تَفْسِير سِفْرُ اَلْعَدَد

العلامة أوريجينوس

مؤسسة القديس أنطونيوس
المركز الأرثوذكسى للدراسات
الآبائية بالقاهرة

نصوص آبائية 105

 

المحتويات

مقدمة

العظة الأولى: التعداد

العظة الثانية: تنظيم المحلة

العظة الثالثة: اللاويون

العظة الرابعة: إحصاء اللاويين وواجباتهم

العظة الخامسة: وظائف اللاويين في خيمة الاجتماع

العظة السادسة: موسى
والسبعين شيخًا زواج موسى والحبشية

العظة السابعة: معاقبة مريم ومجد موسى الجواسيس في
كنعان

العظة الثامنة: عصيان الشعب

العظة التاسعة: مجامر قورح – عصيان جديد وشفاعة موسى
وهارون عصا موسى

العظة العاشرة: خطايا القديسين

العظة الحادية عشر: الباكورة

العظة الثانية عشر: البئر سيحون

العظة الثالثة عشر: الانتصار على سيحون
"تابع" : الانتصار على باشان حادثة بلعام

العظة الرابعة عشر: بلعام "تابع"

العظة الخامسة عشر: نبوءة بلعام الأولى

العظة السادسة عشر: نبوة بلعام الثانية

العظة السابعة عشر: نبوة بلعام الثالثة

العظة الثامنة عشر: نبوءة بلعام الرابعة

العظة التاسعة عشر: نبوءة بلعام الخامسة

العظة العشرون: الفساد مع
المديانيين (عدد25)

العظة الحادية والعشرون: الميراث

العظة الثانية والعشرون: بنات
صلفحاد، موت موسى

العظة الثالثة والعشرون: العطايا
للرب وأعياد الرب

العظة الرابعة والعشرون: الذبائح
والنذور

العظة الخامسة والعشرون: الانتقام
من المديانيين

العظة السادسة والعشرون: بعد القتال
الميراث عبر الأردن

العظة السابعة والعشرون: مواقف في
الصحراء

العظة الثامنة والعشرون: تحديد الأرض
المقدسة

 

 

مقدمة

منذ
القرن الرابع وشخصية أوريجينوس[1]
تحظى باهتمام كبير في الكنيسة فالقديس غريغريوس صانع العجائب يسميه "معلم
الكتب المقدسة الأول" والقديس جيروم يرى فيه مثالاً يحتذي به.

    وأثر
أوريجينوس واضح في مجالات عديدة مثل محاولة الصلح بين التفسيرين الحرفي والرمزي
للأسفار، واعتباره من الممهدين لظهور الرهبنة بما كتب عن علاقة الحب بين النفس
وعريسها المسيح وكلامه عن الصلاة. وهو أيضًا المقتني للأخلاق الإنجيلية.

    من
هنا جاء اهتمامنا بنشر هذه العظات لأوريجينوس على سفر العدد. قام أوريجينوس بعمل
هذه العظات في المدة بين 244 – 249م. وكما نفهم من النص أنه كان يعظ في الكنيسة
ومعنى ذلك أنها موجهة لكل الشعب وليس لعدد قليل من التلاميذ.

 

الترجمة الفرنسية لعظات
سفر العدد

    تمت
ترجمة هذه العظات في السلسلة الفرنسية لنصوص الآباء "
Sources
Chretiennes
" (المصادر المسيحية)
المجلد رقم (29) المنشور في باريس سنة 1951. وهذه الترجمة الفرنسية ترجمت عن النص
اللاتيني الذي ترجمه الراهب روفينوس عن الأصل اليوناني سنة410م.

 

الترجمة العربية لهذه
العظات

    الجزء
الثاني من عظات أوريجينوس على سفر العدد مكون من 14 عظة بعد العظات ال 14 التي صدرت
في الجزء الأول مترجمة إلى العربية. العظات من رقم 15 إلى رقم 18 قام بترجمتها عن
الفرنسية المتنيح القس برسوم عوض. والعظات من رقم 19 إلى رقم 23 قام بترجمتها الأب
القس شنودة أمين بشبرا. والعظات 24 28 قامت الآنسة مارسيل عوض الله بترجمتها. وقام
بمراجعة كل عظات الجزء الثاني من رقم 15 28 دكتور نصحي عبد الشهيد واشتركت معه
الآنسة مارسيل عوض في المراجعة على النص الفرنسي.

 

كلمة
مختصرة عن المؤلف

    وُلد
أوريجينوس بالأسكندرية سنة 185م وصار عميدًا لمدرسة الأسكندرية من سنة 203 حتى سنة
231. ثم ذهب إلى قيصرية فلسطين وأسس مدرستها اللاهوتية وعلّم بها حتى سنة 249
وناله عذابات كثيرة في اضطهاد داكيوس وتنيح سنة 253.

    وقد
كتب بروفيسور كواستن أستاذ علم الباترولوجي الشهير في بداية دراسته عن أوريجينوس
ما يلي: [ بلغت مدرسة الأسكندرية (اللاهوتية) إلى أهميتها العظمى بقيادة
أوريجينوس، المعلم والعالم البارز للكنيسة الأولى، إنسان بلا لوم في أخلاقه، وذو
معرفة موسوعية، وأحد أكثر مفكري العالم أصالة في العصور كلها ][2]
.

    ويقول
عنه كواستن في نفس الوقت [ رغم أن أوريجينوس أعطى اهتمامًا عظيمًا بدراسة الكتاب
المقدس، واعتبر الفلسفة مجرد خادمة للمسيحية ويؤكد على أهمية الكتاب المقدس أكثر
من معلّمه كليمندس الأسكندري، إلاّ أنه أخطأ بأن سمح لفلسفة أفلاطون أن تؤثر على
فكره اللاهوتي أكثر مما ظن في نفسه. وهذا أدى إلى أخطاء خطيرة، خاصةً تعليمه عن
خلق النفس البشرية قبل خلق الجسد ][3].

    ويذكر
كواستن أن أوريجينوس بالغ في استعمال الطريقة الرمزية في تفسير الكتاب المقدس مما
نتج عنه بعض الأخطاء. ولهذا السبب حدث خلاف في الرأي بين الآباء منذ القرن الرابع
حول ما ورد في كتابات أوريجينوس من بعض الأفكار إلى أن انتهى الأمر في القرن
السادس بإدانة الأفكار الخاطئة الشائعة عنه في مجمع عقده الإمبراطور جوستنيانوس
الأول بالقسطنطينية سنة 543، وهو المجمع المسكوني الخامس عند الروم، والذي لم
تشترك فيه الكنيسة القبطية الأرثوذكسية طبعًا لأنه بعد انشقاق مجمع خلقيدونية
تاريخيًا.

    ويضيف
كواستن [ كان مصير أوريجينوس أن يكون علامة اختلاف وتعارض أثناء حياته كما بعد
وفاته أيضًا. ويندر أن نجد شخصًا مثله له أصدقاء كثيرون جدًا أو أعداء كثيرون
جدًا. صحيح أنه ارتكب بعض الأخطاء، ولكن لا يمكن أن يشك أحد أنه كان تواقًا
وراغبًا بشدة أن يكون على الدوام مسيحيًا عميقًا مستقيم الإيمان في إيمانه وثقته
بالله. فهو (أى أوريجينوس) يسجل في بداية كتابه اللاهوتي الرئيسي " إن ما يجب
أن يكون مقبولاً على أنه هو وحده الحقيقة والحق هو ما لا يختلف من أى جهة من
الجهات مع التقليد الكنسي والرسولي " (حول الم
بادئ، Deprinc. Praef. 2). ولقد جاهد أوريجينوس بكل قواه لكي يتبع هذه القاعدة وختم جهاده
هذا بدمه في نهاية حياته ].

هل تبحث عن  كتب أبوكريفا عهد قديم سفر ياشر 24

    ونذكر
هنا حقيقة هامة فيما يخص عقيدة أوريجينوس في ألوهية المسيح.

 

    لقد
حارب أوريجينوس بدعة سابيليوس التي كانت تعلم بأن الله هو أقنوم واحد له ثلاثة
وظائف متتالية تاريخيًا، أولاً الآب، ثم هو نفسه صار الابن، وبعد ذلك هو نفسه جاء
كالروح القدس. ودافع أوريجينوس بقوة عن وجود الأقانيم الثلاثة التي لها نفس الجوهر..
ورغم أن البعض جيروم بالتحديد اتهمه بأنه يعلّم بأن الابن أقل من الآب إلاّ أن
القديس غريغوريوس العجائبي والقديس أثناسيوس الرسولي يبرءانه من هذا التشكك في
تعليمه عن ألوهية المسيح ومساواته للآب. والعلماء المحدثين مثل
Regnon، Prat يبرءانه أيضًا من هذه التهمة (انظر Patrology by Quasten Vol.11. p. 77)

 

القديس
أثناسيوس يشهد لتعليم أوريجينوس عن ألوهية المسيح:

    كتب
القديس أثناسيوس الرسولي كتابًا للدفاع عن صيغة إيمان مجمع نيقية المسكوني الأول
المنعقد سنة 325
De Decretis

    وفي
الفصل 6 من هذا الدفاع يستشهد القديس أثناسيوس بأربعة آباء ومعلّمين استلم منهم
آباء مجمع نيقية الإيمان المستقيم بأن ابن الله من نفس جوهر الآب وأوريجينوس هو
أحد هؤلاء الآباء الذين استشهد بهم.

    وننقل
هنا ما كتبه القديس أثناسيوس عن إيمان أوريجينوس. يقول القديس أثناسيوس: [ وفيما
يخص الوجود الأزلي للكلمة مع الآب، وأن الكلمة ليس من جوهر آخر بل هو من الآب
ذاته، كما قال الأساقفة في المجمع، يمكنكم أن تسمعوا أيضًا من أوريجينوس؛ محب
الأتعاب[4]،
لأن ما كتبه من باب البحث والتدريب، لا ينبغي لأى أحد أن يعتبره مجرد مشاعره
الشخصية بل هى أفكار الفرق المتصارعة في البحث، أما ما يعلنه بصورة مؤكدة ومحددة
فهذا هو فكر هذا الإنسان المحب للأتعاب،… فهو يقدم اعتقاده الشخصي هكذا: [ صورة
الإله غير المنظور هى صورة غير منظورة، بل أتجاسر وأقول بما أنه صورة الآب فهو كان
موجودًا دائمًا. لأنه متى كان الله الذي بحسب يوحنا يدعى النور (لأن "الله
نور") متى كان بدون بهاء لمجده الذاتي، حتى يتجرأ أى إنسان أن يؤكد أن أصل
وجود الابن كأنه لم يكن موجودًا قبلاً؟ ولكن متى كان صورة الآب التي لا يعبر عنها،
والجوهر الذي لا يسمى ولا ينطق به، ذلك التعبير والكلمة، والذي يعرف الآب، متى كان
غير موجود. بل دع ذلك الذي يتجاسر أن يقول " كان الابن غير موجود في وقت ما
"، دعه يفهم جيدًا أنه بهذا هو يقول إن الحكمة لم تكن موجودة في وقت ما،
والكلمة لم يكن موجودًا، والحياة لم تكن موجودة ".

 

    وفي
موضع آخر يقول أوريجينوس: [ ولكنه ليس أمرًا بريئًا أو هو أمر بلا مخاطرة، إن كنا
بسبب ضعف فهمنا، نجرد الله في ذهنننا، من الكلمة الوحيد الجنس الكائن أزليًا مع
الله؛ وهو الحكمة التي فرح بها؛ ففي هذه الحالة ينبغي أن يُدرك على أنه ليس عنده
فرج على الدوام ]
Nicene and post
Nicene Fathers 2nd series Vol.4 De Decretes p. 168.

   

أوريجينوس
المفسر والواعظ:

    أوريجينوس
كان له أثر واضح في مجالات عديدة مثل محاولة الصلح بين التفسيرين الحرفي والرمزي
للأسفار، واعتباره من الممهدين لظهور الرهبنة بما كتب عن علاقة الحب بين النفس
وعريسها المسيح وكلامه عن الصلاة. وهو أيضًا المقتني للأخلاق الإنجيلية.

    من
هنا جاء الاهتمام بنشر هذه العظات لأوريجينوس على سفر العدد. قام أوريجينوس بعمل
هذه العظات في المدة بين 244 – 249م. وكما نفهم من النص أنه كان يعظ في الكنيسة
ومعنى ذلك أنها موجهة لكل الشعب وليس لعدد قليل من التلاميذ.

 

طريقة أوريجينوس في
الوعظ

    نلاحظ
أنه لم يكن يجهز عظاته سابقًا في هيئة محاضرات كاملة حول موضوع معين، ولكن كل مرة
ينتهي القارئ من قراءة الإنجيل في الكنيسة، كان أوريجينوس يرتجل الكلام عفويًا ومن
هنا يأتي الإحساس بأنه يقدم أفكارًا كثيرة لا علاقة لها بالنص الذي يعلق عليه.
ولكن هذه هي طريقة التفسير التي كانت سائدة في عصره.

    وهذا
لا يمنع أن يحوي الوعظ والتفسير فكرة عامة عن السفر ثم أخذ نقطة أساسية تقوده خلال
السفر كله وهذا نراه في بداية تفسيره لإنجيل يوحنا وتفسيره لنشيد الأناشيد.

 

سفر العدد

    ماذا
يمكن أن يقدم لنا سفر العدد، فيبدو أنه لا يحمل نفس الوحدة التي نجدها في سفر
اللاويين أو التثنية وليس به أحداث تاريخية عظمى كالتي نراها مثلاً في سفر الخروج.
وقليلون هم الذين شرحوا هذا السفر في تقليد الكنيسة.

    أوريجينوس
يهدف في عظاته إلى أن يقيم السامع من كسله وإهماله ويلهمه بأفكار سامية لكي يقوده
إلى الله بالتوبة أي أن هدف تفسير أوريجينوس هو الرعاية، وخلاص النفوس وبنيانها
ولهذا فهو لا يستطرد كثيرًا بل يذهب إلى الهدف مباشرة. ويعتبر العلماء أن عظاته
على سفر العدد تصف طريق الخلاص بشكل أعمق ومباشر أكثر من كتاباته الكبيرة مثل
"رده على كلسوس" أو كتاب "المبادئ".

 

    وإذا
استثنينا كتابه عن سفر النشيد فإن أهم ما كتبه أوريجينوس عن اتحاد النفس بالله
وأكثرها آثرًا هي العظة 27 على سفر العدد، وهي جزء من عظاته كلها، والتي نقدم منها
الأربعة عشر عظة الأولى، في هذا الكتاب وسوف ننشر بإذن الله قريبًا ترجمة باقي
العظات في جزء ثاني.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ن نشر منشار ر

    سفر
العدد عند أوريجينوس لا يمثل أحداثًا متفرقة بل يمثل جزءًا من التاريخ الإلهي
"تاريخ الخلاص". وله هدف محدد فهو سرد للرحلة نحو أرض الميعاد أي رحلة
النفس، لأن أوريجينوس يطبق كل أحداث العهد القديم على الكنيسة والإنسان المسيحي.

    وهذا
التفسير لمسيرة التاريخ الإلهي يختلف عن تفسير فيلون الأسكندرى وبولس الرسول واكليمندس.
فبالنسبة لهؤلاء تكون الحادثة الرئيسية بعد الخروج بالشعب من مصر هي إعلان سيناء
وإعطاء الوصايا، بينما أوريجينوس يرى أن دخول أرض الميعاد هو الشئ الأساسي (نرى أن
الخلاف ليس في جوهر الأمر بل في طريقة رؤيته).

    فسيناء
ليست نهاية الرحلة بل هي محطة. والهدف النهائي هو الأردن.. هو أرض الميعاد، وهنا
يأخذ تاريخ الخلاص عند أوريجينوس لونًا آخر. فالخروج ليس هروبًا بقدر ما هو
ارتحال. فالأرض التي "تخرج لبنًا وعسلاً" تلقى بضوئها على رمال
الصحراء… والطريق في سيناء والتوقف فيها ليس إلا محطات.

    سفر
العدد يمثل لأوريجينوس سفر الحركة، سفر الرحلة الإلهية، سفر رحيل النفس ومسيرتها
نحو الله. وهو أيضًا سفر الصحراء والعنوان العبري للسفر معناه "إلى
الصحراء" وهو الأكثر مناسبة.

 

منهج أوريجينوس
التفسيري

    أول
خطوة في طريق فهم الأسفار عند أوريجينوس هي التفسير التاريخي أو الحرفي. ولكن
أوريجينوس يعتبر أنه لا يليق أن تُحصْر كلمة "الله" في مجرد أحداث
وتفاصيل صغيرة سواء تاريخية أو جغرافية بدون أهمية مباشرة لنا. فإذا كان موقف موسى
في الصحراء قد تم بناءً على أوامر الرب فهذا تم أيضًا لأجل تعليمنا ولأجل إعدادنا
نحن لرحلات خروج أخرى مشابهة لما فعله موسى.

    فالهدف
الحقيقي وراء سفر العدد هو رحلة النفس الروحية ومحطاتها المختلفة، أي درجات تصل
إليها في نهاية الحياة الروحية والتقدم الذي نحققه خلال هذه الرحلة من خلال
الانتقال من مرحلة إلى أخرى.

 

الفكر المسيحي

    أخذ
الفكر المسيحي في القرون الأولى طريقًا آخر غير طريق الفلسفة. فقد كان لا يميل إلى
عدم التركيز على الثنائيات، فرغم أن مثل حبة الحنطة والخميرة التي تخمر العجين
يوضحان طريقًا تربويًا متدرجًا. إلا أن معظم صور العهد الجديد وأمثاله تتجه نحو
القطيعة مع الماضي والبداية من جديد، أي يجب أن "تبيع كل ما تملك" أو
"أحمل صليبك" أو حقيقة فكرة الولادة من فوق. أو فكرة الطريقين في كتاب
(الديداكي). إن مسيحي القرون الأولى كانوا مشغولين بتغيير الحياة أكثر من النمو
التدريجي، ونلاحظ أن الرسول بولس يقبل الفروق الفردية بين المؤمنين في الكنيسة من
جهة النمو التدريجي (1كو 3 : 1 3؛ أف 4 : 13 16)، ويرى (دي لوباك) عالم الآباء
الفرنسي أن أساس التمييز بين مراحل النمو الروحي عند أوريجينوس موجود عند الرسول
بولس.

    ولكن
نلاحظ أن خبرة الرسول بولس الشخصية وطريق دمشق تحركان أفكاره. وهو يفكر عن طريق
المتضادات، الإيمان أو الناموس، الإنسان الجديد أو الإنسان العتيق، المسيح أو
العالم.

    فما
يعنيه هو نشر الإيمان والتحول للمسيح وانسكاب المواهب على الكنائس التي أسسها.
والذي يهمه بالدرجة الأولى هو الدخول إلى الإيمان بحسم وجدية وبعد ذلك يحتاج
الإنسان إلى الصبر انتظارًا للمجيء الثاني.

 

    ولكن
في القرن الثالث لم تكن خبرة طريق دمشق هي المنهج السائد لسببين:

أولاً: تأخر
المجيء الذي كان متوقعًا وتكلم إيرينيوس عن منهج الله في تربية البشرية وبداية
لاهوت التشبه بالله، فالمسيحي يبدأ غير كامل ثم ينمو.

ثانيًا: إن
المسيحيين لم يعودوا هم المتحولين من الوثنية بل مولودين من أسر مسيحية. بما يعنيه
ذلك من ضرورة تبني منهج التربية الأسرية وتسليم الإيمان، والتدرج في فهم أسرار
الإيمان وهذا جعل المسيحيين يفهمون أن الروح يعمل ببطء أكثر من يوم الخمسين.

وأوريجينوس
هو مثال لطفل مولود في أسرة مسيحية ولهذا كان يجب تعميق فكرة الولادة الروحية عند
بولس وهناك ثمر للحياة في المسيح…

    وهنا
ظهرت فكرة النمو الروحي ودرجاته في الكنيسة وظهر هذا المنهج أولاً عند إيرينئوس
ووجد صدى عند أكليمنضس وأوريجينوس. فأفلاطون وبسودنيوس وفيلون كانوا يؤكدون الخبرة
المسيحية.

 

أوريجينوس ودرجات النمو
الروحي

    في
هذا المناخ اللاهوتي والفلسفي كان أوريجينوس يعلم في الكنيسة. وعند أوريجينوس يكون
النمو في الدرجات الروحية لا يخص فقط المؤمن في الكنيسة، بل إن كل التاريخ ومراحله
هو رمز للمسيح. ففي تاريخ إسرائيل في أدق تفاصيله نرى المسيح متجسدًا. وإسرائيل
الجديد هو الكنيسة، وتاريخ إسرائيل يخص أيضًا كل نفس. فإسرائيل والمسيح والكنيسة
وأورشليم السمائية والإنسان الباطن هي ملامح كثيرة لواقع واحد، ولا يمكن تناول
إحدى هذه الملامح بدون الإشارة إلى الأخرى، ولهذا فكل ما كتبه عن إسرائيل يمثل إلى
جانب المعنى التاريخي بعدًا نبويًا ينطبق على المسيح والكنيسة. وبعدًا
اسخاتولوجيًا يعلن الدهر الآتي، وبعدًا داخليًا يعلن النسك والأسرار.

ولهذا
فأوريجينوس يوظف كل هذه المعاني في شرحه، فهو ينتقل من المعنى التاريخي إلى المعنى
النبوي أو إلى الأسرار والنسك الشخصي، أو ينتقل من الكلام عن الكنيسة إلى النفس
الإنسانية لأن الكنيسة والنفس عند أوريجينوس هما وجهان لحقيقة واحدة.

    وهذا
ينطبق على فكرة أوريجينوس عن درجات النمو الروحي فكل شئ عنده درجات. وهذا نلاحظه
من أول صفحات سفر العدد، أنه اتجاه عزيز على نفس أوريجينوس. فإسرائيل عُزِلَ من
الأمم ولكنه أي إسرائيل يمثل درجة في معاملات الله مع البشر، ولكنه يحمل نظامًا
متميزًا وهو اللاويين. اختلاف أعداد القبائل عند أوريجينوس هو درجات الكرامة،
درجات القرابة في الميراث، درجات الطقوس في العهد القديم.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ش شَبُّولت ت

    العظات
على سفر العدد تقدم لنا مفتاح روحانية أوريجينوس. السفر هو سفر الصحراء والهجرة
والترحال، وقد صار هذا السفر عند أوريجينوس هو أتون التجارب والتنقية للمرور من
درجة روحية إلى درجة أعلى فهو سفر المسيرة نحو الله.

 

ما هي ملامح هذه
الروحانية؟

1
الإيمان

هو للضعفاء، الذين بالإيمان بالمسيح المصلوب يخلصون.

2
الأعمال:

النسك بكل درجاته وهي عبارة عن الجهاد والنمو وتعلم العفة والفضائل والتوبة عن
الخطايا والاتضاع ورفض المظاهر. وهناك من يجاهدون ليس عن أنفسهم فقط بل عن آخرين.

3 القداسة: القديسون
يختارون من بين المجاهدين بالأعمال، والقداسة ليست هي حالة عدم الخطية ولكنها
تقديم الإرادة والنية "
proairesis". القديس لا يختلف عن الآخرين إلا في أنه في موقع مختلف، فهو
مفرز، لقد ترك كل ماله… وشئون الدنيا ليتكرس لله بالكامل، وهذا هو تعريف القديس
عند أوريجينوس. ولكنه أحيانًا يستعمل تعبير قديس كمرادف للفظ كامل… هناك ترابط
بين الاثنين… القداسة هي التجرد الكامل، والقديس يصير قديسًا بممارسة القداسة…
فنحن ندعو طلبة الطب أطباء وطلبة الفلسفة فلاسفة قبل أن ينتهوا من دراستهم وطالبوا
القداسة يدعون قديسين حتى ولو لم يكونوا قد وصلوا إلى نهاية طريق القداسة. يكفي أن
عندهم النية الداخلية وقد خطوا الخطوات الأولى، والكمال يأتي بعد ذلك.

4 الكمال: أوريجينوس
يستعمل هذه الكلمة كثيرًا وهي لا تعني غياب الخطأ أو العصمة بل تعني الذي أنهى
عملاً. فالكمال هو الهدف النهائي، الكمال هو رؤية الله، والكمال يستلزم المعرفة
إلى جانب الأعمال.

5 المعرفة: المعرفة هي
الجزء الأساسي من الروحانية عند أوريجينوس… حتى ولو لم يستعمل اللفظ علانية، فكل
مرة يتحدث عن الحكمة أو عن الأسرار أو الإعلان الإلهي، فهو يتحدث عن المعرفة ورغم
أن هذا العلم أو المعرفة لا يعني المعرفة بمعناها المعاصر الآن إلا أنها تشتمل على
جانب "اقتناء المعارف": المعارف الدنيوية والثقافة والطب والفلسفة من
ناحية، ومن الناحية الأخرى المعارف الكنسية أي معرفة تراث الكنيسة والكتب المقدسة
والبحث في التقليد العبراني وقراءة مؤلفات علماء المسيحية الأوائل وحتى كتب
الهراطقة ينصح أوريجينوس بقراءتها.

ونحن
نعرف أن أوريجينوس كان يلزم تلاميذه بعمل دراسات ثقافية وفلسفية ضخمة. ودراسات
موسوعية لكي يعدهم للتأمل في الكتب المقدسة، فرغم أن معرفة علوم الدنيا وثقافاتها
تعتبر في نظر أوريجينوس كعلوم إعدادية إلا أنها لا يمكن الاستغناء عنها لفهم
الإيمان.

    أما
عن العلم في ذاته فهو عند أوريجينوس يعني اقتناء حقائق إلهية. مثل أن الله غير
مادي، وحدة العهدين، حضور اللوغوس في كل الخليقة.

    العلم
عند أوريجينوس يرتبط بنظرته للإنسان. فالإنسان ليس عقلاً خالصًا كما يقول
"كانت
Kant" والذكاء هو أقرب إلى الحدس "Intuition".

    فالذكاء
عند الأقدمين يفترض الحرية من الأوجاع "
Apathia" وبدون العفة لا يوجد ذكاء. والعفة مرتبطة بالحب. والحب لا
ينفصل عن الصلاة وتقديم الذات لله.

 

 

الظروف الفلسفية
واللاهوتية (وقت إلقاء أوريجينوس لعظاته) 244 م.

    هناك
مبدأ هام يحسن مراعاته عند دراسة أي نص آبائي يرجع إلى القرون الأولى وهذا المبدأ
هو محاولة فهم "كلما أمكن ذلك" الظروف التاريخية والاحتياجات الروحية
التي صاحبت بل ونقول أدت إلى ولادة هذا النص. وعدم بذل هذه المحاولة سيؤدي بنا إلى
عزل النص عن بيئته مع ما في ذلك من خطورة إسقاط مفاهيمنا عليه أو فهمه فهمًا
جزئيًا وربما أدخلنا النص في جدل معاصر لم يكن أصلاً في ذهن الكاتب حينما عالج
موضوعه، من النص بعض الفقرات التي تبرر تعليمًا خاصًا لا يتفق وكل الفكر الآبائي
والكنسي.

 

إسرائيل والإسرائيليون
في تفسير أوريجينوس

    كان
أوريجينوس مثله مثل كل آباء الكنيسة في القرون الأولى يفسرون كلمة إسرائيل
والإسرائيليين بحسب النظرة الروحية الدينية المحضة. ولهذا فهم يقارنون بين الإيمان
بالله وقوة عمله في التاريخ كما أعلنت في العهد القديم وبين الألوهية المشوهة في
الديانات الوثنية عند اليونانيين أو المصريين وغيرهم من شعوب الشرق، والتي كانت
تخلط بين الله وصور المخلوقات. ولذلك نجد أوريجينوس في هذه العظات يتحدث عن
الإسرائيلي دون أن يكون هناك تحديد عنصري أو عرقي أو أي معنى سياسي بل يطبق كل ما
هو في سفر العدد على المؤمنين في العهد الجديد والذين ليسوا من إسرائيل بحسب
الجسد. لأن إسرائيل بحسب الرسول بولس وآباء الكنيسة هي كنيسة المسيح وهي شعب الله
الحقيقي. ولا تزال الكنيسة الأرثوذكسية حتى الآن تلتزم بهذا التفسير. وقد أعلنه
بابا وبطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر قداسة البابا شنودة الثالث في
خطابه الجامع بنقابة الصحفيين عام 1968 عن "المسيحية وإسرائيل" وفي يوم
5 ديسمبر 1971 والذي نشر في كتاب بنفس العنوان.



[1] هذا هو
النطق الصحيح لأسم أوريجانوس رغم أن هذا النطق الأخير بالألف هو الذي شاع
بالعربية.

[2] JOHANNES QUASTEN PATROLOGY
Vol.11, p.37. 4th printing 1975, spectrum publishers,
UTRECUT-ANTWERP,
U.S.A.

[3] Quasten, Patrology vol.11.
p.42.

[4]φιλοπόνου = Labour – Loving.

أورد
القديس أثناسيوس هذا الوصف بمدح أوريجينوس مرة أخرى في الرسالة الرابعة إلى الأسقف
سرابيون عن الروح القدس (انظر الرسائل عن الروح القدس إلى سرابيون 9:4) الترجمة
العربية.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي