سِفْرُ دَانِيآل

 

الفصلُ
العاشِر نُبُوَّةُ دانِيال "مُؤمِنونَ مُقابِل بابِليِّين"

 دانيال
هوَ النبيُّ الرابِع بينَ ما يُسمَّى "بالأنبياءِ الكِبار"، والثالِثُ
بينَ ما يُسمَّى بأنبياءِ السبي. عندما نلتَقي بدانيال، عندَ سُقوطِ أورشليم
للمرَّةِ الأولى، كانَ دانيالُ في الرابعةِ عشر من عُمرِه. فلم يحدُث آنذاك إجلاءٌ
كبيرٌ للشعبِ إلى بابِل، ولكن أُخِذَت نُخبَةٌ قليلةٌ من الأشرافِ والنسلِ الملكي
إلى بابل، أمثال دانيال وأصدِقائه. وكأنَّ نبوخذنصَّر أمرَ بالقول، "أُريدُ
الشُّبَّانَ النُّبَلاءَ والأُمَراء والحُكماء لكي يأتُوا ويتثقَّفُوا في
جامِعاتِي." لقد إستخدمَ اللهُ قرارَ حاكمٍ وثنيّ لكي يُؤسِّسَ ستراتيجِيَّاً
خدمةً في بابِل لِخَيرِ شعبِهِ، حتى عندما يحينُ وقتُ وُصولِ جماهير المسبيِّين،
يكونُ لهُم تأثيرٌ في قصرِ نبوخذنصَّر.

 

نماذِجُ
وتحذِيراتٌ

 يُقسَمُ
سفرُ دانيال الذي يتألَّفُ من إثني عشرَ إصحاحاً، إلى قِسمَين مُتَساوِيَين.
الإصحاحاتُ الستَّةُ الأولى هي سردٌ تاريخيٌّ. أمَّا الإصحاحاتُ 7 إلى 12 فهي
إعلاناتٌ نبويَّة. العددُ المِفتاحِيَّ لكُلِّ القِصَص التاريخيَّة في الكتابِ
المقدَّس، والتي نجدُها في دانيال 1-6، هو عددٌ في العهدِ الجديد يقول،
"فهذهِ الأُمور جميعُها أصابتهُم مِثالاً وكُتِبَت لإنذارِنا نحنُ الذينَ
انتَهَت إلينا أواخِرُ الدُّهُور." (1كُورنثُوس 10: 11).

 

 في
العهدِ القديم، تجِدُ كُلاً من سلبيَّاتِ وإيجابِيَّاتِ الحياة الروحيَّة لمُعظَمِ
أبناءِ شعبِ الله. ولكن هذا لا يَصِحُّ لا على يُوسُف الصِّدِّيق ولا على دانيال.
كِلاهُما عاشا شبابَهُما وحياتَهما بأكمَلِها في حضارَةٍ مُعادِيَة، التي كانت
العَرين السياسي للأمبراطُوريَّات العُظمَى. فدانيال ويُوسُف كانا الشخصيَّتَين
الأكثر نقاوةً في كلمةِ الله. فبينما عاشَ يُوسُف كاليدِ اليُمنى لأحدِ فراعِنَة
مِصر، عاشَ دانيالُ كُلَّ فترةِ شبابِهِ في الحضارَةِ البابِليَّة المُعادِيَة.

 

عاشَ
دانيالُ حتى إلى ما بعدِ موتِ نبوخذنصَّر وإبنِه بِلطشاصَّر. لقد عاشَ ليشهَدَ
سُقوطَ الأمبراطُوريَّة البابِليَّة بِيَدِ أمبراطُوريَّةِ الفُرُس. وهكذا عاش
طِوالَ السبعينَ سنةً في السبي البابِليّ. وكانَ قد أصبَحَ عجوزاً أضعفَ من أن
يقوى على العودةِ عندما بدأت حملاتُ الرجوع من السبي البابِلي إلى أورشليم،
ولكنَّهُ شهِدَ الرجُوعَ من السبي.

 

لقد
كانَ دورُ دانيال ومُهمَّتهُ أن يُريَ شعبَ يهوذا كيفَ يُمكِنُهُم أن يتأقلَموا
معَ السبي، حتَّى عندما كانَ لا يزالُ في الرابعةِ عشرة من عمره. لقد تأقلمَ
دانيالُ معَ السبي بطريقةٍ لافتةٍ للنظَر، ولِهذا يُعتَبَرُ نمُوذَجاً رائِعاً
لِشعبِ يهُوَّذا ولنا نحنُ اليوم.

 

تَصمِيمُ
دانِيال

 كتبَ
بُولُس يقولُ، "ولا تُشاكِلوا هذا الدهر بل تَغَيَّروا عن شكلِكُم بتجديدِ
أذهانِكُم" ( رُومية 12: 2). مُمكِن أن نُفسِّرَ هذا العدد كالتالي: "لا
تسمَحُوا للعالم بالضغطِ عليكُم وتشكِيلِكُم في قوالِبِهِ، بل دَعُوا الله
يُجدِّدُ أذهانَكُم من الداخِل." كانَ هذا حضٌّ للمُؤمِنينَ في العهدِ الجديد،
ولكنَّ الحقيقَةَ ذاتَها إنطَبَقَت على دانيال في بابِل.

 

لم
يتطلَّب دانيال الكثير من الوقت ليعرِفَ أنَّ الضغطَ مَوضُوعٌ عليهِ لكي يُشاكِلَ
الحضارَةَ البابِليَّة. لقد تمَّ إختِيارُهُ وتسجيلُهُ في جامِعةِ بابل، وتمَّ
تدريبُهُ على أيدي حُكَماءِ نبوخذنصَّر ليُصبِحَ يوماً ما واحداً من حُكماءِ
بابِل. وأوَّلُ أمرٍ واجَهَهُ دانيالُ كانَ الطعام البابِلي الغَني. ولربَّما
إحتَوى الطعامُ على لحمِ الخَنـزير وكُل تلكَ الأشياء غير الطاهِرة التي توجَّبَ
على اليهودي أن يمتَنِعَ عن أكلِها. وهكذا نقرأُ، "فجعلَ دانيالُ في قَلبِهِ
أنَّهُ لا يتنجَّسُ بأطايِبِ المَلِك ولا بِخَمرِ مشروبِه." (دانيال 1: 8).

 

 إسمُ
دانيال يعني "اللهُ قاضِيَّ." لقد مشى دانيالُ أمامَ الله طالِباً منهُ
أن يحكُمَ على كُلِّ خُطوةٍ يأتي بها. وكانَ لأصدِقائِهِ الثلاثة أسماءٌ ذات معانٍ
رُوحيَّة. فمِيشائيل يعني "من مِثلُ الله." وحنَنيا يعني "اللهُ هو
المُفضَّل." وعَزَريا يعني "ساعَدَهُ اللهُ أو يهوة."

 

فالآن
أوَّل ما فعلَهُ البابِليُّون هو أنَّهُم غَيَّروا أسماءَ هؤلاء الشُّبَّان
العِبرانيين. فَغَيَّروا إسمَ دانيال إلى بِلطشاصّ‍َر، الذي يعني "لِيَحمِي
بِلْ حياتَهُ." ولقد كانَ بِل أو بعل إلهاً وَثَنِيّ‍اً‌ بابِليَّاً. كانَ
البابِليُّون يُحاوِلونَ أن يجعلوا دانيال يُؤمِن بأنَّهُ أصبَحَ تحتَ حِمايةِ
إلهٍ وثني. وإسمُ ميشائيل تغيَّرَ إلى مِيشَخ، الذي هو مَردُوخ في البابِليَّة.
وكانَ مردُوخ أيضاً إلهاً وثنياً بابِلياً. وحَنَنيا تغيّرَ اسمُهُ إلى شَدرَخ،
الذي هو إسمُ الإله القمر في بابل. وتغيَّرَ اسمُ عزَريا إلى عبدَنَغو، الذي كانَ
يعني "خادمَ إله الحِكمة البابِليّ." (دانِيال 1: 7).

 

كانَ
نبوخذنصَّر يقولُ لهؤلاء الشُّبَّان الأربعة، "سوفَ نجعلُ منكُم
بابِليِّين." ولكن وقفَ هؤلاء الشُّبَّان اليافِعين أمامَ نبوخذنصَّر وأمامَ
أمبراطوريَّة بابِل وقالوا، "لن تقدِروا أن تجعلوا منَّا بابِليِّين. بل نحنُ
سنجعلُ منكُم مُؤمِنين."

 

يُخبِرنا
الإصحاحُ الرابِعُ من دانيال أنَّ نبوخذنصَّر، ذلكَ النابِغة الذي وضعَ أُسُسَ
الأمبراطوريَّة البابِليَّة، إعتَرَفَ بالإيمانِ بالله. يُعتَبَرُ هذا الإصحاحُ من
أروعِ إصحاحاتِ الكتابِ المُقدَّس. فما الذي أوصَلَ نبوخذنصَّر إلى الإعتِرافِ
بالإيمانِ بالله؟ لقد بدأَ كُلُّ شيء عندما رفضَ دانيالُ أن يتنجَّسَ بأطايبِ
مَلِك بابِل الغنيَّة والنَّجِسة.

 

تَفسيرُ
الأحلام

 في
وقتٍ مُبَكِّرٍ جِدَّاً من سبي دانيال ورِفاقِه، واجهوا تَحَدِّياً آخر. لقد
حَلِمَ نبوخذنصَّر حُلماً. ولكنَّ هذا الحُلم أصابهُ بالإضطراب. فدعا حُكَماءَهُ
ومُنجِّميه وسحرته وقالَ لهُم، " أخبِرُوني أولاً بما حَلِمتُ ثُمَّ فسِّروا
الحُلمَ لي."

 

 وبالطبعِ
كانَ هذا مُشكِلةً كبيرةً لحُكَماءِ بابِل. قد لا يكونُ من الصعبِ جداً تفسيرَ
الأحلام، ولكن القضِيَّة تبقى عمَّا إذا كانَ التفسيرُ صحيحاً. هذا ما كانَ
نبوخذنصَّر يُواجِهُهُ. وعندما وضعَ نبوخذنصَّر هذا التحدِّي أمامَ حُكَمائه،
ذُهِلُوا وأُصيبُوا بالهَلَع. فعندما يطلُبُ منكَ مَلِكٌ مِثل نبُوخذنَصَّر أن
تعمَلَ شيئاً، عليكَ بعملِهِ وإلا جلبتَ على نفسكَ الويلَ والهَول.

 

فقالوا
لبنوخذنصَّر، "ليسَ على الأرضِ إنسانٌ يستَطيعُ أن يُبَيِّنَ أمرَ المَلِك…
وليسَ آخر يُبيِّنُهُ قُدَّامَ الملك غير الآلِهة الذين ليسَت سُكناهُم معَ
البَشَر" (دانيال 2: 10، 11). فأثارَ جوابُهُم هذا غيظَ نبُوخذنصَّر، فأمرَ
بقتلِ كُلِّ حُكماءِ بابِل. وكانَ هذا يشمَلُ دانيال وأصدِقائهِ لأنَّهُم أُدخِلوا
الجامِعة وكانوا تلامِذةَ حُكَماءِ بابِل.

 

وعندما
وصلَ الجلادونَ لقتلِهِم، تكلّمَ دانيالُ بِحِكمةٍ ولياقة، وسأل، "لماذا
اشتدَّ أمرُ الملِكِ إلى هذا الحدّ؟" فأجابَ الجلادُ، "لقد وقعَ خِلافٌ
بينَ الملِك والحُكماء. قالَ الحُكماءُ أنَّ الآلِهة لا تسكُنُ في النَّاس، ولذلكَ
لن يستطيعوا أن يُخبِروا المَلِكَ بما حَلمَ."

 

 فقالَ
دانيالُ ما معناهُ، "لقد أخطأ الحُكماءُ لأنَّ اللهَ يحيا في البشرِ."
فذهبَ دانيالُ لرُؤيَةِ الملك، وطلبَ منهُ أن يمنحَهُ بعضَ الوقت لكَي يُخبِرَ
الملكَ بالحُلمِ وبِتفسيرِه. ثُمَّ أخبَرَ دانيال أصدِقاءَهُ الثلاثة بما فعل،
فبدأوا جميعُهم يُصلُّون. وفي تِلكَ الليلة، وبينما هُم يُصلُّون أعلنَ اللهُ
بِرُؤيا عجائِبيَّة لِدانيال حُلمَ نبُوخذنَصَّر، وكذلكَ أعلنَ لهُ التفسير.

 

فذهبَ
دانيالُ إلى نبُوخذنَصَّر، فقالَ له، "أيُّها الشاب، لقد قِيلَ لي أنَّكَ
أنتَ من ستُخبِرُني بالحُلم وبِتفسيرِه." فأجابَهُ دانيال، "اللهُ
وحدَهُ يستطيعُ أن يفعلَ ما طلبتَ أنتَ من حُكمائِكَ أن يفعلوه، أيُّها الملك.
بهذا أخطأَ حُكَماؤُك. فهذا الإلهُ الساكِنُ في السماوات، والذي يحيا أيضاً فيَّ،
هو أخبَرني بما حلِمتَهُ وأخبَرني بالتفسير." وعندما أخبَرَ دانيالُ
نبُوخذنصَّر بِما حَلِمَ، ومن ثمَّ فسَّرَ لهُ الحُلم، خَرَّ نبوخذنصَّرُ على
وجهِهِ أمامَ دانيال، ومن ذلكَ اليوم فصاعِداً أصبحَ يُشيرُ إلى دانيال
"بالرجُل الذي يحيا فيهِ رُوحُ الله." (إصحاح 2)

هل تبحث عن  هوت عقيدى قانون الإيمان قانون الإيمان 11

 

 إن
تفسيرَ دانيال لحُلمِ الملك هو إحدى المُعجِزات الخمس في سفرِ دانيال، التي
تُثبِّتُ أنَّ هُناكَ ما هُوَ خارِقٌ للطبيعة في هذا. والمُعجِزات الأربَع هي:
إنقاذ أصدِقاء دانيال الثلاثة من الأتونِ المُتَّقِد (الإصحاح 3)، وإعتراف
نبوخذنصَّر بالإيمان بالله (الإصحاح 4)، والكتابَةُ على الحائطِ (الإصحاح 5)،
وإنقاذ دانيال من جُبِّ الأُسود (الإصحاح 6).

 

من
خِلالِ هذه المُعجزات أظهَرَ دانيال ورِفاقُهُ أيَّ نوعٍ من الإيمان يستطيعُ أن
يتحمَّلَ العيش في الصُّعوبات. لقد كانَ لديهم الإيمانُ الذي يَثِقُ بقُوَّةِ الله
الخارِقة للطبيعة بِشكلٍ مُطلَق، ولقد آمنُوا بقُوَّةِ الصلاة، وآمنُوا بالعنايةِ
الإلهيَّة التي وضعتُهم في بابِل.

 

هل
تُواجِهُكَ مشاكِل وضُغوطات لا تُتَحاشَى ولا تُتَجنَّب، مما جعلَك تقِفُ أمامَ
المُستَحيل؟ إن الأزمات التي واجَهَها دانيال وأصِدقاؤُهُ في بابِل هي أزماتٌ لا
مَفرَّ منها ولا تُطاق، ولقد وضعتُهم أمامَ المُستَحيل. ولقد أظهَرُوا لنا كيفَ
نعيشُ معَ هذا النَّوع من الأزمات، تماماً كما عاشُوا هُم أزمتَهُم في بابِل.

 

بينما
تتأمَّلُ في هذه المُعجِزات المُدوَّنَة في سفرِ دانيال، إسألْ نفسَكَ هذه
الأسئِلة: هل تُؤمِنُ مُطلَقاً بقوَّة الله الخارِقة للطبيعة؟ وهل تُؤمِنُ
بِقُوَّةِ الصلاة الخارِقة للطبيعة؟ وهل تُؤمِنُ بالعنايةِ الإلهية والمقاصد
الإلهية التي وضعتْكَ حيثُ أنتَ لمجدِ الله؟ هل تُؤمِنُ بهذه الأُمُور بشكلٍ
مُطلَق؟

 

الفصلُ
الحادي عشر "أمجادُ بابِل"

 معَ
العِلمِ أنَّ هذه الدراسة ليسَت دِراسةَ أكاديميَّة بل هي دِراسةٌ تأمُّليَّة
تعبُّديَّة لأسفارِ الكِتابِ المقدَّس، ولكن هُناكَ خلفِيَّةٌ تاريخيَّة ينبغي أن
تكونَ مُطِّلعاً عليها لكي تُحسِنَ تقدير وفهم رسالة سفر دانيال. فغالِباً ما
يستخدِمُ الكتابُ المقدَّس حُكمَ المُلوك والقَياصِرة لكي يُؤرِّخَ أحداثاً
تاريخيَّةً، كما نرى في الأعدادِ الإفتِتاحيَّة من قصَّةِ الميلاد، التي نَراها في
الإصحاحِ الثاني من إنجيلِ لُوقا.

 

 خِلالَ
الأحداث التي تتكلَمُ عنها الإصحاحاتُ الأربعة الأولى من سفرِ دانيال، كانَ
نبُوخذنصَّر ملكَ الأمبراطُوريَّة البابِليَّة العالميَّة. في الإصحاحِ الخامِس من
سفرِ دانيال، نقرأُ أن إبنَ نبوخذنصَّر، أي بِلطشاصَّر، أصبَحَ الملك. وفي
الأعدادِ الخِتامية من الإصحاحِ الخامِس والأعدادِ الأُولى من الإصحاحِ السادِس من
سفرِ دانيال، نقرأُ أنَّ الفُرُس إحتَلُّوا بابِل وأصبَحَ داريُوس المادّي هو
الملك. بهذه الطريقة نعرِفُ أنَّ الإصحاحات الستَّة الأولى في سفرِ دانيال تُغطِّي
سبعينَ سنةً من التاريخِ البابِلي.

 

 إن
الإطارَ التاريخي للأحداث التي يُغطِّيها مُحتوى الكِتاب المقدَّس، يمتدُّ عبرَ
الأمبراطُوريَّات العالمية التالية: مصر، أشُّور، بابِل، فارِس، اليونان، وروما.
هُناكَ أمبراطُوريَّتانِ عالميَّتان تتلاصقانِ في سفرِ دانيال – الأمبراطُوريَّة
البابِلية التي دامَت سبعينَ سنةً، والأمبراطُوريَّة الفارِسيَّة، بِوِلاياتِها
المائة والسبعة والعشرين لمادي وفارِس، والتي تُشكِّلُ الإطارَ التاريخي لسفرِ
أستير. في إحدى نُبوَّاتِهِ، يُشيرُ دانيالُ إلى أربع قُوى عالميَّة: بابل، فارِس،
اليونان، وروما.

 

 لِكَي
نفهَمَ الظُّروف التارِيخِيَّة لِسفرِ دانيال، ولكي نُقدِّرَ بِشكلٍ خاص أُبَّهَةَ
ومجد نبوخذنصَّر، من المُهِم أن نعرِفَ كيفَ كانت مدينةُ بابِل. فأصغِ لهذا الوصف
لمدينةِ بابِل الذي كتبَهُ أحدُ مُؤرِّخي العهدِ القديم: "كانت المدينةُ تحوي
أكثَر من مليوني نسمة، وكانت جنائِنُ بابِل المُعلَّقَة واحدةً من عجائب الدُّنيا
السبع في العالمِ القديم. ويُخبِرُنا المُؤرِّخُونَ القُدَامَى أنَّ السورَ الذي
كانَ يُحيطُ بالمدينة كانَ طولُهُ تقريباً مائة كيلومتر، إذ شكَّلَ كُلُّ ضِلعٍ
منهُ حوالي 25 كيلومتراً. وكانَ ارتفاعُ هذا السور حوالي مائة وعشرة أمتار، وكانت
سماكةُ الجِدار حوالي 30 متراً. وكانَ أساسُهُ تحتَ الأرض بعُمق 13 متراً، لكي لا
يتمكَّن العدوَّ من حفرِ خندَقٍ تحتَهُ. وكان يُحيطُ بالمدينةِ داخِلَ السور
شُعاعُ فراغٍ عرضُهُ حوالي 400 متراً، يتوسَّطُ ما بينَ السور والمدينة. ومن خارِج
كانَ السورُ محمِيَّاً بِخنادِق مملوءة بالمياه. وكانَ يوجدُ على السور مائتان
وخمسونَ بُرجاً للحِراسَة.

 

"كانت
المدينةُ مقسومةً إلى قِسمَين مُتساوِيَين بفعلِ مُرورِ نهرِ الفُراتِ في وسطِها.
وكانَ يحجُزُ ضِفافَ النهرِ جِدارٌ مُرتَفِعٌ من الحجارةِ، معَ خمسةٍ وعشرينَ
بوَّابةً لتصِلَ بينَ الطُرُقات والسُفُن. وكان يُوجَدُ جِسرٌ طُولُهُ كيلومتر
واحد وعرضُهُ أحدَ عشرَ متراً، بالإضافةِ إلى جُسورٍ مُتحرِّكَةٍ تُرفَعُ في
الليل. وكان هُناكَ نفقٌ تحتَ النهرِ، بعرضِ سبعةِ أمتار وارتفاع أكثر من أربعة
أمتار. ففي أزمِنةِ الحرب الغابِرة، كانت بابِل قلعةً حصينة.

 

مدينةُ
بابِل في أيَّامِ دانيال، لم تكُن فقط المدينةَ الأولى في العالم، بل كانت أيضاً
القُوَّة الأمبراطُوريَّة العُظمَى التي حَكمَت في العالم حتَّى ذلكَ الوقت. هذه
الأمبراطُوريَّة لم تستَمِرَّ إلا سبعينَ سنةً. ولقد عايشها دانيالُ من نهضَتِها
إلى زوالِها. وكانَ دانيالُ صديقاً ومُستشاراً للمَلِك. لقد كانَ نبوخذنصَّر
عبقريَّاً، وهو الذي بنى الأمبراطُورِيَّة البابليَّة التي دامت 70 سنةً، وحَكمَ
هو فيها 45 سنةً.

 

 كانت
قُوَّةُ أو سُلطَةُ نبوخذنصَّر مُطلَقةً. في الإصحاح الخامِس من سفرِ دانيال،
نقرأُ عنهُ، "أيَّاً شاءَ قتَل وأيَّاً شاءَ استَحيا" (19). يصعُبُ
علينا اليوم أن نُقدِّرَ السُلطَةَ المُطلقة لحُكمٍ دِكتاتُورِيّ، أو لحاكِمٍ
تُوتاليتاري مثل نبوخذنصَّر. عندما تأخُذُ فكرةً عن تاريخِ هذا الرجُل نبوخذنصَّر،
تُدرِكُ أنَّ مُعجِزَةً عظيمَةً تمَّ وصفُها عندما يذكُرُ السفرُ إعتِرافَ
نبُوخذنصَّر بالإيمانِ بإلهِ دانيال.

 

إنَّ
اكتشافَ وتفسيرَ دانيال لحُلمِ نبوخذنصَّر (الإصحاح 2) تركَ أثراً عميقاً جداً على
هذا الملك. في ذلكَ الحُلم، رأى نبوخذنصَّر تِمثالاً لرجُل. رأسُهُ من ذهب. صدرُهُ
من فُضَّة. بطنُهُ وحقويهِ من نُحاس. ساقاهُ من حَديد، وقدماهُ من حديدٍ ممزوجٍ
بِخَزَف.

 

كانَ
تفسيرُ دانيال لهذا بأنَّهُ يُشيرُ إلى الممالك العالمية الأربع العُظمَى. عندما
فسَّرَ دانيالُ حُلمَ نبوخذنصَّر، قال دانيال، "أنتَ أيُّها الملِكُ هو رأسُ
الذهب، لأنَّكَ القُوى العُظمَى في العالم، ولكنَّ سُلطانَكَ هذا سوفَ يزولُ يوماً
ما. فمملكتُكَ سوفَ تسقُطُ وتحُلُّ محلَّها مملكةٌ أُخرى لن تكونَ بِعَظَمةِ
مملكتِكَ، وهي مملكة فارِس. هذا هو جزءُ الفِضَّة من التمثال. ومَملَكة النُحاس،
التي هي اليُونان، سوفَ تتبَع. وأخيراً، المملكة المُشارُ إليها بأقدامِ الحديد هي
الأمبراطُورِيَّة الرومانِيَّة." وقد تُشيرُ أصابِعُ القدمين العشرة إلى
مناطِق الأمبراطُوريَّة الرومانية العشر.

 

هل تبحث عن  كتب أبوكريفا عهد قديم سفر ياشر 45

يبدو
أنَّ هذا التفسير دخلَ ذهنَ نبوخذنصَّر سُرعانَ ما سمِعَ أنَّهُ "رأسُ
الذهب." فصنعَ تِمثالاً كامِلاً من ذهب وجعلَ الجميعَ يَخُرُّونَ ويسجُدونَ
أمامه. في هذه المرحلة كانَ نبوخذنصَّر أبعَد ما يكونُ عن التوبة. وكما سنرى، كانَ
لشهادةِ دانيال وأصدِقائهِ الثلاثة تأثيراً عميقاً غيَّرَ حياةَ نبوخذنصَّر
وجعلَهُ يعتَرِفُ بالإيمان باللهِ الحي الحقيقي.

 

نبوخذنصَّر
يتُوب

 في
حُلمِ نبوخَذنصَّر، قُطِعَ حجرٌ من جَبَلٍ بِغَيرِ يدٍ. هذا الحجرُ المُعجِزَة
سقطَ على قدَمي تمثال نبوخذنصَّر الكبير، سقطَ على القدمين المصنوعَتين من حديدٍ
وخزف. فأدَّى هذا إلى تدميرِ التمثال بأكمَلِه فتناثَرَ على الأرضِ قِطعاً صغيرةً
جدَّاً. التفسيرُ الذي أعطاهُ دانيال لِنَبُوخذنصَّر كانَ أن كُلَّ هذه الممالك
المُشارُ إليها بالذهب والفِضَّة والنُّحاس والحديد والقدمين من حديدٍ وخزف، كُلُّ
هذه الممالك ستُدمَّرُ وتزول يوماً ما بفِعلِ مملكةٍ خارقةٍ للطبيعة، أي مَملَكة
أو ملكوت الله.

 

 لا
نعرِفُ تماماً كيفَ استخدَمَ اللهُ حياةَ دانيال وكلماتِهِ ليصِلَ إلى نبوخذنصَّر،
ولكن الأمرَ العجيب هو أنَّكَ عندما تصِلُ إلى دانيال 4، تقرأُ التالي:"من
نبوخذنصَّر الملِك العظيم إلى كُلِّ الشُّعوب والأُمَم والألسِنَة الساكِنِينَ في
الأرضِ كُلِّها. لِيكثُرْ سلامُكُم. الآياتُ والعجائبُ التي صَنَعَها معي اللهُ
العَليُّ حَسنٌ عندِي أن أُخبِرَ بها. آياتُهُ ما أعظَمَها وعجائِبُهُ ما أقواها.
ملكوتُهُ ملكوتٌ أبديٌّ وسُلطانُهُ إلى دَوْرٍ فدَوْر." (2-3).

 

 في
هذا الإصحاحِ الرائِع، يتكلَّمُ نبوخذنصَّر عن حلمٍ آخر حلمَ بهِ. ولقد وصفَ
نبوخذنصَّر حُلمَهَ الثاني هذا كالتالي: "كُنتُ أرى فإذا بِشجرةٍ في وَسَطِ
الأرضِ وطُولُها عَظيم. فكَبُرَتِ الشجرةُ وقَوِيَت فبلغَ عُلُوُّها إلى السماءِ ومنظَرُها
إلىأقصَى كُلِّ الأرض. أوراقُها جمِيلةٌ وثمرُها كَثيرٌ وفيها طعامٌ للجميع وتحتها
استظلَّ حيوانُ البَرِّ وفي أغصانِها سكَنت طُيُورُ السماءِ وطَعِمَ منها كُلُّ
البَشَر. كُنتُ أرى في رُؤى رأسي على فِراشي وإذا بِساهِرٍ وقُدُّوسٍ نـزلَ من
السماء. فَصَرَخَ بِشِدَّةٍ وقالَ هكذا. اقطَعوا الشجرةَ واقضِبُوا أغصانَها
وانثُروا أوراقَها وابذُروا ثمَرَها… ولكن اترُكُوا ساقَ أصلِها في الأرضِ
وبِقَيدٍ من حَديدٍ ونُحاسٍ في عُشبِ الحقل." (4: 4- 15.)

 

ثمَّ
تابَعَ الملاكُ بالقَول، "لِيَبتَلَّ بِندى السماء وليكُنْ نصيبُهُ معَ
الحيوانِ في عُشبِ الحقل. لِيتغيَّر قلبُهُ عنِ الإنسانِيَّةِ ولِيُعطَ قلبَ
حَيوان ولِتَمضِ عليهِ سبعةُ أزمِنَة." (15-16) قالَ الملاكُ أنَّ القصدَ من
هذا القرار الإلهي هو أن يفهَمَ العالم، "أنَّ العَلِيَّ مُتَسَلِّطٌ في
مَملَكةِ الناس فيُعطِيها من يَشاء ويُنصِّبُ عليها أدنَى الناس."

 

ثُمَّ
يُخبِرُنا الملكُ أنَّهُ أخبرَ هذا الحُلم لدانيال. وعندما سَمِعَ النبيُّ الحُلم،
جلَسَ مشدوهاً وصامِتاً لساعَةٍ من الزمان، مصدُوماً من معنى الحُلم. وأخيراً
قالَ، "يا سيِّدي الحُلمُ لِمُبغِضِيكَ وتعبِيرُهُ لأعاديك." (19)

 

بعدَ
أن ألحَّ الملكُ على دانيال أن يُخبِرَهُ بتفسيرِ الحُلم، قالَ دانيال،
"يطرُدُونَكَ من بَينِ الناس وتكونُ سُكناكَ مع حيوانِ البَرِّ ويُطعِمُونَكَ
العُشبَ كالثيران ويَبُلُّونَكَ بِنَدَى السماء فَتمضِي عليكَ سبعةُ أَزمِنَةٍ
[سنوات] حتَّى تعلَمَ أنَّ العَلِيَّ مُتَسلِّطٌ في مَملَكة الناس ويعطِيها من
يشاء." (25)

 

وتابَعَ
دانيال ليقول أنَّ اللهَ سوفَ يُعيدُ المُلكَ لنبوخذنصَّر عندما سيعتَرِف بِسيادة
الله. ثُمَّ توسَّلَ دانيالُ إلى الملكِ قائلاً، "فارِق خطاياكَ بالبِرِّ
وأثامَكَ بالرَّحمَةِ للمَساكِين لعلَّهُ يُطَالُ اطمِئنانُكَ." (27)

 

 يبدو
أنَّ دانيال كتبَ بعدَ هذا بِضعةَ أعدادٍ تصِفُ تحقُّقَ تفسيرِهُ النبَويّ لهذا
الحلم. وبعدَ أن إنتَهت هذه المِحنة الرهيبة، إستعادَ نبُوخذنصَّر الكتابَةَ
مُعبِّراً عن إعتِرافِهِ بالإيمان والحمد لإلهِ دانيال الحيّ والحقيقي."
ورفعَ عينيهِ نحوَ السماء وسبَّحَ ومجَّدَ اللهَ العَليّ.

 

 لاحِظْ
أنَّهُ كانَ لدى اللهِ قصدٌ بجعلِ نبوخذنصَّر يمُرُّ في هذا الإختِبارِ الرهيب: أن
يتعلَّمَ أنَّ العليَّ مُتَسَلِّطٌ في مملكةِ النَّاس. فكانَ على نبُوخذنصَّر أن
يحيا كالحَيوان لسبعِ سنواتٍ، إلى أن تعلَّمَ في النِّهايَةِ ما أرادَهُ اللهُ أن
يتعلَّم. يا لِهذهِ الأنا التي كانت لديهِ، ممَّا تتطلّبَ اللهَ سبعَ سنين لكي
يجعَلَ هذا الحاكم العالمي يحني رأسَهُ.

 

 هل
من الممكِن أن نجتازَ في ظُروفٍ وإختِباراتٍ مأساويَّة، لأنَّ اللهَ يُحاوِلُ أن
يُريَنا أنَّ لديهِ الحقُّ أن يحكُمَ هذا العالم وأن يسودَ على حياتِنا؟ عندما
يحدُثُ هذا، كم يتطلَّبُكَ من الوقتِ قبلَ أن تقولَ لله،"ربِّي وإلهي!
إستَلِم قِيادَةَ حياتي. أنتَ سيِّدُ حياتي المُطلَق؟"

 

الفصلُ
الثاني عشر رُؤى وإعلانات دانيال

بما
أنَّ الإصحاحات الستة الأولى من سفرِ دانيال هي سردٌ تارِيخيٌّ، فهي سهلةُ الفهمِ
وواضِحةُ التطبيق. أمَّا الإصحاحات الستة الأخيرة من سفرِ دانيال، مثل سفر
الرُّؤيا ونُبُوَّاتُ حزقِيال وزكريَّا، فإنَّ فهمَها هو أمرٌ في غايَةِ
الصُّعوبة. إن تفسيرَ دانيال لحُملِ نبُوخذنصَّر الأوَّل في دانيال 2، يُعطينا
نمُوذجاً يقودُنا في مُحاوَلتِنا لتفسيرِ الإعلانات والرُّؤى الصعبة في سفرِ
دانيال. فقط من خِلالِ خدمةِ تعليمِ الرُّوحِ القُدُس نستطيعُ أن نفهَمَ هذه
الرُّؤى التي هي إعلانٌ نبويٌّ عن عمل اللهِ العظيم في عالمِنا.

 

إليكُم
بعضُ الخُطُوات التي ينبَغي اتِّخاذُها عندما تُحاوِلُونَ أن تفهَموا رُؤى
وإعلانات سفر دانيال. أوَّلاً، لاحِظ الرُّموز في الرُّؤيا. ففي هذه الرُّؤيا
الأولى التي حصلَ عليها دانيال، والمُسجَّلة في الإصحاح السابِع، تُشبِهُ رُموزُ
الرُّؤيا تلكَ الرُّموز التي رأيناها في الحُلمِ الأوَّل لِنبوخذنصَّر.

 

أربعة
رِياحٍ تهِبُّ وتعصِفُ بالبَحرِ الكَبير، وتخرُجُ منهُ أربَعَةُ وُحُوش. الوحشُ
الرابِعُ كانَ رهيباً ومُخيفاً، ودمَّرَ الوُحوش الأُخرى، ولكن قبلَ هذا، خرجت
منهُ عشرةُ قُرونٍ. ثُمَّ خرجَ قرنٌ واحِدٌ من بينِ العشرةِ القُرُون، وكانت لهُ
عُيونٌ وفمٌ كَبير يتكلَّمُ بِعظائم.

 

 ثانِياً،
لاحظ الفعل وردَّ الفعل بينَ هذه الرموز. ثُمَّ انتَبِه للتفسير المُعطَى في النص،
الذي هو التفسيرُ المُوحَى بهِ من الله لهذا النص. بعدَ هذا، إسأل الروحَ القُدُس
بِروحِ الصلاة أن يُريَكَ ماذا يعنِي هذا. إسألْ: ماذا يقول، ماذا يعني، وماذا
يعني لي شخصِيَّاً؟

 

 التفسيرُ
المُوحَى لحُلمِ دانيال في الإصحاحِ السابِع، يُخبِرُنا أنَّنا ننظُرُ مُجدَّداً
إلى أربعةِ ممالِك. "هؤلاء الحيوانات العظيمة التي هي أربعةٌ هي أربعةُ
مُلوكٍ يقومونَ على الأرض. أمَّا قِدِّيسو العَلِيّ فيأخُذُونَ المملَكَةَ
ويمتَلِكُونَ المملكةَ إلى الأبد، وإلى أبدِ الآبدين." (17-18) "أما
الحيوانُ الرابِعُ فتكونُ مملكةٌ رابِعةٌ على الأرض مُخالِفةٌ لسائرِ الممالِك
فتأكُلُ الأرضَ كُلَّها وتدوسُها وتسحقُها." القُرونُ العشرة هي عشرُ مُلوكٍ
سيخرُجونَ من هذه المملكة. "ويقومُ بعدَهُم آخرُ وهو مُخالِفٌ الأوَّلين
ويُذِلُّ ثلاثةَ مُلوك. ويتكلَّمُ بكلامٍ ضِدَّ العَلِيّ ويُبلِي قِدِّيسي
العَليّ. ويَظُنُّ أنَّهُ يُغَيِّرُ الأوقاتَ والسُّنَّةَ ويُسَلَّمُونَ ليَدِهِ
إلى زمانٍ وأزمِنَةٍ ونِصفِ زَمان." (24-25)

 

في كُلِّ
مرَّة ترى فيها قُروناً في الكِتابِ المقدَّس، تجدُ أنَّها تُشيرُ إلى السُّلطَة،
مثل قرن الوحش الذي يقضي على وُحوشٍ آخرين. فهذه القُرونُ العشرة والقرنُ الصغيرُ
الخارِجُ منها يُمثِّلُونَ قُوى ولربَّما مَمالِك. كثيرونَ يُفسِّرونَ هذه المملكة
الرابِعة بأنَّها تُشيرُ إلى إعادةِ إحياء الأمبراطُوريَّة الرومانية. في رُؤيا
نبوخذنصَّر، تُشيرُ ساقا الحديد، المملكة الرابِعة، إلى الأمبراطُوريَّة
الرومانية. آخرونَ يقولون أنَّ هذه الرُّؤيا تُشيرُ إلى الأمبراطوريَّة
الرومانيَّة التي سيُعادُ إحياؤُها في المُستقبَل. آخرونَ يقولون لا، فهذه المملكة
الرابعة في الإصحاح السابع مَهُوبَةٌ ومُختَلِفةٌ عن الممالِك الباقية. فهي عظيمةٌ
ومُرهِبة بمَعنى أنَّها تعبيرٌ نَبويٌّ عن غضبِ الله.

هل تبحث عن  م الأباء أثناسيوس الرسولى تجسد الكلمة 55

 

 بِرأيي،
لا يستطيعُ المرءُ أن يكونَ جازِماً في تفسيرِهِ لنُبُوَّات دانيال هذه. فسواءٌ
فهِمنا أم لم نفهم كُلَّ التفاصيل، فهناك حقيقةٌ كُبرى نستطيعُ أن نأخُذَها من
دانيال 7: إن كُنتَ واحِداً من أبناءِ الله، فأنتَ من الفريقِ الرابِح لأنَّ كُلَّ
هذه الرُّؤى تنتَهي بِتَفاؤُلٍ في القِمَّة. فهي تُصوِّرُ لنا ملكوتَ الله
يُسيطِرُ على كُلِّ الممالك الأُخرى، وبأنَّه ملكوتٌ أبديٌّ.

 

رُؤيا
السَّبعين أُسبُوعاً

 إنَّ
أشهَر رُؤى دانيال أو إعلاناتِهِ النبَويَّة هي ما يُسمَّى "برُؤيا السبعين
أُسبُوعاً." يُخبِرُنا دانيال أنَّهُ بينما كانَ يقرأُ في نُبُوَّاتِ إرميا،
لاحظَ أنَّهُ حانَ وقتُ رجُوعِ شعبِ الله من السبي البابِلي قريباً. فكُلٌّ من
إشعياء وإرميا تنبَّأآ أنَّهُ بعدَ سبي شعبِ يهوذا إلى بابِل بسبعينَ سنةً، سوفَ
يرجِعونَ إلى أرضِهم. عندما يُخبِرُنا دانيالُ في نِهايَةِ الإصحاح الخامِس
وبِدايَةِ السادِس أنَّهُ أصبَحَ الآن تحتَ حُكمِ دارِيُوس المادّي، يُحدِّدُ
بذلكَ تاريخَ نهايةِ السبعين سنة من السبي.

 

عندما
صلَّى دانيال صلاتَهُ الرائعة في الإصحاحِ التاسِع، كانَ دانيالُ مأخُوذاً بكونِ
نِهايَة السبي الذي سيستَمِرُّ سبعينَ سنةً قد جاءَت. وعندما صلَّى دانيالُ حِيالَ
هذا الأمر، إعترفَ بخطاياهُ وبِخطايا الشعب. كانَ دانيال واحِداً من أطهَرِ
الشخصِيَّات في الكتابِ المقدَّس، ورُغمَ ذلكَ شملَ نفسَهُ معَ خطايا الشعب إثنتين
وثلاثين مرَّةً في صَلاتِه بالقول، "خطيتُنا التي بها أخطأنا."

 

كرَّرَ
دانيالُ هذا مُلتَمِساً من اللهِ الغُفران. كانَ على قَلبِ دانيال أنَّ التأديبَ
شارَفَ على نِهايتِهِ، وأنًَّ اللهَ ليسَ فقط سيغفِر، بل أيضاً سيَرُدُّ الشعبَ من
السبي إلى أرضِه.

 

وبينما
كانَ دانيالُ يُصَلِّي، ظَهَرَ لهُ الملاكُ جِبرائيل، وقالَ لهُ، "في ابتداءِ
تضرُّعاتِكَ خرجَ الأمرُ وأنا جِئتُ لأُخبِرَكَ." (دانيال 9: 23). كانت هذه
استجابةُ الله لِصلاةِ دانيال، وأحدُ أوضَحِ النُّبُوَّات المَسياوِيَّة التي
نجدُها في الكتابِ المقدَّس. والرُّؤيا هي ببساطةٍ التالية: "سبعونَ أُسبوعاً
[من السنين] قُضِيَت على شعبِكَ وعلى مدينتِكَ المُقدَّسة. [وإليكَ القصدُ من هذه
السبعين أُسبُوعاً التي قُضِيَ بها] – لتكميلِ المَعصِية وتَتمِيمِ الخَطايا
ولِكفَّارةِ الإثم ولِيُؤتَى بالبِرِّ الأبدي ولِخَتمِ الرُّؤيا والنُّبُوَّة
ولِمَسحِ قُدُّوسِ القُدُّوسِين."

 

إلى
جانب نُّبُوَّةِ الأخبار السارَّة بالرجوعِ الوشيك من السبي، نجدُ النُّبُوَّةَ
المسياوِيَّة عنِ المجيءِ الأوَّل للمسيح. إنَّ تفسيرَ هذه النُّبُوَّة المُدهِشة
يتطلَّبُ بعض الحِسابات. فاللهُ يُخبِرُ دانيال بأنَّهُ تماماً كما أنَّ السبي
استمرَّ سبعينَ سنةً، فالوقتُ بينَ السبي ومجيء المسيَّا سوفَ يكونُ سبعَ مرَّاتٍ
سبعينَ سنةً، أو أربعمائة وتِسعينَ سنةً. هذه السنوات سوفَ تُقسَمُ إلى أسابِيع من
السنين (أي وِحدات زمنيِّة كُلٌّ منها مُؤلَّفة من سبعِ سنوات). هذه الأسابيع من
السنين تُقسَمُ إلى سبعةِ أسابِيع، وإثنان وستِّينَ أُسبُوعاً، وأُسبُوعٌ واحِد.
في مُنتَصَفِ هذا الأُسبُوع الواحِد، سوفَ يُقطَعُ المسيحُ أو يُقتَل.

 

ينبَغي
أن تُؤرَّخَ هذه النُّبُوَّة من وقتِ صُدُورِ قرار كوروش بالسماحِ للشعبِ بالرجوعِ
وإعادةِ بناءِ أورشليم. لقد تمَّ الرجُوعُ من السبي على ثلاثِ مراحِل، ولكنَّ
المرحلةَ الهامَّةَ هي التي تمَّت عام 457 ق.م. فإذا جمعتَ إثنين وستينَ أُسبُوعاً
معَ سبعة أسابِيع، وضربتَ النتيجةَ بِسبعة، تحصلُ على 483 سنة. إذا أضفتَ 483 سنةً
إبتداءً من عام 457 ق.م.، تصِل إلى عام 26 ميلاديَّة. ويُخبِرُنا عُلماءُ الكِتابِ
المقدَّس أنَّ هذه كان السنة التي بدأَ فيها المسيَّا خِدمَتَهُ العَلَنِيَّة.
كانَ ينبَغي أن يكونَ هُناكَ أُسبُوعٌ من السنين، أو سبع سنين، وفي وسطِ هذه السبع
سنين، سوفَ يُقطَعُ المسيحُ. يقولُ المُفسِّرونَ أنَّهُ بعدَ ثلاث سنوات ونصف من
العام 26 ميلادِيَّة صُلِبَ يسوع المسيح.

 

بينما
يختَلِفُ المُفسِّرون حولَ التفاصيل، لكنَّ الأمرَ الواضِحَ في رُؤيا السبعينَ
أُسبُوعاً لدانيال هو التنبُّوء الدقيق بمجيء المسيَّا وصلبِهِ وبداية ملكوتِهِ
الذي لن تكونَ لهُ نِهاية. هذا هو الملكوت المُبَيَّن نَبَويَّاً في حلمِ
نبُوخذنصَّر الثاني الذي فسَّرَهُ لهُ دانيال (2: 34، 35، 44، 45). لقد تمَّ وَصفُ
هذا الملكوت كحجرٍ كبيرٍ سقطَ على قدَمي التمثال الذي يُشيرُ إلى ممالِكِ العالم
الأربع، ممَّا سبَّبَ تحطيمَ هذا التِّمثال إلى أشلاء.

 

وذلكَ
الجزء من التِّمثال الذي وقعَ عليهِ الحجر هو الجزء الذي يرمُزُ إلى
الأمبراطُوريَّة الرومانيّة. وهذا يُشيرُ بدقَّةٍ وفصاحة نبَويَّة إلى أن يسوعَ
بدأَ ملكوتَهُ خِلالَ زمن الأمبراطُوريَّة الرومانيَّة، وأن ملكوتَ الله الذي
دشَّنَهُ يسوع، والذي عاشَ إلى ما بعدَ سُقوط الأمبراطُوريَّة الرُّومانيَّة لألفي
عام، لن تكونَ لهُ نِهاية.

 

التطبيقُ
الشَّخصي لِهذهِ النُّبُوَّة

 

هُناكَ
تفسيرٌ وتطبيقٌ لهذه الرُّؤيا النبويَّة، هو أنَّ أُولئكَ الذين هُم جزءٌ من هذا
الملكوت الأبدي، لديهِم حياةٌ أبديَّة، لأنَّهُم جزءٌ من الملكوت الأبدي.

 

ولكي
نُغيِّرَ التشبيه، إن كُنتَ مُؤمِناً، وإن كُنتَ واحِداً من شعبِ الله، تكونُ
عندها من الفريقِ الرابِح في الحربِ بينَ الخيرِ والشَّرّ. فالحربُ بينَ الخيرِ
والشرّ تدورُ رَحاها منذُ آلافِ السِّنين وحتَّى يومِنا هذا. ولو تغيَّرَ المكانُ
بإستِمرار، فإنَّ للخيرِ والشرِّ وجهانِ مُختَلِفان، والحربُ بينهُما بدأت منذُ أن
قتلَ قايينُ هابيلَ أخاه.

 

مُواطِنون
سماوِيُّون

يقولُ
بُولُس الرسُول أنَّ مُواطِنيَّتنا هي في السماويَّات، وتُخبِرُنا كلمةُ الله أن
المُؤمِنين هم سائحونَ يُسافِرونَ عبرَ هذا العالم وهم يتطلَّعونَ إلى مدينَةٍ لها
أساساتٌ صانِعها وبارِئُها الله. ويُوصَفُ شعبُ الله كنَهرٍ يَنسابُ عبرَ هذا
العالم إلى مدينَةِ الله، حيثُ سيكُونُ الفرحُ كَبيراً بوُصُولِ هذا النهر إلى
هُناك. (عبرانِيِّين 11: 13- 16؛ مزامير 46: 4، 5).

 

 هل
أنتَ مُواطِنٌ في ملكُوتِ المسيح الأبدي هذا، وهل تُشارِكُ في إنتِصارِهِ الذي
سيُحقِّقُهُ هوَ والآبُ بدونِ شك؟ يسوعُ المسيح هو ملكُ المُلوك وربُّ الأرباب،
والقائِدُ الذي سوفَ ينتَصِرُ على قُوى الشر في هذا العالم. فإن كُنَّا تلاميذَهُ
الحقيقيَّين، نكونُ جُنوداً في جيشِهِ الرُّوحي. قد نخسَرُ بعضَ المعارِك على
الطريق، ولكنَّنا سنَربَحُ الحربَ الروحيِّةَ في النهاية. وسوفَ نعيشُ للأبدِ معَ
هذه الحقيقة: إن مِقدارَ مُِشاركتِنا في نُصرتِهِ سيُحدِّدُ نوعيَّةَ الأبديَّة
التي سنعيشُها.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي