ملخص
سفر العدد

سفر
التيه والتجربة في البرية

ملخَّص
خطة دراسة السفر:

أولاً:
إعداد الجيل القديم ليرث أرض الموعد (1:110:10).


تنظيم الجماعة تمهيداً للارتحال ( 1:149:4).


تقديس الجماعة (1:510:10).

ثانياً:
فشل الجيل القديم في أن يرث أرض الموعد (11:1018:25).


بدايات الفشل في الطريق إلى قادش (11:1016:12).


أزمة قادش برنيع (1:1345:14).


إخفاق إسرائيل المتواصل (1:1522:19).


حوادث في الطريق إلى موآب (1:2018:25).

ثالثاً:
إعداد الجيل الجديد لميراث أرض الموعد (1:2613:36).


إعادة تنظيم إسرائيل (1:2623:27).


شرائع للتقدمات والنذور (1:2816:30).


الانتصار على الشعوب في شرق الأردن وتقسيمها على أسباط إسرائيل (1:3113:36).

 

ثانياً:
المرحلة التالية من مسيرة الشعب في البرية

فشل
الجيل القديم في أن يرث أرض الموعد

(11:1018:25)

أ 
الارتحال من سيناء:
(عد 11:1036)

+
«وفي السنة الثانية في الشهر الثاني في العشرين من الشهر ارتفعت السحابة عن مسكن
الشهادة. فارتحل بنو إسرائيل في رحلاتهم من برية سيناء، فحلَّت السحابة في برية
فاران.»
(عد
11:10و12)

ارتفعت
السحابة عن خيمة الاجتماع فعرف موسى وبنو إسرائيل أن الرب يأمرهم بالارتحال من
برية سيناء بكل ذكرياتها الحلوة والمُرَّة، حيث سمعوا فيها صوت الرب نفسه
يُكلِّمهم من فوق جبل حوريب  جبل الله  عندما أوصاهم بالوصايا العشر. وفي هذه
البرية أخطأوا خطيتهم العظيمة وعبدوا العجل الذهبي، فحلَّ عليهم غضب الله الذي كاد
أن يفنيهم لولا تشفُّعات موسى النبي من أجلهم. وفي هذه البرية أيضاً استلم موسى كل
مواصفات خيمة الاجتماع التي هي مسكن الله مع شعبه، وأُقيمت الخيمة في وسطهم
باحتفالٍ عظيم، ورُسِمَ رئيس الكهنة هارون وبنوه الكهنة ورفعوا الذبائح والتقدمات.

والآن،
قد آن الأوان أن يتركوا هذه البرية بعد أن مكثوا فيها من اليوم الأول من الشهر
الثالث من السنة الأولى للخروج (خر 1:19و2) حتى العشرين من الشهر الثاني من السنة
الثانية للخروج، أي أن مدة إقامتهم في برية سيناء كانت سنة وشهراً وتسعة عشر
يوماً.

وواضحٌ
أن إشارة ارتحالهم التي أخذوها من الله كانت هي ارتفاع السحابة من على خيمة
الاجتماع. وبمجرد رؤيتهم ارتفاع السحابة ضربت الأبواق صوت هتاف واحد، فارتحلت راية
محلة بني يهوذا أولاً حسب توجيهات الرب، يتقدَّمهم نحشون بن عميناداب، ثم تحرَّك
جُند سبط بني يسَّاكر، ثم جند زبولون، هؤلاء هم الذين كانت محلتهم نحو المشرق حول
خيمة الاجتماع، وكانوا أول المتحرِّكين لصوت البوق حسب تدبير الرب الذي جعلهم أول
السامعين لصوت الروح للكنائس.

+
«ثم أُنزِل المسكن فارتحل بنو جرشون وبنو مراري حاملين المسكن.»
(عد 17:10)

أي
أنه تم تفكيك خيمة الاجتماع ليحملها من جماعة اللاويين بنو جرشون وبنو مراري حسب
تكليف الرب لهم، ولأن الأحمال التي كانوا يحملونها ثقيلة فقد كانوا يحملونها على
العجلات التي تجرها الثيران التي قُدِّمت لهم من رؤساء الأسباط، كما جاء في
الأصحاح السابع من هذا السفر.

وكان
قصد الرب من ارتحال بني جرشون وبني مراري بعد محلة يهوذا، أن يكون هناك فسحة من
الوقت ينصب فيها الجرشونيون والمراريون أجزاء الخيمة، حتى إذا ما أقبل بنو قهات
حاملين مشتملات القدس وقدس الأقداس يضعونها فوراً في أماكنها في خيمة الاجتماع
التي تم نصبها.

+
«ثم ارتحلت راية محلَّة رأوبين حسب أجنادهم…»
(عد 18:1020)

هنا
يجيء دور محلة رأوبين النازلة جنوبي خيمة الاجتماع. وهي تشمل سبط رأوبين وسبط
شمعون وسبط جاد، وهذا هو ترتيب الرب بخصوص تحرُّكها بعد محلة يهوذا مباشرة بعد
سماع هتاف البوق الثاني.

+
«ثم ارتحل القهاتيون حاملين المَقْدِس وأُقيم المسكن إلى أن جاءوا.»
(عد 21:10)

بعد
ارتحال محلة رأوبين، جاء دور بني قهات الذين كانوا مُكلَّفين من قِبَل الرب بحمل
مشتملات القدس وقدس الأقداس على أكتافهم. وكان توقيت ارتحالهم بعد محلة يهوذا ثم
الجرشونيين والمراريين ثم محلة رأوبين يُعطي فسحة من الوقت لتركيب المسكن وإقامته
قبل وصولهم، حتى يتم وضع كل محتويات القدس وقدس الأقداس في أماكنهم.

+
«ثم ارتحلت راية محلة بني أفرايم حسب أجنادهم…»
(عد 22:1024)

محلة
بني أفرايم التي كانت تقيم غربي الخيمة كانت تضم أسباط أفرايم ومنسَّى وبنيامين،
وكانت تتحرَّك عند سماعها صوت هتاف البوق الثالث.

+
«ثم ارتحلت راية محلَّة بني دان ساقة جميع المحلات حسب أجنادهم…»
(عد
25:1027)

محلة
بني دان التي كانت تقيم شمالي الخيمة كانت تضم أسباط دان وأشير ونفتالي، وكانت
تتحرك في مؤخرة جميع المحلات، وكانت بمثابة الحرس الخلفي لجميع المحلات.

هكذا
كان ترتيب ارتحال بني إسرائيل في مسيرتهم حسب تدبير الرب لهم في البرية. فهم لم
يكونوا يتحرَّكون من وحي تفكيرهم؛ بل كانت كل خطوة في حياتهم بتدبير الرب وإرشاده
لهم:

 فكانت
محلة يهوذا دائماً في المقدمة.

 ثم
الجرشونيون والمراريون يحملون المسكن.

 ثم
محلة رأوبين خلفهم.

 ثم
القهاتيون يحملون مشتملات قدس الأقداس والقدس لوضعه في المسكن فور إقامته.

 ثم
محلة أفرايم خلف القهاتيين.

 ثم
محلة دان في المؤخرة باعتبارها الحرس الخلفي لجميع المحلات.

وكانت
عين الله ورعايته على الكل مظلِّلاً عليهم بسحابته التي لم تفارقهم حتى دخولهم أرض
الموعد.

موسى
النبي يدعو حوباب بن رعوئيل حماه أن يُرافقهم:
(عد 29:1032)

+
«وقال موسى لحوباب بن رعوئيل المدياني حَمِي موسى: إننا راحلون إلى المكان الذي
قال الرب أُعطيكم إيَّاه. اذهب معنا فنُحْسِن إليك، لأن الرب قد تكلَّم عن إسرائيل
بالإحسان.»
(عد 29:10)

كان
حوباب ابناً لرعوئيل الملقَّب يثرون (عند العرب) كاهن مديان الذي تزوَّج موسى
بابنته صفورة (خر 18:2)، وكان رعوئيل قد استقبل موسى وشعبه بعد خروجهم من أرض مصر
وأشار عليه بمشورات حسنة (خر 18). ويظهر أن حوباب ابنه ظل ملازِماً لموسى وشعبه
طوال مدة إقامتهم في برية سيناء، وقد عزم على مفارقتهم لما أرادوا الارتحال. فطلب
منه موسى أن يُرافقهم إلى أرض الموعد، ووعده بأن يُحسن إليه بنفس الإحسانات التي
وعد بها الرب شعبه.

ولا
شكَّ أن كلام موسى إلى حوباب يدُلُّ على اتساع فكر موسى وإدراكه العميق لخطة الله
العامة نحو كل شعوب الأرض، من جهة خلاص العالم. فقد كان موسى بهذه الدعوة بمثابة
المبشِّر بمواعيد الله العظيمة، وبأنه بالإمكان أن يتجه إحسان الله إلى رجل مدياني
أُممي من غير بني إسرائيل. ولكن لم يكن لكلام موسى هذا أي تأثير على قلب حوباب، إذ
لم يكن يرى أي امتياز لمصاحبته لشعب الله رغم كل ما كان ظاهراً أمام عينيه، فكانت
إجابته: «لا أذهب بل إلى أرضي وإلى عشيرتي أمضي»، مفضِّلاً بذلك ارتباطاته الجسدية
بشعبه على ارتباطه بشعب الله.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس أ أهوليبة ة

أما
موسى فأكَّد عليه الدعوة بصيغة أخرى مُظهِراً احتمال احتياجهم إليه بما أنه يعرف
منازلهم في البرية فيكون لهم كعيون! ولم تكن هذه الدعوة الثانية ضعفاً من موسى
النبي أو شكًّا منه في قدرة الله على قيادتهم ورعايتهم، ولكنها تكشف عن طبيعة موسى
الوديعة، ولطفه ورغبته الصادقة في جذب حوباب للسير معهم ولو بحجة احتياجهم إليه،
كما تؤكِّد ثقته في مواعيد الله وأمله في أن يُشاركهم حوباب في نفس الإحسانات التي
يحسن بها الرب إليهم.

ولم
يذكر الكتاب هنا إن كان حوباب قد استجاب لدعوة موسى وذهب معهم، أم أنه رجع إلى
أرضه وعشيرته، ولكن يُرجِّح المفسِّرون أنه ذهب معهم، لأن القينيين الذين ينتسب
إليهم ذُكروا كثيراً في الأسفار التالية. فقد جاء في سفر القضاة:

+
«وبنو القيني حَمِي موسى صعدوا من مدينة النخل مع بني يهوذا إلى برية يهوذا.» (قض
16:1)

+
«وحابر القيني انفرد من قاين من بني حوباب حَمِي موسى وخيَّم حتى إلى بلوطة في
صعنايم التي عند قادش.» (قض 11:4)

”تابوت
عهد الرب راحلٌ أمامهم“

استغرقت
مسيرة شعب الله في ارتحاله من برية سيناء إلى برية فاران ثلاثة أيام، إذ يقول
الكتاب:

+
«فارتحلوا من جبل الرب مسيرة ثلاثة أيام وتابوت عهد الرب راحلٌ أمامهم مسيرة ثلاثة
أيام ليلتمس لهم منزلاً. وكانت سحابة الرب عليهم نهاراً في ارتحالهم من المحلة.»
(عد
33:10و34)

كانت
هذه هي أول مسيرة لشعب الله بعد وصولهم لجبل الله حوريب في برية سيناء. وكان تابوت
عهد الرب راحلاً أمامهم، أي أنه كان يرشدهم في طريقهم. ولا يعني ذلك أنه كان
بالضرورة يتقدمهم، بل كان راحلاً معهم يتوسَّطهم في الموقع الذي عيَّنه الرب
لحراستهم. فحتى لو كانت محلة يهوذا ثم الجرشونيون والمراريون ثم محلة رأوبين
يتقدمون تابوت العهد، إلاَّ أن الجميع كانوا ملتفين حوله بقلوبهم وأرواحهم وعيونهم
يلتمسون إرشاده، بينما هو راحلٌ أمامهم يلتمس لهم منزلاً.

وفي
هذا يقول الأب بروكوبيوس الغزاوي
Procopius
of Gaza
(475538م)([1]):

[في
رحيل هؤلاء القوم، كانت مسيرته أمامهم تجعلهم يشعرون بقوة بأن الله هو رئيسهم
وقائدهم. ولكن دعنا نترك الرمز، فنحن هنا مدعوُّون للتطلُّع إلى المسيح. لقد سبقنا
بثلاثة أيام، لكي يقود إلى راحته كل الذين يتبعونه للعبور من الجحيم إلى المساكن
الأبدية… فهو الذي افتتح لنا هذا الرحيل إلى السماء، إذ قال عنه: «أنا أمضي
لأُعدَّ لكم مكاناً».]
([2])

+
«وعند ارتحال التابوت كان موسى يقول: قُمْ يا ربُّ فلتتبدَّد أعداؤك، ويهرب مبغضوك
من أمامك. وعند حلوله كان يقول: ارجع يا ربُّ إلى ربوات ألوف إسرائيل.»
(عد
35:10و36)

كان
موسى كخادم أمين على رعية الله، يراقب بعيون مفتوحة وقلب مستعد كل تحرُّكات تابوت
العهد ولا يكفّ عن الصلاة من أجل أن يُرافق الله شعبه بقوته وسلطانه. فكان يقول
صلاة معيَّنة عند تحرُّكهم يطلب فيها حراسة شعبه من أعدائهم الخفيين والظاهرين،
وكان يقول صلاة أخرى عند حلولهم واستقرارهم في الموضع الذي يختاره الرب.

ونجد
داود النبي يُردِّد نفس هذه الصلاة في مزاميره قائلاً: «يقوم الله، يتبدَّد
أعداؤه، ويهرب مبغضوه من أمام وجهه.» (مز 1:68)

أما
كنيسة الله المسترشدة بالروح القدس فقد استخدمت أيضاً في صلواتها نفس هذه الطلبات
التي يقولها الكاهن أثناء تقديمه البخور حول المذبح فيقول:

[قُم
أيها الرب الإله ولتتفرَّق جميع أعدائك، وليهرب من قدام وجهك كل مُبغضي اسمك
القدوس. أما شعبك فليكن بالبركة ألوف ألوف وربوات ربوات، يصنعون إرادتك المقدسة].

 

([1])
هو خطيب ومُفسِّر للكتاب المقدس. ويُعتبر أشهر مَن يُمثل ”مدرسة غزة“ في التفسير،
وهي مدرسة اشتهرت في القرنين الخامس والسادس الميلاديين. تتميَّز تفسيراته على
الكتاب المقدس بالاقتباسات الكثيرة من الآباء الذين سبقوه، مثل: فيلو اليهودي،
وأوريجانوس، وباسيليوس، وثيئودوريت، وكيرلس الإسكندري. حُفِظت لنا كتاباته
باليونانية، ونُشرت مع ترجمة إلى اللاتينية في مجموعة كتابات الآباء باليونانية
(ميني) في الجزء رقم 87: 1-2838.

([2])
PG 87,819.

 

 

ملخَّص
خطة دراسة السفر:

أولاً:
إعداد الجيل القديم ليرث أرض الموعد (1:110:10).


تنظيم الجماعة تمهيداً للارتحال ( 1:149:4).


تقديس الجماعة (1:510:10).

ثانياً:
فشل الجيل القديم في أن يرث أرض الموعد (11:1018:25).


بدايات الفشل في الطريق إلى قادش (11:1016:12).


أزمة قادش برنيع (1:1345:14).


إخفاق إسرائيل المتواصل (1:1522:19).


حوادث في الطريق إلى موآب (1:2018:25).

ثالثاً:
إعداد الجيل الجديد لميراث أرض الموعد (1:2613:36).


إعادة تنظيم إسرائيل (1:2623:27).


شرائع للتقدمات والنذور (1:2816:30).


الانتصار على الشعوب في شرق الأردن وتقسيمها على

أسباط
إسرائيل (1:3113:36).

 

ثانياً:
المرحلة التالية من مسيرة الشعب في البرية

فشل
الجيل القديم في أن يرث أرض الموعد (10: 11-25: 18)

1
– بدايات الفشل في الطريق إلى قادش (11: 1-12: 16)

ب
– عصيان الشعب وتذمُّره، وطلب موسى من الرب إعفاءه من حمل نيرهم (11: 1-15)

ترك
بنو إسرائيل برية سيناء بعد أن قضوا فيها سنة وشهراً وتسعة عشر يوماً، ولم يبرحوها
إلاَّ بناء على إرشاد الرب لهم بالرحيل بواسطة العلامة التي أخذوها من الرب بمجرد
ارتفاع السحابة من على خيمة الاجتماع. ومضوا في مسيرتهم ثلاثة أيام وتابوت عهد
الرب راحلٌ أمامهم يلتمس لهم منزلاً.

+
«وعند ارتحال التابوت كان موسى يقول: قُمْ يا رب فلتتبدَّد أعداؤك، ويهرب مبغضوك
من أمامك. وعند حلوله كان يقول: ارجع يا رب إلى ربوات ألوف إسرائيل.» (عد 10:
35و36)

كانت
هذه هي مسيرتهم بعد ارتحالهم من برية سيناء تحت رعاية الله القدير الذي يُبدِّد
أعداءهم من أمامهم، لأن أعداءهم هم أعداء الله، ومبغضيهم هم مبغضوه، وكانت راحة
الله هي في سكناه في وسطهم. ورغم كل هذه العناية الفائقة التي كانت تحفّ بهم
وتظلِّلهم، بدأت مظاهر تذمُّرهم وشكواهم ترتفع وتتعالى وتدخل في أُذني الرب، «وسمع
الرب فحمي غضبه» (عد 11: 1). وكانوا وكأن شرًّا أصابهم أو كأنهم كانوا يُعانون من
ضيق شديد.

ويظهر
أنهم تضايقوا من طول إقامتهم في البرية، أو أن سيرهم ثلاثة أيام في صحراء مقفرة
أصابهم بالضجر وأثار فيهم الشكوى والتذمُّر، ولكن ليست هذه كلها أسبابٌ تبرِّرهم.
فقد نسوا كل إحسانات الله عليهم وأخذوا يشتكون من تدابير الله لهم. وإن كان الكتاب
لم يفصح عن سرِّ شكواهم إلاَّ بقوله: «وكان الشعب كأنهم يشتكون شرًّا في أُذني
الرب»، أي أن الأمر لم يتعدَّ تمرمرهم وشكواهم بين بعضهم البعض، إلاَّ أن الرب سمع
شكواهم «فحمي غضبه»، لأنه رأى في تصرُّفهم هذا نُكراناً لفضله عليهم ورعايته
الخاصة لهم وعنايته الفائقة بهم. وكان غضب الرب شديداً، إذ أرسل ناراً من لدنه
«فاشتعلت فيهم نار الرب وأَحرقت في طرف المحلة».

هل تبحث عن  الكتاب المقدس يسوعية كاثوليكية عهد قديم سفر حزقيال 47

 

وليست
هذه أول مرة يُرسل فيها الرب ناراً من لدنه لتحرق المضادين:

1
– فقد أحرقت النار سدوم وعمورة كما جاء في (تك 19: 24و25)، إذ «أمطر الرب على سدوم
وعمورة كبريتاً وناراً من عند الرب من السماء. وقلب تلك المدن وكل الدائرة وجميع
سكان المدن ونبات الأرض».

2
– ولما قدَّم ناداب وأبيهو ابنا هارون ناراً وبخوراً غريباً أمام الرب لم يأمرهما
به «خرجت نار من عند الرب وأكلتهما فماتا أمام الرب.» (لا 10: 2)

3
– وفي سفر الملوك الثاني جاء عن إيليا النبي أنه طلب أن تنزل نار من السماء لتحرق
الجند الذين جاءوا من قِبَل الملك للقبض عليه (2مل 1: 10-12).

 

ويقول
بولس الرسول عن غضب الله أنه «مُعْلَن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم الذين
يحجزون الحق بالإثم» (رو 1: 18)، كما يقرر قائلاً: «إنه إن أخطأنا باختيارنا بعدما
أخذنا معرفة الحق، لا تبقى بعد ذبيحة عن الخطايا، بل قبولُ دينونةٍ مُخيفٌ، وغيرة
نار عتيدة أن تأكل المضادين… مُخيفٌ هو الوقوع في يدي الله الحي.» (عب 10:
26-31)

 

فالله
لا يغضب عبثاً، ولا يتسرع في غضبه، ولكنه يَحْمَى غضبه عندما يرى الشر يستشري
ويلبس شكل الخير، فيسود النفاق ويُحجَز الحق بالإثم، فهذا ما لا يطيقه الرب ولا
يحتمله. لذلك نسمعه يقول على لسان إشعياء النبي: «ويلٌ للقائلين للشر خيراً وللخير
شرًّا، الجاعلين الظلام نوراً والنور ظلاماً، الجاعلين المرّ حلواً والحلو
مُرًّا.» (إش 5: 20)

 

+
«فصرخ الشعب إلى موسى، فصلَّى موسى إلى الرب، فخمدت النار.» (عد 11: 2)

لقد
فهم الشعب في الحال أن هذه النار التي اشتعلت هي بسبب شكواهم، وهي لإعلان غضب الله
عليهم، فأسرعوا صارخين إلى موسى يستنجدون به، ولعلهم حاولوا عبثاً إطفاء النار فلم
تنطفئ، ولما رأوها تستشري وتمتد لجأوا إلى موسى.

 

أما
موسى فبأبوَّته المستمدة من أبوَّة الله، ومن منطلق إحساسه العميق بالمسئولية
كراعٍ أمين على قطيعه، أسرع نحو الله بثقة قوية يُقدِّم له الشفاعة والتوسُّل
والصلاة من أجل أن يصفح عن خطية شعبه. وظل موسى يُصلِّي إلى الله حتى استجاب الله
وخمدت النار. ولكن موسى لم يُرِدْ أن تمر هذه الحادثة بدون عبرة يعتبر منها الشعب،
فدعا ذلك الموضع باسم يذكرونه دائماً لعلَّهم يعتبرون؛ إذ «دُعِيَ اسم ذلك الموضع
”تبعيرة“ (بالعبرية أي اشتعالاً)، لأن نار الرب اشتعلت فيهم.» (عد 11: 3)

 

شعب
لا يكفّ عن التذمُّر:

ولم
تكد النار أن تخمد، وكانت لا تزال رائحة دخانها بعد تزكم الأنوف، إلاَّ وبدأ
تذمُّرٌ جديد من جماعةٍ من الشعب دعاها الكتاب ”اللفيف“، وهم المصريون الدخلاء
الذين خرجوا مع الشعب من مصر، وربما كانوا من اليهود الذين تزوَّجوا من مصريات أو
المصريين الذين تزوَّجوا من إسرائيليات، أو لعلَّهم من الشعوب الذين انضموا إليهم
أثناء عبورهم في البرية مثل بني مديان، الذين سمعوا عجائب الرب معهم ووعده لهم
بميراث الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً. لذلك يقول عنهم الكتاب:

 

+
«واللفيف الذي في وسطهم اشتهى شهوةً. فعاد بنو إسرائيل أيضاً وبكوا وقالوا: مَن
يُطعمنا لحماً. قد تذكَّرنا السمك الذي كنَّا نأكله في مصر مجاناً، والقثاء
والبطيخ والكُرَّاث والبصل والثوم.» (عد 11: 4و5)

بدأت
شرارة التذمُّر باللفيف الذين كانوا مثل الزوان الذي زرعه إبليس خلسة في وسط
الحنطة. ولكن سرعان ما انتقل التذمُّر كألسنة اللهيب إلى بقية الشعب. فابتدأ بنو
إسرائيل أيضاً يبكون ويقولون: ”مَن يطعمنا لحماً“. قد تذكَّرنا السمك الذي كُنَّا
نأكله مجاناً، والقثاء والبطيخ والكُرَّاث والبصل والثوم!!

 

لقد
كانت شكواهم في غير محلها. فإن كانوا يشتهون اللحم حقاً، فأين قطعان الماشية
والغنم الضخمة التي خرجوا بها من مصر؟ ألم يكن في مقدورهم أن يذبحوا منها ويأكلوا
كما يشاؤون؟ ولكنهم لشدة بخلهم ورغبتهم في ازدياد قطعانهم فضَّلوا أن يبكوا إلى
الله ليُطعمهم مجاناً كما أطعمهم قبلاً بالسلوى التي أرسلها لهم مرة بعد خروجهم من
مصر (خر 16: 13).

 

لذلك
كانت شهوتهم مصحوبة بتذكُّرهم للسمك الذي كانوا يأكلونه في مصر مجاناً، من النيل
ومن البحيرات ومن البحر الأبيض المتوسط. ومما يؤسف له أنهم تذكَّروا هذه الأطعمة
ونسوا عبوديتهم في أرض مصر، وعملهم بالسُّخرة واضطهاد فرعون لهم وقتله لأولادهم.

 

بل
وأكثر من ذلك، بدأوا يتهكَّمون على عطايا الله لهم في البرية، أعني المنّ الذي كان
ينزل من لدن الرب كل يوم مثل خبز سمائي يقوتهم طوال إقامتهم في البرية، حتى أنهم
قالوا:

 

+
«والآن قد يبست أنفسنا. ليس شيء غير أن أعيننا إلى هذا المنِّ.» (عد 11: 6)

لقد
سئمت أنفسهم هذا الخبز السمائي الذي خصَّهم الرب به، وتَبَطَّروا على نعمة الله.
هذا المنّ الذي «كان كبزر الكزبرة ومنظره كمنظر المقل» (عد 11: 7)، كما وصفه
الكتاب. فهو كبزر الكزبرة من حيث كونه حبوباً صغيرة يميل لونها إلى الصُّفْرة،
ومنظره كمنظر المقل من حيث رائحته الطيِّبة كالمقل الذي هو نوع من الصمغ المعطَّر.

 

+
«كان الشعب يطوفون ليلتقطوه ثم يطحنونه بالرَّحَى أو يدُقُّونه في الهاون ويطبخونه
في القدور ويعملونه مَلاَّت. وكان طعمه كطعم قطائف بزيت. ومتى نزل الندى على
المحلة ليلاً كان ينزل المنُّ معه.» (عد 11: 8و9)

 

يشرح
الكتاب كيف كانوا يتفنَّنون في صنعه وطبخه وخَبزه خُبز مَلَّة، أي خبز فطير، مثل
الذي صنعته سارة لضيوف أبينا إبراهيم. وقد ذُكر في سفر الخروج أن طعم المنّ كان
كطعم «رقاق بعسل» (خر 16: 31)، ويضيف هنا له طعماً آخر ”كقطائف بزيت“.

هل تبحث عن  م الكنيسة كنيسة الله الحى 64

 

ويُعلِّق
القديس جيروم على استخفافهم بهذه العطية الإلهية من أجل اشتهائهم أَكْل اللحم
فيقول:

 

[احتقروا
خبز الملائكة وناحوا من أجل لحم مصر.]([1])

 

موسى
يستثقل المسئولية:

+
«فلما سمع موسى الشعب يبكون بعشائرهم كل واحد في باب خيمته وحَمِيَ غضب الرب جداً،
ساء ذلك في عينيْ موسى. فقال موسى للرب: لماذا أسأت إلى عبدك؟ ولماذا لم أجد نعمة
في عينيك حتى أنك وضعت ثقل جميع هذا الشعب عليَّ؟ ألعلِّي حبلت بجميع هذا الشعب،
أو لعلِّي ولدْتُه حتى تقول لي احمله في حضنك كما يحمل المُربِّي الرضيع إلى الأرض
التي حلفت لآبائه؟ مِن أين لي لحم حتى أُعطي جميع هذا الشعب، لأنهم يبكون عليَّ
قائلين أعطنا لحماً لنأكل؟! لا أقدر أنا وحدي أن أحمل جميع هذا الشعب لأنه ثقيلٌ
عليَّ. فإن كنتَ تفعل بي هكذا، فاقتلني قتلاً إن وجدتُ نعمةً في عينيك، فلا أرى
بليَّتي.» (عد 11: 10-15)

 

لقد
بدأ تذمُّر الشعب بالشكوى من الحال الذي آلوا إليه، وكأن شرًّا أصابهم، فلم يكونوا
راضين على وضعهم. وهذه هي دائماً بداية التذمُّر: ”عدم الشكر على ما نحن فيه“. وهذا
هو ما جلب غضب الله عليهم، فأرسل إليهم ناراً اشتعلت في أطراف المحلة. ولكنهم ما
أن صرخوا مستنجدين بموسى قائدهم وراعيهم، حتى تضرَّع موسى إلى الرب، فخمدت النار.
إلاَّ أنهم سريعاً ما نسوا هذا الدرس وعادوا للتذمُّر والشكوى، وارتفعت أصواتهم
بالبكاء، كل واحد في باب خيمته، مُطالبين موسى بأن يطعمهم لحماً! مما أثار غضب
الله عليهم جداً!!

 

سمع
موسى بكاء الشعب بكل عشائره، بعد أن كان محصوراً في البداية في جماعة اللفيف من
الشعب المختلط من يهود ومصريين، ورأى موسى أن غضب الله قد حَمِيَ عليهم، فاستاء
جداً في نفسه، وأحس موسى أن شفاعته لن تفيد. فهوذا النار التي أُخمدت بصلاته ولم
تزل آثارها بعد في أطراف المحلة، لم تكْفِ لردعهم وامتلائهم خشية من غضب الله، وها
هم قد عادوا يثيرون غضب الله ثانيةً بتذمُّرهم وشهوتهم. فماذا يفعل لهم وهم يطلبون
شيئاً لا يمكن إيجاده لهم في برية قحلاء، بينما عددهم يربو على الثلاثة ملايين
نسمة؟! وكيف يشفع فيهم من أجل شهوة أجسادهم وتبطُّرهم على نعمة الله ونكرانهم
لفضله وعطاياه؟

 

لقد
أُسقط موسى في يده ووقع فريسة بين نارين: بكاء الشعب وتذمُّره، وغضب الله الذي كان
يخشاه. فماذا يفعل؟ لم يكن لموسى من وسيلة سوى أن يرفع أمره للرب إلهه، ويبثّ له
مخاوفه وضيقه وشكواه! فوقف أمام الله بدالة الخادم الأمين الشاعر بعجزه عن إرضاء
سيده، قائلاً:

+
«لماذا أسأت إلى عبدك؟ ولماذا لم أجد نعمةً في عينيك حتى أنك وضعت ثقل جميع هذا
الشعب عليَّ؟» (عد 11: 11)

لم
يقصد موسى أن يلوم الرب، بل كان شاعراً بعجزه وضعفه الشديد الذي أعلنه من البداية
عندما كلَّفه الرب عند العلَّيقة المشتعلة ناراً لإخراج الشعب من مصر، وحاول
الاستعفاء مراراً، ولكن الرب أصرَّ على إرساله، ووعده بأن يكون هارون أخاه معاوناً
له. ولكن موسى نَسِيَ في شدَّة ضيقته أن الله لم يتركه قط، وأنه لولا مؤازرة الرب
له في كل خطوة لما استطاع أن يقود الشعب ولا خطوة واحدة ويُخرجه من مصر ويسير به
في البرية هذه الفترة التي مضت على قِصَرها.

 

إلاَّ
أن الشعب ببكائه الشديد وطلبه الملحّ لأكل اللحم، وإحساس موسى بحموِّ غضب الرب على
الشعب، كل هذا أوقع موسى في تجربة شديدة أفقدته كل قدرة على السيطرة على الشعب
وعلى مشاعره، مما جعله يشتكي إلى الله من ثقل الحمل الذي يحمله بتحمُّله أعباء
ومتاعب هذا الشعب المعاند بمفرده. ومَن ذا الذي يستطيع أن يتحمَّل جميع متاعب
الناس ومشاكلها إلاَّ الله وحده، الذي قال: «تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين
والثقيلي الأحمال وأنا أُريحكم.» (مت 11: 28)

 

لقد
استرسل موسى في الشكوى إلى ربِّه من هذا الشعب الغليظ الرقبة، ليس لكي يستثير غضب
الرب ضده، ولكن ليُعبِّر عن عجزه عن حملهم قائلاً:

 

+
«ألعلِّي حبلتُ بجميع هذا الشعب؟ أو لعلِّي ولدته حتى تقول لي احمله في حضنك كما
يحمل المربِّي الرضيع إلى الأرض التي حلفتَ لآبائه؟» (عد 11: 12)

لقد
كان فهم موسى في رعايته للشعب أن يحملهم في حضنه كما يحمل المربِّي الرضيع. ولابد
أنه استلهم هذا الفهم من معاملات الله معه ومع هذا الشعب. فهو وإن كان الآن يريد
أن يتملَّص من هذا النير، إلاَّ أنه كان يُدرك جيداً أن هذا هو المستوى المطلوب من
الراعي الذي يُستأمن على رعاية شعب.

 

من
أجل هذا لم يحتمل موسى أن يرى الشعب يبكي طالباً اللحم وهو عاجز أن يجيبه إلى
طلبه:

 

+
«مِن أين لي لحم حتى أُعطي جميع هذا الشعب، لأنهم يبكون عليَّ قائلين أعطنا لحماً
لنأكل»؟!

 

+
«لا أقدر أنا وحدي أن أحمل جميع هذا الشعب لأنه ثقيلٌ عليَّ».

 

+
«فإن كنتَ تفعل بي هكذا، فاقتلني قتلاً إن وجدتُ نعمةً في عينيك، فلا أرى
بليَّتي.» (عد 11: 13-15)

 

إلى
هذا الحدِّ ضاق موسى ذرعاً بهذه المسئولية، بسبب رقة مشاعره وعدم احتماله رؤية
أولاده يبكون بين يديه طالبين ما لا حول له ولا قوة على تنفيذه، فطلب لنفسه الموت
وآثره على الحياة.

 

ويُعلِّق
القديس أفرام السرياني على ذلك قائلاً:

 

[إن
قوة الاتضاع هي تلك التي لم يقدر غالب العالم أن يغلب بدونها: ومن أجل أن يوازن
ثقل شعب عنيد، أقام عليهم موسى الأكثر اتضاعاً بين جميع البشر. ولكي يحرِّر شعبه،
احتاج الله – الذي لا يحتاج لشيء قط – إلى اتضاع موسى. فقد كان الأمر يحتاج إلى
لطف ذاك الذي يمكن أن يحتمل تذمُّر وغضب شعبٍ ساخط. فعندما كان التشامخ يهيِّج
الشعب، كان الاتضاع مع الصلاة يُخمد الثورات. فإذا كان اتضاع إنسان ما زال يتلجلج
أنقذ ستة آلاف نسمة، فكم بالأكثر يستطيع ذاك الذي جعل الخُرس يتكلَّمون بفصاحة أن
يُنقذ باتضاعه الكثيرين؟ لأن اتضاع موسى لم يكن سوى ظلٍّ لاتضاع الرب.]([2])

([1])
Against Joirnuanus 2:15.

([2])
Sermo de domino Nostro (Lamy 1,238).

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي