الإصحَاحُ
السَّادِسُ عَشَرَ

 

«ثم
ذهب شمشون إلى غزة ورأى هناك امرأة زانية فدخل إليها، فقيل للغزيين قد أتى شمشون
إلى هنا، فأحاطوا به وكمنوا لهُ الليل كلهُ عند باب المدينة، فهدءوا الليل كله
قائلين: عند ضوءِ الصباح نقتله، فاضطجع شمشون إلى نصف الليل ثم قام في نصف الليل
وأخذ مصراعي باب المدينة والقائمتين وقلعهما مع العارضة ووضعهما عَلَى كتفهِ وصعد
بها إلى رأْس الجبل الذي مقابل حبرون» (قضاة 1:16-3) يبان أنهُ لم يكن قد اصطلح
أدبياً بل بالعكس تقدم إلى أكثر فجور. كان في المرة الأولى قد حاول أن يتخذ بنتاً
فلسطينية ولكن بالزواج المحلل، وأما الآن فقصد زانية وذلك محرم تحت أية ظروف كانت،
تجاسر إلى أقصى درجة متكلاً عَلَى قوتهِ الفائقة، ولكن بعد أن يقع في فخٍ لا يتخلص
منهُ بقوته وإن كانت عجيبة جدّاً.

 

«وكان
بعد ذلك أنهُ أحبَّ امرأَة في وادي سورق اسمها دليلة، فصعد إليها أقطاب
الفلسطينيين وقالوا لها: تملّقيهِ وانظري بماذا قوتهُ العظيمة، وبماذا نتمكن منه
لكي نوثقهُ لإذلالهِ، فنعطيك كل واحد ألفاً ومائة شاقل فضة…الخ» (قضاة 4:16-20)
صدقَ عَلَى شمشون مثل سليمان الحكيم «إن دققتَ الأحمق في تهاون بين السميذ بمدقٍ
لا تبرح عنهُ حماقتهُ» (أمثال 22:27) لا نقدر أن نتتبع قصتهُ المحزنة بالتفصيل،
فعلى القارئ أن يطالعها في محلها. انظروا النذير الإسرائيلي جبار البأْس ذلك الذي
لم يخشَ أن يلاقي وحدهُ جيشاً غفيراً في ميدان القتال ولو كان موثقاً بحبالٍ جديدة
وليس في يدهِ سلاح، فأين هو الآن؟ إنهُ نائمٌ في حضن امرأَة فلسطينية قد باعت
نفسها لأقطاب أُمتها وهي باذلة جهدها لتكتشف سر قوتهِ، فأين شبل الأسد ذلك الذي
زمجر للقائه بالأمس؟ حقاً قد تحوّل إلى حية فسيغلب جبار إسرائيل ليس بقوة الأسد بل
بحيلة الحية. كنا نرتاب من كونه مؤْمناً لولا ذكر اسمه بين المؤْمنين (عبرانيين
32:11) نعم كان مؤمناً ولكنهُ انخدع من غرور الخطية وسقط في فخ ذلك الصياد القتّال
والمحتال، الذي يجب علينا أن نحترز منهُ كل حين لأننا لسنا أحسن من شمشون إذا
أهملنا كلمة الله وطريق الطاعة، فإن قوته الجسدية وقوتنا الروحية سرهما واحد وهو
الطاعة لله، فإنهُ كان قد أرخى خصل شعرهِ علامة الخضوع لله، وما لم يعلُ عليها
موسى لا يمكن للعدو أن يغلبهُ، أما نحن فقوتنا غير جسدية ولا علامة ظاهرة تميزنا
جسداً عن الآخرين، ولكن مع ذلك عندنا سرٌّ لا يعرفه العالم «سر الرب لخائفيه وعهده
لتعليمهم» (مزمور 14:25) هذا الذي يفصلنا عن العالم ويحفظنا من مسالك المهلك. كان
سر شمشون في خصلهِ المرخية حسب أمر الرب لهُ، ولكنهُ قد كُشف للعدو بواسطة تلك
الامرأَة الزانية التي اغتصبتهُ من قلبه الغبي، كانت طماعة بالمال وعملت بالحيلة
ما لم يقدر بنو شعبها أن يعملوه بكل قوتهم، فإنها غلبت نذير الله وسلبت منهُ سرَّ
قوتهِ. فمهما كان شمشون قد توغل في شهواتهِ قبلاً لم يفارقه الرب ساعة القتال مع
الفلسطينيين لأنه لم يزل محافظاً عَلَى الشرط الوحيد لمداومة قوته فيه، ولكن لما
تغافل عما يليق بإله إسرائيل بهذا المقدار حتى أنع شارك أعدائه وأخبرهم بسره حينئذٍ
فارقه.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ل لوط ط

 

«وقالت:
الفلسطينيين عليك يا شمشون، فانتبه من نومه وقال: أخرج حسب كل مرة وأنتفض، ولم
يعلم أن الرب قد فارقه، فأخذه الفلسطينيون وقلعوا عينيه ونزلوا به إلى غزة وأوثقوه
بسلاسل نحاس وكان يطحن في بيت السجن» (قضاة 20:16و21) مسكين شمشون دق فقد عينيه
ولا يعود ينظر نور النهار إلى الأبد، ولكنهُ كان قد عمي روحياً وأدبياً قبل ذلك؛
لأن العمى الجسدي لم ينتج إلا من العمى الروحي الذي رماه في مخالب المجرب، هاهو في
إهانة لا مزيد عليها، فإن الذي امتلأت أرض الفلسطينيين منه خوفاً يطحن كثور في بيت
سجنهِ، ومن يخاف شمشون الأعمى الآن؟ ولكن لم ينسَ الله عبدهُ المسكين المهان وكان
مزمعاً أن يتداخل بين ظروف تلك الحوادث المهينة لاسمه القدوس بقدر ما كانت محزنة
ومذللة لعبده.

 

«وابتدأَ
شعر رأَسه ينبت بعد أن حُلق، وأما أقطاب الفلسطينيين فاجتمعوا ليذبحوا ذبيحة عظيمة
لداجون إلههم ويفرحوا وقالوا: قد دفع إلهنا ليدنا شمشون عدونا، ولما رآهُ الشعب
مجدوا إلههم لأنهم قالوا قد دفع إلهنا ليدنا عدونا الذي خرب أرضنا وكثر قتلانا،
وكان لما طابت قلوبهم أنهم قالوا: ادعوا شمشون ليلعب لنا، فدعوا شمشون من بيت
السجن فلعب أمامهم وأوقفوه بين الأعمدة، فقال شمشون للغلام الماسك بيده: دعني ألمس
الأعمدة التي البيت قائم عليها لأستند عليها. وكان البيت مملوءاً رجالاً ونساءً
وكان هناك جميع أقطاب الفلسطينيين، وعَلَى السطح نحو ثلاثة آلاف رجل وامرأَة
ينظرون لعب شمشون، فدعا شمشون الرب وقال: يا سيدي الرب اذكرني وشدّدني يا الله هذه
المرة فقط فأنتقم نقمة واحدة من عينيّ من الفلسطينيين، وقبض شمشون عَلَى العمودين
المتوسطين اللذين كان البيت قائماً عليهما، واستند عليهما الواحد بيمينهِ والآخر
بيسارهِ، وقال شمشون: لتمتْ نفسي مع الفلسطينيين، وانحنى بقوة فسقط البيت عَلَى
الأقطاب وعَلَى كل الشعب الذي فيهِ، فكان الموتى الذين أماتهم في موتهِ أكثر من
الذين أماتهم في حياتهِ، فنزل اخوتهُ وكل بيت أبيهِ وحملوهُ وصعدوا بهِ ودفنوه بين
صرعة وأشتأْول في قبر منوح أبيهِ، وهو قضى لإسرائيل عشرين سنة» (قضاة 22:16-31)

 

سبحان
الله الذي لم يدع الأعداء يشمتون إلى النهاية، كان لهم وقت أولاً لذلك واغتنموا
الفرصة ليذللوا أسيرهم الشيخ ويهينوا إله إسرائيل أيضاً، فابتدأ شعر رأْسهِ ينبت،
ولا شك أنهُ صار يعرف قيمة سرّهِ الآن، لم يفقد نظر عينيهِ عبثاً، ولا صرف تلك
الأيام المحزنة يطحن في بيت سجنهِ بلا فائدة عظيمة، فإنهُ صار يبصر أحسن بلا
عينيهِ مما كان قد أبصر بهما قبلاً، فقد أساءَ استعمالهما في أيام جهالتهِ وفقد
نظرهما إلى الأبد، ولكنهُ لم يفقد إيمانهُ بالرب إلههِ، فدعا شمشون الرب وقال: يا
سيدي الرب اذكرني وشدَّدني هذه المرة فقط فأنتقم نقمة واحدة عن عينيَّ من الفلسطينيين،
نعم كان لهُ إيمان ولكنهُ كان لم يزل مفتكراً بنفسهِ وطلب الانتقام من أعدائهِ لما
عملوا بهِ شخصياً، كان ذلك أهمَّ الأشياءَ عندهُ وأعظمها، ومع ذلك لم يتغاض الرب
عن صراخهِ. لا ننسَ وجود طبيعة ردية فينا تحملنا عَلَى ارتكاب ما يهين الله ويجلب
التأديب علينا، وشمشون هو مثلنا إذا حدنا عن طريق الطاعة كما حاد هو، ولكن إله
شمشون هو إلهنا أيضاً، فإنهُ لم يمتنع عن أن يمجد نفسهُ فيهِ ساعة ضيقتهِ العظمى
حين أصبح لعبة لأولئك الفلسطينيين الغرل الذين ظنوا أن إلههم داجون انتصر عَلَى
إله إسرائيل. كان شمشون يشعر في ظروف كهذه أنهُ أيسر عليهِ أن يموت من أن يعيش بعد
أسيراً مهاناً في بلاد الفلسطينيين، وشاءَ الله أن يجري أموراً عظيمة بموتهِ،
عَلَى أن موتهُ كان نوعاً من التأديب؛ لأنهُ من الأمور المذللة أن يكون موتهُ أهمَّ
من حياتهِ فإنهُ لم يبق طريق لإبقائهِ في الحياة بعد لمجد الله ولخير لإسرائيل. لم
ينهِ حياتهُ بشيبة صالحة مثل جدعون وغيرهِ من قضاة إسرائيل بل مات بين الغرل كما
يموت الأحمق، ولكن شاءَ الله أن الموتى الذين أماتهم في موتهِ كانوا أكثر من الذين
أماتهم في حياتهِ.

هل تبحث عن  هوت روحى كلمة منفعة 43

 

عاد
الوحي فذكر هنا مدة قضائهِ؛ لأن حياتهُ كانت قد انتهت أدبياً في آخر الإصحاح
الخامس عشر، قد انتهى تاريخ القضاة الذين آخرهم شمشون، وقد رأَينا انحطاط إسرائيل
التام في هذا السفر.

 

ملاحظة:
أن الله قد أقام كنيستهُ في العالم لكي تكون نذيرة لهُ كل مدة إقامتها هنا، وقد
منحها الروح القدس ليحفظها عروساً عفيفة للمسيح ويقويها لتغلب العالم حال كونها
منفصلة عنهُ، ولكن العالم قد غلب عليها وأحرمها بصرها الروحي، وذلك لأنها تركت
مقامها ونسيت دعوتها وصارت تلاعب المجرب، فإذا نظرنا إليها كنظام ظاهر في العالم
نراها خربانة وأسيرة عمياء في يد العدو الذي لا يكف عن أن يشمت فيها لا بل
يستعملها آله لمقاصدهِ نظير شمشون في بيت سجنهِ، ولكن دينونة العالم مقبلة. لا شك
أن النظام المسمى الكنيسة يتلاشى أيضاً في وقت دينونة العالم؛ لأنها قد اختلطت
معهُ ولا نقدر أن نميز بينهما، ولكن مقصد الله أن يدين العالم وينتقم منهُ لكونهِ
قد رفض ابنهُ وأفسد كنيستهُ ويشمت باسمهِ وبكلمتهِ بسبب سوء حالة الكنيسة نفسها،
فالويل للعالم بسبب العثرات.

 

ثم
إذا نظرنا إلى سلوك المؤْمنين بمفردهم نرى أن هذا المبدأ نفسهُ يصدق عليهم؛ لأن
الآب يحكم من غير محاباة في بيتهِ الآن. إن كان أحد أولاد الله يعاشر العالم
معاشرة ممنوعة لا يقدر أن ينجح إلى النهاية؛ لأن الله لا بد أن يحوّل المعاشرة
والصداقة إلى المرارة إذ يؤَدب المؤْمن بالشيء نفسهِ الذي أهان الله بهِ. فليتأمل
القارئ المسيحي في هذا لأن الله لم يشمخ عليهِ، فإن محبة العالم عداوة لله لأن
العالم عدوَهُ، والمؤمن إذا انحاز إلى العالم قد خان إلهه وزنى عنهُ روحيّاً ولا
بد من التأْديبات التي من شأنها أن تفكره بزناه وتسقيه المر مما كان يحسبهُ حلواً.
لا نقدر أن نغلب العالم إلا بواسطة انفصالنا عنهُ روحيّاً ومقاومتنا إياهُ، وإذ ذاك
يضطهدنا ولكن الضيقات نفسها الناتجة لنا من ذلك تظهر لنا ما هو العالم وتنقي
قلوبنا من محبتهِ. إذا تساهلنا مع العالم نفقد النظر والتمييز ونصبح نظير شمشون
الأسير الأعمى لعبة للعالم. نعم المؤْمن الحقيقي لن يهلك لأن الله قد أعطاهُ
الحياة الأبدية، ولكن ليس من مقصدهِ أن يتركنا لنعيش لأنفسنا وللعالم، حاشا
وكلاَّ؛ لأن مجرد كوننا نذراءَ لله يقتضي إجراء التأديب بحيث أن الله يحافظ عَلَى
مجدهِ في أولادهِ عَلَى كل حال، وبما أنهُ ليس مزمعاً أن يدينهم مع العالم في
المستقبل يحكم عليهم بالتأديب الآن؛ «لأننا لو كنا حكمنا عَلَى أنفسنا لما حُكم
علينا، ولكن إذ قد حُكم علينا نؤَدَّب من الرب لكي لا ندان مع العالم» (كورنثوس
الأولى 31:11و32) أرجو القارئ لا يستهين بموضوع تأديب الرب؛«لأن مخيف هو الوقوع في
يدي الله الحيَّ» (عبرانيين 31:10) قيل هذا عن معاملة الله للذين عندهم نور كلمتهُ
إن كانوا مؤمنين حقيقيين أو غير حقيقيين وصدر منهم ما أهانهُ وأغاظهُ.

هل تبحث عن  الكتاب المقدس يسوعية كاثوليكية عهد قديم سفر حزقيال 39

 

أخيراً
أقول أن قانون الله لإجراء التأْديب عَلَى شعبهِ أو النقمة عَلَى أعدائهِ هو مقدار
النور المعطى لهم، فالمسيحي الذي عندهُ نور الإنجيل الكامل لا يقدر أن يعيش كالذي
ليس عندهُ ذلك، فإن الله يطالبهُ في أكثر. إن التأديب من الله عَلَى أولادهِ جارٍ
الآن عَلَى أنهم قد تغافلوا عن كلمتهِ في شأن هذا الموضوع إلى هذا المقدار حتى
بالكاد يدرون أو يلتفتون إلى يد ضاربهم.

 

فليراجع
القارئ (أيوب 14:33-30) حيث توضيح لمعاملة الله مع الإنسان من هذا القبيل، يتكلم
الله مع الإنسان مرة و مرتين ولكنهُ لا ينتبه، ثم يتخذ وسائط غير اعتيادية
كالأحلام بالليل قاصداً بها أن يوقظهُ من الغفلة ويرجعهُ عن طريقهِ، ولكنهُ يستمر
عَلَى عناد قلبهِ ثم يتلف الله جسدهُ بأوجاع إلى أن يتوب ويقول : «قد أخطأت
وعوَّجت المستقيم» فعند ذلك يعود الرب يقيمهُ ويفرح قلبهُ. نعرف من مواضع أخر أنهُ
ممكن أن التأديب يشتد حتى إلى موت جسد المؤْمن، أنظر ( أعمال الرسل 1:5-11) و(
كورنثوس الأولى 5:5و11:30-34) و(عبرانيين 5:12-11) و( يوحنا الأولى 16:5و17) يجب
أن نتقي الرب ونسلك بمخافتهِ يا اخوتي؛ لأنهُ ليس أقلّ غيرة عَلَى مجدهِ في الذين
هم لهُ الآن مما كان في الأيام القديمة. ما أحزن حالنا إذا تمكن فينا العمى
والعصيان! إلى أن لا يكون طريق لله أن يبقينا في الحياة بعد لمجدهِ، فإذ ذاك يكون
موتنا أنسب من حياتنا، ليس المعنى أن موت جميع المؤمنين هو عَلَى سبيل التأديب؛ لأن
الموت لا بد منهُ إن لم يأتِ الرب قبلُ، ولكنهُ أمر واضح من الكتاب أن الله بعض
الأوقات يؤدّب شعبهُ حتى إلى الموت، كذلك النظام المسيحي في العالم بحيث أن الله
صابر عليهِ مع جميع الإهانات التي صارت لمجدهِ بسببهِ، لكن متى كَمُل إثمهُ ينزعهُ
الله بضرباتهِ مع أنهُ سينهي وجود النظام العالمي في ذلك الوقت نفسهِ ويبدئُ
العالم العتيد الذي نتكلم عنهُ، ومن العلامات الدالة عَلَى قرب وقت الدينونة عموم
النصارى قد فقدوا بصرهم واستعبدوا للعالم الحاضر الشرير

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي