سِفْرُ إِرْمِيَا

 

الفصلُ
الرابِع نُبُوَّةُ إرميا "مُسَلسَلُ النحيب"

 النبيُّ
التالي من بينِ الأنبياءِ الكِبار في العهدِ القديم، هو النبيُّ إرميا. فإرميا
يُسمَّى "النبي الباكِي،" لأنَّهُ يبدو أنَّهُ كانَ يبكِي طِوالَ الوقت.
في الحقيقة، إن سفرَ نُبُوَّة إرميا ما هُوَ إلا مُسلسلٌ من البُكاءِ والنحيب.
لهذا السبب، من الصعبِ جداً أن نضعَ مُخطَّطاً لسفرِ إرميا. فالناسُ لا ينتحِبون
بشكلٍ مُنظَّم. فبعدَ أن يبكِي إرميا طِوالَ إثني وخمسينَ إصحاحاً، كتبَ شعراً
صغيراً، الذي يُعتَبَرُ بمثابةِ مُلحَقٍ لِنُبُوَّتِه، ويُسمَّى
"المراثِي." فالمراثِي تعنِي "البُكاء." وهكذا فإن إرميا
يُتابعُ البُكاءَ في هذه التُّحفة الأدبيَّة من الرثاءِ الشِّعري.

 

الخلفيَّةُ
التاريخيَّة

 لماذا
يبكِي إرميا؟ لماذا هو حزينٌ إلى هذا الحدّ؟ وماذا كانت مُعاناةُ قلبِه؟ لكَي
نُجيبَ على هذه الأسئِلة، عليكَ أن تَفهَمَ الإطارَ التاريخي الذي عاشَ فيهِ هذا
النبيُّ حياتَهُ غير الإعتِياديَّة، وكرزَ وكتبَ نُبوَّتَهُ التي نُسمِّيها
"سفر إرميا."

 

 في
الأعدادِ الإفتتاحِيَّة من سفرِ إرميا، نُخبَرُ أنَّ إرميا بدأَ خِدمتَهُ في
السنةِ الثالثةِ عشر من مُلكِ يُوشِيَّا، وخدمَ إرميا حتَّى نِهايَة حُكمِ
صدقِيَّا، أي حوالي إحدى وأربعينَ سنةً. بدأَ خدمتَهُ عندما كانَ يجلِسُ ملِكٌ
صالِحٌ على عرش يهوذا، هو يُوشيَّا. وبينما كانَ بعضُ العُمَّال يُعيدونَ بناء
الهيكل في زَمنِ يُوشيَّا، وجدوا أسفارَ كلمةِ الله. لقد إبتَعدَ شعبُ اللهِ
روحيَّاً عن الله، لدرجةِ أنَّهُم نسُوا أنَّ كلمةَ اللهِ أو أن النامُوس كانَ
موجُوداً. والمُلوك الآخَرون الذين ذُكِروا في الأعدادِ الإفتِتاحيَّة لسفرِ إرميا
هم الذين لحِقُوا فترة حُكم يُوشيَّا، وفتراتُ حُكمِهم مُرتَبِطةٌ بسقوطِ أورشليم
والسبي البابِلي.

 

فسقوطُ
أورشليم كان كارثة امتدَّت على مدى حوالي عشرين سنةً. وأوّلُ مرَّةٍ سقطت فيها
أورشليم كان يهوياقيم ملكاً. فاستسلمَ لجيوشِ نبوخذنصَّر وخدمَ نبوخذنصَّر في
أورشليم مُدَّةَ ثلاث سنوات. وعندما احتلَّ نبوخذنصَّر أورشليم، دخلت إليها جُيوشُ
بابِل. وأُرغِمَ اليهودُ على خِدمةِ البابِليين ودفعِ الجِزية لهم. ولكن، بعدَ
ثلاثِ سنوات، تمرَّدَ يهوياقيم، فعادت جُيوشُ نبوخذنصَّر إلى أورشليم ثانيةً.
وعندما سقطت أورشليم ثانيةً، كانَ يهوياكين إبنُ يهوياقِيم الذي كانَ لا يزالُ
طِفلاً، كانَ ملكاً على يهوذا، فسلَّمَ المدينةَ بسهولة. في هذه المرَّة، أخذَ
البابِليُّونَ الكثيرَ من شعبِ يهوذا إلى بابِل كأسرَى للسبي.

 

 وعندما
سلَّمَ يهوياكِين المدينة للمرَّةِ الثانية، نُصِّبَ أخوهُ صدقِيَّا ملِكاً
دُميَةً على أورشليم. لقد حكمَ صدقِيَّا لمُدَّةِ 11 سنةً، ولكنَّهُ تمرَّدَ
مُجدَّداً على البابِليين. وفي هذه المرَّة، جاءت جُيوشُ بابِل وسحقت مدينةَ
أورشَليم، فلم يبقَ فيها حجرٌ على حجر. وهكذا عندما احتلَّ البابِليُّونَ أورشليم
للمرَّةِ الثالثة، أخذوا الجميعَ أسرى إلى بابِل باستثناءِ الشيوخ العجائز،
والمرضى، والضُّعفاء، والنبي الباكي إرميا.

 

 في
زمنِ حُكمِ يوشِيَّا، أعطَى اللهُ النبيَّ إرميا إعلاناً نبويَّاً عن هذه الكارثة
بكامِلها. لقد بدأَ إرميا يعِظُ أنَّ الإجتياحَ البابِليَّ آتٍ، وأنَّ السبيَ
والاحتلالَ الناتِجَين عنهُ كانا آتِيينِ أيضاً، وذلكَ بسببِ خطيَّةِ الشعب. وكانت
خطيَّتُهُم بشكلٍ أساسيٍّ هي عِبادةُ الأوثان، بالإضافةِ إلى كُلِّ الخطايا التي
نتجَت عن إرتدادِهم وإهمالِهم لكلمةِ الله.

 

أوّلاً،
إنَّ رسالةَ نبي مثل إرميا وإشعياء وآخرونَ مثلهم، كانت بما معناه: "إذا
تواضَعَ شعبي، الذي دُعِيَ إسمي عليهم وصلُّوا وطلبوا وجهي، ورجعوا عن طُرُقِهم
الرديّة، فإنِّي أسمَعُ من السماء، وأغفِرُ خطيَّتَهم، وأُبرِيءُ أرضَهم."
(أخبار الأيَّام الثاني 7: 14). ولكن، عندما لم يسمع الشعبُ إلى وعظِ الأنبياء،
تغيَّرَت رسالةُ هؤلاء الأنبياء. عندها كرزَ أنبِياءٌ مثل إرميا قائِلين: "إن
دينونةَ اللهِ آتيةٌ لا محالة، ولا مفرَّ منها."

 

رجُلٌ
مَكرُوهٌ

 عندما
بدأَ حصارُ أورشليم، كرزَ إرميا برسالةٍ لم تكُنْ محبوبةً أبداً من الشعب، فأصبحَ
مَكرُوهاً. كانَ لرسالةِ إرميا وجهان. الوجهُ الأوَّلُ كان أنَّ الإحتلالَ والسبيَ
آتِيين. والوجهُ الثاني كانَ رسالةَ رجاء. فعلى خِلافِ سبي المملكة الشمالية، كانَ
لدى الأنبياء الذين تنبَّأوا بالإجتِياحِ البابِلي وسبي المملكة الجنوبيَّة، كانَ
لدى هُؤلاء الأنبياء رسالة رجاء ليكرزوا بها: "بعدَ سبعينَ سنةً من سبيِكُم
إلى بابِل سوفَ ترجِعون إلى أرضِكُم."

 

ولقد
آمنَ إرميا وكرزَ برسالةِ الرجاء هذه بإسهاب، لدرجةِ أنَّهُ عندما بدأت جُيوشُ
بالبابِليين بحصارِ أورشليم، بدأَ إرميا بالوعظِ برسالةِ الرجاء: "إنَّها
خطَّةُ الله التي لا تُنقَض. وليسَ بوسعِكُم أن تعمَلوا شيئاً حِيالَها، لهذا
فالأفضلُ لكُم أن تخرُجوا وتستسلِموا لنبوخذنصَّر. إذهبوا إلى بابِل، لأنَّكُم
بمقدارِ ما تُسرِعونَ بالذهابِ، ستُسرِعونَ بالرجوع."

 

ولأنَّ
إرميا وعظَ أن شعبَ يهوذا ينبَغي أن يستسلِموا، لهذا كرِهَهُ شعبُ يهوذا. وقالوا
أنَّ رسالةَ إرميا كانت خِيانةً، وبمعنىً ما كانتَ كذلك. فألقوا بهِ في زنـزانةٍ،
ثُمَّ في بئرٍ فارِغ من المياه ولكن مليء بالأوحال. وتركوهُ هُناكَ يجوع ويعيش مع
الجرذان.

 

كانَ
إرميا وبعضُ الأنبياءِ نظيرَه سيفعلونَ أيَّ شيءٍ لكي يُعبِّروا عن رسالتِهم. ولقد
كانَ الأنبياءُ يُعبِّرونَ أحياناً بطريقةٍ تمثيليَّة حياتيَّة بما يُسمُّونَهُ
"عمل الوعظ الرمزي." فمثلاً، نجدُ عملَ وعظٍ رمزي عظيم في إرميا 18،
حيثُ نجدُ عظةَ إرميا العظيمة عن "إعادةِ صُنعِ الوعاء الآخر." لقد وعظَ
إرميا أنَّ اللهَ قالَ لهُ أن ينـزلَ إلى مصنعِ الفخَّار، فنـزل. وبينما كانَ
هُناك راقبَ الفخَّاري يصنعُ إناءً. ولقد كان الفخَّاريُّ يُحاوِلُ أن يصنعَ إناءً
جميلاً، ولكن إناءَ الفخَّارِ لم يكُن طائعاً بينَ يدي الفخَّاري كما ينبَغي، ولم
يخرُج من يديهِ كما أرادَه. فاشمأزَّ الفخَّاريُّ من الإناء، وطرحَهُ أرضاً
وكسَّرَهُ وصنعَ منهُ إناءً آخر.

 

عندما
كرزَ إرميا برسالتهِ هذه، كانَ يحاوِلُ أن يقولَ للناس التالي: "أنتُم مثل
ذلكَ الإناء الذي كانَ يُحاوِلُ صُنعَه الفخَّاريُّ السماويُّ، أي الله. ولكن لم
تكونوا طائعين لتخرُجوا من بينَ يديهِ كما أرادكم. لهذا فاللهُ يُؤدِّبُكُم،
ويدينُكُم، مما يعني أنَّهُ يأخُذَكُم إلى بابِل، وسوفَ يُعيدُ صناعتكُم،
وسيُعيدُكم من بابِل كإناءٍ آخر جديد."

 

 لا
تكونُ حياتُكَ وحياتِي أحياناً كما خطَّطَ لها اللهُ. لهذا، فاللهُ يُعيدُ صناعةَ
حياتِنا. هل تشعُرُ وكأنَّ إناءَ حياتِك طُرِحَ أرضاً وسُحِق فوقَ كُومةٍ من
الفخَّارِ المُحطَّم؟ وكأنَّكَ طُرِحتَ على كُومةِ الفخَّار وأُعيدَ صناعتُكَ
كإناءٍ جديد؟ قد يكونُ الإنتقالُ من الإناءِ القديمِ إلى الجديد نـزاعاً مريراً،
ولكن بعدَ أن يُشكَّلَ هذا الإناءُ الجديد، يُصبِحُ مجيداً. كما كتبَ بُولُس يقول:
"إن كانَ أحدٌ في المسيح فهو خليقةٌ جديدةٌ." (2كُورنثُوس 5: 17).

 

 علينا
أن نُفتِّشَ عن التطبيقات الشخصيَّة للمواعظِ العميقة التي ألقاها هذا النبيُّ
العظيم. هناكَ أوقاتٌ يحتاجُ اللهُ فيها أن يُؤدِّبَنا ويُعيدَ صِناعتِنا إناءً
جديداً. عندما تُصبِحُ عواقِبُ خطايانا لا مفرَّ منها، وعندما تُصبِحُ آثارُها في
حياتِنا لا يُمكِن إصلاحُها، نحتاجُ أن تُعادَ صِناعتُنا كإناءٍ جديد، تماماً كما
حدَثَ في قصَّةِ الإناءِ الفخَّاري التي وعظها إرميا. للأسف، مُعظَمُنا لا نطلُبُ
من الله أن يُغيِّرَ حياتَنا، تماماً كما رفضَ الشعبُ كِرازَةَ إرميا.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس أ أليعازر ر

 

الإناءُ
المَسحُوق

ذاتَ
يوم، قالَ اللهُ لإرميا أن يبتاعَ إناءً كبيراً وجميلاً، ويأخُذَ معَهُ بعضَ
الشُّيُوخ والكَهَنة، ويذهَبَ إلى مدخَلِ بابِ الفخَّار. وعندما جذبَ انتباهَ
الشعب، أخذَ هذا الإناء الجميل والثمين، وطرحَهُ أرضاً فتحطَّمَ كُلِّيَّاً. عندها
ألقَى إرميا عظةً تطبيقيَّةً عن الإناء المُحطَّم فقال، "أنتُم الذين
تُحارِبونَ نبوخذنصَّر، وتتمرَّدونَ على البابِليِّين وترفُضُونَ الخُضُوع، سوف
تنسَحِقُونَ مثل هذا الإناء، ولكن بدونِ إعادةِ صناعةِ إناءٍ آخر منهُ، وبدونِ
رجوع. بل سوف تكونُ نِهايتُكُم بذلك." (إرميا 19: 10، 11).

 

نُبُوَّاتٌ
مَسياوِيَّة

 عندما
كان إرميا يتكلَّمُ برسائِلِهِ عن السبي والرجاء، مزجَ نُبوَّاتِهِ عن العودة من
السبي معَ نُبوَّاتِه عن رُجوعِ المسيَّا، كما فعلَ إشعياء. لقد كانَ مجيءُ
المسيَّا الرجاء النهائي، ليسَ فقط ليهوذا، بل أيضاً للعالمِ أجمَع.

 

 نجدُ
هكذا رِسالة في إرميا 29: 11-14. كان شعبُ يهوذا في بدايةِ ذهابِهم في السبي
البابِلي. فقالَ لهُم اللهُ على لِسانِ إرميا، "لأنَّني عرفتُ الأفكارَ التي
أنا مُفتَكِرٌ بها عنكم يقولُ الربُّ أفكارَ سلامٍ لا شرٍّ لأُعطِيَكُم آخِرةً
ورجاءً. فتدعونَني [أي عندما تُصبِحونَ في بابِل]ٍ وتذهبون وتُصلُّونَ إليَّ
فأسمعُ لكُم. وتطلبُونَني فتجدُونَني إذ تطلُبُونَنِي بكُلِّ قلبِكُم. فأُوجدُ
لكُم يقولُ الربُّ وأردُّ سبيَكُم وأجمَعُكُم من كُلِّ الأُمَم ومن كُلِّ المواضِع
التي طردتكُم إليها يقولُ الرب وأردُّكُم إلى الموضِع الذي سبيتُكُم
منهُ"(11-14).

 

 إن
هذه لم تكُن إلا مُلخَّصاً لعظةٍ رائعة ألقاها إرميا على شعبِ يهوذا قُبيلَ
ذهابِهم في السبي إلى بابل. قالَ لهُم إرميا في بدايةِ سبيِهم، "أباكُم
المُحِب لديهِ خُطَّةٌ لتأديبِكُم. وهذه الخُطَّة ليست لضرَرِكُم. بل كأبٍ حنونٍ
يُؤدِّبُكم الربُّ، وهذا لخَيرِكُم، وليسَ لضرَرِكُم. فاللهُ يُريدُ أن يُعطِيَكُم
رجاءً ومُستقبَلاً. فعندما ستكونون في بابِل، سوفَ تطلُبُونَ الله من كُلِّ
قُلوبِكُم. وهنا سيكونُ وعدُ اللهِ لكُم: إذا فعلتُم هذه الأمور، سوفَ يسمَعُ
اللهُ صلاتَكم، وسوفَ يُوجَدُ منكُم. وسوفَ يُرجِعكُم اللهُ من سبيِكُم."

 

 عندما
تنبَّأ إرميا عن السبي، كان مُستعِدَّاً أن يتحمَّلَ شتَّى أنواعِ العذابِ
والإضطهاد لأجلِ رسالتِه. لقد آمنَ برسالتِه لأنَّ اللهَ أخبَرَهُ أنَّها الحقيقة.
ولقد كانَت كذلكَ بالفِعل. فالمُلاحظة الجديرة بالإعتِبار حيالَ نُبُوَّاتِ إرميا،
هي أن كُلَّ نُبُوَّاتُ إرميا تحقَّقت بِحذافِيرِها.

 

 عندما
تقرأُ نُبوَّة إرميا، فتِّش عن رسالتِهِ عن التأديب والدينونة من قِبَلِ اللهِ على
شعبِ يهوذا. ولكن لا تُغفِل رسالةَ الرجاء. بل طبِّق رسالةَ تأديبِ الله والرجاء
اللاحِق عندما خضعَ شعبُ يهوذا للتأديب. وطبِّق هاتين الرسالتين على حياتِكَ
الشخصيَّة، وتذكَّر التالي: عندما يُؤدِّبُكَ اللهُ، يعرِفُ خطَّتَهُ لكَ، التي
ليست لضررِكَ بل لمنفعتِكَ الروحيَّة، خطة تمنحُكَ رجاءً ومُستقبَلاً. المُهم هو
أن تتجاوبَ معَ تأديبِ اللهِ بطريقةٍ صحيحة، لكي يرُدَّكَ اللهُ من إختِبارِكَ
الشخصي في ضلالةِ السبي ويُعيدُ صِناعَتَكَ إناءً جديداً.

 

الفصلُ
الخامِس مُرنِّمُ السبي

عندما
كانَ الشعبُ على وشكِ أن يذهَبُوا مُقيَّدينَ بالأغلالِ إلى بابِل، أعطاهُم إرميا
بعض كلمات الرَّجاء ليتحمَّلوا السبي. فأولئكَ الذين نجوا من الذبحِ عندما سقطَت
أُورشَليم، صُدِموا من الحُزنِ والهَلعِ والرُّعب. إن كلمات إرميا الممسوحة هذه،
جاءَت لتُساعِدَهُم على إحتِمالِ سبعينَ سنةً من السبي: "لا يفتَخرِنَّ
الحكيمُ بحِكمَتِه، ولا يفتَخِر الجبَّارُ بجبروتِه، ولا الغَنيُّ بِغِناه، بل
بهذا ليفتخرِنَّ المُفتَخِر: بأنَّهُ يفهمُ ويعرِفُني أنا الربُّ الصانِعُ رحمةً
وقضاءً وعَدلاً في الأرض لأنِّي بهذه أُسَرُّ يقولُ الربُّ." (إرميا 9:
23-24).

 

 الكلمةُ
الأُخرى التي تُستَخدَمُ في بعضِ الترجمات هي كلمة "مجد." إنَّ فحوى ما
يقولُهُ إرميا هو شيءٌ كالتالي: "إن كُنتُم أغنياء، لا تفتَخِروا بِغناكُم.
وإن كُنتُم أقوياء، لا تفتَخِروا بقوَّتِكُم. وإن كُنتُم حُكَماء، لا تفتَخِروا
بحِكمَتِكُم." إن كلمة "مجد" تعني، "أن نُفجِّرَ كُلَّ
الطاقات المُتوفِّرَة في وضعٍ ما، لكي نُعبِّرَ عن ملء جوهر ماهيَّة الله في
حياتِنا."

 

في
هذا الوضع، يُطبِّقُ إرميا هذه الكلِمَة، ولكنَّهُ يُطبِّقُها ليسَ على الله، بل
على الشعب الذاهِب إلى السبي. مثلاً، يقولُ إرميا للرجُلِ الغني، " لم يعُدْ
بإمكانِكَ أن تعتَمِد على الغِنى لكي تُفجِّرَ الطاقة الكامِنة في كيانِك. ينبغي
عليكَ أن لا تفتَخِر بالغِنَى لأنَّكَ لن تجِدَ فيهِ شبعَكَ." إنَّ الأغنياءَ
الذين ذهبُوا مُقيَّدين في السبي، جُرِّدوا من ثرواتِهم. لربَّما كانوا يفتَخِرونَ
بِغِناهُم قبلَ سقوطِ أورشليم، ولكن ليسَ بعدَ سُقوطِها. ويقولُ إرميا بالمعنى
ذاتِه للحكيم والقَويّ، "أيُّها الحكيمُ، لربَّما لا تشعُرُ أنَّكَ حكيمٌ
الآن، كونَكَ تُقادُ بالأغلالِ خارِجَ بِلادِك. ويا أيُّها القويُّ، لا تفتَخِر
بقوَّتِك. فعندما تغدُونَ عبيداً ستُصبِحونَ تقتاتُونَ على الفُتات وستُصابُونَ
بالضعفِ والهُزَال."

 

 حتى
الآن، يبدو هذا كرِسالةٍ سلبيَّة. ولكن إليكُم الجزء الإيجابيّ من رسالةِ إرميا.
يقولُ اللهُ لهؤلاء العبيد من خِلالِ إرميا، "إن كُنتُم فعلاً تُريدونَ أن
تفهَموا معنى وهدف الحياة، وأن تُفجِّروا كُلَّ طاقَتِكم، تعالوا إليَّ واعرِفُوا
من وما أنا. بهذه الطريقة ستكتشِفونَ على الأرض جوهر ما هو اللهُ في السماء. سوفَ
تفهمونَ جوهر كيانِي ومن ثمًَّ جوهر كيانِكم، إذا فهِمتُم بأنَّني أعلنتُ نفسِي
على الأرض من خِلالِ صِفاتِي." فصفاتُ الله هي التي تُشكِّلُ شخصِيَّةَ الله
وماهيَّتَهُ.

 

 في
هذه العِظة العظيمة لإرميا، قالَ هذا النبي، "اللهُ يُمكِنُ أن يُعرَفَ بهذهِ
الطريقة، من خِلالِ شخصِهِ، أي من خِلالِ محبَّتِهِ الثابِتَة، ومن خِلالِ بِرِّهِ
وعدله المُطلَق." ألم يُعطِ هذا الوعظُ للشعبِ السالِكَ في السبي إلى بابِل
مادَّةً ليُفكِّرُوا فيها على الطريق؟ لقد عرفوا أنَّهُم لن يجدوا شبَعَهُم ومعنى
حياتِهم في الغِنى أو الحِكمة أو القوَّة. بل عرفوا أنَّهُ عليهِم أن يجدوا معنى
حياتِهم في أُمورٍ أُخرى. لقد قالَ إرميا، "إنَّ هذا هو الوقتُ المُناسِبُ
لكي تجِدُوا معنَى وشبع حياتِكُم في معرِفة الله. عندها سيكونُ لديكُم شيء لا
يستطيعُ أحدٌ أن ينـزعَهُ منكُم."

 

بُرهانُ
عَودتِهم

 في
الإصحاحات 32 و33، نقرأُ عن أحدِ أدقِّ الأمور التي عمِلَهَا إرميا. وكان هذا في
أوْجِ الحِصار ونهايةِ حُكمِ صدقِيَّا، عندما كانت مدينةُ أورشليم على وشكِ
السُّقُوط. فعندما كانَ إرميا في السجن بسبب ما كانَ يعظُ به، حصلَ على إعلانٍ من
الله. وكان الإعلانُ هو التالي: سوفَ يأتي قريبُكَ حَنَمئيل ويطلُبُ إليكَ أن
تشتريَ منهُ قطعةَ أرضٍ في عناثُوث. وعندما كانت أورشليم تحتَ الحِصار، تدنَّت
قيمةُ العقاراتِ كثيراً. وبالتأكيد لم يكُنِ الوقتُ مُناسِباً بتاتاً لشِراءِ مزرعةٍ
خارج أورشليم. فجاءَ حنمئيل، وطلبَ أن يرى النبيَّ إرميا في السجن. فقالَ حنَمئيل،
"لديَّ ذلكَ الحقلُ في عناثُوث، فوضعَ اللهُ على قلبي أن أبيعَكَ هذا
الحقل."

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس م ميزان موازين ن

 

 وافقَ
إرميا على شِراءِ الحقل، وجعلَ من شرائِهِ هذا الحقل قضيَّةً كبيرةً. فجلبَ
شُهُوداً ومُحامِين وكتبة، وجعلَ صفقةَ البيعِ هذه رسميَّةً ونِهائِيَّة. وأخذَ
الصكَّ المُوقَّعَ بِشُهودٍ ووضعَهُ في إناءٍ خزفِي، وختمَهُ لكي يبقَى لسنينَ
كثيرة. ثُمَّ ألقى عِظةً تمثيليَّةً رمزيَّةً رائعة، وقال، "لقد قُلتُ لكُم
أنَّكُم سترجِعونَ من السبي البابِلي. فدعونِي أُبرهِنُ لكُم أنَّني أُؤمنُ بما
أتنبَّأُ به. لقد اشتريتُ لتَوِّي عِقاراً يبعُدُ حوالي الخمسة كيلومترات عن
أورشليم. فهل تظنُّونَ أنَّني كنتُ سأفعلُ ذلكَ لو لم أكُن أُؤمِنُ بأنَّكُم
سترجِعونَ؟" في إرميا 32، نجدُهُ يُلقِي عظةَ الرجاء الجميلة هذه.

 

 إنَّ
عظة الرجاء الجميلة هذه التي بدأها إرميا في الإصحاحِ 32، شكَّلَتِ الإطار الذي
فيهِ كتبَ إرميا الكلِمات المألُوفة التالية: "هذا ما يقولُهُ الربُّ…
أدعُنِي فأُجيبَك وأُخبِرَك بعظائم وعوائص لم تعرِفها." (إرميا 33: 3). هل
سبقَ لكَ ودَعوتَ الله؟ إنَّهُ يُريدُنا جميعاً أن ندعُوَهُ لأنَّهُ يُريدُ أن
يُرينا أُمُوراً عظيمةً وقديرة لم نرَها من قبل.

 

 فكما
ترون، ليسَ وعظُ إرميا بكامِلِهِ هولٌ وويل. بل هُناكَ الكثيرُ من الرجاء للشعب في
وعظِه. وكانَ هذا الرجاءُ الوحيد الذي كانَ لِشعبِ يهوذا عند سُقوطِ أورشَليم
وذهابِهم للسبي البابلي.

 

مُعاناةُ
القَلب

 بينما
نُلقِي نظرَةً سريعة على عظاتِ إرميا الأُخرى، لنتذكَّرْ أننا لا ندرُسُها
بالتسلسُل التاريخي. فإن إرميا وكاتِبَهُ بارُوخ لم يُسجِّلا هذه العِظات بالترتيب
الذي وعظها بهِ إرميا، بل كما تذكَّرَها تِباعاً عندما كانَ لاحِقاً في السجن.

 

 مُوجزُ
إحدَى أجمَل عِظاتِه موجُودَةٌ في بِدايةِ السفر. قالَ فيها الربُّ على فم إرميا،
"لأنَّ شعبِي عملَِ شرَّين. تركُونِي أنا ينبُوعَ المياهِ الحيَّة ليَنقُرُوا
لأنفُسِهِم آباراً آباراً مُشقَّقَةً لا تضبُطُ ماء." (إرميا 2: 13)

 

 كانَ
إرميا يقولُ أنَّ الشعبَ اقترفَ خطِيَّتَين: لقد ابتعدوا عنِ الله، وابتعَدُوا عن
الحِكمَة التي تأتِي من الله بواسِطةِ كلِمَتِهِ. لقد صَدَّقَ الشعبُ الكتبةَ
الكذبة الذين جعلوا من نامُوسِ اللهِ كِذْبَةً، كما قالَ إرميا. كتبَ هذا النبيُّ
العظيمُ يقول، "كيفَ تقولُونَ نحنُ حُكَماءُ وشريعَةُ الربِّ معنا. حقَّاً
إنَّهُ إلى الكَذِبِ حَوَّلَها قلمُ الكَتَبَةِ الكاذِب" (8: 8). فالآن عندما
تنجحُ أقلامُ الكتبةِ الكَذَبَة في إقناعِكُم أنَّ كلمةَ اللهِ غير جديرة
بالثِّقَة، فماذا سيبقَى لكُم لتُؤمِنُوا بهِ؟ يبقى مُجرَّد الحِكمة والفلسفة
الإنسانِيَّة. ثُمَّ سألَ إرميا، "أيَّةُ حِكمةٍ عندَ هؤلاء بالمُقارنةِ معَ
حِكمةِ كلمةِ الله؟"

 

هل
يتغيَّرُ النَّاسُ؟

 هل
تعلَمُ أنَّ الكتاب المقدَّس لا يُطالِبُكَ أو يأمُرُكَ بأن تتغيَّر، وبأن
تُحاوِلَ أن تُحسِّنَ وضعَك؟ أنا أتعجَّبُ من عددِ الناس الذي يُفكِّرونَ أن هذا
هو كُلُّ ما في المسيحيَّة: أن تعمَلَ أفضلَ ما لديك، وأن تُحاوِلَ أن تكونَ أحسن.
ليسَ هذا ما يُعلِّمُ بهِ الكتابُ المقدَّس. لا بل إنَّ إرميا يسخرُ منَّا عندما
نُحاوِلُ أن نُغيِّرَ نُفُوسَنا. فهو يعِظُ قائِلاً، "لماذا تركُضِينَ لتبدُلِي
طريقَكِ." "هل يُغيِّرُ الكُوشِيُّ جِلدَهُ أوِ النَّمِرُ رُقَطَهُ.
فأنتُم أيضاً تقدِرونَ أن تصنعوا خيراً أيَّها المُتعلِّمُونَ الشرّ." (إرميا
2: 36).

 

 نحنُ
لا نستطيعُ أن نُغيِّرَ أنفُسَنا. تنصَحُنا كلمةُ الله في رومية 12: 2 قائلةً،
"تغيَّروا… بتجديدِ أذهانِكُم." ويُخبِرُنا يسوعُ بأنَّهُ علينا أن
نُولدَ ثانِيَةً. عندما نتغيَّرُ أو نُولَدُ ثانِيَةً، يكونُ هذا بالنسبةِ لنا
إختِباراً سلبيَّاً. وهو يختَلفُ عمَّا يقولُهُ لنا الآخرون أنَّهُ علينا أن
نتغيَّر وأن نبذُلَ جهدَنا لنكونَ أحسَن.

 

من
يعرِفُ قُلوبَنا؟

قالَ
إرميا أيضاً عنِ القلبِ الإنساني، "القلبُ أخدَعُ من كُلِّ شيءٍ، وهو نجيسٌ
من يعرِفهُ؟" (إرميا 17: 9). ثُمَّ يأتي الجواب، أنَّ اللهَ وحدَهُ يستطيعُ
أن يعرِفَ خِداعَ القلبِ الإنساني. "أنا الربُّ فاحِصُ القَلبِ مُختَبِرُ
الكُلى لأُعطِيَ كُلَّ واحِدٍ حسبَ طُرُقِهِ حسبَ ثمرِ أعمالِه" (10).

 

 اللهُ
يعرِفُ قلبَكَ. قد تنجَحُ في خِداعِ عائلتِكَ وأصدِقائِكَ وحتى نفسَكَ، ولكنَّكَ
لن تستطيعَ خِداعَ الله. فهوَ يعرِفُ قلبَكَ ويُريدُ أن يُجدِّدَهُ. صلِّ كما
صلَّى الملك الحكيم داوُد قائلاً، "اختَبِرني يا الله، واعرِفْ قلبِي،
امتَحِنِّي واعرِفْ أفكاري، وانظُرْ إن كانَ فيَّ طريقٌ باطِلٌ، واهدِنِي طريقاً
أبَدِيَّاً." (مزمُور 139: 23- 24).

 

 علينا
أن نُفتِّشَ عبرَ سفرِ إرميا عن التطبيقات الشخصيَّة العميقة للعظاتِ العميقة لهذا
النبي العظيم. هُناكَ أوقاتٌ يحتاجُ فيها اللهُ أن يُؤدِّبَنا ويُعيدَ صناعتنا
كآنِيَةٍ جديدة. عندما تُصبِحُ عواقِبُ خطايانا لا مَفَرَّ منها، وتُصبِحُ أثارُها
ظاهِرَةً لا رجاءَ بإصلاحِها، نحتاجُ أن تُعادَ صناعتُنا كإناءٍ جديد، كما وعظَ
إرميا عندما أرسَلهُ اللهُ إلى بيتِ الفخَّاري.

 

الفصلُ
السادِس "أخبارُ الله المُحزِنة"

 رأى
إرميا رُؤيا عن سلَّتي تين. (إصحاح 34). بعضُ هذا التين كانَ طازَجاً وناضِجاً،
وبعضُ هذا التين فسدَ واهترأَ ولم يعُد صالحاً للأكل. فقالَ الربُّ لإرميا،
"إنَّ التينَ الجيد يُشيرُ إلى الذين يذهبونَ في السبيِ إلى بابِل. فلقد
أرسلتُهُم للسبي لصالِحِهم. وسوفَ أسهَرُ على راحَتِهم وأُعيدُهُم إلى أرضِهم
ثانيةً. سوفَ أُساعِدُهم ولن أُؤذِيَهم. سوفَ أغرِسُهم ولن أقلعهم. وسوفَ أُعطيهم
قلباً يتجاوبُ معي. سيكونونَ لي شعباً وأنا أكونُ لهُم إلهاً. لأنهم سوفَ يرجِعونَ
إليَّ بفرحٍ كبير."

 

"وأمَّا
التينُ الفاسِدَ فيُمثِّلُ صدقيَّا، ملك يهوذا، وقادتَهُ وكُلُّ أولئكَ الذينَ
سيبقونَ هُنا في أُورشَليم، وكذلك أولئكَ الذين سينـزلونَ إلى مِصر. سوفَ
أُعامِلُهم كالتين الفاسد الرديء الذي لا يصلُحُ أكلُهُ. سوفَ أُرسِلُ السيفَ
والجوعَ والوبأَ عليهم حتَّى أُفنِيَهم."

 

 هذه
عِظةٌ لإرميا كرَّرها مراراً. كانَ هُناك نوعانِ من الناس في أورشليم عندما كانت
على وشكِ السقوطِ بيد البابِليين. أولئكَ الذي أدركوا أنَّ السبيَ هو تأديبٌ من
اللهِ، ولهذا ذهبوا إلى السبي وقَبِلوا تأديبَ اللهِ وتابُوا. وأولئكَ الذينَ،
أمثالَ الملك صدقِيَّا، رفضوا أن يعتَرِفُوا بهذا كإرادةِ الله، ورفضوا وعظَ إرميا
وتمرَّدوا على البابِليين، فانتهى بهمِ الأمرُ مثلَ الإناءِ المسحوق أو مثلَ التين
الفاسد الذي لا يُؤكَلُ من رداءتِه.

 

حُجَجٌ
ضِدَّ الفلسفة الإنسانيَّة

 هُناكَ
عِظاتٌ أُخرى لإرميا تُعارِضُ ما نُسمِّيهِ اليوم الإنسانيَّة. فهناك
إيديولوجيَّات تظهرَ وتكبُرُ في أيَّامِنا، نظنُّها جديدةً ومُعاصِرة، ولكنَّها
ليسَت جديدةً البتَّةَ، بل هي مُجرَّدُ هرطقاتٍ قديمة تظهَرُ على الساحة. هذه
الإيديولوجِيَّات، "كالإنسانيَّة" مثلاً، التي تُعلِّمُ أن الإنسانَ قادرٌ
على تدبيرِ أُمورِهِ بنفسِه، موجودةٌ منذُ القديم. "أنا سيِّدُ مصيري وأنا
رُبَّانُ نفسي،" هكذا يُعبِّرُ الإنسانيونَ عن موقِفِهم. ولكن عندما ندرُسُ
سِيَرَ حياة أمثل موسى، نجدُ العَكسَ تماماً، فنجدُ هذه المُطلقات الروحيَّة تظهرَ
في حياتِهم: "ليسَ أنا، بل اللهُ، وهو فيًَّ. أنا لا أستطيعُ ولكنَّ اللهَ
يستطيعُ وهو معي."

هل تبحث عن  م الأباء أوريجانيوس العلامة أوريجانوس س

 

هل
نحنُ بِحاجَةٍ لله؟

 يُناقِضُ
إرميا طريقةَ التفكِير هذه عندما يعظُ مثل العظة التي نجدُها في إرميا 10:
"عرفتُ يا ربُّ أنَّهُ ليسَ للإنسان طريقُهُ. ليسَ لإنسانٍ يمشِي أن يهدِيَ
خطواتِه" (23). ثُمَّ أُنظُرْ إلى هذه العِظة: "ملعونٌ هو الذي يعتَمدُ
على الإنسان ويجعلُ مُتَّكَلَهُ على الجسد، ويحيدُ قلبُهُ عن الرب" (5).
ثُمَّ يُعطِي إرميا التصريحَ الإيجابِي عن هذه الحقيقة: "مُبارَكٌ الرجُل
الذي يثِقُ بالرب ويضعُ اعتمادَهُ عليه" (7).

 

 هُناكَ
الكثيرونَ يُؤمِنونَ أنَّهم ليسوا بِحاجةٍ إلى راعِي. ويظنُّونَ أنَّهُ لم تكُنْ
لديهم يوماً مُشكِلةٌ لم يستطيعوا حلًَّها. فهم يُؤمِنونَ بأن الذكاءِ البشري
ومؤهِّلاتِ الإنسان هي كُل ما يحتاجُونَهُ. أما كلمةُ اللهِ فتقولُ لا، ليسَ هذا
هو كُلُّ ما تحتاجُه. فأنت تحتاجُ إلى راعٍ. وتحتاجُ إلى حكمةٍ من الله وتحتاجُ
إلى قوَّةٍ دينامِيكيَّة (نعمة) من الله لتطبيقِ هذه النِّعمة التي أخذَتها من
الله (يعقُوب 1: 5؛ 2كُورنثُوس 9: 8). هذه هي فلسفةُ وتعليمُ جميعِ الأنبياء،
وتعليمُ العهدَين القديم والجديد.

 

مُستَعِدٌّ
للكَلِمة

 إنَّ
علاجَ إرميا لإرتداد يهوَّذا، أو الخطيَّة التي جلبَت على الشعب السبيَ البابِلي،
يُعبِّرُ عنهُ إرميا في عظةٍ أُخرى نجدُها في الإصحاح الرابع: "لأنَّهُ هكذا
قالَ الربُّ لرجالِ يهوذا ولأورشليم احرُثُوا لأنفُسِكُم حرثاً ولا تزرعوا في
الأشواك. اختَتِنوا للرَّبِّ وانـزعُوا غُرَلَ قُلوبِكُم يا رِجالَ يهوذا
وسُكَّانَ أورشَليم لئلا يخرُجَ كَنَارٍ غيظِي فيُحرِقَ وليسَ من يُطفِئ بسببِ
شرِّ أعمالِكُم." (إرميا 4: 3-4).

 

 إنَّ
عظةَ إرميا هذه تُشبِهُ عظةً للربِّ يسوع نجدُها في الأناجيل، ونُسمِّيها
"مَثَل الزارِع." قالَ يسوعُ أنَّهُ عندما يُكرَزُ بكلمةِ الله، فهذا
يُشبِهُ الزارِعَ الذي يخرُجُ ليبذُرَ بُذُورَه. وعندما يبذُرُ الزارِعُ هذه
البذور، تسقُطُ على أربعة أنواعٍ من التُّربَة.

 

فالأنواعُ
الأربعة للتُّربة تُمثِّلُ أربعةَ طُرُقٍ يتجاوبُ بها الناسُ معَ كلمةِ الله عندما
يُكرَزُ بها. أحياناً لا تستطيعُ الكلمةُ أن تختَرِقَ ذهنَ السامِع؛ وأحياناً لا
تستطيعُ الكلمةُ أن تختَرِقَ إرادَةَ السامِع؛ وأحياناً تختَرقُ الكلمةُ الذهنَ
والإرادة، ولكن عندما تنمو، تخنُقُها الأشواكُ التي تُشيرُ إلى هُمومِ العالم
والغنى؛ وأحياناً تنمو بُذُورُ الكلمة وتُؤتي ثماراً مُتنوِّعة.

 

 في
هذا المثل الرائِع، كانَ يسوعُ يبنِي على أساسِ عظةِ إرميا. شبَّهَ إرميا
"حياةَ الشعبِ بالأرض غير المفلوحة وغير المزروعة." لقد نسى الشعبُ
كلمةَ الله. وكُلُّ مشاكِل الشعب وظُروفِ حياتِهم، كانت تُحضِّرُ تُربَةَ حياتِهم
لقُبُولِ بُذُورِ كلمة الله ثانِيَةً. لقد كانَ اللهُ يُحضِّرُ تُربَةَ حياتِهم
ليسمَعُوا كَلِمَةَ الله.

 

 يتكلَّمُ
إرميا أيضاً عن خِتانِ القلب. فكثيرونَ يُؤمِنونَ أن الرسول بُولُس قد اقتَبَسَها
من إرميا. فبولُس يقولُ لنا، "أنَّ الخِتانَ كانَ لشعبِ العهدِ القديم مثل
المعموديّة بالنسبة لنا اليوم. فالخِتانُ كانَ الفريضةَ أو الطقس الذي أعلنَ بهِ
الشعبُ اليهوديُّ إيمانَهم. والمعمُوديَّةُ هي الطريقة التي علَّمنا بِها يسوعُ
كيفَ نعتَرِفُ بإيمانِنا بيسوع المسيح اليوم.

 

 والطقسُ
قد يُصبِحُ فارِغاً من مُحتواه. فالطقسُ بدونِ حقيقةٍ قد يُصبِحُ فارِغاً وبدونِ
معنى. لقد شدَّدَ كُلٌّ من يسوع والرُّسُل والأنبياء على الفرق بينَ القولِ
والعمل. فالعملُ هو دائماً أكثر أهمِّيَّةً من القول. فأن تحيا حياتَكَ اليوميَّة
كما تُعلِّمُكَ الفرائض التي تُمارِسُها، هو ما يقصُدُهُ إرميا وبُولُس عندما يتكلَّمانَ
عن الخِتانِ في القلبِ. فهل تعتَرِف بأنَّكَ تُؤمِنُ؟ إن كُنتَ تعتَرِفُ بالإيمان،
لا تكتَفِ بمُجرَّدِ قولِ ذلك، بل عِشْهُ في حياتِكَ.

 

أخبار
الله المُحزِنة

في
الإصحاح 23، يَستخدِمُ إرميا كُلاً من الفُكاهةِ والسُّخرِيَة في وعظِهِ، كما نرى
في هذا المقطَع، "وإذا سألكَ هذا الشعبُ أو نبيٌّ أو كاهِنٌ قائلاً ما وحيُ
الربِّ [أو أخبارُ الله المُحزِنة]، فقُلْ لهُم أيُّ وَحِي [أو أيَّة أخبار
مُحزِنة؟]. [أنتُم الخبر المُحزِن] إنِّي أرفُضُكُم هو قولُ الربّ. فالنبيُّ أوِ
الكاهِنُ أو الشعبُ الذي يقولُ وحيُ الربِّ [أو يسخَرُ بأخبار اليوم المُحزِنة]،
أُعاقِبُ ذلكَ الرجُل وبيتَهُ."

 

 لقد
سخِرُوا بإرميا لأنَّهُ لم يكُن لديهِ أيُّ شيءٍ مُفرِح يقولهُ. بل كانت رسالتُهُ
رسالةَ ويلٍ، لأنَّ الويلَ كانَ آتِياً. إن كُلَّ ما قالَهُ إرميا تحقَّقَ
بحذافِيرِه، سواءٌ الويل أوالهول، ولكن أيضاً الرجاء. كانت كرازةُ إرميا الرجاء
الوَحيد عند اليهود الذين سمِعوا عظاتِه. ونُبُوَّاتُهُ المسياويَّة الممزُوجة
بوعدِهِ بالرجوعِ من السبي، تُشكِّلُ رجاءنا النِّهائي المُبارَك اليوم.

 

العِبءُ
المُلقى على عاتِق إرميا

 لقد
كانت رِسالتُهُ عاطِفِيَّةً جِدَّاً. "أحشائي أحشَائي. تُوجِعُني جُدرانُ
قَلبِي. يئِنُّ فيَّ قَلبِي. لا أستطيعُ السُّكُوت. لأنَّكِ سَمِعتِ يا نفسِي صوتَ
البوقِ وهُتافَ الحرب. بِكَسرٍ على كَسْرٍ نُودِيَ لأنَّهُ قد خرِبَت كُلُّ
الأرض." (إرميا 4: 19- 20). ففي إعلاناتِهِ النَّبَوِيَّة عن الإحتلالِ
البابِلي، كانَ بإمكانِ إرميا سماع أصوات الجيش البابِلي وصُراخَ شعبِ يهوذا.
وكونَهُ استمرَّ باختِبارِ أهوالِ هذه الأحداث، تساءَلَ، "حتَّى متى أرى
الرَّايَة وأسمَعُ صوتَ البُوق؟" (21) فأجابَهُ الربُّ، "لأنَّ شعبِي
أحمَق. إيَّايَ لم يعرِفُوا. هُم بَنُونَ جاهِلونَ وهُم غيرُ فاهِمِين. هُم
حُكَمَاءُ في عملِ الشرِّ ولعملِ الصالِحِ ما يفهَمون" (22).

 

 قد
تكونُ عظةُ إرميا هذه مُلائمةً لجيلِنا الحاضِر. فنحنُ خُبراء في صِناعةِ
الأسلِحَة المُدمِّرة اليوم، ولكن هل نعرِف كيفَ نعمَلُ الخير؟ لقد أصبحَ العُنفُ
والجريمةُ عدوى مُتَفَشِّيَة في حضارتِنا. لقد صارَ لدينا عبقريَّةٌ مُطلَقَة
لإختِراعِ الاسلِحة النوويَّة والكيميائيَّة والبِيولوجيَّة للدمارِ الشامِل، ولكن
يبدو أنَّنا لم نعُد نعرفْ ما هوَ الخيرُ أو الصواب.

 

مُثابَرة
إرميا

 لقد
قامَ إرميا بإملاءِ النسخةِ الأصليَّة لهذا السفرِ على كاتِبِهِ الأمين باروخ،
عندما كانَ إرميا في سجنِه. وبعدَ أن أكمَلَ دَرْجَ عظاتِه كما تذكَّرها تِباعاً،
طلبَ أن يُقرأَ الدرجُ بأكمَلِهِ على الشعب يومَ الصوم. فأثَّرَ هذا الدَّرْجُ
بقوَّةٍ بالشعب، ومن ثمَّ قُرِئَ السفرُ على مسامِعِ الملك. وبينما كانَ يُقرَأُ
السفرُ للملك، كانَت هُناكَ نارٌ مُتَّقِدةٌ في مدفأةِ الملك. فبعدَ أن قُرِئَ
سفرِ إرميا جزءاً بعدَ الآخر، قطَّعَهُ الملكُ بسكِّينٍ حادٍّ، ورماهُ في النارِ
وأتلفَهُ.

 

 عندما
أُخبِرُ إرميا بِذلكَ، أرسلَ وراءَ بارُوخ، وقالَ لكاتِبِهِ الأمين أن يأتِيَ
بدرجٍ أكبَر من الأوَّل، لأنَّهُ كانَ سيُعيدُ كتابَةَ سفرِهِ، ولأنَّهُ تذكَّرَ
عدَّةَ عِظاتٍ لم يكُنْ قد وضعها في الدرجِ الأوَّل الذي إحتَرق. وهكذا أملى إرميا
إصحاحاتِهِ الإثنين والخمسين التي درسناها معاً. فلولا مُثابَرة النبي العظيم
إرميا، لما كانَ لدينا هذا السفر الرائع.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي