الإصحَاحُ
السَّادِسُ عَشَرَ

منعه من الزواج

إذ كانت الكارثة التى ستحل بالشعب مرة للغاية طلب منه ألا يتخذ لنفسه
إمرأة ولا يكون له بنون ولا بنات، لكى لا يقيم فى بيت خاص به (ع 1 – 4)، ولا يذهب
إلى بيت حزن (ع 5 –7)، أو بيت وليمة (ع 8، 9)، بسبب السبى الذى يحل بالشعب. بهذا
صارت حياة إرميا مرآة يرى من خلالها الشعب صورة عملية لما سيحل بهم من تأديبات
إلهية وحرمان! وكأن الله قدم إرميا نفسه وسيلة إيضاح، يشهد بكلماته كما بسلوكه عن
حكم الله عليهم.

 

(1) حياة إرميا مرآة لحياة الشعب

" ثم صار اليّ كلام الرب قائلا:

 لا تتخذ لنفسك امرأة ولا يكن لك بنون ولا بنات في هذا الموضع.

 لانه هكذا قال الرب عن البنين وعن البنات المولودين في هذا الموضع،

 وعن امهاتهم اللواتي ولدنهم،

 وعن آبائهم الذين ولدوهم في هذه الارض:

 ميتات امراض يموتون.

لا يندبون ولا يدفنون بل يكونون دمنة على وجه الارض،

 وبالسيف والجوع يفنون،

 وتكون جثثهم أكلا لطيور السماء ولوحوش الارض " ع 1 – 4.

يرى البعض أن الآيات 1 – 9 تمثل قطعة شعرية، فيها يتحدث الله مع
إرميا بخصوص حياته وحياة الشعب.

امتنع كلا من إرميا النبى والرسول بولس عن الزواج، لكن أهدافهما كانت
مختلفة. امتنع إرميا النبى عن الزواج بأمر إلهى لكى لا تكون له زوجة وأبناء، أما
بولس الرسول فامتنع اختيارا لكى يكرس كل وقته وطاقاته للعبادة وخدمة الكلمة (1 كو
7: 7، 26، 32 – 34).

يظن البعض أن إرميا سبق أن تزوج وماتت زوجته بعدما أنجبت، وقد منعه
الله من الزواج الثانى، بينما يرى آخرون أنه منعه من الزواج فى عناثوث فقط، إذ قال
له:
" فى هذا الموضع " ع 1. وسمح له بالزواج فى
موضع آخر.

على أى الأحوال إذ سلم الأنبياء الحقيقيون حياتهم بين يدى الله تكلم
بها على ألسنتهم وخلال حياتهم، فكانوا يتنبأون بالعبارات النبوية والرؤى والأمثال
كما بحياتهم، نذكر على سبيل المثال:

زواج هوشع بزانية (هو 1 – 3) يكشف عن خيانة الشعب لله وارتكابه الزنا
الروحى بعبادة الأوثان وما يتبعها من رجاسات.

عدم مشاركة حزقيال فى جنازة زوجته (حز 24: 15 – 27) حيث لم يذرف
عليها دمعة ولا نطق بكلمة حزن يعلن عن تدمير الشعب، العروس المحبوبة لدى الله، دون
أن تجد من يبكيها.

بقوله: " ميتات أمراض يموتون " ع 4، يعنى معاناتهم من
أمراض كثيرة بسبب الحروب بوجه عام، خاصة أثناء الحصار، كما بسبب الجوع، وأيضا
معاناتهم من الآلام والمتاعب، مع حالة من الرعب تؤدى بهم إلى الموت.

يعتبر عدم دفن الموتى وترك الجثث لكى تأكلها طيور السماء ووحوش
البرية من ابشع أنواع اللعنات التى يسقط تحتها الإنسان (تث 28: 26)، يزيدها لعنة
أنهم لا يجدون من يندبونهم أو يبكون عليهم.

يمكن تصور المنظر هكذا أن الشوارع تمتلىء بالجثث بغير مبالاة، فتترك
طعاما للطيور الجارحة والحيوانات المفترسة ولا يوجد من يبكى الموتى، لأنه لا يوجد
من هو حى.

" لانه هكذا قال الرب:

لا تدخل بيت النوح ولا تمض للندب ولا تعزهم،

 لاني نزعت سلامي من هذا الشعب يقول الرب الاحسان والمراحم
"
ع 5.

طلب منه ألا يدخل بيت النوح، هذه الكلمة ظهرت مرة أخرى فى عا 6: 7
فقط، وهى تشير إلى اجتماع دينى لغرض جنائزى – يحدث فيه تصرفات منحلة.

هل تبحث عن  م المسيح المسيح هل جاء ليكفر عن خطيئة آدم م

انسحاب إرميا النبى عن المشاركة فى ولائم الجنازات يشير إلى انسحاب
الله نفسه ورجاله عن حياة الشعب الذى أعطاه القفا لا الوجه. يسحب الله عنهم أربعة
أمور:

أ – يسحب سلامه.

ب – يسحب انتسابه إليهم..

ج – يسحب عنهم إحسانه..

د – ينزع عنهم مراحمه..

بانسحاب إرميا عن الحياة العامة يعلن انسحاب الله نفسه بسلامه
واحساناته ومراحمه فيسقطوا تحت اللعنة والحرمان والأمراض والخزى والموت!

" فيموت الكبار والصغار في هذه الارض، لا يدفنون ولا يندبونهم،

 ولا يخمشون (يجرحون) انفسهم ولا يجعلون قرعة من اجلهم " ع 6

هذه عادات وثنية تمنعها الشريعة لأنها مرتبطة بعبادة الإله الكنعانى
البعل موت.. يبدو أن هذه العادات قد انتشرت فى إسرائيل على نطاق واسع.

" ولا يكسرون خبزا في المناحة ليعزوهم عن ميت،

 ولا يسقونهم كاس التعزية عن اب او ام " ع 7.

هذه عادة أن يقدم المعزون الأكل والشراب (القهوة) لأسرة الميت، لأنهم
فى حالة حداد، فى الطقس اليهودى المتأخر كان يقدم كأس تعزية، وهو كأس خمر خاص
يشربه رئيس الحزانى.

" ولا تدخل بيت الوليمة لتجلس معهم للأكل والشرب " ع 8.

جاء " بيت الوليمة " هنا مقابل " بيت الحزن "
كما جاء فى جا 7: 22، غالبا ما يقصد به الأحتفال بالعرس.

الخلاصة أن الله يطالبنا ألا نجامل إنسانا على حساب الحق الإلهى
وخلاص نفوسنا أو نفوس الآخرين.

" لانه هكذا قال رب الجنود اله اسرائيل.

هانذا مبطل من هذا الموضع امام اعينكم وفي ايامكم

 صوت الطرب وصوت الفرح،

صوت العريس وصوت العروس " ع 9.

هنا نبلغ إلى جوهر القطعة الشعرية حيث يتحدث الله مع شعبه مباشرة.

تحولت البلاد التى رفضت الله الحى إلى أشبه بمقبرة لا يقام فيها
ولائم مفرحة، ولا يسمع فيها صوت طرب روحى ولا مراسيم زواج، إنها حالة النفس التى
يريد الرب أن يقيم فيها ملكوته، ملكوت الفرح الحقيقى، مملكة النور، فإذا بها تصر
أن تكون مملكة الظلمة والمرارة الفاقدة لكل بهجة قلب!

هنا يلزمنا ألا نتجاهل موقف إرميا النبى الذى يتقبل حكمة الرب بتسليم
كامل دون تساؤل: إلى متى يكون هذا؟!

 

(2) اعتزال الحياة اليومية

" ويكون حين تخبر هذا الشعب بكل هذه الامور انهم يقولون لك:

 لماذا تكلم الرب علينا بكل هذا الشر العظيم؟

 فما هو ذنبنا وما هي خطيتنا التي اخطاناها الى الرب الهنا؟

 فتقول لهم:

 من اجل ان آباءكم قد تركوني يقول الرب،

 وذهبوا وراء آلهة اخرى وعبدوها وسجدوا لها،

 واياي تركوا وشريعتي لم يحفظوها.

 وانتم اسأتم في عملكم اكثر من آبائكم..

 وها انتم ذاهبون كل واحد وراء عناد قلبه الشرير حتى لا تسمعوا
لي.

 فاطردكم من هذه الارض الى ارض لم تعرفوها انتم ولا آباؤكم،

 فتعبدون هناك آلهة اخرى نهارا وليلا حيث لا اعطيكم نعمة
"
ع 10 – 13.

هذه العبارات (ع 10 – 13) فى الواقع هى مرثاة صغيرة فى شكل أسئلة (ع
10) يتبعها نطق بحكم على شعب يهوذا (ع 11 – 13).

من الجانب الأدبى تستخدم هذه الطريقة فى مواضع أخرى مثل تث 29: 21 –
27، 1 مل 9: 8 – 9، حيث تستخدم ثلاثة عناصر:

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس تفاسير أخرى عهد جديد رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبى عبد المسيح 01

أ – سؤال بخصوص حكم يصدر.

ب – إجابة وتوضيح أن الحكم التأديبى بسبب جحود الشعب.

ج – تقرير عن الكارثة التى بسببها أثير التساؤل.

يجيب الله على سؤال الشعب هكذا:

أ – العقاب قادم لأن آباءكم تركوه.

ب – أم ما يفعلوه ليس بأفضل مما فعله آباؤهم، بل أشر.

ج – لم ينتفعوا بخبرة آبائهم ومعاملات الله معهم.

هذا لا يعنى أن الله يدينهم من أجل آبائهم، وأنهم بلا عذر، إنما
لأنهم سلكوا فى ذات الطريق فصارت الخطية تمثل خطية جماعية تجتاز عبر العصور.

 

(3) خروج جديد

" لذلك ها ايام تأتي يقول الرب:

 ولا يقال بعد حيّ هو الرب الذي اصعد بني اسرائيل من ارض مصر،

 بل حيّ هو الرب الذي اصعد بني اسرائيل من ارض الشمال ومن جميع
الاراضي التي طردهم اليها،

فارجعهم الى ارضهم التي اعطيت آباءهم اياها " ع 14، 15.

تكرر هذا القول فى إر 23: 7 – 8 مع اختلاف بسيط.

يعلن الله هنا أمرين:

أ – أن التأديب أو العبودية فى أرض السبى أكثر مرارة مما كان فى أرض
مصر..

ب – يقدم لهم أيضا رجاء أنهم سيعودون من السبى فى خروج جديد، حتى متى
سقطوا تحت قسوة التأديب لا ييأسوا، ولا يظنوا أن السبى هو النهاية، وإنما هناك
عودة إلى أرض الموعد.

تعبير " حى هو الرب " هو قسم كان يمارسه اليهود
يشيرون به إلى الله إله الخروج من مصر، لكن إذ يختبروا خروجا جديدا يغيرون صيغة
القسم.

 

(4) الفرح بالخلاص المسيانى

بعد أن تحدث عن الفرح بالعودة من السبى، دخل بنا إلى الفرح الحقيقى
فى العهد الجديد حيث قدم لنا السيد المسيح كلمة الخلاص خلال تلاميذه، ويكمل هذا
الفرح بالأكثر عندما تحملنا الملائكة إلى اللقاء مع الرب فى اليوم الأخير، إذ
يقول:

" هانذا ارسل الى جزافين كثيرين يقول الرب فيصطادونهم،

 ثم بعد ذلك ارسل الى كثيرين من القانصين فيقتنصونهم عن كل جبل
وعن كل اكمة ومن شقوق الصخور.

لان عينيّ على كل طرقهم.

لم تستتر عن وجهي ولم يختف اثمهم من امام عينيّ

 واعاقب اولا اثمهم وخطيتهم ضعفين،

لانهم دنسوا ارضي وبجثث مكرهاتهم ورجاساتهم قد ملأوا ميراثي " ع 16 – 18.

التشبيه الخاص بدعوة صيادى سمك للصيد بين شعب يهوذا شائع كما فى حز
12: 13، 29: 4 – 5.

وأيضا صيادى الحيوانات الذين يصطادون حتى من شقوق الصخور كان معروفا،
كما جاء فى عا 9: 1 – 4.

يقصد بالتشبيهين أن عينى الله تنظران إلى كل شىء حتى ما يبدو مخفيا
فى وسط البحار أو فى شقوق الصخور، وأنه لا بد من المجازاة عن الشر أينما أرتكب.

يرى العلامة أوريجينوس أن الجازفون هم تلاميذ المسيح، الذين اصطادوا
النفوس ودخلوا بها إلى شبكة الكنيسة الملقاة فى بحر هذا العالم لتعيش كالسمك
الصغير مع السمكة الكبيرة " المسيح نفسه ":
" هلم
ورائى فأجعلكما صيادين للناس "
.

أما القانصون فهم الملائكة الذين يجتذبون المؤمنين الذين صاروا
كالجبال والأكمة وتمتعوا بشقوق الصخور فصار لهم حق اللقاء مع عريسهم السماوى فى
اليوم الأخير.

عندما تكون قد خرجت من البحر وأخذت فى شباك رسل السيد المسيح، تغير
فى نفسك وأترك البحر وامحه تماما من ذاكرتك، ثم تعال إلى الجبال التى هى الأنبياء،
وعلى الأكمة التى هى الأبرار، واقض هناك حياتك، حتى متى جاء موعد رحيلك من هذه
الحياة، يرسل إليك صيادين من نوع جديد وهم الملائكة الذين يستلمون أرواح الأبرار،
فهم مكلفون باستلام الأرواح الموجودة على الآكام وليس الأرواح المائتة المطروحة
إلى أسفل.

هل تبحث عن  الكتاب المقدس أخبار سارة عربية مشتركة عهد قديم سفر يهوديت 15

يقدم الرب تعليلا لتأديبهم، قائلا: " لأنهم دنسوا أرضى
"
ع 18.

ينسب الله القدوس لنفسه هذه الأرض التى وهبها لشعبه، لذا لاق بهم أن
يسلكوا فيها كما يليق بصاحبها القدوس، فتكون أرضا مقدسة، وتصير لهم أمانا.

يليق بكل ما ينسب للقدوس أن يكون مقدسا: ملائكته وكل الطغمات
السمائية، المؤمنون به، هيكله، الأوانى المستخدمة فيها، المذبح.. الخ.

حتى الأرض التى يقدمها لشعبه! ويحسب الله كل تدنيس أو افساد لقدسية
هذه الأمور إهانة موجهة إليه شخصيا! كل تدنيس لجسدك الذى هو هبته لك كهيكل لروحه
القدوس.. إنما هى خطية موجهة ضد الله.

كثيرا ما يتساءل الشباب: لماذا يحسب الله الفكر الشهوانى خطية؟ أو
لماذا يعتبر الزنا خطية مادامت برضى الطرفين وليس من يصيبه ضررا فى المجتمع؟
الأجابة أن فكرك كما جسدك وجسد الغير هو مركز ملكوت الله القدوس، حتى الفكر الخفى
الشرير إن قبلته بتهاون وتراخ فيه إساءة إلى مقدسات الله. عندما يمر بك فكر شرير
قل لنفسك: " لا تدنس أرض الرب المقدسة! ".

" يا رب عزي وحصني وملجإي في يوم الضيق،

 اليك تأتي الامم من اطراف الارض ويقولون:

 انما ورث آباؤنا كذبا واباطيل وما لا منفعة فيه.

 هل يصنع الانسان لنفسه آلهة وهي ليست آلهة.

 لذلك هانذا اعرّفهم هذه المرة،

اعرّفهم يدي وجبروتي فيعرفون ان اسمي يهوه " ع 19 – 21.

يختتم هذا الإصحاح بقطعة شعرية رائعة تتحدث عن خلاص الشعب من السبى،
وفى نفس الوقت عن خلاص الأمم وقبولهم الإيمان فتكون لهم معرفة حية بالله مخلصهم.

يكشف إرميا النبى عن عظمة خلاص الله، الأمر الذى يشد انتباه كل الأمم
فيدركوا أن ما حدث لم يكن عن قوة بابل عندما سبت يهوذا ولا عن ضعفها عندما تحرر
الشعب كله (إسرائيل ويهوذا)، وإنما هى خطة الله ضابط التاريخ، فى يده كل أمور
البشرية.

 

يقول العلامة أوريجينوس: [هلموا لنرى ماذا
تقول النبوة عنا: " يا رب عزي وحصني وملجإي في يوم الضيق، اليك تأتي الامم من
اطراف الارض ويقولون: انما ورث آباؤنا كذبا واباطيل وما لا منفعة فيه" ع 19.

 جاءت الأمم من أطراف الأرض، كيف " من أطراف الأرض "؟
يوجد على الأرض أناس أولون ويوجد أيضا أناس آخرون، حكماء هذا العالم وأغنياؤه هم
الأولون وليسوا أولين على كل شىء.

ومن هم الآخرون؟: " واختار الله أدنياء العالم والمزدرى وغير
الموجود ليبطل الموجود " (1 كو 1: 28).

إذا " الامم من اطراف الارض ". كأنه يقول: إن تلك الأمم
مكونة من الأدنياء والمزدرى بهم والجهال والناس الآخرين على الأرض.

" ويقولون: انما ورث آباؤنا كذبا واباطيل وما لا منفعة فيه
": ليس أن يوجد أصنام صادقة عكس الأصنام الكاذبة المذكورة فى الآية، وإنما
يقصد بها الأصنام عموما، التى بطبيعتها كاذبة ولا يوجد فيها منفعة].

" هذه المرة " ماذا يقصد ب " هذه المرة؟ يقصد بها
المجىء التالى للرب، خاصة لأنه يضيف بعد ذلك:
" فيعرفون أن اسمى
يهوه "
.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي