سِفْرُ
التَّكْوِينِ

 

الفَصلُ
الأوَّل الكِتابُ المُقدَّسُ وتَنظِيمُهُ

مَعناهُ
وأصلُهُ

قَبلَ
أن نبدَأَ دِراسَتَنا لأسفارِ الكتابِ المُقدَّسِ واحداً تِلوَ الآخَر، لِنَنظُرْ
إلى الكتابِ المُقدَّسِ كَكُلٍّ. فلِماذا يُسمَّى بهذا الإسم، ولِماذا يُشارُ
إليهِ غالِباً "بالكتابِ المُقدَّس؟"

تأتِي
كَلِمَةُ "الكِتاب المُقدَّس" أو
Bible بالإنكليزيَّة أو بالفَرنسيَّة، منَ الكلمةِ اللاتِينيَّة Biblia، التي تَعني "كُتُب"
بِصِيغَةِ الجمع. وهكذا تعني عبارَة "الكتاب المُقدَّس" بكُلِّ بَساطَةٍ
"مجمُوعة كُتُب"، وبالتَّحديد، ستَّةً وسِتِّينَ سِفراً. وتعني كلمة
مُقدَّس، "ما يَخُصُّ اللهَ، أو ما يأتي منَ الله." فالكِتابُ
المُقدَّسُ هُوَ، حَرفِيَّاً، "أسفارُ اللهِ المُقدَّسَةُ الصَّغيرة،"
أو "مجمُوعَةُ كُتُبٍ تخُصُّ اللهَ وتأتي منهُ."

ويُشارُ
إلى الكتِابِ المُقدَّسِ بأنَّهُ كَلِمَةُ اللهِ. لِماذا؟ بِسَببِ تصريحاتٍ
قدَّمَها الرُّسُل، أمثال بُطرُس وبُولُس. أفضَلُ مِثالٍ على ذلكَ هُوَ
2تيمُوثاوُس 3: 16 – 17: "كُلُّ الكِتابِ المُقدَّسِ أُعطِيَ لنا بِوَحيٍ منَ
اللهِ، وهُوَ نافِعٌ لتَعليمِنا ما هُوَ حَقٌّ، لِنُدرِكَ ما هُوَ خطأٌ في حياتِنا:
وهُوَ يُقَوِّمُ إعوِجاجَنا ويُساعِدُنا لنعمَلَ ما هُوَ مُستَقيمٌ. إنَّهُ
طريقَةُ اللهِ لجَعلِنا مُحَضَّرينَ بشكلٍ جَيِّدٍ في كُلِّ مرحَلَةٍ،
ومُؤَهَّلينَ بشِكلٍ كافٍ لنعملَ الصَّلاحَ للجَميع." (تَرجَمَةٌ بِتَصرُّفٍ
مع إضافَةِ تشديدات.)

 

مراراً
وتِكراراً، يُذكَرُ التأكيدُ أنَّ الكتابَ المُقدَّسَ ليسَ مُجَرَّدَ مَجمُوعَةٍ
من الكتاباتِ البَشَريَّةِ عنِ الله. بل هُوَ كلماتُ اللهِ نفسِهِ، مكتُوبَةً
بأقلامٍ بَشَريَّة، لَرُبَّما مِن قِبَلِ أربَعينَ أو أكثَر منَ الرِّجال، وعلى
مدى خمسةَ عشرَ أو سِتَّةَ عشرَ قرناً. إنَّ عمليَّةَ تحريكِ اللهِ لهَؤُلاء
الرِّجال لِيَكتُبُوا هذه الأسفار، تُسَمَّى "الوَحي،" الذي يعني
حرفِيَّاً، "التنفُّس." وصفَ بُطرُس ذلكَ بالطَّريقَةِ التَّالِيَة:
"عالِمِينَ هذا أنَّ كُلَّ نُبُوَّةِ الكِتابِ لَيسَت من تَفسيرٍ خاصّ.
لأنَّهُ لم تأتِ نُبُوَّةٌ قَطّ بِمَشِيئَةِ إنسانٍ، بَل تَكَلَّمَ أُناسُ اللهِ
القِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ منَ الرَّوحِ القدُس." (2بُطرُس 1: 20- 21).

إن
الكَلِمَة اليُونانِيَّة "مَسُوقِينَ أو محمُولين" تُقدِّمُ صُورَةً
جَميلَةً. إنَّها كلمة
Phero.
تَصَوَّرُوا سَفينَةً شِراعِيَّةً يدفَعها التَّيَّارُ أو يحمِلُها الرَّيحُ
بِشراعِها، تَجِدُوا فكرةَ الوحي كما يُقَدِّمها لنا بُطرُس في هذا المكان.

 

تَنظِيمُهُ

بعدَ
أن رأينا ما هُوَ الكتابُ المُقدَّس، دَعْنا ننظُرُ الآن إلى كيفيَّةِ تنظِيمِهِ.
على خِلافِ ما يُمكِنُ أن تتوقَّعَهُ، لا تأتي الأسفارُ بالتَّرتيبِ التَّاريخيّ،
ولا تأتي كذلكَ مُرَتَّبَةً بِحَسَبِ كاتِبها. ولكنَّ هذه الأسفار مُرَتَّبَةٌ
بِحَسَبِ نَوعِها ومُحتوى رِسالَتِها. المَجمُوعَتانِ الأساسِيَّتانِ التي
تنقَسِمُ الأسفارُ بِحَسَبِهما، هُما العهدُ القَديمُ والعَهدُ الجَديد. ولكن لم
تَكُنْ هذه هي الحالُ دائماً، لأسبابٍ واضِحَةٍ جَلِيَّة. ففي أيَّامِ يسُوع، على
سَبيلِ المِثال، لم يَكُنْ هُناكَ ما يُسمَّى بالعَهدِ القديمِ والعَهدِ الجَديد.
فالعَهدُ الجَديدُ لم يَكُنْ قَد كُتِبَ بَعدُ، وكذلكَ فإنَّ الأسفارَ التي
وُجِدَت في أيَّامِ يسُوع كانت تُسَمَّى بِكُلِّ بَساطَةٍ "كلمة الله،"
أو "الأسفار" أو "الكُتُب." ولكن بعدَ أن كُتِبَ العهدُ
الجَديدُ وجُمِعَت أسفارُهُ معاً في مجمُوعَةٍ واحدة، عندها فقط ظهرَ التَّمييزُ
بينَ العهدِ القديمِ والعهدِ الجَديد.

 

إنَّ
رِسالَةَ العهدِ القَديم الجوهَرِيَّة هي التَّالِيَة: "يسُوعُ آتٍ." في
البَدءِ، بِحَسَبِ تعليمِ الكتابِ المُقدَّس، كانَ اللهُ والإنسانُ في إنسِجامٍ
معَ بعضِهما البَعض. ولكنَّ اللهَ خلقَ الإنسانَ صاحِبَ خَيارٍ، فإختارَ الإنسانُ
الإبتِعادَ عنِ الله. وبما أنَّ اللهَ لا يستَطيعُ أن يتحمَّلَ العِصيان
(الخَطيَّة)، حَوَّلَ اللهُ وجهَهُ عنِ الإنسان. وحدَثَ "طلاقٌ" بَينَ
اللهِ والإنسان. هذا الطَّلاقُ بينَ اللهِ والإنسان هُو َالمُشكِلَةُ الأساسيَّةُ
التي تتَعامَلُ معَها الأسفارُ المُقدَّسة.

 

يُخبِرُنا
اللهُ في العهدِ القَديمِ قائِلاً، "هل ستُصَدِّقُونَني عندما أقُولُ لكُم
أنَّني سأعمَلُ شَيئاً حِيالَ هذا الطَّلاق؟" أمَّا في العهدِ الجديد،
فيَقُولُ لنا اللهُ، "هل ستُصَدِّقُونَني عندما أقُولُ لكُم أنَّني عمِلتُ
شَيئاً حِيالَ هذا الطَّلاق؟" فكما ترَون، تقُولُ لنا أسفارُ العهدِ القديم، "يسُوعُ
آتٍ، وهُوَ الذي سَيُصالِحُ هذا الطَّلاق بينَ اللهِ وبينَ مخلُوقاتِهِ."
والعهدُ الجديدُ يُخبِرنا بالأخبارِ السَّارَّةِ التَّالِيَة: "يسُوعُ جاءَ،
وعندها صالَحَ الطلاقَ بينَ اللهِ والإنسان."

 

إلى
جانِبِ التَّقسيمِ الأساسيّ بينَ العهدين القَديم والجَديد، تُوجَدٌ تقسيماتٌ
أُخرى في كُلِّ عهدٍ على حِدَة. فأسفارُ العهدِ القديم يمكِنُ تصنيفها تحتَ خمسَةِ
عناوِين.

 

أوَّلاً،
نَجِدُ أسفارَ النَّامُوسِ الخَمسة. في هذه الأسفار، يُخبِرنا اللهُ بما هُوَ
صوابٌ وبما هُوَ خطأٌ، مُعطِياً إيَّانا مِعيارَهُ لِلبِرّ.

 

ثُمَّ
تأتي الأسفارُ التَّاريخيَّةُ العَشرة، التي تُخبِرنا بِشكلٍ أساسيٍّ أنَّ شعبَ
اللهِ أطاعَ أحياناً أسفارَ النَّامُوسِ هذه، وأحياناً أُخرى لم يُطِعْها.
وتُوَفِّرُ لنا قِصَصُ شَعبِ اللهِ نماذِجَ تُحتَذى وتحذيراتٍ تُتَفادَى. العَدَدُ
المِفتاحِيُّ لِكُلِّ التَّاريخِ المُدَوَّنِ في الكتابِ المُقدَّس، نَجِدُهُ في
العهدِ الجديد. حيثُ يُخبِرُنا بُولُس أنَّ كُلَّ شَيءٍ حدثَ للشَّعبِ الذي نقرأُ
عنهُ في الكتابِ المُقدَّس، لِيكَونَ نماذِجَ وتحذيراتٍ. فعندما أطاعَ هذا
الشَّعبُ كلمةَ اللهِ لهُم، كانُوا مِثالاً أو نمُوذجاًَ لنحتذيَهُ. وعندما
عمِلُوا ما أرادُوا وعَصُوا اللهَ، كانُوا ولا يزالُونَ تحذيراً لنا.

 

ثُمَّ
تَتبعُ الأسفارُ الشَّعريَّةُ الأسفارَ التَّاريخيَّة. في هذه الأسفارِ
الشِّعريَّة، يُخاطِبُ اللهُ قُلُوبَ شَعبِهِ، بَينما يُحاوِلُونَ أن يَعيشُوا
كَلِمَتَهُ في هذا العالم. مَثَلاً، يُخاطِبُ سِفرُ أيُّوب قُلُوبَ شَعبِ اللهِ
عندما يتألَّمُون. ويُخاطِبُ سفرُ المَزامير قُلوبَ شَعبِهِ عندما يعبُدُون.
ويُخاطِبُ سفرُ الأمثالِ قُلوبَ شَعبِهِ عندما يحتاجُونَ إلى ذلكَ النَّوع منَ
الحكمة التي تُؤَهِّلُهُم للقِيامِ بأعمالِهِم وللتَّعاطِي معَ النَّاس. ويُخاطِبُ
سفرُ نَشيدِ الأنشاد قُلُوبَ شَعبِ اللهِ عندما يُفَكِّرُونَ بالحُبِّ. كُلُّ
سِفرٍ من هذه الأسفار يحتَوي على مُساعَدَةٍ عمَلِيَّة وتشجيعٍ للمُؤمنين.

 

القِسمُ
التَّالي منَ العهدِ القَديم هُوَ القِسمُ الأكبَر، ويُسمَّى بالأنبياء. ويأتي هذا
القسمُ في جُزئَين: الأنبياء الكِبار والأنبِياء الصِّغار – ليسَ بِسَبَبِ
أهمِّيَّةِ رِسالَتِهِم، بل بِسَبَبِ طُولِ أسفارِهِم. فلقد تطلَّبَ الأمرُ
الأنبياءَ الكِبارَ أسفارَاً أطولَ ليُعَبِّرُوا عمَّا أرادُوا قولَهُ.

 

في
العهدِ الجَديد، لَدَينا خمسَةٌ أنواعٍ منَ الأسفارِ كذلكَ. أوَّلاً، نَجِدُ
سِيَرَ حياة يسُوع الأربَع (والتي تُسَمَّى بالأناجيل)، وكُتَّابُها هُم متَّى،
مرقُس، لُوقا ويُوحَنَّا. ثُمَّ يأتي سِفرٌ تاريخيٌّ واحِدٌ، هُوَ سِفرُ أعمالِ
الرَّسُل. ثُمَّ تأتي الرَّسائِل، التي تقَعُ في جُزئَين: رَسائِلُ بُولُس،
والرَّسائلُ العامَّة. يتألَّفُ نصفُ العهدِ الجديد من رسائِلَ كَتَبَها بُولُس
الرَّسُول إلى كنائِسَ حَديثَةِ العَهد تأسَّسَت بعدَ القِيامَة. الرَّسائِلُ
الأُخرى كُتِبَت من قِبَلِ مجمُوعَةٍ منَ النَّاس. وأخيراً نَجِدُ سفراً
نَبَويَّاً، هُوَ سِفرُ الرُّؤيا.

 

بينما
ندرُسُ الكتابَ المُقدَّسَ معاً، إقتَرِبْ من العهدِ القَديمِ مُدرِكاً ما هي
رِسالَتُهُ الأساسيَّة: يسُوعُ آتٍ. هذا هُوَ كُلُّ ما يتمَحوَرُ حولَهُ العهدُ
القَديم. وإقتَرِبْ منَ العهدِ الجَديدِ باحِثاً عن هذه الرِّسالَة: يسُوعُ أتَى.
فهذا هُوَ كُلُّ ما يتمَحوَرُ حولَهُ العهدُ الجديد.

 

الفَصلُ
الثَّانِي الكِتابُ المُقدَّس: هدَفُهُ، كتابَتُهُ، وأُصُولُهُ

هَدَفُهُ

إبتِداءً
من سِفرِ التَّكوين، وَوُصُولاً إلى سفرِ الرُّؤيا، يتكلَّمُ الكتَابُ المُقدَّسُ
عن يسُوع المسيح. فالكِتابُ المُقَدَّسُ لَيسَ تارِيخَ حضَارَةٍ أو كتاباً
عِلميَّاً عنِ الخَلقِ. يعتَقِدُ البَعضُ أنَّ الكِتابَ المُقدَّسَ هُوَ بِشكلٍ
أساسيٍّ دَليلٌ لِعَيشِ حياةٍ أخلاقِيَّةٍ صالِحة؛ ويَظُنُّ الكَثيرُونَ أنَّ
يسَوعَ قُدِّمَ فقط كَمُعَلِّمٍ وكمِثَالٍ لهذا النَّمَط منَ الحياة. ولكنَّ يسُوعَ
المسيح هُوَ مَوضُوعُ الكتابِ المُقدَّس المَركَزِيّ. تأييداً لهذا المَوضُوع،
نَجِدُ في الكتابِ المُقدَّسِ أيضاً أربَعَةَ أهدَافٍ. الهَدَفُ الأوَّلُ هُو:
تقديمُ يسُوع المسيح كَفَادِي ومُخَلِّص هذا العالم. ولكن لِكَي نفهَمَ هذا
المَوضُوعَ، الذي هُوَ هدَفُنا الأوَّلَ، نحتاجُ أن نفهَمَ ضَرُورَةَ المُخَلِّص.
الهَدَفُ الثَّانِي منَ الكتابِ المُقدَّس هُوَ أن يُوَفِّرَ لنا الإطارَ
التَّاريخي الذي فيهِ أتى المسيحُ.

 

ولكن
في تَكوين 12، يبدَأُ سَيرُ القِصَّةِ بالتَّباطُؤِ بِِشدَّة. فمن هذا الإصحاح،
وُصُولاً إلى آخِرِ سفرِ الرُّؤيا، أي الإصحاحات ال 1178 المُتَبَقِّيَة، نَجِدُ
أنَّ مَجالَ سَردِ القِصَّةِ يَضِيقُ ويُصبِحُ أكثَرَ تخَصُّصاً. فمن هذه
النُّقطَة فصاعِداً، تُصبِحُ القِصَّةُ عن إبراهيم وذُرِّيَّتِهِ، خاصَّةً ذلكَ
النَّسلُ المُتَحدِّرُ منهُ، والذي بهِ سَتَتَبارَكُ جَميعُ الأُمَم، أي
المَسِيَّا يسُوع المسيح.

 

عندما
نَفهَمُ هذين الهَدَفَينِ الأوَّلَين، يُصبِحُ الهَدفَانِ التَّالِيانِ أوضَحَ
بِكَثيرٍ. فالهَدَفُ الثَّالِثُ هُوَ قيادَةُ غَيرِ المُؤمنِ إلى الإيمان؛
والرَّابِعُ هُوَ إظهارُ كيفَ يُريدُ اللهُ المُؤمِنَ أن يعيشَ.

 

كِتابَتُهُ

من
كَتَبَ أسفَارَ الكِتابِ المُقدَّس؟ متَى وأين؟ وبأيَّةِ لُغَةٍ أو لُغاتٍ؟ وهل لا
تَزالُ تُوجَدُ مخطُوطاتٌ أصلِيَّةٌ؟ منِ الذي قَرَّرَ ماذا ينبَغي أن يتضمَّنَ
الكِتابُ المُقدَّسُ، ومنَ الذي وضعَ تنظيمَهُ كما هُوَ عليهِ اليوم؟ إنَّ هذا النَّوع
منَ الأسئِلَة سوفَ يَطرَحُ نفسَهُ عليكَ قبلَ أن تقطعَ شَوطاً كبيراً في قراءَةِ
الكتابِ المُقدَّس.

 

دَعُونا
نُفَكِّرُ أوَّلاً بِكِتابَةِ الأسفارِ المُقدَّسة. لقد سبقَ وقُلنا أنَّ اللهَ
هُوَ بالطَّبع من ألَّفَ الكِتابَ المُقدَّسَ، من خلالِ أقلامِ أُناسٍ
إستَخدَمَهُم، سوفَ نتَكَلَّمُ عنهُم لاحِقاً. ولكن قبلَ كُلِّ شَيء، هُناكَ
كَلِمتانِ نحتاجُ أن نفهَمَهُما، عندما نتكلَّمُ عن كَونِ اللهِ كَتَبَ هذه
الأسفار. الكَلِمَةُ الأُولى هي الإعلانُ. والإعلانُ هُوَ العبارَةُ العامَّة التي
تُغَطِّي كُلَّ الطُّرُق التي يُعلِنُ بها اللهُ الحَقيقَةَ للإنسان – عبرَ
الطَّبيعة، عبرَ الرُّوحِ القُدُس، عبرَ الأنبِياء، وعبرَ وسائِلَ أُخرى.
الكَلِمَةُ الثَّانِيَة هي الوَحي. هذه العِبارَة تُشيرُ إلى ما يُسمِّيهِ
اللاهُوتِيُّونَ بالإعلانِ الخاصّ. فالكِتابُ المُقدَّسُ هُوَ إعلانُ اللهِ
الخاصّ. فلَدَيهِ بدايَةٌ، ولدَيهِ نهايَة. وعبرَ حوالَي ستَّةَ عشرَ قَرناً،
حرَّكَ اللهُ أُناساً ليَكتُبُوا هذه الأسفار. ولكن عندما كُتِبَت الكَلِماتُ
الأخيرَةُ في سفرِ الرُّؤيا، أُكمِلَ إعلانُ اللهِ الخاصّ. وهكذا فإنَّ الإعلانَ
الخاصّ، أو ذلكَ النَّوع من الوَحي، لم يَعُدْ يحدُث اليوم.

 

والآن،
وبعدَ أن تحقَّقنا من أنَّ اللهَ كتبَ هذهِ الأسفار المُقدَّسة في الكتابِ
المُقدَّس، علينا أيضاً أن نعتَرفَ بأنَّ البَشَرَ أيضاً هُم الذين كتَبُوا هذه
الأسفار. ولقد كانَ هؤُلاء البَشَر مُلُوكاً، صَيَّادي سَمَك، رُعاةَ غَنم، قادَةً
عسكَرِيِّين، كَهَنَةً وجُنَاةَ جُمَّيز. واحِدٌ منهُم كانَ طَبيباً، وآخَرُ كانَ
عَشَّاراً. لقد كانُوا ينتَمُونَ إلى فِئاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ من البَشَر.

 

أُصُولُهُ

من
قَرَّرَ أيَّةَ كِتاباتٍ ينبَغي أن تُتَضَمَّنَ في الكتابِ المُقدَّس، ومتى قُرِّرَ
ذلكَ؟ وكيفَ إتُّخِذَت هذه القراراتُ؟

 

حوالي
العام 100 ميلاديّ، في مجمَعِ جَمَنيا، تمَّ جمعُ أسفارِ العهدِ القديم، رُغمَ
أنَّها كانت قيدَ الإستِعمال منذُ ثلاثَةِ أو أربَعَةِ قُرون. ولقد تمَّ ضَمُّ
الأسفار بناءً على مِصداقِيَّةِ هُوِيَّةِ كاتِبِها، وعلى حُسنِ سِيرَتِهِ
كنَبِيٍّ أو كَكَاتِبٍ. مُعظَمُ هذه الأسفار كُتِبَت بالعِبرِيَّة.

 

أسفارُ
العهدِ الجَديد، التي كُتِبَ مُعظَمُها باليُونانيَّة، تمَّ إختيارُها وجمعُها
حوالَي العام 692 ميلادِيَّة، في مَجمَعِ ترُولان. والمِعيارُ الذي على أساسِهِ
تمَّ إختِيارُ هذه الأسفار يُسمَّى القانُونيَّة، ويأتي تحتَ أربَعَةِ مقاييس أو
معايير فَرعِيَّة:

 

1-هل
قامَ رَسُولٌ أو شخصٌ مُقَرَّبٌ من رَسُولٍ بكتابَةِ هذا السِّفر؟

2-هل
كانَ لهذا السِّفر ذلكَ النَّوع منَ المُحتَوى الرُّوحِيَّ التَّعَبُّدِيّ الذي
أوصلَ النِّعمَةَ إلى قُلُوبِ المُؤمنين؟

3-هل
تَوافَقَ مُحتَوى هذا السِّفر معَ مُحتَوى الأسفار الأُخرى المُوحاة،

4-وهل
كانَ يَتَوفَّرُ قُبُولٌ شامِلٌ من قِبَلِ الكنائِسِ حولَ وَحيِ هذا السِّفر؟

 

فكيفَ
يُمكِنُ أن تَكَونَ أسفارٌ قد كُتِبَت منذُ آلافٍ السِّنين وهي لا تزالُ مُتواجِدَةً
بينَ أيدِينا اليوم؟ لقد تمَّ حِفظُ هذه الأسفار بِعِنايَةِ فائِقَة. منَ الواضِحِ
أنَّهُ لا يُوجَدُ لدَينا أيَّةُ مَخطُوطَةٍ أصلِيَّةٍ؛ فالوَرقُ لا يَعيشُ كُلَّ
هذه الأيَّام والسِّنين. ولكن لدينا نِسخٌ مُمتازَةٌ عن هذه المَخطُوطاتِ
الأصليَّة. ولقد تمَّت ترجَمَتُها بِعنايَةٍ كَبيرَة إلى لُغاتِنا المُعاصِرَة.

 

خاتِمَة

كيفَ
يُمكِنُنا أن نعرِفَ تماماً ما إذا كانَ الكِتابُ المُقدَّسُ هُوَ بالفِعل كلمة
الله المُوحَى بها؟ وكيفَ يُمكِنُنا أن نتأكَّدَ ما إذا تمَّ إختِيارُ الأسفارِ
الصَّحيحة، وأنَّهُ لم تُرتَكَبْ أخطاءٌ في النَّسخِ أو في التَّرجَمة؟ هُناكَ
طريقَةٌ واحِدَةٌ لمَعرِفَةِ ذلكَ، يُخبِرُنا عنها يسُوع. قالَ يسُوع، "إذا
أرادَ أحَدٌ أن يعمَلَ، فسَيَعلَمُ." فالطريقَةُ مَوجُودَةٌ في قَلبِكَ.
عندما تقتَرِبُ من كَلِمَةِ اللهِ، وأنتَ مُزَوَّدٌ بإرادَةٍ لتعمَلَ بما
تَقُولُهُ كلمَةُ اللهِ هذه، وعندما تعمَلُ بما تَجِدُهُ هُناك، سوفَ تُحدِثُ هذه
الكَلِمَةُ تغييراً جَذرِيَّاً في حياتِكَ، فتَقُولُ عندَها، "هذه هي
بالحَقيقَة كلمَةُ الله. ينبَغي أن تَكُونَ كذلكَ. ولا يُوجَدٌ أيُّ تَفسيرٍ آخر
لهذه الظَّاهِرَة."

 

الفَصلُ
الثَّالِث كَيفِيَّةُ دَرسِ الكِتابِ المُقَدَّس

عندَما
يتعلَّقُ الأمرُ بِدِراسَةِ الكِتابِ المُقدَّس بِجَدِّيَّة، يتَوَجَّبُ علينا أن
نَدرُسَهُ بِعِنايَةٍ وحِكمة. إحدى الطُّرُقِ الفَعَّالَة لِدِراسَتِهِ هي هذه
العمليَّة الرُّبَاعِيَّة: المُلاحَظة، التَّفسير، التَّطبيق، والتَّعامُل
العلاقَاتي.

 

تأتي
المُلاحَظَةُ أوَّلاً. فعندما تقرَأُ المقطَعَ الكِتابِيَّ، ينبَغي أن تطرَحَ
السُّؤالَ التَّالِي، "ماذا يَقُولُ؟" ثُمَّ يأتي التَّفسير، الذي
تسأَلُ خلالَهُ، "ماذا يعني؟" ثُمَّ يأتي التَّطبيق. في هذه المرحلة،
يُطرَحُ السُّؤالُ، "ماذا يعني لي شَخصيَّاً؟" أمَّا في مرحلة
التَّعامُل العلاقاتي، فيُطرَحُ السُّؤالُ، "كَيفَ يرتَبِطُ هذا النَّصُّ
الكِتابِيُّ بِبَاقي أسفارِ الكتابِ المُقدَّس؟"

 

إنَّ
مَعرِفَةَ ما يَقُولُهُ نَصُّ الكِتابِ المُقدَّس وما يعنيهِ، هُوَ أمرٌ في غايَةِ
الأهمِّيَّة. ولكن إن لم تعمَلْ بِمُوجَبِ ما يُعَلِّمُهُ نصُّ الكتابِ المُقدَّس،
تُصبِحُ دِراسَتُهُ بِدُونِ معنىً. فعندَما تَصِلُ إلى المَرحَلَة التي تُسمَّى
"التَّطبيق،" بإمكانِكَ أن تكتَشِفَ ما يعنيهِ نَصٌّ كتابِيٌّ لكَ،
بِطرحِ ذلكَ السُّؤالِ العام بِصِيغَةٍ مُحدَّدَة. حاول الإجابَة على هذه الأسئِلة
كَبِدايَة:

 

– هل
تُوجَدُ أيَّةُ نماذِج ينبَغي إتِّباعُها؟

– هل
تُوجَدُ أيَّةُ تحذيراتٍ ينبَغي تحاشِيها؟

– هل
تُوجَدُ أيَّةُ تَوصِياتٍ ينبَغي إطاعَتُها؟

– هل
تُوجَدُ أيَّةُ خطايا ينبَغي تَركُها؟

– هَل
تُوجَدُ أيَّةُ حقائِق جديدة عن اللهِ أو عن يسُوع المسيح؟

– هل
تُوجَدُ أيَّةُ حقائِق جديدة عن حياتي الشَّخصيَّة؟

 

عندما
ندرُسُ الكتابَ المُقدَّس، تُوجَدُ بعضُ القواعِد التي ينبَغي أن تَقُودَنا.
وإليكُم واحِدَة منها. فعندما تَقتَرِبُونَ من مقطَعٍ كِتابِيٍّ، تَذَكَّرُوا
التَّالِي: حتَّى ولو كانَ يُوجَدُ تفسيرٌ واحِدٌ، يُمكِنُ أن يُوجَدَ ألفُ تطبيق.
قد تكُونُونَ واثِقينَ حيالَ كيفيَّةِ إنطِباقِ مقطَعٍ مُعَيَّنٍ على حياتِكُم،
ولكن أرجُو أن تَسمَحُوا للرُّوحِ القُدُس بأن يعمَلَ بِشَكلٍ مُختَلِفٍ في حياةٍ
شخصٍ آخر، من خلالِ هذا المقطَع نفسِه.

 

ثانِياً،
بما أنَّ الكتابَ المُقدَّسَ هُوَ كتابٌ يتكلَّمُ عن المسيح، عليكُم أن تبحَثُوا
عنِ المسيح، عبرَ كُلِّ ما تقرأُونَهُ خلالَ دراسَتِكُم لكَلِمَةِ الله. ثالِثاً،
عندما تقتَرِبُونَ من عَدَدٍ يبدو وكأنَّهُ غامِض أو مُثيرٌ للحَيرَة، عليكُم
دائماً أن تُفَسِّرُوهُ على ضَوءِ أعدادٍ أُخرى واضِحَة المعنى. تُوجَدُ عدَّةُ
أعدادٍ في الكتابِ المُقدَّس صَعبَة الفَهم. وتُوجَدُ أعدادٌ كثيرَةٌ أُخرى لا
يصعُبُ فهمُها. إعتَمِدُوا على الأعدادِ الواضِحَةِ لتَقُودَ تأمُّلَكُمُ
بالأعدادِ الأصعَب.

 

وإليكُم
الخُطوة المُهِمَّة التَّالِيَة: إيَّاكُم أن تقتَرِبُوا من مَقطَعٍ كِتابِيٍّ وقد
كَوَّنتُم فكرَةً مُسبَقَة عمَّا يَعنِيهِ هذا المقطَع. فقد تَكُونونَ على حقٍّ
تماماً في ما تَظُنُّونَ أنَّ هذا المقطع يعنيهِ، وقد لا تَكُونُونَ على حَقٍّ
بتاتاً. وسوفَ تُصَعِّبُونَ مُهمَّةَ الرُّوحِ القُدُس في إفهامِكُم ما يُريدُكم
أن تفهَمُوهُ، إن كُنتُم تَظُنُّونَ أنَّكُم تَعرِفُونَ مُسبَقاً معنَى هذا
المقطَع.

 

مبدأٌ
مُهِمٌّ آخر، خاصَّةً إن كُنتُم مُنخَرِطُونَ في مُهِمَّةِ تعليمِ الكتابِ
المُقدَّس، هو أن تَكُونُوا على إستِعدادٍ لتَطبيقِهِ على أنفُسِكُم، قبلَ أن
تُعَلِّمُوهُ للآخَرين. وهاكُم مبدَأٌ آخر. تَذَكَّرُوا دائماً أنَّ اللهَ
يتكلَّمُ معنا من خلالِ كلمتِهِ، لهذا عليكُم أن تقتَرِبُوا من كَلِمَةِ اللهِ
بِرُوحِ الصَّلاة، طالِبِينَ منَ اللهِ أن يُعلِنَ أُمُوراً لكُم شَخصِيَّاً من
خلالِ الرُّوحِ القُدُس.

هل تبحث عن  م التاريخ مجامع الكنيسة مجامع مسكونية تاريخ المجامع 27

 

وهاكُم
أمرٌ آخر نُلَمِّحُ لهُ: إنتَبِهُوا دائماً إلى قَرينَةِ أيِّ نَصٍّ كِتابِيٍّ.
فلو إقتَبَسَ أحدٌ مرَّةً من أقوالِكُم، ولكن دُونَ الأخذِ بِعَينِ الإعتِبار
القَرينة التي تكلَّمتُم فيها، فأنتُم تعلَمُونَ كيفَ يُمكِنُ أن يتِمَّ تأويلُ
معنى كلماتِكُم لتَعنيَ شَيئاً لم تَقصُدُوهُ البَتَّةَ. على مِثالِ ذلكَ، يُمكِنُ
إستِخدامُ كَلِمَةُ اللهِ لتأكيدِ أيَّةِ نُقطَةٍ تَشاؤونَها تقريباً، إذا عزلتُم
أيَّ عَدَدٍ من أعدادِ كلمةِ اللهِ عن الأعداد التي تأتي معَهُ في قرينَتِهِ. إنَّ
دِراسَةَ عددٍ واحدٍ بمِعزَلٍ عن قرينَتِهِ هُوَ أمرٌ غالِباً ما يقُودُكُم إلى
سُوءِ تفسيرِ هذا العدد.

 

والآن،
بعدَ أن وضعنا أساساً لدراسَتِنا لكلمةِ الله، سوفَ نبدأُ بِبَحث أوَّلِ أسفارِ
الكِتابِ المُقدَّس، الذي هُوَ سفر التَّكوين. وصلاتي، إذ نبدَأُ بدراسَةِ هذا
السِّفر، هي أن تَصِلُوا إلى كَلِمَةِ اللهِ، وأن تَصِلَ كَلِمَةُ اللهِ إليكُم.

 

الفَصلُ
الرَّابِع سِفرُ التَّكوين – كِتابُ البِدايات

يتكلَّمُ
سِفرُ التَّكوين عنِ البِداياتِ. إنَّ كَلِمَة "تَكوين" تَعني
حَرفِيَّاً "بداية". ويُشكِّلُ سفرُ التَّكوين بدايَةَ الكتابِ
المُقدَّس، ولكنَّهُ يتكلَّمُ أيضاً عنِ البِداياتِ. أوّلُ بدايةٍ يصِفُها هي
بدايةُ العالم.

 

في
سفرِ التَّكوين، يُخبِرُنا اللهُ عن الإنسان، كما كانَ في ذلكَ الزَّمان، وكما
هُوَ عليهِ الآن. سوفَ يُساعِدُنا هذا على فَهمِ نُفُوسِنا. فسِفرُ التَّكوين
يُخبِرُنا عن الخَطيَّة. فرُؤيتُنا لَكيفيَّةِ بِدايَةِ الخَطيَّة تُساعِدُنا على
رُؤيَةِ كيفيَّةِ تأثيرِ الخطيَّةِ علينا اليوم. ويُرينا أوَّلَ إتِّصالٍ أجرَاهُ
اللهُ معَ الإنسان، وتِلكَ المُحادَثاتُ البَسيطة تُساعِدُنا على رُؤيَةِ كيفيَّةِ
تواصُلِ اللهِ معنا اليوم. وفي الصِّراعِ بينَ قايين هابِيل، نرى كيفَ تبدأُ
النِّزاعاتُ، ونبدَأُ بفَهمِ الصِّراعات ِوالنِّزاعاتِ التي نَفهَمُها اليوم.

 

في
الإصحاحات 6 إلى 9، نقرَأُ عن أوَّلِ كارِثَةٍ في العالم، ألا وهِيَ كارِثَةُ
الطُّوفان. وفي هذه القِصَّة، نَجدُ صُورَةً عنِ الخلاص. فبِسَبَبِ إيمانِ نُوح،
خلَّصَهُ اللهُ منَ الهَلاك. وإن كانَ لدينا إيمانٌ، فبإمكانِنا نحنُ أيضاً أن
نخلُصَ منَ الهلاك الذي تُسبِّبُهُ الخَطيَّة.

 

وفيما
تبقَّى من هذا السِّفر، نَجِدُ قِصَّةً تِلوَ الأُخرى تُرينا كيفَ أنَّ اللهَ في
نهايَةِ الأمر هُوَ صاحِبُ السَّيطَرَةِ والسُّلطان. ومعَ تكرارِ هذا الموضُوع، هل
يُمكِنُنا أن نَشُكَّ بكونِ اللهِ لا يزالُ صاحِبَ السَّيطَرَةِ والسُّلطانِ
اليوم؟

 

إنَّ
مُهِمَّتَكَ اليوم هِي بأن تَبدَأَ بِقِراءَةِ سِفرِ التَّكوين. وبينما تفعَلُ
ذلكَ، إسألْ نفسَكَ الأسئِلَةَ التَّالِيَة: ماذا يقُولُ هذا السِّفرُ عن كيفَ
كانتِ الأُمُورُ آنذاك؟ وكيفَ يُشيرُ هذا إلى حالَةِ الاُمُور كما هي عليهِ اليوم؟
وكيفَ ينبَغي أن يُغَيِّرَ هذا فكري وحَياتِي؟

 

الفَصلُ
الخامِس هل الخَلقُ معقُولٌ؟

إنَّ
سِفرَ التَّكوين، لا بل الكتاب المُقدَّس بكامِلِهِ، يبدَأُ بِقِصَّةِ الخلق.

 

ولكن
رُغمَ كُلِّ المعنى المُذَخَّر في هذا الحَدَث، ولكنَّ سَردَهُ يُغَطِّي إصحاحاً
ونِصف فقط. ما هُوَ سببُ ذلكَ؟ كما قُلنا في الفَصلِ الأخير، كُتِبَ هذا السِّفرُ
ليسَ فقط ليُخبِرَنا كيفَ حَدَثَ هذا في ذلكَ الزَّمان، بل أيضاً لِنَفهَمَ
الأمُور كما هي عليهِ الآن. فاللهُ غَيرُ مُلزَمٍ بأن يُفسِّرَ لنا كُلَّ شَيء.
وهُوَ لا يحتاجُ أن يُدافِعَ عن نفسِهِ. وهُوَ لا يُعطينا هذا السَّرد للخَلق
لكَونِهِ يعتَقدُ أنَّهُ يَدينُ لنا بِتَفسيرٍ لكَيفَ خَلقَ كُلَّ شَيء.

 

رُغمَ
ذلكَ، لا يُمكِنُنا أن نتجاوَزَ هذا السِّفر بِدُونِ مُناقَشَةِ ما هُوَ على
الأرجح القَضية الأكثرُ إثارَةً للجَدل في الكتابِ المُقدَّس، وبِشكلٍ مُتَكرِّرٍ
أكثر من غيرهِ. يُوجَدُ نَقيضانٍ حولَ موضُوع الخلق. أوَّلاً، يُوجَدُ المَوقِفُ
الذي يَقُولُ أنَّ سَردَ حَدَثِ الخَلق في سفرِ التَّكوين لا يُركَنُ إليهِ
عِلميَّاً، لِهذا لا يُمكِنُ أن يَكُونَ الكِتابُ المُقدَّسُ كلمةَ اللهِ المُوحَى
بها. النَّقيضُ الآخر هُوَ الموقِفُ الذي يَقُولُ أنَّ السُّؤالَ المَطروح ليسَ،
"هل الكتابُ المُقدَّسُ يُركَنُ إليهِ علمِيَّاً؟" ولكن، "هل العِلمُ
يُركَنُ إليهِ كِتابِيَّاً؟" الذين يتبنُّونَ هذا المَوقِف يَقُولون،
"ليسَ الكتابُ المُقدَّسُ تحتَ المُحاكَمة. بل العِلمُ هُوَ الذي تحتَ
المُحاكَمة."

 

القَضِيَّةُ
الحقيقيَّةُ هي: هل الكتابُ المُقدَّسُ والعِلمُ مُتَّفِقانِ فيما يتعلَّقُ
بتكوينِ العالم؟

 

نحتاجُ
أن نضعَ بعضَ الأُمُور في إطارِها الصَّحيح. أوَّلاً، إنَّ طبيعَةَ العلم المحضَة
لا تترُكُ مجالاً للإيمانِ باللهِ، بالمعنى الضَّيِّق للكَلِمة. هذا لا يعني
أنَّهُ ليسَ بإمكانِ عالِمٍ أن يَكُونَ مُؤمِناً تَقِيَّاً. ولكنَّ العِلمَ
بِحَدِّ ذاتِهِ هُوَ دراسَةٌ للمعلُوماتِ أو الظَّواهِرِ التي يُمكِنُ مُلاحَظتُها
وقياسُها وإثباتُها مَوضُوعِيَّاً. إنَّهُ مَبنِيٌّ على الإختِباراتِ،
الإستِنتاجاتِ، والتَّطبيقات. إنَّهُ خاضِعٌ للمُراقَبَة، وتُمكِنُ مراقَبَتُهُ.
واللهُ بِطَبيعتهِ لا يُمكِنُ أن يكُونَ مَوضُوعاً لهكذا نوع منَ الدِّراسة. فمِنَ
المُستَحيلِ الإقتِرابُ منَ اللهِ بمنهَجِيَّةٍ عِلميَّة. فالطريقَةُ الوحيدةُ
للإقتِرابِ منَ اللهِ، هي من خلالِ الإيمان، كما نقرَأُ في عبرانِيِّين 11: 6،
"ولكن بِدُونِ إيمانٍ لا يُمكِنُ إرضاؤُهُ، لأنَّهُ يَجِبُ أنَّ الذي يأتي
إلى اللهِ يُؤمِنُ بأنَّهُ مَوجُودٌ وأنَّهُ يُجازي الذين يطلُبُونَهُ."

 

نقرَأُ،
"في البَدءِ خلقَ اللهُ السَّماواتِ والأرض" (تكوين 1: 1). ثُمَّ
نقرَأُ: "وكانَتِ الأرضُ خرِبَةً وخالِيَة وعلى وجهِ الغَمرِ ظُلمَة ورُوحُ
اللهِ يَرِفُّ على وجهِ المِياه"(تك 2: 2)

 

يَقُولُ
الكِتابُ المُقدَّسُ أنَّ رُوحَ اللهِ بدأَ يتحرَّكُ على هذه الخليقة ويُطَوِّرُها
ويُحَرِّكُها ويُغَيِّرُها. مثلاً، يَقُولُ الكتابُ في تكوين 1: 9،
"لِتَجتَمِعِ المِياهُ تحتَ السَّماءِ إلى مكانٍ واحِد ولِتَظهَرِ
اليابِسَة."

 

لَم
يَقُلِ اللهُ "لِتَكُنِ اليابِسَة." فليست هذه هي المرحلة التي خُلِقَت
فيها اليابِسَة. بل يبدُو أنَّها كانت قد خُلِقَت مُسبَقاً، في عملِ الخلقِ
البِدائِي، ولكنَّها كانت لا تزالُ مغمُورَةً تحتَ المياه. في هذا العدد، نَجِدُ
اليابِسَةَ تظهَرُ من تحتِ المياه. منَ المُثيرِ للإهتِمامِ أنَّ مُجمَلَ
العُلماءِ مُتَّفِقُونَ أنَّ هذه الأرض بكامِلِها كانت مغمُورَةً بالمياهِ في وقتٍ
منَ الأوقات.

 

تعني
كلمة "بارا" العِبريَّة، أو خلقَ، عَمِلَ شَيءٍ منَ العَدم. تُستَخدَمُ
هذه الكلمةُ هُنا ثلاثَ مرَّاتٍ في هذا السَّرد لِعمليَّةِ الخلق. فاللهُ خَلَقَ
في البِدايَة، في العددِ الأوَّل. فعملُ الخلقِ الأوَّلُ هذا، "بارَا"،
يُشيرُ إلى الكَون، الأرض، والحياة النَّباتِيَّة.

 

الكَلِماتُ
الأُخرى بينَ العددَين 2 و20 هي مُختَلِفَة. إنَّها كَلِماتٌ تُشيرُ إلى
التَّغيير، أو إلى أخذِ شَيءٍ مَوجُودٍ أصلاً وتغيير شكلِهِ. فعملُ الخلقِ
التَّالي يجري في المياه. نقرَأُ في العدد 21، "فخَلَقَ اللهُ التَّنانِينَ
العِظامَ وكُلَّ ذواتِ الأَنفُسِ الحَيَّةِ الدَّبَّابَةِ التي فاضَت بها المِياهُ
كأجناسِها، وكُلَّ طائِرٍ ذِي جناحٍ كَجِنسِهِ. ورأى اللهُ ذلكَ أنَّهُ حَسَنٌ."

 

نَقُولُ
مُجدَّداً أنَّهُ يُوجَدُ إتِّفاقٌ بينَ السَّردِ الكِتابِيِّ لعمليَّةِ الخلقِ،
وبينَ العِلم. إذ يبدُو أنَّ العُلماءَ مُتَأكِّدُونَ من أنَّ الحياةَ
الحيوانِيَّة بدأَت في المياه، وهذا ما يُؤكِّدُهُ سفرُ التَّكوين.

 

عمل
"بارا" التَّالي يجري في العدد 27، "فخَلَقَ اللهُ الإنسانَ على
صُورَتِهِ. على صُورَةِ اللهِ خلَقَهُ. ذَكَرَاً وأُنثَى خلَقَهُم."

 

إنَّ
إعلانَ سفرِ التَّكوين عن حدَثِ الخلق يتكلَّمُ عن بِداياتِ كُلِّ شَيءٍ في الكون.
فبعدَ أعمالِ الخلقِ الأصلِيَّةِ هذه، نَجِدُ رُوحَ اللهِ يُغَيِّرُ ويُطَوِّرُ هذا
الخلق. وهذا يتَّفِقُ معَ ما يَقُولُهُ العُلماءُ عن تطوُّرِ أشكالِ الحياة، وفي
هذا الإطار أجِدُ إنسجاماً معَ الفِكرِ النُّشُوئِي.

 

ولكنَّ
النُّشُوئِيِّينَ والتَّطَوُّرِيِّينَ لا يُمكِنُهُم أن يتَّفِقُوا بتاتاً حولَ
قَضِيَّةِ الحلقاتِ المَفقُودَة. فالحلقاتُ المفقودة الثَّلاث تتمحوَرُ في ثلاثَةِ
أسئِلَةٍ. كيفَ بَدَأَ كُلُّ هذا؟ وكَيفَ أصبَحَتِ الحياةُ النَّباتِيَّةُ حياةً
حيوانيَّة؟ وكيفَ أصبَحَتِ الحياةُ الحَيوانِيَّةُ حياةً إنسانيَّة؟ العلمُ لا
يملِكُ تفسيراتٍ لهذا الحلقاتِ المَفقُودَة. أمَّا سِفرُ التَّكوين، فلديهِ هذه
التَّفسيراتُ. وجوابُ سفرِ التَّكوين على هذه الأسئِلة هُوَ بِبَساطَةٍ
"بَرَا،": خَلَقَ اللهُ.

 

الفَصلُ
السَّادِسُ وِلادَةُ الجنسِ البَشَريّ

لقد
ناقَشنا سابِقاً أُصُولَ الكَون؛ والآن دَعُونا نبحَثُ في أُمُورٍ شَخصيَّةٍ. في
هذا الإصحاح، سوفَ نتأمَّلُ في ما يَقُولُهُ سِفرُ التَّكوين عن بداياتِ الإنسان.
تَذَكَّرُوا، إنَّ القَصدَ من سفرِ التَّكوين هُوَ أن يُخبِرَنا عن حالَةِ الكَونِ
كما كانَ من زَمانٍ، لكَي نستطيعَ أن نفهَمَ كيفَ هُوَ الآن. وبينما نقتَرِبُ من
مَوضُوعِ بِدايَةِ الجنسِ البَشَريّ، فهذا يعني أنَّنا نقتَرِبُ من مَوضُوعِ
نُفُوسِنا. فماذا لدى سفر التَّكوين ليَقُولَهُ عَنِ مقصَدِ اللهِ في خَلقِ
الإنسان؟ دَعُونا نبدَأُ بِقِراءَةِ وصفِ كيفيَّةِ ظُهُورِ الرَّجُلِ والمرأَةِ
للوُجُود.

 

وقالَ
اللهُ، نعمَلُ الإنسان على صُورَتِنا، كَشَبَهِنا. فيَتَسَلَّطُونَ على سَمَكِ
البَحرِ وعلى طَيرِ السَّماء… فخَلَقَ اللهُ الإنسانَ على صُورَتِهِ. على
صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَراً وأُنثَى خَلَقَهُم. وبارَكَهُم اللهُ وقالَ لهُم
أثمِرُوا واكثُرُوا واملأُوا الأرضَ… وقالَ الرَّبُّ الإلهُ ليسَ جَيِّداً أن
يكُونَ آدَمُ وحدَهُ. فأَصنَعُ لهُ مُعيناً نظِيرَهُ… فأَوقَعَ الرَّبُّ الإلهُ
سُباتاً على آدَم فنَامَ. فأخذَ واحِدَةً من أضلاعِهِ ومَلأَ مكانَها لَحماً. وبنى
الرَّبُّ الإلهُ الضِّلعَ التي أخَذَها من آدم إمرأَةً وأحضَرَها إلى آدَم…
لذلكَ يترُكُ الرَّجُلُ أباهُ وأُمَّهُ ويلتَصِقُ بإمرأَتِهِ ويَكُونانِ جَسداً
واحِداً. (تكوين 1: 26- 28؛ 2: 18، 21-24)

 

على
صُورَةِ اللهِ

 الأمرُ
الأوَّلُ الذي يظهَرُ جَلِيَّاً في هذا المقطَع، هُوَ كَونُ الإنسانِ مَخلُوقاً
على صُورَةِ اللهِ ومِثالِهِ. إنَّ هذه الكَلِمات مألُوفَةٌ لَدَينا، ولكنْ ماذا
تَعني بالحقيقة؟ بما أنَّ اللهَ رُوحٌ، وأنَّ ليسَ لهُ جَسَدٌ، فهذا لا يُشيرُ على
الأرجَح إلى شَكلِنا الخارِجِيّ. بل يُشيرُ إلى إمكانِيَّتِِنا على أن نَكُونَ
رُوحِيِّين. بهذه الطريقة نحنُ نُشبِهُ اللهَ. بالطَّبعِ، في تَكوين 3، نرى كيفَ
تشَوَّهَ هذا التَّشابُهُ معَ اللهِ عندما أخطأَ آدَمُ وحَوَّاءُ. ومنذُ تلكَ
المرحلة، أصبَحَت المُشكِلَة الأساسيَّة التي يتعامَلُ معَها الكتابُ المُقدَّسُ
هي "إعادَة خلق" صُورَة اللهِ في الإنسان. يُرينا الإصحاحان 1 و2 من
سفرِ التَّكوين الإنسانَ كما خُلِقَ في البَدء، وكما كانَ مقصُوداً لهُ أن يَكُون.
تَكوين 3 يُرينا الإنسان كما هُوَ عليهِ آنذاك.

 

الذَّكَرُ
والأُنثَى

مُلاحَظَةٌ
أُخرَى يُمكِنُنا تقدِيمُها فيما يتعلَّقُ بِخَلقِ الإنسان، هي أنَّ اللهَ خلقَهُ
ذَكرَاً وأُنثَى. هُنا نَجِدُ أوَّلَ نَمُوذَجٍ عنِ الجِراحَةِ معَ البنج. فأوَّلُ
طَبيبِ بَنجٍ كانَ الله! فلقد أوقَعَ اللهُ سُباتاً عميقاً على آدم؛ ثُمَّ أخذَ
ضِلعاً من أضلاعِهِ، وصنعَ المرأةَ من هذا الضَّلع. هُنا نَجِدُ صُورَةً
رَمزِيَّةً جَميلة. فاللهُ لم يأخُذْ المرأَة من رأسِ الرَّجُل، حتَّى لا
تَتَسلَّطَ عليهِ، ولم يأخُذْها من قَدَمِهِ حتَّى لا يستَعبِدَها كخادِمَةٍ لهُ.
بل أخذَ اللهُ المرأَةَ من ضِلعِ الرَّجُل، لكَي تَكُونَ قَريبَةً من قَلبِهِ.

 

لماذا
خلقَ اللهُ المرأَةَ؟ من الأفضَل ترجَمَة كلمة "وَحْدَهُ" بالعبريَّة،
بِكلمة "غير كامِل، أو ناقِص"، أو "أكثَر كمالاً." إذا دخَلتَ
إلى مجالِ قواعِدِ اللُّغَةِ العبرِيَّة، تَجِدُ أنَّهُ عندما جمعَ اللهُ هذا
الرَّجُل وهذه المرأة في ما يُسمَّى بِرِباطِ الزَّواجِ المُقدَّس، أو بالإتِّحادِ
الجِنسيّ، فإنَّ هذا الرَّجُل وهذه المرأة المُتَّحِدانِ في جسدٍ واحِدٍ أصبَحا إنساناً
واحداً.

 

من
المُهِمِّ أن نُلاحِظَ هُنا أنَّهُ عندما جمعَ اللهُ ذلكَ الرَّجُل وتلكَ المرأة
معاً، أوجدَ اللهُ أهمَّ مُؤسَّسَةٍ على الأرضِ اليَوم، والتي نُسمِّيها العائِلة
أو البَيت. لقد كانت خُطَّةُ اللهِ عندما خلَقَهُما ذَكَراً وأُنثَى، كانت
خُطَّتُهُ أن يأخُذَ هذينِ الشَّخصَين ويجعَلَ منهما مُتَّحِدَينِ في علاقَةٍ
ليكُونَ بِوُسعِهِما أن يُصبِحا والِدَين. ثُمَّ، كَوَالِدَين، يُنجِبانِ
بِدَورِهِما أولاداً سيُصبِحُونَ بِدورِهم أزواجاً لآخرينَ ومن ثَمَّ والِدِينَ
يُنجبُونَ أشخاصاً يُصبِحونَ هُم أيضاً أزواجاً ووالِدين. هذا هُوَ نامُوسُ
الطَّبيعَةِ العَظيم، الذي منحَ الحياةَ والنُّمُوَّ والإتِّجاهِ للعائِلَة
البَشَرِيَّة جَمعاء.

 

إنَّ
الشَّراكَة بينَ الرَّجُل والمرأَة هي جزءٌ هامٌّ جداً من نامُوس اللهِ الأساسيّ
للحَياة. لهذا خلقَ اللهُ الإنسانَ ذكراً وأُنثَى. تَصَوَّرْ مُثَلَّثاً، حيثُ
يُوجَدُ اللهُ على رأسِ الهَرم، والرَّجُلُ على الزَّاوِيَةِ السُّفلَى اليُسرى
والمرأَةُ على الزَّاوِيَةِ السُّفلَى اليُمنَى منَ المُثَلَّث. إن كانَ الرَّجُلُ
على علاقَةٍ باللهِ، وإن كانَتِ المرأَةُ أيضاً على علاقَةً باللهِ نفسِه، فبِمقدارِ
ما يقتَرِبُ هذا الرَّجُلُ وهذه المرأة منَ اللهِ، بمقدارِ ما يقتَرِبانِ
تِلقائِيَّاً من بَعضِهما البَعض.

 

بَينَما
تدرُسُ مَوضُوعَ الزَّواجِ في سفرِ التَّكوين، ستَجِدُ أنَّ الزَّواجَ ينبَغي أن
يكَونَ علاقَةً حَصرِيَّةً بمعنَيَين. فمِن أجلِ الزَّواج، يترُكُ الرَّجُلُ أباهُ
وأُمَّهُ. فهُوَ يستَقصِي العائِلة التي قضى معها عشرينَ أو خمسةً وعشرينَ عاماً.
وأيضاً بسببِ الزَّواج، عليهِ أن ينسَى كُلَّ الآخرين. وعليهِ أن يحيا معَ
زوجَتِهِ حصرِيَّاً، لباقِي حياتِهِ. وعلى المرأةِ أن تتَّخِذَ نفسَ هذه
الخُطُواتِ والإلتِزام الحَصريّ تجاهَ زَوجِها. هذه هي خُطَّةُ اللهِ للزَّواج.

 

الفَصلُ
السَّابِع أينَ أنت؟

أحدُ
أكثر المقاطع المألُوفَة في الكتابِ المُقدَّس، هُوَ الإصحاحُ الثَّالِث من سفرِ
التَّكوين، حيثُ يأكُلُ آدَمُ وحَوَّاءُ الثَّمرَةَ المَمنُوعَة. يُرينا الإصحاحُ
الثَّانِي الإنسانَ كما كانَ عندما خُلِقَ وكما قصدَ اللهُ لهُ أن يحيا حياتَهُ.
يُرينا هذا الإصحاحُ الخَطِيَّةَ – كما كانت عليهِ آنذاك، وكما هي عليهِ اليوم.
ويُرينا آدم وحَوَّاء يُواجِهانِ نفسَ القَرار الذي نُواجِهُهُ جميعاً عدَّةً
مرَّاتٍ في اليوم، ألا وهُوَ: هل سنتصرَّفُ على طَريقَةِ اللهِ أم على طريقَتِنا؟
لقد خلَقَنا اللهُ مخلُوقاتٍ ذات خَيار. ولهذا بإمكانِنا أن نعمَلَ إرادَةَ اللهِ
أو أن نعمَلَ إرادَتنا.

 

يَصِفُ
الإصحاحُ الثَّالِثُ من سِفرِ التَّكوين هذه الأزَمة عندما حَدَثَت لأوَّلِ مرَّة.
وهُوَ يَصِفُ معرَكَةَ الإراداتِ كما كانت عليهِ في ذلكَ الزَّمان، لكي نفهَمَ هذه
المعرَكَة كما هي في حياتِنا الآن. ولقد تمَّ شَرحُ الوَضعِ لنا سابِقاً، أي في
تكوين 2: 8- 9: "وَغَرَسَ الرَّبُّ الإلهُ جَنَّةً في عَدن شَرقاً. ووضَعَ
هُناكَ آدمَ الذي جبَلَهُ. وأنبَتَ الرَّبُّ الإلهُ منَ الأرضِ كُلَّ شَجَرَةٍ
شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وجَيِّدَةٍ للأَكلِ. وشجرَةَ الحياةِ في وسطِ الجَنَّةِ
وشَجَرَةَ مَعرِفَةِ الخَيرِ والشَّرِّ."

 

في
مَكَانٍ ما على الطَّريق، أخَذَ أشخاصٌ فكرَةَ كونِ الشجَرَةِ المَمنُوعَة شجَرَةَ
تُفَّاحٍ، ولكن لا يُوجَدُ أيُّ ذكرٍ للتُّفَّاحِ لا هُنا ولا في الإصحاحِ
الثَّالِث من سفرِ التَّكوين. بدلَ ذلكَ، نقرَأُ عن شَجَرَةِ الحياة، وشجَرَةِ
معرِفَةِ الخَيرِ والشَّرّ.

 

قبلَ
أن نُتابِعَ، نحتاجُ أن نتكلَّمَ عن نوعِ اللُّغَةِ التي تُستَخدَمُ هُنا. هذه
القِصَّة هي حقيقَةٌ تاريخيَّة، ولكنَّها أيضاً مجازِيَّةٌ رَمزِيَّة. المجازُ
هُوَ قِصَّةٌ يتَّخِذُ فيها الأشخاصُ، الأماكِنُ والأشياءُ معنىً إضافِيَّاً على
المعنى التَّارِيخيّ الواضِح، وغالِباً ما يحملُ تعليماً أخلاقيَّاً.

 

في
وَصفِ جَنَّةِ عَدَن، أنواعُ الأشجارِ التي نقرَأُ عنها تُشيرُ إلى أنَّ اللهَ
كانَ سيُلَبِّي إحتِياجاتِ الإنسان في ذلكَ المكان. لاحِظُوا الأولويَّة: قبلَ
كُلِّ شَيء، هذه الأشجارُ كانت ستُشبِعُ حاجَةَ الإنسانِ للنَّظَر؛ ثُمَّ كانت
ستُلَبِّي حاجَتَهُ للطَّعام، ومن ثَمَّ كانت ستَمنَحُهُ الحياة. ولكن كانت هُناكَ
أيضاً شجرَةُ المعرفة، وقد كانت محظُورَةً من قِبَلِ الله.

 

في
الإصحاحِ الثَّالِث، حَيثُ جَرَت أحداثُ قِصَّةِ الخَطيَّةِ الأُولى، لاحِظُوا
أنَّ ترتيبَ الأولويَّاتِ تَغَيَّر. فبَدَلاً من وضعِ حاجَةِ العَينِ أوَّلاً،
والطَّعام ثانِياً، والحَياة ثالِثاً، والمعرِفَة أبداً بتاتاً، وضَعُوا الطَّعامَ
أوَّلاً، ثُمَّ العَين، ثُمَّ الحَياة، ثُمَّ المعرِفَة – ولم يَصِلُوا أبداً إلى
الحَياة. وبدَلَ ذلكَ، حَصَلوا على المَوتِ الرُّوحِيّ. نَقرَأُ في تَثنِيَة 8: 3
أنَّهُ، "ليسَ بالخُبزِ وحدَهُ يحيا الإنسان، بَل بِكُلِّ كَلِمَةٍ تخرُجُ من
فَمِ الله." فنَحنُ بالحقيقَةِ لا نَعيشُ عندما نخرُجُ ونَبحَثُ عن طُرُقٍ
نُشبِعُ من خلالِها إحتِياجاتِنا. فبِحَسَبِ هذا العدد، الحياةُ الحقيقيَّةُ تأتي
من إطاعَةِ كُلِّ كَلِمَةٍ تخرُجُ من فَمِ الله.

هل تبحث عن  شخصيات الكتاب المقدس عهد قديم إبراهيم 06

 

عندما
وضعَ اللهُ آدَمَ وحَوَّاءَ في الجَنَّةِ، وفَّرَ لهُما كُلَّ ما كانا يحتاجانِهِ.
ولقد عرفَ إحتياجاتِهِما لأنَّهُ هُوَ الذي خَلَقَهُما. وبما أنَّهُ هُوَ الذي
خلقَنا، فهُوَ يَعرِفُ إحتِياجاتِنا نحنُ أيضاً؛ ولدَيهِ كُلُّ نِيَّةٍ بتَوفِيرِ
ما نحتاجُهُ.

 

قد
تتَساءَلُونَ الآن لماذا أتَتِ العَينُ أوَّلاً في لائحَةِ الأولويَّاتِ. عندما
يذكُرُ الكتابُ المُقدَّسُ العَينَ، فهُوَ غالِباً لا يَعني العين حَرفِيَّاً.
فمَثَلاً، في متَّى 6: 22- 23، قالَ يسُوع، "سِراجُ الجَسَد هُوَ العَين؛ فإن
كانت عينُكَ بَسيطةً، فجَسَدُكَ كُلُّ يكُونُ نَيِّراً. وإن كانت عينُكَ
شرِّيرَةً، فجَسَدُكَ كُلُّهُ يكُونُ مُظلِماً." لم يكُنْ يسُوعُ يتكلَّمُ عن
الرُّؤيا الرُّوحيَّة. بل كان يتكلَّمُ عنِ الطَّريقَة التي بها ننظُرُ للأُمُور،
أو ذهنِيَّتِنا، أو نظرتِنا للحياة. وعندَما وضعَ اللهُ هكذا أولويَّة سامِية على
ما هُوَ جَيِّدٌ للنَّظَرِ في جَنَّةِ عدَن، كان يَقُولُ بالحقيقَةِ أنَّهُما كانا
بحاجَةٍ أن ينظُرا إليهِ لكَي يُشبِعا حاجَةً واحدَةً من أعظَمِ إحتِياجاتِهِما.
فأعظَمُ حاجَةٍ كانت لدَيهِما وأعظَمُ حاجَةٍ لدينا، هي أن ندعَ اللهَ يُظهِرُ لنا
كيفَ ينبَغي أن نرى الأُمُور.

 

ولكن
تُوجَدُ صُورَةٌ أُخرى في هذا الإصحاحِ أيضاً. فبعدَ أن إستَسلَمَ آدَمُ وحَوَّاءُ
للتَّجرِبَة، نقرَأُ أنَّهُما سَمِعاً صَوتَ الرَّبِّ الإلهِ ماشِياً في الجَنَّةِ
عندَ هُبُوبِ رِيحِ النَّهار، فإختَبَأَ آدَمُ وامرأَتُهُ من وَجهِ الرِّبِّ
الإلهِ في وسطِ شَجَرِ الجَنَّةِ. فنادَى الرَّبُّ الإلهُ آدَمَ وقالَ لهُ أينَ
أنتَ؟" (تَكوين 3: 8- 9).

 

مِنَ
المُثِيرِ للإهتِمامِ أنَّ اللهَ بدَأَ هذا الحِوارَ معَ آدمَ وحَوَّاء بطرحِ
أسئِلة: "أينَ أنتَ؟ من أخبَركَ أنَّكَ عُريان؟ (تكوين 3: 9- 11) لقد كانَ
اللهُ يعرِفُ الأجوِبَة مُسبَقاً بالطَّبع؛ فهُوَ مَوجُودٌ في كُلِّ مكانٍ في نفسِ
الوقت، وهُوَ يرى كُلَّ شَيء. لقد طرحَ اللهُ هذه الأسئِلة، بسببِ أُمُورٍ كان
يجهَلُها كُلٌّ من آدَم وحَوَّاء. كان المَقصُود منَ الأسئِلة جعلُهُما يُفَكِّران.
فعندما سألَ اللهُ، "أينَ أنتَ؟" كانت بالحقيقَةِ يسأَلُ، "لماذا
تختَبِئُ منِّي؟"

 

السُّؤالُ
الثَّاني الذي طرَحَهُ اللهُ، بعدَ إعتِرافِ آدَم بأنَّهُ إختَبأَ لأنَّهُ كانَ
عُرياناً، هُوَ سُؤالٌ مُفَضَّلٌ عِندِي: "من أعلَمَكَ أنَّكَ عُريانٌ؟"
(تكوين 3: 11 أ) في اللُّغَةِ العِبريَّة، نقرأُ هذا العدد على الشَّكلِ
التَّالِي: "من جَعَلَكَ تَعرِفُ ذلكَ؟" والجوابُ الحقيقيُّ هوَ
بالطَّبعِ أنَّ اللهَ كان مصدَرَ تلكَ المعلُوماتِ، بما أنَّهُ هُوَ مَصدَرُ كُلِّ
المعلُوماتِ الأُخرى. هُناكَ بعضُ المعلوماتِ التي يُريدُنا أن نعرِفَها، وهُناكَ
معلُوماتٌ أُخرى إختار أن يُخفِيَها عنَّا، ولكن لا تُوجَدُ معلُوماتٌ خَفِيَّةٌ
على اللهِ نفسِه. ففي كُلِّ مَرَّةٍ نعرفُ أينَ نحنُ رُوحِيَّاً، إذا فَكَّرنا
بهذا الأمر، نَجِدُ أنَّ اللهَ هُوَ الذي يجعَلُنا نعرِفُ أينَ نحنُ، وأينَ ينبَغي
أن نَكُون.

 

السُّؤالُ
التَّالِي الذي طَرَحَهُ اللهُ كانَ، "هل أكَلتَ منَ الشَّجَرَةِ التي
أوصَيتُكَ أن لا تأكُلَ منها؟" (تكوين 3: 11 ب). لقد عصا آدم وحوَّاء على
الله، وإختَبآا خلفَ شجرِ الجَنَّةِ، واضِعَينِ أوراقَ تينٍ لِسَترِ عُريِهِما،
متَحَمِّلَينِ عواقِبَ خَطِيَّتِهما. إن كُنتَ تقتاتُ على مائدَةٍ كَريهَةٍ هي
عواقِب خطايا إرتَكبتَها، إطرَحْ على نفسِكَ هذا السُّؤال: هل كُنتَ تأكُلُ منَ
الشَّجَرَةِ التي قالَ لكَ الرَّبُّ أن لا تأكُلَ منها؟ وهل كُنتَ تتجاهَلُ وتَعصى
كلمةَ الله؟ وهي تتجاهَلُ توجِيهاتِهِ لكَ في الحياة؟

السُّؤالُ
الرَّابِعُ الذي طَرَحَهُ اللهُ هُو، "ماذا فعَلتِ؟" ولقد وَجَّهَهُ
اللهُ إلى حَوَّاء، وهُوَ يُنتِجُ إعتِرافاً، حتَّى ولو كانَ الإعتِرافُ
مُذَيَّلاً بعُذرٍ أو بِحُجَّة. إن كَلِمَة "إعتِراف" تأتي من كلمتَينِ
تعنِيانِ، "قَول المِثل." حرفِيَّاً، الإعتِرافُ هُوَ المُوافَقة معَ
اللهِ فيما يقُولُهُ عمَّا فعلتَهُ. لقد أرادَ اللهُ أن تضعَ حوَّاءُ كُلَّ
الحقائِق على الطَّاولَة بينَها وبينَ الله، لكي يتعامَلاً معاً بِجدِّيَّةٍ معَ
ما حدَثَ. وهذا ما يُريدُهُ اللهُ منَّا اليوم. إنَّهُ يُريدُنا أن نُدرِكَ ما
فعلنا، وأن نُواجِهَهُ بأمانَةٍ وإخلاص.

 

يُشَكِّلُ
تكوين 3 صُورَةً عن شَخصَينِ أخطآا، وكيفَ تعامَلَ اللهُ معَهُما، ولكنَّهُ أيضاً
صُورَةٌ عنَّا جَميعاً، نحنُ الذين أخطأنا، ويُرينا الإصحاحُ الثَّالِثُ كيفَ
يتعامَلُ اللهُ معنا عندما نختَبِئُ منهُ بسببِ خطايانا. إنَّها صُورَةُ
الخَطِيَّةِ وعواقِبِها. وهي أيضاً صُورَةُ اللهِ الذي يُلاحِقُ الخَاطِئَ ليُقيمَ
معَهُ حواراً أو مُحادَثَةً.

 

الفَصلُ
الثَّامِن أينَ أخُوكَ؟

أحد
مَواضِيع الكتاب المُقدَّس الأساسيَّة هُوَ حاجَةُ الإنسان للمُصالَحَةِ معَ الله.
ولقد بادَرَ اللهُ بِجعلِ المُصالَحة مُمكِنَةً، سُرعانَ ما إقتُرِفَتِ
الخَطَيَّةُ الأُولى. ففي تكوين 3: 15، نَجِدُ النُّبُوَّةَ المَسياوِيَّةَ
الأُولى تظهَرُ، عندما يتكلَّمُ اللهُ معَ الأفعى: "وأضَعُ عداوَةً بينَكِ
وبَينَ المرأةِ وبَينَ نَسلِكِ ونَسلِها. هُوَ يسحَقُ رأسَكَ وأنتِ تَسحَقِينَ
عَقِبَهُ."

 

معَ
العِلمِ أنَّ الحَيَّةَ تُشيرُ إلى الشَّيطان، نَجِدُ هُنا أوَّلَ إشارَةٍ في
الكتابِ المُقدَّس إلى أنَّ اللهَ سوفَ يُرسِلُ شَخصاً إلى هذا العالم ليُصَحِّحَ
الوضع. هذه هي النَّتيجَةُ النَّبَوِيَّة لِخَطِيَّةِ آدم وحَوَّاء.

 

ولكن
كانت هُناكَ عِدَّةُ عواقِب سَلبِيَّة! أوَّلاً، أنَّ الجِنسَ البَشَرِيَّ
إنفَصَلَ عنِ الله. ثُمَّ نقرأُ في الإصحاح الرَّابِعِ عن عاقِبَةٍ أُخرى من
عَواقِبِ السُّقُوط – ألا وهي الصِّراع. يَصِفُ اللهُ الصِّراعَ لنا – الصِّراعَ
كما كانَ في ذلكَ الزَّمان، لكي نفهمَ الصِّراعَ كما هُوَ عليهِ الآن. فنَحنُ في
صِراعٍ مع نُفُوسِنا؛ ونحنُ في صِراعٍ معَ زَوجاتِنا أو أزواجِنا؛ ونحنُ في صِراعٍ
معَ أولادِنا ومعَ أهلِنا؛ ونحنُ في صِراعٍ معَ أربابِ عملِنا، وبالطَّبعِ نحنُ
نشهَدُ صِراعَ الأُمَمِ معَ بَعضِها البَعض. فالصِّراعُ هُوَ إحدى مشاكِلِنا
الكُبرى. في تَكوين 4، سوفَ نكتَشِفُ بعضَ الأسبابِ الرَّئيسيَّة لِلصِّراع، وبعضَ
الحُلُولِ التي يُمكِنُ أن تَضَعَ حَدَّاً لهذه الصِّراعات. يُعطِينا سِفرُ
التَّكوين هذه المعلُوماتِ في شَكلِ قِصَّةٍ عن شَقيقَين.

 

هذانَ
الشَّقِيقانِ هُما مألُوفانِ جِدَّاً عندَنا – قايين وهابِيل. وبينما تَتَتَابَعُ
القِصَّةُ فُصُولاً، خطَرَ لِقايين فكرَةٌ، بأن يُقدَّمَ تقدِمَةً للهِ. وبما
أنَّهُ كانَ مُزارِعاً، قدَّمَ لِلرَّبِّ تقدِمَةً من ثِمارِ الأرض. أمَّا أخاهُ
هابِيل فكانَ راعِياً، فقدَّمَ للهِ ذبيحَةً حيوانِيَّة. فقُبِلَت تقدِمَةُ هابِيل
منَ اللهِ، أمَّا تقدِمَةُ قايين فلم تُقبَلْ.

 

هُنا
يُسيءُ الكَثيرُونَ فهمَ هذا القَضِيَّة، ظَانِّينَ أنَّ ذبيحَةً هابِيل قُبِلَت
لأنَّها كانت ذَبيحَةً حيوانِيَّة. ولكن بِصراحَة، ليسَ هذا ما يَقُولُهُ نَصُّ
الكتابِ المُقدَّس. فتَقدِمَةُ هابِيل قُبِلت أمامَ اللهِ لأنَّ هابِيل كانَ
مقبُولاً كَشَخصٍ أمامَ الله. وتقدِمَةُ قايين لم تُقبَل أمَامَ اللهِ، لأنَّ
قايين كَشَخصٍ لم يَكُنْ مقبُولاً أمامَ الله (تكوين 4: 6- 7).

 

عندما
تَصلُونَ إلى قِصَّةِ قايين وهابِيل، منَ السَّهلِ أن تقرأُوا أو تُفَسِّرُوا ما
لا يَقُولهُ النَّصُّ. فقايينُ لم يُطلَبْ منهُ أن يُقدِّمَ ذَبيحَةً
حَيَوانِيَّة. بالحقيقة، في سفرِ اللاوِيِّين، كانَ يُطلَبُ منَ الشَّعبِ أن
يُقَدِّمُوا حِنطَةً أو غيرَها من ثِمارِ الأرضِ كتقدِمَةٍ للرَّبِّ. فإذاً ليسَ
المُهِمّ في هذه القِصَّة نَوع التَّقدِمَةِ؛ بل الأشخاص هُم المُهِمُّونَ في هذه
القِصَّة. فقايينُ نفسُهُ لم يَكُنْ مقبُولاً، وعندما إكتَشَفَ هذا، ثارَ غضَبُهُ
وأُصيبَ بالإكتِئاب والإحباط.

 

وتماماً
كما فعلَ اللهُ سابِقاً معَ والِدَي قايين، آدم وحَوَّاء، سألَ اللهُ قايينَ:
"لماذا إغتَظتَ ولماذا سَقَطَ وجهُكَ؟" (تكوين 4: 6) بالطَّبعِ، كانَ
اللهُ يَعرِفُ الأجوِبَةَ على هذه الأسئلة. ولكنَّ قَلبَ قايين العَنيد لا يبدُو
أنَّهُ فَهِمَ قصدَ اللهِ من سُؤالِهِ، فتابَعَ اللهُ بالقَول: "إن أحسَنتَ
أفلا رَفعٌ، وإن لم تُحسِنْ فعِندَ البابِ خَطِيَّةٌ رابِضَةٌ، وإليكَ إشتِياقُها،
وأنتَ تَسُودُ عَلَيها." (تكوين 4: 7) وللأسَفِ الشَّديد، لم يَضبُطْ قايين
نفسَهُ فيما يتعلَّقُ بهذه الخَطيَّة، بَل نقرَأُ في العدد الثَّامن أنَّهُ قتَلَ
أخاهُ في مَوجَةِ غَضَبٍ عارِم.

 

فجاءَهُ
سُؤالُ اللهِ مُجدَّداً، "أينَ أخُوكَ؟" ماذا فَعَلتَ؟" ولكنَّ
قايين ظَلَّ متَمَسِّكاً بِعِنادِهِ، رافِضاً الإعتِرافَ بِخَطَئِهِ، إلى أن
فضَحَهُ اللهُ صراحَةً، مُخبِراً إيَّاهُ بأنَّهُ يعلَمُ بما جَرى. (تكوين 4: 9-
10).

 

في
تكوين 3 كانَ السُّؤالُ: "أينَ أنتَ؟" وفي تكوين 4 صارَ السُّؤالُ،
"أينَ أخُوكَ؟" لقد حاوَلَ اللهُ بِطَرحِهِ هذا السُّؤالَ، أن يجعَلَ
قايين يعتَرِفُ ويُدرِكُ ما حصَلَ بالفِعل – أنَّهُ صَبَّ جامَ غَضَبِهِ على شَخصٍ
بَريءٍ، وأنَّهُ رُغمَ ذلكَ لم يكُنْ يَزالُ غاضِباً؛ فأعمالُهُ لم تَجِدْ حَلاً
لأيَّةِ مُشكِلَة؛ بدلَ ذلكَ، جعَلَتْ أعمالُهُ الوضعَ يزدادُ سُوءاً.

 

وإذا
رَجَعنا قَليلاً إلى الوراء، نَجِدُ أنَّ العدد 7 هُوَ المِفتاحُ لكُلِّ هذه
القِصَّة. إنَّهُ يُعالِجُ قَلبَ قَضِيَّةِ الصِّراع، ويُقدِّمُ الحَلَّ: إن
أحسَنتَ، سوفَ تَكُونُ مَقبُولاً أمامَ اللهِ، وأمامَ نفسِكَ، ولن يتوجَّبَ عليكَ
أن تَقضِيَ حياتَكَ وأنتَ تَضرِبُ حتَّى المَوت الشخصَ المقبُولَ أمامَ الله.
هُناكَ مقطَعٌ في كلمةِ اللهِ، منَ المَوعِظَةِ على الجَبَل، يَتَوازَى معَ
قِصَّةِ قايين وهابِيل. نَجِدُ هذا المقطع في الأعدادِ الخَمسَةِ الأُولى منَ
الإصحاحِ السَّابِع من إنجيلِ متَّى. يطرَحُ يسُوعُ أسئِلَةً علىِ الأشخاص ذَوي
الرُّوحِ الإنتِقادِيَّةِ المُفرِطَة. يسألُهُم لماذا هُم إنتِقادِيُّونَ إلى هذا
الحَدّ، وكَيفَ يتوقَّعُونَ أن يَكُونُوا نافِعينَ معَ هكذا رُوحٍ إنتِقادِيَّة؟
ويستَخدِمُ الإيضاحَ السَّاخِر بأنَّهُم يُشبِهُونَ شَخصاً يبحَثُ عن قَذَىً في
عَينِ أخيهِ ويتغافَلُ عنِ الخَشَبَةِ في عينهِ.

 

يَعتَقِدُ
الكَثيرُونَ أنَّ هذا المَقطَعَ يُعَلِّمُنا أن لا نحكُمَ على الآخرين. ولكنَّ
يسُوعَ كانَ يَقُولُ بالحقيقَةِ ما أرادَ اللهُ أن يُعَلِّمَهُ لِقَايين:
"أنتَ لا تنظرُ إلى القَضِيَّةِ الصَّحيحة. توقَّفْ عنِ الإنشِغالِ بأُمُورِ
أخيكَ وعنِ إنتِقادِهِ، واهتَمّ بِشُؤُونِكَ أنتَ وبإنتِقادِ نفسِكَ."

 

ولكن
شُكراً للهِ أنَّ مَوتَ هابِيل لم يَقضِ نهائِيَّاً على كُلِّ خَير. فبَعدَ
جِيلَين، كما نَجِدُ في تكوين 4: 26، نرى أوَّلَ مَثَلٍ عن إنسانٍ يُحاوِلُ
الإتِّصالَ باللهِ بواسِطَةِ الصَّلاة. وحتَّى ذلكَ الحِين، كانَ التَّواصُلُ بينَ
اللهِ والإنسانِ مَبنِيَّاً دائماً على مُبادَرَةٍ منَ الله.

 

نحنُ
جَميعاً نتعامَلُ معَ الصِّراعاتِ طِوالَ الوقت. أحياناً لا نَكُونُ نحنُ مَصدَرَ
هذه الصِّراعاتِ؛ وأحيانا أُخرى نكُونُ نحنُ مصدَرُها. ولكن في كُلِّ وقتٍ
تَجِدُونَ أنفُسَكُم وسطَ صِراعٍ ما، حاوِلُوا أن تُسَيطِرُوا على عواطِفِكُم
بشكلٍ كافٍ يسمَحُ لكُم أن تَتساءَلُوا عمَّا هي حقيقَةُ المُشكِلَة. ثُمَّ، وكما
يقتَرِحُ تكوين 4: 7، إعمَلُوا ما هُوَ صَوابٌ، كُونُوا مَقبُولِينَ أمامَ اللهِ
وأمامَ نُفُوسِكُم، لكي لا يتوجَّبَ عليكُم قضاءَ حياتكُم وأنتُم تضرُبُونَ هابيل
حتَّى المَوت.

 

الفَصلُ
التَّاسِع أبُو الإيمان

نَصِلُ
الآن إلى أكبَرِ قِسمٍ من سفرِ التَّكوين، والذي لهُ علاقَةٌ بِثلاثَةِ
شَخصِيَّاتٍ كِتابِيَّةٍ مَشهُورَة: إبراهيم، يَعقُوب، ويُوسُف. تَذَكَّرُوا أنَّ
المساحَةَ المُخَصَّصَة لمَوضُوعٍ مُعَيَّنٍ تَدُلُّ على مقدارِ أهَمِّيَّةِ هذا
الموضُوع. إنَّ مَوضُوعَ هذا القِسم الثَّاني من سفرِ التَّكوين، والذي يُخبِرُنا
بِقِصَّةِ إبراهيم، هُوَ الإيمان. فبينما ندرُسُ الإصحاحاتِ القَليلَةِ
التَّالِيَة، يُريدُنا اللهُ أن نفهَمَ الإيمانَ كما كان، وكما هُوَ عليهِ الآن.

 

يَقُولُ
الإصحاحُ الحادِي عشر من الرَّسالَةِ إلى العِبرانِيِّين، والذي يُعرَفُ بِإصحاحِ
الإيمانِ في الكتابِ المُقدَّس حولَ هذا المَوضُوع: "بِدُونِ إيمانٍ لا
يُمكِنُ إرضاؤُهُ لأنَّهُ يَجِبُ أنَّ الذي يأتي إلى الله يُؤمِنُ بأنَّهُ
مَوجُودٌ وأنَّهُ يُجازِي الذين يَطلُبُونَهُ." عبرانيين 11: 6.

 

بما
أنَّ الإيمانَ هُوَ أمرٌ في غايَةِ الأهَمِّيَّةِ، واللهُ يُريدُنا أن نفهَمَ
الإيمان، لذلكَ يُخبِرُنا اللهُ قِصَّةَ رَجُلٍ إسمُهُ إبراهيم. هذا الرَّجُل أتى
على ذِكرِهِ العهدُ الجَديدُ أكثَر ممَّا أتَى على ذِكر أيَّةِ شَخصِيَّةٍ
كِتابِيَّةٍ أُخرى، على أساسِ أنَّهُ دائماً لهُ علاقَةٌ بالإيمان. فإذا أردتُم أن
تفهَمُوا الإيمان، عليكُم أن تفهَمُوا إبراهيم.

 

إسمُهُ

يُعتَبَرُ
هذا الرَّجُلُ تعريفاً حَيَّاً مُتَحَرِّكاً للإيمان. عندما إلتَقَينا بهِ
للمرَّةِ الأُولى في نِهايَةِ الإصحاح الحادِي عشَر من سفرِ التَّكوين، كانَ
إسمُهُ أبرام، الذي يَعني، "أبُو أبناءٍ عديدِين." وكانَ هذا الإسمُ مَدعاةً
لِلسُّخرِيَة لرجُلٍ عَجُوزٍ في الخامِسَةِ والسَّبعينَ من عُمرِهِ، ولَيسَ لهُ
ولَد. ولكنَّ اللهَ قالَ لإبراهيم، "وأجعَلُ نسلَكَ كتُرابِ الأرض. حتَّى إذا
إستَطاعَ أحدٌ أن يَعُدَّ تُرابَ الأرضِ، فنَسلُكَ أيضاً يُعَدُّ." (تكوين
13: 16). ومن خِلالِ طاعَةِ إبراهيم الأمينة لتعليماتِ اللهِ بِحذافِيرِها،
بإمكانِنا أن نفتَرِضَ أنَّهُ وثِقَ باللهِ في هذه القَضِيَّة، على الأقل في
مُعظَمِ الأوقات. (أنظُرْ تكوين 16)

 

مَذَابِحُهُ

عادَةً
نَظُنُّ أنَّنا مَدعُوِّينَ لِلخِدَمَةِ في حَقلٍ إرسالِيٍّ أو في كَنيسةٍ أو في مُؤسَّسَةٍ
ما. ولكن هل نُفَكِّرُ أنَّنا مَدعُوِّينَ بِبَساطَةٍ للهِ؟ ماذا لو دَعاكَ اللهُ
لِلخُرُوجِ إلى بَرِيَّةٍ مَهجُورَة بِدُونِ أن يُخبِرَكَ عنِ السَّبَب؟ هذا ما
حَدَثَ معَ إبراهيم عندما كانَ في الخامِسَةِ والسَّبعينَ من عُمرِهَ (أُنظُرْ
تكوين 12: 1-4). فلقد دَعا اللهُ إبراهيمَ أن يترُكَ أباهُ، وطَنَهُ، وعشيرَتَهُ،
وأن يذهَبَ إلى أرضٍ بَرِّيَّة.

 

هُناكَ
وَجهانِ لهذه القِصَّة، تماماً كما هي الحالُ معَ كُلِّ قِصَّةٍ تتعلَّقُ باللهِ:
اللهُ من جِهَة، والإنسانُ من جِهَةٍ أُخرى. لِكَي ترى القِصَّةَ من وُجهَةِ نظَرِ
الله، أدرُس ظُهُوراتِ اللهِ لإبراهيم. فلقد ظهَرَ اللهُ لإبراهيم ثمانِي مرَّاتٍ.
وكانَ اللهُ هُوَ الذي بادَرَ بالعلاقَةِ، وهذا يَصدُقُ على كُلِّ علاقَةٍ
أقامَهَا اللهُ معَ الإنسان. في رُومية 3: 11، يُخبِرُنا بُولُس أنَّهُ لا أحد
يطلُبُ اللهَ. بل اللهُ هُوَ الذي يسعَى وراءَ الإنسان. وإذا بدا إنسانٌ ما
وكأنَّهُ يسعَى وراءَ الله، فهُوَ يستَجيبُ فقط لِسَعيِ اللهِ وراءَهُ. فاللهُ
هُوَ دائماً المُبادِر في كُلِّ علاقَة.

 

أمَّا
عنِ العلاقَة من وُجهَةِ نظَرِ الإنسان، أو عن تجاوُبِ إبراهيم معَ الله، فهذا
نراهُ في شَكلِ المذابِحِ الأربَعة التي بناها إبراهيمُ. المَذبَحُ الأوَّلُ بناهُ
في بَرِّيَّةِ مُورة، حَيثُ ظهَرَ اللهُ لأبرام وقالَ لهُ، "لِنَسلِكَ أُعطِي
هذه الأرض (تكوين 12: 7). تعني كلمة مُورَة حرفِيَّاً "تعليم أو تفتيش أو
طَلَب." أنا أَدعُو هذا المذبَحَ الأوَّلَ الذي بناهُ إبراهيم بِمذبَحِ
التَّجاوُب، لأنَّهُ بُنِيَ تجاوُباً معَ اللهِ الذي كانَ يدعُو إبراهيم إلى
البَرِّيَّة.

 

المَذبَحُ
الثَّاني بناهُ إبراهيم بينَ عاي وبَيت إيل. تعني كلمة "بيت إيل"
بالعِبريَّة، "بيتَ الله." وبما أنَّ اللهَ لم يَكُنْ لهُ بَيتٌ في تلكَ
المرحلة، يبدُو أنَّ هذه الكلمة كانت تعني، "المكانُ حيثُ يمكُثُ الله."
وتَعني عاي، "خِربَة، أو رُكام، أو بُؤس." نقرَأُ في رُومية 6: 23 أنَّ
"أُجرَةَ الخَطِيَّةِ هي مَوتٌ،" وأنَّ هذا ما يُشيرُ إليهِ إسمُ هذه
المَدينة. وإلى الشَّرقِ من عاي، نَجِدُ سَدُوم وعَمُورَة. في مَذبَحِهِ الأوَّل،
كانَ إبراهيمُ يَقُولُ للهِ، "عَلِّمني." وفي مذبَحِهِ الثَّاني، أظهَرَ
من خلالِ المكانِ الذي أقامَ فيهِ المذبَح أنَّهُ لم يَكُنْ قد قرَّرَ بعدُ كيفَ
سيتجاوَبُ معَ ما كانَ يُعَلِّمُهُ إيَّاهُ الله.

هل تبحث عن  ئلة مسيحية هل إخفاء بعض الحقائق يعتبر كذب ب

 

تَرَكَ
إبراهِيمُ هذا المَذبَح الثَّاني وإنحدَرَ جَنُوباً، بالمعنى الجُغرافِيّ
والرُّوحي للكَلِمة. وقالَ لِزَوجَتِهِ أن تَدَّعِيَ أنَّها أُختَهُ، حتَّى لا
يَقتُلَهُ المِصرِيُّونَ ليَأخُذُونَها. ولقد توَرَّطَ في الكثيرِ منَ المَشاكِل،
ويبدو أنَّهُ "خرج" منها رُوحِيَّاً.

 

بَعدَ
هذه الحادِثَة، رجعَ إبراهِيمُ إلى مَوقِعِ مَذبَحِهِ الثَّاني ودعا اللهَ. بعدَ
هذه العِبادَة الصَّادِقَة، إقتَرحَ إبراهيمُ على لُوط أن يَنفَصِلا. لا يُخبِرُنا
الكتابُ المُقدَّسُ عمَّا تكلَّما بهِ، ولكن يبدُو أنَّ اللهَ أشارَ لهُ أنَّهُ لم
يكُنْ يُفتَرَضُ بهِ أن يُحضِرَ لُوطاً معَهُ منذُ البِداية. وعندما نرى كيفَ
تورَّطَ لُوط فيما بعد في خطايا سَدُوم وعَمُورَة، نفهَمُ السَّبَب.

 

ذهَبَ
لُوط شَرقاً؛ أمَّا إبراهيمُ فتحرَّكَ غَرباً، وبنى مذبَحَهُ الثَّالِث في مكانٍ
يُدعى حَبرُون. تعني كلمة حبرُون، "شَرِكَة." أعتَقِدُ أنَّ هذه الكلمة
هي أيضاً مجازِيَّة رمزيَّة. فبينما قالَ المَذبَحُ الأوَّلُ
"عَلِّمني،" وقالَ المذبَحُ الثَّاني، "لَستُ مُتَأكِّداً، أو أنا
مُتَقَلقِلٌ،" أشارَ المذبَحُ الثَّالِثُ بالقَولِ، "يا اللهُ، أُريدُ
أن أعرِفَكَ." وأنا أُسمِّي هذا المذبَح: "مذبَحَ العلاقة."

 

في
الإصحاحَينِ الأوَّلَينِ من قِصَّةِ إبراهيم، أي تكوين 12 و13، بنى إبراهِيمُ
ثلاثَةَ مذابِح. ولم يبنِ مذبَحاً آخر حتى الإصحاح 22. فماذا حدَثَ بينَ المذبَحِ
الثَّالِث والرَّابِع؟

 

عندما
قالَ إبراهيمُ، "يا اللهُ، أريدُ أن أعرِفَكَ،" أعتَقِدُ أنَّ اللهَ
أجابَ، "يا إبراهيمُ، إن كُنتَ تُريدُ أن تَكُونَ على علاقَةٍ معي، أُريدُكَ
أن تعرِفَ شَيئاً. إن كُنتُ أنا أعني شَيئاً، فأنا كُلُّ شَيء. لأنَّكَ إلى أن ترى
أنَّني كُلُّ شَيء، لن تَكُونَ قد رأيتَ أنَّني أعني أيَّ شَيء." ولقد كانت
حياةُ إبراهيم مَليئَةً من أُمُورٍ أُخرى لم يَكُنْ يُريدُ أن يتخلَّى عنها.

 

في
تَكوين 16، نرى إبراهِيم وسارَة يُصبِحانِ مُهتَمَّينِ بكيفيَّةِ تحقيقِ اللهِ
لِوَعدِهِ بإعطائِهِ إبراهيمَ نسلاً – فقَرَّراً أن يُساعِدا اللهَ على تحقيقِ هذا
الوعد. ونُزُولاً عندَ إقتِراحِ زوجَتِهِ، أقامَ إبراهيمُ علاقَةً معَ جارِيَةِ
زوجتِهِ المِصريَّة هاجَر (تكوين 16: 1- 4). وُلِدَ نتيجَةً لهذه العلاقَة
الطِّفلُ إسماعِيل، الذي أصبَحَ أبَا العَرَب، معَ ما نتجَ عن هذه العلاقة ما
نعرِفُهُ من صِراعاتٍ بينَ شُعوبِ الشَّرقِ الأوسط، ما كانت لِتَحدُثَ لولا ظَنِّ
إبراهيم أنَّ اللهَ إحتاجَ لمُساعَدَتِهِ.

 

أعتَقِدُ
أنَّ سارَة تُمَثِّلُ نَوعاً آخر منَ المُشكِلَة في علاقَةِ إبراهيم معَ الله.
فالمذبَحُ الثَّالِثُ، مذبَحُ العلاقَة، يتعامَلُ معَ العلاقَةِ العمُوديَّة
والعلاقَةِ الأُفُقِيَّة. وهُما لا تَنفَصِلانِ. فلِكَي يعرِف إبراهِيمُ اللهَ،
توجَّبَ أن يأخُذَ اللهُ مكانَتَهُ الصَّحيحة في كُلِّ علاقاتِ إبراهيم. وهكذا
تكلَّمَ اللهُ معَ إبراهيم عن لُوط ليُخرِجَهُ من حَياتِهِ. يُشيرُ لُوطٌ إلى
الأشخاص الذين نضَعُهُم في حياتِنا، والذين لا يُريدُهُم اللهُ أن يكُونُوا في حياتِنا.
ولقد توجَّبَ أيضاً أن يُحَيِّدَ اللهُ إسماعِيل من حياةِ إبراهيم. يُشيرُ
إسماعيلُ إلى عامِلِ الإيمان الذي يعني أنَّ أعظَمَ مُنافِسٍ للأحسن الذي
يُقدِّمُهُ اللهُ، هُوَ أمرٌ حَسَن. فظهَرَ اللهُ لإبراهيم وقالَ لهُ أن يُرسِلَ
إسماعيلَ بَعيداً. وهكذا أقصَى اللهُ واحِداً بعدَ الآخر الذين إحتَلُّوا
المرتَبَةَ الأُولى في حياةِ إبراهيم.

 

لقد
شَكَّلَت سارَة نَوعاً آخر من المُشكِلَة. إنَّها صُورَةٌ عنِ الأشخاصِ الذين
يَضَعُهُم اللهُ في حياتِنا، ولكنَّنا لا نعتَبِرُهُم من تَدبيرِ اللهِ. وهكذا
ظهَرَ اللهُ مَرَّتَينِ لإبراهيم ليُحَدِّثَهُ عن سارَة. في المَرَّةِ
الثَّانِيَة، قالَ لهُ، "سارَاي إمرأَتُكَ لا تَدعُو إسمَها سارَاي بل سارَة.
وأُبارِكُها وأُعطيكَ أيضاً مِنها إبناً." (تكوين 17: 15- 16). عندما سَمِعَ
إبراهيمُ هذا الكلام، سقطَ على وجهِهِ وضَحِكَ! وعندما سَمِعَت سارة ضَحِكت هي
أيضاً!

 

بعدَ
سَنَةٍ، وُلِدَ إبنٌ لإبراهِيمَ وسارَة، وقالَ لهُما اللهُ أن يُسَمِّياهُ إسحَق،
الذي يَعني بالعِبريَّة "ضحكة." ذلكَ أنَّ اللهَ لم يُرِدْ أن ينسَ
بَطلا الإيمانِ هذان أنَّهُم ضَحِكا على اللهِ عندما أخبَرَهُما بما هُوَ فاعِلُهُ
لهُما.

 

وأخيراً،
عندما أصبَحَ إسحَقُ شابَّاً، بنَى إبراهِيمُ مَذبَحَهُ الرَّابِع، وكانَ هذا
أهَمَّ مَذابِح إبراهيم. لقد بُنِيَ على جَبَلِ المُرَيَّا. وتعني كلمة مُرَيَّا،
"يَهَوة يُدَبِّر." فحتَّى تلكَ المرحلة، كانَ إبراهيمُ هُوَ الذي
يختارُ المكانَ الذي يبني فيهِ مذبَحاً للرَّبِّ، ولكنَّ هذا المذبَحَ الرَّابِع
كانَ مُختَلِفاً. فهذه المرَّة، اللهُ هُوَ الذي إختارَ المكان. وهذه المرَّة،
اللهُ هُوَ الذي سمَّى الذَّبيحة – إسحَق.

 

لم
يَكُنْ إسحَقُ فقط إبنَ شَيخُوخَةِ إبراهيمَ وسارَة، بل وكانَ أيضاً إتمامَ وُعُودِ
خمسةٍ وعشرينَ سنَةً منَ الإيمان. والآن، ها هُوَ اللهُ يَقولُ ما يُناقِضُ
المَنطِقَ، "أُريدُ إسحَقَ ذبيحَةً." فأخذَ إبراهيمُ الصَّبِيَّ إسحَق
إلى رأسِ الجَبَل، عاقِدَ العَزمِ، وإن يكُنْ بِرُعبٍ، على إتمامِ ما طَلَبَهُ
اللهُ منهُ. ولكن في اللحظَةِ الأخيرة، وعندما قدَّمَ إبراهيمُ بُرهاناً على
طاعَتِهِ، دَبَّرَ اللهُ كَبشاً ليَكونَ ذَبيحَةً فِديَةً لِحياةِ إسحق (تكوين 20:
1- 19) فَدَعا إبراهِيمُ إسمَ المكانِ يَهوَة يِرأَه، الذي يعني، "يهوَة
يُدَبِّر." هذا الرَّمزُ الإيمانِيُّ يُشيرُ من خلالِ مذابِحِ إبراهيم،
أنَّهُ على جِبالِ إختيارِ اللهِ، وعلى مَذبَحِ "اللهُ أوَّلاً،"
دَبَّرَ اللهُ ثمرَةَ رُبعِ قَرنٍ منَ الإيمان. فإبراهيمُ لم يُقَدِّمْ إسحَق على
هذا المذبَحِ الرَّابِع. بل قدَّمَ إبراهيمُ نفسَهُ ذبيحَةً على مذبَح "الله
أوَّلاً."

 

إنَّ
رِسالَةَ الكتابِ المُقدَّس يُمكِنُ أن تَتَلَخَّصَ بِكَلِمَتَين: اللهُ أوَّلاً.
ولكنَّ هذا لَيسَ سَهلاً، ولا هُوَ مَعقَّدٌ. فإمَّا أن يَكُونَ اللهُ إلهُكَ أو
لا يَكُون. بالنِّسبَةِ لإبراهيمُ، كانَ اللهُ إلهُهُ.

 

الفَصلُ
العاشِر مَنْ أنتَ؟

إنَّ
قِصَّةَ يعقُوب هي قِصَّةٌ تَتَخَطَّى العَقل. فإسمُ يَعقُوب يعني
"المُتَعَقِّب،" لأنَّهُ عندما وُلِدَ هُوَ وأُخُوهُ التوأم، كانَ
يُمسِكُ بِعَقِبِ أخِيهِ الذي وُلِدَ مقلُوباً رأساً على عَقِب. ولقد عاشَ يعقُوبُ
بطريقَةٍ تُؤَكِّدُ ما يعنيهِ إسمُهُ. كانَ يُوجَدُ أمرانِ يستَحِقَّانِ العَناء
في عائِلَتِهِ، ولقد تعقَّبَ بهما يعقُوبُ معاً. البُكُورِيَّةُ والمِيراثُ،
اللَّذانِ كانَ من حَقِّ الإبنِ البِكر؛ وكانتِ البَرَكَةُ هي الوعدُ الذي
قَطَعَهُ اللهُ لإبراهيم والذي إنتَقَلَ إلى أبيهِِما إسحَق، وكانَ سينتَقِلُ إلى
الإبنِ الأكبَر. ولكنَّ عيسُو أخا يعقُوب باعَ بُكُورِيَّتَهُ ليَعقُوب من أجلِ
صحنِ حِساءٍ، وخدَعَ يعقُوبُ أباهُ إسحَق وسرقَ البَرَكَةَ من أخيهِ. وبعدَ أن
خدَعَ يعقُوبُ أباهُ وأمسَكَ بِحَقِّ البُكُورِيَّةِ وبالبَرَكَة، جاءَت أُمُّهُ
وقالَتْ لهُ، "عليكَ أن تُغادِرَ يا يَعقُوب، لأنَّ أخاكَ سوفَ يقتُلُكَ.
إذهَبْ واختَبِئ معَ خالِكَ لابان لبِضعَةِ أيَّامٍ إلى أن تهدَأَ الأوضاع."
(تكوين 27: 42- 43)

 

في
الليلَةِ الأُولى التي غابَ فيها يعقُوبُ عن بيتِهِ، حَلِمَ حُلماً. وفيهِ رأى
سُلَّماً تصعدُ وتنزِلُ عليهِ الملائِكَةُ. في هذا الحُلم، ظهَرَ لهُ اللهُ، وأكَّدَ
لهُ العهدَ الذي قطَعَهُ معَ إبراهيم أبيهِ. ولقد وعدَ اللهُ بأنْ يجعَلَ يعقُوبَ
جُزءً لا يتجزَّأُ من خُطَّتِهِ، قائِلاً، "وها أنا معكَ وأحفَظُكَ حَيثُما
تَذهَبُ وأَرُدُّكَ إلى هذه الأرض. لأنِّي لا أترُكُكَ حتَّى أفعَلَ ما كَلَّمتُكَ
بهِ." (تكوين 28: 15).

 

إستَفاقَ
يعقُوبُ من هذا الحُلمِ مملوءاً بالرَّهبَة، وقالَ، "حقَّاً إنَّ الرَّبَّ في
هذا المكان وأنا لم أعلَم." (تكوين 28: 16) وقبلَ أن يُتابِعَ رِحلَتَهُ،
أخذَ الحَجَرَ الذي وضَعَهُ تحتَ رأسِهِ، وأَقَامَهُ عَمُوداً وصَبَّ زَيتاً على
رأسِهِ، وقطعَ عهداً بأن يدفَعَ عُشراً من كُلِّ ما يُعطيهِ إيَّاهُ اللهُ (تكوين
28: 18- 22).

 

مَعرَكَةُ
يَعقُوب

هُنا،
ما سيحدُثُ لاحِقاً سيُشَكِّلُ الجزءَ الأساسيَّ من قِصَّةِ يعقُوب. فبَعدَ عشرينَ
سنَةً منَ العَمَلِ الشَّاقِّ معَ خالِهِ لابان، إجتازَ يعقُوبُ في إختِبارٍ رُوحِيٍّ
شَخصِيٍّ جدَّاً معَ الله. نَجِدُ وَصفاً لهذا الإختِبارِ في الإصحاح الثَّانِي
والثَّلاثِين من سفرِ التَّكوين، حيثُ نقرَأُ: "…وصارَعَهُ إنسانٌ حتَّى
طُلُوعِ الفَجر. ولمَّا رأى أنَّهُ لا يَقدِرُ عليهِ ضَرَبَ حُقَّ فَخذِهِ.
فانخَلَعَ حُقُّ فَخِذِ يعقُوبَ في مُصارَعَتِهِ مَعَهُ. وقالَ أطلِقنِي لأنَّهُ
قد طَلَعَ الفَجرُ. فقالَ لا أُطلِقُكَ إن لم تُبارِكني. فقالَ لهُ ما إسمُكَ؟
فقالَ يعقُوب. فقالَ لا يُدعَى إسمُكَ في ما بعدُ يَعقُوبَ بل إسرائيل. لأنَّكَ
جاهَدتَ معَ اللهِ والنَّاسِ وقَدَرت. وسأَلَ يعقُوبُ وقالَ أخبِرني بإسمِكَ.
فقالَ لماذا تسألُ عن إسمِي. وباركهُ هُناك. فدعا يعقُوبُ إسمَ المكانِ فَنِيئيل.
قائِلاً لأنَّي نَظَرتُ اللهَ وجهاً لِوَجهٍ ونُجِّيَت نَفسِي." (تكوين 32:
24- 30)

 

لاحِظُوا
السُّؤالَ الذي طَرَحَهُ اللهُ على يَعقُوب: "ما إسمُكَ؟" في زَمانِ
الكتابِ المُقدَّس، كانت للأسماءِ دلالَةٌ، كما سبقَ وإكتَشَفنا. فأحياناً كانت
الأسماءُ تُخبِرُ عن الشَّخصِ الذي كان يحمِلُ هذا الإسم أو ذاك؛ وكانت تُعَبِّرُ
عن هُوِيَّةِ أو شَخصِيَّةِ حامِلِها. فبهذا السُّؤال، لم يَكُنِ اللهُ يسألُ عن
إسمِ يَعقُوب. بل كانَ سُؤالُهُ بالحقيقَةِ، "من أنتَ؟" وبالطَّبعِ، لَم
تكُنِ القَضِيَّةُ أنَّ اللهَ إحتاجَ أن يَعرِفَ الجوابَ، بل لأنَّهُ أرادَ أن
يعرِفَ يعقُوبُ الجَواب. وإسمُ يعقُوبُ يعني كما رأينا سابِقاً،
"المُتَعَقِّب." ولكنَّ هذا الإسمَ الجديد، إسرائيل، والذي ستَسمَعُهُ
ذُرِّيَّتُهُ، كان يعني، "جاهَدَ معَ الله."

 

هُناكَ
عُنصُرٌ آخر ذُو دَلالَة في هذه القِصَّة والذي لا يُمكِنُنا أن نُفَوِّتَهُ،
وأُسمِّيهِ "بَرَكة تاج المُخَلًَّع". فلأنَّ يعقُوبَ كانَ مُحتالاً، لم
يَكُنْ بِوُسعِ اللهِ أن يُبارِكَهُ قبلَ أن يَكسِرَهُ.

 

أحياناً
لا يُمكِنُ أن يَصِلَ اللهُ إلينا بِطَريقَةٍ أُخرى، ولهذا يتوجَّبُ عليهِ أن
يجعَلَنا نُصبِحُ مُخَلَّعِينَ بِطريقَةٍ أو بأُخرى، مُرغِماً إيَّانا للإعتِمادِ
عليه. هكذا كانَتِ الحالُ معَ يعقُوب. وأخيراً، فَهِمَ يعقُوبُ رِسالَةَ اللهِ
لهُ. وعندما إلتَقى أخيراً معَ عيسُو، الذي لَم يَتَصارَع معَهُ، بل وقعَ على
عُنُقِهِ وقَبَّلَهُ، أخبَرَ يعقُوبُ أخاهُ أنَّهُ كانَ لدَيهِ هذه الزَّوجاتُ
والأولادُ والقُطعان، "لأنَّ اللهَ قد أنعَمَ عليهِ." (تَكوين 33: 11).
أي أنَّهُ لم يَعتَرِفْ بأنَّهُ إنتَزَعَهُم لِكَونِهِ مُتَعقِّباً، بل بسببِ
نِعمَةِ الله. النِّعمَةُ هي تلكَ الصِّفة من صِفاتِ اللهِ التي تَجعَلُهُ يُغدِقُ
علينا برَكاتٍ لا نَستَحِقُّها. والرَّحمَةُ هي عندما يحجُبُ اللهُ عنَّا ما
نَستَحِقُّهُ.

 

يُعَلِّمُنا
اللهُ أيضاً أن نخضَعَ لهُ. أحياناً يختارُ اللهُ أن يُخضِعَنا بِكَسرِنا، لكَي
يستَطيعَ أن يُبارِكَنا. نحتاجُ أن نُفَتِّشَ في ثلاثَةِ إتِّجاهاتٍ لكَي نرى من
يُفتَرَضُ بنا أن نَكُون. أوَّلاً، نحتاجُ أن ننظُرَ إلى فَوق. فمِن خلالِ قِصَصِ
الكتابِ المُقدَّس التي سنَدرُسُها معاً، سوفَ نرى أنَّهُ سيتَطَلَّبُ اللهُ الوقتَ
الطَّويلَ لكَي يَجعلَ النَّاسَ يتطلَّعُونَ إلى فَوق. ولكنَّ النَّظَرَ إلى اللهِ
هُوَ أمرٌ ضَروريٌّ إذا أرَدنا أن نَكتَشفَ من يُفتَرَضُ بنا أن نَكُون. فَقبلَ
كُلِّ شَيءٍ، اللهُ هُوَ الذي صَنَعَنا. وهوَ يحمِلُ خُطَّةَ حياتِنا.

 

ثانِياً،
نحتاجُ أن ننظُرَ إلى داخِلِنا. في المَزمُور 139، صَلَّى داوُد قائِلاً،
"إختَبِرني يا اللهُ واعرِفْ قَلبِي. إمتَحِنِّي واعرِفْ أفكارِي. وانظُرْ إن
كانَ فِيَّ طَريقٌ باطِلٌ واهدِنِي طَريقاً أبَدِيَّاً." (مزمُور 139: 23-
24). جميعُنا نحتاجُ أن نطلُبَ منَ اللهِ أن ينظُرَ إلى داخِلِ قُلُوبِنا
وحياتِنا، وأن يُريَنا من يُريدُنا أن نَكُون.

 

أخيراً،
نحتاجُ أن ننظُرَ حَولَنا. فالشَّخصُ الذي نَظَرَ إلى فَوق والذي نظرَ حقَّاً إلى
داخلِ نفسِهِ، هُوَ حاضِرٌ الآن أن ينظُرَ حولَهُ وأن يتعاطَى معَ الآخرين وأن
يَكُونَ جُزءاً من خُطَّةِ اللهِ للعالَم. هل سَبَقَ ونَظَرتَ إلى فَوق، إلى الله،
لتَرَى ماذا يقُولُ عن هُوِيَّتِكَ في شَخصِهِ؟ وكم مرَّةً تنظُرُ إلى داخِلِ
نفسِكَ لتَرى حالَةَ قَلبِكَ؟ وهل تنظُرُ إلى ما حَولِكَ لتَرى كيفَ يُريدُكَ
اللهُ أن تتعامَلَ معَ الآخرينَ في حياتِكَ؟

 

الفَصلُ
الحادِي عشَر اللهُ الذي يُسَيطِرُ على الوضع

لقد
درَسنا حتَّى الآن حياةَ إبراهيم، الذي علَّمنا عنِ الإيمان. ولقد نظَرَنا إلى
حياةِ يَعقُوب، الذي أظهَرَ لنا نعمَةَ الله. والآن نَصِلُ إلى حياةِ يُوسُف، الذي
تُغَطِّي قِصَّتُهُ الإصحاحات الأربعة عشر الأخيرة من سفرِ التَّكوين.

 

يبدُو
أنَّ يُوسُف هُوَ صاحِبُ أنقَى شَخصِيَّةٍ في الكتابِ المُقدَّس. ففي حالِ مُعظَمِ
شَخصِيَّاتِ الكتابِ المُقدَّس، يُرينا اللهُ نُقاطَ ضَعفِهم، كما ويُرينا نُقاطَ
قُوَّتِهِم، أمَّا يُوسُف فهُوَ واحِدٌ منَ الإستِثناءاتِ على هذه القاعِدة (الآخرُ
هُوَ دانيالُ الذي سَندرُسُهُ لاحِقاً.)

 

قِصَّةُ
يُوسُف

تدُورُ
قِصُّةُ يُوسُف بالحقيقَةِ حولَ العِنايَةِ الإلهِيَّة. رِسالَةُ هذه القِصَّة
تَتَلَخَّصُ في عَدَدٍ واحِدٍ في العهدِ الجديد، هُوَ رُومية 8: 28، والذي
يَقُولُ، "ونحنُ نَعلَمُ أنَّ كُلَّ الأشياءِ تعمَلُ معاً لِلخَيرِ للذينَ
يُحِبُّونَ الله، الذين هُم مَدعُوُّونَ حسبَ قَصدِهِ." لقد إضطَّرَبَ إخوَةُ
يُوسُف كَثيراً عندما إكتَشَفُوا من كانَ أخُوهُم، ولكنَّهُ تجاوبَ معَهُم بهذه
الكلماتِ المُعَزِّيَة – كَلِماتٍ تُؤَكِّدُ لنا كونَ اللهِ يعمَلُ خلفَ السِّتارِ
في حياتِنا أيضاً: "والآن لا تَتَأسَّفُوا ولا تغتاظُوا لأنَّكُم بِعتُمُوني
إلى هُنا. لأنَّهُ لإستِبقاءِ حَياةٍ أرسَلَني اللهُ قُدَّامَكُم… لِيجعَلَ لكُم
بَقِيَّةً في الأرضِ وليَستَبقِيَ لكُم نجاةً عظيمة. فالآن ليسَ أنتُم
أرسَلتُمُوني إلى هُنا بَلِ اللهُ." (تَكوين 45: 5، 7- 8).

 

في
قِصَّةِ يَعقُوب، أبي يٍُوسف، رأينا رَجُلاً كانت حياتُهُ تسيرُ على ما يُرام،
ولكن ليسَ لأنَّهُ هُوَ الذي جعلَها كذلكَ. بلِ اللهُ كانَ هُوَ المُسَيطر طِوالَ
الوَقت. يُوضِحُ يُوسُف هذه الحقيقة نفسَها، ولكن من زاوِيَةٍ أُخرى. ففي
قِصَّتِهِ، نَجِدُ رَجُلاً لم تَبدُ حياتُهُ أنَّها تَسيرُ على ما يُرام. فلقد
بِيعَ عَبداً من قِبَلِ إخوَتِهِ؛ ثُمَّ إتُّهِمَ زُوراً بجريمَةٍ لم يقتَرِفْها؛
ونُسِيَ من أُولئكَ الذين وعدُوا بأن يُساعِدُوهُ. ولكن أيَّاً من تلكَ الظُّروف
لم تحدُثْ نتيجَةً لتَصَرُّفاتِهِ هُوَ. لقد كان يجتازُ في مشاكِلَ وظرُوفٍ صعبَةٍ
لِلغايَة، ليسَ لأنَّهُ إستَحَقَّها، بَل لِكَي يتمجَّدَ اللهُ ولكي تستَمِرَّ
خُطَّتُهُ.

 

تَطبيقاتٌ
لِعَصرِنا الحاضِر

تُقدِّمُ
لنا القِصَّةُ بِضعَ تطبيقاتٍ لحياتِنا الشَّخصِيَّة. أوَّلاً، تأمَّلُوا بالعلاقاتِ
التي كانت بينَ يُوسُف وأبيهِ وإخوتِهِ. لقد كان هذه العلاقاتُ بَعيدَةً عن أن
تَكُونَ نَمُوذَجِيَّة! فواضِحٌ أنَّهُ لم يَكُنْ يَعقُوبُ والِداً مِثالِيَّاً.
فتَحَيُّزُهُ تجاهَ يُوسُف جلبَ على إبنِهِ هذا ألماً وعذاباً أكثَرَ منَ الرَّاحة
– وبالطَّبعِ لم يَكُنْ هذا عادِلاً بالنِّسبَةِ لباقي الأولاد. ولكن مَنْ منَّا
لديهِ والدين كامِلين؟ وكم منَّا لدينا علاقاتٍ كامِلَةٍ معَ أشِقَّائِنا؟ فنَحنُ
لم نَختَرْ العائِلة التي تَرَبَّينا فيها، ورُغمَ ذلكَ فأعضاؤُها يُشَكِّلُونَ
حياتَنا. كَثيرُونَ منَّا لديهم أجنِحَة مُتَكَسِّرَة أو قُلوب مَجرُوحَة أو مصاعب
في حياتِنا، نتيجَةً لهذه العلاقات. ولكنَّ الرِّسالَةَ التي تُقدِّمُها لنا
قِصَّةُ يُوسُف هي التَّالِيَة: اللهُ يسُودُ على ظُرُوفِ حياتِنا، ولا توجَدٌ
أوضاعٌ سَيِّئَةٌ لِدَرَجَةِ أنَّ اللهَ لا يستَطيعُ فِداءَها وإستِخراجَ الخيرِ
منها. فاللهُ يستَطيعُ أن يستَخدِمَ تأثيرَ والِدَيكَ حتَّى ولو كانا مُذنِبَين.
واللهُ قادِرٌ أن يستخدِمَ تأثيرَ أشِقَّائِكَ وشقيقاتِكَ حتَّى ولو كانُوا
مُذنِبين. لقد إستَخدَمَ اللهُ عداوَةَ عائِلَةِ يُوسُف، لِكَي يَضَعَهُ بمُوجَبِ
عنايتِه ِالإلهِيَّة في مِصر، ولكَي يُنقِذَ هذه العائِلة المُختارَة منَ المَوتِ
جُوعاً، التي منها سوفَ يأتي المَسِيَّا إلى هذا العالم. وبإمكانِ اللهِ أن
يستَخدِمَ تجاوُبَكَ معَ عداوَةِ عائِلَتِكَ، لكَي يُشَكِّلَ من خلالِ ذلكَ
حياتَكَ. ويوماً ما، سوفَ ترى كيفَ تنظَّمَت ظُرُوفُ حياتِكَ بِواسِطَةِ العنايَةِ
الإلهيَّة، لِكَي تُحَضِّرَكَ لتلعَبَ الدَّور الذي أرادَهُ لكَ اللهُ.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي