الإصحَاحُ
الْحَادِي عَشَرَ

 

عظة (9)

تفسير الآيات من:

"الكلام الذي صار إلى إرميا من
قِبل الرب قائلاً. اسمعوا كلام هذا العهد"
(إر 11: 1).

إلى:

"قد رجعوا إلى آثام آبائهم
الأولين"
(إر 11: 10).

1. إذا تأملنا في قصة مجيء ربنا يسوع
المسيح كما وصفتها الكتب التاريخية، فإن مجيئه كان في جسد، كان مجيئًا لمرة واحدة
فقط خلالها أنار العالم كله: "والكلمة صار جسدًا وحل بيننا". لقد
كان بالفعل "النور الحقيقي الذي ينير لكل إنسان آتيًا إلى العالم، كأن في
العالم، وكوّن العالم به، ولم يعرفه العالم. إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله"
.
ومع ذلك يجب أن نعرف أنه جاء أيضًا قبل ذلك، وإن لم يكن بالجسد، في كل من
القديسين، كما أنه بعد مجيئه المنظور بالجسد يأتي إلينا أيضًا الآن.

إذا كنت تريد دليلاً على هذا، فانصت إلى
هذه الكلمات: "الكلام (الكلمة) الذي صار إلى إرميا من قِبل الرب قائلاً.
اسمعوا
".

ماهي إذًا تلك الكلمة التي صارت
إلى إرميا أو إلى إشعياء أو حزقيال أو إلى غيرهم من الأنبياء، من قبل الرب، إلا الكلمة
الذي كان عند الله منذ البدء
؟ فبالنسبة لي، فإنني لا أعرف كلمة أخرى
للرب، إلا التي قال عنها يوحنا الانجيلي: "في البدء كان الكلمة والكلمة
كان عند الله وكان الكلمة الله
".

يجب علينا أيضًا أن نعرف هذا: أن مجيء الكلمة
كان أيضًا على مستوى شخصي. لأنه ماذا يفيدني إن كان الكلمة قد جاء إلى العالم،
بينما أنا لا أحمله؟ ولكن على العكس، فحتى لو لم يكن قد جاء بعد إلى العالم كله،
وكنت أنا مثل الأنبياء، فسوف يجيء إليّ الكلمة. وسأقول مؤكِدًا أن السيد
المسيح قد جاء إلى موسى وإلى إرميا وإلى إشعياء وإلى كل واحد من الأبرار، وأن
الكلمة التي قالها لتلاميذه: "ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر"
قد تحققت بالفعل قبل مجيئه. أو كيف كان لهؤلاء الأنبياء أن ينطقوا بكلام الله إن
لم تكن كلمة الله قد جاءت إليهم؟

من الضروري أن نعرف هذه الأشياء، خاصة
بالنسبة لنا، نحن شعب الكنيسة، بما أننا نريد أن يكون رب الشريعة ورب الانجيل هو
رب واحد، وأن يكون مسيحنا هو هو أمس واليوم وإلى الأبد. حيث يوجد أناس يقومون
بعملية فصل –ليس لها أساس إلا في عقولهم- بين الألوهية السابقة لمجيء المخلص، وبين
الألوهية المعلنة من السيد المسيح، أما نحن فإننا لا نعرف إلا رب واحد، قديمًا
وحاليًا، ومسيح واحد، قديمًا وحاليًا.

هذا بالنسبة للآية: "الكلام الذي
صار إلى ارميا من قبل الرب قائًلا
". فماذا سنسمع نحن أيضًا من هذا
الكلام؟ "اسمعوا كلام هذا العهد وكلموا رجال يهوذا وسكان أورشليم".
رجال يهوذا هم نحن، لأننا مسيحيون، وجاء المسيح من سبط يهوذا. إذا كنت قد أوضحت من
خلال الكتاب المقدس أن كلمة يهوذا يُقصَد بها السيد المسيح، فإن رجال
يهوذا
في هذه الحالة لن يكونوا اليهود الذين لا يؤمنون بالسيد المسيح، وإنما
نحن كلناَ الذين نؤمن به.

هل تبحث عن  م الأباء أغسطينوس أقوال أغسطينوس 07

2. يخاطب الكلمة "رجال يهوذا"
و"سكان أورشليم".

يتعلق الأمر هنا بالكنيسة، لأن الكنيسة
هي مدينة الله، ومدينة السلام، وفيها يتراءى ويعظم سلام الله المعطى لنا
إذا كنا نحن أيضًا أبناء سلام.

"اسمعوا كلام هذا العهد وكلموا
رجال يهوذا وسكان أورشليم. فتقول لهم هكذا قال الرب إله إسرائيل. ملعون الإنسان
الذي لا يسمع كلام هذا العهد الذي أمرت به آباءكم
".

مَن الذي يسمع أفضل لكلام العهد الذي أمر
الله به الآباء؟ أهُم الذين يؤمنون به، أم الذين -بحسب الأدلة الموجودة عندنا- لا
يؤمنون حتى بموسى حيث إنهم لم يؤمنوا بالرب؟ ويقول لهم المخلص: "لو كنتم
أمَنتم بموسى لآمنتم بي أنا أيضا، لأنه تكلم عنى في كتبه، ولكن إن كنتم لا تؤمنون
بكتاباته، فكيف تؤمنون بكلامي؟
". إذًا فهؤلاء الناس لم يؤمنوا بموسى، أما
نحن، فبإيماننا بَالسيد المسيح، نؤمن أيضًا بالعهد الذي أقيم بواسطة موسى، أي
"العهد الذي أمرت به آباءكم".

إذًا لا تقع هذه اللعنة علينا نحن، وإنما
تقع أولئك على أولئك الذين لم يسمعوا كلام العهد الذي أمر به الآباء،
"يوم أخرجتهم من أرض مصر كور الحديد". نحن أيضًا، أخرجنا الله من
أرض مصر[1]،
ومن كور الحديد، خاصة إذا فهمنا ما هو مكتوب في سفر الرؤيا، أن الموضع الذي
صلب فيه الرب يُدعى روحيًا سدوم ومصر
(رؤ 11: 8)، إذًا إن كان يدعى روحيًا
مصر
، فمن الواضح أنه لو فهمت ما هو المقصود بالبلد التي تدعى روحيًا مصر والتي
كنت تعيش فيها قبًلا تكون أنت الذي خرجت من أرض مصر، و يقال لك أيضًا بعد
ذلك: "اسمعوا صوتي واعملوا به حسب كل ما آمركم به".

بعد ذلك، يوجد وعد من الرب للذين يسمعون
كلامه؛ فإذا فعلوا كل ما أمرهم به: "تكونوا لي شعبًا وأنا أكون لكم
إلهًا
". ليس كل شعب يَدّعى شعب الله، يكون بالفعل شعبًا لله. فإن
ذلك الشعب الذي كان يتظاهر بأنه شعب الله، ألم يقل له الله: "أنكم لستم
شعبي"
لأنهم: "أغاظوني بإله آخر، أغاظوني بأصنامهم، فأنا أيضًا
أغيظهم بأمة أخرى، بأمة غبية"

3. إذًا أصبحنا نحن الآخرون شعبًا لله، قد
أُعلن بر الله للشعب الذي سيأتي (سيولد)
، أي للشعب القادم من الأمم.

في الواقع أن هذا الشعب قد وُلدِ
فجأة، وقد قيل في النِبيَ: "هل يولد شعب مرة واحدة"، نعم فقد ولد
شعب مرة واحدة حينما جاء المخلص، وحينما آمن خمسة آلاف رجل في يوم بالإضافة إلى
ثلاثة آلاف نفس في يوم آخر، ويمكننا أن نري شعبًا بأكِمله مولودًا من كلمة الله
يسوع المسيح؛ فقد وَلَدَت العاقر، هذه التي لم تكن قبًلا تنجب، والتي قيل عنها: "ترنمي
أيتها العاقر التي لم تلد. أشيدي بالترنم أيتها التي لم تمخض لأن بنى
المستوحشة
(المتوحدة أو الوحيدة) أكثر من بنى ذات البعل"
(إش 54: 1). إنها وحيدة،
لأنها كانت محرومة من الشريعة ومن الله، أما الأخرى ذات البعل، أي الأمة اليهودية،
فكانت كما هو معروف تتخذ من الشريعة الإلهية زوجًا لها.

هل تبحث عن  م الأباء يوحنا ذهبى الفم الغنى ولعازر 02

فبماذا إذًا يعدني الرب؟ "فتكونوا
لي شعبًا وأنا أكون لكم إلهًا
". إنه ليس إلهًا للجميع، وإنما فقط للذين
يهبهم نفسه مجانًا كإله لهم، كما قال لأحد الآباء: "أنا هو إلهك
وقال لآخر: "سأكون إلهك"، وقال أيضًا عن أخرىن: "سأكون
لهم إلهًا
". فمتى نصل نحن أيضًا إلى أن يكون الله إلهنا (إلهًا لنا)؟ لو
كنت تريد أن تعرف من هم الناس الذين يكون الرب إلهًا لهم، والذين يعطيهم الرب شرف
إضافة أسمائهم إلى اسمه، انظر إلى قوله: "أنا إله إبراهيم وإله اسحق وإله
يعقوب"
، وقد علق السيد المسيح على هذا بقوله: "ليس هو إله أموات
بل إله
أحياء". من هو الإنسان المائت؟ إنه الخاطئ، أو أي إنسان لا
يحمل في داخله الله القائل: "أنا هو الحياة"، وكذلك كل من يعمل الأعمال
المائتة
ولم يتب عنها حتى الآن.

إذًا، بما أن الله "ليس إله
أموات بل إله أحياء
"، وبما أننا نعرف أن الإنسان الحي هو الذي يحيا بحسب
كلام السيد المسيح ووصاياه ويكون دائمًا ثابتًا فيه، فلو أردنا أن يصير الرب إلهًا
لنا، فلنترك عنا أعمال الموت، حتى يتمم لنا وعده: "فتكونوا لي شعبًا وأنا
أكون لكم إلهًا لأقيم الحلف الذي حلفت لآبائكم أن أعطيهم
أرضًا تفيض لبنًا
وعسًلا
"؛ تأمل هذه الكلمات، فإن الرب يتحدث هنا كما لو يكن قد أعطاهم بعد
هذه الأرض التي تفيض لبنًا وعسًلا. في الواقع أن هذه الأرض التي أخذوها ليست هي
التي كان الله يقصدها حينما قال أرض تفيض لبنًا وعسًلا، وإنما الأمر يتعلق
بأرض أخرى قال عنها الرب في تعاليمه: "طوبى للودعاء لأنهم يرثون
الأرض
".

4. بعد هذا، وإجابة على قول الرب: "ملعون
الإنسان الذي لا يسمع كلام هذا العهد
"، يقول النبي: "فأجبت وقلت
أمين يا رب
"، ما معنى كلمة آمين يا رب؟ أي : آمين يا رب أن الذي
لا يسمع كلام هذا العهد يصير ملعونًا. "فقال الرب لي: ناد بكل هذا
الكلام في مدن يهوذا وفى شوارع أورشليم
(وخارج أورشليم)" -فنحن
ننادى بكلام الرب حتى للذين هم في الخارج لندعوهم إلى الخلاص- "قائًلا.
اسمعوا كلام هذا العهد واعملوا به… فلم يسمعوا… ولم يصنعوه. وقال الرب لي:
توجد فتنة بين رجال يهوذا وسكان أورشليم
". ألا يجب علينا نحن بالأولى أن
نتوب عن خطايانا، بكوننا رجال يهوذا، أي رجال السيد المسيح، كما سبق لنا
القول. وحيث أنه يوجد بيننا أناس خاطئون وأناس يسلكون بحسب الباطل، قال النبي: "توجد
فتنة بين رجال يهوذا وسكان أورشليم" "قد رجعوا إلى آثام آبائهم
الأولين"
. رجعوا إلى آثام من؟ إنه لم يقل مجرد "آثام آبائهم"
وإنما أضاف كلمة الأولين.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ن نمفاس 1

لقد قلنا أن هذا الكلام موجه لنا وللخطاة
الموجودين بيننا. فكيف رجع هؤلاء الخطاة –ليس إلى آثام أبائهم فقط بل- إلى آثام
آبائهم الأولين؟ أليس لأن لنا نوعين من الآباء، منهم نوع فاسد. لأننا قبل أن نقبل
الإيمان كنا أولادًا للشيطان، كما يوضحه الانجيل "أنتم من أب هو
إبليس"
، ثم عندما آمنًّا صرنا أولاد الله. إذًا ففي كل مرة نخطئ، فإننا نرجع
إلى آثام آبائنا الأولين
. وحتى نوضح أن آبائنا نوعان استعين بالمزمور45، حينما
يقول: "اسمعي يا ابنتي وانظري وأميلي أذنيك وانسي شعبك وبيت أبيك
بما أنه يقول لها "اسمعي يا ابنتي" إذًا فهو أبوها، فكيف إذًا
يقول أب لابنته "إنسي بيت أبيك"؟ إذًا الآباء نوعان، وانسي
بيت
أبيك، أي أبيك الأول؛ إذا عدت للخطايا بعد أن تكوني قد نسيتي بيت
أبيك الأول، فإنك بذلك تكوني أنتِ المقصودة بهذه الآية: "قد رجعوا إلى
آثام آبائهم الأولين"
.

قلت إن الشيطان كان أبانا، قبل أن يصير
الله أبانا -إذا لم يكن الشيطان أبانا حتى الآن!- هذا نوضحه أيضًا من خلال رسالة
القديس يوحنا: " من يفعل الخطية فهو من إبليس (فهو مولود من إبليس)"
(1يو 3: 8). وبما أن كل من يفعل الخطية هو مولود من إبليس، كأننا مولودين من
الشيطان عدة مرات حسب كل مرة نخطئ فيها. إذًا، فمسكين الإنسان الذي يولد من
الشيطان بلا توقف، وطوبى للانسان الذي يولد من الله باستمرار. أنني في الواقع، لا
أقول أن البار يولد من الله مرة واحدة فقط طوال حياته، ولكنه يولد من الله
باستمرار في كل عمل صالح يقوم به.

وعندما أوضح ذلك بخصوص المخلص، كيف أن
الآب لم يلد الابن بطريقة تجعله (أي الابن) يحتاج أن يولد منه مرة أخرى بعد ذلك،
وإنما هو يلده باستمرار، فكهذا أيضًا بالنسبة للانسان البار. لنرى ما هو مخلصنا:
إنه يشع مجدًا، إن إشعاع المجد لم يحدث (لم يولد) مرة واحدة للأبد، وإنما
طالما يتولد منه النور، فإن مجد الرب يشع باستمرار. أن مخلصنا هو حكمة الله؛
والحكمة هي "إشعاع النور الأبدي". فإذا كان المخلص مولودًا
باستمرار من الآب، فهكذا أنت أيضًا إذا كان عندك روح التبني، فإن الله يلدك
باستمرار في المسيح يسوع عند كل عمل من أعمالك وعند كل فكر من أفكارك. وهكذا
بميلادك تصير أبنًا لله بلا توقف، مولودًا في المسيح يسوع الذي له المجد والقدرة
إلى أبد الآبدين آمين.



[1]
نحن نعلم أن "مصر" تمثل بالنسبة لأوريجانوس "هذا
العالم" أو "الحياة المظلمة في هذا العالم".

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي