1
4)

هكذا استُعلن المسيح لدينا أنه رئيس الحياة ومؤسسها ومعطيها في عالمنا. إذ لما كان الابن مخفيًّا في الآب قبل أن يتجسد كانت الحياة الأبدية مخفية فيه وفي الآب: “كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أَعْطَى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته
” (يو 26: 5). فلما أُظهر الابن بالتجسد كانت الحياة مخفية فيه، وظلت مخفية إلى أن فجَّرها بقيامة الجسد من الأموات، فاستُعلنت بجبروت الله يحيطها المجد والمهابة.

فلولا تجسُّد الابن ما أدركنا سر الحياة الأبدية، ولولا الموت الذي جازه ابن الله بجسدنا ليوفي فينا ما علينا من حكم الموت، ما أدركنا سلطان الحياة الأبدية الذي أبطل به عزَّ الموت وأنار لنا طريق الحياة والخلود. هكذا أخذ الابن موتنا بالجسد ليعطينا حياته الأبدية في ذات الجسد!! حينما قام به ليبدأ فينا حياة أبدية لا تزول.

وهكذا اكتشفنا من قيامة المسيح ومن الحياة الأبدية التي أدخلها إلى عالم الإنسان، أنه هو بالحقيقة ابن الله كما يقول بولس الرسول: “وتعيَّن (تقرر) ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات
” (رو 4: 1). وطبعاً بسبب قوة الحياة الأبدية التي كان يمتلكها والتي أُظهرت.

وبسبب هذه الحياة الأبدية التي كانت مخفية فيه
وهي صميم لاهوته
قبل أن يعلنها بالقيامة من الأموات، كان المسيح يُحيي من الموت ويعلِّم الحق ويحرر الإنسان: “وتعرفون الحقَّ والحقُّ يحرِّركم.. فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً” (يو 32: 6و36)

وها هو بعد القيامة من الأموات يقول: “دُفِعَ إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض. فاذهبوا وتلْمِذوا جميع الأمم، وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس
” (مت 18: 28و19). وهذا يعني أن الابن عاد إلى موقعه من الآب ليتكلَّم ويعمل باسمه وبالروح القدس.

والحصيلة النهائية كما يقولها القديس يوحنا:

+ “ونعلم أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق، ونحن في الحق، في ابنه يسوع المسيح،
هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية” (1يو 20: 5)

فالآن نحن لا نستطيع أن نبشر بأكثر مما بشَّر به القديس يوحنا، أن بظهور
الابنظهرت الحياة الأبدية التي كانت مختفية في الله والتي هي حياة الله! وبموت الابن وقيامته دخلت العالم كقوة فائقة عن كل قوى العالم. فكل قوى العالم مربوطة بالعالم وزائلة بزواله، إلاَّ الحياة الأبدية التي أدخلها الابن بقيامته من بين الأموات، فهي قوة الله، قوة حياة لا تزول (عب 16: 7)، هي الخلود بعينه، هي الفرح الكامل، هي الحب الخالق الخلاَّق.

فحياة الله محبة، ومحبة الله حياة، هي بحد ذاتها كُنه الابن، فالابن هو هو “الحياة الأبدية”، كما هو “الحق”، وهو “الحرية” التي لا يحدُّها حدٌّ: “فإن حرركم الابن، فبالحقيقة تكونون أحراراً
” (يو 36: 8)، لأن الذي يذوق الحياة الأبدية يبلغ عمقها، وعمقها هو عمق الله: “فأعلنه الله لنا نحن بروحه، لأن الروح (وهو روح الحياة) يفحص كلَّ شيء
حتى أعماق الله.. هكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد إلاَّ روح الله. ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله (أي الحياة الأبدية)

” (1كو 10: 2
12)، “وهذه هي الشهادة: أن الله أعطانا حياة أبدية،
وهذه الحياة هي في ابنه. مَنْ له الابن فله الحياة،ومَنْ ليس له ابن الله فليست له الحياة

” (1يو 11: 5و12)، “.. وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة، لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله
” (أف 19: 3)، أي أن تمتلئوا إلى كل ملء حب الله، إلى ملء الحياة الأبدية!

فكما أن في “حياة الإنسان” على الأرض تكمن كل مفاعيل علمه وفهمه وفرحه ومسراته وآماله وحريته بصورها الناقصة المتغيرة والمتناقصة ثم الزائلة حتماً؛ هكذا في “الحياة الأبدية” التي هي حياة الله، والتي افتتحها المسيح بقيامته من بين الأموات، وفتحها على طبيعة الإنسان الجديدة، ليمتلئ منها بكل ملء الروح القدس الذي هو روح الله؛ يتعرَّف الإنسان ويذوق ويحيا في كل مفاعيل نعم الله الخالدة. هذه كلها نأخذها كالعربون هنا، لنرثها كحياة مع المسيح هناك، دائمة وكاملة وأبدية.

ولعل أقوى صفة أُعطيت للمسيح، والتي فيها يتم كل هذا، ما قاله القديس يوحنا مرة أخرى:

+ “ونعلم أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة
لنعرف الحق، ونحن في الحق،في ابنه يسوع المسيح،
هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية” (1يو 20: 5)


(يوليو 1994)

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي