الإصحَاحُ
الْخَامِسُ

 

الحديث
الأول الكبير

العظة
على الجبل (1:529:7)

              شهادات عن
العظة على الجبل                                          

              المدخل لشرح
العظة                                                      (5: 1 و 2)

              مواطنو
الملكوت: التطويبات علاقتهم بالعالم: ملح ونور             (5: 3-
16)

              بر الملكوت
إزاء بر الناموس                                            (17:5-20)

              المقابلات
الست بين الناموس والمسيح                                 (21:5-48)

 

العظة
على الجبل الحديث الأول المطوَّل

شهادات
عن العظة على الجبل

يطيب
لنا أن نقدِّم شهادات كبار الآباء والعلماء عن انطباعهم من جهة عظة المسيح على
الجبل:

القديس أُغسطينوس: 354430م

[من
أراد أن يقرِّظ عظة المسيح على الجبل كما جاءت في إنجيل ق. متى بصبر وإحساس من
التقوى فسيجد فيها أعلى الأخلاقيات وأكمل مستوى للحياة المسيحية].

ثولك: Tholuck 1799-1877م. لاهوتي ضليع

[إنها الماجنا كارتا Magna Charta (دستور الحكم عند الملك يوحنا الإنجليزي) أو الوثيقة
العظمى لملكوت

الله].

لانج: رئيس أساقفة كانتربري
1864-1945م.

[إن
محورها الأساسي هو توقيع بر ملكوت الله على حكم الله في العهد القديم].

إدرزهايم، الفريد: 1825-1889م.
يهودي نمساوي متنصِّر

[إنها
تقدِّم التصُّور الكامل لإنسان الله النموذجي من جهة الصلاة والبر، وبالاختصار فهي
تعطي منهج التلمذة من الداخل والخارج].

ماير، هنرش أوجست وليم: 18001873م.

[عرض
فيها المسيح عينة لتكميل الناموس والأنبياء وتقديم الشروط الأخلاقية لشركة ملكوت
المسيا].

وايس: جوانس 1863-1914م.

[هي
الإعلان عن ملكوت الله بالمفهوم الأخلاقي مع التفرقة بين البر في واقعه في ناموس
العهد القديم وبرّ المسيَّا في ملكوت الله].

وهكذا
نرى أن معظم أقوال العلماء تجيء في مفهوم الإعلان عن المتطلبات الأخلاقية لملكوت
الله. ومن حيث التحليل الغنيّ لهذا التجميع الهائل للآيات التي تصب في معنى
متطلبات ملكوت الله يمكن أن نرى عوامل غائبة ذات اعتبار: فمثلاً من جهة القوانين
الإيمانية التي للديانة المسيحية فهي غير موجودة، كما تخلو من أي إشارة للكهنوت
والذبائح، ولا لمفهوم المقدَّسات عموماً التي يزدحم بها العهد القديم. كما يخلو
هذا الحديث من الأمور الحسية أو المظاهر، فهي تتركَّز في دوافع العواطف ومطالب
الإنسان الداخلي. وتظهر بمظهر المقارنة لقوانين موسى ومواعظ الفريسيين. وعظمة
مفردات هذه العظة يعترف بها المتديّنون جداً والنقاد على حدٍّ سواء، ويكاد
الملحدون أيضاً. فمثلاً رينان وهو ملحد يقول عنها إنها لا يضاهيها قول ولا يسمو
فوقها تعليم. ويُحكى عنه أنه قبل موته بخمسة عشر يوماً أمر أن يُكتب على مقبرته:

[أيها
السيد الرب أنا أُومِن ولكن أعن عدم إيماني. لقد أكد لي قلبي أن إنجيل يسوع المسيح
يتحتَّم أن يكون عملاً إلهياً، وعظة الجبل فيه مُحال أن تكون عمل إنسان وهذا هو
إيماني الذي نبع من عمق ضميري وكل التاريخ يثبت ذلك. (15 أكتوبر سنة 1852م).]([1])

وهذا
أعظم اعترافات الملحدين الذين تابوا!!

وهناك
فروقات هائلة بين حجم هذه العظة في إنجيل ق. متى عنها في إنجيل ق. لوقا، ففي إنجيل
ق. متى تبلغ آياتها 107 آية في حين أنها
ثلاثون فقط في إنجيل ق. لوقا. وإنجيل ق. متى يحوي
ثمانية تطويبات بينما في
إنجيل ق. لوقا أربعة فقط، وق. لوقا يذكر أربعة ويلات لا يذكرهم ق. متى. والقديس
متى قال إن المسيح قال عظته وهو جالس على قمة جبل، وفي إنجيل ق. لوقا أنه ألقاها واقفاً في سهل، ولكنهما يتفقان في الافتتاحية
والختام وبعدها يتفقان أكثر في ذكر شفاء عبد
قائد
المائة.

والقديس
أُغسطينوس يوجِّه نظر القارئ إلى كيف أعطى المسيح كلامه كمنهج يُتَّبع وليس كلاماً
يُسمع عند قوله:
»
فكل
مَنْ يسمع أقوالي هذه ويعمل بها
«(مت 24:7) يكون هو
الرجل العاقل الذي بنى بيته على الصخر.

وفي
مطلع سرد العظة يقدِّمه القديس متى جالساً شأن معلم المعلِّمين الذي يتكلَّم من
أرصدة سماوية لا تفرغ. فالعظة طويلة. ولمَّا قال:
» ففتح فاه وعلَّمهم قائلاً «هنا علَّمهم من فمه وليس من أفواه الأنبياء ولا
موسى.

ويلزمنا أن نعرف أن عظة المسيح على الجبل كما قدَّمها ق. متى
هي أول حديث من الأحاديث الكبرى الخمسة التي جمعها ق. متى في إنجيله. والخمس عظات
تنتهي بنفس نهاية العظة على الجبل:

 

العظة على الجبل: تنتهي (28:7و29)  :
» فلمَّا أكمل يسوع هذه الأقوال بهتت الجموع من تعليمه
«

العظة الثانية:     تنتهي (1:11)       : »
ولمَّا أكمل يسوع أمره لتلاميذه الاثني عشر انصرف من هناك«

العظة الثالثة:     تنتهي (53:13)     :
» ولمَّا أكمل يسوع هذه الأمثال انتقل من هناك
«

العظة
الرابعة:   
تنتهي
(1:19)       :
» ولمَّا
أكمل يسوع هذا الكلام انتقل من الجليل
«

العظة
الخامسة:  
تنتهي
(1:26و2)    :
» ولمَّا
أكمل يسوع هذه الأقوال كلها قال لتلاميذه: تعلمون أنه بعد يومين
يكون الفصح «

 

وهذا
بحد ذاته يوضِّح مدى أهمية وخطورة هذا الترتيب في منهج إنجيل ق. متى، فهو يكشف
أولاً عن أصالة هذا التجميع. وكون كل مقالة أو عظة من الخمس لها بداية ولها نهاية
مستمدة من واقع الظروف التي قيلت فيها يوضِّح أن لكل مقالة ظروفها التي استمدَّت
منها مادتها. واستطاع ق. متى أن يحصرها ويقدِّمها كل مقالة قائمة بذاتها ولكن دون
التدخُّل في نوع الكلام ومعناه. ولكن يتحتَّم أن لا يفوت علينا حذق ق. متى في هذا
التجميع الغنيّ لإنجيله، فبالرغم من أنه قد حافظ على أصالة الكلام بتقليده الإنجيلي إلاَّ أنه استطاع أن يجمِّعه في قالب روائي
مرتَّب ومبوَّب في غاية
الإبداع.

فالإنجيل
من واقعه المقروء يقدِّم نمطاً أصيلاً تاريخياً لأقوال المسيح منسَّقة ومقسَّمة
دون أن تفقد دقة أصالتها. فوراء عظات ق. متى الخمس يقف صوت المسيح بأصالة تفوق
الوصف. ومما يزيد هذا التأكيد مدى انطباق عظة الجبل عند ق. متى بما جاء عند ق.
لوقا بحسب الأبحاث الدقيقة التي وصل إليها العلماء، إذ تنطبق العظتان بحسب البداية
بالتطويبات والنهاية بنفس الألفاظ، وانطباق مضمون الآيات، وانطباق حوادث بداية
العظة ونهايتها بشفاء خادم قائد المائة. وحتى الذي ينقص في عظة ق. لوقا في مضمون
العظة نجده يأتي بنفس الآيات في أماكن أخرى مما يكشف عنصر التجميع الجيد عند ق.
متى.

ومن
أبدع الأوصاف التي أعطيت للمسيح في عظة الجبل عند ق. متى أنه كان هو بالحقيقة
مسيَّا الذي جاء لا ليلغي الناموس والأنبياء بل ليكمِّل على المستوى اللاهوتي كل
ما جاء في الناموس والأنبياء لحساب ملكوت ابن الإنسان!

المنهج:

كما
سبق أن قلنا في المقدِّمة العامة أن نهر إنجيل ق. متى يقدِّم للموضوع ثم يتسع فيه،
فالمجرى يبدأ ضيِّقاً ثم يتسع ليصنع بحيرة لها شواطئ وذات أبعاد كبيرة. هكذا هنا
ينقسم عمل المسيح إلى تعليم وإلى كرازة وإلى شفاء. فالتعليم يستغرق من (1:529:7)
في هذه العظة الكبيرة وبعدها يتخصَّص في الشفاء (1:8
34:9).

ونبدأ
هنا بالعظة ويُظنُّ أنها ألقيت في ربيع سنة 28م بعد ما أمضى المسيح ليلة في الصلاة
تظهر بوضوح في إنجيل ق. لوقا (12:6). وبعد الصلاة ابتدأ يختار تلاميذه، وهذه تظهر
في إنجيل ق. مرقس (13:3
19) وفي إنجيل ق. لوقا (13:616) وتأتي في إنجيل ق. متى متأخرة (1:104).

 

المدخل لشرح العظة

[1:5و2]

1:5و2 «وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى
الْجَبَلِ، فَلَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ. فَفَتحَ فاهُ
وَعَلَّمَهُمْ قَائِلاً».

وبحسب عنوان الموضوع، العظة أُلقيت من فوق جبل (1:5و2) إذ
لمَّا نظر الجموع أخذهم وصعد إلى الجبل، ولمَّا جلس تقدَّم إليه تلاميذه ففتح فاه
وبدأ يعلِّمهم. أمَّا أين هذا الجبل فيمكن تقديره أنه في محيط كفرناحوم، إذ لمَّا
فرغ المسيح من التعليم نسمع في أصحاح (1:8و5):
» ولمَّا نزل من الجبل تبعته جموع كثيرة … ولمَّا دخل يسوع كفرناحوم جاء
إليه قائد مئة …
«وق. متى هنا يُعرِّف الجبل
فهو ليس مجرَّد جبل ولكنه “الجبل” قاصداً أنه جبل معيَّن ومعروف، لربما يكون هو
جبل قرن حطين؟ وهو يبعد أربعة أميال عن البحيرة من غرب وعلى بعد ثمانية أميال من
الجنوب الغربي لكفرناحوم. فإن صحَّ هذا يكون هو منحدر الجبل المغطَّى بالخضرة غرب
مدينة طبغه
Tabgha([2]). ولكن قول ق. لوقا إنه ألقى العظة في السهل ربما يكون أنه بعد أن ألقى
العظة على الجبل جالساً نزل إلى السهل ليشفي المرضى واقفاً ثم صعد مرَّة أخرى. ومن
كل ما قدَّمه ق. متى (1:5
29:7) وما قدَّمه ق. لوقا (17:649) يظهر أن العظة استمرَّت دون انقطاع لأن العظة في الاثنين تبدأ وتنتهي
بعبارات متشابهة في الإنجيلين، فهي تنتهي في الاثنين بنفس الكلمة:
»
فلمَّا أكمل يسوع هذه الأقوال «(مت 28:7، لو 1:7). كذلك ابتدأت عند
ق. متى:
» ولمَّا رأى الجموع صعد إلى الجبل
فلمَّا جلس تقدَّم إليه تلاميذه
«(مت 1:5) وابتدأت في إنجيل ق. لوقا: »
وجمع من تلاميذه وجمهور كثير من الشعب «(لو 17:6)، كما انتهت العظة في
الاثنين بشفاء عبد قائد المئة. غير أن العظة في إنجيل ق. متى تحوي ثلاثة أضعاف ما
جاء في إنجيل ق. لوقا. وواضح أن ق. متى جمع من الأقوال ما يتوافق مع الخطة التي
سبق ووضعها للعظة.

وهي
مثل كل أعمال المسيح، لها غاية يتجه إليها الكلام، فغاية العظة على الجبل هي توضيح
“إنجيل الملكوت” وهذا يحدِّده ق. متى بمنتهى الدقة والوضوح:
»
وكان يسوع يطوف كل الجليل يعلِّم في مجامعهم ويكرز ببشارة (إنجيل) الملكوت
ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب
«(مت 23:4). وبالاتجاهين معاً التعليم والكرازة مع
عمليات الشفاء يتحدَّد مضمون إنجيل الملكوت. وعلى مدى حديث المسيح الطويل لا يكف
المسيح عن لفت النظر والقلب إلى الملكوت:

 

(3:5):  »
طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات
«

(10:5): » طوبى للمطرودين من أجل البر لأن لهم ملكوت السموات «

(19:5): » فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلَّم الناس هكذا يُدعى أصغر في ملكوت
السموات، وأمَّا مَنْ عمل وعلَّم فهذا يُدعى عظيماً في ملكوت السموات

«

(20:5): » فإني أقول لكم: إنكم إن لم يزد بركم على الكتبة والفرِّيسيين لن تدخلوا
ملكوت السموات
«

(10:6): » ليأتِ ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض
«

(33:6): » لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تُزاد لكم
«

(21:7): » ليس كل مَنْ يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت
السموات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات
«

 

والذي
ينتبه إلى تخطيط العظة يُدرك كيف جمعها القديس متى بحذق روحي منقطع النظير:

1
– فهو أولاً يتكلَّم عن المواطن في
ملكوت السموات (3:5
16) واصفاً أخلاق المواطن
الملكوتي وسعادته (3
12).

2
– ثم علاقته مع العالم (13:5
16) فهو ملح الأرض ونور
العالم.

3
ثم يقدِّم
المسيح مستوى البر في ملكوت السموات (17:5
11:7).

ونجدها
في غاية التوافق مع أخلاقيات العهد القديم (17:5
19) ولكنها
تسمو فوق تيار تعليم الربيين سواء في شرح الناموس أو تطبيقه:
» إن لم يزد بركم على
الكتبة والفرِّيسيين فلن تدخلوا ملكوت السموات
«(20)،
» سمعتم أنه
قيل للقدماء … وأمَّا أنا فأقول
«(2148)!! فبر
الملكوت المطلوب من أبناء الملكوت يفوق جداً ما يدَّعيه الكتبة والفرِّيسيون أيام
المسيح، حتى وفي الأيام الأقدم. وهذا ينطبق على كل وصايا العهد القديم.

لأن
روح البر في الملكوت بالنسبة لعلاقة الإنسان بالله هو محبة الله فوق الجميع (أصحاح
6) وسرِّية العبادة والتقوى في القلب والصلاة في الخفاء والصوم غير المعلن عنه
(1:6
18)، لكي
يجازي الله علانية!! والثقة بوعود الله إلى أقصى حد حتى منتهى التكميل، عوض
العبادة المظهرية المتعمَّدة لكي ينظر الجميع إليه ويُمجِّدوه، وفي المقابل تصديق
الوعد أن الذي يطلب ويعمل ويصلِّي للملكوت فكل أعوازه تأتيه دون سؤال أو هم أو قلق
(19:6
34).

كذلك
في بِرِّ ملكوت السموات بالنسبة لعلاقة الإنسان بالإنسان:
» أن تحب قريبك كنفسك «(1:712) إذ يأتي
معها عدم الانتقاد وعدم الدينونة، وأن تكون الحكمة هي أساس الحكم على الأمور وليست
الأنانية. وأن كل ما يحتاجه الإنسان يناله بالصلاة. ويختمها المسيح بالآية (12)
التي تُعتبر القاعدة الذهبية في السلوك
» فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا
أنتم أيضاً بهم لأن هذا هو الناموس والأنبياء
«

4
– ويختم المسيح مطالب الملكوت بالمطلب الأساسي بدعوة ملحّة للدخول إلى الملكوت (13:7)، ولكن الدخول المضمون يكون من الباب الضيق مع
تحذير من الطريق الكاذب
» ليس
كل
مَنْ يقول لي يا رب يا رب
«بل مَنْ » يفعل إرادة أبي الذي في السموات «(21:7).

وأخيراً
عدم الاكتفاء بسماع الإنجيل بل بالسماع مع العمل، كمَنْ يبني بيته على الصخر.

والعظة تعالج موضوعات أخلاقية لها الأهمية الأساسية لكل عصر
كما يَثْبُت حتى الآن. وقد
انطلقت الآن الكتب تشرح وتوضِّح العظة على
الجبل.

كيفية تركيب العظة:

في
كل عظات المسيح كان يعتني بالجماعة بحسب حاجتهم، فمعروف أنهم لمَّا قَبِلُوه
وصاروا في مكان قفر وأقبل المساء تولَّى إطعامهم تحت الضرورة بمعجزة الخمس خبزات،
وحينما يأتونه بالمرضى ويحيطون به كان يتولَّى شفاءهم ولو إلى اليوم كُله. وحينما
يتقاطرون عليه يريدون أن يسمعوه يكلَّمهم، كان يعظهم بالساعات. وهنا أيضاً نجد
أنهم اجتمعوا مرَّة واحدة:
» جمع من تلاميذه وجمهور كثير من الشعب من جميع اليهودية
وأُورشليم وساحل صور وصيداء الذين جاءوا ليسمعوا ويُشفوا من أمراضهم.
«(لو 17:6)

أو
كما جاءت في إنجيل ق. متى:
» فتبعته جموع كثيرة من الجليل والعشر المدن وأُورشليم
واليهودية ومن عبر الأُردن.
«(مت 25:4)

ويُلاحِظ
القارئ أن منظر الجموع المتراصة انعكس على قلب المسيح فأحس بحاجة الإنسانية إلى
مَنْ يعزيها ويفرِّج عن ضيقها، لذلك بدأ بالتطويبات التي تُشيع في النفس السلام
والراحة والطمأنينة، وترفع عن كاهل المعذبين والمتضايقين همَّهم وضيقهم كما كان
ولا يزال يكون وإلى جيل الأجيال. فالتطويبات إنجيل بحد ذاته، هو زاد الإنسان في
غربته، والذي يعزِّيه حقـًّا أنه عرف “الآن” أنه خارج من قلب الله! أمَّا وقتها
فقد أحسُّوا به أنه حقـًّا من الله دون تعريف.

 

مواطنو
الملكوت

التطويبات
علاقتهم
بالعالم: ملح ونور!!

[3:516]           (لو
20:6
23)

 

كان
السامعون مذهولين من فرط العزاء منذ أول آية، وقد امتلأوا غبطة منذ الطوبى الأُولى
لأنها خرجت من قلب المسيح حاملة بالحق روح العزاء، فلم تكن مجرَّد كلمات بل كمَنْ
يطرح عليهم قوة خفية تملأهم فرحاً وعزاءً وسروراً. لأن الذي جاء إلى المسيح جاء
ليجد ما يعزِّيه عن ضيقته، ولمَّا أحسَّ المسيح بضيقتهم وهبهم قوة عزاء في كلمات
وكأنها دعاء. لم يطلب منهم أن يقدِّموا شيئاً ليرضى عنهم الله، بل ولم يعطهم وصية
حتى إذا أكملوها ينالوا عزاء الله، بل أرسل لهم دعوة عزاء من الله ليقبلوها فقط.
فمَنْ ذا الذي لا يتعزَّى ويمتلئ قلبه سلاماً وفرحاً وسروراً، فإن كان الله يقول:
تعزُّوا واسعدوا، فأمر الله نافذ المفعول. فكما كان المسيح يقول للمفلوج الكسيح:
قم احمل سريرك وامش، قال للمساكين طوباكم فصارت في قلوبهم الطوبى حتماً. والجياع
والعطاش إلى بر الله إن قال لهم: طوبى لكم، فقد صارت لهم كلمة المسيح قوة للشبع
والارتواء من بر الله. لم يكن المسيح يتمنَّى لهم أو يعدهم بالطوبى للشبع
والارتواء، بل منحها لهم بالأمر. كان النبي قديماً يتكلَّم بفم الله ويقول:
» عزُّوا عزُّوا شعبي «(إش 1:40) وما كان الشعب يتعزَّى لأن خطاياهم حجبت دعاء الله عنهم
(إش 2:59). أمَّا الآن فالمتكلِّم يقول الطوبى ودمه أمامه. فلمَّا قال للمفلوج
مغفورة لك خطاياك قام وحمل سريره، فالآن يقول الطوبى يسندها صليبه. يقول الطوبى
للمطرودين من أجل البر وقد دفع ثمن هذه الطوبى حياته!! فكيف لا تسري في عروقنا
ودمائنا.

وهو
لمَّا قال: طوبى للمساكين “بالروح” عرّف المسكنة أنها عوز وحاجة شديدة متوجِّعة
للروح كعوز المسكين بالجسد إلى ما يملأ بطنه ويستر جسده من ثليج الدنيا. هكذا
المسكين بالروح عينه إلى يد الله يملأها التوسُّل وتملأها الدموع، والرجاء لا
يجعلها ترتخي أبداً لأن حياتها في نسمة الروح القدس التي تستنشقها لتحيا وتشبع
وتستدفئ.

ولم
يقل المسيح طوبى لحاجة واحدة، بل لتسع حاجات يعتازها الإنسان فملأ له أعوازه كلها
بالروح للروح. فالمواطن للملكوت طمَّاع هو، ولكن طمعه بقدر سخاء الله وعطاياه،
فمهما أخذ لا يزال عند الله عطاء.

ولكن أن يقولها داود في المزمور أو ينطقها نبي: »
طوبى للذي غُفر إثمه وسترت خطيته «(مز 1:32) فهنا على رجاء
الآتي، أمَّا المسيح فيقولها لأنه دفع الثمن مُسْبَقاً فصارت الطوبى مِلْكاً لمن
يقبلها ويصدق. وهو لا يقولها من فمه وحسب ولكن يقتطعها من دمه ولحمه ويهبها كما
وهب الطعام للجياع في البرية. يقولها ويسندها روحه وحُبـّه وقد سجلتها السماء قبل
أن يسجلها الإنجيل. وقد صار لها في الحال رصيد سماوي نصرف منه كلما احتجنا:
» افرحوا وتهلَّلوا لأن
أجركم عظيم في السموات

«
(12:5)، ورصيدنا من الطوبى
في السماء أكثر دائماً من حاجتنا على الأرض. لأن فم الرب تكلَّم!!

وهذا
هو مواطن الملكوت: محتاج مسكين ومعتاز على الأرض جائع إلى بر الله وعطشان دائماً،
وثروته في السماء لا تعُد ولا تُحصى. والقديس متى واضح في منهجه أن عينه على الروح
والملكوت. فالقديس لوقا يقول:
» طوباكم أيها المساكين «(لو
20:6) وق. متى يقول:
»
طوبى
للمساكين بالروح

«
(مت 3:5) وهكذا وضع ق. متى
عينه على هذه العظة ليقدِّمها لمواطن الملكوت منهجاً مدروساً.

كذلك
فالمسيح في إعطاء الطوبى لا يوزِّعها على أصناف من الناس: مساكين وجياع وعطاش
وحزانى بالروح، ولكن يعطيها لمواطن الملكوت حينما يرتقي إلى حال المسكنة بالروح أو
الجوع أو العطش أو الاضطهاد والطرد من أجل الملكوت، مهما كان حاله في الدنيا من
فقر أو غنى!! فالذي لا ينبغي أن يخطئ فيه القارئ أن عظة الجبل عند ق. متى هي أولاً
وأخيراً لمواطن الملكوت! الإنسان النازح من الأرض نحو الله يطلب وجهه، يجوع ويعطش
إليه، ويبكي ويحزن مع أنه ليس في الأرض كُلِّها ما يحزنه أو يبكيه!! فالعظة لا
تدعو إلى الفقر والحرمان والجوع والحزن والبكاء لاسترضاء الله، حاشا، إنها تكون
رجعة ضد المسيحية والإنجيل الذي يقول:
» افرحوا في الرب كل حين وأقول أيضاً افرحوا «(في 4:4). هنا لا ينبغي أبداً أن نخلط أعمال الأرض بأعمال الروح،
فأعمال الأرض للأرض وأعمال الروح للروح. فالذي يتمسكن بالجسد (بإرادته) من أجل
الجسد لينال نصيباً أوفر ليس له في الدنيا مكان، شحاذ هو ونصَّاب، ومَنْ يبكي
ليستدر عطف الآخر ضعيف هو ومستضعف ونصيبه منهوب. ولكن الذي يتمسكن بالروح من أجل
الروح فله الملكوت، ومَنْ يبكي بالروح من أجل الروح فبالروح يتعزَّى ويد الله
بالنهاية تمتد لتمسح دموعه.

وحينما
أعطى المسيح الطوبى للودعاء والرحماء وأنقياء القلب وصانعي السلام، فهذه هي صفات
مواطن الملكوت. والمسيح مما للمسيح يأخذ ويوزِّع مجَّاناً أنصبة لبني الملكوت. فهو
لا يطالب بأكثر مما يعطي. والمسيحية يتحتِّم أن يتوفَّر فيها هذه كلها لأنها تدعو
إلى الملكوت وتنتهي إليه. فعظة الملكوت هي منهج المسيحية ومفردات الكنيسة.

 

الطوبى الأُولى:

3:5
«طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَواتِ».

«طوبى»: mak£rioi (بالجمع) mak£rioj (بالمفرد)

تحمل
هذه الكلمة في العهد الجديد معنى الفرح الغامر بالروح من جراء اشتراك الإنسان في
بركات الخلاص واستحقاق ملكوت الله. والفعل يطوِّب
makar…zein جاء مرتين فقط في العهد الجديد: المرَّة الأُولى عند
ق. لوقا في نشيد العذراء القديسة مريم:
» هوذا منذ
الآن جميع الأجيال
تطوبني
«(لو 48:1) بمعنى تفرح وتهلِّل من أجلي بسبب الخلاص الذي أكمله الرب فيَّ
وبيَّ.
والمرَّة
الثانية في رسالة يعقوب:
» ها نحن نطوِّب makar…zein الصابرين «(يع 11:5) ولو أنها
هنا في وضعها القديم الذي لا يفي بفرح الخلاص.

كما
جاءت كلمة
makarismÒj كاسم ثلاث مرَّات في العهد الجديد مثلما جاءت
في (غل 15:4) لتعني تقبّل رسالة الخلاص:
» فماذا كان إذاً تطويبكم makarismÒj لأني أشهد لكم أنه لو أمكن لقلعتم عيونكم وأعطيتموني
«
(انظر
أيضاً رو 4: 6و9).

وكلمة طوبى تأتي بكثرة في العهد الجديد (حوالي 50 مرَّة)، »
طوبى لعيونكم لأنها تبصر «(مت 16:13)، وهكذا يسرح الفكر اليهودي
ليُلبس أعضاء الإنسان الطوبى، بمعنى حصولها على حياة بعد موت، وهي تأتي في العهد
الجديد كما في إنجيل ق. متى ذات دفع عاطفي شديد لأنها تبشِّر بمواطنة الملكوت،
الأمر الذي تنتهي عنده غاية الخلاص والعهد الجديد برمّته
([3]).

والرجل الطوباوي هو الرجل المنعم عليه، ليس عن استحقاق بل هو
السعيد بالنعمة، ولها كلمة مماثلة
eÙloghtÒj وهو الممدوح أو المبارك ولكن لا تحمل معنى السعيد ولم تأتِ
في إنجيل ق. متى. ومكاريوس أو الطوبى لا تفيد فقط حالة داخلية، بل تفيد حالة عامة
خاصة في عين الله وحُكمه. والطوبى حالة مستقبلية ولكن لا تختص بالزمن، فالفعل في
المستقبل في الأمور الروحية يفيد التأكيد فقط. والمعنى أن المساكين بالروح تكون
لهم في المستقبل الطوبى بمعنى تأكيد عطية ملكوت الله للدرجة أنهم يحسبون من الآن
سعداء.

وفي
التطويبات الثمانية المتراصة بحكمة وإبداع تأتي الأسباب في السعادة في النصف
الثاني من الآية:
»
لأن
لهم ملكوت السموات

«
»
لأنهم
يتعزون
« »
لأنهم
يعاينون الله
«… وهكذا. وهي الهدايا والعطايا التي تسبب السعادة، والهدايا
والعطايا مجانية وغير منتظرة لأنها عن غير استحقاق بل عن رحمة وحب من قبل الله.

«المساكين بالروح»: ptwcoˆ tù pneÚmati

المسكين
هنا قد تترجم الفقير، ولكن ليس بمفهوم الذي يجاهد ليطعم نفسه، بل الذي ليس له من
يعينه وهو يعرف ذلك في نفسه ولكن بالروح، بمعنى أنه يشعر بفقره الروحي وأنه مقتنع
بذلك في نفسه، لا بمعنى أنه فقير في الروحيات، فهذا نقص معيب، ولكن فقير بالروح
للروح، أي في أشد الاحتياج والعوز للروح، لأنه لا سند له ولا معين ولا أمل في
معونة إلاَّ في الروح. فهو لا ينظر إلى الناس أو إلى العالم ليرد عنه فقره بل إلى
الروح وحده. وهذا العوز الشديد للروح باقتناع ذاتي هو الذي يجعل الروح منجذباً
إليه وبالتالي يجعل الملكوت منفتحاً عليه. فالولد الرضيع حينما يشعر بالجوع القاسي
ويصرخ مستغيثاً بأمه تنجذب أُمه إليه مهما كانت الموانع. هكذا شعور الإنسان بالفقر
والعوز الشديد وبانسكاب الدموع يجعل الروح منجذباً إليه وبالتالي ينفتح له
الملكوت. لأن حاجتنا الشديدة الصادقة للملكوت تجعل الملكوت لنا، ولكن عن طريق
الروح. فالمسكنة بالروح أول خطوة نحو الملكوت. وقوله:
» لهم الملكوت «لا تعني أنهم أكملوا نصيبهم ولكن تعني أنهم
فازوا “بحق” امتلاك الملكوت، وهذا من جهة موازين الإنجيل والله يُحسب عدلاً منتهى
العدل، لأن فقرهم الروحي وعوزهم الشديد الدائم للروح فقط يعني بغضتهم للعالم
وإهمال كل غناه المادي والمعنوي والاجتماعي، بهذا يصبح الملكوت حقـًّا لهم:
» ليسوا من العالم كما
أني أنا لست من العالم

«
(يو 16:17). فالذي يعتاز
للروح عوزاً شديداً ويطلبه ليل نهار بدموع هذا يكون كمن التصق بالروح، ومَنْ يستطيع أن ينزعه منه؟ ولكن قوله
»
لأن لهم aÙtîn ملكوت السموات «أي
يصبح

لهم الحق في امتلاك الملكوت! هذا الحق نصيب
ثابت يغنيهم عن الدنيا ويزيدهم فقراً إلى الروح. ولكن هي
ملكية متبادلة، فالذي للملكوت فالملكوت له، أي بقدر ما
يكون للمسكين بالروح الحق في الملكوت يكون الملكوت له بالحق:
»
روحك القدوس لا تنزعه مني «(مز 11:51)، » اثبتوا فيَّ وأنا فيكم. «(يو 4:15)

 

الطوبى الثانية:

4:5
«طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ».

وهي تمتُّ للطوبى الأُولى » طوبى للمساكين بالروح «لأن
في المسكنة معاناة وللمعاناة دموع محمودة.

«طوبى للحزانى»: mak£rioi oƒ penqoàntej

وتأتي
هنا بمعنى النائحين، والنواح قرين المسكنة بالروح. والعزاء والسعادة لهم قادمة في
الملكوت:
» ويمسح الله
كل دمعة من عيونهم

«
(رؤ 17:7). والنواح أو
الحزن هنا يختلف عن حزن العالم، فالحزن هنا ليس على شيء من الدنيا مفقود، بل على
شيء عند الله مطلوب. فالإنسان الذي يتطلَّع إلى حاله وإلى ما تشتهي نفسه نواله من
عند الرب يشعر بالعجز الذي يستدر منه الدموع. فالباكي الآن يبكي غربته على أرض
الشقاء ويتطلَّع إلى النصيب السماوي ولا يسد هذا العجز والقصور إلاَّ سح الدموع.
فالحزن والبكاء هنا علامة الغربة، والإحساس بالغربة هنا شهادة لياقة للملكوت. لذلك
قال طوبى للحزانى لأنهم يتعزَّون. ولا يعزِّي الإنسان عن غربته في الأرض إلاَّ
الملكوت. ولكن هناك فرقاً بين حزن الإنسان على الأمور المفقودة وحزنه على الأمور
المطلوبة، فالحزن الأول يُمرض النفس ويجلب الكآبة واليأس، أمَّا الحزن على مطالب القلب
لدى الله ففيه فرح الرجاء من خلف الدموع، وهو حزن يدسِّم النفس.

والفرق
هنا بين الطوبى عند ق. لوقا والطوبى عند ق. متى أن الأُولى هي من واقع الحال يخاطب
بها تلاميذه، والثانية ما يجب أن يكونوا عليه، لكافة الجموع حتى يليقوا بالملكوت.

وتعزية
الحزانى أو ذارفي الدموع من أجل الله هو عمل مسيَّاني:
» روح السيد الرب عليَّ لأن الرب مسحني لأُبشِّر
المساكين … لأعزِّي كل النائحين، لأجعل لنائحي صهيون لأعطيهم جمالاً عوضاً عن
الرماد، ودهن فرح عوضاً عن النوح ورداء تسبيح عوضاً عن الروح اليائسة.
فيُدعون
أشجار البر وغرس الرب للتمجيد
«(إش 61: 13)، هي
وظيفة المسيح الأُولى التي جاء ليكمِّلها. فبعد أن قرأ المسيح سفر إشعياء في هذا
الموضع طوى السفر وجلس وقال لهم: «اليوم قد تمَّ هذا المكتوب في مسامعكم»
(لو 21:4). فمجيء المسيح بحد ذاته كان ضميناً لعزاء النائحين ووعداً أكيداً للفرح
الذي لن ينزعه أحد منَّا!!
» فأنتم كذلك عندكم الآن حزنٌ، ولكني سأراكم أيضاً فتفرح
قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم
«(يو 22:16). فكل
إطلالة للرب من السماء على القلوب النائحة هو عزاء ما بعده عزاء.

 

الطوبى الثالثة:

5:5
«طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ».

«الودعاء»: oƒ prae‹j

وتشمل
معنى اللطف وهي قريبة من المساكين بالروح. وهي صدى مزمور:
» أمَّا الودعاء فيرثون الأرض ويتلَّذذون في كثرة
السلامة.
«(مز 11:37)

ويتمادى
المزمور في إعطاء المماثل للودعاء في ميراث الأرض:
» لأن المبارَكين منه يرثون الأرض «(22)، » والصدِّيقون يرثون الأرض «(29) و» انتظر
الرب واحفظ طريقه فيرفعك لترث الأرض
«
(34).

الأرض
هنا ليست أرض الدنيا بل أرض الميعاد الجديدة،
» الأرض البهية «
فالوداعة صفة للمجتمع، والوديع مع الناس وبين الناس له سلام مع الجميع. وهكذا يرث
نصيبه في يقين لا يتزعزع. وهنا الفكر متجه نحو الميعاد أو الوعد، فهو يهدف إلى
النقلة من أرض الميعاد المنظور إلى أرض الوعد غير المنظور في السماء الجديدة
والأرض الجديدة حيث يسكن البر. فالوديع إن كان له نصيب أكيد في الحاضر الزمني
فنصيبه محفوظ بالأكثر في الآتي، لأن الذي يغلب هنا له تكميل الوعد هناك، لأن ميراث
الأرض هنا بالنسبة لنا لا قيمة روحية له على الإطلاق، لأن الكلام في المزمور لبني
إسرائيل والأرض أرض الميعاد وقد انتزعت منهم. فأصبح الأمل الوحيد في أرض لا تنزع
منَّا، أرض الله التي هي السماء بعينها. فحديث المسيح هنا في العظة على الجبل
محصور في ملكوت الله، وكل ما ليس هو الملكوت لا يشغل بال المسيح ولا يَشغلنا. فحلم
الإنسان هو في أرض السعادة الأبدية التي تجمع مختاري الله في حياة تسودها الوداعة
الروحية، التي يراها “الوديع والمتواضع القلب”:

+
» تعلَّموا
مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم.
«(مت
29:11)

 

الطوبى الرابعة:

6:5
«طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ».

الجوع
والعطش إلى البر
dikaiosÚnh
، حيث البر هو بر المسيح في العهد الجديد وليس بر الناموس، وبر المسيح يُمنح بعطاء
المسيح لذاته، فهو طعام العهد الجديد وشرابه:
» فمن يأكلني فهو يحيا بي «(يو
57:6)،
» مَنْ آمن بي
كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي
«(يو
38:7) بمعنى أنه لا يُروَى وحسب بل يصير مصدر إرواء.

+
» عطشت نفسي
إلى الله إلى الإله الحي … كما يشتاق الإيّل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي
إليك يا الله … متى أجيء وأتراءى قدَّام الله. صارت لي دموعي خبزاً نهاراً
وليلاً … لماذا أنتِ منحنية يا نفسي ولماذا تئنين فيَّ …
«(مز
42: 1
5)

+ » يا
الله إلهي أنت. إليك أُبكِّر. عطشت إليك نفسي. يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة
ويابسة بلا
ماء.
«(مز 1:63)

هذا
هو الإنسان بالنسبة لله، وهذه هي حال النفس بالنسبة للمسيح الإله الحي!

أمَّا
رد المسيح على الإنسان الجائع العاطش إلى الله فهو تقديم نفسه له مجَّاناً، ليأكل
الإنسان ويشرب ولا يعود جائعاً أو عطشاناً.

+
» أنا هو خبز
الحياة … فمَنْ يأكلني فهو يحيا بي.
«(يو 6: 48و57)

+
“أنا هو الماء الحي” …
» إن عطش أحد فليقبل إليَّ ويشرب. «(يو
37:7)

+
» أنا هو خبز
الحياة مَنْ يُقبل إليَّ فلا يجوع ومَنْ يؤمن بي فلا يعطش أبداً.
«(يو 35:6)

+
» مَنْ يأكل
جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه!
«(يو 56:6)

+
» من أجل ذلك
هم أمام عرش الله ويخدمونه نهاراً وليلاً في هيكله، والجالس على العرش يحل فوقهم،
لن يجوعوا بعد ولن يعطشوا بعد ولا تقع عليهم الشمس ولا شيء من الحر. لأن الخروف
الذي في وسط العرش يرعاهم ويقتادهم إلى ينابيع ماء حيّة ويمسح الله كل دمعة من
عيونهم.
«(رؤ 7: 1517)

«الجياع والعطاش إلى البر»:

هي
مهنة ووظيفة يلتحق بها طالبو وجه الله بالدموع، وهذا هو الجوع الحقيقي والعطش
الصادق لا إلى خبز ولا إلى ماء، بل إلى وجه الله: هذا حنين المخلوق لوجه الخالق،
وهو حق وواجب، فالصورة تنزع إلى أصلها ولا ترتاح أبداً إلاَّ فيه:
» فخلق الله الإنسان على
صورته. على صورة الله خلقه، ذكراً وأُنثى خلقهم
«(تك
27:1)، فحقَّ للإنسان أن يجوع إلى الله ويعطش! وحقَّ للمسيح أن يكون هو خبزنا
وماءنا:
» هذا هو
الخبز النازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت
«(يو
50:6). وطوبى لمن يجوع إلى خالقه ويعطش إليه! فهو حتماً ولا بد أن يُشبَع ويُروَى
وكأن الجوع والعطش إلى الله والمسيح هي الصلة الوحيدة التي تربطنا به، لأنها
الوسيلة الوحيدة أن نأخذ منه بل نأخذه!!
» فمَنْ يأكلني فهو يحيا بي «(يو
57:6)،
» يأكل
الودعاء ويشبعون

«
(مز 26:22)، » مَنْ أكلني عاد إليَّ
جائعاً، ومَنْ شربني عاد ظامئاً
«(سيراخ 29:24).
إنها صناعة من أقدس الصناعات التي تعلَّمها الإنسان وأتقن فنّها، وأكل وشرب وشبع
وارتوى!! بل هي أعظم الاكتشافات التي اكتشفها الإنسان في خالقه، وأقدس ما
استَعْلَن الله لنا من طبيعته، أليس هذا يُذهل العقل أن الله يُؤكل ويُشرب، حقـًّا
إن هذا لعجبٌ، ولكن لم يبق لنا إلاَّ أن نصدِّقه ونذهب كل يوم نجوع إليه ونعطش،
فهي وسيلة المستضعفين لابتزاز الخالد الأزلي!!

 

الطوبى الخامسة:

7:5
«طُوبَى لِلْرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ».

«طوبى للرحماء»: mak£rioi oƒ ™le»monej

الرحمة
هي من صفات الله، وربما يكون الله هو الرحيم الوحيد الأول والأكبر. وكل رحمة بعد
ذلك إنما تأتي منسوبة إليه أو منعكسة من رحمته. فالإنسان يحاكي الله حينما يرحم
إنساناً آخر، أو هو يستمد من الله الرحمة. والله الراحم أو الرحيم لأن طبيعته
الرحمة، فهي صفة ذاتية، فلأنه هو الخالق أخذ على نفسه هذه المسئولية أن يرحم عمل
يديه، فالرحمة عمل تكميلي للخلق، وبدون رحمة الله للإنسان فالإنسان لا يعيش:
» وفيما يسوع مجتاز من
هناك تبعه أعميان يصرخان ويقولان ارحمنا يا ابن داود
«(مت
27:9). فإذا أمر الله الإنسان أن يكون رحيماً على الآخرين فذلك عمل تكميلي لعمل
الله يرتاح الله له ويشجِّعه ويزكِّيه. فإذا لم يكن الإنسان رحيماً فهو يفقد تزكية
الله له، فيقع بعيداً عن رحمة الله وتنقطع عنه الرحمة، لأنه أصلاً لا يرحم من نفسه
ولكنه يستمد الرحمة من الله عليه، فالرحمة عند الإنسان فائض عمل الله. فإذا قطع
الإنسان رحمته عن الآخرين انقطعت عنه الرحمة الآتية أو الفائضة عليه من الله
تلقائياً. أمَّا الذي يرحم الآخرين فهو يستدر رحمة الله عليه بلا جهد أو ثمن.

هنا
الطوبى أو السعادة المجانية الممنوحة من الله لمن يرحم هي تحصيل حاصل. فكما يرحم
الإنسان الآخرين فيسعدهم هكذا يُرحم من الله فيُسعَد. فلو علمنا أن طبيعة الرحمة
عند الله هي من صميم عمل الملكوت، يكون الذي يرحم يساعد في تأسيس ملكوت الله على
الأرض، والنتيجة أنه يزكِّي نفسه ليكون من مؤسسيه لأن فيض رحمة الله عليه بالتالي
تزكيه بالضرورة أن يشترك فيما يخدمه. وبهذا تصبح هذه الطوبى أحب التطويبات عند
الله والمسيح لأنها من صميم عمله وطبيعته!!

وهذه
الطوبى لها صلة مباشرة بمغفرة خطايا الآخرين:
» واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين
إلينا
«(مت 12:6). وهنا ينطبق قانون الرحمة على قانون مغفرة الخطايا. مَنْ
يرحم يُرحم، فمن يغفر يُغفر له:
» فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضاً أبوكم السماوي. «(مت 14:6)

وتأتي
وصية المسيح عن الرحمة لتكشف مستواها فوق أعمال الناموس وذبائحه:
» فاذهبوا وتعلَّموا ما هو إني أريد رحمة لا ذبيحة.
لأني لم آتِ لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة
«(مت 13:9). هنا ينكشف عمل
الفداء والخلاص كله أنه عمل رحمة!! وبالتالي فكل مَنْ يرحم يخدم الخلاص!!

والمسيح
سيقدِّم لنا في الأصحاح (18) مثلاً يشرح فيه مستوى عمل رحمته لنا ويربطه بعمل
رحمتنا للآخرين، حينما أعطى مَثَل السيد الملك كيف تحنَّن على عبد له وترك له
الدين الذي كان عليه، وكان يساوي بحساباتنا ستمائة مليون جنيه، لأنها عشرة آلاف
وزنة (10.000) والوزنة تساوي 6000 دينار، والدينار أجر عامل يوماً واحداً، فالمبلغ
كله شيء مهول خاصة في تلك الأيام. وإذا بذلك العبد يرفض أن يتمهَّل على عبد رفيقه
مديون له بمئة دينار حتى يوفيه الجميع، وقام بإلقائه في السجن، فلمَّا سمع السيد
الملك ذلك صمَّم أن يطالب ذلك العبد القاسي بكل الدين الذي كان عليه:
» أفما كان ينبغي أنك أنت
أيضاً ترحم العبد رفيقك كما رحمتك أنا؟
وغضب سيده وسلَّمه إلى
المعذبين حتى يوفي كل ما له عليه. فهكذا أبي السماوي يفعل بكم إن لم تتركوا من
قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته.
«(مت 18: 3335)

 

الطوبى السادسة:

8:5
«طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ».

هنا
المزمور المطابق هو المزمور (24):
» مَنْ يصعد إلى جبل الرب ومَنْ يقوم في موضع قدسه: الطاهر
اليدين والنقي القلب الذي لم يحمل نفسه إلى الباطل ولا حلف كذباً.
«(مز 24: 3و4)

«أنقياء القلب»: oƒ kaqaro… tÍ
kard…v

الكلمة اليونانية تفيد الطهارة والنقاوة: »
قلباً نقياً اخلق فيَّ يا الله وروحاً مستقيماً جدِّد في
داخلي
«(مز
10:51). في الحقيقة إذا بدأنا بالقلب لندرك النقاوة فالأوصاف والوسائل متشعبة،
ولكن لو بدأنا بالجزاء المحفوظ له
» لأنهم
يعاينون الله
«نستطيع أن نحدِّد أكثر
نوعية القلب ونقاوته
وما يُقصد به. فمعاينة الله تطلب رضى القدير أولاً وحيازة
ثقته بعد اختبارات وفحوصات وتفتيش:
» وجدت داود بن يسَّى رجلاً حسب قلبي الذي سيصنع كل مشيئتي «(أع 22:13)، » فاحص القلوب والكُلَى
الله البار
«(مز 9:7)، » وأنت
يا رب عرفتني رأيتني واختبرت قلبي من جهتك
«(إر 3:12). هذه الآيات تكشف أن عملية فحص القلب
واختباره لمعرفة لياقته ليفوز برضى القدير وثقته ليدخل إلى حضرة الله
» ويعاين الله «أمر لا يدخل في إمكانية الإنسان ولا قدراته، لأن معاينة الله
أمر فائق على كل إمكانيات وقدرات
الإنسان وقلبه:
»
لأن
الإنسان لا يراني ويعيش.

«
(خر 20:33)

ولكن
بقول الرب أن أنقياء القلب يعاينون الله يكون قد أعطى الله استثناءه على أساس أنه
هو الذي يخلقه في الإنسان:
» قلباً نقياً اخلق فيَّ يا الله «
وصفة نقاوة القلب تكون حينما يستطيع أن يرى
اللهُ صورتَه واضحة في قلب الإنسان، حينئذ يستطيع الإنسان وبقلبه النقي أن يعاين
الله
بالمقابل.

وبولس
الرسول أعطانا كيف نحصل على صورة الله في القلب:
» ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف، كما في
مرآة، نتغيَّر إلى تلك الصورة عينها، من مجد إلى مجد، كما من الرب الروح.
«(2كو 18:3)

وهنا
أعطانا بولس الرسول بحسب اختباره أنه بكثرة التطلُّع إلى وجه الرب
بدون برقع
موسى أي بدون مجد الناموس
بل بالإنجيل كما في
مرآة نتغيَّر إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد بقوة عمل مجد المسيح وروحه.
والقديس يوحنا الرسول يؤكِّد أننا سنبلغ إلى كمال هذه الحالة هناك والتي نمارسها
هنا جزئياً:
» أيها
الأحباء الآن نحن أولاد الله ولم يُظهر بعد ماذا سنكون ولكن نعلم أنه إذا أُظهر
نكون مثله لأننا سنراه كما هو
«(1يو 2:3). إذن،
نقاوة القلب كانت في العهد القديم تُترجَّى، وفي المسيح تمارس، وعند ظهور المسيح
تبلغ أوجها. وهي تمارس بتوجيه القلب إلى شخص يسوع المسيح لنستمد من قلبه وداعته
وتواضعه ونقاوته حتى تنجلي مرآة قلوبنا ويتجلَّى المسيح فينا. وبالنهاية فالمسيح
وحده الذي يخلق فينا نقاوة القلب إن سلَّمنا أنفسنا له وتبعناه من كل القلب فهو
نفسه الذي يتجلَّى في قلوبنا لنراه:
» لأنه (بالإيمان) تشدَّد كأنه يرى من لا يُرَى «(عب 27:11)، والمحبة تصنع هذا: » والذي يحبني يحبّه أبي وأنا أحبه وأُظهر له
ذاتي.
«(يو 21:14)

من
هذا نفهم أن الطوبى السادسة أعلى التطويبات جميعاً وتقوم على ثلاث خبرات: خبرة
المحبة الفائقة، وخبرة التصاق قلبي إيماني
بالمسيح
» وأمَّا مَنِ التصق بالرب
فهو روح واحد
«(1كو 17:6)، وخبرة إدراك بساطة الله: » أما رأيت يسوع المسيح ربنا. «(1كو 1:9)!

ولكن
بالنهاية هي خبرة جماعية لمن أحبوا الرب ووفُّوا أمانة تلمذته:
» أيها الآب أريد أن
هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي الذي أعطيتني لأنك
أحببتني قبل إنشاء العالم.
«(يو 24:17)

 

الطوبى السابعة:

9:5
«طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ».

لقد
طرح الله السلام على الأرض يوم وُلد المسيح في بيت لحم اليهودية:
» وظهر بغتة مع الملاك
جمهور من الجند السماوي مسبِّحين الله وقائلين المجد لله في الأعالي وعلى الأرض
السلام وبالناس المسرَّة

«
(لو 2: 13و14). فكان
المسيح رئيس السلام حقـًّا:
» لأنه يولد لنا ولد ونُعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه
ويُدعى اسمه عجيباً مشيراً إلها قديراً أباً أبدياً رئيس السلام
«(إش 6:9)، ويقول ق. بولس ويؤكِّدها: » لأنه هو سلامنا … «(أف
14:2). وأول عمل استلمه تلاميذ الرب ليكرزوا به وعلى أساسه هو السلام:
» الكلمة التي أرسلها إلى
بني إسرائيل يبشِّر بالسلام بيسوع المسيح
«(أع
36:10). وكوصية خاصة ينقلها التلاميذ لكل نفس وكل بيت كمدخل للكرازة بالمسيح
والملكوت:
» وحين تدخلون
البيت سلِّموا عليه فإن كان البيت مستحقاً فليأت سلامكم عليه، ولكن إن لم يكن
مستحقاً فليرجع سلامكم إليكم
«(مت 10: 12و13)، » فإن كان هناك ابن
السلام يحل سلامكم عليه وإلاَّ فيرجع إليكم.
«(لو
6:10)

واضح
أن وظيفة المسيح الأساسية هي تأسيس سلام دائم بين الله والإنسان، فهي الرسالة
العزيزة جداً على العالم. فالسلام في العالم لا يوجد إلاَّ مع أبناء السلام الذين
سكن السلام في قلوبهم، وقاموا يبشِّرون به أولاً بين الإنسان وأخيه الإنسان على
أساس سلام الله الذي يحل على الجميع من الله. ولكن سلام الله يُقاوَم وأبناء
السلام يُضطهدون ويُطردون. لذلك سبق المسيح ووعد تلاميذه أنه إن قُبل سلامكم يحل
على مَنْ يقبله، وإن رُفض فهو يعود ويُضاف إلى سلام قلوبكم حتى لا تضطربوا. لذلك
حرص المسيح أيضاً أن تأتي الطوبى الثامنة للذين يُطردون ويُضطهدون ويُعيَّرون في
سبيل تأسيس سلام الله في القلوب. لأن صانع السلام لابد أن يكسب من مهنته، فإذا
قُوبِل سلامه بالرفض ارتد إليه وزاد رصيده من السلام ومن الطوبى.

على
أن صناعة السلام تحتاج إلى رصيد عالٍ جداً من المحبة والصبر والبذل لتطويع القلوب
القاسية للخضوع إلى بساطة سلام الله الذي يفوق العقل، وكأن الذي يُطلب منه أن يكرز
بالسلام عليه أن يصير كالله، هذا حق. لذلك فإن المسيح أعطى لصانعي السلام هبة وقوة
ولياقة أن يصيروا
»
أبناء
الله يُدعون
« بمعنى حصولهم حتماً على روح الله الذي يخلق لهم أجواء السلام
ويغذِّيها ويجنِّد جنوداً للسلام لحساب الله في وسط أسواق الشر والعداوة والبغضة.

وصانعو
السلام يطفئون الحرائق بالدعاء، ولهيب النار يُخمد بكلمة
» صوت الرب يُطفئ لهيب النار «(مز
7:29 حسب السبعينية)، وصانعو السلام يأخذون وظيفة المسيح وروحه لذلك يُدعون أبناء
الله، لا كمجرّد لقب بل حبًّا من الله وقُربى.

 

الطوبى الثامنة:

10:5
«طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ
السَّمَواتِ».

«البر»:
dikaiosÚnh

هو
بر المسيح والله. هو التبرير الحاصل من الإيمان بصليبه وموته وقيامته. وهو في
صورته عند الجاهل جهالة. فنحن إذ نسعى ونشهد لبر المسيح نبدو في أعين العالم جهلاء
يحلُّ اضطهادهم، ومروِّجي خرافات وتجاديف، فالله لا يموت لذلك يحل دمهم. فالذي
يؤمن بالمسيح ويكرز بصليبه ليس له في عالم الظلمة مكان، فهو يُطارَد لأنه يُسيء
إلى رئيس هذا العالم ويعكِّر مزاج أولاده:
» وجدنا هذا يُفسد الأُمة … لو لم يكن فاعل شر
لما كنا قد سلَّمناه إليك … إن أطلقت هذا فلست محباً لقيصر.
«(لو 2:23، يو 30:18، يو 12:19)

إن
أصعب الاضطهادات التي عانى منها المسيحيون أتت بسبب الغيرة والحسد والحقد على
الساعين في أثر بر المسيح، لأنه أصبح لهم شكل وسِمَة وسلوك ولغة وأسماء تكشف عن
البر الذي فيهم، والعالم يقبل كل مَنْ يسايره في الاستهانة بأمور الله ويسير في
طرق الشر والخطية طالما تكون في الخفاء. ولكن أن يُعلن إنسان عن الحق والأمانة
والشرف والقداسة يُعزل فوراً ويُضطهد، إن لم تُدبَّر له مكيدة ويُقتل أو يُطرد.
العالم لا يطيق بر المسيح ولا يحتمل المناداة به:
» إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم «(يو 20:15). ولكن كما أن اضطهاد المسيح وقتله أنشأ في الحال موتاً
لخلاص وبالخلاص وُضع أساس الملكوت، هكذا كل مَنْ يُضطهد بسبب بر المسيح، أي
الإيمان بموت الفداء والخلاص فإنه يُحسب مؤسِّساً في ملكوت المسيح:

+
» وتكونون
مُبغضين من الجميع من أجل اسمي، ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص.
«(مت 22:10)

+
» وحينئذ
يسلِّمونكم إلى ضيق ويقتلونكم. وتكونون مبغضين من جميع الأُمم لأجل اسمي.
«(مت 9:24)

+
» لو كنتم من
العالم لكان العالم يحب خاصته ولكن لأنكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم
لذلك يبغضكم العالم.

«
(يو 19:15)

+
» لا
تتعجَّبوا يا إخوتي إن كان العالم يبغضكم.
«(1يو
13:3)

هذا
هو رصيد العالم في معاملة الذين يعيشون ببر المسيح ويشهدون له، ويقابله رصيد الله
في الملكوت المعد!

فالذي
يُضطهد من أجل البر
وليس لنا بر إلاَّ بر
المسيح وملكوته
فحتماً ينال نصيبه في هذا الملكوت. لأن الذي
يُضطهد من أجل البر يبرهن دون كلام أنه يطلب البر، وهو يدفع ضريبة هذا الطلب فيكون
قد استحق أن يناله.

11:5و12
«طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ
كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِي، كَاذِبِينَ. افْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ
أَجْرَكُمْ عَظِيمُ فِي السَّمَواتِ، فَإِنَّهُمْ هكَذَا طَرَدُوا الأَنْبِيَاءَ
الَّذِينَ قَبْلَكُمْ».

على
القارئ أن يلاحظ أنه من بدء هذه الآية تغيَّر الكلام من توجيهه للغائب إلى توجيهه
للمخاطَب الحاضر ويستمر كذلك حتى نهاية العظة تقريباً.

وفي
هاتين الآيتين إنما يكمِّل المسيح ما قاله في الطوبى الثامنة (10)، وهنا يُضيف إلى
القول أن طوبى للمطرودين من أجل البر إضافة أكثر حيوية تلوِّن الحياة الحاضرة
بمقتضى ما سيتم في الملكوت. فهو يعطي أمراً أن افرحوا وتهلَّلوا الآن، فليست
السعادة من نصيبكم فوق فقط بل والآن يلزم أن تتحققوها في حاضركم. فافرحوا
وتهلَّلوا
ca…rete
kaˆ ¢galli©sqe
من الآن لأن
هذا جزء لا يتجزَّأ من نصيبكم في الملكوت. والمسيح حينما يقول
افرحوا
وتهلَّلوا
([4]) لا ينبهنا
إلى ما هو حق لنا بل يهبه هبة. فأمر المسيح يسنده تنفيذ فوري كأنه يسلِّمنا هدية
ملفوفة نفتحها فنجدها
«فرح وتهليل» كحكم واقع كامل
التنفيذ. والإنسان الصادق في عبادته وعلاقته الشخصية بالمسيح حينما يُضطهد ويُشتم
ويُلفِّقون له الكلام البذيء، يشعر في الحال أنه قد تأهَّل لبركات الصليب وشركة
آلام المسيح، وينعكس عليه هذا الشعور فإذ هو غبطة وسعادة حقيقية تميِّزه أنه إنسان
مسيحي حقـًّا، لا يشتكي ولا يتذمَّر ولا يحاول أن يدافع عن نفسه أو يستكثر
الإهانة، بل يصمت ويتعجَّب، وفي هدوء النعمة تجيئه الفرحة والتهليل. أمَّا الأجر
العظيم فهو المقابل السماوي لعقوبات العالم الظالم.

قال
لي إنسان صديق لي إن الإنسان المسيحي يُعرف من أمرين: الأول: أنه لا يوجد له أي
عدو على الأرض، والثاني: أن يُوْجَد دائماً فَرِحَاً ولا شيء يستطيع أن يوقف فرح
الله في قلبه:
» نُشتم
فنبارِك، نُضطهد فنحتمل، يُفترى علينا فنعظ.
«(1كو
4: 12و13)

فلو
علمنا كما يقول المسيح أن الأنبياء عوملوا بأسوأ المعاملة وماتوا ميتات شنيعة:
فإشعياء مثلاً نشروه نصفين بمنشار الخشب:
» رُجموا (زكريا بن يهوياداع) نُشروا جُرِّبوا
ماتوا قتلاً بالسيف (المعمدان) طافوا في جلود غنم وجلود معزى (إيليا) معتازين
مكروبين مُذلِّين

«
(عب 37:11)، وإرميا بعد أن
عذبوه رجموه بالحجارة حتى الموت بعد أن حملوه عنوة وأنزلوه إلى مصر معهم([5]).
لو علمنا هذا ندرك أن الإنسان إنما يُضطهد بسبب نعمة الله التي لا يطيقها مَنْ لا
نعمة لهم:
» لأنه
(بيلاطس) عرف أن رؤساء الكهنة كانوا قد أسلموه حسداً!!
«(مر
10:15)، وكأنما
حينما يسقينا المسيح كأس دمه، تحل علينا أسباب سفك دمه!

«عيَّروكم»: Ñneid…swsin
Øm©j

وتعني
جميع الصفات الرديئة وقلب الحقائق كقولهم للمسيح:
» ألسنا نقول حسناً إنك سامري وبك شيطان «(يو 48:8)، » أليس هذا ابن النجار. أليست أُمه تُدعى مريم «(مت 55:13)، » يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلِّص نفسك … خلَّص
آخرين وأمَّا نفسه فما يقدر أن يخلِّصها … أيضاً كان اللصان اللذان صُلبا معه
يعيِّرانه
«(مت 27: 4044)، فالمعيرة هنا بسبب
اتِّباعنا المسيح وخدمته وإيماننا بصليبه وموته.

 

أنتم ملح الأرض، أنتم
نور العالم:
                 (مر 50:9، لو 14: 34و35)

 

في
التطويبات الثمانية أعطى المسيح مواطني الملكوت السعادة المنتظرة في السماء،
وأكملها في التطويبتين الأخيرتين بالفرح والابتهاج الشديدين بالأجر العظيم المحفوظ
لهم في السموات، إلاَّ أنَّهما يُظْهِران بآن واحد مدى الظلم والآلام الواقع عليهم
من أهل العالم بسبب صورتهم الساعية نحو البر كمؤمنين
بالرب يسوع المسيح. عاد هنا بعد ذلك يصف تأثيرهم على سكان الأرض بصفتهم

مواطنين لملكوت السموات بمعنى التأثير المقابل
في الذين يضطهدونهم. فالملح والنور يواجهان ميوعة أنصاف
المتدينين ليردوهم إلى العبادة الحارة، والبعيدين عن
الدين والله يبعثون فيهم شعاع المعرفة الجديدة التي
تقودهم إلى النور
الحقيقي والعبادة بالروح والحق. فبالرغم من أن مواطني الملكوت يكونون محتقرين
وموضع سخرية وإيذاء، إلاَّ أنهم ضرورة لسكان الأرض المستهزئين والساخطين على الحق
وأولاد الحق
لكي يردُّوا عنهم غضب الله ويشفوهم من عمى
جهالتهم. فهُم ألزم إلى الأرض لزوم الملح للطعام
القابل للفساد، والنور للذين يتحسَّسون الحق كالأعمى الذي يتحسَّس الطريق بلمس
الحائط.

وهنا
من (13
16) يعطي
المسيح صورة للفرق الشديد بين المواطن الملكوتي ومواطني الأرض والعالم، ولكن وفي
نفس الوقت ضرورتهم ولزومهم الشديد لأهل العالم بالاتصال الدائم والتعامل معهم
كاتصال الملح بالطعام والنور للبيت!! وهكذا من طرف آخر يوعز إلى التلاميذ بأهمية
بقائهم في العالم:
»
إن
فسد الملح فبماذا يُملَّح
«وضرورة اختلاطهم بهم دون تعالٍ أو انعزال: » ليسوا من العالم كما
أني أنا لست من العالم. لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير
«(يو 17: 14و15). كذلك يحذِّرهم من خطر التلوُّن بالعالم واهتمامات
أهل العالم والتمادي في الخلطة والانسجام مع أفكار ومبادئ أهل العالم خوفاً من
تحوُّلهم من ملوحة جيدة إلى ميوعة وفوضى، ومن نور إلى ظلمة. فالملح يبقى ملحاً
حافظاً على قدرته على التمليح طالما لم يفقد طبيعته في التأثير، ولكن إذا فسد
الملح لا يعود يصلح لشيء. كذلك مصباح النور إن هو لم يعد قادراً أن ينير فما قيمة
بقائه؟ على أن عمل الملح يعتمد على قدرته في الانتشار السريع، فإذا انحصر أضرَّ،
والنور يعتمد عمله على الارتفاع عالياً بأكثر طاقة لكي ينير على الجميع، فإذا
انحصر تحت مكيال أو سرير فما عاد نوراً إذ يكون قد تآخى مع الظلمة.

13:5
«أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا
يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجاً
وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ».

«ملح الأرض»: tÕ ¤laj tÁj
gÁj

واضح
أن المسيح يسند إلى التلاميذ وإلى كل مسيحي عملاً من أهم الأعمال على الأرض وهو
حفظ العالم من الفساد. ولأن قوة الملح تبقى مُذخَّرة فيه طالما هو قادر أن ينتشر
في الطعام فيحفظه من الفساد، أصبح التطبيق مُلْزِماً لتلاميذ المسيح وكل مَنْ يحمل
إيمانه واسمه أن يحفظ الوسط الذي يعيش فيه من أعمال الفساد فكراً وعملاً. ومعروف
أن للشيطان قدرة مذهلة على إفساد الأعمال والأفكار والضمائر، لذلك يصبح عامل وجود
عنصر عدم الفساد أولاً، ثم عنصر التأثير على جو الفساد من كافة نواحيه عاملاً في
غاية الأهمية في نظر الله الذي أحب العالم وبذل ابنه من أجل خلاصه. علماً بأن
المسيح لم يأتِ للعنصر غير الفاسد في العالم بل للعنصر الفاسد ليرفع عنه الفساد:
» لم آتِ لأدعو أبراراً
بل خطاة إلى التوبة

«
(مت 13:9). كالطبيب الذي
لا يعمل في وسط الأصحاء بل هو تعلَّم وأُرسل للمرضى! ولقد انتبه اليهود الأتقياء
لهذا المفهوم الهام جداً، فاجتمعت جماعة منهم وكوَّنوا مدرسة باسم “الأسينيين” (من
آسى يواسي أي يعالج ويعزِّي ويشفي) في اليهودية بجوار البحر الميت، وجماعة أخرى
لعمل الشفاء وأسموها “ثرابيوتا” (من ثيرابي
Therapy أي العلاج أو الإشفاء) وذلك في مصر بجوار بحيرة مريوط. الأُولى
بجوار بحر ملحي والثانية بجوار بحيرة مالحة إمعاناً في إضفاء صفة الحفظ والتأثير
على الآخرين.

وقد
أكَّد هذا الفعل والتأثير واضع الناموس وترتيبات تقديم الذبيحة، إذ يتحتَّم تمليح
الذبيحة بالملح قبل تقديمها على المذبح حتى تُقبل لدى الله، وهي كناية شديدة عن
ضرورة أن يكون الإنسان
وهو الذبيحة الدائمة
والطبيعية المقدَّمة لله
بلا فساد ومحفوظاً من
الفساد بنوع من التطهير غير المنظور، فالملح رمز محبوب وهو تعبيرٌ عن الإنسان
الطاهر، وبالتالي الذبيحة الطاهرة:

+
» وكل قربان
من تقادِمِكَ بالملح تُملِّحه ولا تُخل تقدمتك من ملح عهد إلهك. على جميع
قرابينك تُقرِّب ملحاً.
«(لا 13:2)

+
» ليكن كلامكم
كل حين بنعمة مُصْلَحاً بملح لتعلموا كيف يجب أن تجاوبوا كل واحد.
«(كو 6:4)

وهكذا
نسمع من الروح في العهد القديم وفي العهد الجديد أن الملح ضرورة قصوى، ففي العهد
القديم واضح أن الذبيحة تُرفض إن لم تكن محفوظة جيداً بملح، واعتبر الناموس أن
الملح «عهد إلهك» وفي العهد الجديد كشف عن حقيقته أنه هو “النعمة” = «بنعمة
مصلحاً بملح».

هكذا
يوعِّي المسيح هنا التلاميذ وكل مسيحي أن يكون ملحاً، بمعنى أولاً أن يكون محفوظاً
من الفساد
الفساد الذي في العالم وهذا تضمنه
له النعمة التي قبلها بالإيمان بيسوع المسيح الذي له وحده عدم الموت وبالتالي عدم
الفساد، والتناول من ذبيحته المقدَّسة التي لها قوة عدم الفساد والمسمَّاة لدى
الآباء: “
Antidote” أي ترياق السموم أو “عقار عدم الموت” وعدم الفساد، القادرة أن
تحفظ فكر الإنسان وضميره وعمله من أعمال وأفكار الفساد التي للشيطان.

والملح
وبالتالي النعمة له قوة التعامل مع ميكروب الفساد فيوقف عمله، أي أن هناك صراعاً
ضمنياً بين عمل النعمة وعمل الشيطان لإبطال مفعوله، ولكن يتحتَّم للإنسان أن يكون
على دراية به وشريكاً بالفكر والعمل والضمير في مواجهة أعمال وأفكار الشيطان التي
تجر الإنسان والعالم إلى الفساد وحكم الموت. آدم سقط لأنه كان بدون فاعلية للنعمة
لأن آدم لم يتقبَّل نعمة الله، لأن الله نفسه كان ملجأه، وكان حفظ آدم متوقِّفاً
على طاعة الله مباشرة. ولكن الإنسان يسقط إذا لم يُمْسَك بنعمة المسيح التي يقبلها
بالإيمان به والاتحاد معه بالروح، فإذا لم يستند الإنسان بقوة وعزيمة ويقظة لعمل
النعمة ولم تسنده النعمة يسقط في فخاخ الشيطان. ومن هنا تجيء كِمالة القول:
» ولكن إن فسد الملح
فبماذا يُملَّح لا يصلح بعد لشيء إلاَّ لأن يُطرح خارجاً ويُداس من الناس
« بمعنى إن فقد الإنسان المسيحي والتلميذ الكارز باسم المسيح
الاستناد على النعمة ومساندة النعمة له بسبب يقظته ودعائه وصلاته، فإنه لا يعود
قادراً على التأثير الجيد ولا يعود قادراً هو على مقاومة الفساد الذي في العالم
فيسقط ويصير هزأة عند الناس الذين كانوا يعتمدون عليه ويأخذونه مثلاً وقوة يستندون
عليها في مقاومتهم للفساد.

وتدليلاً
على ذلك نقول: إن الإنسان المسنود على النعمة والعامل بقوتها يكون مهاباً لدى
المستهزئين، فإذا حضر كفَّ مجلسهم عن الفساد وكلام القباحة والضحك الذي تثيره
أفكار الشر والرذيلة، ولكن إن أراد هذا الخادم والواعظ أن يشارك المجلس في ضحكه
وهزئه وكلام السفاهة والقباحة، يفقد في الحال هيبته وسلطان المسيح والكلمة ويكون
هو بالتالي مثار الهزء والسخرية. لذلك يصرخ بولس الرسول في تيموثاوس الشاب: احفظ نفسك
طاهراً … أمسك بالحياة الأبدية التي إليها دُعيت … احفظ نفسك من شهوة المال!!
(انظر 1تي 5: 22، 12:6،10).

فالله أرسل المسيح لينقذ العالم من الفساد والهلاك المزمع
أن يكون، والمسيح أرسل تلاميذه ليكونوا مصدراً لوقف فساد العالم بالمَثَل أو
النموذج الإلهي الذي يقدِّمونه في حياتهم وتصرفاتهم للناس، وبالتأثير بواسطة
الكلمة والإنجيل وبالصلاة الدائمة من أجل الآخرين. علماً بأنه كما أن الملح إذا
فسد لا يصلح بعد للحفظ من الفساد بل يفسد هو بتأثير فساده، كذلك تلاميذ الرب ومَنْ
يُنادون بالاسم ويكرزون بالحق إن سايروا الفساد واشتركوا فيه لا يعود لهم عمل عند
الله ولا قوة بالنعمة ولا أي تأثير بعد، بل ولا يعود هناك للأسف المريع أمل في
العودة إلى مواصفات الملح الجيد!! إلاَّ بتجديد آخر وهذا قلَّ إن وُجِد. لذلك كان
حَسْم المسيح:
» لا يصلح بعد لشيء إلاَّ
لأن يُطرح خارجاً ويُداس من الناس
«

14:516 «أَنْتُمْ
نُورُ الْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَلٍ،
وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجاً وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى
الْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ. فَلْيُضِيءْ نُورُكُمْ
هكَذَا قُدَّام النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ،
وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ».

في الحقيقة أن المسيح هنا يُضفي على تلاميذه والمؤمنين به
صفته الخاصة جداً:
» أنا هو نور العالم
«
(يو
12:8) حيث النور الحقيقي هو معرفة الله. فالمسيح جاء إلى العالم حاملاً نور
المعرفة الجديدة وهي معرفة الله، وخاصة معرفة الله في الآب والابن، لأن هذه
العلاقة هي التي وهبت للعالم الفداء والخلاص:
» عرَّفتهم اسمك (الآب) وسأعرِّفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون
أنا فيهم
«(يو
26:17)، وقد عرَّفها المسيح أيضاً أن فيها سر البنوَّة لله
» لا أعود أُسميكم عبيداً … لكني قد سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما
سمعته من أبي
«(يو 15:15). فمعرفة اسم الآب هي توطئة لنوال حب الآب وبالتالي
التبني والانعتاق من تبعية العالم والتبني للشيطان. والابن هو الوحيد الذي له
معرفة الآب شخصياً:
» ليس أحد يعرف الابن إلاَّ
الآب ولا أحد يعرف الآب إلاَّ الابن، ومَنْ أراد الابن أن يُعلن له.

«
(مت
27:11)

ولكن
هنا المسيح يمنح أولاده وتلاميذه هذا اللقب الذي يحمل معاني معرفة الله والحق
والحياة والتخلُّص من عبودية الجهل وتبعية الشيطان والعالم:

+
» أمَّا نفسي
فتفرح بالرب وتبتهج بخلاصه. جميع عظامي تقول: يا رب مَنْ مثلك؟ المنقذ المسكين ممن
هو أقوى منه والفقير والبائس من سالبه.
«(مز 35: 9و10)

+
» ما أكرم
رحمتك يا الله. فبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون. يَرْوَوْنَ من دسم بيتك ومن نهر
نعمتك تسقيهم. لأن عندك ينبوع الحياة. بنورك نرى نوراً.
«(مز
36: 7
9)

أمَّا
بداية إشراق نور العهد الجديد فيعرِّفها زكريا الكاهن فيما يختص بعمل المعمدان:

+
» لتعطي شعبه
معرفة الخلاص بمغفرة خطاياهم (كتمهيد لعمل المسيح) بأحشاء رحمة إلهنا التي بها افتقدنا المشرق من العلاء ليضيء على الجالسين في
الظلمة وظلال الموت.
«(لو 1: 7779)

وجميل جداً من تسجيل ق. متى أن بعد إعطاء المسيح الطوبى
لتلاميذه وأبناء الملكوت يعود فيستخدمهم ليوصلوا النور الذي أشرق عليهم وأضاء
قلوبهم إلى العالم المظلم المحيط. وهنا يجعلها بالجمع:
» أنتم نور «على أساس أن كل واحد منهم
مضيء:
» لكي تكونوا بلا لوم وبسطاء أولاداً لله
بلا عيب في وسط جيل معوج وملتوٍ تضيئون بينهم كأنوار في العالم

«
(في
15:2). فإن كان المسيح هو
» النور
الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتياً إلى العالم
«(يو 9:1) فتلاميذه وأولاده حتماً
يستمدون منه هذا النور الحقيقي الذي ليس فيه ظلمة ولا خطية. فإن كان المسيح هو
النور الذي يضيء فالتلاميذ وأولاد الرب هم النور الذي بهذا النور يُضيئون. لأن
بدون المسيح مَنْ سيرى نوراً أو مَنْ سيُضيء؟
» بنورك نرى نوراً «

بهذا
نفهم أن رسالة الكنيسة ليست علمية ولا اقتصادية ولا اجتماعية، بل مختصة بعمل واحد
هو حمل نور المسيح وإشعاعه، بمعنى نقل نور الخلاص والحياة الجديدة للعالم كمركز
يُضيء مِن رصيد التقوى الذي يعكس نور المسيح وأشعة برِّه وحياته للناس.

«لا يمكن أن تُخفى مدينة موضوعة على
جبل»:

الإنسان
المسيحي هو إنسان كائن في بؤرة النور، يراه كل الناس، شأن مدينة كائنة على جبل!!
استحالة أن تُخفى، هكذا المولود من الله الكائن بحياته وعمله في نور المسيح وقد
انعكس نور المسيح عليه وبدا وكأنه شعلة من نار الله. ومهما حاول أن يخفي نفسه لا
يستطيع، لأن ضياء نور المسيح منعكس عليه فيجعله منظوراً دون أن يدري سواء في كلامه
أو تصرفاته، لأن نور المسيح فيه يعمل عمله دون استئذان ويشهد لمنبعه دون إعلان.

«ولا يوقدون سراجاً
ويضعونه تحت المكيال بل على المنارة فيُضيء لجميع الذين في البيت»:

فالمكان
الوحيد للمصباح هو أن يُعلَّق أو يوضع على منارة (أي حامل للنور مرتفع في وسط
الدار) كالحامل الخشبي الذي توضع عليه الشمعة.

سراجاً على منارة: lÚcnon ™pˆ t¾n
lucn…an

مصباح
ذلك الزمان كان يُصنع من الطين الذي يُحرق بالنار فيفقد مسامه، ويوضع فيه زيت
الزيتون ويُشعل بفتيلة تُدّس في فتحة في طرفه البعيد عن الزيت وهي موجودة في
المتاحف بكثرة وهي مستطيلة من جهة الطول حوالي خمس أو ست بوصات وأربعة بوصات عرض
وبوصة ونصف ارتفاع، ولها يد واحدة في الطرف الآخر المقابل لفتحة الزيت المشتعل،
ولها فتحة في الوسط ليصب منها الزيت، وبجوارها فتحة صغيرة أخرى لمرور الهواء. هذا
هو السراج عند المسيح الذي لا يوضع تحت المكيال ولا تحت السرير فيختفي ضوؤه. أمَّا
المكيال فهو معيار لقياس الأحجام وحجمه يسع 8.75 لتر وهو موجود عادة في البيوت
لعيار الحبوب والدقيق. أمَّا المنارة فالاسم ضخم، وهي عبارة عن قاعدة بارزة من
عمود فخاري أو خشبي يوضع عليها السراج في وسط الغرفة، أو بروز حجري في الحائط من
خشب يوضع عليه المصباح. وهذا السراج بالذت يسمَّى عندنا في الفلاحين مسرجة، وقد
تكون علبة صفيح لها طرف في نهايتها العليا يُدس فيه شريط من القطن الرفيع وتُشعل
بالكيروسين وشعلتها تسمَّى العويل، ويظل يداعبها تيار الهواء الذي إذا زاد عن
مستوى النسمة الخفيفة يُطفئها في الحال، ويظل يداعبها الهواء يميناً ويساراً فتخرج
دخاناً أسود كثيفاً يمكن أن يملأ الغرفة بسواد إذا تكاثف يقطر قطراناً أسود كريه
الرائحة. وقد عشنا في دير الأنبا صموئيل في
أيامنا الأُولى على هذه المسرجة أو المشعلة الوحيدة في مقعد الضيوف وهي معلَّقة في
مسمار على الحائط وتستهلك ما يقرب من 150 سنتيمتر مكعب بالكيروسين في الليلة.
وعشنا عليها مدة ثلاث سنوات وعاش مَن قَبْلَنا عليها حوالي 50 سنة. وعلى ضوئها
يعسر على عين الإنسان أن تتبيَّن الأشخاص الجالسين خاصة وأن الجدران الأربعة
تغطيها طبقة كثيفة لزجة من السواد الذي قد يكون سمكه سنتيمتر واحد. أمَّا شعلة زيت
الزيتون في أيام المسيح فهي قليلة الدخان مقبولة الرائحة.

أمَّا
سراج المسيح فهو تلاميذه وخاصته بالنسبة إلى العالم، يحتلون مكاناً ظاهراً في
المجتمع وفي البيوت، فهم سُرج موقدة، أمَّا منارتهم فهي أعمالهم التي تتبعهم،
يضيئون بكلمات النعمة فيبددون ظلام النفس وظلمة العالم التي تخنق الإنسان،
وبكلماتهم المملوءة رجاءً وحياة يشعلون القلوب بنار النعمة ويفرِّحون المضيَّق
عليهم والمظلومين أو المطحونين تحت الأعمال العنيفة إزاء أجور لا تفي بأود الحياة.
وكلامهم يكشف عن إيمانهم وحياتهم وأعمالهم، فهم يتكلَّمون من ذخيرة خبراتهم
وعلاقتهم السرِّية والدائمة مع المسيح، ونطق الروح القدس الذي تتبيَّنه الناس
فيزداد لهيب قلوبهم وتصير حياتهم بالمسيح مصدر فرح دائم وسرور لا ينقطع من قلوبهم
وأفواههم. ويُلاحَظ دائماً أن شعب المسيح له حاسة شديدة التمييز يميِّزون بها
الأقوال من الأعمال، وكلمات الترضية وفك المجالس وسد الخانات من كلمات الروح
الخارجة من الروح تحمل خبرات حيَّة قادرة أن ترد على كل سؤال وتقنع الإنسان السامع
بصدق وعود المسيح، وتشيع في النفس حلاوة مع فرحة شديدة الانفعال تجعل دموع الإنسان
كالسيل!! يتراءى فيها المسيح ويُذاق مجده!

كنا
شباباً وسمعنا أقوالاً مثل هذه فما طقنا الحياة بدون وجه الحبيب فتكرَّسنا لحبه
وعشنا حياتنا كلها وعيننا عليه! فتنادر الناس بما عملنا وبما نحياه. وهكذا اشتعلت
النار في القلوب وما درينا أننا كنّا هذه المشعلة المدخِّنة نفسها وأن نارها أصابت
مرماها
بحسب إتقان
تصويب النعمة
إلى قلوب الناس واختطاف المدعوِّين كشُعل
مجتذبة من نار العالم، ليصيروا سُرجاً موقدة على ذات منارة الروح، ومجد الرب
يزداد!

 

بر
الملكوت إزاء بر الناموس
   [17:520]

 

الآية
القائدة:
» إن لم يزد
بركم على الكتبة والفرِّيسيين لن تدخلوا ملكوت السموات.
«(20)

هنا
برُّ الكتبة والفرِّيسيين القائم على الناموس، ليس مرفوضاً كليًّا، بل هو ناقص
بسبب عدم فهمهم لعمق الروح الذي يشير إليه الناموس وواضع الناموس. والمسيح يوضِّح
أنه لم يجيء لينقض الناموس والأنبياء بل ليكمِّل! يكمِّل بعمله وقوله وحياته،
وبالنهاية بموته وقيامته وصعوده، كلاًّ من الناموس والأنبياء، حتى ولو لزم تعديلٌ
في هيكل مفهوم الناموس والأنبياء. لأن المسيح جاء بعملٍ جديدٍ لم يكشف عنه الناموس ولكن كان مستوراً في أعماقه، لأنه على كل وجه
فالناموس كلمة
الله وكلمة الله يشرحها
المسيح بغير ما شرحها موسى والناموس، وأكثر مما شرحها الأنبياء:
»
الابن الوحيد
الذي هو في حضن الآب هو خبَّر
«(يو 18:1)، » ولا أحد يعرف الآب إلاَّ الابن. «(مت 27:11)

17:5
«لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا
جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ».

«أنقض»: katalàsai

وتأتي
بمعنى يحل أو يلغي، “والناموس أو الأنبياء” تشمل العهد القديم كله، فالناموس هو
الأسفار الخمسة والأنبياء بقية العهد القديم. وهكذا وفي بدء تأسيسه لمفهوم بر
الملكوت الجديد يؤكد أنه يبني على الناموس والأنبياء ولا يهدم ليبني. وهكذا ينفى
ادِّعاء خصومه من الكتبة والفرِّيسيين ورؤساء الكهنة منذ أول خطوة في خدمته وتأسيس
ملكوت الله، الأمر الذي كان مسلَّطاً عليه عيون هؤلاء الحاسدين الرافضين الذين أضمروا
قتله منذ البداية. وهو بهذا النداء الأول يؤكِّد أنه جاء ليكمِّل الناموس
والأنبياء وأقوال وأعمال وعهود العهد القديم. ونحن الآن نرى بوضوح أن العهد القديم
بدون المسيح يبقى وصايا وقوانين وتحذيرات ومواعيد ناقصة لا تُشبع ولا تُغني عن
جوع. فإبراهيم مات على الرجاء والآخرون جميعاً:
» فهؤلاء كلهم مشهوداً لهم بالإيمان لم ينالوا
الموعد!! إذ سبق الله فنظر لنا شيئاً أفضل لكي لا يُكمَلوا بدوننا!
«(عب 39:11و40)

ولكي
ندرك قوة تصريح المسيح هذا أنه لم يأتِ لينقُض الناموس أو الأنبياء بل ليكمِّل،
يلزم أولاً وبكل عناية أن نفهم معنى هذا الكلام الروحي العميق لئلاَّ نقع في خطأ
مثل كثير من العلماء الذين ظنوا أن المسيح جاء ليحيي الناموس والأعمال الصالحة
بحسب الناموس، كالعالم هندركسن الذي غرق في هذا المستنقع. فتكميل الناموس
والأنبياء يعني أمراً واحداً إلهياً وهو خلاص الإنسان من الخطية والموت، فهذا الذي
كان يلف حوله الناموس ولا يجد لها مخرجاً. فالوصايا بإتقان العبادة حرفياً
والتطهيرات بكل دقائقها كانت تعني وتهدف إلى عبادة بالروح والحق، ولم يستطع
الناموس أن يوفِّي حقها. فجاء المسيح وأعطى الناموس أجازة لكي يكمِّل بصليبه وموته
ما استحال على الناموس تكميله بآلاف الوصايا والذبائح. وهو بذلك لم يُلغِ الناموس
بل عمل ما عسر على الناموس عمله دون أن يخرج عن هدف الناموس وهو عبادة الله بالحق.
وبهذا توقفَّت الوصايا التي بالناموس، لا عن خطأ فيها، ولكن بسبب القصور في
الإنسان الذي يحتاج إلى قوَّة ونعمة مجَّانية خارجة عن نفسه آتية إليه من فوق من
المسيح والآب والروح القدس ليكمِّل أصعب الوصايا مثل أن يحب أعداءه، ويبارك
لاعنيه، ويُحسن إلى مبغضيه ويصلِّي من أجل الذي يسيء إليه ويطرده. الأمر الذي لم
يستطع الناموس أن يقترب إلى مثل هذه الوصية ولا من بعيد إذ اكتفى بالوصية: أحبب
قريبك وابغض عدوك!! والذي يقلع لك عينك اقلع له عينه! هذه بسبب غياب المحبة
الحقيقية وذلك بسبب غياب نعمة الله المجانية والقوة الإلهية العاملة في الإنسان
وقف عند أحبب قريبك فقط، ولكن حينما أدخل المسيح على طبيعة الإنسان نعمة الله وقوة
روحه القدوس استطاع المسيح بمنتهى الهدوء أن يوصي بمحبة العدو!! وهكذا ظهر أن
الناموس ناقص وهكذا أكمل المسيح الناموس الناقص!!

وواضح
من كل هذا أن ناموس موسى ساير طبيعة الإنسان العائش بالفطرة، أمَّا المسيح فجاء
ليغيِّر هذه الطبيعة ويخلقها جديدة بروح الله وبقوة غلبته للموت وقيامته بحياة
أبدية في صميم جسم الإنسان!! هذا هو جئت لأُكمِّل فيما يخص الناموس بالنسبة للحياة
مع الله.

أمَّا
تكميل المسيح لأقوال الأنبياء فقد تخصَّص فيها إنجيل ق. متى، يُظهرها بقوة، ذلك
بكلام المسيح نفسه واستشهاده هو بأقوال الأنبياء التي قيلت فيه، وأقوى شهاداته يوم
قرأ في سفر إشعياء عن إرساليته من الله ومسحه بالروح القدس للقيام بمهمته العظمى
ثم تعليقه على الفصل الذي قرأه بقوله:
» اليوم قد تمَّ هذا المكتوب في مسامعكم. «(لو
21:4)

18:5
«فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ
لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى
يَكُونَ الْكُلُّ».

«الحق»: ¢m»n

كان
من الأفضل نقل الكلمة كما هي: “آمين”، لأن كلمة “آمين” أصبحت في الكتاب المقدَّس
اصطلاحاً غير قابل للترجمة، وهي تُقال في مواضع التعبير عن الحق والصدق الإلهي
المستحق كل إيمان!
والكلمة في التعبيرات الإلهية لا تفيد مجرَّد قول الحق بل
تضيف على الحق أهمية وسموًّا إلهياً. والملاحظ
أن إنجيل ق. يوحنا احتفظ بوزنها الأرامي الذي كان يتكلَّم به المسيح
بتكرارها “آمين آمين” ولكنها تُرجمت للأسف
»
الحق الحق أقول لكم… «والقديس يوحنا تمسَّك بها ليثبِّت في العقول والقلوب مكانها وهيبتها لأن هنا الله يهوه يتكلَّم!! أمَّا
الأناجيل الثلاثة فاكتفوا بمعناها واكتفوا
بمفردها.

أمَّا
قوله:
» إلى أن تزول
السماء والأرض
«فهنا لا
يقصد انحلال السماء والأرض وفناءهما، بل يقصد زوال الوجه المادي للسماء والأرض،
لأن كليهما سيتحوَّل إلى
» سموات جديدة وأرضاً جديدة يسكن فيها البر «(2بط 13:3). وهذا هو الذي يقصده المسيح بقوله: » حتى يكون الكل « وحينئذ لا يعود للناموس بنقطه وحروفه وجود، لأن الوجه المادي من
الناموس سينتهي بانتهاء الوجه المادي للخليقة كلها بما فيها الإنسان.

وقوله:
» حتى يكون
الكل
«يؤكِّد أن
الناموس بنقطه وحروفه يتحقَّق الآن إنما يتحقَّق روحياً وليس مادياً، وهذا هو
مرَّة أخرى التكميل بكل معناه ومبناه. فالناموس بوجهه المادي ناقص نقصاناً حزيناً،
ومجيء المسيح يعطيه الكمال الروحي الذي يجعل الإنسان قادراً بروح الله أن يكمِّله
في المسيح لمجد الله الآب!

والآن
لا يعود الإنسان المسيحي يغسل أباريق وكؤوساً وأسرَّة لتتطهَّر لأنه أصبح بالمسيح
» كل شيء طاهر للطاهرين «(تي 15:1)، ونحن تطهَّرنا بدم المسيح وبروح إلهنا. وهكذا ذاب
الناموس المادي من بين أصابعنا ولم يعد له لزوم أو وجود!! ولكن نحن بالمسيح يُقال
إننا أكملنا الناموس!!

«لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من
الناموس»:

«الحرف»: هو أصغر
حرف في اللغة العبرية وهو “
yodh” وهو حرف “y” الياء وهي تقابل يوطا باليونانية. و“النقطة”: في اليوناني
هي
kera…a أي قرن وهي في الحروف العبرية نتوء صغير للغاية تكاد العين غير
المدرَّبة أن لا تلمحه وهو يظهر في الباء (
bh) لكي يفرِّقه عن حرف الكاف كالآتي: الباء b
، الكاف
k وهو نتوء في يمين قاعدة الحرف، هذا هو مفهوم النقطة بالعبري.

وهكذا
فالمعنى أن الناموس باليوطا وبالنقطة باقٍ كما هو إلى أن يتحوَّل الكل إلى العالم
الروحي وينتهي الوجه المادي من العالم والإنسان وكل ما له.

علماً
بأن حتى والمسيح واقف يتكلَّم عن هذا التحوُّل المزمع أن يكون، كان التجسُّد قد
بدأ بوجوده في جسد إنسان تمهيداً للتحويل العظيم القادم إلى الروح. وعندما تتحقَّق
الأرض الجديدة والسماء الجديدة ينتهي كل الناموس وتعلقاته، كذلك حتى الإنجيل بعد
أن يتحقَّق بكل كلامه ومعناه ويصير الإنسان خليقة جديدة تستوطن السماء، لا يعود
للمكتوب وجود، لأنه يكون قد تحقَّق بالروح.

19:5
«فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ
هكَذَا، يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ
وَعَلَّمَ، فَهذَا يُدْعَى عَظِيماً فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ».

المسيح
هنا يراهن على الكتبة والفرِّيسيين المدَّعين علم الناموس والعمل به، أنهم مهما
حاولوا الإعلاء من أنفسهم وقدراتهم على حساب الناموس فهم بحسب قياس المسيح
“أقزام”، لا تُرى قامتهم المسحوقة أمام قامة المسيح، الذي رفع من “اليوطا والنقطة”
لتكون على مستوى التكميل في عمل المسيح ليعطي لها المعنى والضخامة الروحية في
ملكوت الله، حينما يحوِّل الصورة المادية للناموس إلى الصورة الروحية الكاملة
وبملء قامته وملكوته!!

وما
العظيم هنا الذي يتكلَّم عنه المسيح إلاَّ المسيح ذاته الذي علَّم بالروح فاستعلن
ملكوت السموات من وراء الناموس، والذي عمل من أجل الملكوت فأكمل الناموس بالروح
والحق!

وواضح
هنا أن المسيح لم يسيء إلى الناموس بكلمة أو ينفي قدسيته حتى الحرف منه واليوطا،
إنما ركَّز القول أنه جاء ليكمِّل ما ابتدأه الناموس، وسيظل يكمِّله وتلاميذه معه
إلى أن يستعلن اكتماله بانفتاح ملكوت الله وانتقال الإنسان من بر الناموس المحدود
بالعمل البشري إلى بر الملكوت اللانهائي والمستمد من بر المسيح، بالنعمة الموهوبة
مجاناً لحياة أبدية.

20:5 «فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ
يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا
مَلَكُوتَ
السَّمَوَاتِ».

وأخيراً
نجيء إلى الآية حاملة مفتاح سر البر اللازم لدخول ملكوت الله، وهنا يحدِّد المسيح
تحديداً أن بر الكتبة والفرِّيسيين القائم على المعرفة والعمل بالناموس يستحيل أن
يدخل به إنسان إلى ملكوت الله، وأن المسيح جاء ليستعلن بر الله بدون الناموس بموت
المسيح وقيامته وتجديد الطبيعة البشرية لنوال موت الصليب بالدم لدخول ملكوت الله.
وهو ولو أنه برّ قائم أساساً على بر الناموس باعتباره وصايا الله، ولكن بلغ في
نهايته إلى بر المسيح كلمة الله الحية القادرة أن تخلق إنساناً جديداً لائقاً
لملكوت الله. هذا سيفتح به المسيح صفحة جديدة للمقارنة بين وصايا الناموس ووصاياه
التي يستحيل العمل بها أو بلوغ برِّها إلاَّ بنوال نعمته، وبرّه الفائق الإلهي.
فسنسمع حالاً قوله: إنه قيل في الناموس القديم لا تقتل وهذا جيد جداً باعتباره
قانون رادع لخطية القتل لأن مَنْ قتل يُقتل. أمَّا في المسيح يسوع فأنا أقول لكم
لا تغضب ومَنْ غضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم. والحكم هناك كان قتلاً بقتل
أمَّا الحكم هنا فهو الامتناع عن دخول ملكوت الله. الحكم هناك كان عقاباً رادعاً،
والحكم هنا هو تهذيب للطبيعة البشرية تمهيداً لتجديدها بفعل النعمة والروح القدس.
والحياة الأرضية في القديم كانت تحتاج إلى إرادة حديدية قاطعة لتلافي عقاب الموت،
أمَّا في الحياة الجديدة بالروح في نعمة المسيح فتحتاج إلى إيمان وثيق بالمسيح
لينال الإنسان حماية وحفظاً لحساب الملكوت. وواضح من هذا أن المسيح جاء ليكمِّل
القديم بالكمال الروحي بعمل نعمة الله ومؤازرة روحه القدوس.

كذلك
يقول الناموس لا تزنِ ومَنْ يزني يُرجم للموت، ويحاول الكتبة والفرِّيسيون أن
يشرحوا ذلك ولكن أن يمنعوه من الطبيعة البشرية فأمر مستحيل. وجاء المسيح يقول لا
تشتهِ ويعطي مع القول نعمة حتى تنضبط الشهوة فلا تبلغ الطبيعة إلى مستوى الزنا.
وهكذا يتبيَّن أن الناموس كان يعالج الزنا بالرجم أي الموت كعقاب رادع، أمَّا
المسيح فجاء ليعطي الطبيعة البشرية قوة إضافية بالنعمة حتى تكف عن مجرَّد الاشتهاء
فلا تصل الطبيعة إلى السقوط في الخطية والموت بل تتهيَّأ للتجديد لتحيا بالروح
وليس بالجسد. حيث “أولاد الله لا يخطئون بل ولا يستطيعون أن يخطئوا” (انظر: 1يو
9:3، 18:5). لأن طبيعة الإنسان الجديد التي خلقها المسيح فينا هي ليست ترابية بل
من ذات طبيعة ابن الله القائم من الأموات:
» أقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات. «(أف 6:2)

وبهذا
كان بر الكتبة والفرِّيسيين قائماً على ردع الطبيعة وقتلها إذا زلَّت، أمَّا بِرُّ
المسيح فكان قائماً على تجديد الطبيعة البشرية بمؤازرة النعمة والروح القدس لتستحق
الحياة الأبدية. كنت الوصية الأُولى عقابها الموت، أمَّا الثانية (وصايا العهد
الجديد) فوَعْدُها الحياة الأبدية. على أساس هذا أعطى المسيح الطوبى للجياع
والعطاش إلى البر، بر القداسة وعمل المسيح لأنه يُعطى لهم فيصيرون بني الملكوت.
وطوبى للمساكين بالروح، النازعين نحو الروح ليحتموا به وينالوا نصرة لحساب الله
فإنهم ينالونه ويصيرون بني الملكوت.

 

المقابلات
الست بين الناموس والمسيح   
[21:548]

 

المقابلة الأُولى: الوصية السادسة: القتل:

21:5و22
«قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ
يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ
مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ
قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا، يَكُونُ
مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ، يَكُونُ مُسْتَوجِبَ نَارِ
جَهَنَّمَ».

الكلام
هنا عن الوصية السادسة:
»
لا
تقتل
«وعن عقابها
القتل (خر 13:20، 12:21). وهنا يتدخَّل المسيح في صميم الوصية ليكشف منابعها
الأُولى. فالغضب هو علة القتل الأُولى، والمسيح يكشف سبب القتل وعلته الأُولى
وينهي عنها. فالغضب هو الذي يستوجب الحكم وليس القتل، ولكن إذ يستحيل على المحقِّق
أن يكشف ويحصر علة الغضب أصبح الحكم فيها يكون عند مَنْ يكشف الضمائر والقلوب،
وبالتالي يكون الحكم هنا بيد الله. والله حوَّل كل الأحكام على الابن ليدين فيها
» لأن الآب لا يدين أحداً
بل قد أعطى كل الدينونة للابن
«(يو 22:5). والابن
تجسَّد لكي يحمل كل خطايا الإنسان في جسده على الصليب ويأخذ عليها حكم
اللعنة والموت فيبرِّئ الإنسان ثم يقوم بذات الجسد مبرَّءاً ومبرَّراً. وهكذا يكون
المسيح قد استوفى أحكام خطايا الإنسان جميعاً، وأهم عمل عمله المسيح
بعد
استيفاء دينونة الخطية وإلغاء حكم الموت عليها
أنه أعطى
الإنسان بالقيامة من الأموات طبيعة جديدة مرفوعاً عنها سلطان الخطية وحكم الموت
الأبدي وممنوحة حياة أبدية بواسطة المسيح وفيه. فأصبح عمل المسيح الآن أن يبني
الإنسان الجديد على أساس وصايا التوعية من الخطية، لأنه وهب الإنسان الجديد نعمة
الغلبة على سلطان الخطية بالقيامة من بين الأموات. وهكذا يكون مَنْ يغضب يكون قد
أهمل عمل النعمة ورفض الحياة الأبدية. وهذا هو معنى مَنْ غضب على أخيه باطلاً
بالرغم مما
عمله المسيح
يكون مستوجب الحكم، والحكم هنا عدم ميراث
الحياة الأبدية أي الحرمان من الملكوت، الأمر الذي هو العقاب الأقسى.

وبذلك
فإن المسيح بصفته المخلِّص من الخطية والموت ومعطي النعمة والحياة الأبدية، وبصفته
الديَّان الوحيد، يكون قد سحب حق التشريع والعقاب معاً من الناموس! لذلك يقول الآن
قيل لكم في القديم أمَّا أنا فأقول لكم. هذا القول التشريعي الجديد يقوم على أساس
الفداء الذي أكمله للإنسان بموته من أجل خطايانا وقيامته من أجل حياتنا الجديدة
وإعطائنا خلقة جديدة بالروح.

وبهذا
العمل الجبَّار سلَّمنا المسيح الحساسية الشديدة من نحو الخطية في أصولها
الأُولى
Principiis obsta = أي مقاومة البدايات، لكي لا تعمل
في حياتنا الجديدة، فأعطى وصية أن لا يتعدَّى الإنسان على أخيه
ويقول له: “رَقَا
Raca” وفي أصولها الأرامية الأُولى تعني يا صاحب العقل المقفل، وإلاَّ
يكون مستحقاً الحكم أي الرفض من الله، أو يقول له يا أحمق فيكون مستحقاً أن يُلقى
في جهنم أي يحرم من الله. وهكذا يعالج المسيح الأصول الأُولى أو بدايات الخطية
التي تؤدِّي إلى القتل، وهو في الحقيقة يعالجها بالنعمة وليس بالبتر كالناموس لأنه
قد أعطى النعمة التي تنقذ من الموت ومن الفساد، وتوحي للإنسان بالتوبة فينجو.

وبذلك
نرى أن الناموس يختص بالأعمال الظاهرة في نهايتها كالقتل، ويعالجها بالقتل.
أمَّا المسيح فيختص بالحركات الأُولى في الضمير ليعالجها بالنعمة ويفتح أمامها
مجال التوبة للنجاة.
وطبعاً هذا الوضع الجديد صار بسبب تجسُّد ابن الله وأخذه
طبيعة الإنسان خلواً من خطية، وبدأ بهذه الطبيعة يعالج أسباب السقوط الأُولى ويرفع
عنها قصورها بتشديد النعمة وعمل الروح القدس. فحقَّ له إزاء حكم الناموس أن يقول:
أمَّا أنا فأقول!! ليس من فراغ بل بعد آلام مروّعة وموت على الصليب وقيامة بقوة ومجد
لحساب الإنسان!

التطبيق لرفع حساسية الضمير:

23:5و24
«فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ
لأَخِيكَ شَيْئاً عَلَيْكَ، فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ،
وَاذْهَبْ أَوَّلاً اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ
قُرْبَانَكَ».

هنا
المثل يأتي للمخاطَب المفرد ليحصر التعليم الشخصي في أضيق حدوده لتنبيه الضمير.
وهنا يتحوَّل المسيح من الحض على عدم الغضب باطلاً إلى المحبة الواعية مع توقير
الله ومخافته. حيث تظهر المحبة هنا على هيئة مصالحة قلبية. ويبدأ المثل بإنسان
تقدَّم إلى الله بقربان شكر ينم عن توقير الله وعن مخافة ومحبة أيضاً، ويتذكَّر
وهو واقف قبالة المذبح أنه أخطأ في حق المحبة من نحو أخيه. هنا يتدخَّل المسيح
ويوحي للإنسان أن قربانه سيكون غير مقبول إن لم يذهب ويقدِّم نفس المحبة والمصالحة
مع أخيه أولاً وحينئذ يقبل الله قربانه من يديه. وهنا يُشعل الله مصباح النعمة
داخل ضمير الإنسان لكي تزداد حساسيته من جهة المحبة والمصالحة مع أخيه الإنسان على
نفس مستوى إحساس الإنسان بمحبة الله وإرادة المصالحة معه سواء بسواء، وهي نفس
الوصية
» تحب الرب
إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك … والثانية مثلها: تحب قريبك كنفسك
«(مت 22: 3739)، يقدِّمها المسيح
في صيغة عملية ملزمة من جهة الضمير نحو الآخر. وهنا يكشف المسيح الوجه الروحي
العالي للوصية في مفهوم العهد الجديد.

ولكن يعود المسيح ويؤكِّد ضرورة الحل السريع للمصالحة
والسلام مع الغير حتى ولو أخَّر
القربان.

25:5و26
«كُنْ مُرَاضِياً لِخَصْمِكَ سَرِيعاً مَا دُمْتَ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ،
لِئَلاَّ يُسَلِّمَكَ الْخَصْمُ إِلَى الْقَاضِي، وَيُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَى
الشُّرَطِيِّ، فَتُلْقَى فِي السِّجْنِ. الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ تَخْرُجُ مِنْ
هُنَاكَ حَتَّى تُوفِيَ الْفَلْسَ الأَخِيرَ!».

الوضع
تغيَّر عن واقع الآيتين (23و24) السالفتين، فهناك كان المخاطَب هو المسئول عن
الذهاب للمصالحة قبل أن يوفي قربانه على مذبح الله. هنا نجد الخصم يتخذ إجراء
الشكوى الرسمية ويفوز بحكم ضد المسيحي الذي عليه أن يسعى لتخليص ذمته قبل أن
يُغرَّم. ويبدو أن المخاصمة تختص بتخليص دين
تأخَّر عن تسديده. وهكذا يحض المسيح على سرعة إيفاء ديون الإنسان
المسيحي حتى لا يقف أمام المحاكم والقضاة
ويغرَّم تحت وطأة القانون، وإلاَّ يُهان الإنسان ويُغرَّم رغماً عنه.

أمَّا
الفلس الأخير فهو يساوي بالتقدير المالي واحد على أربعة وستين من الدينار،
والدينار يكافئ أجرة عامل في اليوم أي يساوي
الآن عشرة جنيهات، لذلك فالفلس يساوي حوالي خمسة عشر
قرشاً.

ولكن
المسيح ليس مشغولاً بديون الناس ولا المحاكم والسجن، ولكن شغله الشاغل هو حياتنا
الأبدية، وهو يرى أن القاضي هو صاحب الدينونة والسجن هو جهنم. والمرجو من القارئ
أن يعود إلى (مت 18: 30
35) ليجد نفس التصوير
الذي ينتهي بالقول:
»
فهكذا
أبي السماوي يفعل بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته
« وسواء هنا في (25:5و26) أو في (30:1835) فالمسيح
يحرِّض على التسامح القلبي من الآن لئلاَّ نغرَّم غرامة مميتة إن تركنا ديوننا
الروحية وصمَّمنا على عدم مسامحتنا وصفحنا عن زلات الآخرين.

هذا
يشرح به المسيح عن قضائه من جهة الوصية السادسة “لا تقتل”. فانظر أيها القارئ
السعيد إلى أي حد حوَّلها المسيح وعمَّق وكشف عن الوجه الروحي السليم لمنع القتل
وحتى العداوة والبغضة! وكشف عن الضرورة القصوى للسعي بغاية السرعة دون إبطاء
لتخليص ذمة الضمير من ديون المحبة والسلام حتى لا تبيت الخصومة أو المقاطعة في
القلب:
» لا تغرب
الشمس على غيظكم

«
(أف 26:4). علماً بأن
المسيح سيعالج حالة ما إذا رفض الأخ الذي ذهبت إليه مسرعاً للمصالحة فلم يقبل ذلك
في (15:18
17). أمَّا
الآن وبصدد الوصية السادسة فرفعها المسيح من الوضع الظاهري إلى مشكلة قلب وضمير
يتحتَّم رفع المسئولية عنه.

 

المقابلة الثانية: الوصية السابعة:
الزنا:

27:5و28
«قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ. وَأَمَّا أَنَا
فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا،
فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ».

وهنا
أيضاً في الوصية السابعة في الناموس تظهر نفس قضية الوصية السادسة بالنسبة للقتل،
فإن الناموس طرحها للمعلمين ليكشفوا للشعب عن كيفية تلافي الزنا، ولكن خطأ الكتبة
والناموسيين أنهم ناقشوا العقوبة ولم يناقشوا وسيلة تلافي الخطية. وهنا يدخل
المسيح مباشرة ليصلح هذا التقصير في معالجة الوصية، ويرفع الخطية من قضية زنا تمَّ
بالفعل، إلى قضية شهوة أرسلها الشيطان في القلب يمكن تلافيها، معتبراً أن العين
التي تنظر هي النافذة المفتوحة على الخطية وهي المسئولة عن حركة خطية الزنا،
فجعلها المسيح القاعدة التي يبدأ عنها الحساب. فكل مَنْ نظر إلى امرأة ليشتهيها في
قلبه فيُحسب أنه أكمل الفعل.

ولا
يقصد المسيح النظر بحد ذاته، ولكنه يهدف نحو القصد من النظر. وهنا ينتقل المسيح في
الحال من العين إلى القلب والضمير، حيث الشهوة لا تكمن في العين بل تكمن في القلب
المحسوب أنه قاعدة الشهوات والنزوات والرغبات النفسية. فالشهوة تعبِّر عن نفسها
تعبيراً فاضحاً في نظر العين، ولا يغيب كشفها في الحال! والمرأة أول مَنْ يكتشف
مدى فسق الرجل من نظراته. والناموس أعطى بعد ذلك لهذا المدخل في الزنا وصية عاشرة
قد تصلح أن تكون حاكمة:
»
لا
تشتهِ بيت قريبك، لا تشتهِ امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا
شيئاً مما لقريبك
«(خر 17:20)، وأعادها في (تث 20:5و21). ولكن التقصير الحادث في
الناموس هو من جهة التعامل مع هذه الوصية بسبب الانتهاء من الدينونة بمقتضى الفعل
الخارجي.

فالذي
عمله المسيح هنا هو أنه دخل إلى القلب باعتباره المسئول عن الحواس والعواطف وكل
حركة شهوانية في الإنسان:
» لأن من القلب تخرج أفكار شريرة قتل زنىً فسق سرقة شهادة زور
تجديف، هذه هي التي تنجِّس الإنسان …
«(مت 19:15و20).
والمسيح رأى في خطية القتل أنها شهوة قلب تحرَّك بالغضب ولم يُضبط، ورأى في الزنا
كذلك حركة شهوة في قلب غير منضبط تغذّيها العينان.

ولكن
الجديد في اكتشاف عمل الشهوة الذي يدين صاحبها أنها ليست الشهوة الطبيعية بل
المثارة عمداً لإيقاظ الخطية بالنظر إلى امرأة «ليشتهيها». فهنا عملية
تعدٍّ على عرض بالنظر عن عمد تساوي العمد الفعلي في الزنا، ولا عذر للمتعدِّي في
هذا، فهنا ليست الطبيعة هي المسئولة بعد بل الإرادة المنحرفة غير الخاضعة ولا
منضبطة. فهنا العقوبة تقع على الإنسان تماماً كعقوبة الزنا الفعلي. لذلك قال
المسيح تعقيباً على مَنْ نظر إليها بقوله:
» لكي يشتهيها «» فقد زنا بها في قلبه « أي أن الشهوة أكملت مشوارها الإرادي سرًّا في القلب، فوجبت
العقوبة. لأن شرط العقوبة أن يكون فعل الإرادة الواعية قد تمَّ عن وعي ومعرفة.
أمَّا العقوبة فينبغي أن تقع على العين العاثرة لأن بدون العين لا ينظر الإنسان
ليشتهي. وهنا امتنعت أن تكون العقوبة من قبل القاضي بل من قبل الإنسان نفسه لأنه
يكون هو المسئول عن توقيع هذه العقوبة على نفسه، كيف؟ ترد على هذا السؤال الآية
القادمة.

29:5و30
«فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا
عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى
جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ
فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ
أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ».

هنا
في الحقيقة يلجأ المسيح إلى عملية “سيكلوجية” أي نفسية راقية، فهو يرفع من حماس
النفس وغيرتها ضد العين العاثرة إلى درجة القلع، وهناك بعض حالات تمَّ فيها هذا
الأمر. ولكن ليس المطلوب أن نقلع العين، ولكن أن نقف موقف البغضة والعداء الشديد
نحو هذه العين، وحينئذ تكون الدرجة الثانية أن نعزلها عن العمل بشبه حكم بالموت
على العين، وبمعنى واقعي نحرمها من هذا السلوك المشين ونصبح مراقبين لهذه العين
ونسهر على ضبطها حتى لا توقع الجسد كله في الخطية والهلاك:
» عهداً قطعت لعيني فكيف أتطلَّع في عذراء «(أي 1:31). ولكن في مفهومنا للعهد الجديد نعلم أن هذا لا يكفي،
والله يعلم هذا، والمسيح نفسه الذي قال هذا يعلم هذا أيضاً. لذلك وبقوة مستمدة منه
من فيض بركات الفداء والخلاص وهبة الروح القدس والنعمة يعطي المسيح للذين يعزمون
على هذا الانضباط قوة ونعمة تصنع لنا وفينا
» أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر بحسب القوة (المسيح
والروح) التي تعمل فينا

«
(أف 20:3). وعلى هذا
المنوال فيما يختص باليد اليمنى. وأيضاً في (7:18
9) يكرِّر
ق. متى هذا الكلام بعينه.

ونفهم
من هذا أن فكر المسيح يتجه بحماس شديد إلى استخدام الإرادة والحزم والحسم في
مواجهة الخطية وكل حركاتها في الجسد، إذ يلزم المقاومة القاطعة السريعة لكل حركة
ميل مفتعلة أو طبيعية نحو الخطية. فإن كان كتاب ما هو الذي يجذب الفكر نحو الخطية
فيجب أن يُلقى بعيداً في الحال، وإن كانت صورة تُمزّق، أو إن كان شريطاً يُحرق، أو
خطاباً يُمزَّق أو مكالمة توقف في الحال، علاقة توقف، وعداً يُلغى، طعاماً يُرفع.
هذا من جهتنا، وهو كفيل بكل المقاييس الاختبارية أن تقابله عملية إنقاذ سريع من
الروح القدس لا يصدِّقها عقل، ويعينها حركة تقديس للقلب والأعضاء والجسد:
» أقمع جسدي وأستعبده «(1كو 27:9).

+
» لذلك اخرجوا
من وسطهم واعتزلوا يقول الرب ولا تمسوا نجساً فأقبلكم وأكون لكم أباً وأنتم تكونون
لي بنين وبنات. يقول الرب القادر على كل شيء.
«(2كو
6: 17و18)

+
» ولا تخافوا
من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها. بل خافوا بالحري من
(الديَّان) الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم.
«(مت
28:10)

+ » لأنكم
قد اشتريتم بثمن فمجِّدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله.

«
(1كو
20:6)

 

المقابلة
الثالثة: تتبع الوصية السابعة: الطلاق
 
(مت
9:19، مر 11:10و12، لو 18:16)

 

31:5و32
«وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلاَقٍ. وَأَمَّا
أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلاَّ لِعِلَّةِ الزِّنَى
يَجْعَلُهَا تَزْنِي، وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي».

إن
التشدُّد الحادث في العهد الجديد بواسطة المسيح في أمر الزواج والطلاق أكثر من
العهد القديم، راجع إلى انفتاح الملكوت والحياة مع الله. فدخلت علاقة الرجل
بالمرأة وضع الخلقة الأول كما تمسَّك بذلك المسيح حينما سُئل:

+
» هل يحل
للرجل أن يطلِّق امرأته؟ ليجرِّبوه. فأجاب وقال لهم: بماذا أوصاكم موسى؟ فقالوا:
موسى أذِنَ أن يُكتب كتاب طلاق فتُطلَّق. فأجاب يسوع وقال لهم: من أجل قساوة
قلوبكم كتب لكم هذه الوصية، ولكن من بدء الخليقة ذكراً وأُنثى خلقهما الله، من أجل
هذا يترك الرجل أباه وأُمه ويلتصق بامرأته، ويكون الاثنان جسداً واحداً، إذاً ليسا
بعد اثنين بل جسدٌ واحدٌ. فالذي جمَّعه الله لا يفرِّقه إنسان.
«(مر 10: 29)

ونقول:
إنه بانفتاح الملكوت أصبحت الكنيسة تمارس سر الزيجة بين الرجل والمرأة لحساب
الملكوت والنسل الخارج منهما. ومن هذا المنطلق لم تعد الزيجة للمتعة، ولا على
مستوى العالم، بل على مستوى ميراث الملكوت والحياة الأبدية. ومضمون سر الزيجة
المسيحي، هو حدوث اتحاد سرِّي بالروح القدس بين الرجل والمرأة على أساس اتحادهما
معاً في جسد المسيح، فهذا هو الذي جمعهما إلى واحد. بمعنى أنه بصلاة الكنيسة وطلب
الروح القدس ليحل ويبارك على اتحادهما يحدث الاتحاد السرِّي بالروح القدس في جسد
المسيح، لأنه لا يمكن أن تحدث وحدة في الكنيسة بدون الروح القدس وبدون جسد المسيح.
فلو علمنا أن الكنيسة تمثِّل جسد المسيح السرِّي يصبح اتحادهما إلى جسد واحد جزءاً
لا يتجزَّأ من كيان الكنيسة التي هي جسد المسيح.

فالآن
ينبغي أن نتصوَّر أن اتحاد الرجل والمرأة بسر الزيجة، بواسطة الكنيسة، ينشئ كياناً
جديداً للرجل والمرأة، كياناً متحداً من “أنا” الرجل، و“أنا” المرأة، هو “أنا”
الزيجة. هذا الكيان الجديد هو مقدَّس أمام الله، يمتلكه الزوج والزوجة والمسيح،
وهو أعلى من كيان الرجل وكيان المرأة منفردين، وهو
مصدر قوتهما وسعادتهما في حياة الزيجة الجديدة، وكما قلنا إنه ليس ملكاً للرجل
وحده ولا
للمرأة وحدها، بل ملكاً لهما معاً باتفاق وتحت وِصاية المسيح
وبركة وقوة الروح القدس صاحب السرِّ!!

وطالما
حافظ عليه كلٌ من الرجل والمرأة، وكرَّماه وقدَّساه، تقدسا به وصار ضمين خلاصهما
معاً وقداستهما معاً ولحساب الملكوت، ولكن لا يدخلان الملكوت بهذه الوحدة
المقدَّسة بسر الزيجة، ولكنها تؤهِّلهما لدخول الملكوت كلٌّ بكماله المسيحي، حيث
هناك تصير الوحدة الكاملة الفردية مع المسيح، لأن في الملكوت لا توجد ثنائيات
زيجية، بل وحدة من الكل في المسيح.

هنا
اتحاد الرجل بالمرأة لتكوين الكيان الزيجي الجديد المتحد بالمسيح والروح القدس،
يدخل فيه المسيح كعنصر أساسي يكمِّل بوجوده عجز الخليقة ويقدِّسها لحساب الآب.
والغاية الكبرى من سر الزيجة وخلق هذا الكيان الجديد من الرجل والمرأة واتحادهما
بالمسيح، هو النسل. فالكنيسة عينها من النسل، لأنه هو وجودها وحياتها، فالنسل
المتحصِّل من الزيجات المقدَّسة، هو الأعضاء التي تكوِّن هيكل الكنيسة. فهمُّ الكنيسة
الأعظم هو النسل الذي إذا تربَّى وعاش تحت مظلَّة الزيجة المقدَّسة المتحدة
بالمسيح والمؤازرة بروح الله، تضمن الكنيسة خلاصه ليكونوا أعضاءً في الملكوت.
وواضح الآن أن سر الزيجة ينتهي بالملكوت للرجل والمرأة والنسل.

فالآن،
كيف نطيق بعد هذا البناء لهيكل الكنيسة ولحساب الملكوت، ونتصوَّر أن يحدث طلاق؟
ألا يكون هذا بمثابة تقطيع الكيان السرِّي الجديد الذي نشأ من اتحاد الرجل والمرأة
بسر الزيجة وحضور الروح القدس، والاتحاد بجسم المسيح؟

ثم ألا يكون هذا هدماً لجسم الكنيسة، وقطعاً للطريق أمام
الرجل والمرأة والنسل المؤدِّي إلى الملكوت؟

لذلك
نعود ونؤكِّد أن سر الزيجة وما ينشأ منه باتحاد الرجل والمرأة ليكونا جسداً واحداً
في المسيح بكيان جديد، هو عنصر بناء الكنيسة. وليس هذا تصوراً أو عقيدة أو
افتراضاً، بل واقع حي يغار عليه المسيح.

فالكنيسة
التي تتهاون في تسهيل الطلاق، إنما تهدم نفسها وتقضي على مستقبل الذين سهَّلت لهم
الطلاق، وهذا يكاد يكون غلقاً لباب الملكوت في وجوههم.

لذلك
إذا قرأنا وسمعنا المسيح يتشدَّد في ذلك، فالأمر يخصّه وهو يغار على جسده وعلى
مستقبل أولاده بالنسبة للملكوت الذي كلَّفه دمه.

أمَّا
تحديد خطية الزنا أنها تفسخ هذا العقد أو هذا السر، فلأن الذي وثَّق السر هو الروح
القدس، ويستحيل أن يجتمع الروح القدس والزنا. فالروح القدس يظل ساهراً على سر
الزيجة يمدُّه بالمشورة والمعونة للتغلُّب على صعاب الحياة، ولكن بمجرَّد أن تحدث
خطية الزنا ينسحب الروح القدس من السر وتنفك الوحدة من تلقاء ذاتها حتى بدون طلاق.
فالطلاق هنا إنما يأتي تحصيل حاصل، فخطية الزنا تُحسب أنها ضربة من الشيطان عنيفة
موجَّهة لقداسة السر وعمل الروح القدس. لذلك أصبحت الكنيسة ملزمة أن تجري الطلاق
بكل حزن وأسى، وكأنها تجرح نفسها وتقطع جسدها بيدها.

ولكن
إن أحس الزوج والزوجة بهذه الخطورة التي تبلغ حد الجريمة في حق الشريك والأولاد
والمسيح والروح القدس، واستطاع المخطئ أن يعترف ويتذلَّل ويطلب الغفران، فالغفران
هنا لا يُمنع على أساس دم المسيح القادر أن يقدِّس بعد نجاسة ويحيي من الموت!!

+
» يا امرأة
أين هم أُولئك المشتكون عليك؟ أما دانكِ أحد؟ فقالت: لا أحد يا سيد. فقال لها
يسوع: ولا أنا أدينكِ، اذهبي ولا تخطئي أيضاً.
«(يو
8: 10و11)

ولكن
بعد هذا نقول: إنه يلزم جداً للزوجين أن يُدركا حقيقة سر الزيجة على هذا الأساس
حتى تتقدَّس علاقتهما معاً بالوعي الروحي لقيمة هذا السر العميق والضارب جذوره في
ملكوت الله.

ومرَّة
أخرى نوعِّي، أن من الاتحاد السرِّي بين الرجل والمرأة في سر الزيجة، ينشأ كيان
زيجي جديد من الاثنين، فائق على كيان كل منهما بمفرده. فذات الرجل، وذات المرأة،
أنشأا باتحادهما ذاتاً جديدة أقوى وأعظم من كل منهما، هي مصدر حبهما الشديد ومصدر
عطفهما على بعض. وهي بمثابة مجال جديد جاذب لكل منهما نحو الآخر، هذا يحسّه من نجح
في تكريم حياته الزوجية، فلو انفتح وعي كل منهما على هذه الحقيقة وعاشا معاً في
ظلها، يصعب جداً، بل ويكون من المستحيل أن يخون أحدهما الآخر.

لذلك
نتمنَّى أن تشدِّد الكنيسة على سمو هذا السر العميق والفائق، لأن في إدراك هذه
الحقائق تتقدَّس الوحدة، وتثمر لحساب الكنيسة والمسيح.

 

المقابلة
الرابعة: وصية الحلفان

33:537 «أَيْضاً
سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَحْنَثْ، بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ
أَقْسَامَكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ، لاَ
بِالسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ اللهِ، وَلاَ بِالأَرْضِ لأَنَّهَا مَوْطِئُ
قَدَمَيْهِ، وَلاَ بِأُورُشَلِيمَ لأَنَّهَا مَدِينَةُ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ.
وَلاَ تَحْلِفْ بِرَأَسِكَ، لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَجْعَلَ شَعْرَةً
وَاحِدَةً بَيْضَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ. بَلْ لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ،
لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَى ذلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ».

الأمر
هنا هو أمر الناموس المتكرِّر وبتأكيد عن عدم النطق أو الحَلِف باسم الله باطلاً
في (خر 7:20، لا 12:19)، وعن الالتزام بإيفاء النذور أمام الله في (عد 2:30، تث
21:23) ولو أنه يقول:
»
لا
تحلف باسم الرب إلهك باطلاً
« » أوفِ للرب أقسامك «
ولكن الجذر الأصلي المنحدر منه هذا التساهل في القَسَم باسم الله هو أن يفتخر
اليهودي بأن له إلهاً عظيماً يعبده:

+
» يفتخر كل
مَنْ يحلف به.
«(مز 11:63)

+
» الرب إلهك
تتقي وإياه تعبد وباسمه تحلف.
«(تث 13:6)

+
» الرب إلهك
تتقي وإياه تعبد وبه تلتصق وباسمه تحلف. هو فخرك.
«(تث
20:10و21)

ثم
تطوَّر الحلف، ليصير حَلِفاً أو قَسَماً عن حق وليس باطلاً، والذي يحلف باطلاً
يُجازى.

ثم
تطوَّر الحلف أو القسم في تعاليم الفرِّيسيين إلى أن مَنْ يحلف ولكن ليس باسم الرب
فلو كان كاذباً أو حانثاً فهو عديم الأهمية. وهكذا هروباً من الالتزام بعدم القسم
باطلاً بدأ الشعب يحلف بالسماء والأرض وأُورشليم والهيكل والمذبح وذهب الهيكل.
وطالما لم يحلف باسم الله إن هو حنث لا يغرَّم. وبدأ الربيون يقسِّمون الحلفان إلى
واجب التنفيذ وإلى جائز التنفيذ وإلى عديم الالتزام:

+
» ويلٌ لكم
أيها القادة العميان القائلون: مَنْ حلف بالهيكل فليس بشيءٍ، ولكن مَنْ حلف بذهب
الهيكل يلتزم! أيها الجُهَّال والعميان، أيما أعظم: ألذهب أم الهيكل الذي يُقدِّس
الذهب؟ ومَنْ حلف بالمذبح فليس بشيء ولكن مَنْ حلف بالقربان الذي عليه يلتزم! أيها
الجهال والعميان أيما أعظم القربان أم المذبح الذي يُقدِّس القربان؟ فإن مَنْ حلف
بالمذبح فقد حلف به وبكل ما عليه، ومَنْ حلف بالهيكل فقد حلف به وبالساكن فيه،
ومَنْ حلف بالسماء فقد حلف بعرش الله والجالس عليه!
«(مت
23: 16
22)

وهنا
تضاربت الأقوال والنظريات والفتاوي وتاه الشعب وراء حكماء إسرائيل.

من
هنا جاء المسيح واجتث هذه الأصول والفروع جميعاً، وأمر أن لا يحلف الإنسان البتة.
لأن ذلك يعرِّض اسم الله للاستهانة، أو يعرِّض الإنسان للعقوبة إذا كان هناك حَنث.
غير أنه قد جاءت الاستثناءات في العهد القديم من قِبَل الله نفسه لأن الله ثبَّت
وعده بقسم:

+ » فلذلك
إذ أراد الله أن يظهر أكثر كثيراً لورثة الموعد عدم تغيير قضائه (1)
توسَّط بقسم
(2) حتى بأمرين [(1)+(2)] عديمَي التغيير
لا يمكن أن الله يكذب فيهما (القضاء والقسم) تكون لنا تعزية قوية نحن الذين
التجأنا لنمسك بالرجاء الموضوع أمامنا.
«(عب 6: 17و18)

+
» أقسم الرب
ولن يندم أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق.
«(مز
4:110)

+
» قطعت عهداً
مع مختاري. حلفت لداود عبدي إلى الدهر أثبِّت نسلك وأبني إلى دور فدور كرسيك.
«(مز 89: 3و4)

وهكذا
حلف الرب لداود حتى يمكن أن نثق في وعده ونُسائله عن هذا الحلف:
» أين مراحمك الأُوَلُ يا
رب التي حلفت بها لداود بأمانتك.
«(مز 49:89)

كذلك
فقد أجاب المسيح على حلفان رئيس الكهنة تكريماً لاسم الله الحي:
» وأمَّا يسوع فكان
ساكتاً فأجاب رئيس الكهنة وقال له: أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا هل أنت
المسيح ابن الله؟ قال له يسوع: أنت قلت.
«(مت
26: 63و64)

من
أجل هذا وضع المسيح الحد الفاصل في المعاملات بين الناس جميعاً أن يكون كلامنا نعم
نعم، لا لا. وأضاف أن مازاد على ذلك يكون من الشرير.

 

المقابلة
الخامسة: الانتقام للنفس بالنفس
  (لو 29:6و30)

 

38:542 «سَمِعْتُمْ
أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ
لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ
فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضاً. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ
ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضاً. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِداً
فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ. مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ
يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ».

إن
قائمة الإساءات المردود عليها بالمِثْل طويلة كما جاءت في سفر الخروج:

+
» وإن حصلت
أذيَّة تُعطى نفساً بنفس وعيناً بعين وسنًّا بسن ويداً بيد ورجلاً برجل وكيًّا بكي
وجرحاً بجرح ورضًّا برض.

«
(خر 23:2125)

ويزيد
على هذه القائمة سفر اللاويين:

+
» كما أحدث
عيباً في الإنسان كذلك يُحدَثُ فيه … ومَنْ قتل إنساناً يُقتل … الغريب يكون
كالوطني. إني أنا الرب إلهكم.
«(لا 20:2422)

كانت
هذه هي أحكام المحكمة المدنية عند القدامى الغريب كالوطني حتى لا يُشجَّع الانتقام
السرِّي. بل كل شيء يُقام بمحكمة ويُحكم فيها بحسب الناموس.

فجاء
المسيح يقول: «لا تقاوموا الشر» وأكملها بالقول الذهبي:
» أحبوا أعداءكم «(مت 44:5، لو 27:6). وهكذا أنهى المسيح على روح الشر جُملةً
وتفصيلاً.

ولمَّا
قال: «مَنْ لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضاً» أعطى النموذج
المُعان بالروح كيف نقابل الشر وكيف نتصرَّف بروح المحبة فكراً وعملاً وضميراً،
ليسود السلام ويُوقف مسلسل الشر مرَّة واحدة.

وقد
شرحها بولس الرسول في رسالة رومية هكذا:
» لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء، بل أعطوا
مكاناً للغضب (غضب الله)، لأنه مكتوب: لي النقمة أنا أجازي يقول الرب. فإن جاع عدوك
فأطعمه. وإن عطش فاسقه … لا يغلبنَّك الشر بل اغلب الشر بالخير.
«(رو 12: 1921)

«ومَنْ أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك
له الرداء أيضاً»:

هنا
الخصام خصام محكمة بدعوى قضائية، فمَنْ أراد أن يخاصمك بحُكْم ليأخذ ثوبك
(الخارجي) فاخلع له الرداء (الداخلي). علماً بأن الثوب الداخلي هو الذي يستر جسم
الفقير أثناء النوم ولا يحل الاستيلاء عليه:
» إن ارتهنت ثوب صاحبك فإلى غروب الشمس ترده له
لأنه وحده غطاؤه. هو ثوبه لجلده، في ماذا
ينام، فيكون إذا صرخ إليَّ أني أسمع لأني رؤوف.
«(خر 22: 26و27)

وهكذا
نحتمل تغريم الجسد ولا نكسر وصية المحبة.

كذلك
تسخير الميل الثاني: هو قبول عنف الطاغي في السخرة ولا نُظهر روح المرارة
والتذمُّر والحقد لمن يطغي ويسخرنا لحسابه. فبالمحبة نسير الميل الثاني ولا نسمح
لروح الغضب أن ينزل إلى حلقنا حتى يصير قلبنا ينبوع حب يفيض الله عليه سلاماً
وراحة.

وإن
سألك سائل مساعدة أو عطية فلا تدَّعي الصمم أو الفقر أو قسوة القلب، أعط بسخاء ولا
تعيِّر لأن بالكيل الذي تكيل به يُكال لك وزيادة. ولكن بروح المحبة تُعطي، وعطاء
المحبة منظور عند الله ومردود ولو بعد أيام كثيرة:
» اليوم كله يترأف ويُقرض ونسله للبركة. «(مز 26:37)

 

المقابلة
السادسة: خلاصة بقية الناموس
  (لو 27:6و28و3236)

 

43:548 «سَمِعْتُمْ
أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ
لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى
مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ
وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي
السَّمَوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ،
وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ. لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ
الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ
أَيْضاً يَفْعَلُونَ ذلِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ،
فَأَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هكَذَا؟
فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ
هُوَ كَامِلٌ».

في
الحقيقة بالبحث لم نجد الجزء الثاني من هذه الوصية
» تبغض عدوك «
فهي من تعليم الربيين الذين يفتون للشعب فتاوي هي تعليم الناس. فالوصية الرسمية في
سفر اللاويين هكذا:
»
لا
تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك، بل تحب قريبك كنفسك. أنا الرب
«(لا 18:19). وبهذه الإضافة انحرف مفهوم الناموس، ففي الآية السابقة
يضع الناموس “المحبة عوض النقمة”، ولكن بتعليم الربيين صار الفصل شديداً بين
القريب الإسرائيلي والعدو الأُممي. وهكذا انطبع في قلوب الشعب محبة اليهودي وبغضة
الأممي، وانحصر معنى القريب بالضرورة في اليهودي فقط. وهكذا بالشرح الخاطئ للناموس
أقام اليهود حائطاً مسدوداً بينهم وبين الأُمم، بل وبين حافظي الناموس والشعب
الملعون
» الذي لا
يعرف الناموس
« عشَّارون وخطاة ومساكين الأرض. وفي هذا الجو الممزَّق بفعل الشرح
الخاطئ للناموس جاء المسيح وبدأ يعمل ويعلِّم ليفيض حب الله بلا مانع على الجميع،
لأن أباكم الذي في السموات هو كامل يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على
الأبرار والظالمين، ويعبر على الحواجز ويتخطَّاها. وهكذا بدا المسيح الذي جاء يعمل
عمل الكامل السماوي وكأنه يُضل الأمة، ولمَّا أراد أن يُعرِّف اليهودي مَنْ هو
قريبه ظهر في مَثَل المسيح أنه السامري أو بالحري كل إنسان يحتاج إلى مساعدة.
وهكذا لزمت المحبة لكل الناس وخاصة الأعداء الذين نصَّبهم الشرح الخاطئ للناموس
الخاطئ أعداءً لليهود وهم ليسوا أعداءً لأحد. فإن صحَّت المساعدة للعدو إن هو وقع
في ضيقة، أو إطعامه إن جاع فقد صحَّت له المحبة، ولكن لا مساعدة العدو الذي في
ضيقة ولا محبته هي ضد الناموس، وفضل الناموس في هذا سابق:
» إذا صادفت ثور عدوك أو حماره شارداً ترده إليه.
إذا رأيت حمار مبغضك واقعاً تحت حمله وعدلت عن حلَّه فلابد أن تَحُلَّ معه
«(خر 23: 4و5). فإن كان هذا هو إحساس الناموس من جهة العدو، فقد جاء
تعقيب المسيح على ذلك بدرجة صاعدة
» أحبوا أعداءكم «وإلاَّ كيف يدعوهم للخلاص؟ أو كيف يخلصوا هم؟! لأن الذي
دعانا للخلاص أحبَّنا أولاً وكنَّا أعداءً!!

ولكن
المسيح أيضاً لا يقف عند محبة الأعداء بل يحرِّك القلب أيضاً بالبركة للاعنين
والصلاة من أجل المسيئين. وهل توجد وسيلة للإنهاء على العداوة والأعداء إلاَّ إما
الحرب أو المحبة؟ والحرب تزيدها لهيباً، أمَّا المحبة فهي كسب بلا خسارة ونصرة بلا
حرب.

«أحبوا أعداءكم»:

يلزم
جداً أن نفرِّق بين محبة العاطفة، ومحبة الإرادة. فمحبة العاطفة هي التي
يحب بها الرجل زوجته، والزوجة رجلها، والأُم ولدها، أمَّا محبة الله فهي تطالب بكل
القلب والنفس والفكر، فهي محبة كاملة كُليَّة بكل الإرادة. فإذا تحقَّقت فعلاً
محبة الله من كل الكيان: قلباً ونفساً وفكراً وإرادةً، تقدَّس كياننا وتقدَّس
قلبنا وتقدَّست نفسنا وتقدَّس فكرنا وتقدَّست إرادتنا، فلمَّا تتقدَّس هذه كلها
يصبح الإنسان أسير محبة الله، تفيض فيه المحبة نحو الآخرين بلا جهد. هذا ينبغي أن
يكون أولاً قبل أن نفكِّر في محبة الأعداء أو المباركة عليهم وعلى الذين يلعنوننا
أو الصلاة من أجل الذين يسيئون إلينا. لأن محبة الأعداء لا تفيض من قلب غاش نجس أو
قلب مكرَّس للدنيا أو المال أو الشهوات. فمحبة الأعداء يلزم أن تفيض، كما تفيض من
قلب الله علينا مجَّاناً إن كنا نتبعه من كل القلب. فمحبة الأعداء هي علامة شاهدة
أننا لا نتبع أنفسنا أو هوى قلوبنا، بل نتبع الذي من عنده تفيض المحبة الحقيقية
التي لا تنظر إلى الوجوه أو المنفعة أو العاطفة. فالإنسان يحب عدوه ولا يُحسُّ أنه
متفضِّل عليه بل يؤدِّي دَيْناً: من الله أخذ ومن الله يعطي.

«باركوا لاعنيكم»:

لكي
نبارك الذي يلعننا يلزم أولاً أن نكون شركاء ذاك الذي قبل اللعنة على الصليب من
أجلنا حاملاً خطايانا في جسده على الخشبة، فإن كنَّا قد قبلنا بفرح دعوة المسيح أن
نحمل صليبنا ونتبعه وقد فهمنا وتحققنا من معنى “صليبنا” الذي نحمله، يمكن أن نبارك
الذي يلعننا. لأن الصليب الذي تحمَّله المسيح هو صليب اللعنة التي تحمَّلها
لأجلنا، فإن كنّا قد آمنا به حقـًّا أنه مات حاملاً خطايانا ولعنتنا، ونحن دخلنا
معه بالحق والصدق في شركة آلامه وصليبه ولعنته وموته ثم قيامته، لأصبحت لنا قوة لا
يدانيها قوة في تحمُّل أخطاء وخطايا ولعنات الناس بفرح حاسبين أنفسنا شركاء الذي
حمل خطايانا ولعنتنا على الصليب وأهدانا قيامته فقبلنا فيه خلقتنا الجديدة بالروح
والحياة الأبدية، وصارت صناعتنا أن نمارس شركتنا هذه معه في ذات آلام الصليب
واللعنة من أجل الآخرين!

إذن،
ليس من فراغ ولا من قوة وتقوى فينا نبارك الذين يلعنوننا، بل من نفس بركة المسيح
التي فاضت علينا ونحن خطاة أعداء. إذن بركتنا للأعداء هي فائض قوة ونعمة الصليب
تنفتح على الذين يحملونه بأمانة وشجاعة لخدمة الآخرين. فكما بوركنا ونحن أعداء
نُبارك أعداءنا.

«أحسنوا إلى مبغضيكم»:

عملية
الإحسان للذين يبغضوننا هي صناعة الذين غلبوا بغضة العالم، عاشوا أولاً تحت ذلها
ثم إذ شكروا ارتفعوا فوق مرارتها وتحصَّنوا ضد آثارها في النفس والقلب، وذهبوا
فرحين كلما كال لهم العالم من سخطه واضطهاده وإذلاله فإزدادوا قوة وسلاماً.
واستطاعوا أن يتعاملوا مع مبغضيهم وكأنهم يمارسون تدريباً لنوال مزيد من النعمة
والقوة والسلام. وكلما زاد المبغضون بغضة لنا زدنا إحساناً عليهم، لأننا لسنا بعد
من خزائن برِّنا نحسن إليهم بل من فيض نعمة الله الذي قال:
» يبغضونني بلا سبب «(مز
19:35)،
» وأمَّا هم
فذهبوا فرحين من أمام المجمع لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه.
«(أع 41:5)

«صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم
ويطردونكم»:

لو
علمنا أن الذين يسيئون إلينا ويطردوننا إنما يعملون دون أن يدروا لخلاصنا لرددنا
جميلهم علينا جميلاً بأن نصلِّي من أجلهم أن يفتح الله لهم سر معرفته ويسهِّل لهم
طريق خلاصهم. لأن المنطق الروحي يقول إنهم عندما يضطهدوننا ويسيئون إلينا
ويطردوننا إنما يعملون ذلك فينا لا لكرههم لنا ولكن لكرههم للمصلوب من أجلنا
ولصليبه الذي بقي عثرة لهم، والعيب عيبنا لأننا لم نكشف لهم سر محبة الصليب
والمصلوب. إذن، فلسنا في الحقيقة هدف كراهيتهم. ثم إذ علمنا وتيقَّنا أن ما يُسيئون
به إلينا وما يؤول إليه طردهم لنا، هو تأمين عبورنا في هذا العالم وهو لمنفعتنا
لأصبحنا مديونين لهم بخلاصنا. فإن صلينا من أجلهم فهم مستحقون لذلك ليزداد خلاصنا بخلاصهم.

«لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في
السموات»:

إن
إعطاء المسيح هذه الوصايا المذهلة لنا هو سبب ثقته المُسْبَقة أننا أولاد الله،
ومن علاقتنا به وبالله أبيه ننال كل نعمة وقوة تؤهلنا للقيام بهذه الوصية. ثم يعود
المسيح بنوع من التعقيب البديع ويقول: إننا إذا أكملنا هذه الوصايا نكون بالفعل
أولاد الآب السماوي. وهكذا من ينبوع الآب السماوي الذي يفيض محبة ونعمة وبركة وقوة
وصلاحاً يعطينا الابن حق الطلب والأخذ معاً بلا مانع، لكي نعود ونصبّ في هذا
الينبوع ثمرات نعمته وحبه وصلاحه. أليس هذا عجباً: من قلبه نأخذ وفي يديه نعطي! لا
ليس في هذا عجب لأن الآب اشتهى أن يكون له أولاد يعطيهم فيفرح بعطيته لهم، ويعود
يتلقَّى منهم تسبيحهم فيبتهج قلبه بهم:

+
» اختارنا فيه
قبل تأسيس العالم، لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة، إذ سبق فعيَّننا للتبني
بيسوع المسيح لنفسه، حسب مسرَّة مشيئته،
لمدح مجد نعمته
التي أنعم بها علينا في
المحبوب.
«(أف
4:1
6)

«لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر
لكم …،

وإن سلَّمتم على إخوتكم فقط فأي فضل
تصنعون …،

فكونوا أنتم كاملين
كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل»:

لينتبه
القارئ جداً، فالمسيح بعد أن أعطى هذه المقدِّمات والوصايا العالية لكي يرفعنا فوق
مستوى آدميتنا المنحطَّة التي زادها المعلِّمون الكذبة انحطاطاً بشرحهم لكلام الله
وناموسه شرحاً أساءوا به إلى الله وإلى علاقتنا به فأسأنا إلى أنفسنا وإلى إخوتنا
وإلى أعدائنا
ولكن ليس الله كذلك ولا نحن؛ نقول بعد أن
استطاع أن يسحب من تحت أرجلنا التعاليم الخاطئة ويوقفنا على صخر القدير لنبني
أنفسنا على صلاح مشيئة الله من جهتنا، يعود هنا ويرفعنا خلسة فوق مستوى آدميتنا
لننسى أن آدم أبونا إلى لحظة ونتطلَّع إلى أبينا السماوي، لنجد أنفسنا وقد وُهبنا
التبني له، فننظر إلى أسفل ونجد الأرض قد تباعدت عنَّا وكدنا نكون مشدودين إليه.
نَمتُّ إلى سماء الفرح أكثر مما نمتُّ إلى أرض الشقاء.

وكأني
بالمسيح يستعلن لنا فجأة جبلتنا الجديدة السماوية، ويقول لنا انظروا هل أنتم بعد
على مستوى العشَّارين والخطاة، أما اخترتكم لأبي السماوي بنين وبنات، فإن كنتم
أبناءَ وبنات الآب السماوي أفليس من صفات أبيكم تأخذون لتعيشوا؟ أو كيف تحبون بعضكم
بعضاً وحسب والآب السماوي يحب الظالمين والأبرار؟ أو تسلِّمون دائماً على بعضكم
البعض وحسب وأبوكم السماوي يعطي شمسه ومطره وسلامه للأرض طرًّا لينتفع بها الأشرار
والأبرار جميعاً. لا لا لا أنتم أبناء أبيكم السماوي الكامل في حبه وفي كل شيء،
وليس أقل من الأب يكون الأولاد‍‍!

محبة
كاملة للجميع من كل القلب وسلام لكل نفس بلا تمييز.



([1])
Curtis, Life of Webester, ii, p. 684.

([2])
Howard La Fay “Where Jesus Walked”, National Geographic, vol. 132 No 6
(Dec. 1967) p. 763.

([3])
Kittel, op. cit., vol. IV, pp. 367 f.

([4]) في الترجمة الحديثة للإنجيل (N.A.V) عن الأصل اليوناني تجيء عبارة «افرحوا وتهلَّلوا» هكذا: افرحوا
جداً وإلى الغاية
exceedingly ويترجمها البعض (نسخة فيليب) Tremendously أي بفرح عظيم وهائل وهذه ترجمة واقعية،
لأن المسيح نفسه أضاف للفرح «وتهلَّلوا» والتهليل هو فرح الهتاف والرقص. والفرح
العظيم الذي يلازمه تهليل وهتاف ورقص يسنده الوعد: «لأن أجركم عظيم
polÚj (التي تعني جداً وللغاية) في السموات».
فليس من فراغ يأمرنا المسيح أمراً أن نفرح جداً للغاية ونهلِّل بهتاف ورقص حينما
نُضطهد لأن أجرنا في السموات هو على هذا القياس عينه: عظيم جداً!! فلو قارنا هذا
الكلام بحالنا حينما نُضطهد فنحزن ونكتئب ونتذمَّر ونشتكي ونلعن ونسخط على
مضطهدينا تبدو خطيتنا فظيعة جداً وسلوكنا رديئاً للغاية كأغبياء وبطيئي القلوب في
الإيمان، بل وغلاظ القلوب ورقابنا صلبة ترفض نعمة الله، أي ترفض أن نكون شركاء
آلامه ودم صليبه من أجل أمور مادية زائلة.

([5])
Tertullian, Antidote for the Scorpion’s Sting: 8, cited by W.
Hendriksen, op. cit., p. 281.

هل تبحث عن  ئلة مسيحية يسوع يصلّي ي

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي