3 – ضرورة الغفران مثل العبد الذي لم يرحم

تَقَدَّمَ إِلَيْهِ بُطْرُسُ وَقَالَ: يَا رَبُّ، كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: لا أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ. لِذَلِكَ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً مَلِكاً أَرَادَ أَنْ يُحَاسِبَ عَبِيدَهُ. فَلَمَّا ابْتَدَأَ فِي الْمُحَاسَبَةِ قُدِّمَ إِلَيْهِ وَاحِدٌ مَدْيُونٌ بِعَشْرَةِ آلافِ وَزْنَةٍ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُوفِي أَمَرَ سَيِّدُهُ أَنْ يُبَاعَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَأَوْلادُهُ وَكُلُّ مَا لَهُ وَيُوفَى الدَّيْنُ. فَخَرَّ الْعَبْدُ وَسَجَدَ لَهُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ الْجَمِيعَ. فَتَحَنَّنَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْعَبْدِ وَأَطْلَقَهُ وَتَرَكَ لَهُ الدَّيْنَ. وَلَمَّا خَرَجَ ذَلِكَ الْعَبْدُ وَجَدَ وَاحِداً مِنَ الْعَبِيدِ رُفَقَائِهِ كَانَ مَدْيُوناً لَهُ بِمِئَةِ دِينَارٍ، فَأَمْسَكَهُ وَأَخَذَ بِعُنُقِهِ قَائِلاً: أَوْفِنِي مَا لِي عَلَيْكَ. فَخَرَّ الْعَبْدُ رَفِيقُهُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَطَلَبَ إِلَيْهِ قَائِلاً: تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ الْجَمِيعَ. فَلَمْ يُرِدْ بَلْ مَضَى وَأَلْقَاهُ فِي سِجْنٍ حَتَّى يُوفِيَ الدَّيْنَ. فَلَمَّا رَأَى الْعَبِيدُ رُفَقَاؤُهُ مَا كَانَ حَزِنُوا جِدّاً. وَأَتَوْا وَقَصُّوا عَلَى سَيِّدِهِمْ كُلَّ مَا جَرَى. فَدَعَاهُ حِينَئِذٍ سَيِّدُهُ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ كُلُّ ذَلِكَ الدَّيْنِ تَرَكْتُهُ لَكَ لأَنَّكَ طَلَبْتَ إِلَيَّ، أَفَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّكَ أَنْتَ أَيْضاً تَرْحَمُ الْعَبْدَ رَفِيقَكَ كَمَا رَحِمْتُكَ أَنَا؟. وَغَضِبَ سَيِّدُهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُعَذِّبِينَ حَتَّى يُوفِيَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ. فَهَكَذَا أَبِي السَّمَاوِيُّ يَفْعَلُ بِكُمْ إِنْ لَمْ تَتْرُكُوا مِنْ قُلُوبِكُمْ كُلُّ وَاحِدٍ لأَخِيهِ زَلاتِهِ (متى 18: 21-35).

 

مناسبة رواية المثل:

روى المسيح هذا المثَل بمناسبة سؤال أثاره بطرس بعد أن سمع تعليماً عميقاً عن الغفران، قال فيه المسيح: «إن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما. إن سمع منك فقد ربحت أخاك. وإن لم يسمع فخُذ معك أيضاً واحداً أو اثنين، لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين أو ثلاثة. وإن لم يسمع منهم فقُل للكنيسة. وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار» (متى 18: 15-17). فسأل بطرس: «كم مرة يخطئ إليَّ أخي وأنا أغفر له؟ هل إلى سبع مرات؟».

 

ولعل عدة أفكار كانت تجول في فكر بطرس وهو يثير السؤال، ربما كان أولها التعليم الذي سبق أن سمعه من المسيح: «إن أخطأ إليك أخوك فوبِّخه. وإن تاب فاغفر له. وإن أخطأ إليك سبع مرات في اليوم، ورجع إليك سبع مرات في اليوم قائلاً: أنا تائب، فاغفر له» (لوقا 17: 3، 4) فسأل عن عدد مرات الغفران.. وربما كان يفكر في تعليم رجال الدين اليهود الذين قالوا إن الحد الأقصى لمرات الغفران هو ثلاث، اعتماداً على قول أليهو: «هوذا كل هذه يفعلها الله مرتين وثلاثاً بالإنسان ليردَّ نفسه من الحفرة، ليستنير بنور الأحياء» (أيوب 33: 29، 30). فضرب بطرس الثلاثة في اثنين وأضاف واحداً، جاعلاً الحدَّ الأقصى لعدد مرات الغفران سبعاً.. وربما كان يفكر في كلمات الرب على فم النبي عاموس: «من أجل ذنوب.. الثلاثة والأربعة» وقد تكرر هذا التعبير ثماني مرات في الأصحاحين الأول والثاني من نبوَّة عاموس. فجمع بطرس الثلاثة والأربعة، جاعلاً الحدَّ الأقصى لعدد مرات الغفران سبعاً.. أو ربما كان بطرس متأثراً بأن السبعة عدد مقدس، فظنَّ الحدَّ الأقصى لعدد مرات الغفران سبعاً.

 

وكان جواب المسيح على تساؤل بطرس: «لا أقول لك إلى سبع مرات، بل إلى سبعين مرة سبع مرات». ولم يقصد المسيح بهذه الإجابة تحديد رقم 490، بل قصد إطلاق الغفران بدون حدود كما أن الله يغفر بلا حدود، لأن الذي يحاول أن يحصي أخطاء شخص حتى 490 مرة يناله التعب والملل، فيتوقف، ويحوِّل تفكيره من إحصاء السلبيات إلى الغفران والمسامحة. ثم روى المسيح هذا المثل لبطرس ولنا.

 

شخصيات المثل:

نلتقي في هذا المثل بثلاث شخصيات رئيسية: الأولى شخصية الملك الذي أقرض أحد وزرائه مبلغاً كبيراً جداً، لا بد أنه اتفق معه على استثماره ليعود عليه بالربح.. والشخصية الثانية هي شخصية الوزير الطموح الذي لا بد عمل دراسة جدوى لمشروع عظيم، وجد نفسه عاجزاً عن تدبير المال اللازم له، فطلب من الملك الذي أقرضه عشرة آلاف وزنة. ولكن مشروع الوزير لم ينجح، فخسر أموال الملك وعجز عن السداد، فسامحه الملك.. والشخصية الثالثة لرفيق الوزير الذي كان مديوناً له بدَيْنٍ بسيط عجز أيضاً عن الوفاء به، فغضب الوزير الدائن على رفيقه المدين، وأمر ببيعه هو وامرأته وأولاده وكل ما يمتلك ليسدد الدين الصغير!

 

ويقدم المثَل لنا أيضاً مجموعةً من الزملاء الذين كانوا يشاهدون هذه الأحداث، منذهلين من كرم الملك ورحمته مع الوزير المديون، وحزانى على قرار بيع الرفيق العاجز عن السداد، فرفعوا الأمر كله للملك، الذي قال قولته العظيمة: «أيها العبد الشرير، كل ذلك الدَّين تركته لك لأنك طلبت إليَّ! أفما كان ينبغي أنك أنت أيضاً ترحم العبد رفيقك كما رحمتك أنا؟». ثم أمر بتوقيع العقاب على الوزير الذي لم يرحم.

 

ولنا في هذا المثل ثلاثة دروس:

أولاً – إفلاسنا الروحي

هذا ملكٌ عظيم أعطى الوزير مبلغاً، تظهر ضخامته لو عرفنا أن قيمة الضرائب السنوية التي تدفعها أقاليم اليهودية، وأدوم، والسامرة، والجليل، وبيرية، مجتمعةً معاً كانت 800 وزنة، أي أقل من عُشر دين الوزير. ولو تذكرنا أن كل الذهب المستخدم في عمل التابوت كان أقل من 30 وزنة (خروج 38: 24). أما ملكة سبا فقد قدمت هدية كبيرة لسليمان بلغت 120 وزنة (1ملوك 10: 10). واستأجر أمصيا ملك يهوذا من يوآش ملك إسرائيل مئة ألف جندي مدرَّب، وُصفوا بأنهم «جبارو بأس» مقابل مئة وزنة فضة (2أيام 25: 6).

 

وتتضح عظمة الدَّين أيضاً من القول إنه إذا حمل الرجل 60 رطلاً من الذهب، فسنحتاج إلى 8600 رجلاً ليحملوا العشرة آلاف وزنة! بينما يحمل رجل واحد مئة دينار في جيبه، فالدينار أجر عامل في اليوم.

 

لقد كان الملك سخياً في عطائه، كريماً في معاملاته مع وزيره، فلم يمسك ماله عنه ولم يطلب منه ضماناً لأنه عبده الذي يثق فيه، فأعطاه الفرصة أن يستثمر ويربح لنفسه وعائلته، ويحقق منفعة لمن يعملون في مشروعه وللمجتمع الذي يعيش فيه. لكن الوزير لم ينجح، ولم يحقق وعوده للملك، وعجز عن الوفاء حتى بأصل الدين! فكان للملك أن يأمر بسجنه أو يسامحه. وسجد الرجل وطلب مهلة للسداد. ورأى الملك عجز وزيره، فرحمه وأطلقه حراً.

 

وقد روى المسيح هذا المثل ليعلمنا عظمة عطاء الله لنا، فهو «الإله الحي الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها.. وهو يفعل خيراً: يعطينا من السماء أمطاراً وأزمنةً مثمرة، ويملأ قلوبنا طعاماً وسروراً» (أعمال 14: 15، 17). هذا الإله الكريم جهَّز لأبوينا الأوَّلين قبل خلقهما جنة عدن، التي تفوق قيمتها عشرة آلاف وزنة، فقد أعطاهما كل شجر الجنة، ومنحهما سلطاناً مطلقاً على كل الحيوانات والطيور، ووهبهما حياة الراحة والسلام. ولم يمنع عنهما سوى شجرة واحدة. ولكنهما عصيا ربهما فصارا مديونين عريانين عاجزين عن إرضاء ربهما! وسقط آدم فسقطت ذريته، وطُردوا من الجنة بعضهم لبعضٍ عدو!

 

ومن منّا لم يؤتَ من ربِّه وزنات رائعة؟ لقد وهبنا جسداً ونفساً وروحاً، وعائلة تعتني بنا، ووفَّر لنا تعليماً، ووظيفة أو مهنة أو تجارة. ولو أننا حاولنا أن نحصي نِعم الرب علينا لعجزنا، فهي أكثر مما نفتكر وأعظم من أن تُشترى بمال! لكن ما أصدق القول: «ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثُر في الأرض، وأن كل تصوُّر أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم» (تكوين 6: 5) فأمر بالطوفان، وقال بعده: «تصوُّر قلب الإنسان شرير منذ حداثته» (تكوين 8: 21). وقال الحكيم سليمان في صلاته وهو يدشِّن الهيكل الأول: «لأنه ليس إنسانٌ لا يخطئ» (1ملوك 8: 46). وقال المرنم: «إن كنت تراقب الآثام يا رب يا سيد، فمن يقف؟» (مزمور 130: 3). وقال الجامعة: «لأنه لا إنسان صِدّيق في الأرض يعمل صلاحاً ولا يخطئ» (جامعة 7: 20). وقال الرسول يوحنا: «إن قلنا إنه ليس لنا خطية نُضل أنفسَنا وليس الحقُّ فينا» (1يوحنا 1: 8).

 

وكل من يكتشف في نفسه هذا الإفلاس الروحي، يجب أن يعترف بخطاياه تائباً مصلّياً «اللهم، ارحمني أنا الخاطي» (لوقا 18: 13)، ثم يكون رحيماً بالخطائين.

 

ثانياً – عظمة المراحم الإلهية

وقف الوزير أمام الملك مفلساً من المال، ذليلاً تملأه مشاعر الخزي بسبب فشله وعجزه، منتظراً وقوع العقاب. وفي خوف شديد استعطف الملك أن يمهله حتى يوفي الدين الكبير، ووعد أن يظل ملتزماً بسداده، مع أنه لو بيع هو وامرأته وأولاده وكل ما يملكه لما تمكَّن من الوفاء. كان يعلم أنه يستحق أن يُقال له ما قيل للملك بيلشاصر: «منا منا، تَقَيْلُ وفَرْسِينُ. وهذا تفسير الكلام: منا: أحصى الله ملكوتك وأنهاه. تَقَيْلُ: وُزنت بالموازين فوُجدت ناقصاً. فَرْسِ: قُسمت مملكتك وأُعطيت لمادي وفارس» (دانيال 5: 25، 26). ولكنه لجأ إلى مراحم الملك، وكأنه يقول: يا سيدي، إن ذنبي عظيم لكن إمهالك أعظم!

 

وقد ظهرت عظمة رحمة الملك، وتفوَّقت على القصاص، إذ تحنن على المديون، ولم يكتفِ بأن يعطيه مهلةً، بل منحه عفواً شاملاً! ويعلمنا هذا المثَل أننا كلنا أخطأنا وعوَّجنا المستقيم وارتكبنا الشر في عيني الله، فتضخَّمت ديوننا، وحقَّ علينا حكم الموت. وإذ لم يكن لنا ما نوفي به تنازل مالك نفوسنا وسيدنا وسامحنا، فيُقال لنا: «إذ كنتم أمواتاً في الخطايا وغلف جسدكم أحياكم معه، مسامحاً لكم بجميع الخطايا، إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض، الذي كان ضداً لنا، وقد رفعه من الوسط مسمِّراً إياه بالصليب» (كولوسي 2: 13، 14).. لقد «كنا بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين أيضاً. الله الذي هو غني في الرحمة، من أجل محبته الكثيرة التي أحبنا بها، ونحن أموات بالخطايا، أحيانا مع المسيح.. وأقامنا معه، وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع.. لأنكم بالنعمة مخلَّصون بالإيمان، وذلك ليس منكم. هو عطية الله. ليس من أعمال كي لا يفتخر أحد» (أفسس 2: 3-9). فيحقَّ أن نقول مع المرنم: «ما أكرم رحمتك يا الله، فبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون» (مزمور 36: 7).

 

لقد أظهر الرب لنا عظمة مراحمه، فإنه «رحيم ورؤوف، طويل الروح وكثير الرحمة.. مثل ارتفاع السماوات فوق الأرض قويت رحمته على خائفيه.. كما يترأف الأب على البنين يترأف الرب على خائفيه. لأنه يعرف جبلتنا. يذكر أننا تراب نحن» (مزمور 103: 8، 11، 13، 14). ورحمته بلا حدود، فقال المرنم له: «رحمتك قد عظمت فوق السماوات، والى الغمام حقك.. رحمتك يا رب قد ملأت الأرض» (مزمور 108: 4، 119: 64). وقال النبي إرميا إنه لولا هذه الرحمة ما كانت لنا حياة، فإنه «من إحسانات الرب أننا لم نفنَ، لأن مراحمه لا تزول» (مراثي 3: 22).

 

هذه الرحمة تشجعنا لنتوب، طاعةً لنداء الوحي: «مزِّقوا قلوبكم لا ثيابكم، وارجعوا إلى الرب إلهكم لأنه رؤوف رحيم، بطيء الغضب وكثير الرأفة» (يوئيل 2: 13) فيغفر الخطايا فنقول له: «من هو إلهٌ مثلك، غافر الإثم وصافحٌ عن الذنب.. لا يحفظ إلى الأبد غضبه، فإنه يُسرّ بالرأفة» (ميخا 7: 18). لقد كانت رحمة الله مستعدةً أن تعفو عن سدوم وعمورة لو وُجد فيها خمسون باراً (تكوين 18: 26)، وهي التي أشفقت على لوط، الذي لما توانى في الخروج من سدوم أمسك الملاكان بيده وبيد امرأته وبيد ابنتيه «لشفقة الرب عليه، وأخرجاه ووضعاه خارج المدينة» (تكوين 19: 16). وقد عرف عزرا هذه الرحمة فقال لله: «لأنك قد جازيتنا يا إلهنا أقلَّ من آثامنا، وأعطيتنا نجاةً» (عزرا 9: 13) وقال نحميا عن شعبه: «أبوا الاستماع، ولم يذكروا عجائبك التي صنعت معهم، وصلّبوا رقابهم.. وأنت إله غفور وحنان ورحيم، طويل الروح وكثير الرحمة، فلم تتركهم.. لأجل مراحمك الكثيرة لم تُفنِهم ولم تتركهم، لأنك إله حنّان ورحيم» (نحميا 9: 17، 31). إنها الرحمة التي تجعل خلاصنا ممكناً، لأن خلاصنا «لا بأعمال في برٍّ عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس» (تيطس 3: 5).

 

وقد تبدَّت هذه الرحمة واضحة كالشمس في مجيء المسيح إلى أرضنا، حيث جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلِّط عليهم إبليس (أعمال 10: 38) يشبع الجياع، ويشفي المرضى ويقيم الموتى، و «إذ كنا بعد ضعفاء مات في الوقت المعيّن لأجل الفجار. فإنه بالجهد يموت أحدٌ لأجل بار. ربما لأجل الصالح يجسر أحدٌ أيضاً أن يموت. ولكن الله بيَّن محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا» (رومية 5: 6-8). وعلى صليبه صلى لأجل صالبيه: «اغفر لهم يا أبتاه، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» (لوقا 23: 34). فما أعظم وأروع محبته ورحمته!

 

ثالثاً – ضرورة الرحمة

يعلمنا هذا المثل أن غفران الله لنا يوجب علينا أن نغفر للآخرين. لقد سامح الملك وزيره ولم يعاقبه لأنه استرحمه، وكان يجب أن يسامح الوزير رفيقه المديون له كما سامحه الملك، ولكنه لم يفعل! واستاء الحاضرون من تصرف الوزير وحزنوا جداً وأبلغوه للملك، فغضب وسلَّم وزيره إلى المعذِّبين حتى يوفي كل ما كان له عليه! وعلَّق المسيح على المثل بقوله: «فهكذا أبي السماوي يفعل بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته».

 

وقد علَّمنا المسيح في الصلاة الربانية أن نرفع لله ستَّ طلبات، تقول الخامسة منها: «اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا» (متى 6: 12). وكان التعليق الوحيد الذي عقَّب به المسيح على هذه الصلاة هو قوله: «فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم، يغفر لكم أيضاً أبوكم السماوي. وإن لم تغفروا للناس زلاتهم، لا يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاتكم» (متى 6: 14، 15). فهو يمنحنا رحمة وغفراناً كلما أتينا إليه تائبين معترفين بخطايانا، فإن لم نغفر للمسيئين إلينا يوقع علينا العقاب كما فعل الملك بوزيره.

 

كلنا بشر خطاؤون، تزلُّ أقدامنا وتعثر في الطريق، فلنسمع النصيحة: «أيها الإخوة، إن انسبق إنسان فأُخذ في زلَّةٍ ما، فأَصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة، ناظراً إلى نفسك لئلا تُجرَّب أنت أيضاً. احملوا بعضكم أثقال بعض وهكذا تمموا ناموس المسيح. لأنه إن ظنَّ أحدٌ أنه شيء وهو ليس شيئاً، فإنه يغش نفسه» (غلاطية 6: 1-3).

 

إن غفرنا للمسيئين إلينا نكون قد أطعنا المسيح الذي قال: «طوبى للرحماء لأنهم يُرحمون» (متى 5: 7)، و «هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم» (يوحنا 15: 12)، وعملنا بوصايا الوحي: «لا تدع الرحمة والحق يتركانك. تقلَّدهما على عنقك. اكتبهما على لوح قلبك.. الرجل الرحيم يُحسن إلى نفسه، والقاسي يكدِّر لحمه» (أمثال 3: 3، 11: 17). «قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح، وماذا يطلبه منك الرب، إلا أن تصنع الحق وتحب الرحمة، وتسلك متواضعاً مع إلهك» (ميخا 6: 8).. أما الذين لا يغفرون فإنهم «بلا فهم ولا عهد ولا حنو ولا رضى ولا رحمة» (رومية 1: 31).

 

وجدير بنا أن نتعلم الغفران من سير رجال الله، فيوسف الصدّيق باعه إخوته عبداً، فغفر لهم وملأ أوعيتهم قمحاً، ودفع ثمنه لخزينة الفرعون، وردَّ لهم فضتهم (تكوين 42: 25) ثم عرَّفهم بنفسه وقال: «أنا يوسف أخوكم الذي بعتموه إلى مصر. والآن لا تتأسّفوا ولا تغتاظوا لأنكم بعتموني إلى هنا. لأنه لاستبقاء حياة أرسلني الله قدّامكم.. ليجعل لكم بقية في الأرض، وليستبقي لكم نجاةً عظيمة. فالآن ليس أنتم أرسلتموني إلى هنا بل الله. وهو قد جعلني أباً لفرعون وسيّداً لكل بيته ومتسلطاً على كل أرض مصر» (تكوين 45: 4، 5، 7، 8). وعندما مات يعقوب أبوه قال إخوته بعضهم لبعض: «لعل يوسف يضطهدنا ويردُّ علينا جميع الشر الذي صنعنا به» فأبلغوه وصية أبيه القائلة: «اصفح عن ذنب إخوتك وخطيتهم، فإنهم صنعوا بك شراً». ثم قالوا له: «فالآن اصفح عن ذنب عبيد إله أبيك». فبكى يوسف وقال: «لا تخافوا، لأنه هل أنا مكان الله؟ أنتم قصدتم لي شراً، أما الله فقصد به (بالشر) خيراً، لكي يفعل كما اليوم، ليحيي شعباً كثيراً. فالآن لا تخافوا. أنا أعولكم وأولادكم». فعزّاهم وطيَّب قلوبهم (تكوين 50: 15-21).

 

ونرى في داود صاحب المزامير نموذجاً آخر للغفران. فقد سامح شاول الذي كان مصرّاً على قتله، مع أن شاول وقع في يده مرتين: الأولى في برية عين جدي، ولم يمسه داود بأذى، ولما طلب رجال داود منه وقتها أن يقتل شاول وبَّخهم بقوله: «حاشا لي من قِبَل الرب أن أعمل هذا الأمر بسيدي، بمسيح الرب، فأمدّ يدي إليه، لأنه مسيح الرب هو» (1صموئيل 24: 6). وكانت المرة الثانية التي غفر فيها داود لشاول في برية زيف عندما قال داود لرجاله: «حاشا لي من قِبَل الرب أن أمدَّ يدي إلى مسيح الرب» (1صموئيل 26: 11).

 

وفي حياة الرسول بولس مثال للغفران للإخوة الذين قصَّروا في حقِّه، فقال عنهم: «في احتجاجي الأول لم يحضر أحدٌ معي، بل الجميع تركوني. لا يُحسَب عليهم. ولكن الرب وقف معي وقواني لكي تُتمَّ بي الكرازة ويسمع جميع الأمم، فأُنقذت من فم الأسد» (2تيموثاوس 4: 16، 17).

 

أيها المؤمن، أنت مثل زيتونة خضراء في بيت الله (مزمور 52: 8) والزيتون إن عصرته يعطيك زيتاً. وأنت صدِّيق كالنخلة الزاهية (مزمور 92: 12) والنخلة إن ضربتها بحجر أعطتك بلحاً. فكن كالزيتونة وكالنخلة «إن جاع عدوك فأَطعمه، وإن عطش فاسقه، لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه. لا يغلبنك الشر، بل اغلب الشر بالخير» (رومية 12: 20، 21).

 

إن كنت تشعر بمديونيتك لله فاجتهد أن تحيا حياة الغفران. لقد وهبتك محبة الله الكثير، فامنح غيرك كما منحك، لأنك إن لم تغفر فإنك «في ما تدين غيرك تحكم على نفسك»(رومية 2: 1).

 

سؤالان

1 – ما هي مناسبة رواية مثَل «العبد الذي لم يرحم»؟

2 – لماذا يجب أن نغفر لمن يسيء إلينا؟

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي