7 – امتياز الفرح مثل العشاء العظيم

16 إِنْسَانٌ صَنَعَ عَشَاءً عَظِيماً وَدَعَا كَثِيرِينَ، 17 وَأَرْسَلَ عَبْدَهُ فِي سَاعَةِ الْعَشَاءِ لِيَقُولَ لِلْمَدْعُوِّينَ: تَعَالَوْا لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُعِدَّ. 18 فَابْتَدَأَ الْجَمِيعُ بِرَأْيٍ وَاحِدٍ يَسْتَعْفُونَ. قَالَ لَهُ الأَوَّلُ: إِنِّي اشْتَرَيْتُ حَقْلاً، وَأَنَا مُضْطَرٌّ أَنْ أَخْرُجَ وَأَنْظُرَهُ. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. 19 وَقَالَ آخَرُ: إِنِّي اشْتَرَيْتُ خَمْسَةَ أَزْوَاجِ بَقَرٍ، وَأَنَا مَاضٍ لأَمْتَحِنَهَا. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. 20 وَقَالَ آخَرُ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ بِامْرَأَةٍ، فَلِذلِكَ لا أَقْدِرُ أَنْ أَجِيءَ. 21 فَأَتَى ذلِكَ الْعَبْدُ وَأَخْبَرَ سَيِّدَهُ بِذَلِكَ. حِينَئِذٍ غَضِبَ رَبُّ الْبَيْتِ، وَقَالَ لِعَبْدِهِ: اخْرُجْ عَاجِلاً إِلَى شَوَارِعِ الْمَدِينَةِ وَأَزِقَّتِهَا، وَأَدْخِلْ إِلَى هُنَا الْمَسَاكِينَ وَالْجُدْعَ وَالْعُرْجَ وَالْعُمْيَ. 22 فَقَالَ الْعَبْدُ: يَا سَيِّدُ، قَدْ صَارَ كَمَا أَمَرْتَ، وَيُوجَدُ أَيْضاً مَكَانٌ. 23 فَقَالَ السَّيِّدُ لِلْعَبْدِ: اخْرُجْ إِلَى الطُّرُقِ وَالسِّيَاجَاتِ وَأَلْزِمْهُمْ بِالدُّخُولِ حَتَّى يَمْتَلِئَ بَيْتِي، 24 لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ أُولَئِكَ الرِّجَالِ الْمَدْعُوِّينَ يَذُوقُ عَشَائِي (لوقا 14: 16-24).

(ورد مثل مشابه في متى 22: 1-14)

 

مناسبة رواية المثَل:

بلغت علاقة الفريسيين بالمسيح حدّاً بعيداً من الخلاف، بسبب اختلاط المسيح بالخطاة وقبوله لهم، ولأنه علَّم تعاليم مفرحة جديدة تخالف تعاليمهم المتزمِّتة المتجهِّمة، ومنها أنه كان يقوم بأعمال الرحمة في أيام السبوت فاتَّهموه بكسر وصية السبت.. ومع ذلك فقد دعا أحد الفريسيين المسيح ليتناول طعاماً في بيته، وقبل المسيح الدعوة لأنه وجدها فرصة مناسبة لتقديم تعليمه إلى من يحتاجونه.

 

ولعل الفريسي أراد أن يعبِّر للمسيح عن مشاعر التوقير والاحترام، وقد يكون أنه أراد أن يرى معجزة تُجرى في بيته، وربما أراد أن يستفتيه في قضية عقائدية، أو لعله أراد أن يكرم نفسه في عيون ضيوفه بأن يقدِّم لهم الواعظ الناصري ليسمعوه ويسألوه ويحاوروه، ونرجو ألاّ يكون قد دعاه ليوقعه في شَركٍ.

 

ويبدو أن ضيوف الفريسي كانوا يراقبون المسيح ليشتكوا عليه. ووجد المسيح أمامه مريضاً مصاباً بالاستسقاء، ومن أعراض هذا المرض ورم الجسد بسبب احتباس الماء فيه. فسأل المسيح الحاضرين إن كان شفاء المريض حلالاً في يوم السبت، فلم يجاوبوه، فشفى المريض. ثم سألهم: «من منكم يسقط حماره أو ثوره في بئر ولا ينشله حالاً في يوم السبت؟» فلم يقدروا أن يجاوبوا سؤاله.. وهكذا أرسى المسيح قاعدة أن الرحمة تتفوَّق على الشريعة، وأن السبت «إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ، لا الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ. إِذاً ابْنُ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضاً» (مرقس 2: 27 و28).

 

ولاحظ المسيح أن المدعوّين للطعام في بيت الفريسي يختارون المتكآت الأولى، وهي الأقرب إلى صدر المائدة، وهو مكان رب البيت، وعن يمينه يجلس ضيف الشرف. فعلَّمهم عن التواضع، وطالبهم بالاتكاء في المتَّكأ الأخير، حينئذ يقدمونهم إلى مكان أرفع.

 

ولاحظ أيضاً أن كل المدعوين من أصدقاء الداعي، فطلب منه أن يدعو الفقراء، والجُدع المشوَّهين، والعُرج والعمي، الذين لا يقدرون أن يكافئوا صاحب البيت، فيكافئه الرب في قيامة الأبرار.

 

ولابد أن جو الوليمة توتَّر بعد تعليم المسيح هذا، فأراد أحد المتَّكئين أن يغيِّر الموضوع ليلطِّف جوَّ المكان، فعلَّق على حديث المسيح بقوله: «طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله». وقد عبَّر بهذا القول عن فكر اليهود في أن ملكوت الله الذي يبدأ عند مجيء المسيّا المخلِّص المنتَظر سيكون ملكوتاً زمنياً، يبدأ باحتفال عظيم ووليمة دسمة، اعتماداً على تفسيرهم لنبوَّة إشعياء «وَيَصْنَعُ رَبُّ الْجُنُودِ لِجَمِيعِ الشُّعُوبِ فِي هذَا الْجَبَلِ وَلِيمَةَ سَمَائِنَ، وَلِيمَةَ خَمْرٍ عَلَى دُرْدِيٍّ، سَمَائِنَ مُمِخَّةٍ، دُرْدِيٍّ مُصَفّىً» (إشعياء 25: 6).. تُرى هل سأل صاحب التعليق نفسه إن كان قد جهَّز قلبه لتلك الوليمة السماوية، وإن كان قد قبِل الدعوة لحضورها. وهل سأل نفسه: ما هي فائدة الوليمة الدسمة إن لم يكن قد قبِل الدعوة لحضورها؟.. لا شك أن صاحب التعليق لم يفهم طبيعة ملكوت الله، «لأَنْ لَيْسَ مَلَكُوتُ اللّهِ أَكْلاً وَشُرْباً، بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلامٌ وَفَرَحٌ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ» (رومية 14: 17). فروى المسيح له وللحاضرين مثل العشاء العظيم، وهو أن إنساناً عظيماً دعا كثيرين ليستعدوا لحضور وليمة عشاء، وأعلنهم بموعد الحفل. ويبدو أنهم قبلوا الدعوة مبدئياً، لأن صاحب الوليمة كرَّر لهم الدعوة ليخبرهم بحلول وقت العشاء. وكانت العادة أن صاحب الدعوة يذكِّر مدعوّيه بساعة العشاء قبل العشاء مباشرةً. ولكن المدعوّين استعفوا من الذهاب، وكأنهم اتفقوا على رفض الدعوة! قال واحد إنه اشترى حقلاً وهو مضطرٌّ أن يذهب ويراه. فكيف اشتراه دون أن يراه؟! وقال الثاني إنه اشترى خمسة أزواج بقر ويريد أن يمتحنها، فهل يمتحنها في الليل؟! وما الفائدة من امتحان أبقاره بعد شرائها؟! لقد كانا مشغولين بالعمل الذي يُعمي عيني صاحبه عن الأهم.. أما الثالث فقال إنه تزوَّج، ولا يقدر أن يذهب إلى العشاء. وكانت شريعة موسى تقول: «إِذَا اتَّخَذَ رَجُلٌ امْرَأَةً جَدِيدَةً، فَلا يَخْرُجْ فِي الْجُنْدِ، وَلا يُحْمَلْ عَلَيْهِ أَمْرٌ مَا. حُرّاً يَكُونُ فِي بَيْتِهِ سَنَةً وَاحِدَةً، وَيَسُرُّ امْرَأَتَهُ الَّتِي أَخَذَهَا» (تثنية 24: 5). وهذا يعني أن الشريعة تعفيه من المسؤوليات العسكرية نحو وطنه، والمسؤوليات العائلية نحو سبطه.

 

وقد شعر الأوَّلان بتقصيرهما، فطلبا أن يعفيهما صاحب الدعوة، بقولهما: «أسألك أن تعفيني». لكن الثالث لم يشعر بالتقصير، لأنه اعتمد على إعفاء الشريعة له، وقال: «لا أقدر أن أجيء».

 

وكان المفهوم، زمن رواية المثل، أن رفض ملكٍ دعوة ملكٍ آخر يعني إعلان الحرب على الملك الداعي. ولهذا غضب الداعي على رافضي دعوته، بعد أن أعدَّ كل شيء، وأمر عبده أن يخرج إلى شوارع المدينة وأزقَّتها ليدعو المساكين من جُدع مشوَّهين، وعُرج وعُمي. ففعل العبد، وعاد يقول لسيده إن كل من دعاهم جاءوا، ولكن لا زال حول المائدة مكان. فأمره أن يخرج إلى السياجات حيث يسكن أفقر فقراء المدينة ليلحَّ عليهم ليحضروا للعشاء حتى يمتلئ بيته. وهكذا تمتَّع بالوليمة كل من قبل الدعوة، بينما خسرها المدعوّون الأوَّلون لأنهم رفضوها.

 

وواضحٌ أن المسيح قصد بمثَله هذا أن الله هو العظيم صاحب البيت، لأنه ضرب هذا المثل بعد القول: «طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله». وقصد بالوليمة الإيمان بالمسيح وقبول خلاصه، فالمسيح هو خبز الحياة، ومن يُقبِل إليه لا يجوع، ومن يؤمن به لا يعطش أبداً (يوحنا 6: 35). والاجتماع حول المسيح في بيت الآب يجمع الأحبّاء المبتهجين بالمصالحة مع الله، وبالغفران، وبمواعيد الله، وبتعزيات الروح القدس، وبرجاء الحياة الأبدية. وفي الالتفاف حول الوليمة تظهر محبة المسيح للمؤمنين، ومحبتهم له.

 

ومن المؤسف أن هناك من يرفضون الوليمة، رغم دعوتهم إليها. وقد قصد بهم المسيح قادة اليهود الذين رفضوه رغم معرفتهم بالكتب المقدسة التي تنبأت عنه، وكأنهم يقولون له: «ابْعُدْ عَنَّا. وَبِمَعْرِفَةِ طُرُقِكَ لا نُسَرُّ» (أيوب 21: 14). وقد ادَّعى هؤلاء القادة أنهم أول المدعوين لملكوت الله بعد أن دعاهم يوحنا المعمدان لقبول خلاص المسيح الذي هو حمل الله رافع خطية العالم (يوحنا 1: 29)، ولكنهم رفضوه وقالوا: «أَلَعَلَّ أَحَداً مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ آمَنَ بِهِ؟» (يوحنا 7: 48)، ففتح الله باب وليمة خلاصه لكل البشر، من خطاة ومضطهَدين ومهمَّشين ومرفوضين من المجتمع، وقال المسيح: «لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ… لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (مرقس 2: 17 ولوقا 19: 10).

 

ملحوظة: روى المسيح «مثل العشاء العظيم» في بيت أحد الفريسيين في بداية خدمته، وروى مثلاً مشابهاً في مناسبة أخرى، أثناء تعليمه للفريسيين في أسبوع الآلام (متى 22: 1-14).

 

ونتعلم من هذا المثل عدة دروس:

 

أولاً – ملكوت الله وليمة

في هذا المثل أعلن المسيح أن قبول خلاصه ومُلكه على حياتنا يوم فرح ووليمة كالوليمة التي أُقيمت بمناسبة عودة الابن الضال من أرض ضلاله (لوقا 15: 23).. ليست المسيحية كئيبة فهي بشارة فرح أعلنها الملاك: «هَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ» (لوقا 2: 10، 11) وليست المسيحية مخيفة تلوِّح بالعقاب، فهي ترفع راية المحبة والسلام وتفتح أبواب الرجاء أمام المتعَبين اليائسين الذين قبلوا تعليم المسيح الذي بدأ موعظته على الجبل بكلمة «طوبى» (يا لسعادة!) ووصف المطوَّبين أصحاب السعادة بأنهم المساكين بالروح والحزانى والودعاء والجياع والعطاش إلى البر والرحماء والأنقياء القلب وصانعو السلام والمضطهَدون من أجل البر (متى 5: 3-12). وكان يعلن دائماً ترحيب السماء وفرحها بالخاطئ التائب، وفرح الخاطئ التائب بتوبته وعودته إلى أحضان الله (لوقا 15). وأعلن المسيح قبوله للص التائب على الصليب (لوقا 23: 43). وكان تعليم المسيح الذي ينبِّر عن الملكوت المفرح مختلفاً عن وعظ المعمدان الذي نبَّر على دينونة الله، وأكَّد لأتباعه أنه لا يمكن لشيء أن يسلب فرح الملكوت منهم، ووعدهم: «اُطْلُبُوا تَأْخُذُوا، لِيَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً» (يوحنا 16: 24).

 

وتحدَّث المسيح كثيراً عن أن ملكوت الله يشبه حفل عرس فقال: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً مَلِكاً صَنَعَ عُرْساً لابْنِهِ» (متى 22: 2)، وقال: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ عَشَرَ عَذَارَى، أَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَخَرَجْنَ لِلِقَاءِ الْعَرِيسِ» (متى 25: 1). ويشبِّه سفر الرؤيا مجيء المسيح ثانية ليأخذ المؤمنين إليه بأنه حفل عرس، فيقول المؤمنون المستعدون لمجيئه ثانيةً: «لِنَفْرَحْ وَنَتَهَلَّلْ وَنُعْطِهِ الْمَجْدَ، لأَنَّ عُرْسَ الْحَمَلِ (المسيح حمل الله) قَدْ جَاءَ، وَامْرَأَتُهُ (الكنيسة) هَيَّأَتْ نَفْسَهَا» (رؤيا 19: 7).

 

قدَّم وليمة الفرح هذه الداعي الغني الكريم المحب، الذي دعا من لا يستحقون. في المرة الأولى وجَّه الدعوة للذين رفضوها بعد أن وعدوا بحضورها، لأنهم غافلون متكبِّرون. وفي سخائه لم يُلغِ العشاء، وأراد أن يشبع به آخرون، فوجَّه الدعوة مَرَّةً ومرة لمدعوّين آخرين من كل مكان «وَلكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ، وَالآخِرُونَ أَوَّلِينَ» (مرقس 10: 31). ولم يكن الآخرون مستحقين ولا مستعدين، لأنهم فقراء من جُدع مشوَّهين، وعُرج وعُمي لم يكن يخطر على بالهم أن صاحب الوليمة سيدعوهم إليها! «مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللّه لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ. فَأَعْلَنَهُ اللّه لَنَا نَحْنُ بِرُوحِهِ» (1كورنثوس 2: 9 و10).

 

تحمَّل الداعي كل التكلفة وقدَّم العشاء العظيم مجاناً، فوصلت دعوته إلى آدم ومعه كل البشر ليأكلوا من شجرة الحياة ويمتنعوا عن الأكل من «شجرة معرفة الخير والشر»، وهي الدعوة التي عصوها. ولكن المسيح يعد بها كل من يطيع، ويقول: «هَا أَنَا آتِي سَرِيعاً وَأُجْرَتِي مَعِي لأُجَازِيَ كُلَّ وَاحِدٍ كَمَا يَكُونُ عَمَلُهُ. أَنَا الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ، الأَوَّلُ وَالآخِرُ. طُوبَى لِلَّذِينَ يَصْنَعُونَ وَصَايَاهُ لِكَيْ يَكُونَ سُلْطَانُهُمْ عَلَى شَجَرَةِ الْحَيَاةِ» (رؤيا 22: 12-14).. ثم وصلت نوحاً، ومعه كل العالم القديم ليحتموا بالفُلك، عندما قال الله: «هَا أَنَا آتٍ بِطُوفَانِ الْمَاءِ عَلَى الأَرْضِ لأُهْلِكَ كُلَّ جَسَدٍ… وَلكِنْ أُقِيمُ عَهْدِي مَعَكَ، فَتَدْخُلُ الْفُلْكَ أَنْتَ وَبَنُوكَ وَامْرَأَتُكَ وَنِسَاءُ بَنِيكَ مَعَكَ» (تكوين 6: 17، 18).. ثم وصلت إبراهيم، ومعه كل الجنس المختار ليحتموا في عناية الخالق الفادي، عندما قال الله له: «اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيك. فَأَجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ، وَتَكُونَ بَرَكَةً» (تكوين 12: 1، 2).. ولا تزال هذه الدعوة تتكرَّر اليوم للجميع ليؤمنوا بالمسيح المخلِّص وبعمله الكفاري لأجلهم: «تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى اسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ الْخَطَايَا، فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (أعمال 2: 38).

 

أُرسلت دعوة العشاء العظيم مرتين: «يقول للمدعوين تعالوا». وقد جاءت دعوة الله لمعاصري المسيح مرة على لسان المعمدان، والثانية بلسان المسيح. وهي تتكرَّر لنا اليوم من المسيح الواقف على باب قلوبنا يقرع ليُشبعنا بعشائه، قائلاً: «هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي» (رؤيا 3: 20)، فإن العشاء العظيم جاهز «كل شيء قد أُعد»، وعلى المدعوين أن يقبلوا الدعوة ليأكلوا.. وهو عشاء وفير و «يوجد أيضاً مكان» «حَسَبَ كَرَمِ الْمَلِكِ» (أستير 1: 7) لكل من يقبل الدعوة.

 

وهناك ثلاثة أسباب على الأقل جعلت المسيح يقول إن الوليمة هي وليمة عشاء:

 

العشاء هو الوجبة الرئيسية: كان طعام الإفطار بسيطاً، يتناوله الإنسان بسرعة قبل أن يخرج إلى عمله، وكان الغداء بسيطاً وسريعاً يتناوله الإنسان في محل عمله. أما العشاء فكان الوجبة الرئيسية الدسمة، التي يجتمع فيها ربُّ الأسرة بأهل بيته. ويقدم الرب لنا أشهى وليمة روحية وصفها المرنم بالقول: «تُرَتِّبُ قُدَّامِي مَائِدَةً» (مزمور 23: 5) فهي مرتَّبة ووفيرة ودسمة، تشبعنا، فندعو آخرين معنا: «ذُوقُوا وَانْظُرُوا مَا أَطْيَبَ الرَّبَّ!» (مزمور 34: 8).

 

يتناول الإنسان عشاءه مستريحاً بعد انتهاء عمل اليوم: ويوجِّه صاحب العشاء دعوته لهذه الوجبة بعد أن يكون ضيوفه قد انتهوا من أعباء عمل يومهم.. إنها وجبة دسمة بعد عناء يوم عمل، وقد آن أوان الراحة الذي يدعونا المسيح إليه بقوله: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (متى 11: 28)، ففي حضرة المسيح تجد الراحة الكاملة.

 

العشاء وليمة أُنس ومحبة: كانت وجبة العشاء تسمح للضيوف أن يتحادثوا ويتسامروا ويستمتعوا بالوقت معاً دون أن يقلقهم شيء عاجل يجب أن يؤدّوه. وقد قصد المسيح أن العشاء العظيم ليس مجرد أكل وشرب، ولكنه أنس ومودَّة، يقول لنا الله فيه: «اسْتَمِعُوا لِي اسْتِمَاعاً وَكُلُوا الطَّيِّبَ، وَلْتَتَلَذَّذْ بِالدَّسَمِ أَنْفُسُكُمْ. أَمِيلُوا آذَانَكُمْ وَهَلُمُّوا إِلَيَّ. اسْمَعُوا فَتَحْيَا أَنْفُسُكُمْ. وَأَقْطَعَ لَكُمْ عَهْداً أَبَدِيّاً» (إشعياء 55: 2، 3).

 

واليوم يدعوك الرب لوليمة عشاء، فيها الشبع الحقيقي لحياتك، وفي قبولها تتمتَّع بالأُنس بالله الذي هو محبة. و «فِي هذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللّهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا» (1يوحنا 4: 10).

 

ثانياً – الذين يرفضون الوليمة

قال رجل حكيم: «يفعل الناس في حياتهم الروحية ما لا يفعلونه أبداً في حياتهم اليومية». فعندما تُوجَّه لنا دعوة لحفل نقبلها، ولكن عندما يدعونا الله للتوبة والتمتُّع بالعشرة معه نتردد ونعتذر. ومساكين أولئك الذين لا يدركون مقدار ما يخسرونه روحياً عندما يرفضون الدعوة للعشاء الروحي العظيم.

 

كان اليهود أول المدعوين للوليمة، ولكنهم رفضوا الدعوة، فقُدِّمت للأمم، وقال المسيح لليهود: «إِنَّ مَلَكُوتَ اللّهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ» (متى 21: 43). واليهود في مثَل العشاء العظيم هم الأغنياء بشريعة موسى ومواعظ الأنبياء. وقد ظنوا أنفسهم أبراراً لأن عندهم شريعة لا توجد عند غيرهم، ومنهم الفريسي الذي افتخر بصلاحه، فرفض الله افتخاره بتقواه، وأعلن قبوله للعشار الخاطئ الذي صرخ: «اللّهمَّ ارْحَمْنِي أَنَا الْخَاطِئَ. فنَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّراً» (لوقا 18: 9-14). وما أكثر من يقولون مع ملاك كنيسة لاودكية: «إني أنا غني وقد استغنيت، ولا حاجة لي إلى شيء» فقال المسيح له: «لَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ أَنْتَ الشَّقِيُّ وَالْبَائِسُ وَفَقِيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ… فَكُنْ غَيُوراً وَتُبْ» (رؤيا 3: 17، 19).

 

قدَّم الرافضون أعذاراً متنوِّعة سخيفة وواهية. ومن الغريب أن الناس مستعدون للاعتذار أكثر من استعدادهم لقبول دعوة الله.. اعتذر واحد بأنه اشترى حقلاً، ومشتري الحقل شغلته الماديات والممتلكات، وقال فيه القس إبراهيم سعيد إنه «في الحقيقة لم يشترِ الأرض، ولكنه باع نفسه للأرض»!.. واعتذر الثاني بأنه اشترى عشر بقرات، فشغلته التجارة والمعاملات.. والذي تزوَّج شغلته الأمور العاطفية.

 

وهناك عامل مشترك في كل هذه الاعتذارات التي قدَّمها المدعوّون الأوَّلون، هو أن ملكوت الله كانت له المكانة الثانية في حياتهم، وفي حالة الشخصين الأوَّلين جاء عملهما قبل ملكوت الله، وكانت العائلة عند الثالث أهم من الملكوت.. ولم يرفضوا لأسباب شريرة، فلا خطأ في شراء الأرض أو الأبقار، ولا عيب في الزواج. لكن الخطأ كان في ترتيب الأولويات ووضع أيٍّ من هذه قبل المسيح، فإن الحسن هو عدو الأحسن. ولم يشعر المعتذرون بقيمة الوليمة، ولا كانوا جائعين لها، لأنهم ظنوا أن الحقول والأبقار والاهتمامات العاطفية تشبع كل احتياجاتهم. لمثل هؤلاء يقول المسيح: «مَنْ أَحَبَّ أَباً أَوْ أُمّاً أَكْثَرَ مِنِّي فَلا يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ابْناً أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلا يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ لا يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُنِي فَلا يَسْتَحِقُّنِي» (متى 10: 37، 38).

 

ويعتذر بعض الناس اليوم عن عدم قبول دعوة الله المشبعة بأعذار واهية، فيقولون مثلاً إن من بين رجال الدين وروّاد الكنائس أشخاصاً سيئين، وهذا يبعدهم عن عبادة الله.. ولكن من يرفض الصحة لأن بعض الأطباء مرضى؟ ومن يحكم على موسيقى بيتهوفن أنها سيئة لأن عازفاً أساء عزفها؟

 

ويقول آخرون إن أمور الحياة تشغلهم بسبب غلاء المعيشة وكثرة المسؤوليات العائلية.. ولكن «مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟» (متى 16: 26).

 

وما أرهب نتيجة الرفض، فإن صاحب الوليمة غضب وقال: «ليس أحدٌ من أولئك الرجال المدعوّين يذوق عشائي».. وفي المثل المشابه الذي رواه المسيح في أسبوع الآلام قال إن عقوبة الذين رفضوا دعوة الملك كانت: «فَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِكُ (باعتذاراتهم) غَضِبَ، وَأَرْسَلَ جُنُودَهُ وَأَهْلَكَ أُولَئِكَ الْقَاتِلِينَ وَأَحْرَقَ مَدِينَتَهُمْ» (متى 22: 7). أما المدعو الذي رفض أن يلبس الحُلَّة الملوكية فقد عاقبه الملك بقوله: «ارْبُطُوا رِجْلَيْهِ وَيَدَيْهِ، وَخُذُوهُ وَاطْرَحُوهُ فِي الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ» (متى 22: 13).

 

أليس غريباً أن يرفض الإنسان امتياز الشبع والأُنس والراحة، ويحصل على البكاء وصرير الأسنان والهلاك؟ «فَتُوبُوا وَارْجِعُوا لِتُمْحَى خَطَايَاكُمْ، لِكَيْ تَأْتِيَ أَوْقَاتُ الْفَرَجِ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ» (أعمال 3: 19).

 

ثالثاً – الذي يدعو للوليمة

ونتوقَّف عند شخصية هامة في المثل، هي شخصية العبد الذي أرسله سيده في ساعة العشاء ليقول للمدعوين: «تعالوا، لأن كل شيء قد أُعِدَّ» فذهب وقدَّم لهم الدعوة. ولا بد أن العبد تألم وتأسف عندما رفض المدعوون الأوَّلون الدعوة، ولكنه علم أن الرَّفض ليس موجَّهاً له بل لسيده، «فأتي ذلك العبد وأخبر سيده بذلك». فأصدر السيد أمره مرة ثانية للعبد: «اخرُج عاجلاً إلى شوارع المدينة وأزقَّتها، وأَدخِل إلى هنا المساكين والجدع والعرج والعمي». فأطاع دون أن يسأل إن كان مثل هؤلاء مستحقين أن يجلسوا على مائدة سيده. وعاد بعد أن دعاهم يقول لسيده: «يا سيد، قد صار كما أمرت. ويوجد أيضاً مكان». فعاد السيد يأمره ثالثة: «اخرُج إلى الطرق والسياجات وأَلزِمهم بالدخول حتى يمتلئ بيتي». ففعل بغير تردد!

 

وكل مؤمن ذاق حلاوة عشاء الرب، ونال خلاصه العظيم يصبح عبداً للرب، لأن المسيح اشترى من المؤمنين أنفسهم بفدائه الكريم، وله كل الحق أن يكلِّفهم بخدمته. وهم يفرحون بطاعة تكليفه لهم كل يوم، ويقومون فوراً بكل ما يطلبه منهم.

 

وعلى كل مؤمن أن يوصِّل دعوة الرب الخلاصية للمحيطين به قائلاً مع الرسول بولس: «الضَّرُورَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَيَّ، فَوَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لا أُبَشِّرُ» (1كورنثوس 9: 16).. هكذا فعل إشعياء النبي. لقد عرف أنه عبدٌ للرب. وعندما سمع دعوةً عامةً من الرب تقول: «مَنْ أُرْسِلُ، وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟» عرف أن الدعوة موجَّهة إليه هو شخصياً، فأجاب: «هَئَنَذَا أَرْسِلْنِي» (إشعياء 6: 8). وكل مؤمن يعلم أنه عبدٌ للرب، كما قال الرسول بولس: « بُولُسُ، عَبْدٌ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الْمَدْعُوُّ رَسُولاً، الْمُفْرَزُ لإِنْجِيلِ اللّهِ» (رومية 1: 1)، لذلك قال: «إِذْ نَحْنُ عَالِمُونَ مَخَافَةَ الرَّبِّ نُقْنِعُ النَّاس… إِذاً نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ الْمَسِيحِ، كَأَنَّ اللّهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ الْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ اللّهِ» (2كورنثوس 5: 11، 20).

 

دعونا نقبل دعوة العشاء العظيم فنشبع بخلاص المسيح المخلِّص، ثم ندعو الجميع ليشبعوا كما شبعنا، وليفرحوا كما فرحنا. «هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هُوَذَا عَبِيدِي يَأْكُلُونَ… هُوَذَا عَبِيدِي يَشْرَبُونَ… هُوَذَا عَبِيدِي يَفْرَحُون… هُوَذَا عَبِيدِي يَتَرَنَّمُونَ مِنْ طِيبَةِ الْقَلْبِ» (إشعياء 65: 13، 14).

 

سؤالان

ما هي المناسبة التي روى المسيح فيها مثل العشاء العظيم؟

اشرح كيف تقوم بدور العبد كما تراه في مثَل العشاء العظيم.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي