2
ب

 

الوصية كنز
مخفي

[9-16]

 

          بدأ
المرتل تسبحته الخاصة بالوصية بالتطويب ليعلن أن
الله ليس بالآمر
الناهي، إنما
هو محب البشر
الذي يطلب لهم الحياة المطوبة أو الحياة الفردوسية المفرحة أو شركة المجد الأبدي.

          في
القطعة الثانية أو الاستيخون الثاني يتحدث المرتل مع الشاب بكونه الكنز الذي يفرح
به
الله ليقدم له
وصيته كنزًا مخفيًا.

          1-
بماذا يقوم الشاب طريقه؟      9.

          2-
الوصية تقدس قلب الشاب     10 – 11.

          3-
الوصية وحياة التسبيح        12.

          4-
الوصية وشهادة الشاب لها    13.

          5-
الوصية غنى الشاب            14.

          6-
الوصية وحياة الهذيذ          16.

1- بماذا
يقوم الشاب طريقه؟

          خلق
الله الإنسان لا
ليذله أو يسيطر عليه، وإنما ليمجده بالكرامة والسلطان (مز 5:9)، وها هو يقدم له
وصيته كنزًا مخفيًا ليقيم منه "ابنة الملك" التي مجدها من الداخل
(مز13:45).

          الآن
إذ يكشف عن الوصية ككنزٍ مخفيٍ يوجه حديثه إلى الشاب، حتى يتفهم الإنسان أن الوصية
ليست أمرًا ثانويًا تقدم للطفل البسيط الذي لا يفكر كثيرًا أو للشيخ الذي حطمه
الزمن، وإنما يقدمها للشاب الذي يتطلع إلى مستقبله بنظرة تفاؤلية في طموحٍ. فإن
كان الشاب طموحًا نحو مجدٍ أو غنى أو علمٍ فليتلامس أولاً مع وصية الرب القادرة أن
تقدس أعماقه وتسنده في جهاده الزمني دون انحرافٍ. وصية الرب هي قانون الشباب،
قادرة أن تهبهم روح الطهارة والعفة.

          ذاك
الذي صار إنسانًا لأجلنا مرّ بمرحلة الشباب لكي يقدم لكل شاب حياته الطاهرة عاملة
فيه، مكرسًا حياة الشباب لحساب ملكوته.

V ربما كان هذا نصيحة عن السن الذي فيه بالأكثر نهتم بتصحيح مسارنا،
وذلك كما كُتب في موضع آخر: "يا ابني اجمع تعليمًا منذ شبابك لكي تجد الحكمة
عندما يشيب شعرك".

القديس
أغسطينوس

          تقديم
الكتاب المقدس الوصية للشاب أولاً إنما هو تكريم له وإعلان عن تقدير
الله لحياته
وقدراته.

          الآن،
من هو هذا الشاب الذي يحتاج إلى تقويم طريقه بحفظه أقوال
الله [9]؟

          ا
– كل الشباب بوجه عام، ففي هذا السن ينتقل الإنسان من مرحلة الطفولة البسيطة إلى
المراهقة المجاهدة، خاصة مع أفكار الجسد؛ لذا يحتاج إلى كلمة
الله التي تكشف
له عن قدسية جسده، وتعلية عواطفه وإضرام مواهبه دون تطرف أو انحراف. يقول العلامة
أوري
جينوس: [هذه
الأقوال الإلهية التي بُذرت في الكتاب الإلهي، إن حُفظت لا تترك الإنسان يسير في
طريق منحرف… يقول إرميا: "جيد للرجل أن يحمل النير في صباه" مرا 27:3.
فإن من يحمل النير بعدما يعبر صباه أي بعدما يرتكب الخطايا؛ أي لم يسلك في الصلاح
حالاً… مثل هذا يلزمه أن يسلك بتدقيق، لمحو الخطايا السابقة (بالتوبة). أما من
يحمل النير منذ صباه، أي يكتسب الصلاح فورًا، إذ لا تجتذبه ثقل الخطايا، لا يُقال
له: "ما لم تجمعه في صباك، كيف تجده في شيخوختك؟]

          لنبدأ
حياتنا مع الرب منذ صبانا دون تأجيل فنجمع بروح الرب ما يسندنا في شيخوختنا، أي
عندما نتعرض لضعف روحي!

          ب
– يرى العلامة أوري
جينوس أن كثيرين
من الذين بلغوا سن النضوج لا يزالوا يسلكون كشباب في شهوات بلا ضابط، بينما يُوجد
شباب حسب الجسد وهم شيوخ مختبرين ذو حكمة روحية عملية.

          ج
– من هو هذا الشاب الذي يجب تقويم طريقه بحفظ أقوال
الله إلا جماعة
الأمم الذين قبلوا "كلمة
الله" المتجسد، بينما رفض قادة اليهود
الذين نالوا معرفة وشرائع ونبوات كأنهم شيخ، لكنهم رفضوا كلمة
الله ولم يحملوا
نير صليبه.

V الشعب الذي كان منتسبًا للأمم في حداثته، وهو الذي كان يسير في
طرق معوجة قبل قبوله الإيمان. كيف يمكن لهذا الشعب أن يقوِّم طريقه إلا بحفظه
أقوالك، أي كلمات الرب؟!

العلامة
أوري
جينوس

V الشاب هو الشعب الأممي الذي آمن بالمسيح، هذا الذي كان سالكًا
طريقًا معوجة، لكنه يقومها بحفظه أقوال
الله التي أوصى بها تلاميذه
كي يعلموها للمؤمنين حين قال لهم: "علموهم حفظ جميع ما أوصيتكم به".

أنثيموس
أسقف أورشليم

          يقول
يوسابيوس القيصري إن كلمة "يقوِّم" جاءت في ترجمة
سيماخوس: "ينير". [بماذا ينير الشاب طريقه؟ هنا يعلمنا المرتل أن الشاب
وهو مملوء بالدنس والنجاسة يحتاج إلى تطهير (واستنارة)، إذ يتساءل المرتل:
"بماذا ينير الشاب طريقه؟ وجاءت الإجابة: بحفظه أقوالك!"]

          إن
كانت الخطية تفسد القلب أي البصيرة الداخلية، فإننا في حاجة إلى أقوال الرب بكونها
النور الذي يبدد الظلمة.

          يربط
القديس أمبروسيوس بين هذه العبارة [9] وبين قول المرتل: "قلت: إني
أحفظ طريقي، وضعت على فمي حافظًا" مز1:39، قائلاً:

          [توجد
بعض الطرق التي ينبغي أن نتبعها، وطرق أخري يجب أن نتحفظ منها.

          يلزمنا
أن نتبع طرق الرب، ونتحفظ من طرقنا لئلا تقودنا إلى الخطية.

          يمكن
للشخص أن يتحفظ إن كان غير مسرعٍ في الكلام. يقول الناموس: "اسمع يا إسرائيل،
الرب إلهك…" تث 4:6. لم يقل: "تكلم"، بل "اسمع".

          سقطت
حواء لأنها قالت للرجل ما لم تسمعه من الرب إلهها. كلمة الرب الأولى تقول لك:
"اسمع!"

          إن
كنت تسمع فإنك تُحفظ من طرقك، وإن سقطت اصلح طرقك سريعًا. لأنه "بماذا
يُقوِّم الشاب طريقه إلا بحفظه كلمة الرب؟!" [9]. أول كل شيء كن صامتًا واسمع
فلا تسقط بلسانك[1].]

القديس
أمبروسيوس

          إذ
يقول المرتل: "لا تبعدني عن وصاياك" [10] يتساءل البعض: هل
يبعدنا
الله عن وصاياه؟
أو كما يترجمها البعض: "يضلنا" عنها؟

V نتساءل ما إذا كان الرب هو الذي يجعلنا نضل عن الوصايا الإلهية.
قد يفكر البعض هكذا…

          يقول
النبي: إنني لم أطلبك ظاهريًا وسطحيًا وإنما: "من كل قلبي طلبتك"، لهذا
فلتكافئني بأن لا تبعدني (تُضلني) عن وصاياك. لنفحص هذا النص ونحاول أن نوفق بينه
وبين القول: "كل من له يُعطى ويزداد، ومن ليس له – حتى وإن ظن أن له – فالذي
عنده يؤخذ منه" (مت 29:25). نقول إن الذي يطلب من كل قلبه، يُعطى له بالعون
الإلهي ما ينقصه حسب طبيعته البشرية حتى يتمم كل وصايا الرب. أما من لا يطلب الرب
بكل قلبه، ممارسًا أعمال الرب بتراخٍ (إر 10:31 )، فسيؤخذ منه ما يظن أنه يعمله
كأعمال
الله.

          حقًا
لقد أبعد
الله شعب الختان
عن وصاياه، محطمًا بذلك الأمور المنظورة التي للوصايا؛ حطم الهيكل وكل ما كان
خاصًا بالرب لإتمام العبادة حسب الشريعة التي حفظوها حرفيًا.

العلامة
أوري
جينوس

          يعتمد
أبوليناريوس على ترجمة أكيلا: "لا تجعلني أخطىء سهوًا
فيقول إن المرتل يخشى ألا يفهم وصايا
الله جيدًا كما يحدث مع
كثيرين خلال نقص الإدراك السليم مما يجعلهم يفهمونها بخلاف ما تعنيه فيسلكون في
غير استقامة. وكما يقول الحكيم سليمان: "توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة ولكن
نهايتها يصل إلى أسفل الهاوية" أم 12:14.

2- الوصية
تقدس قلب الشاب

          ربما
كان داود النبي شابًا حين وضع هذا المزمور أو على الأقل الأجزاء الأولى منه. لقد
أدرك كشاب حاجته إلى الوصية الإلهية، كي ينير الرب بصيرته فيكتشف أعماقها ويختبر
قوتها في حياته. لهذا يصرخ قائلاً:

          "من
كل قلبي طلبتك،

          فلا
تبعدني عن وصاياك
" [10].

          إذ
أدرك المرتل إمكانية الوصية في تقديس قلبه، صار يطلب من
الله بإخلاص،
بكل طاقاته الداخلية ألا يحرمه من وصيته. وفي نفس الوقت كلما تمتع بخبرة الوصية في
أعماقه يزداد لهيب قلبه نحو طلب
الله. إنها سلسلة حب ناري فيها يمارس الشاب
الطلبة الدائمة مع اكتشاف الوصية الإلهية، كل منهما تسند الأخرى.

          جيد
للمؤمن أن يقرأ الوصية أو ينصت إليها أو يحفظها عن ظهر قلب لكن هذا كله لا يحفظه
من الشر مالم يطلبها ويشتهيها من كل قلبه. لهذا نطلب من الله أن يرفع عن قلوبنا
البرقع فنلتقي بكلمة الله في أعماقها ونحاورها ونتجاوب معها لخلاصنا.

V الذي لا يحطم ذهنه وعقله بالعالميات يطلب الله من كل
قلبه، أما من ينشغل تارة في طلب الخلاص وأخرى في الشهوات الجسدية وهموم العالم
الذميمة، فإنه يلبث في الأخيرة ويصير بعيدًا عن وصايا
الله ولا
يفهمها.

أنثيموس
أسقف أورشليم

V بما أن ذكر الله يجعلنا نهرب من الشباك الشيطانية، وحيث
إنني كرست لك يا إلهي كل عقلي وكل إدراكي، لذا فأنا لا أستحق أن أمكث خارج وصاياك.

البابا
أثناسيوس الرسولي

          إذ
يسلم الشاب حياته بين يدّي
الله يسأله ألا يبعده عن وصاياه، بمعنى انه
حتى إن اشتاق في لحظات ضعفه أن يترك الوصية فليصده
الله بكل وسيلة،
ولو بتأديبات قاسية. بذات الروح يصرخ القديس أغسطينوس في لحظات توبته،
قائلاً: "إن قلت لك توبني غدًا، فلتكن توبتي الآن".

          هذا
هو الحب الحق أن يلقي الشاب بإرادته بين يديْ
الله ليوّجهها الله حسب إرادته
الصالحة…

          لا
يقف الأمر عند إعلان المرتل الشاب اشتياقه ألا يحرمه
الله من خبرة
الوصية وإدراك أعماق معانيها، وإنما يعترف لله بأنه يتلقف الوصية من يديه ككنزٍ
ثمينٍ لا يأتمن أن يودعه إلا في قلبه… يخفيه فيه حتى لا يتسلل إليه عدو ويغتصبه
منه. إنه يخفي الوصية في قلبه لكي يلهج فيها لبنيانه الداخلي، ولكي يشهد لها أمام
الغير في الوقت المناسب. إنه لا يخفيها في عقله لئلا تضيع من ذاكرته، إنما في قلبه
لكي بالحب تتحول إلى عملٍ مبهجٍ. يخفي المرتل الوصية في أعماقه لتقدسه فلا يخطىء
إلى
الله، إذ يقول:

          "أخفيت
أقوالك في قلبي،

          لكي
لا أخطىء إليك" [11].

V إنه يخطىء في حق الله من يظن أنه مستحق أن يعلن عن الأقوال
المخفية التي يجب أن تبقى مخفية عن الأشرار، فلا يخبئها عنهم، كاشفًا عنها لمن لا
يجب أن يعرفوها. فإن الخطر لا يقوم على قول الكذب فحسب، وإنما يقوم أيضًا على قول
الحقيقة بالكشف عنها لمن لا يجب أن تعلن لهم. "لا تطرحوا درركم قدام الخنازير،
ولا تعطوا القدس للكلاب" مت 6:7.

العلامة
أوري
جينوس

V من لا يقبل تعاليم الله سطحيًا وظاهريًا كما
يخفيها في قلبه حتى يتقوَّم فكره وأيضًا نياته، فيصير خاليًا من الخطية أمام
الله الذي يرى
الخفيات، فإنه لا يرتكب فقط الزنا بل وكل شهوة شريرة. تطابق هذه الآية الكلمات:
"يا ابني إن قبلت كلامي وخبأت وصاياي عندك حتى تميل أذنك إلى الحكمة" أم
1:2،2.

القديس
ديديموس الضرير

V إن لم نخفِ أقوال الله في قلبنا مثلما نخفي جوهرة يأتي الشرير
ويخطفها (مت19:13).

القديس
أثناسيوس الرسولي

V طلب أولاً العون الإلهي لئلا تُخفى كلمات الله في قلبه بلا ثمر،
حيث لا يتبعها أعمال البر. لهذا فإنه بعد قوله هذا أضاف: "مبارك أنت يارب،
علمني برك" [12].

          لأنني
أخفيت كلماتك في قلبي لكي لا أخطئ إليك يا من أعطيتني الناموس، هبني أيضًا بركة
نعمتك، حتى بعمل ما هو مستقيم أتعلم ما أوصيت به…

القديس
أغسطينوس

          يقدم
أنثيموس أسقف أورشليم ثلاثة أسباب لإخفاء كلام
الله في القلب:

          [ا
– إنه يخفي كلام
الله في قلبه ذاك الذي يحذر من الخطأ؛ ليس فقط في
العمل الظاهر وإنما أيضًا في الفكر الخفي. مثل هذا يجتنب ليس فقط الفسق وإنما
انحراف شهوته وميلها الخفي…

          ب
– وأيضًا الذي يخفي في قلبه أسرار الإيمان ولا يبيح بها للكفار، عاملاً بقوله:
"لا تطرحوا درركم أمام الخنازير".

          جـ
– كذلك من يخفي أقوال
الله في قلبه لئلا تخطفها طيور السماء، أعني
بها الشياطين الساقطين من السماء، فلا تسلبها إياها بواسطة الشك والكبرياء أو بفكر
شرير…]

          يخفي
المؤمن وصية الله – كنزه الثمين – في قلبه، أثمن ما في حياته، مركز الحب والحياة،
وموضع الأمان، فلا يقدر العدو أن يسطو عليه ليغتصبها منه. نخبىء وصية
الله، فلا تقدر
خطية ما أن تختفي في القلب أو تتسلل إليه، إذ لا يمكن للظلمة أن تجد لها موضعًا
حيث يوجد النور.

          ولعل
المرتل أخفى الوصية في قلبه كي يتأملها وينشغل بها فتهضمها معدته الروحية. فكما أن
الطعام الذي لا يُهضم لا يفيد الجسم بشيء هكذا من يسمع الوصية ولا يتأملها وينشغل
بها لا تنتفع بها نفسه.

3- الوصية
وحياة التسبيح

           إذ
يقتني الشاب الوصية ككنز يستحق إخفاءه في القلب، كي يحمله معه أينما وجد، يبعث في
داخله روح التسبيح، قائلاً:

          "مبارك
أنت يا رب،

          فعلمني
حقوقك" [12].

V ذاك الذي طلب الله ملتمسًا هذا بكل قلبه، وأخفي أقواله
الإلهية، نجح في الصلاح واستحق أن يشكره، قائلاً: "مبارك أنت يا رب".

أنثيموس
أسقف أورشليم

          شتان
بين تسبيح يصدر عن الفم دون القلب، وآخر ينبع تلقائيًا خلال شبع القلب بالوصية
وتهليله بعمل
الله فيه، حيث
يبارك المؤمن الرب من أجل كلماته السرية الإلهية التي ائتمنه عليها كإعداد للقلب
ليصير عرشًا لله وهيكلاً له، يسكن فيه فيفيض عليه دائمًا بأسرار جديدة ومعرفة
إلهية.

          سرّ
التسبيح هو تجلي الكلمة الالهي في القلب كمعلمٍ يعلمنا حقوقه، ويهبنا تنفيذ وصيته،
ويقودنا في حياة الشركة مع
الله الآب بروحه القدوس فنشارك السمائيين
تسابيحهم.

V بفمه تفهم كلمته التي يعلنها لنا بإعلانات كثيرة خلال قديسيه وفي
العهدين، الأمر الذي لا تكف الكنيسة عن أن تنطق به في كل العصور بشفتيها.

القديس
أغسطينوس

4- الوصية
وشهادة الشاب لها

          إخفاء
القلب للوصية ككنزٍ ثمينٍ يبعث روح التسبيح والفرح الداخلي. بهذا الروح ينطلق
الشاب للشهادة للوصية أمام الآخرين، إذ يقول:

          "بشفتي
أخبرت كل أحكام فمك
" [13].

          كيف
أظهر المرتل كل أحكام فم
الله بفمه بينما قيل: "أحكامك هي لجة
عظيمة" مز 6:36، كما قيل: "ما أبعد أحكام الرب؟!" (رو33:11)

          يجيب
العلامة أوري
جينوس: [لم يقل
داود النبي: "بشفتي أظهرت كل أحكامك"، بل قال: "بشفتي أظهرت كل
أحكام فمك
". فإن عبارة: "أحكام فم الرب" تعني الأحكام
التي يمكن التعبير عنها، المنطوقة لكي تُنشر وتُعلن. "فم الرب"
هنا هم "الأنبياء"… كما قيل: "فم الرب تكلم" إش20:1؛ هذا
يعني كلمات الرب كما ينطق بها أحد المفسرين.]

          يقول
يوسابيوس القيصري: [أخفيت التعاليم الخفية في قلبي، وأيضًا العلوم والمعارف
المستترة، أما هذه الأحكام فأظهرتها للكل، حيث تدركها كل البشرية وتتفهمها، إذ يجب
أن يظهر الكل أمام كرسي المسيح (2كو10:5).]

V إننا نفهم أنه ليس طريق لشهادات الله أكثر سرعة وأعظم أمانًا
وأقصر وأسمى من المسيح الذي فيه تختفي كل كنوز الحكمة والمعرفة. لهذا يقول إن له
بهجة عظيمة في هذا الطريق كما في كل غنى.

          هذه
هي الشهادات التي بها تنازل ليؤكد لنا أنه هكذا يحبنا…

القديس
أغسطينوس

5- الوصية
غنى الشاب

      
"وفرحت بطريق شهاداتك

        مثل
كل غنى
"
[14].

       كان
داود النبي يشتهي أن يبني بيت الرب، وإذ جاءه الوعد أن يقوم ابنه بهذا الدور فتح
أبواب خزائنه ليجمع الذهب والفضة وكل ما هو ثمين، لا ليفتخر بالغنى والثروة، وإنما
ليعد لابنه كميات وفيرة لبناء الهيكل… كان متهللاً بهذا العمل. لقد حُرم داود من
بناء الهيكل على جبل صهيون لكنه فتح خزائن قلبه لغنى الوصايا الإلهية الوفيرة التي
تقيم مقدسًا للرب في أعماقه، وتحول حياته بكل ما فيها من متاعب وآلام إلى شهادة حق
لله!

V سبق أن تكلمنا عن "الشهادات" (الاستشهاد). طريق
الشهادات يتحقق عندما نسلك "ليس عن حزنٍ أو اضطرارٍ" 2 كو 7:9، وإنما
بفرحٍ كاملٍ كقول داود النبي. وكما جاء في رسالة بولس الرسول إلى أهل كورنثوس:
"أشكر إلهي في كل حين من جهتكم على نعمة
الله المعطاة
لكم في يسوع المسيح، انكم في كل شيء استغنيتم فيه في كل كلمة وكل علم"
1كو4:1-5. لأن الغنى متنوع لذلك يقول: "إنكم في كل شيء استغنيتم"،
بمعنى: في كل فضيلة، بالعمل والتأمل، حيث يطابق العمل الإدراك.

      حقًا
إن من يحصل على غنى مادي يفرح بسبب هذا الغنى، ليس عندما يكون لديه جزء من الغنى،
وإنما يحصل على "كل الغنى"، كل الأصول الثابتة والمتداولة، أي
العقارات والنقود. هكذا أيضًا من يرغب في الغنى الروحي يفرح ويبتهج عندما ينال غنى
كاملاً، وذلك بفضل تقدمه في شهادات الرب وممارسته للفضائل. كأنه يقول: لتكن
شهاداتك هي التي تغنيني عن كل شيء، لتكن هي فرحي وغناي.

العلامة
أوري
جينوس

6- الوصية
وحياة الهذيذ

     إذ
يخفي الشاب وصايا
الله في قلبه بكونها أسرار الله غير
المنطوق بها يدرك أنها كنزه وغناه الروحي. لهذا لا يتوقف عن الهذيذ أو التأمل
فيها، إذ يقول:

     "بوصاياك
أتكلم (أتأمل)، واتفهم في طرقك،

     
بفرائضك ألهج (أتلذذ)، ولا أنسى كلامك
" [15-16].

V نتعلم من هذه الكلمات أنه يستحيل أن نفهم طرق الرب ما لم نفحص
وصاياه إلى أعماقها، فنستخدم "التأمل الرمزي "… فقد خرج إسحق يتأمل في
الحقل (تك63:24)، ويُذكر أحيانًا عن الأبرار انهم كانوا في تأمل صالح.

      
بالتأكيد إذ نقضي وقتًا طويلاً أمام وصايا
الله "نفهم
طرقه
"، هذه الطرق هي الناموس والأنبياء، وهي تؤدي إلي الطريق الملوكي
الكامل "المسيح" الذي قال عن نفسه: "أنا هو الطريق" يو6:14.

V إنني أتلذذ بفرائض الله، لا بكلمات أو عبارات
جميلة، وإنما بتحقيقها بعد فهمها، لأنه: ليس الذين يسمعون الناموس هم أبرار عند
الله بل الذين
يعملون بالناموس هم يبررون" رو13:2. يتلذذون بفرائض
الله بأعمالهم.
بهذا إذ هم يتلذذون في فرائض
الله لا ينسون كلمات الله أبدًا.

العلامة
أوري
جينوس

إذ يتحدث
القديس جيروم عن مرسيلا إلى صديقتها الملتصقة بها
Principia يقول:

V بهجتها في الكتب الإلهية لا تُعقل كانت تتغنى على الدوام
قائلة: "خبأت كلامك في قلبي كي لا أخطئ إليك"، وأيضًا الكلمات
التي تصف الإنسان الكامل: "في ناموس الرب مسرته، وفي ناموسه يلهج نهارًا
وليلاً" مز2:1. هذا اللهج في الناموس لم تفهمه ككلمات مكتوبة كما يفعل اليهود
والفريسيون، بل تفهمه كعملٍ كقول الرسول: "لذلك أن أكلتم أو شربتم وكل ما
فعلتم فليكن لمجد الله" 1كو31:10… لقد شعرت بالتأكيد أنه حينما تتمم هذه
الوصايا يُسمح لها أن تفهم الكتب المقدسة[2].

القديس
جيروم

          يُلاحظ
في هذه الفقرة أن المرتل لا يفصل بين
الله ووصيته، عندما يقول:
"من كل قلبي طلبتك" يكمل: "فلا تبعدني عن وصاياك". وهذا هو
سرّ غنى الوصية أن من يقتنيها إنما يقتني
الله نفسه، لهذا
نراه يحدث الشباب عن هذا الكنز هكذا:

        1-
اقتنِ أيها الشاب الوصية فتقتني الحياة المستنيرة المقدسة، إذ تقتني
الله القدوس
داخلك [9-11],.

        2-
الوصية تطهر القلب فيشتاق بالأكثر نحو
الله، والاشتياق لله بكل
القلب يدفع الشاب إلى حفظ الوصية [10]، هي سلسلة حب نحو
الله ووصيته!

       3-
إذ يرتمي الشاب في حضن
الله يشعر بتسليم كامل بين يديه، لهذا يسأله:
"لا تبعدني عن وصاياك" [10]. كأنه يقول: حتى إن أردت أن انحرف عن وصيتك،
احمني من هذا بكل وسيلة، حتى إن بدت لي مُرة.

       4-
إن كان قلب الإنسان هو أثمن ما لديه، فإنه يليق به أن يضع كنزه "الوصية
الإلهية" فيه! ليُخفي كنز
الله في قلب المؤمن الثمين في عيني الله!

      إذ
يخفي القلب الوصية يستنير فلا يمكن للخطية أن تحتله أو تتسلل إليه!

      5-
أروع ثمار هذا الكنز المخفي هو امتلاء القلب بالبهجة والتسبيح [12]، حيث يسكن كلمة
الله نفسه في
القلب ليمارس عمله كمعلم [12]، يدرب النفس على حفظ الوصية بفرحٍ، وعلى الشركة مع
السمائيين في حياة التسبيح.

      6- ما
يتمتع به الشاب خفية بسكنى الوصية فيه يتحول إلى شهادة عملية بالفم والعمل [13].
ما يتعلمه في الخفاء يُنادى به على السطوح (مت27:10).

     7-
ينعم الشاب بالوصايا كثروة وفيرة قادرة أن تقيم مقدسًا للرب في داخله.

     8- إذ
يدرك الشاب قيمة هذه الخزائن لا تفارقها عيني قلبه، ولا يمكن لأمرٍ ما أن يشغل
فكره عنها… إنه يتأملها ويتفهمها [15]، ويلهج فيها نهارًا وليلاً ولا ينساها
[16].

 

V
 V  V

 

من وحي
المزمور 119(ب)

 وصيتك هي
غناي!

V مادمت في الجسد فأنا شاب محتاج إلى تقويمٍ مستمرٍ.

   وصيتك
تقوّم حياتي وتقدس قلبي،

   وصيتك
تشبع كل احتياجاتي،

   هي غناي
وكنزي الثمين!

V سَّيج حول قلبي فلا أطلب غيرك!

   إن انحرف
قوِّمه بتأديباتك الأبوية،

   فلا
أبتعد عن وصاياك.

V احفظ قلبي كله في وصيتك،

   وأحفظ
وصيتك في قلبي،

   أخبئها
فيه لأنها كنزي.

   لقد قبلت
وصيتك بعقلي، أريدها فى قلبي.

   قد
تخونني ذاكرتي فأنسى وصيتك وسط الإغراءات،

   أما قلبي
فيخفي وصيتك، ويعشقها تمامًا.

   لا تقدر
إغراءات ولا ضيقات أن تسحبها من داخلي!

   أين
أحتفظ بوصيتك كي لا يخطفها العدو؟

   قلبي هو
خزانة أمينة مادام مصونًا بنعمتك.

   أخبئ
وصيتك فى قلبي فلا تختبئ معها خطية.

   أخبئها
لكي أتاملها بحبي وكل عواطفي،

   أخبئها
ولا أقدمها لمن يحتقرها ويستهين بها.

   أخبئها
فيه لأحملها معي أينما وجدت؟

V التصقت وصيتك بقلبي،

   من ينزع
عني وصيتك ينزع قلبي ذاته ويحرمنى حياتي.

V إذ أخفي وصيتك في قلبي أراها كل غناي.

   يلهج
فيها قلبي ويتأملها بلا انقطاع.

   أتأملها
لا بأفكارٍ وكلماتٍ فحسب،

   وإنما
بممارستها والحياة بها وفيها.

   أجد في
تحقيقها لذة العشرة معك!

   لارتبط
بالوصية فارتبط بك يا غنى نفسي!

 

3 – ج

 

الوصية …
عزاء في الغربة

[17-24]

 

          إن
كان الشاب يحتاج إلى الوصية الإلهية لتقديس قلبه وأعماقه الداخلية، ينعم بها ككنزٍ
يستحق أن يخفيه، فيمتلىء فرحًا وتهليلاً، ويتلذذ بالتأمل فيها والتعرف على أسرارها،
والعمل بها، والشهادة أمام الغير، فمن جانب آخر يدرك حقيقة موقفه كغريب ونزيل يجد
فيها عزاءه.

الآن ما هي
بركات الوصية لنا كغرباء على الأرض؟

1- الوصية
حياة                             17.

 2- الوصية
استنارة               18.

 3- الوصية
رفيق في الغربة      19،20.

 4- الوصية
والغلبة على الأشرار 21.

 5- الوصية
ترفع عنا العار        22.

 6-الوصية
ومؤامرات الأشرار    23.

 7- الوصية
واللذة الروحية       24.

          تحدث
قبلاً كشابٍ يبدأ طريق حياته العملية باقتناء الوصية الإلهية التي تشبع اشتياقاته
وتحقق آماله بكونها الكنز السماوي؛ الآن إذ بدأ الطريق شعر بالغربة، ليس من يسنده
في مواجهة المتاعب إلا
الله نفسه بكونه صديقه الشخصي الذي يهبه
الحياة ذاتها كمكافأة وكل مقوماتها، ويسنده ضد الشر، وينزع عنه العار.

1- الوصية
حياة

          لعل
المرتل قد حمل مشاعر الابن الراجع إلى أبيه، فقد تطلع من بعيد ليجد الأجراء ينالون
أجرتهم في بيت أبيه ويحيون، أما هو فيموت جوعًا (لو 15). لهذا صرخ إلى أبيه طالبًا
منه أن يهبه أجرة فيحيا كأجير، واعدًا إياه ألا يعود إلى كسر وصيته الأبوية. إنه
في حكم الميت بسبب عصيانه وتركه بيت أبيه، لهذا يصرخ قائلاً:

          "كافيء
عبدك فأحيا، واحفظ أقوالك
" [17].

           لماذا
يقول المرتل "كافيء عبدك

          كلمة
"يكافيء" في العبرية
Gamal، وقد جاءت كل عبارات هذا الاستيخون (المقطع) الثمانية تبدأ في
العبرية بالحرف "ج
gimel".

          يقول
السيد المسيح: "الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة" رو 63:3. فإننا إذ
نلتصق بكلمة
الله الثابتة
إلى الأبد لا يقدر الموت أن يمسك بنا بل نحيا مع الرب إلى الأبد كمكافأة للبنين.
لنطلب أن نُحسب كأجراء، فسيهبنا
الله مكافأة البنين.

          إذ
يرتبط المرتل بالوصية يطلب "الحياة" مكافأة له، إذ بالوصية يدرك
قبوله لدى
الله، فينعم
بالآب أبًا له، وبالكلمة الإلهي أخًا بكرًا ومخلصًا، وبالروح القدس مقدسًا ومعزيًا
وقائدًا له. هذه هي الحياة التي يشتهيها المرتل كمكافأة  لارتباطه بالوصية خلال
النعمة الإلهية.          

          يقول
العلامة أوري
جينوس: [قلبنا
ليس نقيًا، ولا نملك حرية الحديث مع
الله، قائلين في صلواتنا:
"كافيء عبدك"، لأنه إن جاء ليكافئنا فسيجازينا على خطايانا.

من كان
مثلنا نال رحمة من
الله فليقل: "لا تجازينا يا الله حسب
خطايانا، ولا مثل آثامنا تكافئنا". أما من له حرية الحديث مع
الله بضميرٍ
مستريحٍ فيقول: "كافيء عبدك"، لأنه لم يعمل شيئًا يستوجب العقاب.
ولئلا يكون حديثه بافتخار ففي حذر لا يقول: "كافيء" فقط وإنما
"كافيء عبدك"، أي بكوني عبدك الذي أخدمك.]

          ما
هي الحياة التي يطلبها المرتل من
الله مكافأة له كعبد له؟

V بقوله: "فأحيا" لا يطلب طول العمر العادي، إذ
يطلب حياة مرضية لله، لذلك يقول: "وأحفظ أقوالك"، لأن حفظ أقوال
الله وعمل
وصاياه هما العمر الحقيقي وعلة الحياة الأبدية.

أنثيموس
أسقف أورشليم

V كلمة "فأحيا" توحي بحركة حياة في المستقبل.
فإنني لست أفكر في الحياة الحالية، إذ يقول "سأحيا"، وهذا يتمشى
بالتأكيد مع الحياة الحقيقية.

          لنسمع
القديس بولس وهو يتحدث عن نفسه وعن أمثاله: "حياتنا مستترة مع المسيح في
الله، متى أُظهر
المسيح حياتنا فحينئذ تضيئون أنتم أيضًا معه في المجد" (راجع كو3:3).

          لنفهم
"سأحيا" أنها تخص المستقبل، وأيضًا "أخبىء كلامك"
سيكون ذلك حقيقة ليست في مرآة ولا في لغز.

العلامة
أوري
جينوس

V إنني لا أشعر بأنني أتمم وصاياك بدون مكافأة؛ أعطنا أجر هذا حياة
خالدة سعيدة أعيشها وأحفظ أقوالك.

القديس
ديديموس الضرير

V من يقدر أن ينكر أن عطية الحياة هي عمل العظمة الإلهية؟ مكتوب
"أحيي عبدك" [17]. إذن يحيي من هو عبد، أي الإنسان، الذي لم تكن
له حياة من قبل، بل تسلمها كعطية له[3].

القديس
أمبروسيوس

2- الوصية
استنارة

          "اكشف
عن عيني، فأتأمل عجائب من ناموسك
" [18].

V دُعي الأنبياء "رائين" (1صم9:9)، لأنهم رأوا هذا الذي
لم يره غيرهم.

          إبراهيم
رأى يومه (المسيح) وتهلل (يو 56:8).

          خُتمت
السماوات بالنسبة للشعب المتمرد، بينما فُتحت لحزقيال…

          الناموس
روحي (رو 14:7)، لكن الحاجة إلى إعلان يعيننا على فهمه، عندما يكشف الله عن وجهه
لنراه ونعاين مجده[4].

القديس
جيروم

V ليتنا نحن الذن نريد أن نكون كاملين حسب قياس ضعفنا البشري نظن
هذا، أننا لم ننل بعد، ولا أدركنا، ولا صرنا كاملين، وإذ نحن لسنا بعد كاملين…
لنصلِ مع داود قائلين: "افتح عيني لأرى عجائب من شريعتك"[5].

V إن كان نبي عظيم كهذا يعترف أنه في ظلمة الجهل، كم بالأكثر تظنون
يكون ليل عدم إدراكنا نحن الذين هم رضع وأطفال غير مفطومين يحوط بنا؟![6]

القديس
جيروم

V واجبنا إذن أن نقترب إلى الله ونقول:
"افتح عيني فأرى عجائب من ناموسك". هكذا يُعلن لنا عن المسيح[7].

القديس
كيرلس الإسكندري

          إذ
يدرك المرتل أن حياته هى مكافأة أو هبة من عند الله، يشعر بالالتزام أن يكرس هذه
الحياة لحساب الله، لخدمته ونمو ملكوته.

          كلمة
اكشف
unveil هنا تعني رفع البرقع عن العينين "اكشف عن عيني، فأتأمل
عجائب من ناموسك
" [18]. لقد وُجد الناموس بين يدي اليهود لكنهم لم
يتمتعوا بعجائبه، أي بالسيد المسيح الذي "يدعى اسمه عجيبًا" إش 6:9،
لأنه كما يقول عنهم الرسول بولس: "اغلظت أذهانهم، لأنه حتى اليوم ذلك البرقع
نفسه عند قراءة العهد العتيق باقٍ غير منكشف الذي يبطل في المسيح… ونحن جميعًا
ناظرين مجد الرب بوجهٍ مكشوفٍ كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجدٍ إلى
مجدٍ كما من الرب الروح" 2كو14:3، 18. وكأن الرسول يطلب نزع برقع الحرف لنفهم
وصايا العهد القديم ورموزه ونبواته، كما يطلب رفع برقع الخطية حتى ندخل في حياتنا
الجديدة من مجدٍ إلى مجدٍ ونتأهل لرؤية
الله.

          بمعنى
آخر يطلب المرتل وهو بعد تحت ظلال العهد القديم أن يتمتع بالاستنارة، أي ينزع الرب
عن عينيه النظرة الحرفية لكلمات
الله، ويهبه حياة دائمة النمو في الروح…
بهذا يعاين مجد السيد المسيح، أي "عجائب ناموسه".

          الكبرياء
الذي حجب أعين اليهود عن إدراك شخص المسيا بالرغم من وضوح النبوات عنه هو أيضًا
يُفقد الإنسان المسيحي إدراك قوة الإنجيل في حياته العملية.

V أظهر النبي أن عينيه كانتا محتجبتين ببرقعٍ، وذلك مثلما يكون في
داخلنا شر وفساد بسبب "الشيخوخة" التي للإنسان العتيق (كو9:3). لا يقدر
أحد أن ينزع الفساد إلا واحد، وهو كلمة
الله، فقد "أرسل كلمته
فشفاهم، وخلصهم من فسادهم" مز20:106. جاء كلمة
الله وكشف عن
العيون، ورفع البرقع: "عندما نرجع إلى
الله يُرفع
البرقع" 2كو16:3؛ خر34:34.

          يعرف
النبي أنه إذ تملك الوصية تجعلنا نمارس الأعمال الصالحة، لهذا يحاول أن يعرف بركة
الوصية لا بطريقة اليهود (الحرفية) وإنما بقوة وروحانية، لهذا يقول: "اكشف
عن عيني، فأتأمل عجائب من
ناموسك". وإذ يصير لنا الوجه المكشوف
يُعلن مجد المسيح كما في مرآة، ونتحول إلى هذه الصورة، ونتأمل عجائب
الله وناموسه.

V للإنسان الخارجي عينان، وأيضًا للإنسان الداخلي، إذ قيل:
"أنر عيني لئلا أنام نوم الموت" مز 13 (12):3…

          بحفظ
وصايا الرب لا يصير لنا النظر الحاد جسمانيًا، وإنما بحفظ الوصايا الإلهية يصير
لنا بصر الذهن الحاد.

          ترى
عينا إنساننا الداخلي بأكثر كمال: "اكشف عن عيني، فأتأمل عجائب من
ناموسك
"…

          يسوع
وحده له أن يكشف عنهما، فيمكننا أن نفهم الكتب المقدسة، ونتأمل ما عُبِّر عنه
بطريقة غامضة[8].

          العلامة
أوري
جينوس

لنصرخ دومًا
ونحن في أرض غربتنا ليهبنا روح الاستنارة، فنرى وصايا
الله في
أعماقها، وندرك أسرار عمل الثالوث في حياتنا، فترتفع نفوسنا كما بجناحي الروح،
وتتلامس مع عربون المجد المُعد لنا؛ عندئذ نقول: "أقامنا معه وأجلسنا معه في
السمويات" أف6:2.

          لقد
طلب المرتل في غربته عون
الله كي يحيا، والآن يطلب الاستنارة، لأنه
ماذا ينتفع بحياته إن كان في ظلمة، لا يري فيها فيض نعم
الله وإحساناته
عليه؟!

          يستخدم
القديس أغسطينوس
هذه العبارة [ع18] ثم يقول: [أنت تعرف عدم مهارتي وضعفاتي!
علمني! اشفني![9]]

            إننا في حاجة إلى عمل الله – المعلم
الفريد – القادر أن يُقدم تفاسير للكتاب لا لإشباع الذهن فحسب، وإنما يفتح عن
البصيرة الداخلية للتمتع بقوة الكلمة وبهجتها وغناها.

V ليتنا نسأل ذاك "الذي له مفتاح داود الذي يفتح ولا أحد يغلق،
ويغلق ولا أحد يفتح" رؤ7:3، لكي يفتح لنا حجرات الإنجيل فنقول أيضًا مع داود:
"افتح عيني فأتأمل عجائب من ناموسك" [18]…

          إننا
نتوسل إلى الرب لكي يدخل بنا إلى أسراره، ويُحضرنا إلى حجاله، ويسمح لنا أن نقول
مع عروس نشيد الأناشيد: "أدخلني الملك إلى حجاله" نش4:1(
LXX)

          يقول
الرسول إن برقعًا قد وُضع على عيني موسى (2كو13:3-17)، وأنا أقول انه ليس فقط يوجد
برقع على الناموس، بل وأيضًا على الإنجيل لمن لا يفهمه… إذن لنترك الحرف الذي
لليهود، ولنتبع الروح الذي ليسوع، لا بمعنى أننا نحتقر حرف الإنجيل، وإنما كل شيء
قد جاء كي يعبُر – كما هو مكتوب – وإنما بالصعود درجات معينة نتسلق إلى الأماكن
العلوية[10].

القديس
جيروم

3- الوصية
رفيق في الغربة

          "غريب
أنا على الأرض،

          فلا
تخفِ عني وصاياك
" [19].

          كان
داود النبي والملك والمرتل إنسانًا له شهرته، وله إمكانياته وخبراته، ومع هذا حسب
نفسه غريبًا، محتاجًا إلى وصايا الله لتكون له قائدًا ومرشدًا ورفيقًا ومعزيًا له
في غربته.

          عمل
الوصية الإلهية الأساسي هو تهيئة الإنسان للمواطنة السماوية؛ بها يدرك حقيقة موقفه
كغريبٍ ونزيلٍ فينضم إلى رجال الإيمان (عب 13:11-16). وفي نفس الوقت شعوره بالغربة
يدفعه إلى الالتصاق بالوصية كي تسنده كل زمان غربته وترفعه إلى الحياة السماوية.

V من يحب الأرضيات وشهواتها لا يفكر في أن يكون مع المسيح بعد
انتقاله، ولا يقدر أن يقول: "غريب أنا على الأرض"، إذ هو مهتم
بما للأرض. أما من يقول: "لا تخفِ عني وصاياك" فهو قديس… لذلك
يطلب النبي من
الله أن يكشف له
عظائم وصاياه للحياة السماوية.

العلامة
أوري
جينوس

V يحتاج الغرباء على الأرض إلى وصايا الله لكي تحميهم
من أعمال الجسد ومحبة العالم.

          من
يتبع هذه الوصايا تعتاد نفسه عليها، ولا يقدر العالم أن يغلبه.

          لكن
توجد وصايا كثيرة مكتوبة برموز مثل: "والذي على السطح فلا ينزل ليأخذ من
أمتعته شيئًا" مت17:24؛ مر15:13؛ لو31:17؛ "دع الموتى يدفنون
موتاهم" مت22:8… كل هذه ليست واضحة في المعنى، كذلك الوصايا الخاصة
بالذبائح والأعياد والحيوانات الطاهرة والنجسة… لهذا يليق بالغريب على الأرض أن
يطلب من
الله أن يضيء له
وصاياه ولا يخفيها عنه، لكي يتممها ويحبها ويصير بلا لوم…

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس القمص تادرس يعقوب عهد قديم سفر اللاويين 15

يوسابيوس
القيصري

V إننا أجراء أو غرباء على الأرض، إذ نجد مدينتنا فوق، حيث ننال هنا
العربون، وإذ نبلغ ذلك لا نرحل (عنها).

V أولئك الذين محادثتهم في السماء، فإنهم إذ يقطنون هنا بمهارة هم
في الحقيقة غرباء.

القديس
أغسطينوس

          المؤمن
الحقيقي يرى في وصية الرب رفيقًا له في غربته، أشبه بصديقٍ حميمٍ يسنده في مواجهة
الحياة. إنها مصدر تعزية له وسط الآلام، ومصدر لذة روحية، تحول وادي الدموع إلى
حياة فردوسية مفرحة، لهذا لا يمارس الوصية عن إكراهٍ بل بلذة.

          يقول
المرتل:

          "اشتاقت
نفسي إلى اشتهاء أحكامك في كل حين
" [20]

                   يقول
القديس هيلاري أسقف بواتييه
أن المرنم لم يجسر أن يقول بأنه يريد أحكام
الله بل يشتاق أن يكون له نقاوة القلب مع الأعمال حتى يتقبل أحكام الله في
كل حين.

          سبق
فطلب المرتل من الله أن يفتح وصاياه له لكي يتمتع بها، كما طلب أن يفتح
عينيه
الداخليتين لكي يدرك أسرارها ويتمتع بمعرفتها، الآن يطلب منه أن يفتح
نفسه
لكي تحمل إرادة نارية ملتهبة بالشوق نحو وصايا الرب. هكذا تصير الوصية
مفتوحة والبصيرة مفتوحة والأعماق مفتوحة للتمتع بالوصية في لذةٍ روحية.

V أعني أن نفسي قد تمنت حفظ أحكامك، وأن تصنعها بشهوة لا بضجرٍ
ومللٍ، وإنما بإرادة وموالاة دائمًا.

أنثيموس
أسقف أورشليم

V لماذا لم يقل: "اشتاقت نفسي إلى أحكامك" بل
"اشتاقت نفسي إلى اشتهاء"؟ أليس في استطاعتنا اشتهاء أحكام
الله؟…

          ليس
في إمكانية الجميع اشتهاء أحكام
الله في كل حين. فإن البعض لا يرتكبون الخطية
في وقت ما ويرتكبونها في وقت آخر، هؤلاء عندما يشتهون الأحكام يشتهون المكافأة.
أما الإنسان الكامل فهو القادر أن يشتهي الأحكام في كل حين.

العلامة
أوري
جينوس

V لا يقل "فرائضك" بل "أحكامك"، لنفهم
أن أحكام
الله تنجي
بحنانه الإلهي. لذلك يرغب النبي في اشتهائها في كل حين، إذ لا يريد أن يتممها عن
حزنٍ أو اضطرارٍ، وذلك مثل أولئك الذين يتممونها خوفًا من العقاب؛ بل أن يتممها عن
حبٍ ورغبةٍ. بهذا يتحمل بمثابرة ليس فقط الأحكام المريحة بل والمتعبة، سالكًا بكل
قوة في كل عملٍ صالحٍ.

القديس
ديديموس الضرير

V بكونه غريبًا على الأرض إذ صلى ألا تُخفى عنه وصايا الله، حيث يتمتع
بالحب كأمرٍ فريدٍ أو رئيسيٍ، الآن يُعلن أنه يشتهي أن يكون له الحب من أجل
أحكامه. هذه الشهوة تستحق المديح لا الدينونة…

القديس
أغسطينوس

V هكذا هي محبة القديسين في كل الأزمنة، فإنهم لم يتوقفوا قط عن
تقديم ذبيحة دائمة للرب بلا عائق، بل كانوا يعطشون على الدوام ويسألون الرب أن
يشربوا كما ترنم داود قائلاً: "اشتاقت نفسي إلى اشتهاء أحكامك في
كل حين
" [20][11].

           
                                القديس أثناسيوس الرسولي

4- الوصية
والغلبة على الأشرار

          إن
كانت الوصية تبعث لذة في النفس، فهي من جانب آخر تعطي قوة على الجهاد ضد خطط
المتكبرين الذين حادوا على وصايا الرب، كما تعطي قوة للغلبة على روح الكبرياء الذي
يحاربنا كي نحيد عنها.

          "انتهرت
المتكبرين،

          ملاعين
الذين حادوا عن وصاياك" [21].

          انتهر
الله الشيطان
المتكبر وطرده من السماء، كما انتهر فرعون وشاول الملك ونبوخذنصر الخ… فهو ينتهر
المتكبرين ويقاومهم ( يع6:4؛ 1بط5:5) ويبطل تعظمهم (إش11:13) ويشتتهم بفكر قلوبهم
(لو51:1)، ويعطي نعمة للمتواضعين.

V لا يوجد عائق عن نوال أحكام الله، إلا عدم
الرغبة فيها… فإن نورها واضح ومشرق.

القديس
أغسطينوس

V الكبرياء هو سبب الانحراف عن وصاياك يا رب. لذلك انتهرت (يا رب)
المتكبرين، بقولك في إرميا النبي إن الإسرائيليين في كبريائهم قالوا: انصرفنا ولا
نعود إليك، ووضعت لعنات في شريعة موسى ليس فقط على الذين يخالفون وصاياك بل وأيضًا
للذين يميلون عن استوائها المستقيم.

أنثيموس
أسقف أورشليم

V يضل المتكبرون عن وصايا الله. فإن عدم
إتمام وصايا
الله عن ضعف أو
جهل شيء، والضلال عن الوصايا خلال الكبرياء شيء آخر…

القديس
أغسطينوس

V متى لا يكون للشرير قوة في معركته معنا؟…

          يحاربنا
الشرير ليس فقط لكي نفعل الخطية بإصرار…، وإنما لكي نتكبر ونشعر أننا كاملون.
لكن
الله يقاوم
المستكبرين ويعطي نعمة للمتواضعين (أم34:3؛ يع6:4ح 1بط5:5). لذلك كلما تتضع ترتفع
وتجد رحمة عند
الله
(سيراخ18:3)…

          من
يحيد عن الوصية لا يتبعها ما دامت وصية
الله مستقيمة. "ملاعين
الذين حادوا عن وصاياك
"، ليس فقط الذين لا يعملون بها، وإنما حتى الذين
ينحرفون عنها ولو قليلاً.

العلامة
أوري
جينوس

          مع
كل ما يتمتع به المرتل من بركات في طريق غربته بسبب التصاقه بالوصية ينال اتضاعًا
صادقًا لكن بغير خوف من الأشرار المتكبرين. ينال روح الوداعة الغالبة، وذلك كسيده
الحمل المبذول من أجل البشرية والأسد الخارج من سبط يهوذا في مقاومته لإبليس وكل
جنوده.

5- الوصية
ترفع عنا العار

          "دحرج
عني العار والخزي،

           فإني
لشهاداتك ابتغيت" [22].

          أي
عارٍ يريد المرتل من
الله أن ينتزعه منه إلا عار الخطية، إذ يجلب الإثم
إهانة حقيقية في عيني
الله وخزي. فإن الخاطي المصرّ على خطيته يهين
ابن الإنسان ويستحي منه، حاسبًا صليبه حرمانًا وعارًا وخزيًا، لهذا فإن ابن
الإنسان أيضًا يستحي منه (لو26:9)، أما المؤمن التقي الحقيقي فيقول مع الرسول:
"لست أستحي بإنجيل المسيح" رو16:1، كما يقول مع المرتل: "تكلمت
بشهاداتك قدام الملوك ولم أخزَ" مز46:119. من أجل هذا يطلب المرتل أن ينزع
الله عنه الخجل
والعار لكي يشهد لإنجيله حتى أمام مقاوميه، بإيمانه الحق وتوبته الصادقة ونموه
الروحي.

          يرى
المرتل أن الأشرار قد وضعوا عليه حجرًا ضخمًا، كأنهم حسبوه قبرًا يجب إغلاقه بحجر،
وها هو يشعر بالعجز التام على دحرجة هذا الحجر، طالبا التدخل الإلهي.

V تستوجب الخطايا العار والخزي، ففي يوم الدينونة يقوم الخطاة إلى
الخزي والعار الأبدي (دا
2:12)…

          يوجد
نوعان من العار: فمن جهة "اختار
الله أدنياء العالم
والمزدرى" 1كو 28:1، ومن جهة أخرى: "فاعل الشر مرذول أمامه (الرب)"
مز4:15.

          إني
أبغض "الإهانة" التي يهينني بها البشر في جهل، فإنهم يهينون من
يستحق الكرامة لا من يستحق الإهانة…

          إنني
أقول: "دحرج عني العار والخزي فإني لشهاداتك ابتغيت" [22]. لا
تحسبني مستحقًا العار والخزى لأنني حفظت شهاداتك التي قيل عنها: "طوباهم
الذين يحفظون شهاداتك" [2].

العلامة
أوري
جينوس

V إذ يوجد من يجلب عليّ العار والخزي لأنني حفظت وصاياك، "دحرج"
أيها الرب "عني العار" (الذي يجلبه عليّ الأشرار).

          كيف
يُنزع هذا العار وهذا الخزي؟ عندما يأتون إلى معرفة الحق، هؤلاء الذين يهينونني
ويعيرونني ويعتبرونني كلا شىء، فإنهم هم أيضًا سيحفظون وصاياك معي.

القديس
ديديموس الضرير

V في وقت الاضطهاد يغطيني الكفرة بالعار ويخزونني، حينئذ أطلب الحماية
حتى يبطل العار الذي يوجهونه إليّ.

القديس
أثناسيوس الرسولى

          لعل
طلبة المرتل هنا إنما تشير إلى دور الآب في قيامة السيد المسيح فقد دحرج الأشرار
الحجر على قبر المخلص وطلبوا من بيلاطس حراسته وختمه حتى يطمئنوا أنه لن يقوم.
حسبوا أنهم قد دحرجوا عليه عارًا وخزيًا مع أنه لم يرتكب شيئًا إنما اشتهى شهادات
الآب، أي الشهادة لحبه الفائق نحو البشرية ببذل ذاته عنهم.

          إذ
دخل الشعب أرض الموعد أُقيمت الخيمة في "الجلجال" وتعني
"دحرجة" وقال الرب ليشوع: "اليوم قد دحرجت عنكم عار مصر"
يش9:5. هكذا ترافقنا الوصية حتى تخرج بنا من عبودية إبليس (فرعون مصر) وتدخل بنا
في استحقاقات الدم إلى أرض الموعد، أي إلى الحياة الجديدة المقامة في المسيح يسوع.

          يتطلع
داود النبى إلى الكلمة الإلهي (الوصية) الذي يدحرج عنا العار، ولا يبالي بمؤامرات
الأشرار الظاهرة والخفية التي تعمل على دحرجة العار عليه… إن الجلوس مع الكلمة
الإلهي أعظم من الانشغال بمؤامرات الأشرار.

V تدعى الشهادات في اليونانية "مارتيريا"، وتستخدم
نفس الكلمة الآن في اللاتينية، حيث أن هؤلاء الذين من أجل شهادتهم للمسيح قد
انسحقوا بآلام كثيرة، ويصارعون حتى الموت من أجل الحق، يدعون باليونانية شهداء
Martyrs
لذلك عندما تسمعون هذا التعبير الذي صار شائعًا ومبهجًا لنحسب كلمات (المرتل) هنا
كما لو كانت: "دحرج عني العار والخزي، لأني ابتغيت أن أستشهد من
أجلك
". عندما ينطق جسد المسيح هكذا فهل يُحسب ذلك عقوبة عندما ينتهره
الأشرار والمتكبرون ويجعلونه في خزي، إن كان بهذه الوسائل ينال الإكليل؟.

          اُنظروا
فإن الاستشهاد باسم المسيح… ليس فقط عارًا بل هو زينة عظيمة، ليس فقط في عيني
الرب بل حتى في أعين البشر: "كريم هو موت قديسيه". أُنظروا فإن شهداءه
ليس فقط لا يُحتقرون بل ينالون كرامات عظيمة.

القديس أغسطينوس

6- الوصية
ومؤامرات الأشرار

          "جلس
الرؤساء وتقاولوا عليّ،

          أما
عبدك فكان يهتم بحقوقك
" [23].

          يرى
البعض في جلوس الرؤساء هنا مطابقًا لما حدث قبل السبي البابلي حيث جلس النبلاء
والمشيرون مع ملوك بابل وتحدثوا بالشر على اليهود لإثارتهم ضدهم[12].

 إنها صورة
واقعية تتكرر في كل الأجيال حيث يجلس العظماء للإثارة ضد الأتقياء بلا سبب حقيقي.
إنها مقاومة للحق الإلهي نفسه في أشخاص الأتقياء.

          لقد
تحقق هذا مرة ومرات في حياة المرتل داود، فقد جلس شاول الملك وحوله مشيروه
يتقاولون عليه ويخططون لقتله، وتكرر الأمر مع ابنه المتمرد أبشالوم ومعه مشيره
أخيتوفل… ولم يكن داود قد أساء إليهم في شيء، إنما دحرجوا عليه العار والخزي
لعلة واحدة هي عدم قدرتهم على قبول اهتمامه بحقوق
الله.

          في
هذا كان داود النبى رمزًا للسيد المسيح الذي تقاول عليه الرؤساء أو القيادات
الدينية مع المدنية ودحرجوا على قبره حجرًا ليبقى في خزيٍ وعارٍ، أما هو فكان يهتم
بحقوق الآب، أي تحقيق عدالته وحبه لخلاصنا بتقديم ذاته ذبيحة!؟

          ما
تحقق في موت السيد المسيح ودفنه إنما يتم كل يوم في حياة الكنيسة التي هي جسده.
لهذا يصرخ المؤمن طالبًا من
الله أن يدحرج عنه حجر العار ليهبه الحياة
المقامة في المسيح يسوع… لأن ما حلّ به من ضيق إنما هو من تخطيطات الأشرار
ومشوراتهم.

V يحمل هذا النص معنى أعمق وهو أن رؤساء هذا العالم (1كو6:2) يسلطون
أنظارهم على الأبرار، كما كُتب عن المسيح: "قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء
معًا، على الرب وعلى مسيحه" مز2:2. نعم، هذا هو ما أستطيع أن أقوله أن رؤساء
هذا العالم قد اجتمعوا، هؤلاء الذين لهم حكمة هذا الدهر (1كو6:2) يجلسون ويسلطون
أعينهم على الأبرار كي ينصبوا لهم الشباك.

          ليتكلم
هؤلاء الرؤساء أيا كانوا، فإن البار لا يفعل شيئًا سوى التحدث بفرائض الرب؛ هذه
الفرائض التي ينطق بها البار ليست كلمات بشرية!

العلامة
أوري
جينوس

V يعاتبونني تارة عن أخطاء ماضية عارضة وأخرى يهينونني إذ يحسبونني
كلا شيء، كمن هو بلا أدنى اعتبار. لكنني أنا جالس على انفراد وتتجه روحي نحو
الكلمات الإلهية… كانت فرائضك هي مشوراتي.

يوسابيوس
القيصرى

V تذكر أنه ليس بين أحكام الله ما هو أصعب
وما هو مستحق بالأكثر الإعجاب من أن يلتزم الإنسان بمحبة أعدائه.

القديس
أغسطينوس

 

7- الوصية
واللذة الروحية

          "لأن
شهاداتك هي درسي،

          وحقوقك
هي مشورتي
"
[24].

          كأن
المرتل يقول وإن كان الأشرار أصحاب السلطان الزمني قد اجتمعوا عليّ ليدخلوا بي إلى
قبر العار والخزي ويختموا عليه كي لا أقوم، إلا أنني لا أبالي بمشوراتهم ولا
بتصرفاتهم، إذ انشغل بأمرٍ واحدٍ هو دراسة شهاداتك والتلذذ بوصاياك. فإن "شهاداتك
هي درسي وحقوقك هي مشورتي
" أو كما جاء في ترجمة أكيلا: "شهاداتك
هي لذتي مثل أهل مشورتي
" أو ترجمة سيماخوس: "لكن بالأكثر شهاداتك
هي سبب سروري، كالإنسان القريب من قلبي".
كأنه يقول: ليهاجمني كل الأشرار
بكل فكرهم وقدراتهم ولتبقى وصيتك هي الصديق الأوحد القريب جدًا إلى قلبي، بل في
داخلي، هي مصدر قوتي ونصرتي ولذتي وشبعي!

V يغتاب رؤساء هذا العالم عبيد الله ويتقاولون
عليهم، أما هم فلا يبالون، بل يهتمون بدراسة حقوق
الله، مواظبين
عليها.

أنثيموس
أسقف أورشليم

          إذ
أدرك المرتل أنه في أرض الغربة طلب من الرب:

          1-
أن يحسبه ولو كأجيرٍ ليهبه أجرة فيعيش، إذ أوشك أن يموت جوعًا بين الخنازير، وقد
وعده ألا يعود بعد إلى عصيان وصيته [17].

          2-
لا يكفيه في غربته أن يعيش وإنما يحتاج إلى استنارة [18]، فيعاين عجائب
الله، فإنه ماذا
ينتفع بكنوز ثمينة وثروات طائلة وهو لا يقدر على معاينة ما هو حوله أو ما في
داخله؟!

          3-
تكشف الوصية للمؤمن عن حقيقة موقفه أنه غريب على الأرض [19]، وتذكره بهذا التغرب
حتى يطلب المواطنة في السماء، وترافقه في غربته فلا يشعر بالعزلة، وتسنده في
طريقه، وترفعه إلى السماء! إنها رفيق عجيب يدخل أعماق القلب ليلازمه كل الطريق بلا
توقف، يلهبه بالشوق نحو المجد الأبدي [20]

          4-
تهب الوصية الغريب شبعًا داخليًا وسندًا في جهاده، كما تعطيه قوة على مقاومة الشر
دون تخوف من الأشرار المتكبرين. تهبه روح الوداعة فيصير كسيده الحمل الوديع
المبذول لأجل الآخرين وأيضًا كأسدٍ يقاوم الشر ويحطمه [21].

          5-
ترافقنا الوصية في غربتنا حتى تدخل بنا كما إلى الجلجال (دحرجة)، إلى أرض الموعد،
أو إلى الحياة الجديدة، فتدحرج عنا عار الخطية.

          6-
التصاقه بالوصية في أرض غربته تشغله عن مؤامرات الأشرار الذين يبذلون كل الجهد
ليدحرجوا عليه العار والخزي [23].

          7-
عوض مقابلة مؤامرات الأشرار وخططهم بالمؤامرات ينشغل المرتل بدراسة كلمة
الله وطلب
المشورة الإلهية [24].

 

من وحي
المزمور 119(ج)

 وصيتك هي
سندي في غربتي

V في غربتي كثيرًا ما أتحسس أعماقي فلا أجد حياة.

   هب لي
وصيتك، فأتمتع بحياتك في داخلي.

   أتمتع
بالعمر الحقيقي، إذ تختفي أنت في أعماقي.

V وصيتك تهبني حدة النظر،

   لا نظر
البصيرة الخارجية، بل بصيرة القلب،

   وأسراره
مُعلنه في داخلي،

   فأرى
مخلصي متجليًا في أعماقي، والسماء ليست ببعيدة عني.

   تنزع عني
برقع الحرف فأرى ملكوتك بقوة الروح.

   لتفتح عن
عينيَّ فأتمتع برؤية أسرارك!

   لتفتح
أمامي حجرات كتابك المقدس، فأدخل واستريح واستقر فيه.

   هناك
أَنعمُ بك في حجالك أيها العريس السماوي!

   لتفتح
نفسي بالحب ،فتشتهي وصيتك على الدوام، وترتفع إلى سمواتك!

V غريب أنا على الأرض،

    وصيتك
هي رفيقي ومعزيَّ وقائدي.

   تكشف لي
عن مواطنتي السماوية فأنهض مسرعًا نحوها.

V وصيتك غريبة عن المتكبرين،

   هب لي
الاتضاع فالتصق بها في غربتي،

   ولا أسقط
في اللعنة مع الحائدين عنها.

V يعيرني المتكبرون ويتهمونني بالخزي،

   لأقبل
العار والخزي من أجل وصيتك،

   ولا أسقط
تحت عار الانحراف عنها،

   ولا يليق
بي خزي الكاسرين لها،

   وضع
الأشرار حجرًا ضخمًا علىّ كما على فم قبرٍ.

   دحرج هذا
العار عني،

   واعلن
قوة قيامتك وبهجتها فيّ!

   اكشف لهم
عن الحق، فيعرفون وصيتك!

   عوض
إهانتي يكرمونك فيّ أيها الفائق في مجده!

V ليقف المتكبرون ضدي من أجل شهاداتك،

   فإنني
أشتهي أن استشهد من أجلك.

   تتحول
مضايقاتهم لي إلى اكليل مجد أشتهيه!

   وتصير تعييرات
الأشرار لك عند الصليب خلاصًا لنا،

   فهب لنا
أن تحول تعييراتهم لنا إلى تمجيد لك فينا!

   وصيتك هي
مجدي في غربتي حتى في وسط ضيقتي!

 

4 – د

 

أحيني
ككلمتك

[25-32]

 

          في
القطعة السابقة أدرك المرتل حاجته إلى الوصية الإلهية وسط غربته في هذا العالم، كي
تحفظه من الخطايا خاصة الكبرياء، وتسنده من الأشرار الذين لا يطلبون أقل من حياته،
يريدون أن يدخلوا به إلى القبر، ويدحرجون على فمه حجر العار والخزي، بلا سبب حقيقي
سوى ارتباطه بالوصية. وقد وجد المرتل في عزلته هذه الوصية عزاءه وسلواه؛ هي الصديق
الحقيقي الذي يسنده ضد الشر والأشرار تحول تعييراتهم إلى أمجاد. الآن إذ دخل إلى
القبر يصرخ إلى
اللَّه طالبًا ألا يحرمه من كلماته الواهبة الحياة (يو
63:6).

          1-
الوصية والحياة المُقامة                 25.

          2-
الوصية والاعتراف المفرح              26،27.

          3-
الوصية والتحرر من الحزن القاتل      28.

          4-
الوصية والتحرر من روح الكذب        29-31.

          5-
الوصية والقلب المتسع                  32.

1- الوصية
والحياة المُقامة

          لقد
تآمر الرؤساء الروحيون في الشر، أي الشياطين، على المرتل داود، ونصبوا له الشباك
فسقط في خطية تلو خطية، لكنه إذ أدرك أن الذبيحة التي يُسر بها
اللَّه هي القلب
المنكسر والمنسحق (مز 19:51) انحنى بانسحاق حتى التراب، قائلاً: "فإن نفسنا
قد اتضعت حتى التراب، ولصقت في الأرض بطوننا" مز25:44. عرف المرتل أنه لا
خلاص لنفسه بجهاده الذاتي، إنما يحتاج إلى "كلمة
اللَّه"
ونعمته لكي يُنتشل من تراب القبر وتتمتع نفسه بالحياة المُقامة، لهذا يقول:

          "لصقت
بالتراب نفسي، فأحيني ككلمتك
" [25].

          كلمة
اللَّه هي حياة تتفاعل مع نفس الإنسان فيحيا باللَّه، خلالها يتمتع المؤمن باتحاد
سري مع اللَّه مصدر حياته.

          يطبق
البعض هذه العبارة على شخص رب المجد يسوع في لحظات آلامه، حيث حمل خطايانا وقبل أن
يدخل إلى الموت لحسابنا، قائلاً: "نفسي حزينة حتى الموت". ويرى البعض أن
المتحدث هنا هو داود النبي حيث اضطربت نفسه فيه، فجلس على الأرض، وغطى نفسه
بالتراب كعادة بعض الشرقيين قديمًا، كما فعل أيوب (أي20:1) وأصدقاؤه وقت الضيق. إذ
قيل: "ورفعوا أعينهم من بعيد ولم يعرفوه فرفعوا أصواتهم وبكوا ومزقوا كل
واحدٍ جبته وذروا ترابًا فوق رؤوسهم نحو السماء" (أي12:2).

          ربما
شعر المرتل أنه قد التفَّت حوله حبال الخطاة، واشتدت به التجربة جدًا وأن خطيته هي
السبب، أحدرته كما إلى التراب، وكأنه يردد كلمات الرسول بولس: "ويحي أنا
الإنسان الشقي، من ينقذني من جسد هذا الموت؟!" رو24:7. فكشفت ضيقته الخارجية
عن ضعفاته الداخلية. ولعل صرخة المرتل هنا هي من أجل الضيقتين معًا، ضيقة الضعف
الداخلي مع الضيقة الخارجية.

          يعترف
المرتل قائلاً: إن نفسه لم تعد بعد ملتصقة بالرب كما كانت قبلاً. إذ وجد نفسه
ساقطًا في الخطية ،التصقت نفسه بالتراب بفعل الخطية. لقد دمرت الخطية مكانتها
وحطمت علوها الطبيعي.

          حقًا
أن كل نفسٍ خاطئة تكون "ملتصقة بالتراب". (لذا قيل) "وراء
الرب إلهك تسير، وتلتصق به" تث4:13؛ 13:6؛ 30:10؛ هذا ما قيل في الشريعة.

          يرى
المرتل نفسه وقد انحدرت نحو القبر لتلتصق بالتراب فتصير مأكلاً للحية القديمة،
إبليس، إذ قيل: "على بطنكِ تسعين وترابًا تأكلين كل أيام حياتك" تك14:3،
لذلك صرخ إلى الكلمة الإلهية لكي يحمله بروحه القدوس من القبر، وينفض عنه التراب،
ويهبه الحياة الجديدة المرتفعة نحو السماويات، فلا تقدر الحية أن تقتنصه وتبتلعه!

          من
يقدر أن ينفض عنا الالتصاق بتراب هذا العالم إلا كلمة
اللَّه واهب
الحياة والحرية؟! لقد وعد
اللَّه: "أنا أميت
وأحيي" (تث 39:32). ويقول السيد المسيح: "أنا قد أتيت لتكون لهم حياة
وليكون لهم أفضل" (يو 10:10).

          التمتع
بهذه الحياة المقامة تحتاج إلى صراحة ووضوح وانفتاح من جانبنا، فبقدر ما ينفتح
قلبنا على كلمة
اللَّه ونعترف بطرقنا المنحدرة إلى الهاوية يفتح اللَّه عن بصيرتنا
فننعم بأسراره وعجائبه معنا.

V إن كنا نتطلع إلى العالم كبيتٍ واحدٍ عظيم، فإننا نرى السماوات
تمثل القبو، والأرض تمثل الممر. إنه يريد أن ينقذنا من الأمور الأرضية، لنقول مع
الرسول: "مواطنتنا هي في السماء". فالالتصاق بالأرضيات هو موت للنفس،
عكس الحياة التي يصلي من أجلها قائلاً: "أحيني"!

القديس
أغسطينوس

يروي لنا ثيؤدورت
كيف استخدم الإمبراطور ثيؤدوسيوس هذه العبارة عندما أصدر قانونًا كان الكثيرون
ضحية له، وجاء إلى الأسقف أمبروسيوس يقدم التوبة.  فقد أخبر الأسقف
أمبروسيوس روفينيوس أنه قد عزم على منع  الإمبراطور ثيؤدوسيوس من الدخول إلى
المقدسات ولو كلّفه الأمر تسليم حياته للموت، وكان الإمبراطور قد تحرك بالفعل…

       إذ
أبلغ روفينيوس رسالة الأسقف أمبروسيوس قال الإمبراطور: "سأذهب وأقبل العار
الذي استحقه…" وإذ التقى بالأسقف قال: "إنني لا انتهك القوانين
الموضوعة، ولا اطلب أن أعبر إلى المقدسات، لكنني اطلب منك الحِل، واضعًا في
اعتبارك مراحم ربنا جميعًا، ولا تغلق أمامي باب سيدنا المفتوح لكل التائبين. طلب
الأسقف منه تأجيل القانون ثلاثين يومًا حتى يُدرس الأمر جيدًا، ولا يسقط ضحايا بلا
ذنب، وإذ نفذ الإمبراطور يقول ثيؤدريت: [الآن جاء الإمبراطور الأمين 
بجسارة إلى داخل الهيكل المقدس، لكنه لم يُصل لإلهه واقفًا، ولا حتى راكعًا، بل
كان منبطحًا على الأرض وهو ينطق بصرخات داود: "التصقت نفسي بالتراب
فأحييني
حسب كلمتك"[13].

2- الوصية
والاعتراف المفرح

          مارس
داود النبي الاعتراف بِشقَّيه كعادته: اعترافه بخطيته أو بضعفه الشديد حتى بلوغه
تراب القبر، واعترافه بعمل نعمة
اللَّه الواهبة الخلاص
العجيب.

          في
سرّ التوبة والاعتراف نعلن عن موتنا بخطايانا وقيامتنا بعمل
اللَّه العجيب، أو
بمعنى آخر سلوكنا في طريقنا الذاتي هو انطراح في تراب القبر، وقبولنا طريق الرب هو
تمتع بعجائبه. لهذا يعترف داود النبي، وقد فتح أعماق قلبه أمام اللَّه، قائلاً:

          "أخبرت
بطرقي فاستجب لي،

          علمني
حقوقك،

          وطريق
عدلك فهمني،

          فأتلو
عجائبك
"
[26،27].

          يقدم
المرتل قضيته بكاملها أمام
اللَّه، فهو وحده القادر إن
يسمع لشكواه ويستجيب، ويحول حياته إلى عجائب. ربما يقصد بالعجائب هنا تقبله تعزيات
إلهية لا يُنطق بها، وتعزيات سماوية لا يُعبر عنها؛ هذه التي تحول حياته كما إلى
أعجوبة… حيث تتجدد حياته باستمرار.

          يقدم
المرتل كل تفاصيل أموره أمام
اللَّه لكي يتعرف على إرادته
الإلهية.

V من يسلك بمشيئات جسده في طريق شهواته فذاك يمشي حسب طرق إرادته،
وأما من يتجنب المعاصي فهو يمشي طريقًا مؤدية إلى
اللَّه، فيستجيب
له الرب عند طلبه المغفرة، ويهديه إلى عدله، ويعلمه بره، ويفهمه طريق وصاياه،
ويجعله مفكرًا بعجائبه.

أنثيموس
أسقف أورشليم

V عندما نسلك حسب شهوات جسدنا وحسب أفكارنا (أف 3:2)، فإننا نسلك
حسب طرقنا. وبالعكس عندما ننفصل عن الخطية، ونكرس أنفسنا للرب طالبين منه أن
ينقينا، وأن نسلك في طرقه (تث12:10)، عندئذ لا نسلك قط في طرقنا الخاصة، بل نسير
في طرق الرب، ونتقدم فيها.

          يوجد
ذات الفكر في الكلمات: "قلت اعترف لك بذنبي" مز 5:32. بهذا أوضح طرقي
(الخاصة)، معترفًا إنني مذنب إليك (أم 17:18)، لهذا سمعتني وقبلت توبتي. أتوسل
إليك أيضًا أن تكون سيدًا تحكم فيّ بأحكامك، لأنه لا يستطيع أحد أن يتممها بدقة
إلا أنت يا رب هذه الأحكام وسيدها.

العلامة
أوريجينوس

V "أوضحتُ (أخبرت) طرقك"، أي الطرق لتي تقود إليك،
الطرق التي تقود إلى الفضائل. لقد أوضحتها يا سيد بأعمالي، وبالنية المملوءة غيرة،
والأعمال التي تتناسب مع هذه النية وهذا المقصد. "فسمعتني
وأقول للذي سمعني: "علمني حقوقك".

القديس
ديديموس الضرير

V جاء في بعض النسخ "طرقك"، لكن النص الأصح
اليوناني جاء "طرقي"، أي طرقي الشريرة.

          يبدو
لي أنه يقول هكذا: أعترف بخطاياي، وأنت تسمع لي حيث تغفرها لي.

          هكذا
علمني أن أعمل، وليس فقط أن أعرف ما ينبغي أن أعمله. فكما يُقال عن الرب إنه لا
يعرف خطية، ويفهم من ذلك أنه لا يفعل خطية، هكذا يليق بالحق أن يقال أن من يفعل
البر يعرف البر. هذه هي صلاة من هو ينمو في تقدم.

القديس
أغسطينوس

          إذ
نرفض طرقنا الذاتية ونقبل مسيحنا "الطريق" الملوكي ننال عطية المعرفة أو
الفهم، التي تنمو دائمًا بطلبنا إياها وبحفظنا إياها أو سلوكنا فيها. وكأنه بقول
المرتل: "وطريق عدلك فهمني، فأتلو (احفظ) وصاياك" [27] يعلن عن
حاجتنا إلى الطلبة المستمرة لنوال الفهم وإلى تقدير الموهبة بحفظ الوصية أو
ممارستها عمليًا. لأن ممارستها يحمل شهادة لها أمام الغير كما يعطينا فرصة للنمو
فيها.

          إذ
تمتع الرسول بولس بالفهم تحدث عن البر والدينونة العتيدة، لا حديث الفلسفة النظري،
وإنما حديث الخبرة الحية، لذلك ارتعب أمامه الوالي (أع25:24). هذا ويترجم أكيلا
كلمة "أتأمل" "احفظ" أما سيماخوس فيترجمها
"أقص" أو "أتلو".

V لنفهم هذا النص هكذا: "تعلموا فعل الخير" إش17:1، بعد
تعلم الوصايا، فإن هذا يليق بمن أدرك طرقها، أي أن العمل بالوصية يتلاحم مع فهم
مقاصدها.

القديس
ديديموس الضرير

V أستطيع إدراك "طريق" أسرار وصاياك، إذ نلت منك
"الفهم"، وذلك لكي أسلك هذا الطريق واتمتع بفهم
"العجائب". بهذا أخبر بوصاياك وأتحدث عنها خلال حفظي مقاصدها.

العلامة
أوريجينوس

3. الوصية
والتحرر من الحزن القاتل

          "نعست
نفسي من الحزن،

          فثبتني
في أقوالك
"
[28].

          إن
كانت الوصية تسند الإنسان حتى في لحظات ضعفه، فيعترف بخطاياه ويخبر بنعمة
اللَّه الواهبة
برَّ المسيح العجيب، فإنها تسند النفس في لحظات نعاسها أو فتورها أو رخاوتها أو
حزنها لكي تتيقظ وتتشجع وتقوى على الجهاد، وقد جاءت كلمتا "نعست نفسي"
بترجمات متباينة.

          لعله
قد عانى المرتل من حالة إحباط شديدة في فترة معينة، لهذا صرخ إلى اللَّه ليهبه
الرجاء المفرح لمواعيده الإلهية وأقواله.

V يعلم (المرتل) أننا لا نستطيع أن نطرد روح "الحزن"
إلا عن طريق التأمل في التعاليم الإلهية، لهذا يجب أن نكون يقظين كما قال:
"اسهروا وصلوا" مت41:26.

البابا
أثناسيوس الرسولي

V "نعست نفسي من الحزن"، "قطرت نفسي من
الحزن
"

          تقول
الترجمتان الخامسة والسادسة: "قطرت نفسي بقطرات" ويترجمها سيماخوس:
"سالت نفسي بقطرات"… فهو يريد القول بأنه إذ تكون النفس في حالة حزن
وأسى وألم تفقد يقظتها، وتسقط في النعاس المُنهي عنه في القول: "لا تعطي
عينيك نومًا، ولأجفانك نعاسًا" أم4:6. أما من يأخذ بالنص الذي يشهد له أغلب
المترجمين: "سالت نفسي بقطرات من الحزن" فيؤكد أن نفس
الصديق هي منيعة وشديدة الاحتمال، لا تسمح أن تسيل منها قطرة، أما نفس الشرير
فتختلف تمامًا عن نفس الصديق، إذ لا تقدر أن تخفي بداخلها كلمة الرب التي نثقفها
بها. يمكننا القول بأنها تسيل "بقطرات". توجد هذه الفكرة أيضًا
في سفر الأمثال: "يا ابني، لا تسيل جانبًا؛ لا تبرح هذه من عينيك"
أم21:3. وفي رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين: "يجب أن ننتبه أكثر إلى ما
سمعنا لئلا نُسأل جانبًا" عب1:2. من جهة أخرى يصلي قائلاً: "أقمني حسب
كلامك"، أي اجعلني راسخًا، ثابتًا في أقوالك وأن أكون غير مزعزع ولا متغير
بأية وسيلة.

العلامة
أوريجينوس

V بما أن النعاس هو بدء النوم، أي فتور في الحواس وتراخي لها، لذا
استخدمه النبي تشبيهًا لبدء الخطية …

أنثيموس
أسقف أورشليم

V ماذا يعني "نعست"؟ إلا أنه قد يرد الرجاء الذي
يود أن يبلغ إليه.

القديس
أغسطينوس

V في تعبير يثير الإعجاب يوجز داود كل مضار ذلك المرض في عبارة
واحدة: "نعست نفسي من الحزن"، أي من النكبة. حقًا لا يقول ان
جسده بل نفسه قد نعست، لأنه في الحقيقة النفس التي تُجرح بثقل الهوى تنام وسط
التأمل في الفضائل[14].

القديس
يوحنا كاسيان

V من يحب الحق ولا يتفوه قط بكلمة كذب يمكنه القول: "اخترت
طريق
الحق"، ومن يضع أحكام الرب أمام عينيه ويتذكرها في كل كلماته
يقول: "أحكامك لم أنسَ".

يوسابيوس
القيصري

V الاسترخاء هو بداية النوم، هكذا نقول عن النفس عندما تبدأ أن تخطئ
بأنها قد استرخت. كما لو كانت النفس قد انجذبت إلى نعاس الخطية، وعليها أن تقوم
وتستيقظ بتذكرها الصلاح.

يوسابيوس
القيصري

4. الوصية
والتحرر من روح الكذب

          إن
كانت الوصية تسند النفس الخائرة التي استسلمت للنعاس أو صارت تسيل كما بقطرات، فمن
جانب آخر تحفظها من روح الكذب الذي هو روح إبليس، وتهبها روح الحق الذي هو روح
المسيح، فلا تخزى.

          "طريق
الكذب ابعد عني،

          وبشريعتك
ارحمني
"
[29].

V كان في استطاعته أن يقول: "ابعدني عن طريق الكذب". لم
يقل هذا بل قال: "طريق الكذب ابعد عني"، لأن هذا الطريق هو في
داخلي، هو كائن فيّ.

          حقًا
كلما كنا أشرارًا يكون "طريق الكذب" في داخلنا. يلزمنا أن نبذل
كل الجهد حتى نترك هذا الطريق خارج نفوسنا، طالبين على وجه الخصوص معونة الرب.
عندئذ يمكننا القول: عندما تبعده عنا "بشريعتك ارحمني"، طالبين
رحمة
اللَّه بالشريعة
التي وهبنا إياها. وذلك كما نقول لطبيب: لتعمل حسبما يستلزم الفن الخاص بالطب الذي
يقودني إلى الصحة ويهبني الشفاء، سواء باستخدام المشرط أو الكي أو أية وسيلة مؤلمة
يتطلبها الطب وقوانينه (تشريعاته)…

          مادام
طريق الكذب لم يُبعد عنا بعد لن نحصل على رحمة
اللَّه حسب
شريعته.

العلامة
أوريجينوس

V من يبتعد عن طريق الكذب ويقترب من "شريعة" اللَّه بإرادته،
يكون كمن يريد أن تكون عوارضه سليمة تمامًا ومؤيدة بالرب. هذه هي الشريعة التي
تقود إلى إتمام كل الخيرات.

          من
يبغض الجهل تصير فيه رغبة مضادة لذلك الطريق وهو العلم. من يعجز بنفسه أن يبتعد عن
الجهل فليستند على الإيمان (الحق)، طالبًا من معلمه: أبعدني عن الجهل، وبعلمك
وشريعتك ارحمني.

القديس
ديديموس الضرير

          لقد تكررت
كلمة "الكذب" ثمان مرات، وهي سمة الحياة الخاطئة.

          لا يكفي
الجانب السلبي وهو انتزاع طريق الكذب أي إبليس ومملكته من القلب، إنما يلزم الجانب
الإيجابي وهو التمتع بالسيد المسيح حيث مملكته: "طريق الحق" وفي
بعض الترجمات: "طريق الإيمان".

          "اخترت
طريق الحق (الإيمان)

          وأحكامك
لم أنسَ
"
[30].

          كلمة
"حق
emunah" جاءت مشتقة من aman، تعني "يثبت، لا يتغير، يستقر، يثق، يؤمن". فالناموس
الإلهي مستقر وثابت وأكيد ومدبر كل الأمور وذلك بسلطان اللَّه الذي لا يكذب ولا
يخدع[15].

V ينطق بهذا من يحتقر الأمور المنظورة أي الأمور الزمنية الزائلة،
ويتطلع إلى غير المنظورات كأمورٍ أبدية (2كو18:4)؛ فلا يتكلم إلا عنها، وإليها
يريد أن يذهب. فإن "طريق الحق" ليس بالطريق الذي يختاره من ينشغل
هنا على الأرض بالغنى والمجد الأرضي.

          من
يختار أن يسلك في "طريق الحق" بالمعنى الذي فسرناه، لا ينسى
أحكام
اللَّه ولا
مكافأته.

العلامة
أوريجينوس

          اختياره
طريق الحق وتذكره الدائم لأحكام الرب يثبته في شهادات الرب.

          إن
كانت الوصية تدفعنا إلى الصراحة مع أنفسنا، فنعترف بطرقنا ونتوب عن خطايانا، فإنها
تكشف عن نعمة
اللَّه العجيبة
التي تحول ضعفنا إلى قوة، وانشغالنا بالتراب إلى التأمل في الإلهيات. بهذا تنتشلنا
الوصية من الخطية المحطمة للنفس بالغم وتحررنا من الحزن القاتل، وكأنها تقيمنا من
حالة النوم والرخاوة إلى بهجة العمل في ملكوت
اللَّه.

          "لصقت
بشهاداتك يا رب،

          فلا
تخزني
"
[31].

          إذ
سبق فصرخ المرتل يشكو نفسه، قائلاً: "لصقت بالتراب نفسي" [25]
طالبًا من
اللَّه أن يقيمه
من تراب القبر، ويهبه الحياة المقامة. الآن يطلب الالتصاق بشهادات الرب لكي يثبت
في هذه الحياة الجديدة التي في المسيح يسوع.

V من يتحد بالكلمات المُسلمة من أجل شهادة السماء والأرض (للَّه)،
ولا يبتعد عنها قط تصير له ثقة أنه مهما ارتكب من تصرفات تستوجب الخزي (بسبب ضعفه
البشري) يطلب من
اللَّه المغفرة، قائلاً: "يا رب لا تخزني".
مثل هذا يستحق أن يسمع
اللَّه قائلاً له: "أنظر،
قد محوت كغيمٍ ذنوبك، وكسحابةٍ خطاياك” إش22:44. إنه لن يمتلئ خزيًا، لأن الكلمة
الإلهية (الفضيلة) الحالة في نفس الإنسان الذي أخطأ تمحو كل الخطايا السابقة
تمامًا، وتمنحها الغفران من الخطايا. يحل العدل عوض الظلم، والزهد والعفة عوض
النجاسة، والشجاعة عوض الجبن، والتعقل عوض الجنون، وبهذا يتحقق غفران الخطايا الذي
من أجلها جاء ابن
اللَّه لكي يهبنا إياها.

العلامة
أوريجينوس

5- الوصية
والقلب المتسع

          إن
كانت الخطية تحدر النفس إلى تراب القبر [25]، فتصير النفس كما في نعاسٍ دائم [28]،
تسلك في طريق الظلم والموت [29]، ويحل بها الخزي والعار [31]، فإن عمل الكلمة
الإلهي هي الإقامة من تراب القبر، وتقديم المعرفة السمائية وتحقيق عجائب إلهية،
فتحيا النفس في طريق الحق بالإيمان وتنتقص من العار، وتتسع بالحب للَّه وخليقته
السماوية وأيضًا الأرضية. إنه يدخل بها إلى الطريق الضيق بقلبٍ متسعٍ، على عكس
الخطية التي تدخل بنا إلى الطريق الرحب المتسع بقلب ضيق.

          "في
طريق وصاياك سعيت (جريت)

          عندما
وسعت قلبي
"
[32].

V إن طريق وصايا اللَّه ضيقة، وأما قلب من
يجري فيها فرحب ومتسع، لأنه مسكن الآب والابن والروح القدس، يسلكها جاريًا بقلب
متسع… وأما طريق مساوئ الأشرار فمتسعة وقلوبهم ضيقة، لأنه لا موضع للَّه فيها.

أنثيموس
أسقف أورشليم

V الطريق الذي يؤدي إلى الحياة ضيق وكرب (مت 14:7)، وأما القلب الذي
يطوف فيه بجولة حسنة، أي في طريق وصايا
اللَّه، فمتسع ورحب بالكلمة
الإلهية، وهو مقدس ويرى
اللَّه.

          وعلى
العكس الطريق "الواسع والرحب يقود إلى الهلاك" (مت 13:7). أما القلب
(الذي يسلكه) فضيق، لا يقبل أن يقيم فيه منزلاً للآب والابن (يو 23:14)، بل يتجاهل
اللَّه بسبب جهالته.
هذا الإنسان يجعل قلبه ضيقًا بسبب قساوته.

          لنتأمل
أيضًا كيف يعلمنا سليمان أن نسجل الكلمات الإلهية على لوحي قلبنا (أم 4:3؛ 3:7؛
20:22)، معلنًا بأن "الحكمة تنادي في الخارج، في الشوارع تعطي صوتها" (أم
20:1). بقوله "الخارج" لا يقصد الحديث عن الشوارع بل عن القلوب، لكي
يوسعها
اللَّه

العلامة
أوريجينوس

V يليق بقلوبنا أن تتسع وتنفتح قدر الإمكان حتى لا تضيق عليهم في
حدود الجبن الضيقة وتمتلئ بطاقة الغضب الهادر، فنصير عاجزين عن نوال ما يدعوه
النبي "الطريق الرحب" لوصية اللَّه في قلوبنا الضيقة، أو أن نقول
مع النبي: "في طريق وصاياك سعيت عندما وسعت قلبي"[16].

الأب يوسف

V ما كان يمكنني أن أجري (في طريق وصاياك) لو لم توسع قلبي…
أتستطيع أن تفعل ذلك بنفسك؟ يجيب: "لا أستطيع" إنه ليس خلال إرادتي
الذاتية كما لو كانت ليست في حاجة إلى معونتك، بل لأنك وسعت قلبي.

           
        توسيع القلب هو بهجة ننالها في برٍ. هذه عطية اللَّه، أثرها أننا لا
نتضايق من وصاياه خلال الخوف من العقوبة، بل يتسع القلب خلال الحب والبهجة التي
لنا في البرّ.

القديس
أغسطينوس

الوصية
واهبة الحياة

          إذ
يشعر المرتل أن الخطية قد نزلت به ليلتصق بالتراب في قبرٍ مظلمٍ، يطلب الوصية
الإلهية ليلتصق بالمخلص كلمة
اللَّه واهب الحياة.

          1-
يستنجد المرتل بالوصية لكي تُرفع نفسه من التراب [25] حتى لا تبتلعه الحية (تك 14:3).

          2-
التوبة والاعتراف هما الطريق الآمن بقبول عمل الكلمة واهب الحياة [26]. إذ نتحدث
مع
اللَّه في صراحة
عن ضعفاتنا يحدثنا بصراحة عن عجائبه وأسراره، بانفتاح قلبنا نكشف ما لدينا،
وبانفتاح قلبه يكشف لنا ما لديه من جهتنا.

          3-
يرافق التوبة حزن لكنه يهب سلامًا داخليًا وفرحًا بالرب، أما الخطية فتحطم النفس
بالغم الداخلي واليأس… فالوصية الإلهية تنزع عنا الحزن القاتل وتحررنا منه.

          4-
بالوصية نتحرر من روح الكذب أو طريق الكذب الذي ثبت جذوره فينا، ليحتل طريق الحق
موضعه [29،30]، نتحرر من عبودية إبليس لنقبل ملكوت المسيح.

          5-
بالوصية تتحرر النفس من الالتصاق بالتراب لتلتصق بشهادات الرب [31].

          6-
بالوصية نقبل الطريق الضيق باتساع قلبٍ عوض قبولنا بالخطية الطريق الرحب بقلب ضيق.

 

من وحي
المزمور 119(د)

 وصيتك هي
حياتي!

V دخلت بي خطيتي إلى القبر وهناك دفنتني،

كلمتك
ترفعني من التراب، وتهبني الحياة الخالدة.

بوصيتك
اكتشف موتي واعترف به.

وبها أدرك
ما يجب أن أعمله، وتهبني قوة للعمل،

وبها أعترف
بقوة قيامتك يا واهب الحياة!

V فقدت حياتي إذ حلّ بي حالة إحباط، نعست نفسي من شدة الحزن.

من يقدر أن
يهبني الحياة إلا الرجاء المفرح الذي تبعثه وصيتك؟!

استرخت نفسي
ونامت نوم الخطية،

لتيقظها
وصيتك وتقمها بالبهجة يا أيها القيامة!

V حطمني الكذب، طريق الباطل والجهالة،

لتقترب مني
شريعتك، طريق الحق والمعرفة.

من يرتبط
بطريق الباطل يصير باطلاً،

 ومن يلتصق
بطريق الحق يحيا بالحق إلى الأبد!

V بالخطية صارت نفسي قبرًا ضيقًا،

بوصيتك
المتسعة تتسع نفسي بالحب لتسع الكل!

طريق الخطية
واسع، لكنه يهب قلبي ضيقًا بالآخرين،

وطريق
وصاياك ضيق، يهب نفسي اتساعًا للجميع.

 

5
– هـ

 

اهدني في
سبيل وصاياك

[33-40]

 

          كلمة
الله الواهبة
الحياة المُقامة بعد موت الخطية هي القائد الحقيقي للقلب. فالكلمة الإلهي وحده
قادر أن يدخل إلى أعماق النفس، يهبها الاتساع والرحابة وسط ضيق هذا العالم،
ويقودها في طريق الحب عوض الظلم، والحق عوض الباطل، ومخافة الرب عوض خوف الناس،
ومجد برّ المسيح عوض عار الخطية، وعذوبة أحكام
الله عوض ملذات
الزمنيات.

          يقود
الكلمة الإلهي النفس الداخلية ويوجه كل طاقاتها، لكن المؤمن لا يقف في سلبية، إنما
يتجاوب مع عمل الكلمة فيتبعه ويهواه ويتجاوب معه.

          1-
الرب واضع الناموس          33.

          2-
الرب واهب الفهم              34.

          3-
الرب هادي النفس              35.

          4-
يخرجها من طريق الظلم       36.

          5-
ينير العينين بالأبديات                   37.

          6-
يهبها المخافة الإلهية          38.

          7-
ينزع عنها عار الخطية        39.

          8-
يهبها عذوبة الروح            40.

 

1. الرب واضع
الناموس

          "ضع
لي يا رب ناموسًا في طريق حقوقك،

          فأتبعه
كل حين
"
[33].

          لماذا
يطلب المرتل من الرب أن يضع له ناموسًا في طريق حقوقه؟ أما تكفي الشريعة التي بين
يديه التي سلمها الرب لموسى النبي؟ إنه يقدم صلاة لكي يتسلم الله قيادة حياته،
قيادة شخصية، قادرة أن تهب النفس حرية الحركة وتقدم لها عذوبة في تنفيذ الوصية.

          1-
لقد سلم الرب البشرية ناموسه خلال كنيسته سواء في العهد القديم أو العهد الجديد،
لكن تبقى هناك حاجة أن يتمتع كل عضو بناموس
الله بصفته
الشخصية، كرسالة تمس حياته دون انفصاله عن الجماعة، لهذا يقول المرتل: "ضع
لي
". كأنه يقول: "لتخصني يا رب بناموسك عاملاً فيّ أنا شخصيًا".

          ب
– لعل المرتل كان يتطلع إلى ناموس المسيح، ناموس العهد الجديد، بكونه ناموس
الحرية
القادر أن يطهر الداخل، ويحقق الحياة المُقامة للإنسان الداخلي.

          جـ
– لا يعني بكلمة "ضع" هنا أن يُشرِّع قوانين جديدة وإنما يدخل
بوصيته عاملة في حياته، فيصير ناموس الرب بالنسبة له قانون حياته الداخلية
الطبيعي والعذب
. بمعنى آخر تصير الوصية ليست أمرًا ونهيًا إنما عطية ووعدًا
حينما يضع الرب ناموسه بنفسه في النفس إنما يهبها القوة على الحياة به. لهذا يقول
المرتل: "اتبعه كل حين"، إذ يصير الناموس الإلهي قانون حياته،
فلا تنحرف حياته قط عنه!

V يعلمنا (المرتل) أن طريق الحق يحتاج أن يضعه الله ويفحصه
(يتأمله) الناس.

                   يطلبه
لا لمدة قصيرة بل "كل حين"، كل أيام حياته…

أنثيموس
أسقف أورشليم

V للذين يؤمنون بالمسيح ويكونون تحت قيادته طرق كثيرة يلزمهم أن
يسلكوها قبل الدخول إلى الأرض المقدسة، فإنهم بعد أن يخرجوا من مصر ويعبروا كل هذه
المراحل الواردة في الكتاب المقدس يستريحون. "هذه رحلات بني إسرائيل… حسب
قول الرب" (عد 1:33، 2). من الذي نظَّم السبل التي يجب أن يسلكها بنو إسرائيل
في هذه المراحل؟ من إلاَّ الله؟ لقد نظمها بعمود النار والسحابة المضيئة…

          الآن،
تأمل فإن نفس الشيء يحدث روحيًا في مسيرتك، إذا خرجت من مصر، وكنت قادرًا أن تتبع
المخلص يسوع (يشوع) الذي يدخل بك إلى الأرض.

          يبدو
أن موسى (الناموس) هو القائد لكن كان يشوع متواجدًا بجانبه دون أن يقود علانية.
انتظر لكي يقود موسى إلى اللحظة التي فيها يكمل زمانه، عندئذ يأتي ملء الزمان (غل 4:4)
ويقود يسوع… يتسلم يسوع تعليم الشعب ويقدم وصاياه علنًا. إذن فلنسلك فيها ونصلي
قائلين: "ضع لي يا رب ناموسًا، في طريق حقوقك، فاتبعه كل حين"
[33]. إنني أسعى (اتبعه) مادام يوجد "طريق الحقوق". إنه ليس
بالطريق السهل، ولا يحتاج إلى يومين أو ثلاثة أيام أو حتى عشرة أيام، إنما في
الواقع إلى كل أيام الحياة لعلي أجد طريق حقوقه. وبنفس الكيفية أحتاج أن أجد
"طريق الشهادة": "فرحت بطريق شهاداتك مثل كل غنى"
[14]؛ كما يوجد "طريق الوصايا": "في طريق وصاياك سعيت عندما
وسعت قلبي" [32]. كل هذه الطرق هي في أصلها طريق واحد، وهو ذاك الذي يقول:
"أنا هو الطريق" (يو 6:14). لنسلك إذن في كل هذه الطرق حتى نبلغ غايتها
وهو "المسيح".

العلامة
أوري
جينوس

V ماذا يعني "كل حين"؟…

          هل
تعني كل حين، "مادمنا نحيا هنا"، حيث ننمو في النعمة على الدوام، أم بعد
هذه الحياة فمن كان قد عاش في حياة فاضلة يصير كاملاً هناك؟…

V هنا يُفحص ناموس الله مادمنا نتقدم فيه، ذلك بتعرفنا عليه وبحبنا
له، أما هناك فننال كماله لمتعتنا، لا لامتحاننا.

          هناك
لا نطلب أن نبحث عن وجه الله، إذ نراه وجهًا لوجه.

          هنا
يُبحث عنه لكي نتمسك به، أما هناك فلا نجاهد لئلا نفقده.

القديس
أغسطينوس

          كثيرون
يقومون بدور التعليم والهداية، لكن واحدًا يقدر أن يدخل أعماق القلب ويقدم له
ناموس الحب ويهبه إمكانية العمل، لهذا صرخ إليه المرتل طالبًا أن يقوم بهذا الدور
فيتبعه قلبه في طاعة كاملة.

          يتعامل
المعلم مع تلاميذه لا على مستوى الأمر والنهي، وإنما على مستوى الحب والتقدير…
يطلب الطاعة لوصيته وفي نفس الوقت يعطي فهمًا حتى نقبل الوصية بفرحٍ، عالمين
بركاتها وفاعليتها في حياتنا.

2- الرب
واهب الفهم

          إن
كان الرب هو نفسه الطريق، يدخل بنا إليه، ويثبت فينا كي نتبعه كل أيام حياتنا بلا
تراخٍ، فإننا نحتاج إليه ونحن فيه أن يهبنا "الفهم" لنلهج في
الوصية ونتأملها ونفحصها نهارًا وليلاً بفكر مستنير وقلب متسع بالحب.

          "فهمني
(اعطني الحكمة) فافحص ناموسك،

          واحفظه
بكل قلبي
"
[34].

          يهبنا
الرب نفسه الفهم لندرك أسراره، والقدرة لنحفظه في قلوبنا بلا انحراف. كأنه يقول مع
أليهو: "هوذا الله يتعالى بقدرته، من مثله معلمًا؟!" أي 22:36. وفي نفس
الوقت يعد المرتل بأنه سيكون تلميذًا أمينًا لمعلمه الإلهي إذ يحفظ ناموسه بكل
قلبه ولا ينقسم بين تلمذته لمعلمه وحبه للعالم، بل يكرس كل طاقات قلبه لله.

V أعطني الحكمة حتى أستطيع أن اختبر شريعتك عمليًا بانتباه لائق
بها، وهكذا يمكنني أن أستلم من هذه الشريعة الممارسة العملية.

                   اعطني
الفهم الذي يخص العمل والتأمل، بهذا أستطيع أن "أحفظها بكل قلبي
واقترب إليها دون ترددٍ.

                   إن
كان يلزم الحكمة لفهم الشريعة، فأية حكمة يلزم أن يهبها الرب للمرتل حتى يكتشف
فيها غايتها وهدفها؟

العلامة
أوري
جينوس

V لكي نعرف ناموس أعماق الله، والأسرار المختبئة
فيه يلزمنا أن يكون الرب معلمًا. يلزمنا أن نتجه نحو الرب ونطلب منه: "أعطني
الحكمة
فأفحص ناموسك"، وأن نعده في نفس الوقت: "وأحفظه
بكل قلبي
".

يوسابيوس
القيصري

          كثيرًا
ما كان يلجأ العلامة أوريجينوس إلى الشعب لكي يشتركوا معه في الصلاة فيهبه
معلمه السماوي روح الفهم، بروحه القدوس واهب الاستنارة.

V بخصوص هذا السؤال، إذا ما استجاب الرب صلواتكم فوهبني الفهم، وإن
كنا على الأقل مستحقين لقبول معنى الرب، عندئذ سأتحدث معكم بكلمات قليلة…[17]

العلامة
أوري
جينوس

V الرب هو الروح. يلزمنا أن نصلي إليه ليرفع عنا برقع الحرف ويزهر
لنا بهاء روحه[18].

العلامة
أوري
جينوس

          ربما
يمكن للإنسان أن يحفظ الناموس في شكله الحرفي أو الظاهري، لكن
الله وحده
القادر أن يغير القلب ليحفظ الناموس بالروح في الأعماق بكمال حبه.

3- الرب
هادي النفس

          "اهدني
إلى سبيل وصاياك

          فإني
إياها هويت
"
[35].

          لا
تكتفي النفس بالتمتع بالفهم الإلهي لفحص ناموس الرب ولا بالقوة لحفظه بكل القلب
[34] إنما تحتاج أن يمسك
الله بيدها ويقودها بنفسه إلى سبيله الذي
تُسر به هي. إنه لا يقودها بغير إرادتها، لكنه يقودها كطلبها ومسرتها. لعله كان
يصلي إلى الله لكي يريد وأن يعمل الصلاح. وكما يقول الرسول بولس: "الله هو
العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته" في 13:2.

V هذا يعني أنه يريد الشريعة والطريق، إذ يوجد "سبيل
الوصايا
"… سبيل السلوك، هذا الذي سلكه كثير من الأبرار قبلنا، لكن مالم
نأخذ الرب مرشدًا لنا لا نستطيع أن نسلك حسب وصاياه. يلزمنا أن نقتدي بالمسيح
(أف1:5؛ 1تس6:1) وأن نحمل صليبنا ونتبعه (مت 38:10؛24:16).

العلامة
أوري
جينوس

V رغبتي لا حول لها ولا قوة مالم أنت بنفسك تسير بي حيثما أرغب. هذا
بالتأكيد هو السبيل، أي سبيل وصايا الله الذي سبق فقال عنه أنه جرى فيه عندما
وسَّع الرب قلبه. هذا دعاه "سبيلاً"، لأن الطريق ضيق الذي يؤدي إلى
الحياة؛ ومادام ضيقًا لا يستطيع أن يجري فيه إلا بقلب متسع…

القديس
أغسطينوس

          لقد
صرخ الرسول بولس: "لأن الإرادة حاضرة عندي، وأما أن أفعل الحسنى فلست
أجد" رو18:7. كأنه يقول: لقد جعلتني مشتاق إلى طريقك، أريد أن أدخله وأتحرك
فيه، احملني بنفسك فيه وامسك بيدي لأن إمكانياتي عاجزة عن تحقيق حتى ما أريده من
صلاح.

          يعلن
المرتل رغبته الصادقة في الحياة المقدسة، واستعداده للعمل، لكنه لا يقدر أن يبدأ
الطريق ولا أن يسلك فيه بدون نعمة الله، ليقول مع الرسول: "
الله هو العامل
فينا"، "لكي نريد ونعمل من أجل مسرته".

4- الرب
يخرجنا من طريق الظلم والطمع

          "أمل
قلبي إلى شهاداتك لا إلى الظلم (الطمع)
" [36].

          إن
كان المرتل قد سبق فأعلن انه إنما يهوى سبيل أو طريق الرب [35] لكنه لا يأتي بنفسه
أو قلبه، طالبًا من هاديه الإلهي أو مرشده، ليس فقط أن يمسك به وإنما أن يلهب قلبه
حبًا، مجتذبًا إياه إلى شهاداته، حتى قبول الموت شهادة لبرّ
الله ووصاياه،
حافظًا إياه من محبة الأباطيل والزمنيات والطمع والظلم.

V بقوله "أمل قلبي إلى شهاداتك" [36] وأردد عيني عن النظر
إلى الباطل، يعلمنا اجتناب السوء والتمسك بالخير. نعم، إن هذا في سلطاننا
واقتدارنا، لكننا في حاجة إلى معونة
الله ومؤازرته. بهذا المعنى
يقول ربنا: "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا" (يو 5:15).

أنثيموس
أسقف أورشليم

V ينسب القديسون كل شيء إلى الرب. فلنتعلم أننا لا نستطيع أن نصنع
شيئًا بدون الرب؛ يقول الرب: "إن لم تثبتوا فيّ لا تقدرون أن تفعلوا
شيئًا" (راجع يو6:15،5).

          ربما
يعترض أحد على ذلك، قائلاً: إذ أنسب كل شيء للرب، فماذا يخصني أنا؟ لنفحص في كل
موضع ما يخصنا حتى لا يمتزج مع ما يأتي من قبل الرب.

          يقول:
"ضع لي يا رب ناموسًا في طريق حقوقك" [33]. ما يخصنا نحن "أطلبه
في كل حين
" [33].

          مرة
أخرى أطلب من
الله:
"أعطني حكمة فأفحص ناموسك" [34].

          مرة
ثالثة أطلب: "اهدني في سبيل وصاياك" [35]، ماذا يخصني؟ يشير إلى ما
يخصني بالكلمات: "فإني إياها هويت" [35]…

                   لنطلب
ما يأتينا من
الله لكي نحصل
عليه، ولنعده أيضًا بما يعتمد علينا نحن، ولا نتخلى عن وعدنا، حتى لا ننقض الميثاق
الذي يربطنا بالرب.

          هذا
ما يقوله المرتل "أمل قلبي إلى شهاداتك لا إلى الطمع" [36]،
عالمًا بأن الطمع هو رذيلة ذات نفوذ قوي تؤله مكاسب الأشرار، وقد دعاها الرسول:
"عبادة الأوثان" كو3:5.

          هذا
ونتعلم من هذه العبارة أن الطمع لا يتفق مع شهادات الرب.

العلامة
أوري
جينوس

          يقول
أبوليناريوس [إذ يتمسك قلب الإنسان بقوة الشر منذ حداثته (تك 12:8) يحتاج
إلى الرب كي يحول قلبه إلى البرّ، بمعنى أن الرب يوجه قوة عزمنا بالطريقة التي بها
ينظم الأحداث وذلك بعمل الروح القدس (فينا).]

V إن كان قلبنا لا يميل إلى الطمع فإننا نخاف الله وحده لأجل الله،
فيكون هو وحده مكافأتنا عن خدمتنا له. لنحبه لأجل ذاته، لنحبه في داخلنا، ونحبه في
أقربائنا الذين نحبهم كأنفسنا، سواء كان لهم الله أو من أجل أن يكون لهم الله…

V "أملْ قلبي إلى شهاداتك لا إلى الطمع"، لأن
قلبنا وأفكارنا ليست تحت سلطاننا. عندما تُصاب بالعمى فجأة تجعل الذهن والروح في
ارتباك وتقودهما في موضع آخر غير ما تقصده أنت، تدعوهما إلى العالميات وتدخل بهما
إلى الزمنيات وتحضرهما إلى الملذات وتمزجهما بالإغراءات. في نفس الوقت الذي فيه
نستعد لنرفع عقولنا إلى فوق تقتحمنا الأفكار الباطلة وننطرح بالأكثر نحو الأمور
الأرضية[19].

 القديس
أغسطينوس

V إنني سأتكلم بما هو نافع، فاقتطف كلمات النبي: "أمل قلبي
إلى شهاداتك
لا إلى الطمع" [36]، فإن نعمة الكلمة نافعة لا تثير
فينا محبة المال[20].

القديس
أمبروسيوس

5- الرب
ينير العينين بالأبديات

          "أردد
عيني لئلا تعاينا باطلاً،

          وفي
طريقك أحيني
" [37].

          يقول
القديس البابا أثناسيوس الرسولي: [أُعطيت لنا العيون لكي نري خالقنا في
المخلوقات]، لا أن نركز أنظارنا على الأمور الزمنية الباطلة. لأن تركيز أعيننا على
الأمور الزمنية المؤقتة تسحب القلوب إليها، فتحبها وترتبط بها، بهذا تتغرب عن الله
والإلهيات. لهذا يصرخ المرتل كي يهبه الله بعنايته أن يسحب عينيه بعيدًا عن
الزمنيات، وذلك بعمل نعمته الإلهية. إنه لا يغمض أعيننا عن رؤيتها لكنه يهبها أن
تعبر عليها سريعًا ولا تركز عليها.

V الباطل هو جنون المناظر (الخادعة)، هو التأمل فيما لا يليق، تخيل
الفكر الفاسد والمشوش. عرّفه بولس الرسول بوضوح عندما قال: "ببُطل ذهنهم، إذ
هم مظلمو الفكر ومتجنبون عن حياة
الله" أف17:4،18 .

          لنلاحظ
ما يدعى بالذهن الباطل، فإنه إذ ينال الإنسان الذكاء والفطنة فإنه عوض استخدام هذا
الذكاء في التأمل في الحق يسلمه لإبليس الذي يقيده… هذا إذًا ما يصلي من أجله
المرتل، قائلاً: "أردد عيني لئلا تعاينا باطلاً"، فإن هذا أيضًا
هو نعمة من قبل الرب أن يحدث تحول في ذهنه… ويحيا في طريق (الرب)… لأنه هو
نفسه الطريق وهو الحياة، إذ يقول المخلص: "أنا هو الطريق والحياة"
يو6:14.

العلامة
أوري
جينوس

V كل من يصرف وجهه عن الباطل يحيا في طريق الاستقامة الذي هو ربنا
القائل: "أنا هو الطريق والحياة"…

          من
يلفت نظره ناحية (الزمنيات) يسلك طريق الموت، ويغترب عن حياة
الله كقول
السليح (بولس)، ويصيبه ما أصاب امرأة لوط التي التفتت إلى الخلف نحو الباطل. أما
من يرد عينيه لئلا تعاينا الأباطيل فيحيا في طريق
الله ويسلم من
الموت كما سلم لوط.

أنثيموس
أسقف أورشليم

V الباطل والحق يناقضان بعضهما البعض مباشرة. شهوات هذا العالم
باطلة، وأما المسيح الذي يحررنا من العالم فهو الحق. هو الطريق أيضًا الذي فيه
يرغب هذا الإنسان أن يحيا، لأنه هو أيضًا الحياة. كلماته هي: "أنا هو الطريق
والحق والحياة".

القديس
أغسطينوس

V ما هو هذا الباطل، مالم يكن هو التكريس للغنى والجري وراء الملذات
العالمية؟ هذا ما أكده سليمان القائل: "باطل الأباطيل، الكل باطل"
جا2:1.[21]

الأب
فاليريان

V الآن أيها الاخوة الأحباء، قد استعدنا في المسيح عيون القلب التي
فقدناها في آدم. لنقدم الشكر لذاك الذي تنازل لينيرنا فنراه دون استحقاقات من
جانبنا. لنجاهد بكل طاقاتنا وقوتنا فبمساعدته نفتح عيوننا على الخير ونغلقها على
الشر، حسبما طلب النبي من الرب حيث قال: "أردد عيني لئلا تعاينا باطلاً".[22]

الأب قيصريوس
أسقف آرل

V‎ ثم تقول "وكل أباطيلك"؛ والآن كل أباطيل
الشيطان هي جنون المسارح وسباق الخيل والصيد وكل أمثال هذا الباطل؛ يطلب القديس من
الله أن ينقذه منها فيقول: "حول عيني" عن النظر إلى الباطل"
[37][23].

القديس
كيرلس الأورشليمي

          لنسلم
حواسنا في يديْ معلمنا الإلهي كما نسلمه قلوبنا، فخلال النظر سقط آدم في العصيان
وفسد قلبه بالباطل، لهذا يصرخ المرتل طالبًا تقديس عينيه حتى لا تعاينا الباطل،
فيتسلل إلى القلب.

6- الرب
يهبنا المخافة الإلهية

          "ثبت
قولك لعبدك في داخل خوفك
" [38].

          إذ
تتحول بصيرتنا الداخلية عن الأباطيل إلى الطريق الحق أو إلى الرب "الطريق
والحياة"، نطلب من
الله أن يثبتنا فيه وفي مواعيده بتثبيت
مخافته فينا، لا مخافة العبيد المذنبين والمضطربين، وإنما خوف الأبناء الذين يخشون
جرح مشاعر أبيهم.

V لا تتأسس كلمة الله في أولئك الذين ينزعونها عنهم ويعملون بما
يناقضها، إنما تتأسس بواسطة الذين يثبتونها فيهم.

القديس
أغسطينوس

V أريد أن يكون لي خوف مناسب مؤسس على العقل والإدراك… فلا يكون
لنا خوف دون إدراك، ولا إدراك دون خوف.

العلامة
أوري
جينوس

          يقول
القديس أمبروسيوس
أنه يمكن بناء بيت الحكمة فقط إن تأسس خوف الله بعمق في النفس.

7- الرب
ينزع عني عار الخطية

          "وانزع
عني العار الذي ظننته،

          فإن
أحكامك حلوة
" [39].

          سبق
لنا الحديث عن نوعين من العار: عار الخطية الذي يلحق بنا أمام
الله، وعار
الصليب الذي يلحق بنا أمام الناس. الأول يعطي غمًا والثاني يبعث في النفس حلاوة!
هنا يطلب المرتل أن ينزع عنه عار الخطية، لا تعييرات الناس الباطلة! هذا العار
يفقده سلامه مع الله، كما يعثر الآخرين، فيجدفون على الله بسببه. أما نزع العار
فيتحقق بإحلال عذوبة الوصية الإلهية في القلب عوض لذة الخطية.

V إذ ارتكب النبي الخطية بكونه إنسانًا رأي العار يصاحبه أمام
المحاكمة الإلهية بعد القيامة، لهذا يتجه نحو الرب مقدمًا هذه الطلبة…

          بقوله
هذا لا يريد القول: "انزع عارك". حقًا عندما احتمل العار بسبب المسيح
(عب 26:11) لا يُحسب هذا عاري بل هو عار المسيح، لكنني عندما أعاني من العار بسبب
خطاياي ولا أرجع، يلزمني القول: "انزع عاري الذي ظننته، فإن أحكامك حلوة".

العلامة
أوري
جينوس

V إنني واثق أنك تنزع الخزي الذي أخشاه، فإنني متأكد أن أحكامك تزخر
بالصلاح والحب للإنسان.

القديس
ديديموس الضرير

          يقول
المرتل: "أحكامك حلوة"، فإن كلمة الله مشبعة للنفس، هي غذاء مشبع
وحلو لها. لهذا يعاتب العلامة أوريجينوس الشعب الفاتر في سماعه للكلمة،
قائلاً:

          [الكنيسة
تئن وتحزن عندما تحضرون إلى الاجتماع لتسمعوا كلمة الله. تذهبون إلى الكنيسة
بصعوبة حتى في أيام الأعياد، وحتى في حضوركم هذا لا توجد رغبة في سماع الكلمة…

          لقد
عهد إليّ الرب تقديم نصيب الطعام لأهل بيته، أي خدمة الكلمة، في الوقت المعين…
ولكن كيف يمكنني فعل ذلك؟

          أين
ومتى أجد وقتًا لتصغوا إليَّ؟

          تقضون
النصيب الأكبر من وقتكم، تقريبًا كل وقتكم في الأمور العالمية غير الروحية، في
الأسواق والمتاجر… لا يوجد من يهتم بكلمة الله، بالكاد نجد أحدًا يهتم بها…

          ولماذا
أشتكي غير الحاضرين؟ فحتى الذين هم حاضرون، أنتم لا تصغون[24].]

العلامة
أوريجينوس

8- الرب
يهبنا عذوبة الروح

          "هأنذا
قد اشتهيت وصاياك،

          وبعدلك
أحيني
"
[40].

          لم
يقف الأمر عند حبه للوصية بل التهاب الحب في القلب ليصير شهوة مقدسة للتعرف عليها
وممارستها وتعليمها.

V يقول: إنني إذ اشتهيت وصاياك، فلهذا أحيني حسب عدلك، وكافئني، لا
لأني أكملت وصاياك، وإنما لأنني اشتعلت بحب وصاياك…

          حيث
أن عدل (برّ) الآب هو الابن، فإن من يريد أن يحيا في الابن يلزمه أن ينطق بهذه
الكلمات: "فيه مُعلن بر
الله بإيمان لإيمان" رو17:1.

العلامة
أوري
جينوس

V عدل الله كقول السليح بولس هو ربنا يسوع المسيح، لهذا من
يحفظ وصايا
الله باشتهاء
يجد حياة أبدية بواسطة مخلصنا يسوع المسيح.

أنثيموس
أسقف أورشليم

الله القائد
والمعلم والهادي

          1-
الله الذي خلق
القلب وحده قادر أن يدخل فيه، ويقدم له ناموسه، ويقوده في طريقه الملوكي [33]، هو
قادر أن يهبه الطاعة والإرادة الصالحة، حتى يبلغ النهاية.

          2-
يهبنا الفهم [34] فندرك أسرار الوصية ونتجاوب معها بتعقلٍ ووعيٍ، بفرحٍ وبهجة
قلبٍ.

          3-
الله وحده يمسك
بالقلب ويهديه ويقوده بنفسه إلى سبله التي يُسر المؤمن بها، فهو الذي يهب الإرادة
الصالحة كما يعطي العمل الصالح لكن ليس في تراخٍ منا أو تهاون [35].

          4-
الله يقودنا في
طريق العدل والحب لا الظلم والطمع [36].

          5-
الله هو مقدس
حواسنا خاصة العينين [37]، فالعين المقدسة تحفظ القلب أيضًا مقدسًا، والعين
المتهاونة تتسلل خلالها محبة الأباطيل.

          6-
الله واهب
المخافة رأس كل حكمة حقة [38].

          7-
الله يعطي عذوبة
للنفس في قبولها أحكام
الله حتى إن عيرّها الكل!

V V V

 

من وحي
المزمور 119 (هـ)

 من مثلك
معلماً يا كلمة الله ؟!

V قدمت أيها المعلم الإلهي ناموسك لكل شعبك،

فلتقمه
بنفسك في أعماقي،

فأدرك أنه
رسالة شخصية موجهة إلىّ!

 لتكن أنت
قائدي ومهذب نفسي في تنفيذ ناموسك،

تظللني
كسحابة في النهار،

وتضيء عليّ
نارًا في الليل.

V يوجد معلمون كثيرون ومرشدون بلا حصر،

لكن من يقدر
أن يدخل إلى قلبي سواك يا كلمة الله؟

من يستطيع
أن يحوّل الوصية إلى عمل إلا أنت؟!

من يهب قلبي
فهمًا فيفحص ناموسك نهارًا وليلاً غيرك؟

من مثلك
معلمًا يا كلمة الله؟!

V لأصلي من أجل كل كارز بالكلمة ليهبه المعلم السماوي فهمًا،

وليصلي كل
كارز للمعلم السماوي ليهب شعبه فهمًا.

كلمة الله
هو معلم الكارز ومهذب السامعين.

يعطي للكارز
كلمة الحق، وللسامع عذوبة الاستماع.

V إمكانياتي ضعيفة تمامًا عاجزة عن تنفيذ وصيتك.

أنت معلمي
السماوي،

تعمل فيَّ
أن أريد وأن أعمل لأجل مسرتك.

تمسك بيميني
فتبعث فيّ شهوة أحكامك،

وتوسع قلبي
فأتمم وصاياك.

V الطمع يقتلني، ومحبة العالم تهلك نفسي.

أمل قلبي
إلى شهاداتك،

فاستشهد
وأموت عن العالم،

لأصلب معك
لأحيا بك يا معلمي الصالح.

Vأنر عينيّ
فلا تركزان على الزمينات الباطلة،

بل تتأملان
صليبك وتبتهجان بقيامتك.

افتح عينيّ
لا على الشر كما حدث لأبوينا الاولين، بل على معاينة خلاصك.

حوَّل ذهني
عن العالم إلى ملكوتك.

فلا أنظر إلى
الوراء وأصير كامرأة لوط عمود ملح.

حقاً باطل
الأباطيل الكل باطل وقبض الريح.

 

V
V V

 

6
– و

 

الشهادة
لكلمة
اللَّه

[41-48]

 

          وجد
المرتل في الرب نفسه القائد والمرشد، يغرس في داخله ناموس العهد الجديد [33]،
ويهبه حكمة وفهمًا [34]، وقوة لحفظه بكل القلب [34]، يميل قلبه إليه لا إلى محبة
العالم [36]، ويفتح بصيرته على الحق عوض الباطل [37]، ويهبه المخافة الإلهية،
وينزع عنه عار الخطية [38].

          الآن
ما هي استجابة المرتل لهذا المعلم الإلهي؟ إنه يختبر الخلاص الإلهي النابع عن
مراحم
اللَّه ونعمته
المجانية، لا الصادر عن بره الذاتي، وحمل الشهادة الحقة لإنجيل المسيح حتى أمام
معيريه ومضايقيه. يشهد بفمه الذي لا ينطق إلا بالحق، وبحياته كلها حيث يحفظ ناموس
الرب في كل حين. يشهد بسعة قلبه وحبه للجميع جنبًا إلى جنب مع شجاعته للشهادة حتى
أمام الجميع. وفي هذا كله يرفع يديه على الدوام نحو الوصية التي دخل معها في حالة
ودّ، أي صارت له صديقًا حميمًا تسنده في حياته الروحية وتعينه على الشهادة للحق
الإنجيلي.

          1-
الخلاص والشهادة              41.

          2-
الشهادة والمعيرون            42.

          3-
الشهادة والثبات في الحق     43.

          4-
الشهادة وحفظ الوصية        44.

          5-
الشهادة والحب                 45.

          6-
الشهادة والشجاعة             46.

          7-
الشهادة والصداقة مع الوصية
47، 48.

 

1- الخلاص
والشهادة

          تقوم
شهادة المؤمن لعمل
اللَّه على تمتعه الشخصي بخلاصه العجيب القائم على حب اللَّه الباذل
ومراحمه اللانهائية. لهذا يبدأ تسبحته هنا الخاصة بالشهادة بطلب الرحمة أو التمتع
بالمسيا المخلص. لقد اختبر المرتل مراحم
اللَّه الجديدة كل
صباح، لكنه كان يترقب بشوقٍ مجيء ابن داود الذي يعلن المراحم الإلهية اللانهائية
خلال عمل الصليب، لذا يناجي
اللَّه قائلاً:

          "ولتأتِ
عليّ رحمتك يا رب،

          وخلاصك
كقولك
"
[41].

          ليس
هناك من أمان للإنسان أكثر من اتضاعه أمام اللَّه العليّ طالبًا مراحمه الإلهية
ليتمتع بالخلاص الأبدي. هذا الخلاص الذي يهبه الرجاء في غفران خطاياه الماضية،
ويقين في مساندة اللَّه في الحاضر ليسلك في الطريق الملوكي، ويتمتع بعربون المجد
الأبدي، مع قوة لمقاومة الشر.

V بعد أن ذكر "رحمتك" أضاف على الفور "خلاصك".
فإنه إذ تشملني رحمتك أتمتع بعد ذلك بالخلاص.

          تعبير
"رحمة الرب" في حقيقته يعني "الخلاص الذي يعطيه".

          كان
المرتل محقًا إذ لم يبدأ في صلاته بطلب الخلاص الذي يهبه الرب ويلي ذلك رحمته،
وإنما أخذ الموقف المضاد.

          إن
كنت قد خلصت فذلك حسب رحمة الرب لا حسب أعمالي الذاتية.

العلامة
أوري
جينوس

V يليق بنا أن نتساءل إن كان من الممكن أن يعود هذا كله على كلمة اللَّه المرسل
"المسيح"، لأنه هو رحمة الرب وخلاصه. لهذا يلزمنا أن نطلب في الصلاة أن
تأتينا رحمة الرب، وخلاصه الذي بحسب رحمته، وهكذا إذ تشملنا الرحمة نخلص.

          إننا
نجيب على الذين سبقوا فعيّرونا بأننا كنا أناسًا محرومين من رحمة الرب وخلاصه.

القديس
ديديموس الضرير(؟)

V تُقال الرحمة والخلاص عن ربنا يسوع المسيح الذي لأجل وفرة رحمته
تجسد لكي يصنع خلاصًا لجنس البشر.

          لما
أُوحي إلى النبي بأنه سيأتي ابن
اللَّه متجسدًا لأجل خلاص
العالم صار كما من قِبَلْ الطبيعة البشرية يلتمس ذلك بصيغة التمني، قائلاً: "لتأتِ
عليَّ رحمتك يا رب وخلاصك كما قلت لأنبيائك
".

أنثيموس
أسقف أورشليم

V عما يصلي هنا سوى أنه خلال المراحم المملوءة حبًا لذاك الذي قدم
الوصايا يمكنه أن يتمم الوصايا التي يشتهيها؟

القديس
أغسطينوس

          الآن
وقد جاء كلمة
اللَّه المتجسد
وأعلن الرحمة في كمالها، مقدمًا لنا الخلاص المجاني، هل لنا أن نردد ذات الطلبة:
"لتأتِ عليّ رحمتك…

          لقد
جاء السيد المسيح إلى العالم مرة لتقديم الخلاص للعالم كله، وهو يأتي دائمًا ليحل
في قلوب مؤمنيه، معلنًا ذاته مخلصًا لكل مؤمنٍ. لهذا يؤكد المرتل "لتأتِ
علي رحمتك
"، فأنا بصفتي الشخصية محتاج إلى رحمتك وإلى التمتع بخلاصك
عاملاً فيَّ.

          مع
كل صباح يكون للمخلص دوره الشخصي في حياة المؤمن، حتى ليحسب في كل يوم كأنه يتعرف
عليه للمرة الأولى…

          لكي
يشهد المرتل لعمل
اللَّه لخلاصي يحتاج إلى اللَّه لا كمعلمٍ
وقائدٍ فقط [33-40]، إنما يطلبه كمخلصٍ شخصيٍ له، وذلك من قبيل المراحم الإلهية.
لقد شعر المرتل بالجهل فطلب من
اللَّه معلمه الفهم والقيادة
لأعماقه، وإذ شعر بالخطية يطلب منه المراحم والخلاص المجاني، لا عن استحقاقه
الذاتي وإنما حسب قوله، أي حسب وعوده الإلهية التي نطق بها الأنبياء.

          تمتعه
بالمراحم والخلاص يثير عدو الخير عليه لهذا يسأل أيضًا قوة للشهادة في هذا الجو
الرهيب.

2- الشهادة
والمعيرون

          كما
أن مراحم
اللَّه جديدة في
كل صباح (مرا 23:3) كذلك يوجد مقاومون ومعيرون في كل يوم، ويحتاج المؤمن إلى
الاختفاء في كلمة
اللَّه المصلوب، فهو وحده قادر أن يفحم العدو إبليس
ويفسد كل حيله الشريرة. يشعر المرتل أن كلمة اللَّه هي سلاحه ضد العدو، وسرّ قوته،
وغناه الذي يتمتع به بالإيمان خلال خبرة الخلاص الذي ينعم به بمراحم اللَّه. يقول
المرتل:

          "فأجاوب
الذين يعيرونني بكلمة،

          لأني
اتكلت على أقوالك
" [42].

V إذ تأتيني رحمتك وخلاصك حسب قولك، أكون قد خلصت، فيصير لديّ كلام
به أجيب على معيِّريّ، مظهرًا لهم أن من ينال هذه العقائد لا يكون بحقٍ في عارٍ.

          يتطلع
"الغرباء عن الإيمان" إلى هذه العقائد أنها حماقة، لكنني سأثبت لهم أنها
مملوءة فطنة وحكمة.

العلامة
أوري
جينوس

V إذ أهلتني لنعمة رحمتك وخلاصك أنقض أقوال الذين يعيرون إيماننا
ويمزحون لأجل اتكالنا عليك واستنادنا على أقوالك، ونجاوبهم بكلمة، أي ببرهانٍ
واضحٍ.

أنثيموس
أسقف أورشليم

V هؤلاء الذين يحسبون المسيح المصلوب عثرة أو جهالة يعيروننا به،
وهم يجهلون أن "الكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا" وأن الكلمة الذي هو من
البدء كان مع اللَّه، وكان هو اللَّه. ليتك لا ترتعب ولا ترتبك بتعييراتهم.

القديس
أغسطينوس

          يقدم
المؤمن براهينه لا خلال سفسطة الحوار العقيم، وإنما خلال قوة الروح، فإن بهجة
خلاصه، وثمر الروح المتكاثر فيه، وشبع نفسه، وتهليل قلبه الخ. أمور لا يقدر
الملحدون أن يقاوموها.

          إذ
اختبر المرتل عذوبة الخلاص أدرك أنه قادر بالرب أن يحطم افتراءات العدو، لكن ما
يشغله بالأكثر هو الشهادة الداخلية للمخلص بثباته في الحق إلى النهاية، مطالبًا
اللَّه مخلصه ألا
ينزع من فمه قول الحق ولا من حياته خبرة الخلاص.

3- الشهادة
والثبات في الحق

          لئلا
يظن الإنسان أنه إذ يختبر مراحم
اللَّه مرة يتمتع بالخلاص
نهائيًا، لذلك يؤكد ضرورة المثابرة على الثبوت في المسيح، أي الجهاد المستمر متكئًا
على النعمة المجانية، لذلك يكمل المرتل طلبته، قائلاً:

          "فلا
تنزع من فمي قول الحق،

          لأني
توكلت على (انتظرت) أحكامك" [43].

          يطلب
من اللَّه أن تستقر كلمته في فمه، فيحمل الحكمة والشجاعة مع القداسة ليشهد بكلمة
اللَّه لبنيان إخوته، وتبرير إيمانه الحيّ. إن كان قد اشتهى أن يخفي كلمة اللَّه
في قلبه لكي يحبها ويحفظها ويتأملها الآن يرددها بفمه ليكرز بها بلسانه كما بحياته
المقدسة.

V ينطق بهذه العبارة، لأن الذي سبق فتلقى "قول الحق"
يتعرض لفقدانها. ينزعها
اللَّه من فم من تلقاها متى
صار غير مستحقٍ لها.

          قيل
أيضًا: "لا تهمل الموهبة التي فيك" 1تي14:4. يحدث الإهمال ليس فقط في
زرع الموهبة أو عدم تركها تنمو وإنما بجعلها لا تطابق حياته (العملية).

          من
جهة أخرى يمكن أن نتساءل عما إذا كان قول الحق يُنزع عن الفم فقط دون القلب حتى
يتأكد التغير (التوبة) بفضل وجود "قول الحق" في الداخل، هذا الذي
تلقاه الإنسان مرة واحدة.

          قيل:
"وللشرير قال
اللَّه: مالك تتحدث بفرائضي، وتحمل عهدي على فمك"
مز16:49. إنه لم يقل: "مالك تفكر في فرائضي".

          ربما
إذا استمر الخاطيء في خطيته على الدوام يُنزع قول الحق من قلبه، إذ يكون قد
اظلمَّ، وأُصيب بالعمى عن معرفة الحق…

          أيضًا
يلزمنا شرح ماذا يعني "النزع إلى الغاية جدًا". النص غامض جدًا،
فقد يعني أنه حتى وإن نزعت من فمي قول الحق فلا تنزعه تمامًا بالكلية؛ ربما تعني
أن الكلمة التي هي فيّ بالفعل، هذه احفظها في داخلي ولا تنزعها من فمي.

          بما
إنني "انتظرت أحكامك" ووضعت فيها آمالي، لذلك يزداد رجائي
باستمرار، لأن كلمة الحق التي هي في أعماقي، تجعلني انتظر أحكامك.

العلامة
أوري
جينوس

V إن حدث يوم ما أنني أجد صعوبة من جهة (تفسير) العناية الإلهية أو
ما يشابه ذلك من هذا النوع، ولا أستطيع أن أعطي إجابة تزيل تناقضات هؤلاء الذين
أقاموا المشكلة، اعطني بلطفك كلمتك التي تشرح الحق عند افتتاح فمي، فلا تنزع قول
الحق من فمي.

          ولكي
أستطيع أن أتحدث بطريقة أو أخرى من جهة هذه الأمور الصعبة "انتظرت أحكامك
أي انتظرت كلماتك المتزنة والمختبرة جدًا عند التجربة. هذه الأحكام التي من خلالها
تحكم البشر وتمارس عنايتك بهم.

القديس
ديديموس الضرير

          يرى
القديس أغسطينوس
أن المتحدث هنا هو السيد المسيح الذي لن يُنزع من فمه قول
الحق، وأيضَا الكنيسة التي هي جسده فإنها تنطق بالحق في هذا العالم وفي العالم
الآتي أيضًا، وهكذا يفعل جماعة القديسين كأعضاء في جسد المسيح.

V هذه الشريعة يجب أن تُفهم كقول الرسول "المحبة هي كمال
الناموس". لهذا فهي تُحفظ بواسطة القديسين، الذين لا يُنزع من فمهم قول الحق،
أي أنه بواسطة كنيسة المسيح نفسها، ليس فقط في هذا العالم، ولا حتى عند انقضاء
الدهر، وإنما في العالم الآتي الذي بلا نهاية.

القديس
أغسطينوس

4- الشهادة
وحفظ الوصية

          من
ينتظر أحكام
اللَّه، مدركًا
عنايته الإلهية حتى في لحظات الضيق، يحفظ الوصية متمسكًا بها عمليًا على الدوام.
بهذا تكون شهادته حق وعملية ودائمة. لهذا يقول المرتل:

          "واحفظ
شريعتك في كل حين إلى الأبد وإلى الدهر" [44].

V يقول: "احفظ شريعتك"، فهو لا ينفذها حينًا
ويتركها حينًا آخر، بل وأكثر من هذا يقول إنني أُنفذها في الحياة الحاضرة والحياة
المستقبلة.

القديس
أثناسيوس الرسولي

V هكذا يمكن فعلاً حفظ شريعتك على الدوام، ليس فقط في هذا العالم بل
وإلى الأبد أيضًا، حيث أن كلام يسوع لا يزول (مت24:35). على أي الأحوال نحن نحفظ
شريعة
اللَّه خلال صورة
الحقائق (عب1:10)؛ هذه الشريعة التي كانت محفوظة بواسطة اليهود من خلال الظل،
والتي يلزمنا أن نحفظها خلال الخيرات العتيدة إلى الأبد.

العلامة
أوري
جينوس

الشهادة
لكلمة
اللَّه

          لكي
يشهد المؤمن الحقيقي لكلمة
اللَّه يلزمه الآتي:

1- التمتع
الشخصي بكلمة
اللَّه الواهبة
الخلاص، أو التمتع بالسيد المسيح الذي أعلن المراحم الإلهية خلال عمله الخلاصي
الذي سبق فوعد به بالأنبياء [41].

2- مساندته
ضد عدو الخير وجنوده بتمتعه ببهجة الخلاص وثمره المفرح، وبقوة الروح [42].

3-
استمرارية التمتع بخلاص
اللَّه حتى النهاية [34]
تسنده في الشهادة لعمل المخلص.

4- تتحقق
الشهادة بالبهجة الداخلية بالخلاص، وبالحديث عن عمل
اللَّه، وأيضًا
باتساع القلب ورحابته [45]، والشجاعة حتى أمام الملوك [41]، متحررًا من كل خوف.

5- بالدخول
في صداقة وود مع كلمة
اللَّه ورفع ذراعيه إليه
للصلاة مع السلوك العملي.

 

5- الشهادة
والحب

          إن
كانت الوصية أبدية لذا يتممها المؤمن الحقيقي على الدوام، شاهدًا لها أمام نفسه
وأمام الغير بسلوكه العملي، فإن هذه الوصية طريقها صعب وضيق لكنها تعطي رحابة
القلب واتساعه للجميع، حتى للمضايقين. وكما سبق فرأينا أن طريق الوصية ضيق لكنه
يهب القلب اتساعًا وحبًا، أما طريق الشر فمتسع جدًا لكنه يعطي القلب أنانية
وضيقًا.

          "كنت
أسلك في السعة،

          لأني
لوصاياك ابتغيت
" [45].

V من يحب اللَّه لا يكون متلجلجًا في
مواجهة أنواعٍ من الضيقات والأحزان، لا يتضايق لكنه يكون في سعة ورحابة قلب فرحًا،
لأن المحبة تتمهل، وتطلب الصلاح.

          المحبة
لا تحسد ولا تطرد ولا توبخ، ولا تقبح، ولا تطلب حقوقها، ولا تحتد ولا تفتكر بالشر،
ولا تُسر بالظلم بل تفرح بالحق، تحتمل كل شيء، تصدق كل شيء، وتترجى كل شيء، وتصبر
على كل شيء… لأجل هذا كتب بولس الرسول إلى أهل رومية: "مكتئبين في كل شيء
لكن غير متضايقين، متحيرين لكن غير يائسين، مُضطهَدين لكن غير متروكين، مطروحين
لكن غير هالكين، حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع لكي تظهر حياة يسوع أيضًا
في جسدنا …" 2كو 8:4-10.

أنثيموس أسقف
أورشليم

V يسلك "في رحب" حتى وإن كان متضايقًا، إذ قيل:
"في الضيق رحبت لي" مز2:4، كما قيل: "مكتئبين في كل شيء لكن غير
متضايقين" 2 كو 8:4 …

          يقول
بولس الرسول من جهة نفسه: "لستم متضايقين فينا" 2 كو 12:6، وفي اتهامه
لأهل كورنثوس يقول: "بل متضايقين في أحشائكم" 2كو 12:6، فإن الشرير
يتضيَّق في نفسه بأعماله الشريرة، وعلى العكس منه يقول (المرتل): "اسلك في
الرحب
"، موضحًا السبب الذي لأجله يسلك في الرحب وهو "لأني
لوصاياك ابتغيت
".

العلامة
أوري
جينوس

6- الشهادة
والشجاعة
  

          خلال
سعة القلب التي يتمتع بها المرتل بالنعمة الإلهية يمارس الوصايا ببهجة قلب، بل ولا
يجد حديثًا ممتعًا حتى في حضرة العظماء مثل الشهادة لوصية الرب وعمله الخلاصي،
وذلك لنفعه ونفعهم.

          بعدما
تحدث عن اتساع لقلب بالحب حتى في وقت الضيق يعلن المرتل عن شجاعته في الشهادة
للوصية أمام الملوك دون خزي؛ فإن الشجاعة دون الحب تصير تهورًا، كما أن الحب يدفع
نحو الشهادة للحق بلا خوف. والمثل الحي لهذا هم الثلاثة فتية في أرض السبي الذين
وُجه إليهم الاتهام: "لم يجعلوا لك أيها الملك اعتبارًا، آلهتك لا يعبدون،
ولتمثال الذهب الذي نصبت لا يسجدون" دا12:3؛ أما هم ففي شجاعة قالوا للملك:
"هوذا يوجد إلهنا الذي نعبده يستطيع أن ينجينا من أتون النار المتقدة وأن
ينقذنا من يدك أيها الملك، وإلاَّ فليكن معلومًا لك أيها الملك أننا لا نعبد آلهتك
ولا نسجد لتمثال الذهب الذي نصبته" دا13:8، 19. وكما قال بطرس ويوحنا
الرسولان: "لأننا نحن لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا" أع20:4.

          "وتكلمت
بشهاداتك قدام الملوك ولم أخز
" [46].

          في
خطاب للقديس أمبروسيوس يوجهه إلى الإمبراطور ثيؤدوسيوس لكي يصغي إليه،
قائلاً أنه لا يستطيع أن يصمت وإلا كان هذا فيه خطر على كليهما. فيه أشار أن
ثيؤدوسيوس وإن كان خائف اللَّه لكن يلزمه ألا ينحرف…

V ليس من جانب الإمبراطور أن يرفض حرية الكلمة، ولا للكاهن ألا
ينطق بما يفكر فيه. فإنه ليس شيء فيكم أيها الأباطرة معروف عنكم مثل تقديركم
للحرية، حتى بالنسبة للخاضعين لكم في طاعة عسكرية.

          فإن
هذا هو الفارق بين الرؤساء الصالحين والطالحين، أن الصالحين يحبون الحرية،
والطالحين يطلبون العبودية.

          وليس
شيء في الكاهن خطير مثل عدم إعلانه بحرية عما يفكر فيه من جهة اللَّه وذلك من أجل
الناس. فقد كُتب: "أتكلم بشهاداتك أمام الملوك ولا أخجل"
[46]. وفي موضع آخر: "يا ابن الإنسان جعلتك رقيبًا لبيت إسرائيل"، لكي
"إن رجع البار عن بره وعمل إثمًا… لأنك لم تنذره"، أي لم تخبره لتحفظه
في تذكار بره، فإنه يموت "أما دمه فمن يدك أطلب. وإن أنذرت أنت البار وهو لم
يخطئ فإنه حياة يحيا لأنه أُنذر، وأنت تكون قد نجيت نفسك" حز17:3،20، 21. [25]

القديس
أمبروسيوس

V بعد ذلك وجهت حديثًا واضحًا للإمبراطور ثيؤدوسيوس الكلي الرأفة،
ولم أتردد في الحديث معه مواجهة… إنه لم يتضايق لأنه عرف أنني لم أفعل ذلك
لمصلحتي الخاصة إنما لم أخجل عن أن أتكلم في حضرة الملك ما هو لنفعه ولنفع نفسي
[46].[26]

القديس
أمبروسيوس

V هكذا تكون جسارة من يحمل الصليب. لنتمثل بهذا؛ فإنه وإن كان ليس
الوقت زمن حرب، لكنه زمن الشجاعة في الحديث، إذ يقول أحدهم: "تكلمت
بشهاداتك قدام الملوك، ولم أخزَ
".

          إن
صرنا وسط وثنيين فلنغلق أفواههم بلا غضب ولا عنف[27].

القديس
يوحنا الذهبي الفم

V الجهاد من أجل الحق حتى الموت، دون الخجل من الحديث عنه حتى أمام
الملوك.

القديس
أغسطينوس

V علامة محبة اللَّه هي… أن تتكلم
بشهاداته قدام الملوك جهرًا وبشجاعة، كما تكلم الرسل والشهداء… لا نخزَ إن كانت
أعمالنا وأقوالنا لائقة بملك الملوك المتكلم فينا، وأن نهذ بوصاياه بالمحبة
والثقة، لا بضجر أو تهاون.

أنثيموس
أسقف أورشليم

V من لا يستمد الكلمة لإعلان البشارة المفرحة بقوة عظيمة يتكلم
بخزي، أما من يقول: "تكلمت بشهاداتك قدام الملوك ولم أخز" ينطق بما
يستحق المجد لا الخزي.

العلامة
أوري
جينوس

V يمكننا تطبيق هذا النص بحق على من يُساق أمام ولاة وملوك كشاهد
لاسم المسيح (مت18:10). كما يمكننا تطبيقه على من يفتح فمه أمام القديسين (الذين
هم بالحقيقة ملوك في أرواحهم)، متحدثًا بشهادات
اللَّه...

          إذ
رفض الالتصاق بالتراب وأراد أن يعيش حسب كلمة الرب، أي حسب الكتاب المقدس الإلهي
الموحى به، يطلب العون الإلهي لكي يحيا. من يهتدي ينطق بكلمات الرب، فتظهر أعماله
وسيرته الصالحة.

العلامة
أوري
جينوس

V لقد بلغت آخر درجات الضيق، إذ صرت مطرودًا بواسطة الطغاة، لذلك
أطلب أن أخلص حسب وعد
اللَّه لنا: "ولا تحيط
بكم السيول" 2مل5:22؛ مز5:17.

القديس
أثناسيوس الرسولي

7- الشهادة
والصداقة مع الوصية

          أخيرًا
فإن المرتل في شهادته يلجأ إلى الوصية لا كأوامر ونواهٍ وإنما ككائن يتعامل معه،
يناجيه، ويرفع ذراعيه إليه (يصلي إليه)، ويدخل معه في ودٍ أو صداقة، إذ يقول:

          "هذذت
بوصاياك

          التي
أحببتها جدًا.

          ورفعت
أذرعي إلى وصاياك

          التي
وددتها جدًا.

          وتلوت
في حقوقك
"
[47،48].

          واضح
أنه يتحدث عن الوصايا بكونها "كلمة
اللَّه"
الحيّ، الذي يدخل معه في علاقة حب، يصلي إليه، ويوده.

          رفع
الذراعين
[48] هو طقس قديم وطبيعي يشير إلى التضرع، كما يشير إلى العمل وتنفيذ
الوصية بالذراع اليمنى كما بالذراع اليسرى، أي في عبادتنا الروحية وسلوكنا اليومي؛
أو في الفرج والضيق. وكأن المرتل يوجه قلبه نحو الوصايا الإلهية بالصلاة الدائمة
مع الجهاد المستمر، وكما يقول في مزمور آخر: "استمع صوت تضرعي إذ استغيث بك
وأرفع يديّ إلى محراب قدسك" مز2:28.

V غاية التلذذ بوصايا اللَّه هو وضعها موضع التنفيذ
والعمل…

          من
يتلذذ بالحق أولاً،  قائلاً: "أتلذذ بوصاياك التي أحببتها جدًا"، يقول
بعد ذلك: "ورفعت أذرعي إلى وصاياك التي وددتها جدًا". ما أجمل أن
نتلذذ بالوصايا ونفهم معانيها ثم نرفع أذرعنا إلى الأعمال التي تتفق مع الوصايا.

          لا
نتمم عمل الوصايا عن حزنٍ أو اضطرارٍ (2كو 7:9)، وإنما بفرح.

          إذ
نتلذذ بها وننفذها يلزمنا أن ننطق بها (تث7:6)، لهذا يضيف "وتلوت (أناجي)
في حقوقك
"، بمعنى أنه من أجل حبي لوصاياك لا أتوقف عن الحديث عنها، وإنني
أتلو وأنا متلذذ جدًا بكل ما يمس حقوقك.

العلامة
أوري
جينوس

          إذ
يُعلق القديس أغسطينوس على هاتين العبارتين يقول: [لقد أحب (المرتل) وصايا
اللَّه لأنه كان يسير في حرية، أي بالروح القدس، الذي خلاله ينتشر الحب وتتسع قلوب
المؤمنين.

          لقد
أحب بالفكر والعمل.

          بالنسبة
للفكر يقول: "هذذت"، وبالنسبة للعمل يقول: "رفعت أذرعي"].

V من يصنع وصايا اللَّه تلتصق باللَّه نفسه، وأما
من يخالفها فتلتصق بالتراب نفسه، وتتمرغ في الأرضيات وتصير ترابية.
لذلك جاء
في الأصحاح العاشر من سفر التثنية قوله: "الرب إلهك تتقي، إياه تعبد، وبه
تلتصق" تث20:10.

أنثيموس
أسقف أورشليم

          الذي
يغتني بعد فقرٍ مدقعٍ لا يمكن ألا أن يتأمل خزائنه، عينا قلبه لا تفارقانها، هكذا
يتأمل الشاب وصايا
اللَّه التي يخفيها في قلبه، وفي تأمله الدائم يتفهمها
يومًا فيومًا بأعماق جديدة، فتصير موضوع لهجه ولذته ليلاً ونهارًا؛ إنه لن ينساها!

          بمعنى
آخر إذ يكتشف الشاب غناه بالوصية يمارس حياة الهذيذ الدائم التي لا تنفصل عن حياته
العملية:

          ا-
التأمل في الوصية.

          ب-
تفهمها بروح
اللَّه الساكن
فيه.

          جـ-
لهجه فيها بلذة فائقة.

          د.
الشهادة للوصية بشجاعة دون خوف.

          هـ-
لن ينساها قط، أي لا يمكن لأحدٍ ما أو لشيءٍ ما أن يسحب فكره وذاكرته عنها.

 

 V V V

 

من وحي
المزمور 119(و)

بوصيتك أشهد
لرحمتك وخلاصك!

V رأيتك معلمي الصالح تهبني الفهم مع الإرادة المقدسة،

 الآن أراك
الرحيم مخلص الخطاة،

 ارحمني
وخلصني حسب وعودك الصادقة لي.

V يقاومني الأشرار الذين لا يطيقون خلاصك.

 لكنني
بوصيتك العاملة فيّ أفحمهم.

 لا تنزع عن
فمي قول الحق،

 ولا عن حياتي
خبرة خلاصك،

 فأحطم
افتراءات العدو بالقول والعمل معًا.

 وصيتك التي
أخفيها في قلبي،

 تُعلن الآن
بفمي كما بحياتي.

 فما أنطق
به يشهد عما أحياه وأسلكه.

V أشهد بحفظي لوصيتك على الدوام وإلى الأبد،

 إنها
دستوري الدائم،

 في الحياة
الحاضرة وفي العالم العتيد.

لا أتمسك
بها حينًا وأتجاهلها حينًا آخر،

لأن كلامك
ثابت غير متغير إلى الأبد.

V شهادتي لوصيتك لا بالحوار العقلاني،

بل باتساع
القلب بالحب للجميع.

إني أسلك في
السعة لأحمل الجميع في قلبي،

لأني ابتغيت
وصاياك!

V هب لي أن أشهد بوصاياك بشجاعة أمام العظماء.

ولتمزج شجاعتي
بالحب فلا أكون متهورًا.

V هب لي أن أحب وصاياك،

وأدخل في
ودٍ معها.

أرافقها
وترافقني.

لا يستطيع
أحد أو شيء ما أن يحطم صداقتي معها!

بهذا أشهد
لها، شهادة صديقٍ لصديقه الحميم!

 V
V V

 

7
– ز

 

كلامك
عزَّاني في مذلتي

[49- 56]

 

          في القطعة
السابقة تحدث المرتل عن شهادته للوصية أو لكلمة
اللَّه، بالصلاة
والكلمات كما بالعمل، خاصة باتساع قلبه أو حبه لمقاوميه بروح الشجاعة لا الخنوع.
وقد ختم حديثه بالكشف عن لذته بالوصية وتمتعه بالصداقة والود الشديد معها. الآن إذ
يدرك المرتل أنه غريب على الأرض، وساقط تحت المذلة والضعف فإنه يجد في الوصية
الإلهية عزاءه. يجد في كلمة اللَّه موضع استقرار له وسط الضيقات، ويجدها تسابيح
لبيت غربته!

          1-
عزاء وسط الموت              49،50.

          2-
عزاء وسط الشدائد            
51، 52.

          3-
عزاء في الخدمة              
53.

          4-
عزاء في العبادة الخاصة       54-56.

 

1- عزاء وسط
الموت

          "أُذكر
كلامك لعبدك الذي عليه اتكلتني.

          هذا
الذي عزاني في مذلتي،

          لأن
قولك هو أحياني
" [4950].

          إن
كنت أعيش في عالم الغربة وسط ضيقات شديدة، فإن سرّ تعزيتي هو وعودك التي ترفع
المؤمن من المذلة وتهبه الحياة، إذ يفتح له الرب باب الرجاء في الحياة الأبدية.

V لقد قلت أنك تعطي حافظي وصاياك خلاصًا، وتجازي مخالفيها بعقوبات.
ونحن أيضًا نقول أنك يا ربنا قد وعدت أن تكون معنا إلى انقضاء الدهر. وبقولك هذا
فديت همتنا واتكالنا. أذكر الآن وعدك لعبدك، وأُوفِ بما قد وعدتنا به. كنت أتعزى
بهذا الوعد وقت شدائدي، وقولك أحياني. لأن قول
اللَّه إذا حفظه
الإنسان وتممه بالعمل تحيا نفسه تلك الحياة الخاصة بالنفس، أعني الحياة الأبدية.

أنثيموس
أسقف أورشليم

V عندما ذكرت "كلام" الوعد، أعطيتنا أجنحة تسندنا
فلا نبالي بالعالم الحاضر، لأنني اشتهيت الأمور السماوية وطلبت الأبديات. لقد
جاهدت وقاومت مطالبًا بإصرار كلام هذا الوعد.

العلامة
أوري
جينوس

V ما هو "الكلام" الذي يطلب من اللَّه أن "يتذكره"
إلا الوعد الذي أعطاهم إياه أنه يكون معهم (مت20:28)، والذي كان بالنسبة لهم تعزية
وسط الاضطهادات؟!

القديس
أثناسيوس الرسولي

V ماذا يقصد ب "هذا" (الذي عزاني)؟

          إنه
الرجاء الذي نشأ فيّ بكلامك. لقد عزاني وشجعني حتى إذا ما حلَّت بي شدة أو خطر أو
توقع موت أو مرض أو فقدان رؤوس الأموال أو اضطهاد أو ما يُعتبر ضيقات بأي نوع،
يكون رجائي فيك هو "تعزيتي". في اختصار يدعو كل هذه الضيقات:
"في مذلتي".

          إنه
زمن الضيقات والتجارب، حيث مذلة النفس المتروكة والمستسلمة للمجرب لكي تجاهد ضد
القوة المضادة، لذلك فإن "قولك هو أحياني". ليس ما يحيي النفس
مثل كلام
اللَّه، فقدرما
يدرك الإنسان كلام
اللَّه وتتقبله نفسه تنمو فيه الحياة، يقصد الحياة
الصالحة هنا، بعدها يعطي
اللَّه الحياة الأبدية.

العلامة
أوري
جينوس

          بدأ
المرتل تضرعه إلى
اللَّه واهب التعزية بتذكيره بوعوده الإلهية. فإن اللَّه لن ينسى
كلمته، لكنه يطلب منا أن نُذكِّره، ففي هذا تجديد لثقتنا فيه، وإيماننا بصدق
مواعيده، وتجاوب مع محبته. إننا لا نُذكِّره بخدمتنا ولا بجهادنا ولا ببرنا وإنما
بوعوده الصادقة وميثاقه معنا. بهذا الروح صرخ اللص التائب وهو على الصليب:
"أُذكرني يا رب متى جئتَ في ملكوتك". هي صرخة الإنسان الواثق في حب
مخلصه والمعترف بعدم استحقاقه الذاتي. وبنفس الروح يصلي داود النبي قائلاً:
"والآن أيها الرب ليثبت إلى الأبد الكلام الذي تكلمت به عن عبدك وعن بيته
وافعل كما نطقت" أي23:17. وكأنه يقول له: "أنا أعلم أنك أمين في
مواعيدك، ولا تنقض كلمتك، فلتعمل فيّ حسب وعودك فإنني مؤمن بها ومتكل عليها. أنت
وعدت، وأنا مملوء رجاءً في مواعيدك أنتَ قادر أن تخلص حتى الموت، وها أنا أحيا
بكلمتك".

          يجد
المرتل شبعًا لكل احتياجاته في محبة
اللَّه ووعده الصادق، الذي
يقيم من الموت، واهبًا الحياة. خارج الوعد الإلهي يشعر المرتل بالمذلة، إذ يقول:
"هذا الذي عزاني في مذلتي"… ليس ما يرفع عني المذلة إلا وعدك
الإلهي! ولعله يشير هنا إلى المذلة، لأن اللَّه ينظر إلى المتواضعين ويرفع النفوس
المتذللة.

V إننا نتسلم الرجاء من اللَّه الذي نقول له: "الذي
جعلت فيّ رجاء"
[49][28].

V أعني ذاك الرجاء الذي يُعطى للمتواضعين كما يقول الكتاب المقدس:
"يقاوم اللَّه المتكبرين ويُعطي نعمة للمتواضعين".

القديس
أغسطينوس

2-عزاء وسط
الشدائد

          إذ
كانت الخطية تفقدني الرجاء في الحياة الأبدية، جاء كلمة
اللَّه    يهبني
الحياة الأبدية، لذلك لا أهاب متاعب هذا الزمان الحاضر وضيقاته.

          أجد
في كلامك تعزيتي، لكن المتكبرين يسخرون بي لأنهم يحسبون رجائي في وعدك واتكالي على
قولك وإيماني بك أمورًا خادعة وواهية. إنني أكمل رحلة غربتي ولا أتوقف كمن يسير
بقافلته ولايبالي بنباح الكلاب.

          "إن
المتكبرين تجاوزوا الناموس جدًا إلى الغاية،

          وأنا
عن ناموسك لا أملْ.

          تذكرت
أحكامك يا رب منذ الدهر فتعزيت
" [5152].

V عندما كان المتكبرون يتجاوزون ناموسك يا رب إلى الغاية، كانوا ليس
فقط يأثمون بل ويهزأون بحافظيه، فكنت أنا بالأكثر أعتصم به، متذكرًا أنك منذ
القديم تسمح عادة بسقوط (مؤمنيك) في المحن، لكنك تسرع إلى نجاتهم منها، وتمجدهم
بالأكثر؛ بهذه الذكرى تعزيت.

أنثيموس
أسقف أورشليم

V استهزأ المتكبرون بناموسك، بل واستهزأوا به إلى الغاية، أما أنا
فلم أملْ عن ناموسك قط. وأنت دبرت حياتي، وحفظت روحي، حتى لا يكون مع قلبي كلام
لئيم مختبئ مضاد للشريعة (راجع تث9:15)…

V لنتأمل أيضًا سلوك البار، فإنه يقول بأنه يتذكر أحكام اللَّه التي هي
منذ الدهر وإلى الدهر تظهر لكل واحدٍ فتعزيه، فلا يعود يعرف الحزن ولا القلق، إذ
يقول: "إن آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا"
رو18:8.

العلامة
أوري
جينوس

V أراد أن يُفهم المتكبرون أنهم مضطهدو الأتقياء، لذلك أضاف "وأنا
عن
ناموسك لم أمل"، لأن المضطهدين المتكبرين حاولوا أن يلزموه
بذلك.

القديس
أغسطينوس

V يصنع الهراطقة لأنفسهم مجدًا بمخالفتهم للناموس، لكنني لهجت في
حفظه كله دون أن أضعف ولو جزئيًا، وفي قبولي له بدون تردد.

القديس
ديديموس الضرير

V تذكرت الأحكام التي اتخذتها قديمًا ضد مضطهدي إسرائيل فتعزيت، إذ
عرفت أنني لن أصير متروكًا في الاضطهادات، وأن كل ما يحدث للإنسان إنما هو وفق
أحكام
اللَّه.

القديس
أثناسيوس الرسولي

          لم
يطلب المرتل إبادة المتكبرين المقاومين له من أجل حفظه وصايا
اللَّه، إنما يطلب
أن يحفظه
اللَّه كي لا
ينحرف بسببهم أو يميل عن الطريق الملوكي يمينًا أو يسارًا، بل ينشغل بتعزية الروح
له، ويهتم بأحكام
اللَّه. كأنه يقول: لا أريد أن أنشغل بالسلبيات، أي
بالهجوم الموجه ضدي، وإنما أهتم بالإيجابيات أي بالتأمل في أحكامك والتمتع
بتعزياتك. بهذا لا يعطى للأشرار فرصة تحقيق رغبتهم من جهته.

          لقد
حاول سنبلط وجشم الشريرين أن يشغلا نحميا عن العمل الإيجابي في مجادلات نظرية، وأن
يفسدا وقته في الحوار عوض بناء السور، "فأرسل إليهما رسلاً قائلاً: إني أنا
عامل عملاً عظيمًا فلا أقدر أن أنزل؛ لماذا يبطل العمل بينما أتركه وأنزل إليكما؟!
نح3:6. فأرسلا إليه بمثل هذا الكلام أربع مرات وجاء بهما بمثل هذا الجواب.

          ليفعل
الأشرار ما يريدون، وليستخدموا كل طرق العنف الظاهر أو التهديدات أو الخداع
والكلمات المعسولة. ففي هذا كله يبقى المؤمن في طريقه الملوكي، طريق الوصية لا
يحيد عنها. أما سنده في هذا فهو معاملات
اللَّه مع أولاده
منذ بداية التاريخ البشري: "تذكرت أحكامك يا رب منذ الدهر فتعزيت"
[52]. منذ طفولتنا لم يتخلَّ
اللَّه عنا، بل ومنذ وُجد
الإنسان بقى
اللَّه أمينًا في
مواعيده ووعوده لشعبه ومؤمنيه، وأيضًا لم يدع عصا الأشرار تستقر على نصيب
الصديقين. لقد أغرق الأشرار بالطوفان، وبلبل ألسنة أهل بابل، وأغرق فرعون وجنوده
في البحر الأحمر… وباختصار: "الساكن في السموات يضحك بهم، والرب يستهزئ
بهم؛ حينئذ يكلمهم بغضبه وبرجزه يرجفهم" مز4:2، 5؛ وأيضًا يقول المرتل:
"أسنان الخطاة سحقتها" مز7:3.

          التأمل
في معاملات
اللَّه في العهدين
القديم والجديد وفي تاريخ الكنيسة عبر كل الأجيال يعطي تعزيات ليست بقليلة، فلا
نخاف من مؤامرات المتكبرين وتهديداتهم.

3- عزاء في
الخدمة

          أحكام
اللَّه ضد
المتكبرين المصرّين على اضطهاد خائفي الرب المتمسكين بتنفيذ وصيته تملأ قلب المرتل
تعزيات إلهية، لكنه لا يقف موقف الشامت بل موقف الحزين على نفوسهم الساقطة. إنه
يئن في كآبة لأنهم يهينون اللَّه مصدر الخلاص ويمجدون إبليس المضل والمهلك كما
يحطمون أنفسهم. في كآبته يترجى لعلهم يرجعون بالتوبة إلى
اللَّه، لذلك
يقول:

          "الكآبة
ملكتني من أجل الخطاة الذين تركوا عنهم ناموسك
" [53].

V إذا رأى الصديقون إنسانًا من أبناء الشريعة يخالفها، يغتمون
ويكتئبون، لأن ألم عضوٍ واحدٍ يجعل جميع الأعضاء تتألم.

أنثيموس
أسقف أورشليم

V يوجد بين الخطاة من يخطئ بدون الناموس (رو 12:2)، لأنهم لم يعرفوا
الناموس. وآخرون يخطئون في الناموس، لأنهم إذ يخالفونه يستهينون به. فالكآبة
ملكتني من أجل الخطاة الذين تركوا عنهم ناموسك. حقًا إن كان عضو يتألم (بتركه
الناموس)، فجميع الأعضاء تتألم معه؛ وإن كان عضو واحد يُكرم، فجميع الأعضاء تفرح
معه" (1 كو 26:12). إذن يليق بنا أن نتألم من أجل اخوتنا الخطاة لأنهم
يخطئون، وأن نتخذ نفس موقف هذا القديس (المرتل).

القديس
ديديموس الضرير

V من يسكب دموعًا ساخنة على أخطاء قريبه يبرأ بحزنه على أخيه[29].

القديس
باسيليوس الكبير

V لنبكِ عليهم لا يومًا ولا يومين، بل كل أيام حياتنا[30].

القديس
يوحنا الذهبي الفم

4- عزاء في العبادة الخاصة

          كلما
تطلع المرتل إلى المتكبرين المصرّين على عدم التوبة يمتلئ قلبه حزنًا وكآبة، ليس
خوفًا منهم بل عليهم. إنه يشتاق أن يتمتعوا معه بالمجد الداخلي وتعزيات كلمة
اللَّه وعذوبتها.
وسط هذه الآلام التي تجتاز نفسه الخادمة لكل إنسانٍ، والمشتاقة إلى خلاص الكل.
يدرك المرتل أن الدخول إلى أعماق الوصية يرد له فرحه وتهليله وسط شعوره بالغربة.
يجد الوصية تتحول إلى تسبحة حب تقوده إلى الفرح الداخلي مع تهليلات القلب وتسابيح
الفم.

          ربما
يقصد بالمزامير هنا رثاءً مملوء رجاءً، كما يقول في المزمور39: "لا تسكت عن
دموعي، لأني أنا غريب عندك، نزيل مثل جميع آبائي" مز12:39. على أي الأحوال لم
يشعر داود الملك أنه في قصر ملوكي فخم، بل في موضع غربته يترقب رحيله من هذا
العالم. هذا الشعور يحول آلامه إلى مزامير.

          "حقوقك
كانت لي مزامير في موضع غربتي
" [54].

V يُدعى هذا العالم موضع غربة بالنسبة للصديقين، لأنهم يعيشون فيه
كغرباء يهتمون برجوعهم إلى الوطن الحقيقي في الآخرة حيث يرتلون حقوق
اللَّه.

أنثيموس
أسقف أورشليم

          يرى
القديس أغسطينوس أن هذه العبارة ينطق بها المؤمن وهو في أرض الغربة حيث رحل
من الفردوس ومن أورشليم العليا ونزل إلى أريحا فسطا عليه اللصوص وجرحوه. لكن
مسيحنا "السامري الصالح" عبر به وقدم له الوصايا الإلهية تسبحة مراحم
إلهية تفرح قلبه وهو في بيت غربته. فمع حزنه على الذين يتركون ناموس اللَّه لكن
نفسه تتهلل وتترقب يوم المكافأة، حيث تُفصل الحنطة عن الزوان.

          يفرح
الأشرار بأذية الغير ويتهللون إلى حين، لكن فرحهم يتحول إلى مرارةٍ. أما القديسون
فيحزنون لهلاك الأشرار ويترنمون لعمل
اللَّه معهم وتحويل الضيق إلى
أمجاد.

          إن
كانت حياتنا الزمنية إن قورنت بالحياة الأبدية تُحسب ليلاً مظلمًا، بسبب ما نعانيه
من ضيقات وضعفات وعدم تلاقينا مع الرب – شمس البر – وجهًا لوجه، فإن تذكّرنا لوصية
اللَّه ووعوده
وأحكامه يبعث فينا البهجة الداخلية، حيث ننعم ببرّ المسيح.

          "ذكرت
في الليل اسمك يا رب،

          وحفظت
شريعتك.

          هذه
كانت مسرة لي،

          لأني
لحقوقك ابتغيت
" [55،56].

          بينما
كان الكل نائمين بالليل اعتاد داود النبي أن يسهر متذكرًا اسم الرب كسندٍ له
وموضوع بهجته.

          إن
كان العالم الشرير قد حوَّل حياة داود إلى ليلٍ مظلمٍ خلال الألم لكنه عرف كيف
يجتاز هذا الليل بسلام بتمسكه باسم الرب.

          بينما
ينشغل الأشرار بوضع خطط ومكائد في الظلام، يهتم داود النبي باسم الرب المخلص من كل
تجربة.

V في الواقع نحتاج أن نتذكر تعاليم اللَّه في كل وقت،
خاصة عندما تكون الظلمة حولنا والحوائط تسترنا (ابن سيراخ26:23)؛ أي عندما تدخل
شهوة دنسة إلى نفوسنا، وتفقدنا صوابنا، عندئذ يلزمنا أن نتذكر تعاليم
اللَّه الخاصة
بضبط النفس.

          من
جهة أخرى يلزمنا تقديم تفسير رمزي لما سبق، فنحسب الأوقات المناسبة (أوقات الفرح)
نهارًا والضيق ظلمة.

العلامة
أوري
جينوس

V الليل هو حالة انحطاط حيث متاعب الفساد. الليل بالنسبة
للمتكبرين هو ممارسة الشر بمبالغة. الليل هو الخوف على الأشرار الذين يتركون شريعة
الرب. أخيرًا الليل هو بيت الغربة، حتى يأتي الرب وينير خفايا الظلام ويعلن مشورات
القلوب ويكون لكل إنسانٍ مدحه من اللَّه. لذلك ففي هذا الليل يليق بالإنسان أن
يذكر اسم الرب حتى من يفتخر فليفتخر بالرب.

القديس
أغسطينوس

V لا يكفي لمنفعتكم الروحية أن تنصتوا إلى الدروس الإلهية في
الكنيسة بل أيضًا وسط جماعتكم في البيت تشتركون في القراءات المقدسة، لعدة ساعات
ليلاً حيث النهار مقصر، حتى أنكم في مخازن قلوبكم تقدرون أن تجمعوا الحنطة
الروحية، وتخزنوا جواهر الكتاب المقدس في كنوز نفوسكم. وحينما نأتي أمام المحكمة
التي يعقدها الديان الأبدي في اليوم الأخير كما يقول الرسول: "نوجد لابسين لا
عراة!"[31]

الأب
قيصريوس أسقف آرل

تعزيات كلمة
اللَّه

          1-
لا تقوم على استحقاقاتنا الذاتية بل على وعود
اللَّه وكلمته
الواهبة الحياة [49،50]، قائلين مع الرسول: "لأنني عالم بمن آمنت"
2تي12:1، واثقين في قول المخلص: "لا أترككم يتامى" يو18:14.

          2-
لا نرتبك بمقاومة الأشرار المتكبرين بل في إيجابية نهتم ألا نميل عن أحكام
اللَّه يمينًا (بالبر
الذاتي) أو يسارًا (بالسقوط في الخطايا)، بل نفكر في تعزيات
اللَّه المفرحة
[51].

          3-
لا نحزن على هزء المتكبرين الأشرار بنا، إنما نحزن لإدراكنا مصيرهم وهلاكهم [53].
أما من جهة أنفسنا فنحن ندرك أن سخريتهم تتحول لمجدنا، لهذا تصير أحكامه بالنسبة
لنا تسابيح مفرحة، تسندنا في أيام غربتنا [54].

          4-
إذ صار العالم كليلٍ مظلمٍ بسبب الظلم الذي يبثه الأشرار، فإنه يليق بنا أن نستيقظ
ولا ننام كالآخرين، نذكر اسم الرب ونحفظ شريعته [55]. بينما يلهو الأشرار في حفلات
صاخبة طوال الليل، يتعزى القديسون بالسهر الروحي والشركة مع
اللَّه وحياة
التسبيح المستمر.

 

من وحي
المزمور 119(ز)

 لتعزيني
مواعيدك في كربتي!

V أذكرك يا إلهي بوعودك

أنك تكون
معي إلي انقضاء الدهر.

وعودك هي
أجنحة تطير بها نفسي لاستقر في سمواتك،

لا أبالي
بالضيقات،

بل واتعزى
بالموت،

فانني أشتاق
إلى الالتقاء معك.

ماذا يمكن
أن يذلني مادمت تحقق وعودك لي؟!

V تعزياتك تشغلني،

تسندني فلا
أشتهى للأعداء شرًا،

وترفعني فوق
كل الأحداث.

لا أطلب
انتقامًا للخطاة،

بل تئن نفسي
لأجل خلاصهم.

أبكيهم لا
يومًا ولا أيامًا بل كل أيام حياتي.

V تعزياتك تؤكد لي غربتي،

فلا استقر
تمامًا حتى أجد لي مكانًا في الأحضان الإلهية.

إني جريح في
الطريق،

تعال أيها
السامري الصالح واحملني على منكبيك،

اعبر بي إلى
كنيستك التي هي فندقك.

هناك تهتم
بكل احتياجاتي حتى تجيء في اليوم العظيم.

V لأذكر اسمك بالليل فتتعزى نفسي،

في الليل
يضع الأشرار خططهم للظلم،

وفي الليل
أترقب مجيئك يا سرّ تعزيتي.

باسمك
القدوس يعبر ليل حياتي لأدخل فى نهار بلا ليل،

واتمتع
بأورشليم المستنيرة بشمس البرّ بلا غروب!

بينما يلهو
المستهترون بحفلاتهم في الليل،

أجد فيه
فرصة السهر وترقب مجيئك أيها العريس الأبدي.



[1]   Duties
of the Clergy, Book 1:2:7.

[2]   Letter
127 to Principia 4.

[3]   Of the Holy Spirit, Book
2:4:29.

[4]   Letter 53:4.

[5]   Against Pelagians. Book
1,14.

[6]   Letter 108:9.

[7]  Comm. on Luke, hom. 53.

[8]  Dial. with Heraclides, 156.

[9]  Confessions,10:70.

[10]  Hom 76 on Mark 1:13 etc.

[11] Paschal Letters 20:1.

[12]   Bethany Parallel Commentary on the O.T.
(Adam Clarke), p. 1157.

[13]  Theododort: Ecc. His. 5:17.

[14]   The
Institutes 10:4.

[15]   Bethany
Panallel Commentary on O.T, (Adam Clarke), p. 1158.

[16]   St.
Cassian: Conferences, 16:27.

[17]   In Ezek. hom 4:3 (Die Griechischen Christlichen
Schrifsteller, 8:363).

[18]   In Gen.
hom, 6:1. PG 12:195.

[19]   Flight
from the world, 1:1.

[20]   Duties
of the Clergy, Book 2:6:26.

[21]   Hom., 6
(Frs. of the Church).

[22]   Sermon
172:4.

[23]   On the
Mysteries, Lec. 1 (19):6.

[24]  In Gen.
hom. 10:1; PG 12:215.

[25]   Letter
40:2.

[26]   Letter
57:4.

[27]   The Acts
of the Apostles, hom. 17.

[28]   Sermons
N.T. Lessons, 55:5.

[29]   PG
31:257 D.

[30]   In Epis,
ad Phil. 3:4.

[31]   Sermon
7:1.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي