الاصحاح
السادس عشر

 

منعه من الزواج

         

إذ كانت الكارثة التي ستحل بالشعب مُرة للغاية طلب منه ألا
يتخذ لنفسه إمرأة ولا يكون له بنون ولا بنات، لكي لا يقيم في بيت خاص به ع1-4، ولا
يذهب إلي بيت حزن ع5-7، أو بيت وليمة ع8،9، بسبب السبي الذي يحل بالشعب. بهذا صارت
حياة إرميا مرآة يرى من خلالها الشعب صورة عملية لما سيحل بهم من تأديبات إلهية
وحرمان! وكأن اللَّه قدم إرميا نفسه وسيلة أيضًاح، يشهد بكلماته كما بسلوكه عن حكم
اللَّه عليهم. سيحل بالموضع ميتات ولا يوجد من يندب أو يدفن ولا من يعزى، وتنقطع
أيام الفرح تمامًا، فلا ُيسمع صوت عريسٍ ولا صوت عروسٍ. وقد قدم للشعب تعليلاً
لحرمانهم من الفرح والتعزية، ليعود فيفتح أمامهم باب الرجاء، لا بالفرح بعودتهم من
السبي، وإنما بتمتعهم بالخلاص في العصر المسيإني.

1. حياة إرميا مرآة لحياة الشعب      1-9.

2. اعتزال الحياة اليومية              10-13.

3. خروج جديد                        14-15.

4. الفرح بالخلاص المسيإني          16-21.

 

1. حياة إرميا مرآة لحياة الشعب

          "ثم صار إلي كلام الرب، قائلاً:

          لا تتخذ لنفسك امرأة ولا يكون لك بنون ولا بنات في
هذا الموضع،

          لأنه هكذا قال الرب عن البنين وعن البنات
المولودين في هذا الموضع،

          وعن أمهاتهم اللواتى ولدنهم،

          وعن آبائهم الذين ولدوهم في هذه الأرض:

          ميتات أمراض يموتون،

          لا ُيندبون ولا ُيدفنون،

          بل يكونون دمنة علي الأرض،

          وبالسيف والجوع يفنون،

          وتكون جثثهم أكلاً لطيور السماء ولوحوش
الأرض"
ع1-4.

يرى Holladay أن الآيات 1-9 تمثل قطعة شعرية، فيها يتحدث اللَّه مع إرميا بخصوص
حياته وحياة الشعب[i].

آية 1   مقدمة.

آية 2   أمر اللَّه لإرميا             : لا تتزوج.

آية 3   تقرير اللَّه عن الشعب       : بخصوص الوالدين
والأبناء.

آية 4   تقرير اللَّه عن الشعب       :  بخصوص الموت والدفن.

آية 5   منع لإرميا من قبل اللَّه      :  عدم المشاركة في
الجنازات.

آية 6   تقرير اللَّه عن الشعب       :  ليس من يحزن علي
الموتى.

آية 7   تقرير اللَّه عن الشعب       :  لا يحزن أحد علي
ميته ولو كان أحد والديه.

آية 8   منع لإرميا من اللَّه          :  عدم المشاركة في
الولائم.

آية 9   خطاب موجه من اللَّه للشعب : لا صوت للفرح، ليس من
ُعرس!

وقد حمل الشعر تنسيقًا (Symmetrical patern) فإن وضعنا حرف "ا" عن الحديث بخصوص إرميا،
"ش" بخصوص الشعب يكون تنسيق الآيات من 2 إلي 9 هكذا: ا ش ش؛ ا ش
ش؛ ا ش.

كما يلاحظ أنه في الآية 3 عندما تحدث عن الموت أخذ تنسيقًا
شعريًا خاصًا، وذكر البنين، البنات، البنات، البنين[ii]،
كما ذكر "في هذا الموضع" (مذكر) ثم "في هذه الأرض" (مؤنث).

امتنع كلا من إرميا النبي والرسول بولس عن الزواج،
لكن أهدافهما كانت مختلفة. امتنع إرميا النبي عن الزواج بأمر إلهي لكي لا تكون له
زوجة وأبناء، أما بولس الرسول فامتنع اختيارًا لكي يكرس كل وقته وطاقاته للعبادة
وخدمة الكلمة (1كو7:7،26، 32-34). امتنع إرميا عن الزواج حتى لا تعيش زوجته في
مرارة حين ُيقتل الأبناء بالسيف أو يُسبون إلي بابل، أما بولس الرسول فامتنع عنه
لأن الوقت مقصر فلا يود أن يهتم كيف يرضى امرأته، بل كيف يرضى الرب.

بأمر إلهي تزوج هوشع امرأة زانية، سواء كانت قد
ارتكبت الزنا أو عبدت الأوثان (بكون عبادة الأوثان زنًا)، سواء كان زواجًا حقيقيًا
أو مجرد رؤيا أو رمزًا. أما إرميا النبي فبأمر إلهي ُمنع من الزواج حتى لا يكون له
أبناء. الأول أعلن عن مدى فساد الشعب في علاقته باللَّه إلهه، والثاني أعلن عن
ثمرة هذا الفساد. الأول كشف عن خيانة الشعب للّه، والثاني عما سيحل بهم من هلاك،
حيث تترمل النساء وتصير كل منهن ثكلي. الأول بحياته يعلن عن شوق اللَّه إلي شعبه
ليرجع إليه ولكن بدون خيانة زوجية، أما الثاني فيعلن بحياته عن حالة الموت التي
تحل بالشعب بإصراره علي الخطية.

يظن البعض أن إرميا سبق أن تزوج وماتت زوجته بعدما أنجبت،
وقد منعه اللَّه من الزواج الثاني، بينما يرى آخرون أنه منعه من الزواج في عناثوث
فقط، إذ قال له: "في هذا الموضع" ع1، وسمح له بالزواج في موضع
آخر[iii].

علي أي الأحوال إذ سلم الأنبياء الحقيقيون حياتهم بين يديّ
اللَّه تكلم بها علي ألسنتهم وخلال حياتهم، فكانوا يتنبأون بالعبارات النبوية
والرؤى والأمثال كما بحياتهم،
نذكر علي سبيل المثال:

زواج هوشع بزانية (هو1-3) يكشف عن خيانة الشعب للّه
وارتكابه الزنا الروحي بعبادة للأوثان وما يتبعها من رجاسات.

عدم مشاركة حزقيال في جنازة زوجته (حز15:24-27) حيث
لم يذرف عليها دمعة ولا نطق بكلمة حزنٍ يعلن عن تدمير الشعب، العروس المحبوبة لدى
اللَّه، دون أن تجد من يبكيها[iv].

عائلة إشعياء (إش7،8) تشهد للأحداث الخاصة بالشعب.
فدُعى ابنه الأول شآرياشوب (تعني البقية سترجع)، ليؤكد أن المسبيين من يهوذا
يرجعون. وُدعى الابن الثاني مهيرشلال حاز (يعني أسرع إلي السلب أو بادر إلي النهب)
ليؤكد أن أشور قادم سريعًا ليسلب آرام وينهب إسرائيل منقذًا أورشليم، وفي نفس
الوقت ينذر شعب يهوذا لاتكاله علي أشور، لا علي الرب[v].

كان إيليا بتولاً،

  وكان كثير من أبناء الأنبياء بتوليين.

  قيل لإرميا: "لا تأخذ زوجة"، فإنه إذ
تقدس في الرحم أُمر ألاّ يأخذ زوجة، لأن وقت السبي كان قد اقترب.

  يقول الرسول نفس الشيء بكلمات أخرى: "أظن أنه لأجل
الضرورة الحاضرة حسن للإنسان أن يكون هكذا" (1كو26:7). أية ضرورة هذه التي
تنزع أفراح الزواج؟ إنه قصر الوقت، فيكون الذين يتزوجون كأنهم لا يتزوجون
(1كو29:7)

[vi].

القديس جيروم

كانت الأسرة الكبيرة في الشرق بوجه عام تُحسب مباركة من قبل
اللَّه (تك17:22؛ مز3:127-4)، كما يُحسب عدم الإنجاب عارًا وعلامة علي غضب اللَّه
(تك1:30؛ 1صم6:1-8)، والعزوبية أو البتولية أمرًا يسبب حزنًا (قض37:11). امتناع
شاب مثل إرميا عن الزواج أمر مثير، لم يحدث بناء علي رغبته وإنما طاعة للّه
واقتناعًا بأن نهاية يهوذا كانت قد اقتربت جدًا[vii].

بقوله: "ميتات أمراض يموتون" ع4، يعنى
معاناتهم من أمراض كثيرة بسبب الحروب بوجه عام، خاصة أثناء الحصار، كما بسبب
الجوع، وأيضًا معاناتهم من الآلام والمتاعب، مع حالة من الرعب تؤدى بهم إلي الموت.

يُعتبر عدم دفن الموتى وترك الجثث لكي تأكلها طيور السماء
ووحوش البرية من أبشع أنواع اللعنات التي يسقط تحتها الإنسان (تث26:28)
[viii]، يزيدها لعنة أنهم لا يجدون من يندبونهم أو يبكون عليهم.

يمكن تصور المنظر هكذا أن الشوارع تمتلئ بالجثث بغير مبالاة،
فتُترك طعامًا للطيور الجارحة والحيوانات المفترسة ولا يوجد من يبكى الموتى، لأنه
لا يوجد من هو حيّ.

"لأنه هكذا قال الرب:

لا تدخل بيت النوح، ولا تمضِ للندب، ولا ُتعزهم،

لإني نزعت سلامى من هذا الشعب يقول الرب الاحسان والمراحم" ع5.

ُطلب منه ألا يدخل بيت النوح marzeah، هذه الكلمة ظهرت مرة أخرى في (عا7:6) فقط، وهي من أصل Ugaritic تشير إلي اجتماع دينى لغرض جنائزى، فيه ُتقدم مائدة في صالة حيث
الشرب بشراهة مع تصرفات منحلة[ix]. ُتستخدم في
الأرامية عن ولائم الجنازات[x]. لكن هنا كما في
عاموس لا تستخدم بنفس الصورة التي كانت لدى الأمم.

انسحاب إرميا النبي حتى عن المشاركة في ولائم الجنازات يشير
إلي انسحاب اللَّه نفسه ورجاله عن حياة الشعب الذي أعطاه القفا لا الوجه. يسحب
اللَّه عنهم أربعة أمور ع5:

ا. يسحب سلامه، هنا كلمة "سلام" في معناها
الواسع تعني أن تكون كل الأمور علي ما يرام. تفقد الجماعة اتزانها وتدخل في حالة
ارتباك روحي واجتماعي ومادي ونفسي، كما يدخل كل عضو فيها في ارتباك علي كل
المستويات.

ب. يسحب انتسابه إليهم، فلا يصيروا شعبه بل يدعوهم:
"هذا الشعب"،
فيفقدون مصدر حياتهم وفرحهم وغناهم ومجدهم وحريتهم.

ج. يسحب عنهم إحسانه، أي حبه وبركاته لهم، لأنهم لا
يقبلوا هذا الحب ولا يتجاوبون مع بركاته ونعمه.

د. ينزع عنهم مراحمه، فلا يشفق ماداموا مصرين علي
العنف ولا يعرفون الرحمة.

بانسحاب إرميا عن الحياة العامة يعلن انسحاب اللَّه نفسه
بسلامه وإحساناته ومراحمه فيسقطوا تحت اللعنة والحرمان والأمراض والخزي والموت!

"فيموت الكبار والصغار في هذه الأرض.

لا ُيدفنون ولا يندبونهم ولا يخمشون أنفسهم ولا يجعلون قرعة
من أجلهم"
ع6.

هذه عادات خاصة بالحزن تمنعها الشريعة لأنها مرتبطة بعبادة
الإله الكنعاني موت
Mot (تث14:26؛ حز14:8؛ لا27:19،28؛ 5:21؛ تث1:14). فكان الناس يخمشون
أنفسهم أو يجرحون أنفسهم ويحلقون شعر رأسهم تمامًا وأيضًا اللحية، الأمر الذي يبدو
أنه قد انتشر في إسرائيل علي نطاق واسع (5:41؛ 5:47؛ 37:48؛ إش2:15؛ 2:22، حز16:7؛
ميخا16:1 الخ). هنا لا يصدر المنع كوصية، لأنه سبق فأوصاهم بذلك حين قدم لهم
الشريعة، إنما يعلن عدم مشاركتهم في الجنازات حيث اعتادوا علي ممارسة هذه العادات
الوثنية. جاءت الكلمتان "يدفنون ويندبونهم" في صيغة الجمع بينما
"يخمشون ويجعلون قرعة" في العبرية في صيغة المفرد، ربما لأن
الدفن والندب تقوم به الجماعة، أما الخمش وجعل القرعة فيقوم بها أكثر الأموات قربى
كنائب عن الكل.

"ولا يكسرون خبزًا في المناحة ليعزوهم عن ميت،

ولا يسقونهم كأس التعزية عن أبٍ أو أمٍ" ع7.

لا تزال هذه
العادة قائمة في مصر، خاصة في المدن الصغيرة والقرى، وهي أن يقدم المعزون طعامًا،
خاصة الخبز، وبعض أنواع الشرب كالقهوة، علامة المشاركة والمحبة، حيث يلتزم أهل
الميت بالأكل والشرب بدلاً من الامتناع عنهما كعلامة علي الحزن الشديد، كما حدث مع
داود الذي أصر علي عدم الأكل حتى الغروب عند موت ابنه أبشالوم (2صم35:3). وأيضًا
كنوعٍ من المشاركة في اطعام القادمين من مناطق بعيدة من الأقرباء، فيقوم الجيران
بإعداد الطعام لأقرباء الميت.

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس القمص تادرس يعقوب عهد قديم سفر العدد 07

في الطقس اليهودي المتأخر كان يُقدم كأس تعزية، وهو كأس خمر
خاص يشربه رئيس الحزانى.

يذكر سفر طوبيا (17:4) تقديم طعام للموتى، يوضع في القبر،
وقد وُجد في مقابر للعبرانيين أطعمة توضع مع الموتى.

يرى البعض أن عادة إحضار الطعام تقوم علي النظرة إلي بيت
الميت أنه دنس لذا يُعد الطعام خارجًا ثم يُحضر الأكل[xi].
جاء في سفر هوشع: "إنها لهم كخبز الحزن، كل من أكله يتنجس، إن خبزهم لنفسهم،
لا يدخل بيت الرب" (هو4:9).

"ولا تدخل بيت الوليمة لتجلس معهم للأكل والشرب" ع8.

جاء "بيت الوليمة" هنا مقابل "بيت
الحزن
"، كما جاء في (جا22:7)، غالبًا ما يُقصد به الاحتفال بالعرس.

هنا يمنعه
من مشاركة أهل الوليمة في أفراحهم، فلا يدخل ليجلس معهم يأكل ويشرب، لكنه قد يدخل
لكي يعلن كلمة اللَّه ويحثهم علي التوبة قبل أن يحل بهم التأديب. بمعنى آخر
يطالبنا اللَّه ألا نجامل إنسانًا علي حساب الحق الإلهي وخلاص نفوسنا أو نفوس الآخرين.
لنشارك الحزانى والفرحين، لكن من خلال الحق الإلهي ليتمموا إرادة اللَّه، فلا
نشاركهم بالأكل والشرب والكلمات المعسولة، إنما لكي نضع خلاص اللَّه وتتميم إرادته
أمام أعيننا.

"لأنه هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل

هأنذا مُبطل من هذا الموضع أمام أعينكم وفي أيامكم

صوت الطرب وصوت الفرح،

صوت العريس وصوت العروس" ع9.

هنا نبلغ إلي جوهر هذه القطعة الشعرية حيث يتحدث اللَّه مع
شعبه مباشرة.

تحولت
البلاد التي رفضت اللَّه الحيّ إلي أشبه بمقبرة لا يُقام فيها ولائم مفرحة، ولا
يُسمع فيها صوت طربٍ روحي ولا مراسيم زواج. إنها حالة النفس التي يريد الرب أن
يقيم فيها ملكوته، ملكوت الفرح الحقيقي، مملكة النور، فإذا بها تصر أن تكون مملكة
الظلمة والمرارة الفاقدة لكل بهجة قلب!

هنا يلزمنا إلا نتجاهل موقف إرميا النبي الذي يتقبل حكمة
الرب بتسليم كامل دون تساؤل: إلي متى يكون هذا؟

 

2. اعتزال الحياة اليومية

"ويكون حين ُتخبر هذا الشعب بكل هذه الأمور أنهم يقولون
لك:

لماذا تكلم الرب علينا بكل هذا الشر العظيم؟

فما هو ذنبنا؟ وما هي خطيتنا التي أخطأنا بها إلي الرب
إلهنا؟

فتقول لهم:

من أجل أن آباءكم قد تركوني يقول الرب،

وذهبوا وراء آلهة أخرى وعبدوها وسجدوا لها،

وإياي تركوا وشريعتي لم يحفظوها،

 وأنتم أسأتم في عملكم أكثر من آبائكم…

فأطردكم من هذه الأرض إلي أرض لم تعرفوها أنتم ولا آباؤكم،

فتعبدون هناك آلهة أخرى نهارًا وليلاً حيث لا أعطيكم
نعمة"
ع10-13.

هذه العبارات ع10-13 في الواقع هي مرثاة صغيرة في شكل أسئلة
ع10 يتبعها نطق بحكم علي شعب يهوذا ع11-13.

من الجانب الأدبي تستخدم هذه الطريقة في مواضع أخرى[xii]
مثل (تث21:29-27، 1مل8:9-9)، حيث تستخدم ثلاثة عناصر:

ا. سؤال بخصوص حكم يصدر.

ب. إجابة وتوضيح أن الحكم التأديبي بسبب جحود الشعب.

ج. تقرير عن الكارثة التي بسببها أثير التساؤل.

أُصيب ضمير هذا الشعب بالعمى فلم يعد يرى الحق؛ كما حلّ به
الموت. ولم يعد يدرك حكمة اللَّه، فدخلوا في تساؤلات تكشف عن عجزهم عن أن يسمعوا
ويفهموا ويطيعوا ع12. كما يكشف عن محاولة تبريرهم لأنفسهم وإلقاء اللوم علي اللَّه
عوض الاتضاع أمامه والاعتراف بخطاياهم. ومع هذا فإن اللَّه في طول أناته لم يغضب
بل أجاب علي تساؤلهم، إذ يريد دائمًا الدخول في حوار مع الإنسان، والكشف عن الحق
أمامه لأجل توبته، لكي يدركوا أن اللَّه ليس بالآمر الناهي.

يجيب اللَّه علي سؤال الشعب هكذا:

ا. العقاب قادم لأن آباءهم تركوه (5:2،13).

ب. إن ما يفعلوه ليس بأفضل مما فعله آباؤهم، بل أشر.

ج. لم ينتفعوا بخبرة آبائهم ومعاملات اللَّه معهم.

 هذا لا يعنى ان اللَّه يدينهم من أجل آبائهم، وأنهم بلا
عذر، إنما لأنهم سلكوا في ذات الطريق فصارت الخطية تمثل خطية جماعية تجتاز عبر
العصور.

غاية هذا القسم تأكيد أن العقوبة تتناسب مع نوع الخطأ، فقد
عبدوا الآلهة الغريبة، لذا استحقوا أن يطردوا إلي بلادٍ غريبةٍ ليعبدوها هناك. لقد
سحب اللَّه الحقيقي بركته عنهم وفقد الشعب الأمان.

حينما نصر علي خطايانا، تطردنا خطايانا من الموضع الذي نحن
فيه كأبناء للّه. ُنطرد من النور ومن الحضن الإلهي والمعرفة الإلهية لنخرج إلي أرض
لا نعرفها، أي إلي الظلام وعدم المعرفة. تفقد النفس سعادتها التي تجدها في المعرفة
الإلهية
والخدمة الإلهية واختبار الحب الإلهي.

بقوله "نهارًا وليلاً" يعلن أنهم يمارسون
عبادتهم للآلهة الأخرى بإرادتهم، حتى في الليل، حيث لا يلزمهم أحد بذلك.

 

3. خروج جديد

"لذلك ها أيام تأتي يقول الرب:

ولا يقال بعد حيُ هو الرب الذي أصعد بني إسرائيل من أرض مصر،

بل حيّ هو الرب الذي أصعد بني إسرائيل من أرض الشمال ومن
جميع الأراضي التي طردهم إليها،

فأرجعهم إلي أرضهم التي أَعطيت آباءهم إياها" ع14،15.

تكرر هذا القول في (إر7:23-8) مع اختلاف بسيط.

يعلن اللَّه هنا عن أمرين:

ا. أن التأديب أو العبودية في أرض السبي أكثر مرارة مما كان
في أرض مصر، حتى يكاد يفقد الناس رجاءهم في العودة إلي أرضهم. لذا عند عودتهم لا
يعودوا يذكروا عمل اللَّه معهم حين حررهم من مصر، بل عمله معهم حين حررهم من
السبي.

في مصر جاءت العبودية تدريجيًا، أما في بابل فجاءت دفعة
واحدة، وبطريقة غير متوقعة.

في مصر كان لهم أرض جاسان خاصة بهم، أما في بابل فلم يكن لهم
أرض خاصة بهم، بل كانوا في وسط البابليين الذين كانوا يقومون باحتفالات للآلهة
الوثنية ومواكب نصرة كغالبين علي إله إسرائيل، وذلك لإغاظة المسبيين.

في مصر كانوا خدمًا نافعين للمسخرين لهم، أما في بابل فكانوا
موضع كراهية كمسبيين.

ب. يقدم لهم أيضًا رجاءً أنهم سيعودون من السبي في خروجٍ
جديدٍ، حتى متى سقطوا تحت قسوة التأديب لا ييأسوا، ولا يظنوا أن السبي هو النهاية،
وإنما هناك عودة إلي أرض الموعد.

تعبير "حيّ هو الرب" هو قسم كان يمارسه
اليهود يشيرون به إلي اللَّه إله الخروج من مصر (خر8:3،17؛ 3:17؛ 1:32،4،6،7،8،23
الخ.) لكن إذ يختبروا خروجًا جديدًا يغيرون صيغة القسم.

 

4. الفرح بالخلاص المسيإني

بعد أن تحدث عن الفرح بالعودة من السبي، دخل بنا إلي الفرح
الحقيقي في العهد الجديد حيث قدم لنا السيد المسيح كلمة الخلاص خلال تلاميذه ويكمل
هذا الفرح بالأكثر عندما تحملنا الملائكة إلي اللقاء مع الرب في اليوم الأخير، إذ
يقول:

"هأنذا أرسل إلي جزافين (صيادي سمك) كثيرين يقول الرب
فيصطادوهم،

ثم بعد ذلك أُرسل إلي كثيرين من القانصين (صيادي حيوانات)
فيقتنصوهم عن كل جبل وعلي كل أكمة،

ومن شقوق الصخور.

لأن عيني علي كل طرقهم.

لم تستتر عن وجهي،

ولم يختفِ إثمهم من أمام عينيّ

وأعاقب إثمهم وخطيتهم ضعفين،

لأنهم دنسوا أرضي،

وبجثث مكرهاتهم ورجاساتهم قد ملأوا ميراثى"
ع16-18.

التشبيه الخاص بدعوة صيادي سمك للصيد بين شعب يهوذا شائع كما في (حز13:12؛
4:29-5؛ عا2:4، حب14:1-17). وأيضًا صيادي الحيوانات الذين يصطادون حتى من شقوق
الصخور كان معروفًا، كما جاء في (عا1:9-4).

يقصد بالتشبيهين أن عيني اللَّه تنظران إلي كل شيء حتى ما
يبدو مخفيًا في وسط البحار أو في شقوق الصخور، وأنه لابد من المجازاة عن الشر
أينما اُرتكب.

يرى كثير من الدارسين أن تقسيم العدو الذي يسبي البلاد إلي
صيادي سمك وصيادي وحوش، وذكره أنه يعاقب إثمهم وخطيتهم ضعفين، إشارة إلي السبي علي
دفعتين عاميّ 598، 587ق.م، بهذا السبي الذي تم علي مرحلتين انتهت حياة الأمة
تمامًا.

الجزافون (صيادو السمك) والقانصون (صيادو الوحوش)

الجازفون في رأي العلامة أوريجينوس هم تلاميذ السيد
المسيح، صيادوا السمك، الذين اصطادوا النفوس ودخلوا بها إلي شبكة الكنيسة الملقاه
في بحر هذا العالم لتعيش كالسمك الصغير مع السمكة الكبيرة "المسيح
نفسه". أما القانصون فهم الملائكة الذين يجتذبون المؤمنين الذين صاروا
كالجبال والأكمة وتمتعوا بشقوق الصخور فصار لهم حق اللقاء مع عريسهم السماوي في
اليوم الأخير. يقول العلامة أوريجينوس:

 [في شبكة الرسل نموت لنحيا من جديد! مكتوب في
إنجيل متى ان مخلصنا جاء إلي شاطئ بحر الجليل ورأي "سمعان وأندراوس أخوه
يلقيان شباكهم في البحر، لأنهما كانا صيادين" ثم يضيف الكتاب أن المخلص حينما
رآهما دعاهما قائلاً: "هلم ورائي فأجعلكما صيادين للناس
". هذان تركا شباكهما وتبعاه. ثم وُجد أيضًا أخوان: يعقوب بن زبدي
ويوحنا أخاه في السفينة مع زبدي أبيهما يصلحان شباكهما. فدعاهما أيضًا ليكونا
صيادين للناس. إذا نظرنا إلي الذين أعطاهم الرب موهبة الكلمة المجدولة مثل الشبكة،
والمصنوعة من مجموعة كلمات متشابكة مع بعضهما البعض ومأخوذة من الكتاب المقدس،
بحيث تأسر في شباكها نفوس السامعين، وإذا علمنا أن ذلك الأمر يستلزم تواضعًا كما
يعلمنا السيد المسيح، لأدركنا أنه ليس في الماضي فقط أرسل اللَّه صيادين للناس،
إنما الآن أيضًا لا يزال يرسل الرب صيادين للناس بعدما يقوم بتعليمهم، حتى يخرجونا
من البحر وينقذونا من مرارة أمواجه.

          لكن الأسماك التي تقع في الشباك تموت موتًا بلا
قيامة وليس لها  حياة بعد هذا الموت، أما الذين يسقطون في شباك صيادي السيد المسيح
والذين خرجوا من البحر، يموتون هم أيضًا، لكنهم يموتون عن العالم وعن الخطية، بعد
هذا الموت يحيون من جديد بواسطة كلمة اللَّه ويأخذون حياة جديدة. أي أنك تخرج من
البحر وتقع في شباك تلاميذ السيد المسيح، وعند خروجك تتغير نفسك، فلا تعد السمكة
التي تعيش وسط الأمواج والخارجة من البحر لتموت، وإنما تتغير نفسك وتتبدل وتتحول
إلي نفسٍ أفضل، بل وإلي نفسٍ إلهية. ويقول بولس الرسول: "ونحن جميعا ناظرين
مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة تتغير إلي تلك الصورة عينها من مجدٍ إلي مجدٍ كما
من الرب الروح" (2كو18:3).

هل تبحث عن  الكتاب المقدس يسوعية كاثوليكية عهد قديم سفر التكوين 18

          بما أن هذه النفس التي ُأخذت من شباك الصيادين
الذين أرسلهم السيد المسيح قد تغيرت ولم تعد بعد تعيش في البحر، لذا تعيش في الجبال،
بحيث لا تعود تحتاج إلي صياد يصطادها من البحر، إنما تحتاج إلي نوع آخر من
الصيادين البريين الذين يصطادون علي كل جبلٍ وعلي كل أكمةٍ.

          عندما تكون قد خرجت من البحر وأُخذت في شباك رسل
السيد المسيح، تَغَيرْ في نفسك واتركْ البحر وامحه تمامًا من ذاكرتك، ثم تعالَ إلي
الجبال التي هي الأنبياء، وعلي الأكمة التي هي الأبرار، واقضِ هناك حياتك، حتى متى
جاء موعد رحيلك من هذه الحياة، يرسل إليك صياديين من نوع جديد وهم الملائكة الذين
يستلمون أرواح الأبرار، فهم مكلفون باستلام الأرواح الموجودة علي الآكام  وليس
الأرواح المائتة المطروحة إلي أسفل.

          اعتقد أن هذا المعنى هو الذي كان يقصده النبي
حينما قال في نبوته: "هأنذا أرسل إلي جزافين (صيادي سمك) كثيرين يقول الرب
فيصطادونهم ثم بعد ذلك أرسل إلي كثيرين من القانصين فيقتنصونهم عن كل جبل وعن كل
أكمة
".

إذ تتغير السمكة التي امسكها تلاميذ الرب، لتكف عن الحياة في
البحر وتحيا في الجبال، فلا تحتاج بعد إلي صيادين يسحبونها من البحر، وإنما إلي
نوع آخر من الصيادين اسمهم قناصين "يقتنصونها عن كل جبل وعن كل أكمة"
ع16[xiii].
]

الصعود علي الجبال المقدسة      

          [إن أردت
أن يأخذك القانصون احذر من أن تقضى حياتك مختبئا في هذه الأرض وعائشًا في التراب،
بل ابحث عن الجبال.

          اصعد إلي الجبل الذي تجلي عليه السيد المسيح.

          اصعد إلي الجبل الذي قيل عنه: ولما رأي الجموع صعد
إلي الجبل، ولما جلس تقدم إليه تلاميذه ففتح فاه وعلمهم قائلاً طوبى للمساكين
بالروح لأن لهم ملكوت السموات، وبقية التطويبات التي علمها لهم السيد المسيح علي
هذا الجبل
[xiv].]

          ["ثم أرسل بعد ذلك إلي كثيرين من
القانصين فيقتنصونهم عن كل جبل وعن كل أكمة ومن شقوق الصخور"
. غير مسموح
لهؤلاء القانصين أن يصطادوا إلا علي "الجبال" وعلي "الآكام"
وفي "شقوق الصخور". كيف أفسر "شقوق الصخور"؟

          ارجع إلي سفر الخروج وابحث فيه عن تفسيرٍ لذلك؛
أجد أن موسى النبي حينما أراد أن يرى اللَّه، قال له الرب هذه الكلمات ليجيب علي
طلبه: "هوذا عندي مكان، فتقف علي الصخرة، ويكون متى اجتاز مجدي إني أضعك في
نقرة من الصخرة وأسترك بيدي حتى أجتاز. ثم أرفع يدي فتنظر ورائى، وأما وجهي فلا
يُرى" (خر21:33).

          إذا فهمت ما هي هذه الصخرة وما هي هذه الفتحة أو
النقرة الموجودة فيها عالمًا كيف أن الذي يقف علي الصخرة وينظر من  خلال النقرة
التي فيها يمكنه أن يرى اللَّه لأمكنك أن تفهم ما هي الصخور العديدة وما هي
شقوقها.

          ما هي إذن تلك الصخرة الفريدة من نوعها؟
"لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح
(1كو4:10)"، وأيضًا: "وأقام علي صخرة رجلي" كما يقول المزمور2:40.

          ما هي إذًا النقرة الموجودة في الصخرة
والتي تمكنا من رؤية ما وراء اللَّه (فتنظر ورائي)؟

          الصخرة هي السيد المسيح، والنقرة الموجودة فيها هي
التجسد الإلهي، لأنه بمجيء السيد المسيح في الجسد أمكننا أن ننظر ما وراء الرب، أي
الابن الكلمة.

          إلي الآن لم نتكلم إلاّ علي صخرة واحدة ونقرة
واحدة فقط، لذا انتقل من نقرة الصخرة إلي شقوق الصخور. فإنه بالنظر إلي جماعة
الأنبياء أو الرسل أو الملائكة القديسين، يمكنني أن أقول أن كل المتشبهين بالسيد
المسيح، يصيرون صخورًا كما أنه هو أيضًا صخرة. وكما أن المخلص له نقرة يمكننا من
خلالها أن نرى ما وراء الرب، كذلك أيضًا كل واحدٍ منهم، يصنع في نفسه نقرة أو شقًا
يمكننا من رؤية اللَّه، ذلك من خلال "كلماتهم" التي ترشدنا إلي الرب.
فموسى قدم لنا الناموس، وإشعياء قدم لنا نبوته، وإرميا قدم لنا كلمات أخرى للرب.
لكن إذا حدث وكان المتكلم هو ملاك كما تقول الآية: "الملاك الذي يتكلم
في"، ففي هذه الحالة أيضًا يكون عندي "صخرة" و"نقرة"،
وأرى اللَّه من خلال كلمات (نقرة) الملاك (الصخرة).

          أحتاج إلي مثال لأوضح كيف يمكننا أن نرى اللَّه
عن  طريق ملاك. مكتوب في سفر الخروج: "وظهر له ملاك الرب بلهيب نارٍ من وسط
ُعلِّيقة، فنظر وإذا العليقة تتوقد بالنار والعليقة لم تكن تحترق ثم
بعد ذلك، لم تقل له الكلمة: "أنا ملاك من عند الرب"، وإنما: "أنا
إله إبراهيم إله إسحق وإله يعقوب" (خر6:3) .

          إذن في هذه الحالة يظهر اللَّه في صورة ملاك،
وبالتالي يمكن رؤيته عن طريق  الصخرة التي هي الملاك، كذلك عن طريق النقرة التي هي
كلمات الملاك له.

            إذ تجهل متى
يرسل اللَّه إليك القانصين، يجب عليك ألا تنزل أبدا من علي الجبال،
ولا تترك الآكام، ولا تخرج من شقوق الصخور، لأنك إن وُجدت خارجًا،
يُقال لك مثل أهل العالم الموجودين خارجًا باستمرار: "يا غبي، هذه
الليلة تؤخذ نفسك منك، فهذه التي أعددتها لمن تكون؟" يُقال لك نفس هذا الكلام
إذا قلت في نفسك: "أهدم مخازني وابني أعظم منها، وأقول لنفسي: يا نفسي
كلي وشربي لك خيرات كثيرة تكفيكِ لسنين كثيرة". أرأيت إذن كيف أن
الإنسان الذي يعيش أسفل "الجبال" وأسفل "الآكام" وخارج
"شقوق الأرض" يخطئ حتى في تقديره للخيرات، حاسبًا أن تلك الأشياء
التي علي الأرض  خيرات. يظن أن القمح وكثرة الأشياء الأرضية تسمى خيرات،
ولا  يدرك أن الخيرات الحقيقية لا توجد في الأرض التي نزرعها وإنما في السماء،
ولأنه حسب أن الخيرات موجودة في الأشياء الأرضية ظل يكنز كنوزًا علي الأرض. لكن
إذا اتبع أحد قول السيد المسيح وكنز كنزه في السماء، فلن يُقال له: "يا غبي،
هذه الليلة تؤخذ نفسك منك بل يأخذه القانصون من علي
الجبال
أو من علي الآكام أو من بين الصخور ليقوده إلي حيث
الراحة الأبدية في أحضان القديسين والأنبياء وكل المطوبين في المسيح يسوع. "لأن
عيني علي كل طرقهم"، أي طرق الأبرار الذين نتحدث عنهم.

فإن
عيني الرب مركزة علي كل طرق الناس الذين  يعيشون علي الجبال وعلي الآكام وبين شقوق
الصخور. "لم تستر عن وجهي" أو "لم يختبئوا من أمام وجهي"،
أي أن الأبرار لا يختبئون من أمام وجه الرب، أما الأشرار فيختبئون.

          سمع آدم بعدما كسر الوصية صوت الرب يتمشى في
الجنة فاختبأ،
أما الأبرار فلا يختبئون، بل تعطيهم الحياة المقدسة في الرب ثقة
يستطيعون من خلالها أن يقفوا أمامه، لأنه "إن لم تلمنا قلوبنا فلنا ثقة من
نحو اللَّه، ومهما سألنا ننال منه" (1يو21:3-22).

          بالرغم من أن آدم قد أخطأ إلا أن خطيته لم تكن
خطية فظيعة، لهذا اختبأ من أمام وجه الرب، أما قايين فكانت خطيته أكبر
بكثير، إذ قتل أخاه، فماذا فعل؟ "خرج قايين من لدن الرب"
(تك16:4). بالنظر إلي الحالتين نجد أن الاختباء من وجه الرب" يكون من أجل شرٍ
أقل. في الواقع "الاختباء" دليل علي خزي الإنسان من خطيته.

          إذًا فإن الأبرار "لم يختبئوا من أمام
وجهي
". حدث بعد ذلك أن هؤلاء الأبرار سقطوا في بعض الخطايا،  ثم قام
الصيادون المُرسلون من قبل اللَّه بانتشالهم خارج خطاياهم أي من البحر. حتى لا يظن
هؤلاء الأبرار أن انتشالهم مرة أخرى من الخطية وصعودهم ثانية إلي
"الجبال"، يرجع إلي برهم أو قداستهم أو استحقاقهم يذكرهم الكتاب ويذكرنا
نحن أيضًا بخطايانا السابقة، فيضيف قائلاً: "ولم يختفِ إثمهم من أمام
عيني"
ع17.
[xv]]

يقول القديس جيروم أن اليهود المعاصرين له يفسرون
صيادي السمك أنهم الكلدانيون، وصيادي الوحوش هم الرومانيون. غير أنه يمكن القول عن
صيادي السمك أنهم المصريون الذين
ارتبطوا بالنيل، وأن صيادي الوحوش هو البابليون،
فإن كانت مملكة يهوذا تارة تلجأ إلي فرعون ضد بابل أو العكس، فإنه لن ينقذها هذا
أو ذاك بل الرجوع إلي اللَّه. وكأن إرميا النبي يحذرهم من الاعتماد علي ذراع بشر.

"وأعاقب إثمهم وخطيتهم ضعفين،

لأنهم دنسوا أرضي،

وبجثث مكرهاتهم ورجاساتهم قد ملأوا ميراثي" ع18.

يرى البعض أن الكلمة العبرية misneh التي تترجم عادة ضعفين double
يمكن أن تفهم بمعنى معادل[xvi]
equialent. هذا التعادل يحدث بأنهم دنسوا أرض اللَّه بالآلهة التي بلا حياة، وكأنها جثث
ميتة، لذا سقط عابدوها في الموت وأُلقيت جثثهم علي الأرض لتدنس الأرض عينها التي
دنسوها أثناء حياتهم بعبادتهم للأوثان (راجع إش6:47).

          يقول العلامة أوريجينوس: [إن كلمة
"أولاً" موجودة هنا فعلاً في موضعها الصحيح، لأن جزاء الإثم يكون
"أولاً" ثم
يأتي
من
بعده جزاء الخير. فإن اللَّه لا يوزع الجزاءات بالترتيب العكسي. لأنه لو كان قد
أعطى جزاء الخير أولاً لكان يجب أن تتوقف أعمال الخير حتى يمكننا أن نعاقب علي
الإثم. لكنه يجازى الآن عن الخطية، حتى إذا انتهت الخطايا، تنتهي أيضًا عقوباتها،
وبعد ذلك يجازي اللَّه عن أعمال الخير. كذلك تجد في الكتاب المقدس أن اللَّه يتحدث
"أولاً" عن الأشياء التي تبدو أكثر حزنًا ثم يذكر بعد ذلك
الأشياء الأفضل منها: "أنا أميت وأحيى، سحقت وإني أشفي" (تث39:32).
"لأنه هو يجرح ويعصب، يسحق ويداه تشفيان" (أي18:5). لذلك فالإنسان الذي
يفهم هذه الكلمات ويدرك معنى "عقاب الخطية أولاً" يمكنه أن يقول مع
المرتل: "يا رب من يسكن في مسكنك، من يحل في جبل قدسك؟ السالك بلا ع
يب، والفاعل
البر، والتكلم بالحق في قلبه، الذي لا يغش بلسانه ولا يصنع بقريبه سوءًا، ولا يحمل
تعيير علي جيرانه. فاعل الشر مرذول أمامه. ويمجد الذين يتقون الرب" (مز14).
[xvii]]

يقدم اللَّه تعليلاً لتأديبهم، قائلاً: "لأنهم دنسوا
أرضي
" ع18.

ينسب اللَّه القدوس لنفسه هذه الأرض التي وهبها لشعبه، لذا
لاق بهم أن يسلكوا فيها كما يليق بصاحبها القدوس، فتكون أرضًا مقدسة، وتصير لهم
آمانًا، وتقدم لهم احتياجاتهم، حسب وعده الإلهي: "فتعلمون فرائضي وتحفظون
أحكامي وتعملونها لتسكنوا علي الأرض آمنين، وتعطي الأرض ثمرها، فتأكلون للشبع
وتسكنون عليها آمنين" (لا18:25،19).

يليق بكل ما
ينسب للقدوس أن يكون مقدسًا: ملائكته وكل الطغمات السمائية، المؤمنون به، هيكله،
الأواني المستخدمة فيها، المذبح الخ. حتى الأرض التي يقدمها لشعبه! ويحسب اللَّه
كل تدنيس أو إفساد لقدسية هذه الأمور إهانة موجهة إليه شخصيًا! بمعنى آخر كل
استهتار في بيت الرب الذي ُدشن باسمه القدوس؛ كل تهاون بالهيكل المقدس، كل تدنيس
لجسدك الذي هو هبته لك كهيكل لروحه القدوس… إنما هي خطية موجهة ضد اللَّه.

كثيرًا ما يتساءل بعض الشباب: لماذا يحسب اللَّه الفكر
الشهواني خطية؟ أو لماذا يُعتبر الزنا خطية مادامت برضى الطرفين وليس من يصيبه
ضررًا في المجتمع؟ الإجابة أن فكرك كما جسدك وجسد الغير هو مركز ملكوت اللَّه
القدوس، حتى الفكر الخفي الشرير إن قبلته بتهاونٍ وتراخٍ فيه إساءة إلي مقدسات
اللَّه. عندما يمر بك فكر شرير قل لنفسك: "لا تدنس أرض الرب المقدسة!"

ربما بقول اللَّه عن شعبه: "لأنهم دنسوا أرضي" ع18،
يمكننا أن نفهم لماذا طلب اللَّه من إرميا التوقف عن مشاركة الشعب في كل شيء.
الأرض التي تدنست لا تستحق أن يقيم فيها رجل اللَّه عائلة تستقى فيها، ولا أن
يشارك الشعب في ولائمهم سواء في الأحزان أو الأفراح، بل يعتزل كل شيء! هكذا إذ
ندنس أرض قلوبنا نُحرم من الحضرة الإلهية  ومن شركة القديسين والسمائيين حتى نعود
بالتوبة فنتقدس بعمل روح اللَّه القدوس، نتحد مع الآب في ابنه، وتكون لنا شركة مع
القديسين وننعم حتى بالعبادة مع السمائيين.

"يا رب عزِّي وحصني وملجأي في يوم الضيق،

إليك تأتي الأمم من أطراف الأرض ويقولون:

إنما ورث آباؤنا كذبًا وأباطيل وما لا منفعة فيه.

هل يصنع الإنسان لنفسه آلهة وهي ليست آلهة؟!

لذلك هأنذا أعرفهم هذه المرة،

أعرفهم يدي وجبروتي، فيعرفون أن اسمي يهوه" ع19-21.

يختتم هذا الاصحاح بقطعة شعرية رائعة تتحدث عن خلاص الشعب من
السبي، وفي نفس الوقت عن خلاص الأمم وقبولهم الإيمان فتكون لهم معرفة حية باللَّه
مخلصهم.

يكشف إرميا النبي عن عظمة خلاص اللَّه، الأمر الذي يشد
انتباه كل الأمم فيدركوا ان ما حدث لم يكن عن قوة بابل عندما سبت يهوذا ولا عن
ضعفها عندما تحرر الشعب كله (إسرائيل ويهوذا)، وإنما هي خطة اللَّه ضابط التاريخ،
في يده كل أمور البشرية.

يقوم اللَّه بدور المدرس ليعلم الأمم بطلان العبادة الوثنية
ويكشف لهم عن نفسه وعن قدرته واسمه لكي يختبروا الحياة معه.

ُيلقب اللَّه: "عزَّي (قوتي)، "حصني"،
"ملجأي"، وهي عبارات وردت في المزامير 3:18-4؛ 1:28-7؛ 11:59، 18-19 وفي
مواضع أخرى تعبر عن الثقة في اللَّه العامل في حياة أولاًده.

لم يكن حلمًا لدى إرميا النبي أن تأتي الأمم من كل أطراف
الأرض لتعترف ببطلان آلهتهم الوثنية، وتتعرف علي الرب وعلي يده القوية وعلي اسمه،
إنما كان ذلك نبوة عن الخلاص التي تتحقق بمجيء المسيا مخلص العالم كله.

هنا نلاحظ تكرار كلمة "أعرف" ثلاث مرات،
ربما إشارة إلي التمتع بالإيمان الثالوثي.

أعلن إشعياء النبي عن هذا الحدث العجيب قائلاً: "عزوا
عزوا شعبي… صوت صارخ في البرية: أعدوا طريق الرب. قوموا في القفر سبيلاً لإلهنا.
كل وطاءٍ يرتفع وكل جبلٍ وأكمةٍ ينخفض ويصير المعوج مستقيمًا والعراقيب سهلاً،
فيعلن مجد الرب ويراه كل بشر جميعًا، لأن فم الرب تكلم" (إش1:40-5). وقد
اقتبس القديس مارمرقس هذا القول النبوي في بدء إنجيله (مر15:1).

          ويعلق القديس أغسطينوس علي كلمات إرميا
النبي: [هوذا الآن يحدث هذا؛ هوذا الأمم تأتي من أقاصي الأرض إلي المسيح تنطق
بأمور كهذه نازعة عنها عبادة الأوثان![xviii]]

          يقول العلامة أوريجينوس: [هلموا لنرى ماذا
تقول النبوة عنا: "يا رب عزي وحصني وملجأي في يوم الضيق، إليك تأتي الأمم
من أطراف الأرض ويقولون: كاذبة هي الأصنام التي عبدها آباؤنا ولا يوجد فيها
منفعة"
ع19. جاءت الأمم  من أطراف الأرض. كيف "من أطراف
الأرض"؟
يوجد علي الأرض أناس أولون ويوجد أيضًا أناس آخرون. فمن هم هؤلاء
الأولون؟ أولون علي الأرض وليسوا أولين علي كل شيء؟ هم حكماء هذا العالم وأغنياؤه.
ومن هم الآخرون؟ "واختار اللَّه أدنياء العالم والمزدرى وغير الموجود ليبطل
الموجود" (1كو28:1). إذًا "تأتي الأمم  من أطراف الأرض".
كأنه يقول: إن تلك الأمم مكونة من الأدنياء والمزدرى بهم والجهال والناس الآخرين
علي الأرض.

          " ويقولون: إنما كاذبة هي الأصنام التي عبدها
آباؤنا ولا يوجد فيها منفعة
" : ليس أن يوجد أصنام صادقة عكس الأصنام
الكاذبة
المذكورة في الآية، إنما يقصد بها الأصنام عمومًا، التي بطبيعتها
كاذبة ولا يوجد فيها منفعة.
[xix]]

"هل يصنع الإنسان لنفسه آلهة وهي ليست آلهة؟!

لذلك هأنذا أعرفهم هذه المرة،

أعرفهم يدي وجبروتي، فيعرفون أن اسمي يهوه"
ع20-21.

يقول العلامة أوريجينوس: ["هل يصنع الإنسان
لنفسه آلهة؟!"
ع20.  لا يصنع الناس لأنفسهم آلهة من خلال التماثيل
والأصنام فقط، لكنك تجد أيضًا أناسًا يصنعون لأنفسهم آلهة من خلال أوهامهم
وتصوراتهم (الفلاسفة والهراطقة). عمومًا جميع الذين يصنعون لأنفسهم آلهة أخرى غير
الرب، وخليقة أخرى مخالفة لترتيب العالم الذي أخبرنا به الروح (روح اللَّه)
ومخالفة للعالم الحقيقي،  كل هؤلاء يصنعون لأنفسهم آلهة، ويعبدون عمل أيديهم.
إذن كل الذين يصنعون لأنفسهم آلهة من الأصنام والذين يصنعونها من تصوراتهم
الشخصية، يرفضهم الرب إذ قيل:

          "إذا صنع الإنسان لنفسه آلهة إذًا فهي
ليست آلهة.

          لذلك هأنذا أعرفهم هذه المرة أعرفهم يدي
وجبروتي".

          "هذه المرة"، ماذا يقصد
بـ"هذه المرة"؟ يقصد بها المجيء التالي للرب، خاصة لأنه يضيف بعد ذلك: "فيعرفون
أن اسمي يهوه".
[xx]]

 

من وحي إرميا 16

 

دنسوا أرضي

 

هذه هي شكواك في كل العصور:

   "لأنهم دنسوا أرضي!"

   منعت إرميا من أن يقيم أسرة،

   تكون له زوجة وأولاًد،

   وأن يشترك في ولائم الجنازات والأفراح،

   لأنه يعيش في أرضٍ لا تستحقه!

   هوذا إرميا يبكي، وجدران قلبه توجعه،

   يريد أن تتقدس أرض اللَّه التي تدنست!

 

أخجل من أن أحدثك يا إله إرميا،

   نزلت إلي أرضي لتقيم ملكوتك المقدس في داخلي،

   قدمت لي دمك الثمين خلاصًا،

   وترثي دومًا لضعفاتي!

   تريد أن تضمني إليك،

   فأصير أهل بيت اللَّه،

   أنعم بشركة القديسين،

   وبالتسبيح مع كل طغمات السمائيين!

   قدس أرضي، ففي غباوتي دنستها بإرادتي!

 

حسب مواعيدك الصادقة

   هب لي خروجًا جديدًا،

   ليس خروجًا من عبودية فرعون،

   ولا خروجًا من سبي بابل،

   بل تحررًا من سلطان الخطية الجبارة!

   حررني… قدسني… يا عزي وحصني وملجأي!

 

هب لي معرفتك الحقة يا قدوس،

   فانجذب إليك ويجري معي كثيرون نحوك!

   ضُمنا إلي ملكوتك أيها القدوس،

   ورد لأرضك قدسيتها!

   حول أرض قلبي إلي سمواتك!

   عوض الظلمة التي حلت في أشرق بنوركِ علي.

   تعالْ أيها الرب يسوع،

   أرضك في داخلي تترقب حلولك!

 

نعم، تعالْ يا مخلصي القدوس!

   هوذا نفسي وفكري،

   جسدي وأحاسيسي،

   قلبي وكل أفكاري،

   قد صارت أرضك المقدسة!

   تعال، واستلم أرضك في، فلا تتدنس!

   روحك القدوس هو مقدسها وحارسها والعامل فيها!



[i]  Journal of Biblical Literature 85,
401-435.

[ii]  Thomposon, Jeremiah, p. 404.

[iii]  Holladay, p. 469.

[iv]  المؤلف:
حزقيال، 1993، ص 248-249.

[v] للمؤلف:
إشعياء 1990، ص 120.

 

[vi] 
St. Jerome: Ep. 22:20, 21.

[vii]  Thompson, p. 404.

[viii] 
Holladay, p. 470.

[ix]  Ibid.

[x]  Thompson, p. 405

[xi] De Vaux: Ancient Israel, p. 59-60;
Holladay, p. 471.

[xii] Thomposon, p. 408.

[xiii] In Jer. hom. 16:1.

[xiv] In Jer. hom. 16:2.

[xv] In Jer. hom. 16:3-4.

[xvi] Thomposon, p. 411

[xvii] In Jer. hom. 16:5.

[xviii]  St.
Aug. harm. of gospels 1:26.

[xix]  In Jer. hom. 16:8.

[xx]  In Jer. hom. 16 9.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي