تَفْسِير
سِفْرُ اََلتَّثْنِيَة
إسم السفر:
سفر التثنية أو الإشتراع Deuteronomy
الاختصار : تث = DE
سفر
التثنية له فى العبرية اربعة اسماء :
دعى
فى الأصيل العبرى إله هدباريم elleh
haddebarim ويختصر debarim ومعناها " هذا هو الكلام " وهى كما اعتدنا الكلمات الأولى
من الاصحاح الأول
Kith أى " الخامس " بحسب ترتيبه فى أسفار موسى.
سفر
التوبيخ أو النصائح Seper tokahoth لما فيه من اللوم والتعنيف. خصوصاً ما جاء فى (تث 28)
دعى
أيضاً : مشنه misneh hattotra أو misneh فقط.
ومعناها
" نسخة ". وهى كلمة فى (تث 17 : 18) وتعنى أيضاً " مثنى "
والاشارة الى نسخة ثانية من الشريعة.
فى
السبعينية دعى : deuteros namos أى الشريعة الثانية.
وجاء
الاسم فى الغلبة اللغات مشتقاً من هاتين الكلمتين لذلك دعى فى الانجليزية Deuteronomy وفى العربية " تثنية ".
+
عنوان هذا السفر في العبرية هو : " هذه هي الكلمات "، ولكن أطلق عليه في
الترجمة السبعينية اليونانية " ديوترونوميون " (Deuteronomion) أي " الشريعة الثانية ". ويعزى الاسم اليوناني إلى لبس
حدث في الترجمة السبعينية للعدد الثامن عشر من الإصحاح السابع عشر من السفر، حيث
ترجموه. ويكتب لنفسه هذه النسخة المكررة من الشريعة بينما الأصل العبري يعني:
" يكتب لنفسه من هذه الشريعة " ومع ذلك فإن الخطأ الذي حدث في التسمية
ليس خطيرا، لان سفر التثنية في حقيقته هو تكرار أو إعادة النطق بالشريعة.
+ أُعطى هذا الاسم للسفر في الترجمة السبعينية، يعنى "نسخة
للشريعة" 17 : 18. وهو ليس تكرارا لما سبق أن كتب، إنما هو سفر تذكرة دائمة
لوصايا الله التي قدمها موسى النبي قبل رحيله، بفكر جديد ليتأهل الجيل الجديد
بالطاعة النابعة عن الإيمان للدخول إلى ارض الموعد. قدمها موسى قبل عبور الأردن
بشهر واحد.
+ في الأسفار السابقة قدمت الشريعة في عملية اشتراع لها أو سنّها،
أما هنا فيقدم موسى النبي الشريعة بكونها قوانين يعاد قراءتها بطريقة مفسرة، تناسب
الداخلين إلى الأرض.
+ يظن البعض أنه هو السفر الذي وجده حلقيا الكاهن العظيم في الهيكل
زمن يوشيا الملك (2 مل 22 : 8).
في
الأسفار السابقة ورد سَّن الشريعة أو اشتراعها، أما هنا فيقدمها كقوانين يُعاد
قرأتها بطريقة مفسرة تناسب الداخلين أرض الموعد.
سفر
التثنية هو آخر أسفار موسى الخمسة أو هو الخمس الخامس من الناموس. ولسفر التثنية
خصائص مميزة، كما أن له تأثيره الخاص. ففي أسفار الخروج واللاويين والعدد يظهر
الرب متكلما إلى موسى، بينما في سفر التثنية يظهر موسى مخاطبا إسرائيل بأمر الرب
(تث 1 : 1 3، 5 : 1، 29 : 1).
وهو
عبارة عن خلاصة لخطابات عديدة سبق أن ابلغها إليهم في أوقات مختلفة وأماكن مختلفة،
في أثناء تجوالهم في البرية، انه خلاصة التعاليم التي ألقاها موسى على بنى إسرائيل
خلال الأربعين السنة التي أمضوها في البرية. فهو " استعراض للماضي "
وترجمة تاريخ إسرائيل الفدائي إلى مبادئ حية. ولكنه ليس تاريخا بقدر ما هو تسجيل
تفسيري للأحداث.
ويوجد
بهذا السفر الكثير من التأمل في الماضي، ولكن توجهه الأساسي هو نحو المستقبل. أما
المعلمون اليهود، فيسمونه : " كتاب التوبيخات ". ويعتبر كتاب الخطابة
التبشيرية، به " كل دفء القديس برنارد، والغيرة المتقدة لسافونا رولا، وحنان
التقديس فرنسيس الاسيسي المتسم بالرقة والسماحة ". أما هدفه الأساسي فكان
إثارة ولاء إسرائيل للرب ولشريعته المعلنة.
والسفر
في مجمله يعتبر استعراضا للوصية العظمى، وهي : " تحب الرب إلهك من كل قلبك
ومن كل نفسك ومن كل قوتك " (تث 6 : 5). ومن هذا لخص السيد المسيح كل وصايا
العهد القديم في جملة واحدة (مت 22 : 37 مع تث 6 : 5). ومنه أيضاً استمد الإجابات
التي دحر بها المجرب (مت 4 : 4 و7 و10 مع التثنية 8 : 3، 6 : 16 و13).
كاتب السفر:
موسى
النبى
شهادات
من خارج السفر:
1.
هناك شهادات من أسفار العهد القديم الأخرى تشهد بأن موسى النبي هو كاتب هذا السفر
ضمن الأسفار الخمسة الأولى المنسوبة إليه:
–
في مقدمة سفر يشوع، كان كلام الرب ليشوع بن نون خادم موسى قائلاً: «إنما كُن
متشدِّداً وتشجَّع جداً لكي تتحفظ للعمل حسب كل الشريعة التي أمرك بها موسى عبدي»
(يش 1: 7).
–
وفي سفر القضاة يذكر الوحي أن الأُمم الذين تركهم الرب في أرض كنعان «كانوا
لامتحان إسرائيل بهم لكي يُعلَم: هل يسمعون وصايا الرب التي أوصى بها آباءهم عن يد
موسى» (قض 3: 4).
–
وفي سفر الملوك الأول يوصي داود ابنه سليمان قائلاً: «احفظ شعائر الرب إلهك، إذ
تسير في طرقه وتحفظ فرائضه، وصاياه وأحكامه وشهاداته، كما هو مكتوب في شريعة موسى،
لكي تفلح في كل ما تفعل وحيثما توجَّهت» (1مل 2: 3).
–
وفي سفر الملوك الثاني جاء عن حزقيَّا بن آحاز ملك يهوذا أنه: «التصق بالرب ولم
يَحدْ عنه، بل حفظ وصاياه التي أمر بها الرب موسى» (2مل 18: 6).
–
وفي سفر عزرا يحكي عن رؤوس آباء يهوذا وبنيامين والكهنة واللاويين من كل مَن نبَّه
الله روحه ليصعدوا من السبي من بلاد فارس ليبنوا بيت الرب الذي في أورشليم: «وقام
يشوع بن يوصاداق وإخوته الكهنة وزرُبَّابل بن شألتئيل وإخوته، وبنوا مذبح إله
إسرائيل ليُصعدوا عليه محرقات، كما هو مكتوب في شريعة موسى رجل الله» (عزرا 3: 2).
2.
اقتبس كثير من أسفار الأنبياء اقتباسات من سفر التثنية، مما يدل على أنهم كانوا
عارفين ومُلمِّين بما جاء فيه:
أ
– فمثلاً جاء في سفر إشعياء النبي هذه الاقتباسات:
«اسمعي
أيتها السموات وأصغي أيتها الأرض لأن الرب يتكلَّم» (إش 1: 2) – ويقابله في
التثنية:
+
«انصتي أيتها السموات فأتكلَّم ولتسمع الأرض أقوال فمي» (تث 32: 1).
«لأنه
ليس شعباً ذا فهم، لذلك لا يرحمه صانعه ولا يترأَّف عليه جابله» (إش 27: 11) –
ويقابله في التثنية:
+
«ألربَّ تُكافئون بهذا يا شعباً غبيّاً غير حكيم؟ أليس هو أباك ومقتنيك، هو عملك
وأنشأك؟» (تث 32: 6).
«وأما
أنت يا إسرائيل عبدي، يا يعقوب الذي اخترته، نسل إبراهيم خليلي» (إش 41: 8) –
ويقابله في التثنية:
+
«لأنك أنت شعب مقدَّس للرب إلهك. إيَّاك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعباً أخصَّ
من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض» (تث 7: 6).
«لأنك
شعب مقدَّس للرب إلهك وقد اختارك الرب لكي تكون له شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب
الذين على وجه الأرض» (تث 14: 2).
«لا
تخف لأني معك، لا تتلفَّت لأني إلهك. قد أيَّدتك وأعنتك وعضدتك بيمين برِّي» (إش
41: 10) – ويقابله في التثنية:
+
«تشدَّدوا وتشجَّعوا، لا تخافوا ولا ترهبوا وجوههم، لأن الرب إلهك سائر معك، لا
يهملك ولا يتركك» (تث 31: 6).
«اذكُروا
الأوليات منذ القديم، لأني أنا الله وليس آخر. الإله وليس مثلي» (إش 46: 9) –
ويقابله في التثنية:
+
«اذكُر أيام القِدَم، وتأملوا سِني دَوْرٍ فدور. اسأل أباك فيُخبرك، وشيوخك
فيقولوا لك» (تث 32: 7).
«فإنك
حينئذ تتلذَّذ بالرب، وأُركبك على مرتفعات الأرض، وأُطعمك ميراث يعقوب أبيك، لأن
فم الرب تكلَّم» (إش 58: 14) – ويقابله في التثنية:
+
«أَرْكَبَه على مرتفعات الأرض، فأكل ثمار الصحراء وأرضعه عسلاً من حجر وزيتاً من
صوَّان الصخر» (تث 32: 13).
«نتلمَّس
الحائط كعُمْيٍ، وكالذي بلا أعين نتجسَّس. قد عثرنا في الظُّهركما في العتمة» (إش
59: 10) – ويقابله في التثنية:
+
«فتتلمَّس في الظُّهر كما يتلمَّس الأعمى في الظلام ولا تنجح في طرقك» (تث 28:
29).
ب
– وكذلك في سفر إرميا النبي نلاحظ تأثره الشديد بسفر التثنية أيضاً، وذلك
باقتباساته الكثيرة منه:
«لا
تخف من وجوههم لأني أنا معك لأُنقذك يقول الرب» (إر 1: 8) – ويقابله في التثنية:
+
«والرب سائر أمامك، هو يكون معك، لا يُهملك ولا يتركك، لا تخف ولا ترتعب» (تث 31:
8).
«الذي
سار بنا في البرية في أرض قفرٍ وحُفرٍ، في أرض يبوسة وظِل الموت، في أرض لم
يَعْبُرها رجل ولم يسكنها إنسان» (إر 2: 6) – ويقابله في التثنية:
+
«الذي سار بك في القفر العظيم المخوف، مكان حيَّاتٍ محرقة وعقارب وعطش حيث ليس
ماء» (تث 8: 15).
«وأتيتُ
بكم إلى أرض بساتين لتأكلوا ثمرها وخيرها» (إر 2: 7) – ويقابله في التثنية:
+
«لأن الرب إلهك آتٍ بك إلى أرض جيدة، أرض أنهار من عيون، وغمار تنبع في البقاع
والجبال» (تث 8: 7).
«فأين
آلهتك التي صنعتَ لنفسك؟ فليقوموا إن كانوا يُخلِّصونك في وقت بليتك» (إر 2: 28) –
ويقابله في التثنية:
+
«يقول: أين آلهتهم، الصخرة التي التجأوا إليها؟… لتقم وتساعدكم وتكن عليكم حماية»
(تث 32: 38،37).
«ارجعي
أيتها العاصية إسرائيل، يقول الرب: لا أوقع غضبي بكم لأني رؤوف، يقول الرب، لا
أحقد إلى الأبد» (إر 3: 12) – ويقابله في التثنية:
+
«ورجعت إلى الرب إلهك وسمعت لصوته… يردُّ الرب إلهك سبيك ويرحمك» (تث 30: 3،2).
«اختتنوا
للرب وانزعوا غُرَل قلوبكم» (إر 4: 4) – ويقابله في التثنية:
+
«فاختنوا غُرْلة قلوبكم ولا تُصَلِّبوا رقابكم بعد» (تث 10: 16).
«هوذا
كسحاب يصعد وكزوبعة مركباته، أسرع من النسور خيله. ويل لنا لأننا قد أُخربنا» (إر
4: 13) – ويقابله في التثنية:
+
«يجلب الرب عليك أُمةً من بعيد من أقصاء الأرض كما يطير النسر، أُمةً لا تفهم
لسانها» (تث 28: 49).
«بنوكِ
تركوني وحلفوا بما ليست آلهة» (إر 5: 7؛ 8: 19) – ويقابله في التثنية:
+
«هم أغاروني بما ليس إلهاً، أغاظوني بأباطيلهم» (تث 32: 21).
«ولما
أشبعتهم زنوا، وفي بيت زانية تزاحموا» (إر 5: 7) – ويقابله في التثنية:
+
«فسمن يشورون ورفس. سمنتَ وغلظتَ واكتسيت شحماً، فرفض الإله الذي عمله وغَبيَ عن
صخرة خلاصه» (تث 32: 15).
وهكذا
نُلاحِظ مدى تأثر إرميا النبي بسفر التثنية، ويمكن أن نتتبَّع ذلك حتى نهاية
السفر:
(انظر:
إر 5: 15 مع تث 28: 49؛ إر 8: 10 مع تث 28: 30؛ إر 9: 16 مع تث 28: 64؛ إر 11: 1-5
مع تث 4: 5؛ 7: 12؛ 27: 26؛ إر 12: 13 مع تث 28: 38؛ إر 15: 4،3؛ 24: 9؛ 29: 21 مع
تث 28: 26،25؛ إر 16: 11،10؛ 22: 9،8 مع تث 29: 24-26؛ إر 21: 8 مع تث 30: 19؛ إر
23: 32 مع تث 18: 5؛ إر 31: 20 مع تث 32: 39،36؛ إر 32: 42،41 مع تث 30: 10،9).
ج
– كما جاء في أسفار أخرى للأنبياء، مثل: عاموس وهوشع وميخا، فقرات تُذكِّرنا بما
جاء في سفر التثنية. فمثلاً الحُكْم الخاص بعلامات الحدود أو التخوم كانت معروفة
لهوشع (قارن هو 5: 10؛ تث 19: 14). كما كان كل من عاموس وميخا يعرف الحاجة إلى ضبط
معيار الوزن الصحيح (قارن عا 8: 5؛ ميخا 6: 10؛ تث 25: 13). أيضاً الوصية الخاصة
بإخراج العشور في آخر كل ثلاث سنوات، أشار إليها عاموس (انظر عا 4: 4؛ تث 14: 28).
كما أن هوشع كان يعرف سلطان الكاهن ووجوب طاعته لأجل المسئولية التي وُضِعَت على
عاتقه لتعليم الشعب شريعة الرب. فإن أخطأ الكاهن فكم تكون عثرة الشعب؟! (انظر هو
4: 4-10؛ تث 17: 9-13؛ 18: 5).
هناك
فقرة في سفر التثنية، تؤكد بوضوح شديد أن موسى هو كاتب " هذه التوراة "،
حيث تقول : " وكتب موسى هذه التوارة وسلمها للكهنة بني لاوي.. فعندما كمل
موسى هذه التوراة هذه التوراة في كتاب إلى تمامها، أمر موسى اللاويين حاملي تابوت
عهد الرب قائلا :" خذوا كتاب التوارة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم،
ليكون هناك شاهدا عليكم " (تث 31 : 9 و24 27).
هذه
الفقرة لها قيمة اكبر من القيمة التقليدية، ولا ينبغي أن نتجاهلها كما يحدث كثيرا.
ولا يكفي أن نقول أن موسى هو المصدر الرئيسي للشريعة العبرانية، أو انه أعطى شعبه
تشريعات شفهية وليست مكتوبة، أو أن موسى كان المصدر التقليدي الوحيد لهذه
التشريعات، لان التوراة قد ذكرت بكل وضوح وتأكيد : " وكتب موسى هذه التوراة "،
كما ذكرت بعد ذلك أن موسى " كتب هذا النشيد " (31 : 22) وهو النشيد
الموجود في الإصحاح الثاني والثلاثين.
وهذه
العبارات أما أن تكون صحيحة وأما أن تكون زائفة، ولا مهرب آخر من هذه النتيجة.
وليس ثمة سفر آخر في التوراة قد تأكد كاتبه بهذا الوضوح. أن كاتب هذه السطور يعتقد
اعتقادا جازما أن موسى قد كتب فعلا هذا السفر، وذلك للأسباب الآتية :
(1)
يتفق سفر التثنية ككل تماما مع كل ما نعرفه عن الزمن الذي عاش فيه موسى، كما انه
يتطابق تماما مع فترة نشوء تاريخ شعب إسرائيل، والوضع التاريخي من أول السفر إلى
آخره يشير إلى موسى كما أن ما ورد به من أسماء البلدان المجاورة : مصر، كنعان،
عماليق، عمون، موآب، وأدوم، هي نفسها البلدان التي ازدهرت في العصر الذي عاش فيه
موسى. وحيث أن سفر التثنية هو سفر الشريعة وتعاليمه مبنية على أساس الوصايا العشر
التي أعطاها موسى لشعبه، فلا بد أن موسى هو بالقطع كاتب هذا السفر. علاوة على ذلك
فان قوانين حمورابي التي سبقت زمن موسى ببضعة قرون، تجعل من المحتمل جدا أن يكون
موسى قد ترك تشريعات مقننة ومكتوبة.
(2)
أن سفر التثنية صدر من موسى، فلغة السفر هي لغة موسى. كما يظهر اسم موسى في السفر
نحو أربعين مرة باعتباره الكاتب الفعلي للسفر، كما يبدو ذلك من شيوع استخدام ضمير
المتكلم خلال السفر كله، مثل " وأمرت يشوع في ذلك الوقت " (3 :
21)،" وأمرت قضائكم في ذلك الوقت " (1 : 16)، " وأمرتكم في ذلك
الوقت " (1 : 18) فاللغة تفصح بكل تأكيد عن أنها لغة موسى التي نطق بها
لسانه.
(2)
سفر التثنية هو كتاب قانون عسكري، ودستور غزو، ومجموعة تحريضات. فلم يقصد به أساسا
أن يكون كتابا لبني إسرائيل وهم في البرية ولا عند أقامتهم في كنعان، بل كان القصد
منه أن يكون لهم وهم على التخوم وفي شوق إلى امتلاك ارض الموعد. لقد ذكر السفر
بوضوح أن موسى علم بني إسرائيل هذه الفرائض والأحكام لكي يعملوا بها في الأرض التي
كانوا على وشك أن يدخلوا إليها (4 : 5 و14، 5 : 31) فكان عليهم أن يطردوا سكان
البلاد الأصليين (7 : 1، 9 : 1 3، 20 : 17، 31 : 3). وفي أثناء حروبهم كان عليهم
أن يراعوا بعض الفرائض التي تتمشى والحكم الثيوقراطي (20 : 1 20، 23 : 9 14، 21 :
10 14، 31 : 6 و7). وفي النهاية وبعد أن يكونوا قد طردوا أعداءهم، كان عليهم أن
يستقروا في حياة زراعية، لا أن يعيشوا بعد هذا، كبدو رحل بل كمتحضرين في بلاد
متحضرة (19 : 14، 22 : 8 10، 24 : 19 21).
كل
هذه القوانين كانت تنظيمات ملزمة في المستقبل فقط. وبالإضافة إلى هذه القوانين،
هناك تحريضات نبوية بادية الأصالة، وأنها نابعة من نفس موسى.
وفي
الحقيقة، أن اعظم ما يميز سفر التثنية، هي خاصيته التحذيرية، فتحذيراته ليس لها
الطابع العسكري فحسب، كما لو كانت قد كتبت ليلة القتال، ولكنها المرة تلو المرة
تحذر بنى إسرائيل إلا يسمحوا لأنفسهم بان ينهزموا دينيا تحت إغراء عبادة الأوثان.
وباختصار،
فان هذا السفر هو رسالة شخص مهتم بمستقبل إسرائيل السياسي والديني، تسري فيه كله
روح أبوية تضفي عليه طابعا موسويا، وليس طابعا زائفا أو مصطنعا. وهذه هي الملامح
العامة التي تميز السفر كله والتي ترغم الإنسان على التسليم بان موسى هو كاتبه.
سابعا
سفر التثنية القي مرتين : هناك بعض الملامح في سفر التثنية تدعونا إلى الاعتقاد
بان هذا السفر قد تكلم به موسى مرتين، مرة للجيل الأول بين " حوريب "
و" قادش برنيع " في السنة الثانية لخروجهم من مصر، ومرة ثانية للجيل
الجديد في " سهول موآب " في السنة الأربعين لخروجهم من مصر.
وسنذكر
هنا بعض الاعتبارات التي تؤيد ذلك :
(1)
أسماء الأماكن المذكورة في مقدمة السفر هي أسماء أماكن جغرافية منفصلة ومتباعدة عن
بعضها كثيرا : " هذا هو الكلام الذي كلم به موسى جميع إسرائيل في عبر الأردن
في البرية في العربة قبالة سوف بين فاران وتوفل ولايان وحضيروت وذي ذهب " ثم
أضيف إليها : " أحد عشر يوما من حوريب على طريق جبل سعير إلى قادش برنيع
" (تث 1 : 1 و2). فإذا كان لهذه الأقوال الافتتاحية أي علاقة بمحتويات السفر
الذي تقدمه – فإنها تشير إلى مساحة واسعة من حوريب إلى موآب، كخلفية تاريخية
جغرافية للسفر. وبعبارة أخرى، يبدو أن سفر التثنية – في جزء منه على الأقل – قد
ألقي أولا في أثناء الطريق بين حوريب وقادش برنبع. ثم ألقي مرة ثانية فيما بعد،
عندما نزل بنو إسرائيل في سهول موآب. وفي الحقيقة، عندما كان موسى يتقدم نحو
الشمال من حوريب متوقعا أن يدخل كنعان من الجنوب – ألم يكن من الطبيعي أن يخاطب
الشعب حينئذ بما جاء في الإصحاحات من الخامس إلى السادس والعشرين ؟ وبعد ما تلقاه
من الجواسيس من تقارير غير مواتية، وبعد ما رأى من عدم إيمان شعبه، ثم اضطراره لأن
يظل متجولا لمدة ثمانية وثلاثين عاما، ألم يكن من الطبيعي أيضاً – وهو في موآب
وعلى وشك أن يعتزل خدمته – أن يكرر تحذيراته نفسها مطبقاً إياها على احتياجات
الجبل الجديد الذي تدرب على حياة الصحراء. وبعد أن جعل لها مقدمة تاريخية، هي
المسجلة في الإصحاحات الأربعة الأولى ؟
(2)
تكرار الإشارة إلى مدن الملجأ (4 : 41 – 43، 19 : 1 – 13). فعلى فرض أن الإصحاحات
من 5 – 26، تكلم بها موسى أولا بين حوريب وقادش برنيع في السنة الثانية للخروج،
فلا نتوقع أن يذكر في هذا القسم أسماء المدن الثلاث المختارة على الضفة الشرقية
لنهر الأردن. وهى لم تذكر في الواقع (19 : 1 – 13). حيث أن سيحون ملك الأموريين
وعوج ملك باشان لم يكونا قد انهزما بعد، وعليه فلم تكن مدن الملجأ قد حددت بعد
(انظر سفر العدد 35 : 2 – 14). وعلى النقيض من ذلك، نجد الأعداد " 41 – 43
" من الإصحاح الرابع من سفر التثنية – والتي تكون جزءا من المقدمة التاريخية
التي ألقيت في نهاية التجوال بعد أن انهزم سيحون وعوج وقسمت أرضهما – قد ذكرت مدن
الملجأ الثلاث على الضفة الشرقية – لنهر الأردن، وهو الأمر المنطقي المنتظر.
(3)
الأعداد 44 – 49 " من الإصحاح الرابع، يبدو أنها كانت مقدمة للإصحاحات "
5 – 26 " عند إلقائها لأول مرة بين حوريب وقادش برنيع
(4)
إن جملة " ابتدأ موسى يشرح هذه الشريعة " (1 : 5) توحي بان هذا المشرع
العظيم قد وجد من الضروري أن يشرح ما سبق له أن ألقاه، فالكلمة العبرية المترجمة
" يشرح " لا تستخدم في العهد القديم إلا في موضعين هما " التثنية
(27 : 8)، وحبقوق (2 : 2 وترجمت " ينقش ") وهي تعني يشرح أو يوضح.
(5)
هدف الكاتب الواضح في ربط الجيل الجديد بالأباء : " ليس مع آبائنا قطع الرب
هذا العهد، بل معنا نحن الذين هنا اليوم جميعنا أحياء " (تث 5 : 3) أي معنا
نحن الذين عاصرنا كل أحداث البرية.
في
ضوء هذه الحقائق، نستطيع أن نستنتج أن هذا السفر هو نتاج كل سنوات البرية
واختباراتها طيلة التسع والثلاثين سنة، من حوريب وما بعدها. وقد احدث به بعض
التعديل ليناسب مقتضيات حال الإسرائيلي عندما وقفوا بين الانتصارات المتوقعة على
الضفة الغربية. والانطباع الذي نحس به خلال هذا السفر هو أن عمل المشرع الشيخ كان
قد تم، وان عصرا جديدا في تاريخ الشعب كان على وشك أن يبدأ
أهم الشخصيات:
موسى.
أهم الأماكن:
مؤاب.
محور السفر:
+ الله خليلي : يهبني وصيته بحب فأطيعها، ويود اللقاء معي كما علي
جبل سيناء ويفتح فمي بالتسبيح ويجعل من حياتي بركة للآخرين.
+ التأسيس لمجيء المسيح
+ إعطاء الوصايا ومراجعة الناموس
+ الطاعة لله : التاريخ، الشرائع، المحبة، الاختيارات، التعليم.
غاية السفر:
العهد.
سفر التثنية هو سفر " العهد الإلهي " أو الحب، أعلن عن
هذا الحب نحو الإنسان مؤكدا لي موضعي الخاص لدي الله
+ أسير خلفه (تث 1 : 30، 33، 9 : 3) للدفاع عني وكقائد لي
+ محمولا علي ذراعيه (تث 1 : 31) أبوة حانية
+ يلتصق بي وأنا به (تث 10 : 15، 20) إنه واهب الحياة
+ في يديه (تث 33 : 3، يو 10 : 28، 29، أش 41 : 10) أجد رعاية
+ عند قدميه (تث 33 : 3، لو 10 : 39) أتعلم
+ بجواره (تث 33 : 12، نش 8 : 5) في صداقة إذ له جاذبيته
+ بين منكبيه (تث 33 : 12، لو 15 : 5) أجد شبعا وكفاية
سمات السفر:
+ يقدم موسى النبي لشعبه ثلاث عظات وداعية تحمل وصايا الله وذكريات
عمل الله معهم فيه نجد :
أ – موسى ثقيل الفم واللسان (خر 4 : 10) يصير أداة حية تنطق بكلمات
الله، لم تشغله شيء أكثر من تقديم كلمة الله فننعم بالحياة المطوّبة (تث 27).
ب – يعلن في اللحظات الأخيرة أنه لن ينسي ذكرياته الخاصة بالخروج من
أرض العبودية وبالالتقاء مع الله علي جبل سيناء وسط المجد الإلهي الفائق، كأن ما
يشغلني علي الدوام هو الحرية والمجد في المسيح يسوع.
ج – قدم نشيدا ختاميا ليعلن أن حياته مع ما اتسمت بها من الآلام هي
فرح وشكر وتسبيح لله.
د – قدم كلمات البركة لشعبه ليعلن أن مع ما اتسم به الشعب من غلاظة
قلب فانه يحتل قلبه الذي يبذل نفسه عن شعب الله ؛ صار موسى بركة لكل شعبه.
و- تسليم القيادة ليشوع، معلنا أنه كممثل للناموس يعجز تماما عن
الدخول بالشعب إلى أرض الموعد " لأن الناموس بموسى أعطي أما النعمة والحق
فبيسوع المسيح صارا (يو1 : 17)
+ تبرز أهمية هذا السفر بقوة في صراع السيد مع إبليس، فقد كانت
إجاباته ضد العدو كلها مقتبسة من هذا السفر (8 :3، 6 : 16، 6 : 13، 10 : 20).
+ كان اليهود ملتزمين بتنفيذ الوصايا حرفيا، أما بالنسبة لنا فنرى في
هذه الوصايا مفاهيم روحية جديدة تكشف عن الجوانب المتعددة بالسيد المسيح، فقد كان اليهود في
طفولتهم الروحية يلتزمون بالحرف، أما في العهد الجديد فنتلمس في هذه الوصايا
مفاهيم روحية عميقة ولا نقف عند الحرف الظاهر.
+ تبرز أهميته في استخدام السيد المسيح بعض عباراته في مقاومته
للعدو في التجربة على الجبل (3:8؛ 16:6؛ 13:6؛ 20:10).
+
لأول مرة نسمع عن لعنة الصلب على خشبة (22:21، 23) التي حملها السيد، كما أشار إلى
انتظار مجيء السيد المسيح (15:18، 19).
أصالة
السفر:
بحسب
التقيلد اليهودى، كتب السفر فى سهول موآب شرقى نهر الأردن، فى نهاية الأربعين
عاماً من رحلة البرية. وهو يغطى تقريباً أحداث أخر شهرين من هذه السنة الأربعين،
ومن حياة موسى العظيم فى الأنبياء.
موسى
النبى هو كاتب السفر. ماعدا
الجزء الأخير منه الذى يؤرخ لموت موسى فتنسب كتابته ليشوع بن نون. أو اليعازر
الكاهن.
وهاك
بعض الأدلة على كون موسى كاتبه
أ- التاريخ المفضل لكثير من أعمال ومعاملات شعب الله، يعلن ان كاتبه شاهد عيان.
فكثيراً ما نقرأ فيه
"
كلم موسى.00 دعا موسى.0 ذهب موسى " (5 : 1، 8 : 1، 27 : 9)
ب- كثيراً ما يتحدث بصيغة المتكلم
"
الرب الهنا كلمنا فى حوريب.0 " (1 : 6) " قلت لكم لاترهبوا ولا تخافوا
منهم " (1 : 29). " كلمنى الرب قرئلا ً " (2 : 17)
ج- تاكيداً على اختيار الله لموسى لكتابته أمره
بأن يكتب كل ملك نسخة من هذه الشريعة ليحفظها ويعمل بها (17 : 18) وان يكتب الشعب
نصوص الناموس الذى جاء بهذا السفر على نصب من حجارة لتكون نصب أعينهم دائماً (27 :
2، 13)
وقد سلمها موسى للكهنة والشيوخ وأمرهم ان يقرأوها فى مسامع الشعب فى عيد المظال من
كل سنة سبتية (31 : 9 – 13)
د- أسفار العهد القديم نسبت هذا السفر مثل الأسفار الأربعة الأخرى لموسى النبى (يش
1 : 7، قض 3 : 4، مز 103 : 7، ملا 4 : 4)
ه- السيد المسيح نفسه نسب السفر لموسى النبى (مت 19 : 7 – 9، يو 5 : 45 – 47).وهكذلك
كتاب العهد الجديد (أع 3 : 22، رو 10 : 19).
و- يكشف الحديث عن مدن الملجأ (تث 19) عن ان المتحدث والسامعين لم يكونوا بعد قد
دخلوا الضفه الغربية للأردن. ولم تكن قد تحددت بعد مدن الملجأ بالإسم. هذه قد حددها
يشوع بعد الاستيلاء على غرب الأردن.
ى- السفر لا يحوى عبارة واحدة تدل على انه كتب فى عصر لاحق لعصر موسى النبى، سوى
موته ودفنه.
موسى المعلم الأصيل:
لقد
أحرز هذا المعلم من بين رجال العهد القديم مقاماً سامياً وشهرة كبيرة. فانه كان
نبياً ومشترعاً ومؤرخاً وحاكماً. ولقد اجتمعت هذه الصفات فى شخص واحد، فلم نقرأ فى
التاريخ عن اسم يثير عواطف أمة كإسمه. للدرجة التى لم يعترضوا قط على أية وصية أو
تعليم كتبه.
وليس
كسفر التثنية – يسمو فيه مقام موسى حينما كانت حياته توشك على الانتهاء لينضم الى
آبائه. فنراه فى شيخوخته لم تضعف عزيمته ولا وهن نشاطه، بل أخذ يودع شعبه صافحاً
لهم عن جميع ما أغاظوه به، والتى كانت سبباً فى حرمانه من دخول أرض كنعان. لم يحقد
عليهم فى شىء بل فى منتهى الابتهاج بفرب الوصول سلمهم لقيادة يشوع.
ولما
جاءت ساعته الأخيرة، إمتثل فى هدوء لأمر الرب " اصعد الى جبل نبو وانظر أرض
كنعان ومت " وأطاع عند مثلما أطاعه فى حياته " مات هناك موسى عبد الرب
فى أرض موآب حسب قول الرب " (تث 34 : 5)
وان
كان قد حرم من دخول كنعان الأرضية، الا أن الرب أعد له كرامة أعظم. فقد ظهر مع
إيليا مع السيد المسيح فى تجليه وتحدث معه فى أخطر قضايا الكون، موت ربنا بالجسد.
هذا
ويمكننا تلخيص منهجه كمعلم فى الآتى:
أ) البداية المتضعة تؤهل لمزيد من عطاء المعة فتضع معلماً جديراً بالدهشة، فها هو
ثقيل الفم واللسان يصير كليم الله
ب) كل أحاديثه تلمح فيها امتزاجاً واضحاً بالمحبة العلمية لشعبه.
ج) قدرة عجيبة على التعامل مع الأجيال الجديدة، فها هو فى سفر التثنية يتعامل
ويخاطب الجيل الجديد وقد صار عمره 120 سنة
د) لم يعرف اليأس مطلقاً، بل سيطرت البهجة بالمواعيد دوماً عليه. وها هو فى سن 120
يقدم أغنية جديدة للرب.
و) معلم مستقبلى يتطلع بعينى قلبه الى المستقبل فيدبر شعبه عبر طول الرحلة.
أقسام
السفر
هيكل السفر يقوم على ثلاث عظات. بخطة فائقة محددة. العظتان الأولى والثالثة
مختصرتان، بينما الثانية جاءت، طويلة جداً تمثل جسم السفر.
العظة
الأولى (1 : 4)
فيها بيان معاملات الله مع شعبه، أبائهم، للحث على الطاعة وتقديم الشكر له، بهدف
تثبيت الايمان (1 : 31 – 2 : 7)
أ-الأمر بالارتحال من حوريب الى فلسطين (1)
ب- التحرك العملى (2، 3)
ج- أهمية الطاعة وحفظ الوصايا (4 : 1 – 40)
د- مدن الملجأ.00 نتيجة لما سبق (4 : 41 – 34)
العظة
الثانية (5 : 28)
أ-
العهد والوصايا العشر فى رؤية تطبيقية (5 – 11)
ب-
دستور الشريعة (12 – 28)
العبادة
(12 – 16)، الوظائف (16 – 18) أعنى : القاضى – الملك – الكاهن – النبى، القانون
الجنائى (19، 21) – القانون العسكرى (20) – شرلئع متنوعة (21 – 25) – البكور
والعشور (2) البركات واللغات (27، 28)
العظة
الثالثة (29، 30)
فيها
حث على الإرتباط باعهد المقام فى حوريب ومآب (29 : 1) تمهديد لكاسرى العهد مع فتح
باب الرجاء فى التوبة – سهولة الوصية (30 : 11) – تقديس الله للحرية الانسانية (30
: 15).
أعمال
ووصايا ختامية (31 – 34)
اقتباسات
من سفر فى العهد الجديد
وتعتبر
ملحقاً للعظات الثلاث وفيها :
يشوع
يعين خليفة لموسى (31 – نشيد ختامى (32) – بركة الأسباط (33) – نياحة موسى (34)
هناك
ما لا يقل عن 80 إقتباساً فى العهد الجديد من سفر التثنية نورد منها هنا على سبيل
المثال
السفر
له مركز خاص فى تعليم المسيح وحواراته. يتضح ذلك من : حواره مع المجرب كما وضح فى
الجدول السابق، العظة على الجبل (مت 5 : 31 مع تث 24 : 1) وفى اجابته لأحد الكتبة (مر
12 : 3 مع تث 6 : 5). كما أقتبس منه لما لخص التاموس (مت 22 : 37).
المسيح فى سفر التثنية:
*أ)
قال موسى " يقيم الرب الهك نبياً من وسطك من أخوتك مثلى له تسعون " (تث
18 : 15)
وعن
هذه النبوة ذكر بطرس السول والقديس اسطفانوس ان المقصود بهذه النبوة شخص ربنا يسوع
(أع 3 : 22، 7 : 37)
ولنلاحظ
بعضا أوجه المشابهة بين موسى والمسيح
أولا
: أحداث من حياتهما
نجا كل منهما فى طفولته من مؤامرة ملك، موسى من فرعون، والمسيح من هيرودس (خر 2 –
مت 2). وأحاط بكل من المؤامرتين مأساة استشهد فيها عدد كبير من الأطفال.
كلاهما
هرب من وجه ملك، هرب موسى الى مديان من وجه فرعون (خر 2 : 15) وهرب المسيح الى مصر
من وجه هيرودس (مت 2 : 13 – 15)
كل
منهما خرج لإفتقاد شعبه، فموسى كان يترك القصر ليفتقد بنى جنسه وينظر فى أثقالهم (خر
2 : 14) والمسيح ترك السماء ليفتقد البشرية.
تنازل
كل منهما عن مركزه ومجده لأجل شعبه
شهادات من أسفار العهد الجديد:
جاء
في العهد الجديد أكثر من ثمانين شاهداً من سفر التثنية، نذكر بعضها:
1
– ردّ الرب يسوع على إبليس الذي جاء ليُجرِّبه بعد أن صام أربعين نهاراً وأربعين
ليلةً، وكانت ردوده كلها بما هو مكتوب في سفر التثنية: (تث 8: 3؛ 6: 16؛ 6: 13؛
10: 20).
2
– أشار الرب يسوع إلى أن موسى هو الذي أَذِنَ لبني إسرائيل أن يُطلِّقوا نساءهم
وذلك لقساوة قلوبهم، ولكن من البدء لم يكن هكذا، لأن موسى نفسه الذي كتب سفر
التكوين هو الذي قال إن الذي خلق من البدء خلقهما ذكراً وأُنثى، من أجل هذا يترك
الرجل أباه وأُمه ويلتصق بامرأته، ويكون الاثنان جسداً واحداً. وهذا يعني أن موسى
هو الذي وضع حُكْم الطلاق الوارد في تث 24: 1-4.
3
– ذَكَرَ القديس متى (18: 16) أنه على فم شاهدين أو ثلاثة تقوم كل كلمة مقتبساً
ذلك من سفر التثنية (تث 17: 2-6؛ 19: 15).
4
– ذكر القديس لوقا في إنجيله (لو 24: 44،27) بأنَّ الرب يسوع عندما التقى بعد
قيامته بتلميذَي عمواس «ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يُفسِّر لهما الأمور
المختصة به في جميع الكتب».
5
– كما يتضح أن بولس الرسول هو الآخَر كان مقتنعاً بأن موسى هو كاتب سفر التثنية،
إذ اقتبس منه ما كتبه في رسالته الأولى إلى كورنثوس: «فإنه مكتوب في ناموس موسى:
لا تَكُمَّ ثوراً دارساً» (1كو 9: 9؛ تث 25: 4).
6
– وفي رسالته إلى العبرانيين، اقتبس بولس الرسول ما ذكره موسى النبي في سفر
التثنية كقول المسيح «إن شهادة رجلين حق» (يو 8: 17)، إذ يقول: «مَن خالف ناموس
موسى فعلى فم شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة» (عب 10: 28؛ تث 17: 2-6؛ 19:
15).
7
– جاء في سفر أعمال الرسل إن «موسى قال للآباء: إن نبيّاً مثلي سيُقيم لكم الرب
إلهكم من إخوتكم، له تسمعون في كل ما يُكلِّمكم به. ويكون أن كل نفس لا تسمع لذلك
النبي تُباد من الشعب» (أع 3: 23،22؛ 7: 37). وهو نفس ما تنبَّأ به موسى في سفر
التثنية (18: 19،18،15).
إلى
غير ذلك من النصوص التي تصل إلى أكثر من ثمانين نصّاً كما ذكرنا، اقتُبسَت من سفر
التثنية في العهد الجديد.
ويجدر
بنا أيضاً أن نذكر ما يمكن استشفافه من نفس السفر من أسباب تدعونا إلى اعتبار سفر
التثنية من كتابة موسى النبي وفي عصره، نذكر منها:
1.
الأسلوب الذي كُتِبَ به السفر يتوافق في أسلوبه مع الأسفار السابقة التي نُسِبَت
إلى موسى النبي، وهي: التكوين والخروج واللاويين والعدد؛ حيث تبدو روحه الحماسية
وغيرته الحارة على خلاص شعبه والتصاقهم بالرب الذي خلَّصهم من أرض العبودية،
وقادهم في البرية طوال الأربعين سنة. وها هو على وشك أن يورِّثهم أرض الموعد،
الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً. كذلك نجده في هذا السفر يُعيد عليهم كل ذكريات
الماضي بكل حلوها ومرِّها، لكي يأخذوا لأنفسهم عبرةً من سقطاتهم ومن مراحم الرب
وإحساناته عليهم، مُنذراً ومُحذِّراً ومُشدِّداً على وجوب تمسُّكهم بوصايا الرب
إلههم الذي اختارهم له شعباً خاصاً من بين جميع الشعوب.
2.
كما يبدو من السفر أنه يُناسب عصر موسى النبي، وليس عصر يوشيَّا الملك كما يدَّعي
بعض الدارسين. فمن الجانبين التاريخي والجغرافي يظهر متوافقاً مع الفترة بين
الخروج من أرض مصر ودخول أرض الموعد.
3.
يحوي السفر تحريم الأُمم والشعوب التي في أرض كنعان، وعدم إقامة عهود معهم (تث 7:
1-5؛ 20: 17)، مما يدل على أن السفر قد كُتب في الزمن الذي سبق دخولهم إلى أرض
كنعان.
4.
ذُكِرَ أيضاً في سفر التثنية ما يفيد الأمر بمحو ذِكْر عماليق من تحت السماء (تث
25: 17-19). ولم يتم ذلك إلاَّ بعد دخولهم أرض الموعد.
5.
الوصية الخاصة بأخي الزوج الميت الذي يأبَى أن يُقيم نسلاً لأخيه بزواجه من امرأة
أخيه الذي مات، والتي جاء ذِكْرها في سفر راعوث (را 4: 7) في عصر القضاة، تدل على
أنها وصية قديمة وردت في سفر التثنية قبل عصر القضاة.
6.
تنبُّؤ موسى عن شعبه بأنه سيطلب أن يجعل لنفسه ملكاً كجميع الأُمم الذين حوله،
وتحذيره لهم بأن يكون الملك من بين إخوتهم مِمَّن يختاره الرب لهم، وأن لا يُكثِّر
لهم الخيل ولا يردَّهم إلى مصر، وسائر تحذيراته الأخرى لذلك الملك، والتي وردت في
(تث 17: 14-20). هذه جميعها تدل على أن هذا السفر قد كُتِبَ قبل عصر الملوك.
7.
يكشف الحديث عن مدن الملجأ الذي جاء في (تث 19)، أنها لم تكن قد تحدَّدت بعد
بالاسم، إذ قد تم تحديدها في أيام يشوع بن نون بعد الاستيلاء على أرض الموعد.
8.
لا يوجد في سفر التثنية ما يدل على أنه كُتِبَ في عصر لاحق لعصر موسى النبي سوى ما
جاء في الأصحاح الأخير من السفر عن موته ودفنه (تث 34: 1-12).
النظرية النقدية:
يرجع
بعض النقاد في العصر الحديث باصل سفر التثنية إلى تاريخ متأخر مدعين انه قد نشر في
621 ق.م. عندما وجد حلقيا " سفر الشريعة " في بيت الرب في السنة الثامنة
عشرة للملك يوشيا (2 مل 22 : 8 11)، وان سفر الشريعة الذي اكتشفه حلقيا هو سفر
التثنية.
ولذلك
يقول أحد النقاد (د. أ. سميث) : " أن شريعة مثل شريعة سفر التثنية لا يمكن أن
تتم في لحظة، وإنما هي تعبر عن النتائج التدريجية للعمل المستمر لروح الله الحي في
قلوب شعبه ". ويقول آخر (د. درايفر) : " أن سفر التثنية يمكن أن يوصف
بأنه إعادة صياغة نبوية لتشريعات قديمة، وتطويرها لتلائم احتياجات جديدة. ومن
المحتمل انه كان هناك تقليد إذا لم يكن هناك سجل مكتوب لخطاب تشريعي نهائي ألقاه
موسى في سهول موآب. وتكون الخطة التي اتبعها الكاتب مرتكزة على دافع اكثر وضوحا،
إذا كان قد اعتمد هكذا على أساس من التقليد. ومهما كان الأمر، فان الجزء الأكبر من
التشريعات الموجودة في سفر التثنية، اقدم عهدا من زمن الكاتب نفسه. وبالضرورة يكون
الشيء الجديد في سفر التثنية هو الشكل وليس الموضوع.. وعليه يكون العنصر الجديد في
سفر التثنية هو الإطار الذي وضعت فيه الشرائع وليس الشرائع نفسها ".
هذا
العرض الدقيق للموضوع قد لا يلقى معارضة قوية، لو لم تكن نظرية د. سميث ود. درايفر
مرتبطة بدعاوى ومزاعم أخرى تصل إلى حد ادعاء أن موسى في القرن الخامس عشر قبل
الميلاد لم يكن في استطاعته إعلان مثل هذه العقيدة السامية من التوحيد وأن "
كاتب سفر التثنية هو الخليفة الروحي لهوشع " وان هناك تناقضات بينه وبين بعض
الأجزاء الأخرى من الأسفار الخمسة، وان تعدد المقادس كان مسموحا به قانونا في
التاريخ الإسرائيلي القديم حتى القرن الثامن قبل الميلاد، وانه لا يوجد أي اثر
للتعاليم الأساسية لسفر التثنية مكتوب، في الأدب العبري حتى عصر ارميا النبي، وان
السفر كما نعرفه قد كتب في الأصل كمنهاج للإصلاح، لا بواسطة موسى، ولكن باسم موسى،
كنوع من التزييف أو الكتابة المزورة. فمثلا يقول " ف. ه. وودز (F.H. Woods) : " مع انه ليس من المحتم قبول نظرية التاريخ المتأخر، فان
معظم النقاد يعتقدون أن سفر التشريعة هذا هو نتيجة لحيلة دينية بارعة أذاعها حلقيا
وشافان بقصد خداع يوشيا ودفعه إلى الاعتقاد بان الإصلاحات التي يريدانها هي تنفيذ
لأمر الهي صريح لموسى ".
ولكن
بعض النقاد لا يذهبون في نقدهم إلى هذا المدى، ولكنهم يقولون أن سفر الشريعة الذي
اكتشفه حلقيا، والذي كان السبب في إصلاحات يوشيا في 621 ق.م. لم يكن إلا جزءا من
سفر التثنية وليس من سفر آخر. ولكن ثمة اعتبارات تعارض هذه النظرية :
(1)
يؤكد سفر التثنية مركزية العبادة في مقدس واحد (تث 12 : 5) أما إصلاحات يوشيا
فكانت موجهة ضد عبادة الأوثان بصفة عامة (2 مل 23 : 4 20).
(2)
جاء في سفر التثنية : " إذا جاء لاوي من أحد أبوابك من جميع إسرائيل (خارج
أورشليم) حيث هو متغرب.. وخدم باسم الرب إلهك مثل جميع اخوته اللاويين الواقفين
هناك أمام الرب، يأكلون أقساما متساوية " (تث 18 : 6 8). أما في أيام يوشيا
فإن كهنة المرتفعات لم يصعدوا إلى مذبح الرب في أورشليم بل أكلوا فطيرا بين اخوتهم
" (2مل 23 : 9). وطبقا للنظرية النقدية، فان كلمتي " اللاويين "
و"الكهنة" مترادفتان.
(3)
أن إصلاحات يوشيا تستند إلى سفر الخروج بالقدر الذي تستند فيه إلى سفر التثنية (خر
20 : 3، 22 : 18 و20، 23 : 13 و24 و33، 34 : 13 و14 17).
(4)
أن سفر الشريعة الذي وجده حلقيا، أدرك الجميع لأول وهلة انه مجموعة القوانين
القديمة التي عصاها الآباء، وقالوا انه " عظيم هو غضب الرب الذي أشتعل علينا
من أجل أن آباءنا لم يسمعوا لكلام هذا السفر " (2 مل 22 : 13). فهل كانوا
جميعهم مخدوعين بما فيهم النبي ارميا نفسه (ارميا 11 : 3 و4) ؟.
ويقول
ريفن (Raven) في مقدمته للعهد القديم : " كان هناك أناس كثيرون في يهوذا،
لديهم دوافع قوية لكشف هذا التزييف لو كان ثمة تزييف ".
(5)
أن الإنسان ليعجب، لماذا يدمج هذا العدد الكبير من الشرائع القديمة المهجورة،
والتي لم يكن لها أهمية أو مكان في عصر يوشيا، في مجموعة قوانين كان الدافع القوي
إليها هو إصلاح عصر لا رجاء في إصلاحه بغير ذلك، مثل الأمر باستئصال الكنعانيين
الذين لم يكن لهم وجود منذ زمن بعيد (تث 7 : 18 و22)، ومحو ذكر عماليق (تث 25 : 17
19) الذين انمحت البقية الباقية منهم في زمن الملك حزقيا (1 أخ 4 : 41 43). وينطبق
هذا الأمر على الشرائع الواردة في سفر التثنية بخاصة مثل بناء ا لحوائط لسطوح
المنازل (تث 22 : 8) وسرقة أعشاش الطيور (تث 22 : 6 و7)، ارتداء ثياب الجنس الآخر
(تث 22 : 5)، والخروج إلى الحرب (تث 20 : 1 9).
(6)
من الملفت للنظر بشدة، انه لو كان سفر التثنية قد كتب كما يزعمون قبل عصر يوشيا
بقليل، فلا بد أن تكون به دلائل تاريخية تدل على انه قد كتب بعد عصر موسى، ولكن
ليس فيه أي تلميحات عن الانقسام بين يهوذا وإسرائيل، ولا أي إشارة إلى اضطهاد
آشوري عن طريق فرض الجزية، ولا أي تهديدات بنفي بني إسرائيل إلى أشور أو بابل،
ولكن إلى مصر فقط (تث 28 : 68). كما لم يرد ذكر لأورشليم مطلقا. ومن وجهة نظر
الكتابة الأدبية، يكاد يكون من المستحيل نفسيا وتاريخيا أن يستطيع الكاتب أن يخفي
كل آثار عصره وظروفه فلا تظهر في كتاباته. ومن ناحية أخرى لم يكتشف أي عالم من
علماء المصريات أي مفارقة تاريخية في سفر التثنية فيما يختص بالأمور المتعلقة
بمصر. ومن البداية إلى النهاية، يرسم الكاتب صورة للأحوال الواقعية لعصر موسى.
وعليه فمن الصعب أن نصدق كما يزعمون أن كاتبا لاحقا يحاول أن يقوم في الخيال
بإحياء الماضي.
(7)
الحجة الرئيسية التي يستندون إليها في تأييد رأيهم في أن سفر التثنية قد كتب في
عصور في عصور متأخرة، هي تعاليمه المختصة بوحدة المقدس. ويقولون أن تعدد المقادس
كان مسموحا به قبل إصلاحات يوشيا، ولكن لدحض هذه الحجة يمكننا أن نشير وبحق إلى
إصلاحات حزقيا (2 مل 18 : 4 و22) كحركة في اتجاه الوحدة، بل هذا ما نجده أيضاً في
سفر الخروج (20 : 24) ولكن ما يستندون إليه في القول بتعدد المقادس عندما يفسر
تفسيرا صحيحا إنما يعنى انه كان يسمح بإقامة المذابح حيثما يصنع الرب لاسمه ذكرا،
وذلك في أثناء التجوال في البرية وفى عصر القضاة، أي حيثما توجد خيمة الاجتماع.
ويعزز
هذا التفسير بل وفي الحقيقة يؤكده الوصية التي جاءت في سفر الخروج (23 : 14 19)
وهي أن يعيد شعب إسرائيل ثلاث مرات كل سنة، فيذهبون إلى بيت الرب حيث يقدمون
تقدماتهم. ومن الجانب الآخر، فان تأكيد سفر التثنية على وحدة المقدس، كثيرا ما
يبالغ في تفسيره. أن سفر التثنية لا يحتم هذه الوحدة إلا بعد هزيمة كل أعداء
إسرائيل، " عندما " يريحهم الرب من جميع أعدائهم، فحينئذ " يحملون
تقدماتهم إلى المكان الذي يختاره الرب " (تث 12 : 10 و11). وكما يقول "
دافيدسن " (Davidson) : " انه لم يكن قانونا للتطبيق الفوري عند دخولهم كنعان،
ولكن بعد أن يريحهم الرب من أعدائهم الذين حواليهم، أي ابتداء من عهد داود، أو
بأكثر تحديد من عهد سليمان، لأنه لم يتحدد المكان الذي اختاره الرب ليحل اسمه فيه
إلا بعد بناء الهيكل ".
كما
لا يجب أن ننسى أن الرب قد أوصى في سفر التثنية ببناء مذبح في جبل عيبال (تث 27 :
5 و6). وفي الحقيقة أن وحدة المقدس إنما تأتي نتيجة للإيمان باله واحد، وإذا كان
موسى قد نادى بالإيمان باله واحد، فمن المرجح أيضاً أن يكون قد أوصى بوحدة
العبادة. ومن الناحية الأخرى إذا كان أنبياء القرن الثامن قبل الميلاد هم الذين
جاءوا بالإيمان باله واحد، فلا بد أن تكون وحدة المقدس من نفس القرن أيضاً.
(8)
وثمة حجة أخرى يقدمونها وهي ما يزعمونه من تعارض بين ما جاء من أوامر بخصوص الكهنة
واللاويين في سفر التثنية، وبين ما جاء عنهم في سفري اللاويين والعدد، ليؤيدوا أن
سفر التثنية قد كتب في زمن لاحق. فهناك تمييز قاطع بين الكهنة وبين اللاويين في
سفر العدد (16 : 10 و35 و40) بينما يخلط سفر التثنية بين الفريقين باعتباره كل
الكهنة لاويين وكل اللاويين كهنة (تث 18 : 1 8). ولكن هذا الفصل من سفر التثنية في
الحقيقة لا يعهد إلى اللاوي بمهام كهنوتية، بل بوظائف اللاويين (تث 18 : 7)، وكما
يقول بعض العلماء : " أن الفكرة هنا هي أن كل اللاويين لهم مكانتهم في المقدس
ولهم امتيازاتهم. ومن المعلوم انه إذا كان اللاوي كاهنا، فله أن يخدم وينال نصيبه
مثل بقية اخوته الكهنة. أما إذا لم يكن كاهنا يتمتع بامتيازات اخوته اللاويين وليس
الكهنة ". ويقرر سفر التثنية انه غير مسموح إلا لسبط لاوي بممارسة المهام
الكهنوتية، وبهذا يقصر الامتيازات الكهنوتية على سبط واحد فقط، الأمر الذي يتفق
تماما مع ما جاء في سفري اللاويين والعدد.
(9)
وقد قدم مؤخرا البروفسور " إدوارد نافيل " (Ed Naville) عالم الآثار المصرية، نظرية لا باس بها عن اصل سفر الشريعة الذي
اكتشفه حلقيا. فبناء على العادة المصرية القديمة في دفن نصوص أجزاء من " كتاب
الموتى " تحت أقدام تماثيل الآلهة، وداخل أساسيات حوائط المعبد كما حدث في
هرموبوليس، يستنتج نافيل أن سليمان عندما بنى الهيكل، من المحتمل جدا أن يكون قد
وضع نسخة من سفر الشريعة في الأساسيات، وعندما كان عمال يوشيا يرممون هذا الصرح،
ظهرت هذه الوثيقة التي طال نسيانها، وأعطيت لحلقيا الكاهن. وعندما فحص حلقيا
الوثيقة، لم يستطع قراءتها، فاستدعى شافان الكاتب الذي كان اكثر خبرة منه في حل
رموز الوثائق القديمة، وأعطاه اللفافة المقدسة فقراها شافان لحلقيا ثم للملك،
ولعلها كانت مكتوبة بالخط المسماري. وطبقا لرأي نافيل، فسفر الشريعة الذي وجده
حلقيا والذي يعتبره نافيل هو وسفر التثنية شيئا واحدا لا بد أن تاريخه يرجع إلى
عصر سليمان على الأقل.
وهناك
عالم آخر هو " جيدن " (Geden) يرى رأيا مشابها بخصوص تاريخ كتابته، فيرجع إلى الفترة المزدهرة
في عصر داود واتحاد المملكة. ولكن لماذا لا ننسب السفر إلى كاتبه التقليدي ؟
بكل
تأكيد لا يمكن أن يكون هناك أي اعتراض منطقي على هذا في ضوء اكتشاف قانون حمورابي
الشهير الذي يسبق عصر موسى بعدة مئات من السنين. ولا يوجد عصر آخر يعلل لنا جيدا
نشأته مثل عصر ذلك المشرع العظيم الذي يقول انه هو الذي كتبه.
وتاريخ
محاولات تقسم السفر يبين لنا إلى أي مدى يمكن أن تقودنا الطريقة الخاطئة، فكل ناقد
يقسمه بطريقة تختلف عن الآخرين مما يبين مدى التخبط. فليس ثمة نظرية مقنعة مثل تلك
التي تعزو السفر إلى موسى كما يذكر سفر التثنية نفسه (تث 31 : 22 و24).
ويسمّي
القانون العبريّ سفر التثنية بأولى كلماته : إله دباريم. إليك الكلمات. واستعملت
السبعينيّة اسم تثنية أي تكرار الشريعة أو التشريع الثاني (رج 17 : 18 حسب
السبعينيّة). ولكن نصّ 17 : 18 لا يعني تشريعًا ثانيًا، بل نسخة ثانية عن الشريعة
الواحدة. واسمُ سفر التثنية لا يوافق الكتاب، إلاّ لأنّه يتضمّن مواضيع تطرّق
إليها الكاتب الملهم سابقًا وخاصة لأنّ فيها تكرارًا للشريعة (ف 5؛12-26).
ثانيًا
: المضمون. هناك الشرائع والفرائض، وهناك أخبار أحداث حصلت في سهل موآب في عبر
الأردنّ. قبل أن يموت موسى خارج أرض الميعاد، ألقى عددًا من خطبات الوداع : حذّر
فيها شعبه من الأخطار المقبلة، ردّد أمام الشعب وصايا الله، وشدّد على الأسباب
التي تدفعهم لكي يمارسوا وصايا يهوه (رج يش 23 : 1 ي). لا تورد الأخبار الأحداث
بطريقة متتابعة، بل تذكر بعضًا منها، وتشدّد على مدلول ما جرى وقت الخروج والإقامة
في سيناء، فتشكّل إطارًا لفرائض الشريعة وللحضّ على الأمانة لها في المستقبل (6 :
20-25). وتنقسم هذه المجموعة من الخطب والشرائع والأخبار كما يلي : (أ) 1 : 1-4 :
43.
أوّل
خطبة (بشكل مقدّمة). تتضمّن توطئة تاريخيّة (1 : 1-5)، وملخّصًا لأحداث طبعت عبور
الصحراء بطابعها (1 : 6-4 : 40)، وملحقًا عن مدن الملجأ في شرقيّ الأردن (4 :
41-43). (ب) 4 : 44-11 : 32.
خطبة
ثانية (بشكل مقدّمة). تتضمّن توطئة (4 : 44-49) وحضًا طويلاً على الأمانة (5 :
1-11 : 32). العهد والشريعة هما عطيّة حبّ الله. وإتمام الفرائض يستند إلى حبِّ
شعب يعرف الجميل. (ج) 12 : 1-26 : 19. نجد هنا صلب الشرائع بحصر المعنى. يشكّل هذا
القسم مجموعة من الفرائض المتفرّقة. ويعطي ف 27-28 خاتمة الخطبة الثانية التي
يوجّه فيها الكاتب نظره نحو المستقبل ويحضّ الشعب على الأمانة. (د) 29-30.
الخطبة
الثالثة والأخيرة عن العهد المجدّد في أرض موآب. (ه) 31-34. يتضمّن هذا القسم آخر
كلمات موسى ووصيّته وبركته على القبائل وخبر موته.
ثالثًا
: أصل الكتاب. مضت أجيال واليهود والمسيحيّون يعتبرون التثنية قسمًا من
البنتاتوكس. نسبوه بسبب شهادته إلى موسى. وفي القرن التاسع عشر قال النقّاد : إن
التثنية هو كتاب الشريعة الذي وُجد في الهيكل على أيام الملك يوشيا (2مل 22 : 8)
وهذا ما قاله بعض الآباء في الماضي. وزادوا بأنه تم الوحى بهذا الكتاب في أيام
يوشيا أو قبله بزمن قليل. وقالوا إن محاولة الإصلاح في ذلك الوقت اعتمدت على سلطة
موسى فتحدّثت عن اكتشاف. من السهل أن نبرّر إصلاحات جذريّة حين يكون بين يدينا
دستور قديم. وأهم إصلاح في ذلك الوقت هو البرهان الحاسم على أنّ التثنية دُوّن بعد
موسى. وهذا الإصلاح الذي يسيطر على التثنية (ف 12)، يمنع تقدمة الذبائح إلاّ في
مكان واحد، في أورشليم.
فبعد
موسى، اعتبر بنو إسرائيل أنّ أماكن عديدة للعبادة يمكن أن تكون شرعيّة (خر 20 :
24؛ 1مل 3 : 4، 19 : 10..). أزالها يوشيا بسبب التجاوزات التي دخلت عليها، وشدّد
على مركزيّة العبادة ليراقب ممارسة الشريعة بطريقة فاعلة.
لم
يقبل بهذه النظرة المدافعون عن صحّة نسبة البنتاتوكس إلى موسى. فرفضوا أن يكون
التثنية دوّن بعد موت موسى بخمسة أجيال.
وكانت
مناقشات لم تنته بعد، زعمت أن التثنية كما نعرفه لم يُكتب بيد موسى. فخبرُ موت
موسى والفصلان الشعريان 32-33 كانت في البداية مقاطع مستقلّة. ثمّ إن الكتاب نفسه
هو نتيجة نموّ متدرّج وأكثر من عمل كاتب واحد، وذلك بسبب التكرارات واختلاف
العقليّة وتعدّد البواعث المقدّمة، وتنوّع الأسلوب. ثمّ إذا عدنا إلى تاريخ أصل
البنتاتوكس وحافظنا على صحّة نسبته إلى موسى، لن نتعلّق بمسألة تدوين أسفار موسى
التدوينَ النهائيّ. نحن نهتمّ اليوم بتاريخ التقاليد الشفهيّة والخطيّة التي وصلت
إلينا في كتابات جاءت بعد موسى. فإذا ربطنا هذه النصوص السابقة بموسى، نوفّق
معطيات النقد الحديث والرأي التقليديّ عن صحّة نسبة البنتاتوكس إلى موسى.
يعتقد
بعض الشرّاح أن سفر التثنية هو الكتاب الذي وُجد في أيام يوشيا وأن التقليد
الاشتراعي كما هو موجود في التثنية، لم يبرز تمامًا إلاّ في ذاك العصر. فبتأثير
كرازة الأنبياء، وردّة فعلهم ضدّ التأثير الوثنيّ على المعابد المحلّية (يعود
الأنبياء إلى موسى بصورة واضحة)، وبعد سقوط مملكة السامرة سقوطًا ذريعًا، وُلد
تيّار في يهوذا من أجل العودة إلى عبادة يهوه عبادة حقيقيّة. فعادوا إلى فكر موسى
وتأثّروا بالتقاليد الحيّة وتكيّفوا حسب ظروف الحياة الجديدة. كلّ هذا أثار في
الأوساط الكهنوتيّة تدوين أخبار وتحريضات وشرائع التثنية، وهي كلّها أساس إصلاحات
يوشيا. إذًا لن نبحث عن صحّة نسبة التثنية إلى موسى في التدوين نفسه، بل عن قدَم
تقاليد عديدة وفرائض أُدرجت في الكتاب وفي واقع يجعلنا نقول إنّ كل ما دُوّن قد
دُوّن حسب روح موسى الصحيحة.
رابعًا
: اللاهوت الاشتراعيّ. يتميّز سفر التثنية عن سائر أسفار البنتاتوكس بأفكاره
وميوله وأسلوبه الخاص. بالنسبة إلى الأفكار : هناك إله واحد، هيكل واحد، عبادة
واحدة (4 : 35، 39؛ 6 : 4؛ 12 : 4؛ 14 : 23). إذا أقرّ إسرائيل بهذا، كان شعبًا
سعيدًا. وهناك شيء مهمّ هو الزاوية التي منها يتطلّع التثنية إلى العلاقة بين الله
وإسرائيل، ويتكلّم عن العهد والشريعة. فالسبب الرئيسيّ لاختيار إسرائيل هو حبُّ
الله (4 : 37؛ 7 : 8؛ 10 : 15؛ 23 : 6). وبسبب هذا الحبّ يكون تتميم شروط العهد
والشريعة لبني اسرائيل موضوع واجب حبّ عارف بالجميل (6 : 5؛ 11 : 1؛ 13 : 4؛ 19 :
9). فالخطيئة هي قبل كل شيء عقوق ونكران جميل. وهي أيضاً إساءة لمصالح بني
إسرائيل. فإن كان شعب إسرائيل بسلوكه أهلاً لهذا الحبّ الإلهيّ، نال البركة
والازدهار والسعادة (4 : 1؛ 5 : 33؛ 6 : 1-3؛ 11 : 13). وإن بدا عاقًا وما تجاوب
مع هذا الحب، يُعاقَب ويعرف الشقاء والفشل (11 : 26-28). والتاريخ الحاضر هو أكبر
برهان على ذلك. ويعبِّر التثنية عن أفكاره ويتوسّع فيها بأسلوب خاص بالكتاب. يريد
التثنية أن يُقنع، فيتكلّم إلى العاطفة، إلى القلب. ويبدو أسلوبه أسلوب واعظ يلج
إلى الأعماق (4 : 5-7؛ 9 : 21؛ 6 : 1 ي). وحتى النصوص التشريعيّة والفرائض
القانونيّة التي تبدو ناشفة وبعيدة في غير مكان، تدوَّن هنا بطريقة مباشرة وناعمة
وكأنّها شروط نخضع لها طوعًا (6 : 10 ي؛ 8 : 14). نحن أمام النصيحة والتحريض، لا
أمام الأمر والمنع (12 : 28، 31؛ 15 : 1 ي). وإنّ الأفكار والشكل والأسلوب التي
تَحدَّثنا عنها هنا، تظهر عند الأنبياء ولاسيّمَا عند هو وإر، وفي الكتب
التاريخيّة (يش، قض، صم، مل). هذه الأفكار تبدو واضحة في التثنية بحيث نسمّيها
اشتراعيّة إن وردت خارج التثنية. أما مكانة هذه الأفكار في تطوّر الفكر الدينيّ
لدى بني اسرائيل، فننسبها إلى طريقة تفكير الأنبياء وأقوالهم. وهذا التأثير ظاهر
بصورة خاصّة مع هوشع وحزقيال وإشعيا وإرميا. ثمّ إننا عندما نتكلّم عن عبارات
تميّز العقليّة الاشتراعيّة، فنحن لا نقول إنّه كان هناك مراجعة منظّمة للأسفار
على ضوء التثنية. ولكن هناك نظرات حيّة في بعض الأوساط ألهمت الكتّاب الملهمين من
أجل تدوين كتبه
وسفر
التثنية هو تلخيص للشريعة التي نادى بها موسى على جبل سيناء. فبعد مرور أربعين سنة
على الخروج من مصر، كان لابد من تكرار الشريعة على مسامع الجيل الجديد، الذين
كانوا في ذلك الوقت معسكرين في سهول موآب، وقد أوشكوا على دخول أرض الموعد (تثنية
5:29).
وقد
ألقى موسى خطابه الأول على مسامع الشعب لتذكيرهم برحلاتهم في البرية. وفي نهاية
الخطاب ناشدهم بأن يخلصوا في إطاعة كلمة الله وحذرهم بشدة من التحول إلى عبادة
الأصنام والابتعاد عن إله آبائهم الذي هو الإله الحقيقي (1:1-49:4).
وفي
الخطاب الثاني لموسى، 22 أصحاح (1:5-19:26)، ذكّر الشعب بأن الرب قد قطع معهم عهدا
في حوريب (جبل سيناء). وبعد تكرار الوصايا العشر (1:5-33)، حرض الشعب مرة أخرى على
محبة الله. وقد نبر بشدة على إطاعة كلمة الله والحرص على تعليمها للأبناء وتجنب أي
اندماج مع أهل كنعان الوثنيين.
وقد
تضمن هذا الخطاب تذكيرا بمصير الوثنيين وبخطورة الاعتماد على النفس ونسيان الله
(1:8-5:10). وبعد إشارة مختصرة إلى موت هارون قيل للشعب أن الكهنوت سيستمر من خلال
نسله وأن سبط لاوي سيكون مسئولا عن الخدمة في خيمة العبادة (6:10-11).
وبعد
ذلك جاءت الوصية للإسرائيليين أنهم بمجرد دخولهم إلى أرض الموعد عليهم أن يدمروا
كل أشكال العبادات الغريبة والمذابح والتماثيل والمدن الوثنية وأن يتجنبوا
الاختلاط مع الوثنيين. وكل من يغوي الآخرين إلى عبادة الأوثان يكون حكمه الموت
(1:12-17:16).
وأعطيت
التعليمات بشأن الحاكم، والحياة الخاصة والاجتماعية، وأهمية العشور والتقدمات
(18:16-19:26)، وحفظ الأعياد الثلاثة الكبرى وهي الفصح، وعيد الخمسين، وعيد
المظال. وتأتي نبوة لها أهمية خاصة عن إقامة نبي من وسطك من إخوتك مثلي (مثل
موسى)؛ له (للمسيح) تسمعون (15:18-19). وبعد مرور 1500 سنة طبق بطرس هذه النبوة
على المسيح (أعمال 22:3-23)، وكذلك فعل استفانوس (أعمال 37:7؛ أيضا يوحنا 21:1).
والخطاب
الثالث لموسى يسجل بركات الله على الأمانة ولعناته على العصيان (1:27-68:28). وبعد
العبور إلى أرض الموعد كان على بنى إسرائيل أن يقدموا محرقات وذبائح سلامة، وأن
يكتبوا الشريعة على عمودي حجر ويضعونهما على جبل عيبال، وأن يذيعوا بركات الطاعة
من على جبل جرزيم ولعنات العصيان من على جبل عيبال. أما الأصحاحات 28-30 فهي تتضمن
نبوات مختصة بمستقبل إسرائيل.
والخطاب
الرابع يبدأه موسى بتشجيع بنى إسرائيل مرة أخرى على حفظ كلمات العهد والعمل
بموجبها (1:29-20:30). وهو يذكرهم بأنهم إذا أطاعوا كلمته فسينعمون ببركات عظيمة:
لأنه هو حياتك والذي يطيل أيامك (لاويين 20:30).
وكان
موسى قد تلقى أمرا بكتابة النشيد الذي أعطاه إياه الرب وتعليمه للشعب
(19:31-22،30؛ 1:32-43).
وتأتي
الكلمات الأساسية "يطيع" و "يعمل" أكثر من 170 مرة في هذا
السفر. وقد اقتبس الرب يسوع من هذا السفر بصفته الناموس المعطى من الله لبنى
إسرائيل (متى 24:22،40؛ قارن مع تثنية 12:7 و 5:12) وأيضا عندما جربه الشيطان
(تثنية 3:8؛ متى 4:4؛ لوقا 4:4). وتوجد اقتباسات من سفر التثنية في 17 سفرا من
أسفار العهد الجديد ال 27
تحليل السفر:
يتكون
سفر التثنية من ثلاثة خطابات تليها ثلاثة ملاحق قصيرة.
(1)
الخطاب الأول (1 : 1 4 : 43) وهو استعراض تاريخي لمعاملات الله مع إسرائيل، محددا
بتفصيل واف أين ومتى القي هذا الخطاب (1 : 1 5)، مسترجعا في إطار خطابي أهم
الأحداث التي مر بها الشعب من حوريب إلى موآب (1 : 6 3 : 29). وعلى هذا الأساس
يوجه نداء حارا للشعب لكي يكونوا أمناء مطيعين، وان يبتعدوا بصفة خاصة عن كل إشكال
الوثنية (4 : 1 40). ويلحق بهذا الخطاب الأول، ملحوظة مختصره (4 : 41 43) عن إفراز
موسى لثلاث مدن للملجأ في الجهة الشرقية لنهر الأردن.
(2)
الخطاب الثاني : (4 : 44 26 : 19) وهو خطاب إرشادي وتشريعي تتصدره مقدمة (4 : 4 49).
ويتكون من ملخص لشرائع إسرائيل الأدبية والمدنية والشهادات والأحكام. وعند تحليل
هذا الخطاب الثاني بتفصيل اكثر، نجد انه يتكون من جزءين رئيسيين :
(I)
الإصحاحات من الخامس حتى الحادي عشر، وهى عرض موسع للوصايا العشر التي قام على
أساسها الحكم الثيوقراطي (الديني).
(II) الإصحاحات من الثاني عشر حتى السادس والعشرين، وهي مجموعة شرائع
معينة تتعلق بالعبادة والطهارة والعشور، والأعياد السنوية الثلاثة، وإقامة
العدالة، وما يختص بالملوك والكهنة، والأنبياء والحرب، وحياة الشعب الخاصة
والاجتماعية.
والطابع
العام لهذا الجزء، طابع أخلاقي وديني، ونغمته هي نغمة الأب، كما هي نغمة المشرع،
ولكن روح الإنسانية تسيطر على الخطاب كله. والقداسة هي مثله الأعلى.
(3)
الخطاب الثالث : (27 : 1 31 : 30). وهو خطاب مليء بالتنبؤات والتحذيرات. وموضوعه
هو " بركات الطاعة ولعنات العصيان ". ويبدأ هذا الجزء بتوجيهات لكتابة
هذه الشرائع على أحجار مكلسة تقام على جبل عيبال (27 : 1 10). وتأكيد ذلك بترديد
البركات واللعنات بالتبادل بين الواقفين على الجبلين المتجاورين، وهما جرزيم
وعيبال (27 : 11 26). ويتبع هذه التوجيهات تحذيرات خطيرة ضد العصيان (28 : 1 29 :
1) وتحريضات جديدة لقبول أحكام العهد الجديد الذي تم في موآب والاختيار بين الحياة
والموت (29 : 2 30 : 2).
وينتهي
هذا الجزء بخطاب وداع موسى لشعب إسرائيل وإعلان تولي يشوع قيادة الشعب بأمر الرب
(الإصحاح 31).
وهذا
القسم مملوء بالنبوات التي تحققت بشكل مفجع في تاريخ شعب إسرائيل اللاحق. وتأتي في
نهاية السفر الملاحق الثلاثة التي أشرنا إليها في البداية، وهي : –
(II) نشيد موسى (الإصحاح 32) الذي علمه المشرع العظيم للشعب. (وأعطى
كتاب التوراة للكهنة 31 : 24 27).
(III) البركة التي بارك بها موسى بني إسرائيل (الإصحاح 33) والتي
ابناهم فيها بمستقبل مختلف الأسباط (وقد سقط منهم سبط شمعون).
(IV) وصف مختصر لوفاة موسى ودفنه (الإصحاح 34) مع الثناء عليه كأعظم
نبي شعب إسرائيل. وهكذا ينتهي هذا السفر الجليل والخطير والعملي.
أن
مفتاح هذا السفر هو كلمة " امتلك " كما أن فكرته المركزية هي لقد اختار
" يهوه " (الرب) شعب إسرائيل، فليختر شعب إسرائيل " يهوه ".
رابعا
: الأفكار الرئيسية : أن الفكرة المركزية في سفر التثنية هي الصلة الفريدة التي
يسبغها الرب كإله فريد على إسرائيل كشعب فريد : " اسمع يا إسرائيل : الرب
إلهنا رب واحد " (تث 6 : 4). أن فكرة التوحيد في سفر التثنية واضحة جدا، ومن
الطبيعي أن تنتج عنها الفكرة العظيمة الأخرى في سفر التثنية وهى وحدة المقدس. أن
شعار هذا السفر يمكن صياغته هكذا : " اله واحد ومقدس واحد ".
(2)
الرب (يهوه) اله فريد لا نظير له : الرب هو الإله الوحيد الفريد " وليس آخر
سواه " (4 : 35 و39، 6 : 4، 32 : 39) " هو اله الآلهة ورب الأرباب
" (10 : 17)، وهو " الله الحي " (5 : 26). و" هو الله الأمين
الحافظ العهد والإحسان للذين يحبونه ويحفظون وصاياه " (7 : 9) والذي يمقت
التماثيل المنحوتة وكل أنواع الوثنية (7 : 25 و26، 12 : 31، 13 : 14، 18 : 12، 20
: 18، 27 : 15). و" للرب السموات وسماء السموات وكل ما فيها " (10 :
14). وهو الذي يتسلط على كل الأمم (7 : 19)، والذي تربطه بإسرائيل علاقة وثيقة
وشخصية (28 : 58). بل وترقى هذه العلاقة إلى علاقة الأبوة (32 : 6). أن وجود الرب
هو وجود روحي فهو لا يرى (4 : 12 و15) واسمه " الصخر " (32 : 4 و15 و18
و30 و31). ولكونه بهذه الصفات فهو اله غيور ونار آكلة على كل مقاوميه (7 : 4، 29 :
24 26، 31 : 16 و17) ومن ثم فكل انحراف نحو الوثنية يجب أن يقتلع كلية من الأرض.
أما الكنعانيون فلا يستبقى منهم نسمة ما " وتهدمون مذابحهم وتكسرون انصابهم
وتحرقون سواريهم بالنار وتقطعون تماثيل إلهتهم وتمحون اسمهم من ذلك المكان "
(7 : 1 5 و16، 12 : 2 و3، 20 : 16 18).
(2)
إسرائيل شعب فريد : لقد صار شعب إسرائيل في القديم شعبا فريدا بسبب العهد الذي
قطعه الرب معهم في حوريب، فجعل منهم " مملكة كهنة وأمة مقدسة " (خروج 19
: 6). أما بنو إسرائيل الجدد الذين ولدوا في البرية فقد ورثوا البركات التي منحت
لآبائهم بواسطة العهد الذي قطعه الرب معهم في موآب (تث 26 : 16 19، 27 : 9، 29 :
1، 5 : 2 و3)، وبواسطة هذا العهد اصبحوا ورثة لكل المواعيد التي أعطيت لآبائهم منذ
إبراهيم (4 : 31، 7 : 12، 8 : 18، 29 : 13) كما اصبح شعب إسرائيل شعبا خاصا مقدسا
ومحبوبا بصفة خاصة من الله (7 : 6، 14 : 2 و21، 26 : 18 و19، 28 : 9، 4 : 37).
ولقد أدب الرب بني إسرائيل لكي يحسن إليهم في أخرتهم (8 : 2 و3 و5 و16) وليعدهم
ليكونوا شعبه الخاص وميراثه (32 : 6 و9، 4 : 7).
(3)
العلاقة بين " يهوه " وإسرائيل علاقة فريدة : كانت الأمم الأخرى تخاف
ألهتها، أما بنو إسرائيل فكان المنتظر منهم إلا يخافوا إلههم فحسب، بل أن يحبوه
أيضاً ويلتصقوا به (4 : 10، 5 : 29، 6 : 5، 10 : 12 و20، 11 : 1 و13 و22، 13 : 3
و4، 17 : 19، 19 : 9، 28 : 58، 30 : 6 و16 و20، 31 : 12 و13).
خامسا
: وحدة سفر التثنية : إن الوحدة الجوهرية لسفر التثنية (الإصحاحات 5 – 26) أمر
معترف به من الجميع تقريبا، بل أن الكثيرين أيضاً يدافعون عن وحدة كل الإصحاحات من
1 – 26. ولا يوجد سفر آخر في العهد القديم – باستثناء نبوات حزقيال – حظي بمثل هذه
الدلائل الواضحة على وحدة الغرض واللغة والفكر.
ويقول
" دريفر "(Driver) : إن الأسلوب الأدبي لسفر التثنية أسلوب مميز وله نوعية خاصة كما
أن قدرة الكاتب على التعبير بهذه الفصاحة العفيفة وفي الوقت نفسه الحارة والمقنعة،
تضعه في مكانة فريدة بين كتاب العهد القديم ". ويتميز أسلوب هذا السفر
الخطابي العجيب بالكثير من التعبيرات القوية، مثل : " اسمع يا إسرائيل "
(9 : 1) " فتنزعون الشر من بينكم " (13 : 5) " الأرض التي أنتم
عابرون إليها لتمتلكوها " (11 : 11)، " من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم
" (11 : 13). وكثير غيرها مما يتردد كثيرا في سفر التثنية، ولا نجدها إلا
نادرا في بقية أسفار العهد القديم. وهكذا فهذه التعبيرات تعمل… بقدر ما يستطيع
أسلوب الكتابة أن يعمل _ على ربط الأجزاء المختلفة لهذا السفر في وحدة راسخة.
وباستثناء
بعض العناوين والإضافات الخاصة بالتحرير (1 : 1 – 5، 4 : 44 49، 29 : 1، 33 : 1 و7
و9 و22 و34)، وبعض التعليقات التاريخية (2 : 10 :12 و20 – 23، 3 : 9 و11 و14، 10 :
6 – 9)، وأيضاً باستثناء الإصحاح الأخير الذي يقدم لنا قصة وفاة موسى، نستطيع
القول بأن السفر وحدة واحدة. ولا يوجد في مجال الأدب، إلا القليل من الكتابات التي
لها مثل هذه الوحدة الواضحة في الهدف، أو لها مثل هذا الأسلوب الخطابي المنتظم.
تأثير سفر التثنية في تاريخ إسرائيل :
يبدو
أن اثر سفر التثنية في حياة الشعب بدا منذ دخولهم ارض كنعان. ومع أن الإشارات إلى
سفر التثنية في أسفار يشوع والقضاة وصموئيل والملوك قليلة نسبيا، إلا أنها كافية
لأثبات أن مبادئ " سفر التثنية " لم تكن معروفة ومرعية فحسب، بل كانت
أيضاً معروفة في صورة مكتوبة كمجموعة شرائع منسقة.
فمثلا
عندما سقطت مدينة أريحا، فان مدينة وغنيمتها قد " حرمت للرب " (يش 6 :
17 و18) وذلك تمشيا مع ما جاء في سفر التثنية (13 : 15 18) وكذلك يشوع (10 : 40،
11 : 12 و15) مع التثنية (7 : 2، 20 : 16 و17). وعندما أخطأ عخان بن كرمي، رجم هو
وأهل بيته واحرقوا بالنار (يش 7 : 25 انظر تث 13 : 10، 17 : 5). وقد يبدو للوهلة
الأولى أن رجم بنيه وبناته معه، يتعارض مع ما جاء في سفر التثنية (24 : 16)، ولكن
ليس ثمة دليل على انهم قد قتلوا من " اجل خطية أبيهم "، علاوة على أن
العبرانيين كانوا يدركون وحدة مصير أهل البيت الواحد، وقد حدث هذا مع راحاب
الزانية (يش 6 : 17).
وعندما
سقطت " عاي "، نهب الإسرائيليون لأنفسهم " البهائم وغنم تلك
المدينة " (يش 8 : 27) وذلك حسبما جاء في سفر التثنية (20 : 14).
وحدث
أيضاً انه " عند غروب الشمس أمر يشوع فانزلوا جثته (ملك عاي) عن الخشبة
" التي علق عليها (يش 8 : 29) تنفيذا لما جاء في سفر التثنية(21: 23). انظر
أيضاً ما جاء في سفر يشوع (10 : 26 و27).
وما
حدث في الحروب، حدث أيضاً في طقوس العبادة، فمثلا " بنى يشوع مذبحا للرب اله
إسرائيل في جبل عيبال " (يش 8 : 30 و31) تماما "كما أمر موسى عند الرب
" (تث 27 : 4 6). كما كتب عليه " نسخة توراة موسى " (يش 8 : 32)
كأمر موسى أيضاً (تث 27 : 3 و8).
"
وجميع إسرائيل وشيوخهم والعرفاء وقضاتهم وقفوا جانب التابوت من هنا ومن هناك مقابل
الكهنة.. نصفهم إلى جهة جبل جرزيم ونصفهم إلى جهة جبل عيبال " كما أمر موسى
عبد الرب (يش 8 : 33 مع تث 11 : 29، 27 : 12 و13). " وبعد ذلك قرا (يشوع قدام
جماعة إسرائيل) جميع كلام التوراة البركة واللعنة حسب ما كتب في سفر التوراة
" (يش 8 : 34 و35) وهذا يطابق تماما ما جاء في سفر التثنية (31 : 11 و12).
ولكن
الفقرة ذات الأهمية الكبرى هي التي تحكي قصة سبطي رأوبين وجاد ونصف سبط منسى،
الذين عند رجوعهم إلى ديارهم على الضفة الشرقية لنهر الأردن، أقاموا تذكارا شاهدا
عند نهر الأردن، ولما اتهمهم باقي الأسباط بخيانة الرب وعبادة الأوثان، أنكروا هذا
الاتهام بشدة (يش 22 : 29 انظر التثنية 12 : 5).
فمن
الواضح إذا أن سفر التثنية كان معروفا في أيام يشوع. وفي تاريخ القضاة توجد بعض
الأمثلة القليلة التي تشير إلى نفس هذه الحقيقة، ومنها التدمير الكلي " لصفاه
" (قض 1 : 17 مع التثنية 7 : 2، 20 : 16 و17) ومنها أيضاً استبعاد جدعون
للخائفين والمرتعدين من الجيش (قض 7 : 1 7 مع التثنية 20 : 1 9). ومنها أيضاً
اهتمام الكاتب بتبرير تقديم جدعون ومنوح للذبائح على مذابح غير المذبح الذي في
" شيلوه "، على أساس انهم عملوا طبقا لأوامر الرب المباشرة (قض 6 : 25 27،
13 : 16). وقصة ميخا الذي هنا نفسه لان الرب سوف يحسن إليه إذ صار له اللاوي
كاهنا، هي برهان واضح على أن سفر التثنية كان معروفا في أيام القضاة (قض 17 : 13
مع التثنية 10 : 8، 18 : 1 8، 11: 335 :8 –11).
وفي
سفر صموئيل الأول (1 : 1 9 و21 و24) نرى القانة الرجل التقي يذهب سنويا إلى شيلوه،
حيث كان بيت الرب في ذلك الوقت. وبعد تدمير شيلوه عندما استولى الفلسطينيون على
تابوت العهد، كان صموئيل يذبح للرب في المصفاة والرامة وبيت لحم (1 صم 7 : 7 9،
17، 16 : 5). ولكن بعلمه هذا كان يستفيد من مرونة الشريعة في سفر التثنية : "
فمتى.. أراحكم من جميع أعدائكم الذين حواليكم وسكنتم آمنين، فالمكان الذي يختاره
الرب إلهكم ليحل اسمه فيه تحملون إليه كل ما أنا أوصيكم به محرقاتكم وذبائحكم..
" (تث 12 : 10 و11) ولم يتم إخضاع كل أعداء إسرائيل إلا في عهد سليمان، وحتى
في ذلك الوقت لم يحفظ وصايا الشريعة تماما " فأمالت نساؤه قلبه " وبذلك
لم يحفظ بأمانة " عهد الرب وفرائضه " (1 مل 11 : 3 و11). وبعد ذلك حدث
تمزق سياسي، ألقى بظله ولا بد على الحالة الدينية، إلا أن " يهوياداع "
الكاهن وضع على يهوآش " التاج وأعطاه الشهادة " (2 مل 11 : 12 مع تث 17
: 18).
كما
أن امصيا " لم يقتل أبناء القاتلين (الذين قتلوا أباه) حسب ما هو مكتوب في
سفر شريعة موسى حيث أمر الرب قائلا : لا يقتل الآباء من اجل البنين والبنون لا
يقتلون من اجل الآباء " (2 مل 14 : 6 مع تث 24 : 16). وفي زمن لاحق اصلح
الأمور حزقيا بن آحاز ملك يهوذا، الذي كان ملتصقا بالرب لم يحد عنه، حافظا وصاياه
حيث " أزال المرتفعات وكسر التماثيل وقطع السواري، وسحق حية النحاس التي
عملها موسى " (2 مل 18 : 4 و22). ومما لا شك فيه أن إصلاحات حزقيا قد جاءت
نتيجة لتأثير سفر التثنية.
ومن
المؤكد أيضاً أن أنبياء القرن الثامن قبل الميلاد لم يكونوا يجهلون هذا السفر،
فمثلا كان هوشع يشكو من تقديم الشعب للذبائح على رؤوس الجبال والتبخير على التلال،
فكان يحذر يهوذا إلا يأثم مثل إسرائيل قائلا : " لا تأتوا إلى الجلجال ولا
تصعدوا إلى بيت أون " (هوشع 4 : 13 و15). ويشير أيضاً إلى مخاصمة الكهنة
(هوشع 4 : 4 مع تث 17 : 12)، كما يشير إلى نقل التخوم (هوشع 5 : 10 مع تث 19 :
14)، والرجوع إلى مصر (هوشع 8 : 13، 9 : 3 مع تث 28 : 68). كما يشير إلى معاملة
الرب الرحيمة لافرايم (هوشع 11 : 3 مع تث 1 : 31، 32 : 10).
ولا
يمكن تفسير شجاعة عاموس النبي الراعي الذي كان من تقوع إلا على أساس من شريعة
مكتوبة مثل تلك المدونة في سفر التثنية والتي كان هو ومن يسمعونه على علم بها إلى
حد كبير (عاموس 3 : 2 مع تث 7 : 6، 4 : 7 و8)، وهو يدين قسوة إسرائيل وزناهم باسم
الدين، كما يشكو من احتفاظهم بالثياب المرهونة من الفقير إلى ما بعد غروب الشمس،
وهو الأمر الممنوع منعا باتا في سفر التثنية (عاموس 2 : 6 و8 مع تث 24 : 12 15، 23
: 17). وأيضاً نجد أن نبوات إشعياء تعكس بوضوح تعاليم وأفكار سفر التثنية، فصهيون
هي مركز عبادة الأمة وبيت الرب الراسخ (أش 2 : 2 4، 8 : 18، 28 : 16، 29 : 1 و2،
انظر أيضاً ميخا 4 : 1 4).
وبالاختصار
لم يعتبر أحد من الأنبياء الأربعة الكبار في القرن الثامن قبل الميلاد (إشعياء،
ميخا، عاموس، هوشع) أن " المرتفعات " مراكز شرعية للعبادة.
محتويات السفر:
+ في جوهره يحتوى على عظة قدمها موسى النبي على ثلاث دفعات، في أواخر
حياته على الشعب الذين ولدوا في البرية أو قل هي ثلاث عظات، غايتها "الطاعة
لله".
العظة الأولى (ص1-ص 4) يبرز عمل الله السابق مع آبائهم وكيف قابل
آباؤهم هذا الحب بعدم الطاعة.
العظة الثانية وهي الرئيسية (ص5- ص 28) يقدم مراجعة للشريعة كمادة
الطاعة.
العظة الأخيرة (ص29،ص30) يحدثنا عن بركات الطاعة.
أولا : – العظة الأولى ص1 – 3 :
" في البرية رأيت كيف حملك الرب إلهك كما يحمل الإنسان ابنه في
كل الطريق التي سلكتموها حتى جئتم إلى هذا المكان"
(1 : 31)….. "الآن أربعون سنة للرب إلهك معك، لم ينقص عنك شيء
" 2 : 7.
+ جاءت الإصحاحات الثلاثة الأولى تتحدث عن أعمال الله مع آبائهم، لكي
يحثهم على الطاعة وتقديم الشكر لله، ولأجل تثبيت إيمانهم ونزع الشكوك.
+ جاء الإصحاح الرابع نتيجة مستنبطة من الإصحاحات الثلاثة الأولى.
ثانيا : – العظة الثانية ص 5- 28
جسم السفر كله، عبارة عن عرض للشريعة الإلهية، وينقسم إلى:
أ- القسم الأول : ص 5- ص 11
+ " لتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك
(الكرازة في أورشليم)، وقصها على أولادك (الكرازة في اليهودية)، وتكلم بها حين
تجلس في بيتك (الكرازة في السامرة)، وحين تمشى في الطريق (الكرازة في الأرض
كلها)" 6 : 6، 7
+ يبدأ بالوصايا العشرة ويكمل موضحا معنى الوصية الأولى، حاثا على
الطاعة لله.
ب- القسم الثاني : ص 12 – ص 28
+ يقدم قوانين اجتماعية ومدنية ودينية تسندهم في ارض الموعد، تمثل
مراجعة لكتاب العهد (خر 20 : 22- 23 : 33)، وقوانين أخرى.
+ إذ كان الشعب بدائيا قدم لهم قوانين دقيقة في كل تفاصيل حياتهم،
سواء في علاقتهم بالوثنيين، أو الأنبياء الكذبة، وعلاقتهم بالله، عبادتهم،
أعيادهم، أكلهم وشربهم، تصرفاتهم حتى مع الأمور الجامدة كالأشجار. هذه تحمل رموزا
روحية عميقة.
ج- ختم عظته بمعالجة موضوع اللعانات والبركات على جبل عيبال وجبل
جرزيم (ص27). وكان الشعب يعلن قبول العهد بقوله "آمين" (ص27).
ثالثا : – العظة الثالثة ص 29 – ص 30
هذه
العظة الختامية عبارة عن حث على الارتباط بالعهد الذي أقيم بين الله وشعبه في ارض
موآب كما سبق وأقيم في حوريب (29 :1).
+ من ناحية، هدد الله كاسر العهد بمحو اسمه من تحت السماء (29 : 20).
+ ومن ناحية أخرى، فتح أمامهم باب الرجاء من خلال التوبة حتى لا يسقط
أحد في اليأس. "يرد الرب سبيك ويرحمك ويعود فيجمعك من جميع الشعوب" (30
: 3).
+ كشف لهم سهولة الوصية بكونها ليست غريبة عنهم. "ليست هي في
السماء حتى تقول من يصعد لأجلنا … بل الكلمة قريبة منك جدا في فمك وفي قلبك لتعمل
بها" (30 : 11) (المسيح الكلمة نزل إلينا وسكن فينا).
+ تقديس الله للإرادة الإنسانية، من حق الإنسان اختيار طريقه للحياة
أو الموت (30 : 15).
رابعا : -أعمال ووصايا ختامية ص 31- 34 :-
يشوع خليفة موسى ص31.
النشيد الختامي ص32.
كلمات البركة للأسباط ص33.
نياحة موسى ص34.
" تشدد وتشجع الرب سائر أمامك، هو يكون معك، لا يهملك ولا
يتركك، لا تخف ولا ترتعب" (31 : 7،8).
العظة
|
العظة الثانية ص5-28 |
العظة الثالثة ص29، 30 |
أعمال ووصايا ختامية ص31-34 |
|
0 الإصحاحات الثلاثة |
0 |
0 |
0 |
|
تتحدث 0 0 0 |
القسم
|
القسم
|
بالعهد 0 0 0 |
0 مع 0 مع 0 صعد إلى جبل نبو "فسجة" ليتطلع على أرض الموعد |
شرح السفر
تثنية 1 – 2
في
خطابه الأول إلى الجيل الجديد، شرح لهم موسى كيف أن آباءهم قد فشلوا في امتلاك أرض
الموعد لأنهم اتهموا الله بأنه يبغضهم، وأنه أخرجهم من أرض مصر ليدفعهم إلى أيدي
الأموريين لكي يهلكهم (تثنية 27:1). لقد أصر آباؤهم على عدم تصديق موسى عندما قال
لهم: لا ترهبوا ولا تخافوا منهم. الرب إلهكم السائر أمامكم هو يحارب عنكم حسب كل
ما فعل معكم في مصر (تثنية 29:1-30).
فلم
يكن جيل الإسرائيليين البالغين الذين خرجوا من مصر يدركون أن صعوبات ومشاق رحلة
البرية هي من تخطيط الله لإعدادهم وتدريب إيمانهم من جهة قدرته على قيادتهم إلى
أرض الموعد. ولكن المأساة هي أنه نتيجة لخطية عدم الإيمان أضاع هذا الجيل حياته في
التيهان في البرية.
وقد
أُلقي هذا الخطاب في السنة الأربعين بعد الخروج من مصر. ولكن المسافة من جبل سيناء
إلى حدود كنعان لم تكن تحتاج لأكثر من 11 يوما لعبورها (2:1-3).
وها
هو الجيل الجديد من الإسرائيليين يواجه نفس المشاكل التي واجهت آباءهم منذ 38 سنة.
فلقد كانوا على وشك أن يعبروا مياه نهر الأردن الجارفة (يشوع 15:3)، وأن يقتحموا
مدن كنعان الحصينة، وأن يستولوا على أراض غير مألوفة.
وبما
أن الجيل الجديد كان بحاجة أن يعرف السبب الحقيقي الذي من أجله لم يدخل آباؤهم أرض
الموعد، كذلك نحتاج نحن أيضا أن نعرف أوجه الشبه بين هذا الجيل الأول وبين
الكثيرين من جيلنا الذين لا يكفون عن التذمر والسخط على ظروفهم.
فعلينا
أن نختار إما أن نكون مثل كالب ويشوع وإما أن نكون مثل الذين يتذمرون على كل شيء.
والآن، كما في ذلك الحين، فإن كلمة الله هي شريعتنا وهي مرشدنا الذي لا يخطئ.
إن
خضوعنا للرب في "رحلتنا الشخصية" في البرية هو أمر أساسي، ذلك لأنه ينمي
إيماننا بقدرته على القيادة والحماية وتدبير جميع احتياجاتنا. وكما أن الله كانت
له خطة لبنى إسرائيل، كذلك فإنه أيضا له خطة لكل واحد منا، منذ اللحظة التي نخضع
أنفسنا له كالمخلص والرب على حياتنا.
لابد
لكل مؤمن في مرحلة ما من حياته أن يواجه مصاعب "عملاقة"؛ ولكن قوة الله
متاحة لكل من يثق فيه أن يجعله من الغالبين، تماما مثلما كان كالب ويشوع. ولكن ما
لم نتخذ أولا خطوات إيمانية فعالة لكي نهزم "العمالقة" الداخليين – شهوة
الجسد (طلب المتع الحسية)، وشهوة العيون (المطامع الذهنية)، وتعظم المعيشة (الشهرة
الزائفة والنفوذ العالمي)، لن نستطيع أن نصبح حقا ما يريدنا الله أن نكونه لتحقيق
مقاصده.
كل
من يبغض أخاه (في المسيح) فهو قاتل نفس (في داخله)، وأنتم تعلمون أن كل قاتل نفس
ليس له حياة أبدية ثابتة فيه. بهذا قد عرفنا (أدركنا إدراكا متزايدا، فهمنا)
المحبة أن ذاك وضع نفسه لأجلنا فنحن ينبغي لنا أن نضع نفوسنا لأجل الإخوة. وأما من
كان له معيشة العالم ونظر أخاه محتاجا وأغلق أحشاءه عنه فكيف تثبت محبة الله فيه؟
(1 يوحنا 15:3-17).
إعلان
عن المسيح: من خلال موسى، الذي كلم بني إسرائيل بحسب كل ما أمره به الرب (تثنية
3:1). يسوع أيضا نقل لنا بأمانة جميع الأقوال التي طلب الله منه أن يقولها (يوحنا
28:8).
تثنية 3 – 4
الأصحاحات
الثلاثة الأولى من سفر التثنية مليئة بالأمثلة التي تبين كيف أن الله قد تكفل
بإعالة بني إسرائيل منذ خروجهم المعجزي من أرض مصر. ولكن في أصحاح 4 يحرص موسى على
تذكير الجيل الجديد بأن الطريقة الوحيدة للحصول على الحياة المزدهرة هي العيش بحسب
أقوال الله. وإذا فعلوا ذلك فإنهم يجتذبون أيضا سائر الشعوب لكي يكرموا الله
الواحد الحقيقي (تثنية 5:4-8).
ابتدأ
موسى يشرح الأقوال الأصلية التي كان الرب قد أعطاها لبني إسرائيل منذ 40 سنة على
جبل سيناء (تثنية 5:1). وكلمة "يشرح" الناموس تعني أكثر من مجرد تكراره
على مسامعهم، فهي تعني التأمل والبحث وكشف معان جديدة. وخطابه الأول يركز على
أهمية حفظ كلمة الله بأكملها. فالآن يا إسرائيل، اسمع الفرائض والأحكام التي أنا
أعلمكم لتعملوها لكي تحيوا وتدخلوا وتمتلكوا الأرض (تثنية 1:4). إن الشرط الوحيد
اللازم لدخول الأرض والبقاء فيها هو الطاعة لكلمة الله. لكي تحيوا تعني أكثر من مجرد
الوجود، فهي تعني أن يتمتع بنو إسرائيل بأفضل حياة. ثم يأتي تحذير إضافي: لا
تزيدوا على الكلام الذي أنا أوصيكم به ولا تنقصوا منه… فاحفظوا واعملوا لأن ذلك
حكمتكم وفطنتكم (2:4،6).
نجد
هنا أيضا إعلانا جديدا عن محبة الله لشعبه وهو يتكرر أربع مرات (37:4؛ 7:7-8؛
15:10؛ 5:23). والغرض من هذا الإعلان الإضافي هو تقوية إيمان الجيل الجديد بالرب
الذي يقودهم إلى أرض الموعد.
كذلك
بالنسبة للمسيحيين الحقيقيين اليوم، فإن ما يبذلونه من مجهود في البحث والتنقيب في
كلمة الله سيكشف عن أبعاد جديدة لمحبة الله اللامتناهية وسيقوّي إيماننا بحكمته من
جهة كل ما ينتظرنا.
إن
الطاعة من شأنها أن تجعل بني إسرائيل في مكانة فريدة أدبيا وروحيا بين جميع الشعوب
الأخرى. فإن امتلاك بني إسرائيل لأرض كنعان لا يفترض أن يتحقق بالقوة العسكرية أو
البراعة البشرية، ولكن بالأمانة والاستقامة الأدبية والروحية.
وكما
كان حينئذ، هكذا يكون الآن – فإن الطاعة لكلمة الله هي رجاؤنا الوحيد للحصول على
أفضل بركاته، على المستوى الشخصي أو على مستوى الأمة. كما نحتاج أيضاً للتذكير
المستمر: إنما احترز واحفظ نفسك جدا لئلا تنسى الأمور التي أبصرت عيناك ولئلا تزول
من قلبك كل أيام حياتك وعلمها أولادك وأولاد أولادك (9:4).
وكلمة
احترز تأتي ثلاث مرات في أصحاح 4 (9:4،15،23) وتأتي أيضا عبارة لئلا تنسى للتذكير
المستمر. إننا جميعا معرضون للنسيان بسبب المصالح الذاتية أو بسبب تأثير الأصدقاء
فننسى أهمية السلوك في جميع وصايا الله. ولكن موسى يقدم التحذير واضحا: إذا فسدتم
وفعلتم الشر… تبيدون سريعا (25:4-26) – لعل هذا سبب كاف لقراءة الكلمة يوميا.
إننا
كمسيحيين، نحتاج أن نقرأ كلمة الله كلها – ليس فقط لكي نحصل على الحكمة لإطاعة
وصايا الرب، ولكن أيضا لكي نتمتع بحضوره، لأنه هو وكلمته واحد (تثنية 2:4؛ يوحنا
1:1-2؛ 15:14؛ 10:15). فكل من يواظب على قراءة كلمة كلها الله يختبر ما قاله بولس
لتيموثاوس أنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تحكمك للخلاص بالإيمان
الذي في يسوع المسيح (2 تيموثاوس 15:3).
تثنية 5 – 7
إن
الحقيقة الفائقة والوحيدة التي جعلت إسرائيل أسمى من كل شعوب العالم وضمنت سلامتهم
وازدهارهم وقوتهم هي الكلمة الافتتاحية في خطاب موسى: اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا
رب واحد. فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك (تثنية 4:6-5).
والكلمة
العبرية إلوهيم هي في صيغة الجمع، وترد حوالي 2500 مرة في العهد القديم – بينما
صيغتها في المفرد، تأتي فقط 250 مرة وتستخدم في الكلام عن الآلهة الكاذبة.
إن
إله الكتاب المقدس كامل في ذاته – غير أنه متمثل في ثلاثة أقانيم متميزين: الآب
والابن والروح القدس. لذا يقول: نعمل الإنسان على صورتنا (تكوين 26:1)؛ وأيضا: هلم
ننزل ونبلبل هناك لسانهم (تكوين 7:11)؛ وفي مكان آخر: قال الرب الإله: هوذا
الإنسان قد صار كواحد منا (تكوين 22:3). ويقول إشعياء: ثم سمعت صوت السيد قائلا:
من أرسل ومن يذهب من أجلنا؟ (إشعياء 8:6). فلو كان الله مفردا لما استخدمت صيغة
الجمع في هذه الأجزاء الكتابية.
والكلمة
العبرية "رب واحد" هي إعلان صريح بأن الرب هو جمع في وحدة. فإن الكلمة
المترجمة "إلهنا" هي "إلوهيم" في صيغة الجمع. وكلمة
"واحد" تحمل معنى الإجمال. فهي لا تشير إلى الوحدة المطلقة بل إلى
الوحدة المركبة، كما نقول مثلا "عنقود واحد".
فالكلمة
العبرية "واحد" تشير إلى وحدة التعدد. فهي تستخدم على سبيل المثال في
تكوين 24:2 حيث يقول عن الرجل والمرأة: يكونان جسدا واحدا ؛ وفي خروج 13:36 حيث
يقول عن الأجزاء المختلفة لخيمة العبادة: فصار المسكن واحدا. وكذلك فإن الملايين
الذين يؤمنون بالمسيح هم جسد واحد (1 كورنثوس 15:6؛ 14:12،27).
والكلمة
التي تستخدم للتعبير عن الوحدة المطلقة هي كلمة "وحيد"، ومع أنها تأتي
في عديد من الأجزاء الكتابية مثل تكوين 2:22،12؛ قضاة 34:11؛ أمثال 3:4؛ إلا أنها
لا تستخدم أبدا للتعبير عن الله الواحد. وهذه الحقيقة تعلن أن الذي يرفض ألوهية
يسوع يرفض إعلان الله عن نفسه. ولذلك فإنه من الصواب أن نعترف بالله الآب، والله
الابن، والله الروح القدس.
إن
الاعتراف بالله الواحد الحقيقي هو الذي ميز إسرائيل عن جميع شعوب الأرض. وقد ذكر
هذا الحق المجيد مرارا وتكرارا (تثنية 12:10؛ 1:11). وعندما جاء واحد من الكتبة
وسأل يسوع: أية وصية هي أول الكل؟ أجابه يسوع: إن أول كل الوصايا هي: اسمع يا
إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك
ومن كل قدرتك (مرقس 29:12-30).
ونحن
بإمكاننا أن نعرف إله إسرائيل الواحد لأن مقامنا العالي في المسيح يعطينا امتيازات
أعلى بكثير من تلك التي عرفها إسرائيل الأرضي. فنحن قد عرفنا الله الظاهر في
الجسد، ملكنا الذي سيأتي قريبا، والذي قال: أنا والآب واحد… الآب فيّ وأنا فيه
(يوحنا 30:10،38).
إعلان
عن المسيح: من خلال الأرض التي تفيض لبنا وعسلا (تثنية 3:6). هذه صورة لراحتنا في
المسيح الذي يسدد أعوازنا (عبرانيين 18:3-19).
تثنية 8 – 10
إن
ال 38 سنة التي ضاعت من الجيل الأقدم من بني إسرائيل في التيهان في البرية كانت
كلها بسبب عصيانهم. وكانت بمثابة رسالة إلى الجيل الجديد، وكذلك لنا نحن، وهي أن
الحياة جوفاء عندما نتجاهل كلمة الله. جميع الوصايا التي أنا أوصيكم بها اليوم
تحفظون لتعملوها لكي تحيوا وتكثروا وتدخلوا وتمتلكوا الأرض التي أقسم الرب لآبائكم…
لكي يعلمك [أي لكي يجعلك تكتشف وتدرك بطريقة شخصية] أنه ليس بالخبز وحده يحيا
الإنسان بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان (تثنية 1:8،3).
فليس
بالصدفة أن يسوع بعد معموديته بدأ خدمته باقتباس قراءة اليوم من سفر التثنية: ليس
بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله (متى 4:4). وقد قال ذلك
بعد أن صام 40 يوما، عندما أراد الشيطان أن يغريه بأن يحول الحجارة إلى خبز. قال
له المجرب: قل أن تصير هذه الحجارة خبزا – أي بمعنى آخر: يمكنك أن تستخدم قدراتك
الخلاقة من أجل إشباع جوعك الجسدي العظيم (متى 3:4). ولكن يسوع قال إنه يوجد شيء
أهم في الحياة من الشبع الجسدي. فلا ينبغي أن نسمح "لضرورات" الحياة الجسدية
أن تكون عاملاً محركا لنا (تثنية 3:8،6). إن غير المؤمن له هدف واحد في الحياة –
وهو إشباع الجسد. والمسيحي أيضا له رغبات وضرورات جسدية كما كان للمسيح أيضا. ولكن
الرغبة الأولى للمسيحي الحقيقي هي إشباع الحياة الروحية – من خلال المسيح الذي هو
الخبز الحي الذي نزل من السماء: إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد (يوحنا
51:6).إن حياتنا الأرضية هي بمثابة استعداد للأبدية بطولها، فنحن نحتاج أن نقرأ
كلمة الله ليس فقط لكي نفهمها بل لكي نحيا بها.
وقد
اقتبس المجرب من الكتاب المقدس، ولكنه كان اقتباسا مبتورا بقصد إساءة التطبيق.
ومرة أخرى، أجابه يسوع من سفر التثنية قائلا: لا تجرب الرب إلهك (تثنية 16:6؛ متى
7:4). إن أحد المفاتيح الحيوية للانتصار على الشيطان هو معرفة كلمة الله بأكملها،
وليس فقط بضعة آيات مختارة من أجل إثبات ما نريد أن نؤمن به. عندئذ، نقدر نحن أيضا
أن نستعمل كلمة الله كسيفنا الروحي (أفسس 17:6؛ عبرانيين 12:4).
كان
يسوع يعلَم جيدا أنه لا مجال للتساهل ولا لمرة واحدة – وهذا هو الدرس الذي يحتاج
أن يتعلمه عديد من المسيحيين الحقيقيين. فأجاب يسوع قائلا: لأنه مكتوب للرب إلهك
تسجد وإياه وحده تعبد (متى 10:4؛ تثنية 13:6). وقد اقتبس يسوع هنا مرة أخرى من سفر
التثنية: الرب إلهك تتقي، إياه تعبد، وبه تلتصق (20:10). فلقد أجاب يسوع على تجارب
الشيطان الثلاث بالاقتباس من سفر التثنية. وهذا يعلمنا أن أفكارنا الخاصة وكلماتنا
الخاصة لا تقدر أن تغلب العدو – وإنما فقط كلمة الله الحية لها هذه القدرة.
عندما
نعبر عن إيماننا ونطيع الرب، فلن يستطيع شيء أن يجعلنا نتذمر. ولكن إذا سمحنا
لأنفسنا بالنظر فقط إلى الظروف، عندئذ سنشعر بالتذمر والغيرة من الميزات التي لدى
الآخرين.
وهناك
أيضا تجارب للإيمان، عندما نجد أن كل ما نفعله ينجح. فإننا نجرب عندئذ بأن نسلب
لأنفسنا المدح والفضل على الإنجازات التي حققناها. لذلك يجب في هذه الحالة أن
نحترس لئلا نقول في قلوبنا: قوتي وقدرة يدي اصطنعت لي هذه الثروة (تثنية 17:8).
إعلان
عن المسيح: من خلال خشب السنط (تثنية 3:10). ينمو شجر السنط في الصحراء إشارة إلى
المسيح في صورته الإنسانية كعرق من أرض يابسة (إشعياء 2:53).
تثنية 11 – 13
الأصحاحات
الإحدى عشرة الأولى من سفر التثنية تعيد تسجيل كلمات العهد الهام الذي قطعه الرب
مع أبرام قائلا: لنسلك أعطي هذه الأرض (تكوين 18:15). فبعد أربعمائة سنة، عندما
كان بنو إسرائيل يئنون تحت العبودية، نقرأ هذا القول: فسمع الله أنينهم فتذكر الله
ميثاقه مع إبراهيم واسحق ويعقوب (خروج 24:2). وبعد أربعين سنة من هذا التاريخ، كرر
موسى على مسامع الجيل الجديد ما سبق وقاله لآبائهم، فقال: الرب إلهنا قطع معنا
عهدا في حوريب… أنا كنت واقفا بين الرب وبينكم في ذلك الوقت لكي أخبركم بكلام
الرب… فقال: أنا هو الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية… وأصنع
إحسانا إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي… في جميع الطريق التي أوصاكم بها الرب
إلهكم تسلكون لكي تحيوا وتطيلوا الأيام في الأرض التي تمتلكونها (تثنية 2:5،5-6،10،33).
وابتداء
من أصحاح 12، نرى كثيراً من الممارسات التي كان ينبغي على بني إسرائيل أن يهتموا
بها بعد أن يستقروا في أرض الموعد. فقبل كل شيء كان ينبغي أن يتخذوا موقفا حازما
تجاه الآلهة الكاذبة. فلقد أمرهم الرب قائلا: تخربون جميع الأماكن حيث عبدت الأمم
التي ترثونها آلهتها… تهدمون مذابحهم… وتقطعون تماثيل آلهتهم (تثنية 2:12-3).
فإن الأرض هي ملك للرب. وعليهم أن يعملوا فيها كوكلاء عنه. لذلك كان واجبهم الأول
عند دخول الأرض وامتلاكها أن يدمروا كل أماكن العبادة الوثنية حيث أن الأوثان هي
شيء بغيض في نظر الرب.
وبحسب
المنطق البشري، ربما يبدو أن تدمير مراكز العبادة للديانات الأخرى هو أمر يدل على
ضيق الأفق والتعصب الشديد. فإن العالم غير المؤمن يقول: "هل يهم ما الذي يؤمن
به الإنسان، طالما أنه مخلص في إيمانه؟"
ولكن
السؤال الرئيسي هو هذا: هل يمكن لله القدوس الحي الواحد الحقيقي أن يطيق الآلهة
الكاذبة النابعة من الشيطان، والتي لا تجلب سوى الشر والبؤس على عابديها ؟ إن جميع
المستعبدين لها سيطرحون أخيرا في جهنم. كان شعب إسرائيل ملكا للرب، وكانت أرض
الموعد ملكا للرب، ولم يسمح الله لشعبه بالاختلاط مع عابدي الأوثان.
ولا
مجال هنا للتساؤل بشأن الهدف من وصاياه، أو ما إذا كانت الظروف تستدعي نوعا من
المخالفة الاستثنائية لكلمته. فليس مسموحا بأن يوضع في الاعتبار رأي الأغلبية، أو
مدى تقبل الحضارات المختلفة لهذه الوصايا. فإن عواطفنا سوف تطرح عددا لانهائيا من
الأسئلة، والاتجاهات العصرية ستستمر تملي علينا "الأنماط البديلة في
الحياة". ولكن كلمة الله هي السلطة العليا والنهائية، فإن مبادئه دائما حق
وهي لا تتغير أبدا. إننا نحتاج أن نصلي لكي يعطينا إله ربنا يسوع المسيح، أبو
المجد، روح الحكمة والإعلان في معرفته: مستنيرة عيون أذهاننا لنعلم ما هو رجاء
دعوته وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين، وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن
المؤمنين حسب عمل شدة قوته (أفسس 17:1-19).
إعلان
عن المسيح: من خلال المحرقات،التي تشير إلى تقديم المسيح لنفسه حتى الموت (تثنية
6:12؛ عبرانيين 5:10-7).
تثنية 14 – 16
لم
يكن رخاء الأمة الجديدة معتمدا على الأساليب المتقدمة في الزراعة بل على بركات
الرب (تثنية 10:11-15). فلقد كان أحد المبادئ الأساسية لضمان نجاح المحصول كل سنة
هو الاعتراف بالعشور بصفتها مسألة روحية أكثر منها مسألة مادية وأنها لا تنفصل عن
العبادة. فلقد أمر الرب بني إسرائيل قائلا: تعشيرا تعشر كل محصول زرعك الذي يخرج
من الحقل سنة بسنة…لكي تتعلم أن تتقي الرب إلهك كل الأيام… واذهب إلى المكان
الذي يختاره الرب إلهك [للعبادة]… لكي يباركك الرب إلهك في كل عمل يدك الذي تعمل
(تثنية 22:14-23،25،29).
فمن
خلال الإتيان بالحنطة والزيت وأبكار البقر والغنم كانوا يتعلمون أن يتقوا الرب
إلههم كل الأيام. فإن العشور تعلم بني إسرائيل أن يحترموا الرب من أجل ذاته وأيضا
أن يعترفوا بمسئوليتهم من جهة الإتيان بالعشور أولا قبل أي اعتبارات أخرى. فالرب
ينبغي أن يشغل المكان الأول في حياتهم لأن كل ما يملكونه هو نتيجة لإمدادات محبته.
كما أنه كان سيصبح أمرا مهينا لو أنهم أتوا بالفضلات.
لم
يكن مطلوبا من بني إسرائيل أن يأتوا بعشورهم أمام الرب على سبيل الالتزام الروحي
والأدبي، بل ينبغي أن يكون ذلك مصحوبا بالتقدير القلبي لهذا الامتياز، إذ قال لهم:
افرح أنت وبيتك (تثنية 26:14).
فالعشور
كانت مسئولية مربحة – إذ أنها كانت مصحوبة بالوعد: لكي يباركك الرب إلهك في كل عمل
يدك الذي تعمل (تثنية 29:14). ولم تكن العشور موجهة فقط للكهنوت اللاوي بل أيضا
للغريب واليتيم والأرملة (تثنية 29:14؛ 18:10). فإن الرب لا يريدنا أبدا أن نتجاهل
المحتاجين والأيتام والأرامل في مجتمعنا المسيحي. ولكن يجب أن نلاحظ أنه لم يطلب
منهم أبدا أن يجتازوا في كل أرض كنعان أو غيرها من البلاد بحثا عن الأيتام
والأرامل من الوثنيين لكي يعتنوا بهم!
كان
هناك مكان واحد فقط لكي يأتي إليه بنو إسرائيل بعشورهم. فبصرف النظر عن الصعوبة
التي قد يجدونها في التوجه إلى أورشليم، لم يكن في استطاعتهم أن يرسلوا عشورهم مع
شخص آخر. كان ينبغي أن يأتوا بها بأنفسهم إلى بيت الرب في أورشليم. ولكن يسوع قال
للمرأة عند البئر أنه سيأتي وقت فيه يعبدون الله لا في هذا الجبل [جبل جرزيم] ولا
في أورشليم، بل يعبدونه بالروح والحق (يوحنا 21:4،24). وقد قصد الرب من قوله هذا
أن كنيسة الله الحقيقية ستمتد إلى كل مكان في العالم. إن خدمة الرب لا تزال تُدعم
بواسطة عشور وتقدمات شعبه. فيجب أن نفكر بجدية في تقديم عشورنا إلى حيث نعلم أنها ستحقق
رغبة سيدنا في توصيل كلمته إلى عالم هالك.
إن
إهمالنا لتقديم العشور هو أمر أخطر بكثير من إهمالنا لدفع ضرائبنا الفيدرالية.
فالعشور لم تكن تُقدَّم فقط لتجنب قضاء الله أو الحرمان الذي سينتج عنه. ولكن
العشور هي من أعمال العبادة إذ أنها تعبر عن الاعتماد الكامل على خالقنا الله
وأبينا السماوي في جميع الأشياء.
ويكرر
الرب هذا المبدأ في العهد الجديد، حيث نقرأ: من يزرع بالشح فبالشح أيضا يحصد. ومن
يزرع بالبركات فبالبركات أيضا يحصد. كل واحد كما ينوي بقلبه ليس عن حزن أو اضطرار
لأن المعطي المسرور يحبه الله (2 كورنثوس 6:9-7).
إعلان
عن المسيح: من خلال سنة الإبراء، التي تشير إلى غفران المسيح لجميع خطايانا (تثنية
1:15). يجب أن يعلمنا هذا أن نسامح الآخرين، كما سامحنا المسيح أيضا.
تثنية 17 – 20
اختار
الله موسى لكي يقود بني إسرائيل عند خروجهم من أرض مصر، لكن قيادته انتهت عند حدود
أرض كنعان واختير يشوع لكي يأخذ مكانه. كان يشوع رمزا للمسيح، فقد قاد شعب الله في
حروبهم من أجل امتلاك أرض الموعد. ولكنه لم يكن يُقارن بموسى، لأنه كان ينبغي أن
يذهب يشوع إلى الكاهن لكي يعرف إرادة الله (عدد 21:27)، أما موسى فكان يكلم الرب
وجها لوجه (خروج 11:33؛ عدد 8:12).
فمهما
قام بعد ذلك أنبياء متميزون في وسط إسرائيل، فلم يكن هناك من يفوق موسى إلى أن
يقيم الرب لهم نبيا من وسط إخوتهم… وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به.
ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه (تثنية
18:18-19).
كان
اليهود يتوقعون أن يكون ذلك النبي والمسيح (المسيا/ الممسوح) شخصين مختلفين. ولكن
يسوع المسيح كان المتمّم لكليهما.
وبعد
عدة قرون، أمام أسئلة قادة اليهود الرسميين، اعترف يوحنا المعمدان قائلا: لست أنا
المسيح! فسألوه إذن ماذا؟… ألنبي أنت؟ فأجاب: لا! (يوحنا 20:1-21). وفيلبس، بعد
أن التقى بيسوع، ذهب إلى نثنائيل وقال له: وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس
والأنبياء [أي الذي كتب أيضا عنه الأنبياء]، يسوع الذي من الناصرة (يوحنا 45:1).
وفي
حواره مع ناقديه، قال يسوع: لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني لأنه هو كتب عني.
فإن كنتم لستم تصدقون كتب ذاك فكيف تصدقون كلامي؟ (يوحنا 46:5-47).
وفي
يوم الخمسين، أعلن بطرس أن يسوع قد تمم نبوة موسى هذه، إذ قال: فإن موسى قال
للآباء إن نبيا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم، له تسمعون في كل ما يكلمكم
به (أعمال 20:3-26؛ انظر ملاخي 4:3-5).
فإذا
كان عصيان العهد عقوبته الموت، فكم عقابا أشر تظنون أنه يحسب مستحقا من داس ابن
الله وحسب دم العهد الذي قدس به دنسا وازدرى بروح النعمة؟ (عبرانيين 29:10).
لقد
تنبأ النبي إرميا أنه في الأيام الأخيرة،سيكون هناك عهد جديد ومملكة جديدة (إرميا
31:31-34). فهذه النبوة وغيرها من النبوات التي تتكلم عن المسيا قد تحققت في
المسيح، ملك الملوك ورب الأرباب (رؤيا 16:19؛ قارن 14:17؛ تثنية 17:10). فكما قال
يسوع لبيلاطس: مملكتي ليست من هذا العالم – أي أن العالم ليس هو مصدرها أو منشأها.
وإنما هي مملكة روحية ليس لها انتهاء (يوحنا 36:18).
وقريبا
سوف يرنم جميع المؤمنين ترنيمة موسى عبد الله وترنيمة الخروف قائلين: عظيمة وعجيبة
هي أعمالك أيها الرب الإله القادر على كل شيء! عادلة وحق هي طرقك يا ملك القديسين!
(رؤيا 3:15).
إعلان
عن المسيح: من خلال ذبائح العهد القديم التي لا ينبغي أن يكون فيها عيب أو شيء
رديء (تثنية 1:17). فلقد كان المسيح طاهرا تماما من كل خطية ومن كل شر (1 بطرس
19:1).
تثنية 21 – 23
أعلن
موسى عن المسئولية الخطيرة الموضوعة على الوالدين من جهة تأديب أبنائهم، فقال: إذا
كان لرجل ابن معاند ومارد ولا يسمع لقول أبيه ولا لقول أمه ويؤدبانه فلا يسمع
لهما. يمسكه أبوه وأمه ويأتيان به إلى شيوخ مدينته… ويقولان لشيوخ مدينته: ابننا
هذا معاند ومارد لا يسمع لقولنا وهو مسرف وسكير. فيرجمه جميع رجال مدينته بحجارة
حتى يموت. فتنزع الشر من بينكم ويسمع كل إسرائيل ويخافون (تثنية 18:21-21).
ومن
الواضح أن الناموس قد أفاد في التشجيع على التأديب إذ أن الكتاب المقدس لا يسجل
ولا مرة واحدة أنه قد تم رجم ابن متمرد. ولكن في هذا القانون الشديد نكتشف مبدأ
أبديا: وهو أن إهمال الخضوع للسيادة الصحيحة معناه تشجيع التمرد على البيت وعلى
المجتمع وأيضا على الله.
فإن
الوالدين يرمزون إلى الله بالنسبة لأبنائهم. لذلك فإن رفض وعصيان الوالدين لا يعني
فقط الرفض لهم بل أيضا الرفض للنظام الذي وضعه الله للحياة الأسرية.
فلا
توجد مسئولية موضوعة من الرب على الوالدين أعظم من مسئولية تربية الأبناء في
الطريق التي ينبغي أن يسلكوها (أمثال 6:22). فهذه ليست مسألة اختيارية. ويوجد فرق
كبير بين أن "تربي" [أو تدرب] الولد وبين مجرد أن "تقول" له
رأيك. إن بيوتنا هي المكان المناسب لتطبيق هذا الحق.
إن
جميع الآباء يدربون أبناءهم – سواء عن قصد أو عن غير قصد. فعندما نطلب من أبننا أن
يفعل شيئا، هل ندربه على الاستجابة فورا أم أن ينتظر حتى يعلو صوتنا مهددا
ومتوعدا؟ أم هل ندربه على التأجيل فننسى الأمر وبعد ذلك لا يمكننا التأكد من أنه
قد أنجز ما طلبناه منه؟
إن
البعض يعترضون على هذا المفهوم في التربية، إذ يعتقدون أنه يخمد قدرة الطفل على
التفكير بنفسه. ولكن الرب يعلمنا قائلا: من يمنع عصاه يمقت ابنه ومن أحبه يطلب له
التأديب (أمثال 24:13؛ 11:3-12؛ 18:19؛ 15:22؛ 13:23؛ 15:29-17).
لقد
وُلدنا جميعا بطبيعة آدمية متمركزة حول الذات ومتمردة على السلطة. فبئس مصير الابن
الذي لم يتأدب لأنه سرعان ما سيواجه مشاكل هذا العالم، ولن يكون مستعدا لقسوة
تأديبات الحياة. العصا والتوبيخ يعطيان حكمة والصبي المطلق إلى هواه يخجل أمه
(أمثال 15:29).
إن
ضرب الأبناء شيء غير مستحب، ولكن عند الضرورة يجب أن يتم ذلك بطريقة تصحيحية وليس
بطريقة انتقامية. وبعد التصحيح يجب علينا أن نظهر محبتنا لأبنائنا ونخبرهم أننا
مهتمون بمصلحتهم إلى أقصى حد. فكما أن الله يحب الخاطئ ولكنه يبغض الخطية، كذلك
يجب أن نغرس في أبنائنا الحقيقة بأن محبتنا لهم هي محبة غير مشروطة. فهذه هي بركة
الضرب – أنه بعد التأديب علينا أن ننسى الحادثة وعندئذ تُسترد العلاقة بين الوالد
وابنه؛ ولكن إذا كنا دائمي الصياح والتوبيخ فستنشأ "فجوة بين الأجيال"
وذلك لأننا فشلنا في التعبير عن محبة الله من خلال التأديب.
إن
الله يبين محبته لنا نحن أولاده لأن الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله
(عبرانيين 6:12).
إعلان
عن المسيح: لقد مات المسيح على الصليب بدلا منا، خاضعا لعقوبة الموت التي يفرضها
الناموس على خطايانا (تثنية 23:21). وفي المساء أنزل من على الصليب، بمعنى أن
الناموس كان قد استوفى حقوقه (يوحنا 31:19؛ غلاطية 13:3).
تثنية 24 – 27
في
خطابه الثاني، ركز موسى، وهو المشرع والنبي العظيم، على ضرورة الأمانة والإخلاص في
كل جوانب الحياة. لقد حذر من أساليب الغش والخداع واستغلال الآخرين. وصور ذلك بمثل
البائع الذي لديه نوعان من الموازين والمكاييل – واحد للبيع وآخر للشراء: لا يكن
لك في بيتك مكاييل مختلفة كبيرة وصغيرة. وزن صحيح وحق يكون لك ومكيال صحيح وحق
يكون لك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك. لأن كل من عمل ذلك كل من
عمل غشا مكروه لدى الرب إلهك (تثنية 14:25-16).
إن
كل واحد منا سيجد أمامه الفرصة من آن لآخر إما أن يطبق مبادئ العدل والحق وإما أن
يستغل الآخرين. وقد يكون ذلك في شكل عدم أمانة في العمل، أو بأخذ ما لا يخصنا، أو
معاملات تجارية غير أمينة، أو كذب أو غش. إن جميع أنواع الخداع هي مكروهة لدى
الرب. وعلى العكس فإن الحياة المبنية على مبدأ الأمانة في كل شيء تعطينا العمر
الطويل والرخاء والسلام (تثنية 15:25).
استمر
موسى في التأكيد على أن الله يكره الغش والخداع والرشوة، وأن غضبه يستقر ليس فقط
على الشخص بل أيضا على الأمة التي تجعل هذه الممارسات أسلوبا لحياتها. وهذا ما
يؤكده أيضا الرب يسوع إذ قال: كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم
أيضا بهم (متى 12:7). وهذا المبدأ موضح أيضا في قصة عخان الذي أدت سرقاته إلى موت
36 رجلا (يشوع 1:7-12). إن الأمانة تتخطى حدود ناموس موسى وتنطبق على جميع مظاهر
السلوك المسيحي اليومي، كما هو ملاحظ في العطية "السخية" بل العطية
الخادعة التي قدمها حنانيا وسفيرة والتي أدت إلى موتهما (أعمال 1:5-10). والأشياء
المادية ليست هي الأشياء الوحيدة التي نشتهيها. فإننا كثيرا ما نشتهي الاهتمام
الشخصي أو المدح أو الكرامة.
إننا
نحتاج أن نتعامل مع الطبيعة العتيقة وكل صفاتها حتى تقدر الطبيعة الجديدة أن تنمو
في داخلنا. فالأمانة ليست هي فقط السياسة الأفضل، ولكنها الأٍسلوب الوحيد للحياة
المسيحية. فلا يمكن أن تستقر بركة الرب على أي معاملات تتضمن الخداع، سواء كان
بأفواهنا أو بأفعالنا – وإلى أدق تفاصيلها. فيجب علينا أن نتجنب كل إغراء بالكذب
أو الغش أو السرقة. فالمسيحية تتغلغل إلى صميم طبيعتنا وتحدد لنا المقاييس في جميع
تصرفاتنا. فربما تكون لنا أفكار مرارة أثناء قيامنا بأعمال جيدة – أي أن نقول
كلمات محبة بينما تكون دوافعنا واتجاهاتنا الداخلية خاطئة. إن علاقتنا مع الله ومع
الآخرين تصل إلى ما هو أعمق من الكلمات أو الأفعال، فهي تصل إلى مركز أفكارنا لتكشفها
لنا على حقيقتها.
ومثل
عخان، الذي ظن أنه يستطيع أن يحتفظ لنفسه بما يخص الرب أصلا، فإن الكثيرين منا
ينخدعون اليوم إذ يظنون أنهم يستطيعون أن يغتنوا بأن يحتفظوا لأنفسهم بعشور الرب
ويستخدمونها لصالحهم الشخصي.
تعلن
لنا كلمة الله أن حياة المؤمن يجب أن تكون معبرة عن صدق وعدل المسيح. ففي جميع
المعاملات يحق لنا أن نصلي قائلين: ما الذي كان يسوع سيفعله؟ وستكون إجابته في كل
أمور الحياة: فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئا فافعلوا كل شيء لمجد الله
(1 كورنثوس 31:10).
إعلان
عن المسيح: من خلال تحرير بني إسرائيل من عبودية مصر وعبودية فرعون (تثنية 8:26).
لقد ترك يسوع بيته في السماء لكي يحررنا من عبودية الشيطان وسلطته علينا.
تثنية 28
في
خطابه الأخير إلى بني إسرائيل، يذكر موسى بكلمات مؤثرة تفاصيل البركة التي ستنتج
لو حفظوا عهدهم مع الرب: يزيدك الرب خيرا في كل شيء. فلقد كان أمامهم الاختيار إما
أن يعيشوا بحسب وصايا الرب ويتمتعوا بكل بركاته، وإما أن يرفضوا كلمته ويتحملوا
نتائج ذلك: يرسل الرب عليك اللعن والاضطراب والزجر في كل ما تمتد إليه يدك…
يضربك الرب بجنون وعمى وحيرة قلب… ولا تنجح في طرقك (تثنية 11:28،20،28-29).
في
هذا الأصحاح وحده، يخصص 14 عددا للتعبير عن البركات الرائعة التي ينالها الذين
يطيعون كلمة الله. ولكن يخصص حوالي أربعة أضعاف هذا العدد لوصف نتائج العصيان.
فكما أن الطاعة تقود دائما إلى البركة،كذلك فإن العصيان يؤدي دائما إلى اللعنة
(26:27).
فإن
هذين المبدأين الهامين يتخللان العهد القديم. في مزمور 1، يلهج الرجل المطوب في
كلمة الرب نهارا وليلا وينجح في كل أعماله، بينما يهلك الخاطئ. من هنا نستنتج أن
لكل خطية عواقب، وهذا يصدق دائما. ولكن هذا المبدأ قد يتعرض لإساءة الفهم كما حدث
مع التلاميذ عندما رأوا الرجل الأعمى، فسألوا: من أخطأ هذا أم أبواه حتى ولد أعمى؟
أجاب يسوع: لا هذا أخطأ ولا أبواه لكن لتظهر أعمال الله فيه (يوحنا 1:9-7). فمع أن
العمى كان يبدو أنه لعنة، إلا أنه تحول في الحقيقة إلى بركة لأنه قاد هذا الرجل
إلى معرفة المخلص. ولا يمكن للكلمات أن تصف كيف أن تجربته قد باركت الملايين الذين
قرأوا شهادته على مدى ال 2000 سنة الماضية.
هذا
يدل على أن الكوارث ليست كلها نتيجة للخطية وأن الثروة والصحة ليست دائما نتيجة
لبركة الله. فبعد أن تحول الرئيس الشاب عن يسوع لأنه لم يكن مستعدا أن يتخلى عن
ثروته، قال يسوع: إنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السموات. وقد ذهل التلاميذ من
هذه الإجابة حتى أنهم قالوا: إذن من يستطيع أن يخلص؟ (متى 23:19-25). وسبب تعجبهم
هو أنهم قد أساءوا فهم هذا الخطاب الأخير لموسى. وهذا أيضا يفسر لماذا لم يستطع
بطرس أن يقبل نبوة الرب عن الآلام التي سوف يتألم بها (متى 21:16-24). فإن
"الصليب" كان يبدو متعارضا تماما مع "التاج". إن مبدأ اللعنة
والبركة هو مبدأ أساسي ومطلق، ولكنه غير معترف به عادة في تجاربنا اليومية.
تأمل
تجربة بولس مع هيجان البحر المتوسط بالمقارنة مع تجربة يونان في وقت سابق مع نفس
البحر ونفس الظروف من الهيجان. ففي حالة يونان أرسل الرب العاصفة كأسلوب قضائي
ليلزمه على إعادة التفكير في عصيانه (يونان 4:1 – 10:2). ولكن بالنسبة لبولس، فلقد
كانت العاصفة من أجل إقناع البحارة الذين عانوا من القلق والتوتر والخسائر المادية
وكذلك أهل مالطا بأن يعبدوا الله الواحد الحقيقي الذي يقدر أن ينقذ حياتهم وأن
يشفي المريض بينهم(أعمال 1:27-44، 1:28-10).
فإن
حتى البركات المادية تتحول إلى لعنة مع الذين لا يعترفون بأن كل ممتلكاتهم هي ملك
لله. فإنه قد ائتمنا لكي ندير ممتلكاته لأجل صالحه الأقصى. فنحن وكلاء على ما
أعطانا – سواء كانت مواهب أو وقت أو أموال. فإذا احتفظنا بهذه الأشياء من أجل
ذواتنا أو تركناها كميراث لا يمجد الرب، فإننا سنعتبر مسئولين عن ذلك.
لأنه
حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضا (لوقا 34:12).
إعلان
عن المسيح: كمن هو مصدر بركاتنا (تثنية 1:28-2).
تثنية 29 – 31
في
ندائه الأخير، أخبر موسى بني إسرائيل ما هو سبب هذا الاهتمام الشديد بأن يعيشوا في
طاعة لعهد خضوعهم للرب. فإن الرب الخالق قد اختارهم ليعلن عن نفسه من خلالهم بصفته
الله الواحد الحقيقي الذي يرغب في أن يبارك كل البشرية: فاحفظوا كلمات هذا العهد
واعملوا بها لكي تفلحوا في كل ما تفعلون… لكي يقيمك اليوم لنفسه شعبا وهو يكون
لك إلها كما قال لك وكما حلف لآبائك إبراهيم وإسحق ويعقوب (تثنية 9:29،13). وواصل
موسى كلامه محذرا من نتائج إهمال مسئوليتهم، قائلا: لئلا يكون فيكم رجل أو امرأة
أو عشيرة أو سبط قلبه اليوم منصرف عن الرب إلهنا لكي يذهب ليعبد آلهة تلك الأمم…
فيكون متى سمع كلام هذه اللعنة يتبرك في قلبه [أي يهنئ نفسه] قائلا يكون لي سلام
إني بإصرار قلبي أسلك [أي على الرغم من اني أسلك بعناد قلبي] (18:29-19). فلقد حذر
الرب من أنهم إذا تركوا عهد الرب فإنهم سينهزمون تماما أمام أعدائهم (25:29).
قد
يتعجب البعض لماذا يقول الكتاب: ولكن لم يعطكم الرب قلبا لتفهموا وأعينا لتبصروا
وآذانا لتسمعوا إلى هذا اليوم (4:29). عندما أعطى الرب يسوع مثل الزارع، فلقد كشف
عن سبب العيون والآذان المغلقة: تسمعون سمعا ولا تفهمون. ليس أن المثل كان صعبا
على أذهانهم، ولكن أنهم لم تكن لديهم الرغبة في أن يفهموا بقلوبهم (متى 14:13-19؛
أيضا رومية 1:11-10). فإن الرب لن يجبر أحدا على أن يحبه أو أن يرغب فيعمل مشيئته.
فلقد ظل بنو إسرائيل غير مبالين بخطاياهم ورفضوا أن يصدقوا الأنبياء. لقد خدعوا
أنفسهم بالاعتقاد أن تجاهل كلمة الله ليس أمرا خطيرا بالدرجة التي يتكلم عنها
الأنبياء. فلقد ظنوا أنهم سيكونون في أمان مهما نقضوا علاقة عهدهم. إن هذا الوهم
لا يزال – وللأسف – موجودا في أيامنا وسط بعض من يدعون أنهم مسيحيون بينما ينغمسون
في الشر. لقد حذر يسوع قائلا: لماذا تدعونني يا رب يا رب وأنتم لا تفعلون ما
أقوله؟ (لوقا 46:6).
وقد
قال أيضا: خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني (يوحنا 27:10).
إن
قلبنا بالطبيعة، أخدع من كل شيء وهو نجيس (إرميا 9:17). فنحن بالطبيعة عميان بسبب
تحيزنا وريائنا وإعجابنا بذواتنا. فإن الشخص غير المؤمن يكون مقتنعا بأن كلماته
وأفعاله ومظهره الخارجي هو المهم. ولكن الله ينظر مباشرة عبر أقنعتنا البارعة ويرى
قلوبنا وأفكارنا وأهواءنا ودوافعنا.
إن
الكتاب المقدس هو الإعلان الكامل والوحيد للكيفية التي يريدنا الرب أن نعيش بها:
فهو نافع للتعليم [إذ يخبرنا بما هو صواب]؛ والتوبيخ [إذ يخبرنا بما هو خطأ]
والتقويم [أي يعلمنا كيف نصحح طرقنا] والتأديب [أي يرينا كيف نستمر في الطريق
الصحيح] (2 تيموثاوس 16:3-17؛ أيضا عبرانيين 11:12؛ غلاطية 7:6-8).
من
قال قد عرفته وهو لا يحفظ وصاياه فهو كاذب وليس الحق فيه (1 يوحنا 4:2).
إعلان
عن المسيح: بصفته الحياة. إن يسوع هو القيامة والحياة (تثنية 15:30؛ يوحنا 25:11).
تثنية 32 – 34
إن
موسى- وهو أكثر الناس وداعة على الأرض – قد أنهى خطاباته الثلاثة العظيمة الأخيرة
في الشهر الأخير من حياته. وبعد ذلك أرشده الرب لأن يكتب نشيدا وأن يعلمه لجميع
بني إسرائيل (تثنية 19:31-22). وقد كان النشيد عبارة عن شهادة لأمانة الرب: إني
باسم الرب أنادي، أعطوا عظمة لإلهنا (3:32). هو الصخر (4:32،31)، أي أنه هو الملجأ
الثابت الذي لا يتغير والحصن والحماية الوحيدة التي لا تُقهر – الصخر القدير الذي
لا يتركنا أبدا (عبرانيين 5:13-6). هذا بالمقابلة مع الصخرة الكاذبة، آلهة الأمم
(تثنية 31:32،37)، أي الأساسات المزيفة التي يبني عليها الناس الذين أعمتهم الخطية
رجاءهم ويضعون فيها ثقتهم.
ويتكلم
النشيد أساسا عن الضيق والألم الذي سيقع على بني إسرائيل بسبب ارتدادهم. ولكن في
نفس اليوم، أنبأ موسى أيضا عن البركات الرائعة للنجاح والسعادة التي يمكن أن تتحقق
لهم من خلال الطاعة (تثنية 6:33-29).
كانت
البركة النبوية الأولى عن البكر رأوبين: ليحيَ رأوبين ولا يمت ولا يكن رجاله
قليلين [في الأصل العبري: ليكن رجاله قليلين] (6:33). لم يصدق المترجمون الأوائل
أن موسى قصد أن يقول عن رأوبين: ليكن رجاله قليلين، فوضعوا كلمة "لا"
بخط مختلف مما يشير إلى أنهم يعلمون أن هذه الكلمة غير موجودة في النصوص العبرية.
ولكن موسى كان ملهما من الله حين قال: ليكن رجاله قليلين. قد تبدو هذه الكلمات
شديدة القسوة. ولكن بقدر عظمة امتيازاتنا بقدر قياس مسئوليتنا. وقد فقد رأوبين
امتياز البكورية بسبب الخطية الجنسية (تكوين 3:49-4؛ 22:35). فلم يحدث في تاريخ
هذا السبط أن أنجب قائدا بارزا أو قاضيا أو نبيا أو أحد الأبطال الوطنيين
المشهورين.
وبعد
توزيع البركات الروحية على جميع الأسباط، حول موسى عينيه نحو جبل نبو، وهو أحد
القمم البارزة في موآب. فلقد كان يطل على الطرف الشمالي للبحر الميت، ويمكن
للإنسان أن يقف على جبل نبو ويشاهد أرض الموعد بأكملها، إلى أقصى الشمال حتى دان
وإلى أقصى الجنوب إلى بئر سبع، وغربا حتى البحر المتوسط. فلقد سمح الرب لموسى أن
يرى أرض الموعد، ولكن فقط مع على بعد. والسبب في عدم السماح لموسى بقيادة بني
إسرائيل إلى كنعان مذكور في عدد 1:20-13. وقد كان موسى مثالا لكل إسرائيل أن الله
لن يسمح لناموسه بأن يكسر بدون عواقب. فلقد كانت حياة موسى كاملة من كل وجه، كان هو
معطي الناموس، ولكنه كسر الناموس، ولم تكن هناك استثناءات من جهة النتائج (يعقوب
10:2). إن ثبات ومصداقية الله وكلمته يمكن دائما الاعتماد عليها. فإنه حتى غفران
الخطايا لا يقدر أن يمحو الآثار الزمنية للخطية.
لكنه
بعد عدة قرون، نقرأ عن موسى في أرض الموعد وعلى جبل التجلي، حيث كان يقف كرمز
لناموس الرب مع إيليا الذي كان يرمز لأنبياء الرب. لقد كانا واقفين مع المسيح: لأن
الناموس بموسى أعطي أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا (يوحنا 17:1).
دعونا
مع ابتداء كل يوم، نشتهي أن يكون للرب المكان الأول في كل ساعة من ساعات النهار.
إننا نحتاج أن نتذكر لماذا نحن هنا وما هي أولوياتنا في ضوء القول التحذيري الذي
قاله الرب يسوع: لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ [أي خسر
حياته في ملكوت الله] (متى 26:16).
إعلان
عن المسيح: لأنه ليس كصخرنا صخرهم (تثنية 31:32). كان المسيح هو الصخرة الروحية
التي تابعتهم (1 كورنثوس 4:10).