الإصحَاحُ
الأَوَّلُ

 

قبلات
الحب والوحدة والاستنارة وسكب النفس

8. ما
معنى: "ليقبلني بكلمات فمه"؟ فكروا في الكنيسة التي انتظرت مجيء الرب
لقرون طويلة، الذي وعدها بذلك خلال الأنبياء في القديم. فكروا في النفس التي تسمو
فوق الجسد وترفض الانغماس في الملذات والمسرات الجسدية، تاركة أيضًا الاهتمام
بالأباطيل الدنيوية. لقد اشتاقت زمانًا طويلاً أن تلتحم بحضرة الله، واشتهت أيضًا
إلى نعمة كلمة الخلاص، وها هي قد أصابها الهزال لأنه يأتي متأخرًا، ها هي قد
تقوّضت وجُرحت حبًا (نش 5: 8)، فهي لا تقوى على تأجيلاته (في المجيء). وإذ تتجه
نحو الآب تسأله أن يرسل إليها إلهها الكلمة، وتعلل سبب نفاذ صبرها بالقول:
"ليقبلني بقبلات فمه". إنها لا تسأل عن قبلة واحدة بل تطلب قبلات كثيرة،
لكي تُشبع اشتياقاتها. لأنها كحبيبة لا تقنع بتقدِمة ضئيلة من قبلة واحدة، بل تطلب
الكثير، وتحسب أن لها الحق في التمتع بالكثير، ومن ثَمَّ صارت تألف أن تطلب لنفسها
أكثر وأكثر من محبوبها. لقد نالت استحسانًا في الإنجيل إذ "لم تكف عن تقبيل
قدمَيَّ" (لو 7: 45)، و "غفرت خطاياها الكثيرة، لأنها أحبت كثيرًا"
(لو 7: 47).

 

مثل
هذه النفس تريد قبلات كثيرة من الكلمة، لكي تستنير بنور معرفة الله، لأنها هذه هي
قبلة الكلمة، أعني نور المعرفة المقدسة. يقبلنا الله الكلمة حينما ينير قلوبنا
وينير القدرة المتحكمة الفعلية بروح معرفة الله. النفس التي تنال تلك الهبة تبتهج
وتفرح بعربون الحب العروسي (الزيجي)، وتقول: "فغَرْت فمي ولهثت" (مز
119: 131). لأنه بالقبلة يلتصق الأحباب ببعضهم البعض، وينالون عذوبة النعمة التي
في الداخل. بهذه القبلة تلتصق النفس بالله الكلمة، وبالقبلة تنسكب روح من يقبَّل
داخل النفس، تمامًا مثل الذين لا يكتفون في قبلاتهم بلمس الشفاه على خفيف إنما
يَبْدون وكأنهم يسكبون أرواحهم الواحد في الآخر.

9. إذ
تبدو أنها لا تحب فقط ظهور الكلمة ووجهه بل كما لو كانت تحب أعماقه الداخلية،
فتضيف إلى نعمة القبلات: "ثدياكِ أطيب من الخمر، ورائحة أدهانك تفوق كل
الأطياب" (نش 1: 2-3
LXX). لقد
طلبت القبلة، سكب الله الكلمة نفسه فيها بالتمام وكشف عن ثدييه، أي تعاليمه
ونواميس الحكمة التي في الداخل، ورائحة أدهانه التي تفوق كل الأطياب. هذا كله
يَسْبيها، فتقول النفس إن التمتع بمعرفة الله أغنى من الفرح بأية لذة جسدانية، إذ
تفوح في الكلمة رائحة النعمة وغفران الخطايا. وإذ تنسكب في كل العالم تملأ تلك
المغفرة كل شيء وينسكب الدهن لينزع أوراق الرذيلة الثقيلة عن الناس.

 

اجتذاب
الكلمة للنفس

10.
"لذلك أحبتك العذارى، اجذبنا فنجري وراء رائحة أدهانك" (نش 1: 3-4).
حقًا، صالح هو التعقل؛ لكن الرحمة عذبة، وقليلون هم الذين يحظون بالأولى (التعقل)؛
أما الأخيرة (الرحمة) فتَحِلّ بجميع البشر. "بسبب حنو رأفتك تحبك النفوس
المتجددة بالروح". في هذا الصدد قيل أيضًا للنفس: "يتجدد مثل النسر
شبابك" (أف 4: 23، مز 103: 5). لأن المرتل تحدث مع النفس، قائلاً:
"باركي يا نفسي الرب" (مز 103: 1). لهذا تُسرع النفس إلى الكلمة، وتسأل
أن تُجذَب إليه، لئلا تُتْرك بعيدًا، لأن "كلمة الله لا تُقيِّد" (2 تس
3: 1؛ 2 تي 2: 9)، وحقًا "يبتهج مثل الجبار للسباق في الطريق" ولأن
"خروجه هو من أقصى السماوات ومدارها إلى أقاصيها" (مز 19: 6-7). وإذ ترى
النفس أنها ليست ندًا لمثل هذه السرعة العظيمة تقول: "اجذبنا"، إذ لنا اشتياق
أن نتبعك، وهو ما استنشقناه من عطية نعمة أطيابك. لكننا إذ لا نقوى على مجاراة
سباقك اجذبنا أنت فنتبع خطواتك بمعونتك وتعضيدك. إن جذبتنا نجري ونحظى بنسائم
الركض الروحية. فإنّ مَنْ لهم يدك عونًا يُلقون بأثقالهم جانبًا، وينسكب فيهم زيتك
الذي يشفي مَنْ جرحه اللصوص (لو 10: 34).

لا
تعتبر قولها "اجذبنا" عيبًا إذ تسمعه يقول: "تعالوا إليَّ يا جميع
المُتْعَبين والثَقِيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت 11: 28). أتَرَوْن كيف
يجذبنا بفرح لئلا نُترك في الخلف ونحن نتبعه.

 

هو
يجذبنا ونحن نركض ولا نتوانى

لكن
مَنْ يريد أن يجتذب يلتزم أن يركض فينال. ليركض ناسيًا الأمور الماضية، طالبًا ما
هو أفضل، بهذا يقدر أن ينال المسيح. في هذا الصدد يقول الرسول أيضًا: "اركضوا
لكي تنالوا" (1 كو 9: 24).

هكذا
تشتاق النفس إلى بلوغ الجعالة التي تريد التمتع بها. لهذا تسأل بحكمة أن تُجْتَذب،
لأنه ليس كثيرون قادرين على أن يتبعوه. حقًا عندما سأله بطرس: "إلى أين أنت
تذهب؟" أجابه كلمة الله: "حيث أذهب لا تقدر الآن أن تتبعني، ولكنك
ستتبعني أخيرًا" (يو 13: 36). لقد ائتمنه الرب على مفاتيح السماء (بالإيمان
المُعطى للتلاميذ) (مت 16: 29)، ومع هذا حكم بطرس على نفسه أنه ليس بكفء أن يتبعه.
مع ذلك لم ينبذ الرب تلك النفس، لأن بطرس لم يكن يتطاول (متجاسرًا) وإنما كان
يتساءل

هل تبحث عن  م الأباء كتب بستان الرهبان أباء الرهبنة أنطونيوس س

 

رابعا : تمتع النفس بحِجال الملك "الحياة السماوية"

جمال
داخلي!

11.
حقًا "أَدْخَلني الملك إلى حِجاله" (نش 1: 4
LXX).

طوبى
للنفس التي تدخل إلى الحِجال، إذ تسمو فوق الجسد لتصير بعيدة (سامية) عن الكل؛
تبحث وتطلب في داخلها عن طريق ما به تتبع الإلهيات. وإذ تبلغها تتجاوز المُدرَكات
العقلانية، فتتقوى بالإلهيات وتقتات عليها.

هكذا
كان بولس، الذي أدرك أنه أُخْتُطِف إلى الفردوس لكنه لم يكن يعرف إن كان في الجسد
أم خارج الجسد (2 كو 12: 3-4). فقد نهضت نفسه من الجسد، وانسحبت عن ضرورياته
ورباطاته وسمت إلى فوق. صار غريبًا عن نفسه بنفسه، وصان في أعماق نفسه الكلمات
السرية التي سمعها ولم يقدر على إعلانها، لأنه، كما صرح هو، لم يكن مسوغًا لإنسان
أن ينطق بمثل تلك الأفكار (2 كو 12: 4).

لهذا
تحتقر النفس الصالحة الأمور المادية المتقدة، ولا تعود تتعلّق بها أو تتوانى أو
تتوقف عن الاستخفاف بها؛ بل بالحري تنهض إلى الأبديات غير المادية والعجيبة، لأنها
تقوم بفكر طاهر وبذهن نقي. وإذ تعزم على الكمال تجاهد لأجل الخير فقط، الخير
الإلهي، وتحسب ما عداه ليس ضروريًا، إذ تملك ما هو أسمى. مثل هذا الإنسان تحمل
نفسه جمالاً أكثر مما تحتاج إليه، حتى لو كان متروكًا وحده، إذ يجد الشبع في
داخله، ومن ثَمَّ لا يُحسب هذا الإنسان معزولاً وحده لأن الرب معه شفيعًا له.

 

فرح
داخلي!

12.
حقًا، حينما يُؤْتي(يُؤْتى؟؟) بها إلى اللاهوت الخفي (السري)، تقول النفس:
"فلنفرح ولنبتهج بك، لتكن لنا ثدياك أكثر من الخمر" (نش 1: 4
LXX). فإن البار لا يبتهج بالغِنَى وكنوز
الذهب والفضة ولا بالتمتع بممتلكاته، ولا بالقوة ولا بالولائم إنما بالله وحده.

صراعها
مع الظلمة

13.
وأيضًا إذ أدركت هذه النفس أنها قد أُظْلمت باتحادها (بشهوات) الجسد تقول للأنفس
الأخرى أو لقوات السماء المسئولة عن الخدمة المقدسة: "لا تنظرن إليَّ لكون
بشرتي سوداء، لأن الشمس لم تنظر إليَّ، وبنو أمي غضبوا عليَّ" (نش 1: 6(
LXX ، أي هاجمتني شهوات الجسد، وأضْفت
مفاتنه على لوني، لهذا لم يشرق شمس البر عليَّ (ملا 3: 20). إنني محرومة من هذه
الحماية، لم أستطع الحفاظ على تكريسي وطاعتي الكاملة. هذا هو معنى: "كرمي لم
أحفظه" (نش 1: 6). لأنني أنتجت شوكًا لا عنبًا، أي أنتجت خطايا عوض الثمار
الروحية (مت 7: 16-20).

 

حاجتها
إلى راحة الظهيرة

14.
وحينما نتحدث عن الكلمة وضيائه الذي يشرق عليها، فتلتفت إليه قائلة: "أين
ترعى قطيعك؟ أين تستريح عند الظهيرة؟" (نش 1: 7)، كان الوقت
"ظهيرة" عندما احتلَّ يوسف مكانه وسط إخوته في المأدبة، وكشف لهم عن
أسرار الأزمنة المقبلة (تك 43: 15)، ويقول داود أيضًا: "سلِّمْ للرب طريقك
واتكل عليه وهو يُجري، ويخرج مثل النور برّك، وحقك مثل الظهيرة" (مز 37:
5-6). كما أعلن بولس ذاته أن النور أبرق حوله كالظهيرة عندما اهتدى من مضطهد
للكنيسة إلى النعمة (أع 9: 3).

لذلك
تشكو النفس لأنها هُجرت، لأنها تُركت، وقد صارت فقيرة، هذه التي كانت غنية، لأنها
كانت تفيض بعطايا النعمة وقد صارت في عوز، حينما حُرمت من ملء الحضور الإلهي؛ ها
هي تطلب أن تُعالَج كأنها كانت قبلاً أجيرة، هذه التي سبق فتمتعت بغنى الاتحاد.

حاجتها
إلى تقديرها لنفسها بالتوبة

15.
يجيبها كلمة الله: "إن كنتِ لا تعرفين نفسك أيتها الجميلة بين النساء"
(نش 1: 8)، لأنكِ تشتكين بأنك قد هُجرت، "إن كنتِ لا تعرفين نفسك"، أي
إن لم تتوبي، إن لم تُظهري تقوى يقظة، إن لم يزد إيمانك ويَنْمُ اتكالك، لن
تُجْدِي شكواك.

إن
كنتِ لا تعرفين نفسك أنكِ جميلة، وإن لم تحفظي جمال طبيعتك، ولا تسود عليكِ
إغراءات الجسد، ولا تعوقك موانعه، لن يُعينك شرف خليقتك مطلقًا.

 

تمتعي
بجمال الحرية!

16.
لهذا اعرفي نفسك وجمال طبيعتك، وانطلقي كأن قدميك قد تحررتا من القيود، وقد ظهرتا
مَرْئية في خطواتهما المكشوفة، فلا تشعرين بأغطية جسدانية، ولا تعوق روابط الجسد
خُطى ذهنك؛ فتظهر قدماك جميلتين. لأنه هكذا هو حال من اختارهم الرب للشهادة عن
ملكوت السماوات، إذ قيل عنهم: "ما أجمل أقدام المبشرين بإنجيل السلام"
(رو 10: 15؛ إش 52: 7).

هكذا
كان حال موسى الذي قيل له: "اخلع الحذاء من رجليك" (خر 3: 5)، فإنه إذ
كان مزمعًا أن يدعو الشعب إلى ملكوت الله، وجب عليه أن يخلع ثياب الجسد ويمشي
بروحه وخطى ذهنه عارية. لهذا يقول الرب: "اُخرجي على آثار الغنم واِرعي جداءك
عند خيام الرعاة" (نش 1: 8). نفهم أن الغنم هو الملكوت، لأن ممارسة رعاية
الغنم تتطلب قوة. أيضًا يختبر كل إنسان رعاية نفسه بنوعٍ ما بقوة ملوكية وذلك إذا
ما كبح إفراط الجسد في داخله، وقمَع جسده واستعبده، لذا قيل: "ملكوت الله
داخلكم" (لو 17: 21). في هذا الصدد قال الرب للنفس: "اُخرجي"، أي
"اُخرجي من العبودية"، اُخرجي من سيطرة الجسد وسلطانه. اُخرجي، لا في
الجسد، بل في الروح. اُخرجي إلى سلطان القوة. لذا يُضيف: "وارعي جداءك (الصغيرة)"،
أي اضبطي الأمور التي على يسارك، فإنها إذا لم تُضْبَط سرعان ما تسقط (مت 25: 33).
اكبحي شهواتك. شهوة جسدك، والانغماس في الشهوات الحيوانية. اضبطي أهواءك المتقلبة،
لا ترعيها عند خيام الجسد بل في خيام الرعاة الذين تعلموا كيف يقودون القطيع.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس م موسى 1

لأنه
"ما أحسن خيامك يا يعقوب، مساكنك يا إسرائيل… كجنات على نهر" (عد 24:
5-6). فيها ترقد النفس كأنها مستعدة للحرب، تؤدي خدمة طيبة، تبحث عن غزوات الخصم،
وتطلب النصرة بجهاد الفضيلة. فتُقارَن بجواد سليمان المطهَّم، السريع في العَدْو،
والخصيب في الإنجاب، فإن خصوبة النفس مرغوبة ومطلوبة.

 

جاهدي
كفرس في حرب

17.
إنها جواد ثمين، هي مركبات فرعون السريعة (نش 1: 9).

يعتبر
البعض هذا النص (نش 1: 9). إشارة إلى الكنيسة والشعب، لكنني سبق أن تحدثت عن هذا
السر مرارًا خاصة في تفسير مزمور 118 (119)، بأن الحديث هنا هو عن النفس. فالنفس
تُقاد مثل الفرس، أعني أن لها فضيلة نبوية أو رسولية، لأنها تُحسب ضمن الذين ملأوا
كل أقاصي الأرض بخصوبة كرازتهم؛ وهم لا يزالون بعد في الجسد لا يشعرون بفقدانهم
سعيهم الروحي. من أجل هذا تنال هذه النفس مديحًا، إذ صارت جميلة وبهية بإرشاد
الوصية السماوية واستنارتها. تعكس على وجهها جمال العفة، وحينما تتحلى بقلادتها
حول عنقها تظهر علامات الصبر والتواضع.

لقد
أحب إسحق الحقيقي جمال مثل هذه النفس وتواضعها وصبرها، وترقب باشتياق ذريتها.

 

ذرية
النفس الجميلة

18.
الآن حبلت رفقة (تك 25: 21)، وبصبرها حلت عقدة العقم. لنتأمل ما أنجبته نفسها
النبوية الرسولية، وكيف مضت تستشير الرب (تك 25: 22)، لأن الطفلين تزاحما في
بطنها، فتلقت الإجابة: "في بطنك أُمتان" (تك 25: 23). لأنها لم تعطِ
نفسها حق الحكم في الأمر بل سلمته لله كمدافع علوي فائق يهبها المشورة، وإذ امتلأت
سلامًا وتقوى جمعت أُمتين معًا بإيمانها خلال النبوة، وأغلقت عليهما في بطنها، إن
جاز التعبير.

 

تُحسب
أختًا للجميع

19.
ليس بدون سبب دُعيت أختًا أكثر منها زوجة (لواحد). فإن نفسها الرقيقة المسالمة قد
اشتهرت بحبها الشديد للجميع أكثر من الاتحاد بفرد واحد؛ فقد حسبت نفسها مرتبطة
بالكل (في أخوَّة) ولا تقف عند اتحادها بالواحد.

 

تفتح
آبار الإيمان والتكريس

20.
الآن، أعاد إسحق نبش عدة آبار سبق أبوه أن حفرها لكن الغرباء طمسوها بعد موت أبيه
إبراهيم. بجوار تلك الآبار حفر أيضًا واحدة في وادي جرار حيث وجد هناك بئر مياه
حية، وتنازع رعاة جرار مع رعاة إسحق زاعمين ملكيتهم لماء تلك البئر، فدعا اسمها
ظلمًا (عسق) (تك 26: 20). ثم حفر بئرًا آخرى ثار عليها نزاع أيضًا فدعاها عداوة
(سطنة) (تك 26: 21). ثم حفر بئرًا ثالثة، ولم يحدث عليها خصام بين الرعاة، فدعاها
رحوبوت أي متسعة للكل (تك 26: 22). وحفر أيضًا بئرًا لم يجد فيها ماءً فدعاها بئر
القَسَم (تك 26: 25).

21.
هل عندما يقرأ أحدكم (عن هذه الآبار) يحسبها أعمالاً أرضية لا روحية؟ فقد حفر
إبراهيم آبارًا، وهكذا فعل إسحق أيضًا، ويعقوب، البطاركة العظماء… كأنهم كانوا
ينابيع الجنس البشري، خاصة كآبار للإيمان والتكريس. لأنه ما هو بئر الماء الحيّ
إلاَّ عمق الإرشاد! لهذا رأت هاجر ملاكًا بجوار بئر (تك 21: 14)، ووجد يعقوب زوجته
راحيل بجوار بئر (تك 29: 2، 9-10)، ونال موسى أولى مكافآته لزواجه المستقبل بجوار
بئر (خر 2: 15-22).

 

المعاني
الرمزية للآبار (أخلاقية ثم طبيعية ثم سرية)

22.
لهذا أخذ إسحق على عاتقه أن يحفر آبارًا برؤيا عميقة وبتدبير حسن، وذلك لكي تغسل
بئره وتُقوِّي قدرة النفس العاقلة وبصيرتها فتصير الرؤيا أوضح.

لقد
حفر آبارًا أخرى عديدة، وكُتب بهذا الخصوص: "اشرب مياهًا من آنيتك ومن نبع
آبارك" (أم 5: 15
LXX). كلما
كثرت الآبار ازداد غِنَى فيض النعم.

نبش
بئرًا سبق فحفره أبوه إبراهيم، وقد تنازع عليه رعاة جرار؛ هذا يشير إلى جدران
الفصل، إذ حدث انقسام بين المتنازعين وصار ظلم، وقد دُعِيَ البئر
"ظلمًا"، ثم حفر بئرًا أخرى وحينما قام النزاع دعاها عداوة. يبدو في هذا
تعليم أخلاقي، لأنه ما أن تُزال جدران الفصل تُنزَع العداوة طبيعيًا. التي في جسد
الإنسان ويصير العنصران (الجسد والنفس) واحدًا؛ هذا ما تحقق رمزيًا في إسحق
وبالحقيقة بالمسيح. لهذا وُجِد بعد ذلك ماء نقي في البئر (الثالثة)، صالحة
للشرب… وقد دعيت "رحبوت"، لأن الإنسان الذي يتجاوز الأمور العالمية
المادية يكون هادئًا رابط الجأش يجاهد دون منازعة… ويقول: "الآن قد أَرْحب
لنا الرب وأثمرنا في الأرض" (تك 26: 22)؛ لأنه قد سُمِّي على الأمور الأرضية.
أما البئر الأخيرة فهي بئر القَسَم (العهد)، حيث ظهر له الله، قائلاً: "لا
تخف لأني معك" (تك 26: 24)، وباركه هذا تعليم سرِّي.

هل تبحث عن  شبهات الكتاب المقدس عهد جديد إنجيل يوحنا الروح القدس لم يكن قد أعطى بعد د

23.
لديكم تعليمًا مماثلاً في سليمان. سفر الأمثال الذي هو أخلاقي، وفي سفر الجامعة
يستهين بأباطيل هذا العالم كأمر طبيعي. أما نشيد الأناشيد فسِرِّي.

لديكم
أيضًا في النبي: "ازرعوا لأنفسكم بالبرّ، احصدوا ثمرة الحياة، اَضيئوا لأنفسكم
نور المعرفة" (10: 12
LXX). هذا
هو نور المعرفة أن يكون لكم كمال الحب. فقد قيل: "لا تخافوا، لأن المحبة تطرد
الخوف خارجًا" (1 يو 4: 18).

لنعرف
أن سليمان فسَّر تلك الآبار، ونسب إليها معانٍ أخلاقية وطبيعية وسرية بالترتيب.

أ.
الآبار في المفهوم الأخلاقي

24.
لأنه في الأمثال إذ تحدث عن رفضه جمال الفتن العالمية حيث قال: "اشرب مياهًا
من آنيتك، ومن نبع آبارك، ولتُفِضْ مياه ينبوعك لك" (أم 5: 15-16
LXX)، وأيضًا: "ليكن ينبوع مياهك لك
وحدك وافرح بزوجتك" (أم 5: 18
LXX)، لأن
الحكمة الحقيقية هي علاجنا ضد تجارب العالم والتعليم الأخلاقي أيضًا. فإنه
بسَرَيان مياهها الفائض من نبعها تُغسَل صورة الإنسان وتتطهر هذه التي تلطخت
بمساحيق مباهج العالم التي تستخدمها الزانية، إن جاز التعبير.

ب.
الآبار في المفهوم الطبيعي

25.
بالإشارة إلى المفهوم الطبيعي، تجدونه في سفر الجامعة: "عملت لنفسي بِرَك
مياهٍ لتسقي بها المغرس المنبتة الشجر" (جا 2: 6). لا تهتموا أنه قال
"بِرَك" بدلاً من "الآبار".

ج.
الآبار في المفهوم السرِّي

26.
تبقى لنا البئر في المفهوم السرِّي، نجدها في نشيد الأناشيد، حيث يقول الكتاب
المقدس: "ينبوع جنات بئر مياه حية وسيول من لبنان" (نش 4: 15). حقًا إن
أردتم سبر؟؟ عمق الأسرار تُظهِر البئر لكم حكمة سرية مؤسسة في الأعماق. لكن إن
أردتم شرب وفرة الحب الأعظم والأغنى من الإيمان والرجاء فلكم نبعكم، لأن المحبة
تفيض بِغنى لكي تقدروا أن تشربوها وتكون بين أيديكم، تروي جنتكم بغزارة، فتأتي
بثمار روحية.

لأن
الحبيب (المحب) هناك وراء بئر رحبوت، يقول الكتاب المقدس حيث يوجد الحب هناك
مَجْرَى قوي يتدفق عبر لبنان.

لنَسْمَح
للإنجيل أن يعلمنا (عن البئر بالمفهوم السِرِّي)، إذ كتب أن "يسوع أتي إلى
مدينة من السامرة يُقال لها سوخار بقرب الضيعة التي وهبها يعقوب ليوسف ابنه، وكانت
هناك بئر يعقوب. فإذ كان يسوع قد تعب من السفر جلس هكذا على البئر" (يو 4:
5-6). بهذا نعرف أيضًا أن هذه البئر تُفْهَم سرّيًا. فالمرأة السامرية، حارسة،
أعني حارسة للوصايا السماوية، تقترب من هذه البئر، لأنها تعلمت الأسرار الإلهية،
تعلمت أن الله روح وأنه لا يُعْبَد في مكان بل في (بـ)الروح، وأن المسيح هو
المسيّا الذي انتظره اليهود وقد جاء فعلاً (يو 4: 21-26). إذ سمعت هذه الأمور
تعلمت هذه المرأة التي تُعلِن عن جمال الكنيسة، وآمنت بأسرار الناموس.

 

الحكمة
الثلاثية الأبعاد

[يضرب
القديس أمبروسيوس أمثلة متعددة للتفاسير الثلاثية للكتاب المقدس: التفسير
الأخلاقي، التفسير الطبيعي، التفسير السرِّي (الرمزي)، ويدعو هذه التفاسير
"الحكمة الثلاثية الأبعاد". أخذ القديس أمبروسيوس هذا الفكر عن مدرسة
الإسكندرية، خاصة العلامة أوريجينوس الذي يرى أن الكتاب المقدس يُفسَّر بثلاث طرق:

أ.
التفسير الحرفي أو التاريخي، يُقدَّم للبسطاء.

ب.
التفسير السلوكي أو الأخلاقي.

ج.
التفسير الرمزي أو السِرِّي، خاص بالنفس التي تتمتع بالشركة مع السيد المسيح،
كعروس له، تنعم بأسراره وهي في حجاله.

 اكتفي
هنا بتقديم بعض أمثلة مما ورد في مقال القديس أمبروسيوس.

27.
في سفر نشيد الأناشيد أيضًا، يصور سليمان بوضوح تلك الحكمة الثلاثية الأبعاد، وإن
كان في سفر الأمثال أوصى أن الإنسان الذي يريد أن يسمع حكمته ينبغي أن يكتبها
لنفسه ثلاث مرات (أم 22: 20
LXX ).

تقول
العروس في نشيد الأناشيد عن العريس: "ها أنتَ جميل يا حبيبي وحلو حقًا!
وسريرنا مُظلَّل، وعوارض بيتنا أَرْز، وروافدنا سِرْو" (نش 1: 16-17). يمكن
تفسير ذلك أخلاقيًا؛ لأنه أين يسكن المسيح وكنيسته إلاَّ في أعمال شعبه (سلوكهم)؟
فإنه حيث توجد النجاسة والكبرياء أو الإثم "ليس لابن الإنسان أين يسند
رأسه" (مت 8: 20) كقول الرب يسوع.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي