الإصحَاحُ
الثَّالِثُ عَشَرَ

 

الحديث
الثالث الكبير

أمثال
الملكوت

وبدء
القسم الرابع من خمسة أقسام الإنجيل
(53:13)

 

الحديث الثالث الكبير

أمثال
الملكوت
([1])

[1:1358]

 

هذا
الأصحاح ذو قيمة كبيرة لدى المعلِّمين، لأنه خُصِّص لإعطاء دروس قصيرة للغاية لفهم
ملكوت الله. كيف ابتدأ وكيف ينمو، حتى في عصرنا هذا. لذلك لكي نخرج بفائدة كبيرة
من هذا الأصحاح يلزمنا أن نفهم جيداً هدفه والوسيلة التي يستخدمها المسيح.

ويلزمنا
في البداية أن نعرف أننا نجد في هذا الأصحاح حديثاً مسترسلاً عن موضوع واحد، وليست
مجموعة حقائق مجموعة من تعاليم الرب قيلت في مناسبات مختلفة. فهذا يسيء جداً
لفهمنا الكلِّي للموضوع. فالمهم أن نتأكَّد أن هذه الأمثال السبعة قد قيلت مرَّة
واحدة معاً وفي مناسبة واحدة. والدليل على ذلك جاء في آية أخيرة هكذا:
» ولمَّا أكمل يسوع هذه
الأمثال انتقل من هناك

«
(مت 53:13). إذن فهي
تكوِّن موضوعاً واحداً كبيراً في معناها العميق.

أمَّا
الظروف التي واكبت هذه الأمثال فهي أن المسيح واجه فجأة مقاومة عنيفة مركَّزة من
الكتبة والفريسيين، مع أنه لا يزال يريد أن يعطي تلاميذه مزيداً من المعرفة عن
رسالته، وخاصة فيما هو الملكوت والتأهيل إليه وتوضيح شخصيته هو
المسيَّا.
والآن وقد عُرف مكانه في كفرناحوم اضطر أن يأخذ مركباً صغيراً ويجلس فيه على
الشاطئ يعلِّم التلاميذ والشعب الذي يأتي إليه دون أن يزحمه. وطبعاً عين المسيح لم
تفارق مستقبل خدمة تلاميذه وما تحتاجه من معرفة متكاملة.

مختصر الأصحاح الثالث عشر:

1
خروج المسيح وجلوسه في المركب
على الشاطئ وابتداء تعليم المسيح بالأمثال (آية 1
3).

2
في وسط كلام المسيح وهو يتكلَّم عن المثل الأول
مثل الزارع
تقدَّم
تلاميذه بسؤال عن لماذا تكلِّمهم بأمثال؟ (10
15). وحينئذ أجاب المسيح وشرح لهم السبب وسنعود إليه.

3
لخَّص ق. متى أقوال المسيح واستشهد بالأنبياء (34و35).

4
ختام الأمثلة السبعة وتحرُّك المسيح من المكان (53).

والآن لماذا كان المسيح يكلِّمهم
بالأمثال؟

واضح
في الحقيقة أن تلاميذه محقُّون في سؤالهم، لأن المسيح هنا غيَّر فجأة طريقة تعليمه
إلى طريقة الأمثال وهي جديدة عليهم. صحيح أن المسيح تكلَّم سابقاً بأمثال، ولكن
هنا جعلها الطريقة الوحيدة للتعليم! خاصة بالنسبة للجموع، ولم تكن هذه طريقته.

فأجاب المسيح:

«لأنه
قد أُعطي لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السموات وأمَّا لأولئك فلم يُعط»
(11).
علماً بأن التعليم بالأمثال كان لتلاميذه أيضاً. وهنا يلزم الانتباه.

ونسأل
أولاً: ما هو المَثَل؟ والرد هو أن المسيح جعل معلومتين متماثلتين بجوار بعضهما،
وبدأ يقارن بينهما بقصد شرح الواحد الغامض بالآخر الواضح، والواضح أرضي والثاني
سمائي روحي، أو واحد منظور ومعروف جيداً والآخر غير منظور ومطلوب أن نعرفه. فلو
تأمَّلنا السبعة أمثال للملكوت هنا نجد أن المسيح استشهد بأمور بسيطة نراها كل يوم
أمام أعيننا، وانطلق بها ليشرح ملكوت السموات، كمَثَل الزارع وهو يزرع، وامرأة
تخمِّر العجين، وكنز وُجِدَ في حقلٍ، وصيَّاد يُلقي شبكته، وهكذا.

ولكن
لماذا المَثَل؟

هل كما يظن بعض الشُّرَّاح أنه لإخفاء الحقيقة عن الآخرين؟
مع أن الحقيقة هي أن المَثَل يحاول أن يشرح ويوضِّح مفهوم القصد من ملكوت الله،
ليساعد السامع على الفهم وليس ليُخفي عنه الحقيقة. لأن إخفاء الحقيقة ليس من عمل
المسيح على الإطلاق ومهما كان السبب. فالمَثَل في شكله الظاهري كالنظَّارة السوداء
التي نلبسها لكي نرى الشمس، فهي سوداء ليس لإخفاء الشمس بل لإظهارها أكثر.

فالسؤال
الذي وُجِّه للمسيح: لماذا تُكلِّمهم بأمثال؟ كان جوابه هكذا:
» لأنه قد أُعطيَ لكم أن
تعرفوا أسرار ملكوت السموات، وأمَّا لأُولئك فلم يُعطَ. فإن مَنْ لَهُ سيُعطَى
ويُزاد، وأمَّا مَنْ ليس له فالذي عنده سيُؤخذ منه
«(مت
13: 11و12). فالجزء الأول من الإجابة يوحي فعلاً بأن المَثَل هو لإخفاء الحقيقة
عنهم، أمَّا الجزء الثاني فيُفهم منه العكس. فالآن نعود للجزء الأول الذي يقول: «قد
أُعطيَ لكم»
ولهم
»
لَمْ
يُعطَ
« والآن إذا وضعنا الجزئين معاً من الآية تكون: لأنكم قد أُعطيتم
أسرار ملكوت الله لذلك تعطون بالمثل ويُزاد لكم، أمَّا الآخرون فلأنه لم يُعطَ لهم
فلن يفهموا شيئاً، بل ربما الذي فهموه سابقاً يضيع منهم!!

واضح
إذن أنه بسبب عطية المسيح للتلاميذ، إذ أخذوا بالفعل وسيأخذون بالأكثر أسرار ملكوت
الله، فإن كل تعليم يختص بملكوت الله بالأمثال سيُزيد من معرفة السرّ ويوضّح لهم،
ولكن الآخرين لأنهم بسبب ما يخصهم لم يُعطوا أسرار ملكوت الله فالتعليم بالأمثال
لن يزيدهم معرفة، بل كما قال إن الذي عندهم يؤخذ منهم.

أمَّا
ما هو الذي عند التلاميذ الذي جعل المسيح يعطيهم أسرار ملكوت الله، فهو أنهم
أقبلوا على العريس وأحبوه وخرجوا معه، فالذي له العريس فهو العروس، والعروس لها كل
ما للعريس. هذا هو الملكوت وسرّه.

والآخرون
رفضوا العريس
كتبة وفريسيون وكهنة ورؤساء كهنة ورفضوا تعليمه
وخدمته، ورفضوا الذي نادى به وأَعدَّ له الطريق. لذلك أصبح من المستحيل أن يعلِّم
عن أسرار ملكوت الله لهم. فلابد أن يكون التعليم بالآيات التي يفهمها فقط مَنْ
عندهم السر!! “سرِّي لأهل بيتي”.

أمَّا
لماذا إيجابياً لا يعطيهم المسيح؟ الرد لأنهم لا يستطيعون ولن يقبلوا أسرار ملكوت
الله لأنها مخفية في العريس، والعريس مرفوض. شكله محتقر ومرذول، لا هو كاتب ولا
فرِّيسي ولا رابي ولا كاهن بل ولا نبي؟!

الذين
استقبلوه كملك أعطاهم أسرار مملكته، والذين رفضوا أن يملِّكوه عليهم لا يجوز أن
يعرفوا سرّ ملكه، بل كل ما كان قد استؤمنوا
عليه سابقاً كحكماء ورؤساء وكهنة يؤخذ منهم، بل قد
أُخذ!

والآن
هذا هو الواقع: فلو أنهم يتبعونه للمقاومة فهم يسمعونه يقول ولا يفهمون أمثاله:
» من أجل هذا أُكلِّمهم
بأمثال لأنهم مُبصرين لا يُبصرون، وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون. فقد تمَّت فيهم
نبوَّة إشعياء القائلة: تسمعون سمعاً ولا تفهمون، ومُبصرين تُبصرون ولا تنظرون.
لأن قلب هذا الشعب قد غَلُظَ، وآذانهم قد ثَقُلَ سماعها. وغمَّضوا عيونهم، لئلاَّ
يُبصروا بعيونهم، ويسمعوا بآذانهم، ويفهموا بقلوبهم، ويرجعوا فأشفيهم
«(مت 13: 1315 وراجع: إش 6: 9و10).
هذه نبوَّة إشعياء النبي والمسيح يعلن أنها قد تمَّت، ولهذا اختفى عنهم سر ملكوت
الله. فعلى من تقع جريمة رفضهم المسيح والنظر والفهم؟ ومَنْ المسئول عن حرمانهم من
معرفة أسرار ملكوت الله؟

أمَّا
بالمفهوم البسيط جداً فنحن مندهشون حقا كيف أن هؤلاء العلماء والفهماء والحكماء
ورؤساء الكهنة المتمرِّسين في التوراة لم يعودوا يفهمون كلام المسيح أو حتى
يَسمعون له؟ إلى هذا الحد أغمضوا عيونهم عن رؤية جميع الأمراض التي تُشفى أمامهم،
والموتى يقومون في وجودهم وتحت بصرهم وسمعهم؟ وهل في جميع ما قاله المسيح وعلَّم
به لم يكن شيءٌ متوافقاً مع الحق قط؟

ولكن
لا تزال الأمثال في بساطتها والنور الذي فيها مطروحة أمامهم حتى آخر لحظة، فهو لم
يحرمهم من الفهم ولكنهم هم الذين حرموا أنفسهم منه!!

والآن
لكي نتقدَّم إلى شرح الأمثال يلزم أن نراعي المبادئ التي تحكم الشرح الصحيح:

1 بساطة الشرح لأن هذا هو أسلوب المسيح، ولكي
نصيب
الهدف من المثل نتوخَّى البساطة المتناهية.

2
الالتزام بحدود الصورة التي يعطيها المسيح في المَثَل ولا نتوسَّع
فيها أو نتفرَّع.

3
استخدام نفس الاصطلاحات التي اعتمد عليها المسيح في وصف المَثَل.

( أ ) البساطة:

كما
كنَّا نصف معجزات المسيح مع الدخول إلى عمق القصد منها، هكذا في المَثَل، فأبسط ما
استخدمه المسيح يحمل الحقيقة الأبدية، على أن لا يغيب عن أعيننا نوع الجموع
الواقفة تستمع. فالمسيح لم يُلقِ المَثَل في قاعة محاضرات، بل على شاطئ البحيرة،
والفلاَّحون حوله. ونحن مقتنعون تماماً أن المسيح لم يقصد أن يخفي الحقيقة الروحية
بل القصد هو استعلانها. على أن أعلى مستوى للشرح هو الأبسط.

(ب) حدود الصورة:

من
الخطأ أن نكدِّس الشرح لنرتفع به إلى أكثر مما يحدِّد المسيح في الجزء الذي يقصده
من استعلان الملكوت، فلو حاولنا أن نحيط بكل مفهوم الملكوت أو ظروفه بأكثر مما
حدَّد المسيح الصورة له، ضاعت قيمة المَثَل. فالمسيح يأخذ قطاعاً معيَّناً من
الملكوت ويضع له المَثَل المناسب. ولابد أن نلتزم بظروف الصورة التي يعطيها أنها
محدودة بالزمن والجيل الذي يسمع المَثَل، ولا يمتد المسيح بالصورة لأكثر مما يحتمل
الجيل الذي يعيشه السامعون.

( ج ) نفس الاصطلاحات:

لقد
التزم المسيح جداً بالصورة التي أعطاها للمَثَل في الحدود التي حدَّدها، وكان
يقصدها تماماً ولا يمتد بها لأكثر مما هي. فهو يحمِّلها معنى واحداً، ولا يحمِّل
الشرح بأكثر من معنى واحد. فنحن ملتزمون بحدود الأعداد والرموز والألوان التي
استخدمها المسيح، وإلاَّ انفرط منَّا عقد مضمون الكلمة إلى ما ليس الكلمة.

 

حقائق عامة هامة في منهج المسيح التعليمي

 

في
الصور التي يقدِّمها المسيح في هذه الأمثال والتي نذكرها تباعاً: الزارع
البذرة الطيور التربة الشمس الشوك الثمر العدو الحصَّادون
العبيد الحصاد الشجرة الخميرة العجين المرأة الكنز الإنسان التاجر اللؤلؤة الشبكة الشاطئ السمك؛ هذه
الصور ولو أنها تتكرَّر في أمثال مختلفة فسوف نرى أن معناها وقيمتها لا تتغيَّر!!
فكل صورة من هذه الصور تشير إلى حقيقة معيَّنة مهما كان المَثَل.

فمثلاً:
“الزارع” نجده يتكرَّر في ثلاثة أمثال: المَثَل الأول الزارع، والمَثَل
الثاني الزوان، والمَثَل الثالث حبة الخردل. فحينما نأتي إلى الشرح فسوف نرى أن الزارع
في الثلاثة هو “ابن الإنسان”!

وطيور
السماء تتكرَّر في المَثَل الأول وفي مَثَل حبة الخردل
ويحاول
البعض شرحها بأنها رمز الشر في الأول والخير في حبة الخردل وهذا يخلّ بالمعنى.

كذلك
الأرض أو التربة في مثل الزارع والزوان وحبة الخردل والكنز المخفى. وفي هذه
كلها يُعرف أن “الحقل هو العالم” والثمر أو الحصاد ينبع حتماً من نوع البذرة!

والحصَّادون
والعبيد، في مَثَل الزوان والشبكة، هم “الملائكة”، وفي النهاية يظهرون في
الدينونة مع الملك نفسه.

والحصاد
سواء في مَثَل الزوان أو الشبكة فهو نهاية الدهور.

والشوك
قطعاً وفي كل مكان من الإنجيل هو الشر
والشجرة
الممتدَّة هي قوة هذا الدهر.

هكذا
تقف الصور حارسة للمعنى العام لأمثال المسيح.

والآن
إذ نأتي إلى تقسيم الأمثال بمقتضى التعليم الوارد فيها نجد:

1
– الأربعة أمثال الأُولى: المَثَل الأول ثم الثلاثة الذين بعده كلَّم المسيح بها الجموع،
كاشفاً الملكوت من وجهة نظر الإنسان.

2 الأربعة أمثال الثانية: الثلاثة ثم الواحد الذي يليهم كلَّم المسيح بها تلاميذه
كاشفاً الملكوت من وجهة
الله.

على
أن الأربعة الأُولى التي للجموع اختصَّت بحقيقة الملكوت من الخارج.

والأربعة
الثانية التي للتلاميذ اختصَّت بحقيقة سر الملكوت من الداخل.

والآن
من السهل علينا الحكم على مدى صحة ودقة هذه الأمثال على مدى الألفي سنة السالفة،
حيث يظهر دراية المسيح الواضحة جداً في معرفة ظروف ومساوئ وقوة الشر في الزمن الذي
عشناه حتى الآن. علماً بأن هذه الأمثال لا تعطينا تطبيقاً كاملاً بالنسبة للكنيسة،
ولكن للملكوت كما قد تحقَّق حتى الآن في العالم؛ موضِّحاً كيف أن تحقيق اكتمال
الملكوت لا يزال بعيداً في الوقت الحاضر. أمَّا موضوع الكنيسة فلو أنه هام جداً
فيما سينتهي إليه الملكوت باعتبار أنها هي الأداة في الزمن الحاضر وليست الكمال،
إلاَّ أن الله لم يضعها في هذا التخطيط كهدف ولكن كوسيلة.

والآن
يترك المسيح المركب والشاطئ والجموع ويدخل البيت مع تلاميذه ليكمِّل بقية الأمثال
الخاصة بتلاميذه، وهنا وفي الأمثال الأربعة بدأ المسيح يركِّز على الملك نفسه أكثر
من الملكوت، حيث المسيح بلغ فيها أقصى النجاح في كل مَثَل.

هنا
استطاع المسيح أن يركِّز على الملك نفسه أكثر من الملكوت، ويعتمد على ذكاء
التلاميذ أو قدرتهم على فهم سر الملكوت في إدراك ما يطلبُ المسيح أن يعرفوه.

فمَثلاً:
في الكنز الذي وُجِدَ في حقل، يذكر أن ذلك الإنسان اشترى الحقل ليمتلكه، ولكن
الحقل في مفهوم الملكوت هو العالم. فمن ذا له هذه القدرة؟ فمهما حاول أي إنسان أن
يتسع بتفكيره فلن يجد مخرجاً لكي يجعل الإنسان يمتلك العالم. وواضح من العودة إلى
الصور أن الحقل هو العالم، وأن الإنسان والزارع هو ابن الإنسان، هنا كذلك فالذي
باع كل شيء بكل سرور واشترى العالم بدمه هو المسيح، لأنه يعلم أن كنز الملكوت
مدفون فيه وأنه يتحتَّم شراء العالم للوصول إلى الملكوت. فبعد أن حاز على الملكوت
يعطيه مجَّاناً.

أمَّا
اللؤلؤة الكثيرة الثمن التي اشتراها التاجر ليقدِّمها أعظم هدية لأبيه لتُضم إلى
ملكوته فهي الكنيسة. وأخيراً الشبكة التي أُلقيت في البحر، لا يذكر الخدم ولا
الصيَّادين، بل جعلها مبنياً للمجهول، فالذي ألقى الشبكة هو الله نفسه وذلك في
نهاية الدهر.

الفرق الذي يميِّز أمثال التلاميذ عن
أمثال الجموع:

أمَّا
للجموع فقد أعلن ما للملكوت في هذا الدهر، الذي يكون ظاهراً ويمكن ملاحظته. أمَّا
للتلاميذ فبدأ يشرح لهم الحقيقة الداخلية، وبالرغم من الإخفاقات، ولكن من وسط هذه
الإخفاقات سيحصل على جوهرته وعلى لؤلؤته.

المثل الثامن والأخير:

بالرغم
من أن المعروف بالنسبة للأمثال وأصحاح الأمثال (13) أنهم سبعة أمثال، ولكن في
الحقيقة هم ثمانية، لأن الثامن يختص أيضاً بالملكوت، وهو ذو وضع خاص منفرد في
استقلاله وجماله.

وهو
يكشف مدى مسئولية الإنسان الذي تعرَّف على الملكوت في مفهومه القديم والجديد معاً.
وهنا يضع المسيح على الذي تعلَّم وصار له كنزٌ داخليٌّ فيه تعليم الجديد والقديم،
كيف يجلس ويُعلِّم ويُخرج من كنزه جدداً وعُتقاء.

تعليق:

عندما
سأل المسيح في نهاية السبعة أمثال:
» فقال لهم يسوع: أفهمتم هذا كله؟ فقالوا نعم يا سيِّد «أعطاهم المَثَل الثامن
باعتبار أن الفاهمين أصبح عليهم أن يفهِّموا الآخرين. ولكن طبعاً لم يكونوا فاهمين
إلاَّ بما ظهر من الكلام. لأن المسيح كان يعتمد كل الاعتماد على الروح القدس الذي
سيفهِّمهم كل الحق فيما بعد ونحن معهم!!

والدور
الباقي علينا، إن كُنَّا قد فهمنا! لأنه يتوقَّف على فهمنا تكريس حياتنا لخدمة
ملكوته وتحقيقه في حياتنا وحياة مَنْ حولنا. ولكن في الحقيقة نحن لم نفهم إلاَّ ما
وقع في دائرة زماننا، لأنه لم يوضع في ترتيب الله أن يكون فهمنا لهذا التعليم هو
التكميل النهائي لملكوته، لذلك يبقى الملكوت مطلباً نسعى لمعرفته.

ولكن حذار أن يتوهَّم الذين يخدمون ملكوت الملك العظيم أنه
يمكن تكميل الملكوت على يديهم
كما نسمع
من الكارزين الحارِّين بالروح، الذين أعطاهم الله قليلاً قليلاً جداً من قوَّته
لعمل الآيات التي
تتبع المؤمنين حتماً، إذ يقولون إنه يتحتَّم أن نغيِّر
وجه العالم. فالمسيح لم يقل هذا، ولم يضع هذا الشرف على أكتافنا. فلا نحن في وضع
يجعلنا نيأس من تكميل عمل ملكوت الله، ولا نحن في حال يمكِّننا من أن نكمِّله، فهو
مرهون بالدهور. فكل ما وضعه الله والمسيح على أكتافنا هو أن نحمل نيره ونسير نكرز
بالإنجيل للعالم كله، فإن سقط بعض على الأرض الجيدة فهذا سعدنا الأوحد. ولكن ما
حيلتنا في الساقط على الطريق وعلى الصخر وبين الأشواك؟ وهكذا إن تمَّت بشارة
الإنجيل في كل أقطار العالم كان هذا هو البشير الوحيد أن صاحب الملكوت يأتي
ليستعلن ملكوته. حينئذ يكون هو يوم الرب الحقيقي الذي فيه ينقِّي بيدره ويجمع
قمحه. ويستعمل أسلوبه الخاص في الإنهاء الأخير على ملكوت الشر وكل ما يعمل له.
فيختفي الظالم والجبَّار وكل الذين حجزوا الحق بالباطل، وتخرج الكنيسة من أسرها
لتملك مع المسيح وتكمِّل عمله. وتصير الأرض كلها للرب ومسيحه.

الشرح:

[في الأمثال ليس من
الضروري أن نضيِّع الجهد لشرح كل ما
جاء في المَثَل. ولكن
حينما ندرك الفكرة التي من أجلها أُقيم المَثَل لا نعود ننشغل بشيء آخر.]

(القديس
يوحنا ذهبي الفم: عظة 3:64 على إنجيل متى 1:20)

1:133 «فِي
ذلِكَ الْيَوْمِ خَرَجَ يَسُوعُ مِنَ الْبَيْتِ وَجَلَسَ عِنْدَ الْبَحْرِ،
فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ، حَتَّى إِنَّهُ دَخَلَ السَّفِينَةَ
وَجَلَسَ. وَالْجَمْعُ كُلُّهُ وَقَفَ عَلَى الشَّاطِيءِ. فَكَلَّمَهُمْ كَثِيراً
بَأَمْثَالٍ قَائِلاً: هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ».

هنا
أكمل المسيح أربعة أمثال قالها للجمع الصاغي لكلامه واقفاً أو جالساً على الشاطئ،
وهو جالس في السفينة. هكذا اختار المسيح شاطئ البحيرة لكي لا يزحمه الجموع، ولكي
يستطيع أن يتحدَّث إلى أكثر عدد ممكن.

«بأمثال»: ™n
parabola‹j

هنا
يوضِّح ق. متى أن المسيح ابتدأ يغيِّر طريقته في التعليم([2])،
وقد استمر في هذه الطريقة حتى عندما ذهب إلى أُورشليم واستخدمها في الكلام مع رئيس
الكهنة والشعب. وكان الكلام حينئذ موجّهاً لرؤساء الكهنة والكتبة والفريسيِّين:
» وابتدأ يقول لهم
بأمثال:

إنسان غرس كرماً … فماذا يفعل صاحب الكرم. يأتي ويُهلك الكرَّامين ويعطي الكرم
إلى آخرين … فطلبوا أن يمسكوه ولكنهم خافوا من الجمع لأنهم عرفوا أنه قال
المَثَل عليهم.
«(مر 12: 112)

وفي
تعليمه بالأمثال أراد المسيح أن يكمِّل تعليمه الذي بدأه بالعظة على الجبل، فالعظة
اختصَّت بحاضر الزمن وفي السلوك المعروف لأهل الملكوت بالنسبة للعالم. أمَّا
الأمثال فاختص بها المسيح الأمور المستقبلة وما يختص بالسلوك في الأمور الروحية
تجاه الله والملكوت.

وهنا يذكر الإنجيل أنه كلَّمهم كثيراً بأمثال. والذي سنذكره
أربعة أمثال لا يأخذ سردهم في
واقعهم أكثر من عشر دقائق. إذن فلابد أنه
كلَّمهم بأمثال كثيرة واستطرد أيضاً في الأمثال ليصوِّرها لهم حسب إمكانياتهم،
ويوجِّه نظرهم إلى المعنى بقدر ما يمكن أن يتحمَّل فكرهم عن ملكوت الله.

منهج الشرح:

سنقدِّم
المَثَل ونطبِّق شرح المسيح عليه ونُعطي التعليق اللازم:

 

مَثَل
الزارع

[3:1323]                     (مر 1:420)، (لو 8: 415)

 

3:1323
«هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ، وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ
بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ، فَجَاءَتِ الطُّيُورُ وَأَكَلَتْهُ. وَسَقَطَ آخَرُ
عَلَى الأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَةِ، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ،
فَنَبَتَ حَالاً إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ. وَلكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ
الشَّمْسُ احْتَرَقَ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى
الشَّوْكِ، فَطَلَعَ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الأَرْضِ
الْجَيِّدَةِ فَأَعْطَى ثَمَراً، بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ
ثَلاَثِينَ. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ.

فَتَقَدَّمَ
التَّلاَمِيذُ وَقَالُوا لَهُ: لِمَاذَا تُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَالٍ؟ فَأَجَابَ
وَقَالَ لَهُمْ: لأَنهُ قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ
السَّمَوَاتِ، وَأَمَّا لأُولَئِكَ فَلَمْ يُعْطَ. فَإِنَّ مَنْ لَهُ سَيُعْطَى
وَيُزَادُ، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ سَيُؤْخَذُ مِنْهُ. مِنْ
أَجْلِ هذَا أُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَالٍ، لأَنَّهُمْ مُبْصِرِينَ لا يُبْصِرُونَ،
وَسَامِعِينَ لاَ يَسْمَعُونَ وَلاَ يَفْهَمُونَ. فَقَدْ تَمَّتْ فِيهِمْ
نُبُوَّةُ إِشَعْيَاءَ القَائِلَةُ: تَسْمَعُونَ سَمْعاً وَلاَ تَفْهَمُونَ،
وَمُبْصِرِينَ تُبْصِرُونَ وَلاَ تَنْظُرُونَ. لأَنَّ قَلْبَ هذَا الشَّعْبِ قَدْ
غَلُظَ، وَآذَانَهُمْ قَدْ ثَقُلَ سَمَاعُهَا. وَغَمَّضُوا عُيُونَهُمْ، لِئَلاَّ
يُبْصِرُوا بِعُيُونِهِمْ، وَيَسْمَعُوا بِآذَانِهِمْ، وَيَفْهَمُوا
بِقُلُوبِهِمْ، وَيَرْجِعُوا فَأَشْفِيَهُمْ. وَلكِنْ طَوبَى لِعُيُونِكُمْ
لأَنَّهَا تُبْصِرُ، وَلآذَانِكُمْ لأَنَّهَا تَسْمَعُ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ
لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ وَأَبْرَاراً كَثِيرِينَ اشْتَهَوْا أَنْ يَرَوْا مَا
أَنْتُمْ تَرَوْنَ وَلَمْ يَرَوْا، وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ
وَلَمْ يَسْمَعُوا.

فَاسْمَعُوا
أَنْتُمْ مَثَلَ الزَّارِعِ: كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ كَلِمَةَ الْمَلَكُوتِ وَلاَ
يَفْهَمُ، فَيَأْتِي الشِّرِّيرُ وَيَخْطَفُ مَا قَدْ زُرِعَ فِي قَلْبِهِ. هذَا
هُوَ الْمَزْرُوعُ عَلَى الطَّرِيقِ. وَالْمَزْرُوعُ عَلَى الأَمَاكِنِ
الْمُحْجِرَةِ هُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ، وَحَالاً يَقْبَلُهَا بِفَرَحٍ،
وَلكِنْ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي ذَاتِهِ، بَلْ هُوَ إِلَى حِينٍ. فَإِذَا حَدَثَ
ضِيقٌ أَوِ اضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ الْكَلِمَةِ فَحَالاً يَعْثُرُ. وَالْمَزْرُوعُ
بَيْنَ الشَّوْكِ هُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ، وَهَمُّ هذَا الْعَالَمِ
وَغُرُورُ الْغِنَى يَخْنُقَانِ الْكَلِمَةَ فَيَصِيرُ بِلاَ ثَمَرٍ. وَأَمَّا
الْمَزْرُوعُ عَلَى الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَهُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ
وَيَفْهَمُ. وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِثَمَرٍ، فَيَصْنَعُ بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ
سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلاَثِينَ
».

هذا
المَثَل هو واحد من المَثَلَين اللذَيْن شرحهما المسيح، والمسيح وضعه في الأول إذ
حسبه أساسياً في بناء الفكر الذي نوى أن يكمِّله هذا اليوم لهؤلاء الناس، بحيث أن
الذي يفهم هذا المَثَل يفهم الأمثال الأخرى، والذي يفوت عليه ستفوت الأمثال كلها
عليه.

الموقف
الذي يركِّز عليه المسيح هنا هو موقف “الزارع” و“البذرة”
(المزروع) و“الأرض”.
لأن الزارع معه البذور من صنف واحد، أخذ يبذرها بيده وهو سائر وأمامه أصناف من
التربة، وهنا تدخل أصناف التربة في المَثَل لتحتل المكان الأكثر إثارة.

والمُلاحَظ
هنا في شرح المسيح للمَثَل أنه لم يعلِّق على مَنْ هو هذا “الزارع” ولكنه
ينتبه إلى البذور
(المزروع) وعلاقة
البذر بالأرض. قلنا سابقاً إن أصناف الأرض تبدو ذات أهمية، ولكن لمَّا نأتي إلى
شرح المسيح نجده ينتقل من أهمية نوع التربة إلى أهمية نوع البذور، حيث أصنافها
تستغرق أهم جزء من الدرس، مع أن من الطبيعي أن الذي سيتحكَّم في المحصول هو نوع
التربة كما يتراءى لأي شارح يعتمد على المظاهر. هنا اهتمام المسيح بنوع البذرة هام
للغاية وإلاَّ نخرج عن المضمون المقصود من المَثَل.

واضح
أن هذه الخطوة، أي التركيز على البذرة وليس على نوع التربة، أبعدت الفكر عن
النتيجة! خاصة عند الشُّرَّاح المتعجِّلين بالنتيجة، ولكنها ستعطي عمقاً وفهماً
كبيراً. يقول الرب:
»
فاسمعوا
أنتم مَثَل الزارع: كُل مَنْ يسمع كلمة الملكوت ولا يفهم، فيأتي الشرير ويخطف ما
قد زُرع في قلبه. هذا هو المزروع (الذي زُرع) على الطريق. والمزروع (الذي زُرع)
على الأماكن المحجرة
هو الذي يسمع الكلمة، وحالاً يقبلها بفرح. ولكن ليس له
أصلٌ في ذاته، بل هو إلى حين. فإذا حدث ضيقٌ أو اضطهادٌ من أجل الكلمة فحالاً
يعثر. والمزروع بين الشوك هو الذي يسمع الكلمة، وهمُّ هذا العالم وغرور
الغِنَى يخنقان الكلمة فيصير بلا ثمر. وأمَّا المزروع على الأرض الجيدة فهو الذي
يسمع الكلمة ويفهم، وهو الذي يأتي بثمر، فيصنع بعضٌ مئةً وآخر ستين وآخر ثلاثين
«

والآن
يلزم للقارئ أن ينتبه معنا:

يقول
المسيح:
» كل مَنْ
يسمع كلمة الملكوت ولا يفهم … هذا هو
oátÒj ™stin (للمذكَّر العاقل) المزروع على الطريق «

ثم يقول المسيح: » المزروع على الأماكن المحجرة هو oátÒj ™stin (للمذكَّر العاقل) الذي
يسمع الكلمة وحالاً يقبلها
«

ثم
يقول المسيح:
» المزروع بين
الشوك هو
oátÒj
™stin
(للمذكَّر
العاقل) الذي يسمع الكلمة وهمّ العالم …
«

ثم
يقول المسيح:
» المزروع على
الأرض الجيدة هو
oátÒj ™stin (للمذكَّر العاقل) الذي يسمع الكلمة ويفهم … «

إذن
هنا المسيح لا يتعامل مع البذرة بل مع سامع الكلمة مباشرة، أي الإنسان،
وواضح جداً هذا من قوله: «هو الذي يسمع»([3]).
فالبذرة لا تسمع! ولكن لأن الزارع
وسنعرف أنه
هو هو المسيح
إنما يتعامل مع “المسيحي” الفاهم الذي
يعمل بما يفهم حسب ظروفه.

وهنا
نبدأ نتجه إلى شرح جديد غير الذي قدَّمناه في إنجيل ق. مرقس، ولكن يتقابل معه في
النهاية.

وهذا يتضح أكثر في المَثَل الثاني
مَثَل الزوان حيث يصف
المسيح البذور الجيدة أنها بوضوح «هؤلاء هم بنو الملكوت». والأصل في ذلك أن
الزارع الأعظم هو نفسه “الكلمة” المشخَّصة، فهو حينما يلقي الكلمة في أُذن السامع
ويقبلها يُعتبر شخصاً تابعاً للكلمة ابناً للملكوت.

وهذا
واضح من طبيعة الكنيسة، فالكنيسة ليست جماعة أشخاص، بل الكنيسة هي تكوين ملكوتي، الأشخاص
فيها أبناء للملكوت تقبَّلوا “الكلمة” من الكلمة، فصاروا أشخاصاً تابعين للكلمة أي
الملكوت، بعضهم غير مثمر للملكوت والبعض مثمر قليلاً والبعض مثمر ثمراً كثيراً للملكوت. هؤلاء يكمِّلون عمل الملكوت حتى يكمل
بالنهاية. هؤلاء في مَثَل الزارع هم الذين
زُرعوا.

ولكن
لئلاَّ يختلط الأمر على القارئ نعود ونقول: إن الكلمة التي سمعوها ليست الكلمة
المكتوبة بل الكلمة الوالدة، كلمة حيَّة من “الكلمة اللوغُس”:
» مولودين ثانية لا من
زرع يفنى بل مما لا يفنى، بكلمة الله الحيَّة الباقية إلى الأبد
«(1بط 23:1). بمعنى أنهم لمَّا سمعوا المسيح قبلوه كوالد، كخالق
أرواح، وهم كأبناء بالروح مولودين من فوق، مولودين للملكوت.

لأن
المسيح هنا كزارع، هو في وضعه “الكلمة” الذي صار جسداً، ولكنه لم يمت بعد حتى نفهم
التبعية له بالإيمان بالموت والقيامة والاتحاد. هنا المسيح يتكلَّم من كيانه
ككلمة، فالذي يسمعه يسمع منه “الكلمة” فينفتح على الملكوت ويولد له. ينفتح على
الحياة الأبدية نفسها ويولد لها:
» مَنْ يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا
يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة
«(يو
24:5). هذا قبل الصليب، فالصليب والدم المسفوك والموت والقيامة لم تعطِ
المسيح صفات جديدة أو حوَّلته إلى مخلِّص؛ بل
هو هو صاحب الملكوت. فالمسيح بحد ذاته وقَبْل الصليب زارع
أبناء للملكوت، يثمرون لحساب الملكوت. كل مَنْ يسمعه
يولد له، وعلى قدر سماعه
وانتمائه للمسيح يأتي بثماره. وهذا واضح جداً من
اختياره لتلاميذه الذين هم باكورة “زرع” الملكوت.

لهذا فإن مَثَل “خرج الزارع ليزرع” هو مَثَل زراعة الأبناء
للملكوت ليصيروا بدورهم زارعي ملكوت. ونعود نفرِّق بين هذا المَثَل الذي يُحسب
كزراعة أشخاص للملكوت، وبين القول بزراعة كلمة الإنجيل في القلب لتثمر
للمسيح والحياة الأبدية. لأن هناك فرقاً بين مؤسِّس للملكوت وبين ابن للملكوت، بين
رسول أو كارز للملكوت وبين إنسان يقبل الإنجيل، بين مؤسِّس للكنيسة وعضو فيها، بين
بولس الرسول والذين خلصوا بسماع بولس الرسول. أي أن هناك أشخاصاً يزرعهم المسيح
(الزارع) ليكونوا على مستوى الرسل والقديسين الكارزين والوعَّاظ الكبار المشهورين،
الذين أسَّسوا كنائس وخلَّصوا ألوفاً وملايين، ولا يزال إلى الآن يدعوهم وينمِّيهم
ليكونوا أعمدة إيمان يعملون لحساب الملكوت. مثل هؤلاء هم القصد الأساسي من مَثَل
الزارع. ومن الواضح أن مثل هؤلاء المختارين الكبار كان بعضهم له قدرة إثمار بمقدار
مائة وآخر ستين وآخر ثلاثين، ولكن إثمارهم كله هو لحساب الملكوت. فالمَثَل ليس
لمجرَّد إنسان يسمع كلمة الإنجيل ليخلص ويأتي بثمر، بل المقصود زرع إنسان
بيد الزارع الأعظم المسيح ليعمل خادماً للملكوت بنوع تخصُّصي ويأتي بحصاد.

فلو
قلنا إن ق. بولس يعلِّم بالكلمة والكلمة تثمر في قلوب سامعيها، فكلمة ق. بولس تصح
أن تكون زرع الكلمة، ولكن ق. بولس نفسه يُحسب زارع الملكوت الذي سبق أن زرعه
المسيح. وق. بولس بالتالي زرع تيموثاوس الذي يُحسب بدوره زارع ملكوت وهكذا.
فالمسيح في تلك الأيام
أيام الرسل كان يزرع
أشخاصاً للملكوت، وقد زرع الكثيرين ولا يزال.

وقيمة
هذا الشرح تتضح أكثر إذا تأمَّلنا المَثَل في وضعه التقليدي العادي بشرحه القديم،
نجد أن التربة هي المسئولة عن البذور ونموّها، وكأن الإنسان غير مسئول ولكن
المسئولية تقع على المجتمع والظروف التي يحيا فيها الإنسان.

ولكن
في الشرح هنا الذي يقول إن الزرع هو الإنسان نفسه وليس البذرة يصبح “الطريق” داخل
قلب الإنسان أي من طبيعته، وكذلك الأرض المحجرة في قلبه أي من طبيعته، وأيضاً
الشوك هو مزروع سابقاً في أعماقه أي من طبيعته. هنا الشخص يصبح مسئولاً عن نفسه
وليس الأرض من تحته أو الظروف المحيطة. هذا يعطي قيمة عليا لمَثَل الزارع ويُنشئ
علينا مسئولية.

ومن
هنا نتقدَّم بالشرح على أساس كلام المسيح بالحرف الواحد:

1
فالمزروع
على الطريق:
هو » كل مَنْ يسمع كلمة الملكوت ولا يفهم فيأتي الشرير ويخطف ما
قد زُرع في قلبه

«

2 والمزروع في الأماكن المحجرة:
هو
» الذي يسمع الكلمة وحالاً يقبلها بفرح،
ولكن ليس له أصل في ذاته بل هو إلى حين، فإذا حدث ضيق أو اضطهاد من أجل
الكلمة فحالاً يعثر
«

3
والمزروع
بين الشوك:

هو
» الذي يسمع
الكلمة وهمّ هذا العالم وغرور الغِنَى يخنقان الكلمة فيصير بلا ثمر
«

4
وأمَّا
المزروع على الأرض الجيِّدة:
فهو » الذي يسمع الكلمة ويفهم وهو الذي يأتي
بثمر، فيصنع بعض مئة وآخر ستين وآخر ثلاثين
«

وهكذا
ينتهي المسيح أن “الجيل” سيخضع للكلمة أو لا يخضع بقدر حالنا الذي نحن فيه في
داخلنا وليس من الخارج. وبناءً عليه يكون تأثير الإنسان على هذا الجيل بالنسبة
للملكوت سلباً أو إيجاباً إنما يعتمد كليةً على كلمة الملكوت، إن كانت في قلب
استجاب لها أم لم يستجب فالمسئولية على الإنسان 100%.

والآن بنظرة متسعة للمثل نجد أن الزارع واحد وهو المسيح،
والتربة واحدة وهي عالم هذا الدهر، والبذرة واحدة وهي “كلمة الملكوت”. ولكن
“المزروع” أي الإنسان له أربع حالات وهي داخل قلب الإنسان وليس خارجه: قلب شارع
وقلب حجر وقلب شوك وقلب صالح، وكلها داخل “الإنسان” الذي يُستهدف
لكلمة الملكوت. ولذلك عندنا في المَثَل أربع نتائج والاختلاف
ناتج من
اختلاف حالة “المزروع”.

 

أي داخل الإنسان السامع “للكلمة”:


فالمزروع على الطريق ديس بالأرجل الشرسة لهذا الدهر ولا ثمر على الإطلاق.


والمزروع بلا جذر اقتلعه الاضطهاد في هذا الدهر.


والمزروع في الشوك اهتمام الدهر وغِناه خنقه ولا ثمر.


والمزروع في الأرض الطيبة، فهمٌ وخضوع وطاعة تلقائية شخصية يستجيب لها هذا الدهر
صاغراً وحصاد وفير.

 

وهذه
الصور كلها هي داخل الإنسان السامع لكلمة الملكوت. فأربع حالات التربة هي أربع
حالات قلب الإنسان.

هنا
ابن الإنسان هو الذي أُعطي سلطاناً على الأرض أن يغفر الخطايا، ويقيم من الأموات، ويزرع
أُناساً يعملون لحساب الملكوت.
فهذا المَثَل ليس له شيء بالنسبة للكنيسة التي
سيأتي مَثلها خصيصاً، كما أنه لا يختص بالتغيير الداخلي للإنسان الفرد على أساس
الموت والقيامة وعمل الروح القدس. فالموضوع يختص بعمل المسيَّا في الأجيال
بالنسبة لبناء الملكوت.
أمَّا الخلاص والفداء وتغيير الإنسان الفرد وبناء جسد
الكنيسة فكل هذا عمل الصليب. أمَّا الاختصاص هنا فهو ملكوت الله: كيف وبمَنْ يُبنى
عبر الأجيال، الذي على ضوئه سينتهي العالم. كيف يتحقَّق؟ وعلى يد مَنْ؟ وكيف يُدفع
دفعاً وسط تيارات العالم وبالرغم عنه؟ فالمَثَل يختص بالذي يبني الملكوت القائم
على مُثُلِهِ العُليا، والذي يؤثِّر في الأجيال لتكميل عمله بزراعة أشخاص لهم
المعيار الفعَّال والحي للملكوت
طبعاً من المفديين
والمخلَّصين الذين حمَّلهم المسيح “كلمة” الملكوت كبذرة حيَّة تعمل فيهم وبهم.
هؤلاء هم الذين يبنون الكنيسة لحساب الملكوت، وينشرون الحق والإيمان وبر الخلاص.
هم ركائز وأعمدة يتَّكئ عليهم الملكوت في عبوره عبر العالم والزمن. ويقدِّمون
حصيدهم مائة وستين وثلاثين بقدر ما تصنَّفتْ قدراتهم الروحية على الخلاص.

والمسيح
بعظته هذه وبهذا المَثَل، مَثَل الزارع
وقبل
الصليب وسفك الدم والكفَّارة والخلاص المجَّاني
بدأ يعمل
لحساب الملكوت لتحقيقه وسط الجيل على الأرض: يزرع الذين يسمعون كلمة الملكوت
ويقبلونها ويخضعون لقوتها وعملها، وبهم يؤثِّر في الجيل، وكل جيل، لقيام ونمو
ودوام الملكوت من يد ليد عبر حياتهم التي يستمدونها من الملكوت من فوق؛ ليس بوعظهم
فقط ولكن بقيادتهم ومُثُلِهِم الملكوتية التي يعيشون بها وعليها، وقدراتهم
الموهوبة لهم لحساب الملكوت. فيزرعون بدورهم وبكلمة الملكوت التي تكون قد أخصبت
فيهم. وهم إن وعظوا فلكي يجذبوا إليهم أيضاً المعيَّنين من الله لحمل رسالة
الملكوت بدورهم من بين ألوف الذين يخلصون.

فباني
الملكوت شكل، والذين يعيشون وينتفعون بالكنيسة شكل آخر. الأول يبني أساسها ويحمل
همّها والثاني يرضع لبنها. الأول يبني الكنيسة وبها يُبنى الملكوت، والثاني يعيش
فيها ويحيا على تعليمها ويستظل بملكوتها. باني الملكوت هو الذي يأتي للملكوت بثمار
مئة وستين وثلاثين، أمَّا الذي يعيش في الكنيسة ويحيا تحت ظل الملكوت، فإنه يأكل
من ثمرها ويخدم أقداسها. ولكن من هؤلاء الذين يعيشون في الكنيسة ويأكلون من ثمرها
تخرج بذار للملكوت يختارهم المسيح ويزرعهم بيديه. وهؤلاء يحملون الإنجيل ليكرزوا
» قد اقترب ملكوت الله « يجوبون الأرض، يبنون كنائس ويزرعون أشخاصاً تحمل ما يحملون. وجيل
يسلِّم جيلاً، وحصاد يخرج ليبني حصاداً قادماً. ولا غنى إطلاقاً عن بُناة
الملكوت،
هؤلاء إن ضعفوا ضعفت الكنيسة ودخلت المحاق، وإن تقووا وازدهروا
ازدهرت الكنيسة بحصيدهم واقتراب الملكوت. بناة الملكوت هم بناة الأجيال،
فعلى أكتاف هؤلاء العظماء قمنا وعلى أكتاف من سيرسلهم المسيح تترقب الأجيال
القادمة حياتها بقلق مريع …

وهكذا
أيها القارئ العزيز لولا أن الأمر يخص حياتنا ما أسهبنا في الشرح، بل ولولا أن
الأمر يخص حياة الجيل الآتي بعدنا ما أفضنا في التوضيح.

ثم
انظر معي إلى عمق المَثَل الذي جعله المسيح دعامة علم الملكوت ومعرفته ونموِّه عبر
الدهور، ونصيبنا فيه وعملنا لحسابه.

 

مَثَل
الزوان

[24:1330،3643]         يذكره القديس متى وحده

 

لفهم
هذا المَثَل نتبع الخطوات التي سرنا فيها في المَثَل الأول، متمسِّكين بمعاني
الصور: حيث الزارع هو المسيح، والزرع الجيد هو بنو الملكوت، والزرع المدسوس
“الزوان” هو بنو العدو، والحقل هو العالم، والحصَّادون هم الملائكة.

24:13و25 «قَدَّمَ
لَهُمْ مَثَلاً آخَرَ قَائِلاً: يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ إِنْسَاناً
زَرَعَ زَرْعاً جَيِّداً فِي حَقْلِهِ. وَفِيمَا النَّاسُ نِيَامٌ جَاءَ عَدُوُّهُ
وَزَرَعَ زَوَاناً فِي وَسْطِ الْحِنْطَةِ وَمَضَى».

عندنا
الآن نوعان من الزرع: زرع زرعه صاحب الحقل وهو جيِّد من حنطة. والآخر زرعه عدو من
نبات يشبه الحنطة ولكنه ضار لا يؤكل. انتهز العدو الليل وزرعه خلسة. الآن مركز
العدو معروف، فهو متعدٍّ، إذ انتهز فرصة الليل والناس نيام وصنع ضرراً بالحقل
وخسارة. إنه فعل عداوة. ولكن كانت نصيحة صاحب الحقل حكمة.

26:1330 «فَلَمَّا
طَلَعَ النَّبَاتُ وَصَنَعَ ثَمَراً، حِينَئِذٍ ظَهَرَ الزَّوَانُ أَيْضاً.
فَجَاءَ عَبِيدُ رَبِّ الْبَيْتِ وَقَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ، أَلَيْسَ زَرْعاً
جَيِّداً زَرَعْتَ فِي حَقْلِكَ؟ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ زَوَانٌ؟ فَقَالَ لَهُمْ:
إِنْسَانٌ عَدُوٌّ فَعَلَ هذَا. فَقَالَ لَهُ الْعَبِيدُ: أَتُرِيدُ أَنْ نَذْهَبَ
وَنَجْمَعَهُ؟ فَقَالَ: لاَ! لِئَلاَّ تَقْلَعُوا الْحِنْطَةَ مَعَ الزَّوَانِ
وَأَنْتُمْ تَجْمَعُونَهُ. دَعُوهُمَا يَنْمِيَانِ كِلاَهُمَا مَعاً إِلَى
الْحَصَادِ، وَفِي وَقْتِ الْحَصَادِ أَقُولُ لِلْحَصَّادِينَ: اجْمَعُوا أَوَّلاً
الزَّوَانَ وَاحْزِمُوهُ حُزَماً لِيُحْرَقَ، وَأَمَّا الْحِنْطَةَ فَاجْمَعُوهَا
إِلَى مَخْزَنِي».

قول
حكيم، لأن البدء باقتلاع الزوان من وسط الحنطة سيؤذي الحنطة، وكذلك إلى أن يكمل
النضج صعب التفريق بين الحنطة والزوان. ففي النهاية يُعرف الزوان جيداً ويُحزم
ويُحرق. والقمح يُجمع إلى مخزن القمح.

واضح
هنا بساطة المسيح مع الحكمة.

والآن
أمامنا ثلاث مراحل: الحقل كما هو، ثم الزرع الأول ثم الثاني. والآن إلى شرح
المسيح:

36:1343 «حِينَئِذٍ
صَرَفَ يَسُوعُ الْجُمُوعَ وَجَاءَ إِلَى الْبَيْتِ. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ
تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ: فَسِّرْ لَنَا مَثَلَ زَوَانِ الْحَقْلِ. فَأَجَابَ
وَقَالَ لَهُمْ: الزَّارِعُ الزَّرْعَ الْجَيِّدَ هُوَ ابْنُ الإِنْسَانِ.
وَالْحَقْلُ هُوَ الْعَالَمُ. وَالزَّرْعُ الْجَيِّدُ هُوَ بَنُو الْمَلَكُوتِ.
وَالزَّوَانُ هُوَ بَنُو الشِّرِّيرِ. وَالْعَدُوُّ الَّذِي زَرَعَهُ هُوَ
إِبْلِيسُ. وَالْحَصَادُ هُوَ انْقِضَاءُ الْعَالَمِ. وَالْحَصَّادُونَ هُمُ
الْمَلاَئِكَةُ. فَكَمَا يُجْمَعُ الزَّوَانُ وَيُحْرَقُ بِالنَّارِ، هكَذَا
يَكُونُ فِي انْقِضَاءِ هذَا الْعَالَمِ: يُرْسِلُ ابْنُ الإِنْسَانِ
مَلاَئِكَتَهُ فَيَجْمَعُونَ مِنْ مَلَكُوتِهِ جَمِيعَ الْمَعَاثِرِ وَفَاعِلِي
الإِثْمِ، وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ النَّارِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ
وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ. حِينَئِذٍ يُضِيءُ الأَبْرَارُ كَالشَّمْسِ فِي مَلَكُوتِ
أَبِيهِمْ. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ».

هنا
يلزمنا أن نوضِّح أن “العالم” الذي رُمز إليه ب“الحقل” ليس هو العالم الذي ذكره في
عبارة “انقضاء العالم”، فالأخير هو نفس انقضاء الدهر، لأن الأُولى جاءت
kÒsmoj أمَّا الثانية suntšleia
a„înoj
فهي انقضاء الدهر. فكلمة
العالم الأُولى تعني هيئة هذا العالم بما فيها الأرض والساكنين فيها وكل الخليقة.

هنا
فلينتبه القارئ جداً، لأن كثيراً من الآباء والعلماء الأوائل قالوا: إن
“الحقل” هو
الكنيسة، وأمَّا الزوان فهم غير المستحقين فيها بأفكارهم الخاطئة. ولكن المسيح كان
واضحاً في قوله إن
الحقل هو العالم، حيث المسيح هو صاحبه
بالتالي.
“فالخليقة
كلها” هي حقله بكل ما فيها من آلام وأوجاع وهموم خلقها الإنسان في بُعده عن الله.
هنا المسيح جاء ليزرع في هذا “الحقل”، أي حقل العالم المهموم والملئ بالأوجاع، جاء
ليزرع فيه الإنسانَ الجيد (الحنطة)، إنسان الملكوت. والملكوت حتماً سينتظر إلى أن
يكمل نمو الحنطة، أي بني الملكوت، أي بعد أن ينضجوا نضجاً يكشف عن كمال سمات
الملكوت فيهم، حتى إذا جاء الحصاد يُعرف بنو الملكوت ويُجمعون وحدهم. وهكذا بزراعة
بني الملكوت وسط العالم المتألِّم فإنهم يشفون ويضمِّدون جراحه، لأن بني الملكوت
لهم سمات الطبيب أبيهم، ولهم ما له من رحمة تمسح الدموع عن الحزانى وتخفِّف آلام
المتألمين.

لم
يزرع المسيح بني الملكوت للحصاد، كلاَّ؛ بل زرعهم ليملأوا الأرض محبة ورحمة
وحناناً، رحمة بالعالم الموجوع وهذا ثمرهم. لأن وظيفة الملكوت الأُولى والعظمى هي
تحويل العالم ورفعه من حالة الانحطاط إلى أقرب ما يمكن من كمال الله الذي خلقه.
صحيح أنه عمل يأتي وئيداً جداً وبتأنٍّ، ولكن على طول المدى يأتي بالنتائج التي لا
ينظرها إنسان وهو وسط العالم. فإن كان ابن الإنسان هو صاحب الحقل أي هذا العالم،
فيتحتَّم أن أبناءه أولاد المسيح يجذبون العالم نحو صاحبه ويمتدُّون به ليدخل تحت
مظلته. فإن كنَّا أبناء الملكوت حقا فنحن حتماً مسئولون عن الحقل الذي زُرعنا فيه،
أي عن العالم الذي سينتهي حتماً باكتمال الملكوت. فإن كانت رحلتنا في العالم هي
بالأساس تؤهِّلنا للملكوت، فحتماً أصبح من صميم رحلتنا في العالم أن نجعل العالم
يتأهَّل للملكوت الذي ينتهي إليه، واضعين نصب أعيننا أننا نتبع ابن الإنسان الذي
يتبعه العالم أيضاً. فالعالم يمكن أن يكون عدواً لنا لو كنَّا نعيش ونتأهَّل
للملكوت بعيداً عنه، أي خارجه في كوكب آخر مثلاً، ولكن العالم يسير بنا رضينا أم
لم نرضَ، ورضي هو أو لم يرضَ، في مسيرة واحدة نحو النهاية التي هي اكتمال ملكوت
الله. فنحن فيه وبه نتأهَّل لملكوت الله، مع
كل بني آدم فيه، مع كل الأُمم القريبة والبعيدة، بل مع كل وحوشه
ولصوصه.

«العدو الذي صنع هذا»:

لم
يكن له أي حق في دخول الحقل
العالم لأنه ليس
ملكه بعد أن أسقطه المسيح من رتبته وربطه. فهو متعدٍّ و(بلطجي). دخل خلسة ورمى
بذوره لكي إذا نمت يعمل بها لتخريب الحقل
العالم هذا لأنه
حاقد على المسيح. فالمسيح سمَّاه “عدوه” أي عدو صاحب الحقل. كان أصلاً رئيساً لهذا
العالم وأُسقط وانحط إلى التراب. فهو يحارب المسيح بمحاربته ضد أبناء المسيح في
العالم، ويستخدم العالم لأنه يتقن فنونه، ضد كل مَنْ يقف أمامه. ولكن أبناء
الملكوت أصبحوا يعملون لصاحب الحقل الحقيقي. وقد أخذوا السلطان أن يقاوموا العدو
ويخرجوه عنوة من البيوت البشرية التي عشَّش فيها. وكان هذا العمل جزءاً لا يتجزَّأ
من إعلان ملكوت الله وسيادته وبدايته أيضاً:
» قد اقترب منكم ملكوت الله « «ولكن إن كنت أنا بروح الله أُخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله» (مت 28:12). إذن، فعمل أبناء الملكوت فضح أعمال الشيطان، وإظهار
أبنائه الأعداء المختفين وسط الحنطة. والمطلوب معرفتهم لا للمقاومة بل للحذر
والبُعد.

ولكن
للمسيح قصداً أن لا يخلع الزوان من مكانه قبل الأوان لئلاَّ يؤذي الحنطة، فحكمة
المسيح ترى أنه يلزم أن ينميا معاً، الصالح والطالح تحت شمس واحدة. ولكن ليس كل
أبناء المسيح أبناء الملكوت ولا كل الذين ليسوا أبناء المسيح أبناء العدو. فسمة أهل
العالم شيء وسمة أولاد العدو شيء آخر. لذلك فأبناء الملكوت يعيشون وسط أبناء
العالم لا يُفرَّقون من بين الناس، لأن التفرقة الوحيدة ستكون في نهاية الدهور:
» دعوهما ينميان كلاهما
معاً إلى الحصاد

«
لأن لهم تقريباً الشكل
الواحد حسب الظاهر، ولكن
» من ثمارهم تعرفونهم «(مت
16:7). فالمفروض في حكمة ابن الإنسان أن بني الملكوت يكونون نوراً للعالم وملحاً
للأرض، يضيئون
» كالشمس في
ملكوت أبيهم
« ولكن لابد من العثرات ولابد من الذين تأتي بواسطتهم العثرات، فهذا
هو الثمر المر لبني العدو. ولكن العثرات لا تُقعد بني الملكوت عن سعيهم لزرع
الحنطة في كل شبر من العالم.

ولكن
العدو بدأ مبكِّراً من أيام المسيح، وله أتباع كتبة وفريسيُّون بل ورؤساء كهنة، في
كل عصر. والملاحظ أن وسيلة العدو هي المحاكاة في كل شيء، كالزوان والحنطة. فالرسل
كتبوا أناجيل، فهو أيضاً كتب أناجيله المزيَّفة، وامتد أيام الآباء الرسوليين وصنع
عقائد لإيمان كاذب، وفكرٍ لاهوتيٍّ مغشوش ليفسد بني الملكوت عن الإيمان الصحيح،
وأنبياءَ كذبة ورسلاً كذبة، وأُناساً ووعَّاظاً وخُدَّاماً كذبة ومبشرين كذبة،
ومنادين بقرب الملكوت كذبة، ومسحاء كذبة وعلم روح كاذب. كل هذا وأبناء الملكوت يعيشون
وينمون ويعملون
»
مبنيين
على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية.
«(أف
20:2)

وهكذا
سار المَثَل باتزان عجيب:
» دعوهما ينميان معاً «
الملكوت يزداد رسوخاً وتأسيساً والشر يزداد عتواً وشراسة، ولا مفر. فحقل الحنطة
لابد أن يحتوي الزوان شكلاً بشكل. ولكن لابد من النهاية، ولابد أن ينجلي الدهر
الآتي عن ملكوت الله في صورته البهيَّة حيث لا زوان.

 

مَثَلا حبَّة الخردل والخميرة

[31:1333]                   (مر
4: 3032)، (لو 13: 1821)

 

31:1332 «قَدَّمَ
لَهُمْ مَثَلاً آخَرَ قَائِلاً: يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ حَبَّةَ خَرْدَلٍ
أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَزَرَعَهَا فِي حَقْلِهِ، وَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ
الْبُذُورِ. وَلكِنْ مَتَى نَمَتْ فَهِيَ أَكْبَرُ الْبُقُولِ، وَتَصِيرُ
شَجَرَةً، حَتَّى إِنَّ طُيُورَ السَّمَاءِ تَأْتِي وَتَتَآوَى فِي أَغْصَانِهَا».

في
هذين المَثَلين أراد المسيح أن يعطي للجموع صورة قريبة للغاية أمام أعينهم: كيف
ينمو ملكوت الله من الخارج ثم من الداخل. فأعطاهم مَثَل حبة الخردل وهي التي
يتعامل معها كل فلاح في حقله. فلم يعطهم مثلاً من بذرة أخرى أصغر وأكبر انطباقاً
في شكل شجرتها وحجمها للملكوت مثل الأَرز أو البلوط أو التوت، إذ كنَّا ننتظر أن
تكون مثل هذه الشجرة رمزاً للملكوت. ولكنه اختار حبة الخردل التي يتعامل معها
الفلاح، وشجرتها الصغيرة التي يراها أمامه كل يوم. ولكن سر اختيار المسيح لهذه
الشجرة الصغيرة بالذات هو نموها السريع الظاهري أحياناً، بحيث يمكن أن يراقبها
الفلاح كل يوم وهي تنمو أمامه وتكبر، حتى تبلغ طولها الكامل الذي قد يصل أحياناً
بحسب خبراء كثيرين الثلاثة أمتار([4]).
وأكد العالم تومسون في كتابه أنه رأى مجموعة من شجيرات الخردل يمكن للإنسان أن
يتسلَّق فروعها. فلو قسَّمنا عمر الشجرة الذي لا يزيد عن أربعة أشهر على طولها
الذي يمكن أن يكون 300 سم نجد أن نموها اليومي يبلغ حوالي 3 سم مما يمكن أن تلحظه
عين الفلاح بسهولة. وهكذا استطاع المسيح أن يطبع على عقلية السامعين معنى وكيفية
نمو الملكوت وحده دون عوامل بشرية، كبذرة الخردل التي يستيقظ الفلاح كل يوم فيجد
أنها استطالت ونمت بوضوح. وهذا درس لا يُستهان به لنفوس البسطاء في كيفية نمو
ملكوت السموات بين الناس من الخارج، أي بين الناس والمدن والبلاد.

وأمَّا
طيور السماء التي تتآوى في أغصان الشجرة
وهي التي
كانت في المَثَل الأول تهدِّد بإهلاك البذرة
فهي تمثِّل
أعداء الملكوت الذين تغيَّروا فصاروا من أبناء الملكوت. وأوضح مَثَل لذلك هو شاول
الذي كان يضطهد ويُفسد كنيسة الله ثم تحوَّل وصار بولس (انظر كتاب: “شرح إنجيل
القديس مرقس” للمؤلِّف صفحة 255).

33:13
«قَالَ لَهُمْ مَثَلاً آخَرَ: يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا
امْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى اخْتَمَرَ
الْجَمِيعُ».

وهذا
هو المَثَل الثاني الذي اختاره المسيح ليوضِّح لسامعيه معنى نمو الملكوت، وكيف
ينمو وكيف يكون وإنما من الداخل. والمسيح باختياره ثلاثة أكيال دقيق، والكيل الواحد
بحسب يوسيفوس المؤرِّخ يساوي ثلث الإيفة، وتساوي اثنين ونصف بوشل روماني، أو بوشل
واحد إنجليزي، ويساوي حجم عجينها حوالي 22 لتراً وتصنع خبزاً يكفي لمائة شخص([5]).
أمَّا تحديد المسيح لثلاثة أكيال دقيق فهو العدد الكامل لعجنة واحدة من الدقيق،
وقد وردت في سفر التكوين تعبيراً عن كرم إبراهيم في استضافة الثلاثة زائرين
السماويين:
» فأسرع
إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة وقال اسرعي بثلاث كيلات دقيق سميذاً. اعجني واصنعي
خبز ملّة
«(تك 6:18)، ونفس الأمر أسرع به جدعون ليعمل مائدة للرب!! » فدخل جدعون وعمل جدي
معزى وإيفة (= 3 أكيال) دقيق فطيراً
«(قض 19:6). ونفس
الكمية صنعتها حنة أُم صموئيل تقدمة حينما فطمت ابنها صموئيل:
» ثم حين فطمته أصعدته
معها بثلاثة ثيران وإيفة (= 3 أكيال) دقيق …
«(1صم
24:1)

وحينما
خبَّأت المرأة الخميرة الصغيرة في العجينة اختمر العجين كله. والرب يشير هنا بنموذج
محسوس يراه كل واحد ويحسه ويلاحظه أمام عينيه، كيف أن سر الله يتخلَّل بني الملكوت
جميعاً، وكأنهم عجينة واحدة مقدَّمة على مائدة الرب، كاملين بالكمال المسيحي الذي
يسري فيهم دون أن يشعر بهم العالم إلاَّ في النهاية، حينما يرون طبعة الملكوت على
كل قلب وعلى كل جبهة، وكأنهم ولدوا معاً من أب واحد لأم واحدة هي الكنيسة:
» لأجل تكميل القديسين،
لعمل الخدمة، لبنيان جسد المسيح، إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة
ابن الله. إلى إنسان كامل. إلى قياس قامة ملء المسيح
«(أف
4: 12و13).
» الذي منه كل
الجسد مركباً معاً، ومقترِناً بمؤازَرةِ كُلِّ مفصلٍ، حسب عملٍ، على قياسِ كُلِّ
جُزءٍ، يُحصِّلُ نموَّ الجسد لبنيانهِ في المحبةِ.
«(أف
16:4)

 

النبوَّات تتحدث عن أمثال المسيح

[34:13و35]                   (مر
4: 33و34)

 

يتحفنا
القديس متى كعادته برأي الأنبياء ممثَّلاً في المزامير عن كيف أن المسيح سيعلِّم
بواسطة الأمثال، باعتبارها وسيلة للتعليم بحد ذاتها:

34:13و35
«هذَا كُلُّهُ كَلَّمَ بِهِ يَسُوعُ الْجُمُوعَ بِأَمْثَالٍ، وَبِدُونِ مَثَلٍ
لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ القَائِلِ:
سَأَفْتَحُ بِأَمْثَالٍ فَمِي، وَأَنْطِقُ بِمَكْتُومَاتٍ مُنْذُ تَأْسِيسِ
الْعَالِمِ».

«هذا كله»:

يقصد به كل الأمثال التي قالها هنا للجموع، لأن هذه هي أول
مرَّة يختار المسيح وسيلة الأمثال ليعلِّم بها، خاصة بالنسبة لملكوت السموات. وفي
الحقيقة فإن وسيلة الأمثال ولو أنها تصويرية ومبسَّطة ولكن المعنى العميق يتوه بين
الصور، فهي ليست سهلة على الأسماع. وسبق أن أعطانا ق. متى سبباً مباشراً لماذا
اختار المسيح هذه الوسيلة ليكلِّم بها “الآخرين” في الآيات (10
17) نرجو الرجوع إليها، وهي تتلخَّص في أن الأمور الخاصة
بأسرار ملكوت الله أُعطيت للتلاميذ، أمَّا بالنسبة للآخرين فتُعطى في أمثال. وأعطى
السبب واضحاً وهو أن الذي عنده السر
وهم التلاميذ فالأمثال تزيدهم إدراكاً لمضمون السر، أمَّا الذين لم يُعطوا السر
فالمَثَل سيعطيهم فهما فقط، ولكن لن يسلِّمهم روح الملكوت. فالعبرة بالروح المدركة
من الداخل. وهنا لكي يُعزِّز ق. متى طريقة المسيح في التعليم أورد نبوَّة بهذا
الخصوص من (مز 2:78)، وهذه النبوَّة لآساف كاتب المزامير وهو محسوب أنه نبي في
زمانه. وتقول النبوَّة إن المسيح سيفتح فمه بأمثال
وهي في حقيقتها “مكتومات” أي أمور سريَّة مخفية منذ تأسيس العالم. وكما
يقول ق. بولس إنه لم يعرَّف بها بنو البشر سابقاً، إذ هي فوق متناول بحث الإنسان
واستقصائه للأمور الإلهية. وطبعاً يقصد بها الوحي الأمور الخاصة بخلاص الإنسان،
والتي حددها المسيح بملكوت الله. أمَّا القديس بولس فعرَّفها بوضوح أنها أسرار
الخلاص وخاصة للأُمم:

+
» أنه بإعلانٍ
عرَّفني بالسرِّ. كما سبقت فكتبت بالإيجازِ. الذي بحسبه حينما تقرأُونه، تقدِرونَ
أن تفهموا درايتي بسرِّ المسيحِ. الذي في أجيالٍ أُخر لم يُعرَّف به بنو البشر،
كما قد أُعلِنَ الآنَ لرُسُلِهِ القديسينَ وأنبيائه بالروح.
«(أف
3:3
5)

 

ثلاثة
أمثال قصيرة وثمينة

[44:1350]                   ذكرها
القديس متى وحده

 

هذا
هو الجزء الثاني من حديث المسيح عن الملكوت بالأمثال، تكلَّم بها داخل البيت
لتلاميذه خاصة. والآن يوجد فارق هام بين حديث المسيح عن الملكوت بالأمثال الذي
أجراه مع الجموع على الشاطئ، وهذا الحديث الهادئ داخل البيت لتلاميذه. فالحديث
للجموع كان يختص بعقول تريد أن تفهم وهي خارجة عن الملكوت ولا ترغب في أن تدخله،
ولكنها تود أن تسمع وتعرف. أمَّا حديث التلاميذ فهو مع أشخاص آمنوا بالمسيح وهم
مدعوون لدخول الملكوت، والمسيح يريد بالفعل أن يزيدهم إيماناً وإدراكاً لما هو غير
مرئي لهم. فهو لا يتكلَّم بعد عن ظواهر الملكوت من جهة نموه من الخارج أو الداخل
أو نشره بواسطة المعيَّنين والمختارين؛ بل يتكلَّم عن قيمة الملكوت في هذا الدهر
بموازين ذلك الدهر. مَثَل الكنز ومَثَل اللؤلؤة التي سينكشف سرّها العجيب أنها هي
الكنيسة التي ربحها ذلك التاجر الحكيم السماوي ليضعها في تاجه الملوكي. أمَّا
مَثَل الشبكة فواضح أنه يكشف عن تدبير الله في تمييز الجيد من عدمه. وأخيراً
المَثَل الذي انتهى به الحديث عن رب البيت الذي يُخرج من كنزه جُدداً وعُتقاء، فهو
يكشف عن مسئولية الذي جمع كنوز العهد القديم والجديد في قلبه، وأصبح ماهراً في
تقديمها لحساب صاحب الملكوت.

ولكن،
وفي هذه الأمثلة، نتبع أيضاً التخصُّص في الصور المعطاة مثل معنى الحقل وابن
الإنسان الزارع والبذور الجيدة وبذرة العدو “الزوان”.

الكنز
المُخفَى في حقل:

44:13
«أَيْضاً يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ كَنْزاً مُخْفىً فِي حَقْلٍ،
وَجَدَهُ إِنْسَانٌ فَأَخْفَاهُ. وَمِنْ فَرَحِهِ مَضَى وَبَاعَ كُلَّ مَا كَانَ
لَهُ وَاشْتَرَى ذلِكَ الْحَقْلِ».

نرى
منطوق هذا المَثَل على قدر اختصاره الشديد ولكنه يخفي في باطنه كنزاً. وفي الحقيقة
كان من السهل جداً علينا أن نشرحه بحسب الشرح المألوف، أن الكنز هو الملكوت وأن
الإنسان باع ما يملك واشترى ذلك الحقل لكي يملك ملكوت الله، وانتهى المَثَل بأرخص
جهد وأرخص سعر لا يساوي ولا حتى غلاف الكنز الخارجي. ولكن واضح من كلام المسيح أن
“الكنز مُخفَى” فهو يحتاج جداً إلى حل “سرّ اختفائه” وإلاَّ يصبح العثور عليه
مستحيلاً.

نبدأ
هنا بالتعليق على كلمة “حقل”، فبحسب تعريف المسيح السابق يكون هو “العالم”.
إذن، فالحقل موجود في العالم ومُخفَى فيه الكنز، ولا يعرف كنهه إلاَّ من جدَّ في
إثره وعرف سرَّه. ولكن من هو ذلك الإنسان الذي وجده؟ ألم يسبق وأن عرَّفه المسيح
أنه ابن الإنسان؟ الملك نفسه!؟ إذن فها هو ابن الإنسان قد اكتشف مخبأ الكنز ثم
أخفاه مرَّة أخرى. ولكن ما معنى أن ابن الإنسان اشترى الحقل، والحقل هو العالم كما
عَلِمْنا، والثمن غالي جداً جداً حتى أنه مضى وباع كل ما عنده (في السماء وفي
الأرض أيضاً). الآن ربما بدأت الأمور تنكشف عن منظر المسيح وهو من فرحه (عب 2:12)
يبيع كل شيء ويشتري العالم المُخفَى فيه الكنز([6]).
ثم ماذا يكون الكنز بعد ذلك إلاَّ الخلاص الذي يحوي الملكوت!!؟ ثم بنظرة عليا
فائقة ألا ترى أن الله خلق العالم وخلق الإنسان الذي وضعه في العالم بعد أن طُرد
من فردوس الله. فواضح أنه حتماً قد أخفى له في العالم طريق العودة إلى الفردوس،
فأخفى له كنز الملكوت في غلاف الخلاص، وأخفى الجميع وختمه ليوم الميعاد، عندما
يرسل ابنه لفك ختوم الكنز!!
إذن ما أضخم الكنز وما أغلى وأثمن الخلاص الذي فيه
كبذرة الملكوت التي تحوي كل أسراره.

ولكن
السؤال، وبعد أن اشترى المسيح الحقل (العالم) وفتح ختوم الكنز، وكشف طريق الخلاص
المؤدِّي إلى الملكوت، ما هو نصيب الإنسان في هذا الكنز؟ واضح أن المسيح باع كل ما
له في السماء والأرض ليمتلك هذا الكنز والخلاص والطريق إلى الملكوت ليعطيه
مجَّاناً! لأن أي إنسان مهما كان لا يقدر أن يشتري الكنز! حتى ولو اجتمع كل بني
البشر، فثمن الحقل كان موت الابن على الصليب الذي مهَّد له بتخلِّيه عن مجده، ثم
بتجسّده ليستطيع بدمه أن يشتري الكنز. إذن فما أغلاه كنز وثمنه يفوق السموات
بمجدها، وما أرخصه كنز فهو مِلْك إيمان أفقر خاطئ على الأرض! وفيه سر خلاص الإنسان
وعودة الحقل إلى صاحبه.

 

اللؤلؤة
الواحدة الكثيرة الثمن

 

45:13و46 «أَيْضاً يُشْبِهُ
مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ إِنْسَاناً تَاجِراً يَطْلُبُ لآلِئَ حَسَنَةً، فَلَمَّا
وَجَدَ لُؤْلُؤَةً وَاحِدَةً كَثِيرَةَ الثَّمَنِ، مَضَى وَبَاعَ كُلَّ مَا كَانَ
لَهُ وَاشْتَرَاهَا
».

مثلٌ يشرح الفؤاد، فاللؤلؤة فريدة في جمالها وحسنها، وحينما ينكشف لنا سرُّها
يزداد
انشراحنا([7]). ولو أن اللؤلؤة هنا هي القطب الجاذب للفكر
والقلب معاً، ولكن التاجر يحتل مركز الصدارة.

والذي
يسترعي انتباهنا أن التاجر باع كل ما كان له واشتراها، كان يعرفها وضاهاها بكل ما
يملك، لأنها كانت عنده تساوي، فلم يستكثر عليها كل ما كان ملكه.

والآن
نجد أنفسنا مشدودين إلى هذه اللؤلؤة، وكان هذا قصد المسيح في وضع صيغة هذا المثل
بهذه الصورة الجذَّابة جداً، والتي تثير حب الاستطلاع إلى أقصى حد!

ولكن
الأمر الذي يلزم أن ندركه من البدء أن اللؤلؤ ليس بذي قيمة عند اليهود، فهم
يُغرمون جداً بالجواهر الثمينة لأنها أحجار طبيعية، ولكن اللؤلؤ نتاج حيواني غير
مرغوب فيه عندهم. فاللؤلؤ نتاج بحري من حيوانات صدفية ذات محارات ناعمة الملمس
جداً، فإذا دخلت حبة رمل داخل الصدفة أسرع حيوان المحارة وأفرز سائلاً يحيطها حتى
لا تؤذي جسمه الناعم. ويظل يفرز عليها هذا السائل حتى تصير كرة صغيرة. ولكن في
المحارات الكبيرة تكون الكرة كبيرة، وهي اللؤلؤة باهرة الجمال. واليهود يستبعدونها
من مقدَّساتهم، فلا تجدها ضمن الأحجار الكريمة التي تُوضع في صُدرة رئيس الكهنة. فاللؤلؤ معروف في الكتاب المقدس أنه كثير
الثمن جداً:
» امرأة فاضلة مَنْ يجدها، لأن ثمنها يفوق اللآلئ «(أم 10:31). وعلى القارئ أن يُلاحِظ هنا علاقة اللؤلؤة بالمرأة.

كذلك
نجد في سفر الرؤيا علاقة وثيقة بين الكنيسة واللؤلؤ. فأورشليم السماوية هي الكنيسة
المستعلنة، أبوابها لؤلؤ:
» والاثنا عشر باباً
اثنتا عشرة لؤلؤة، كل واحد من الأبواب كان من لؤلؤة واحدة…
«(رؤ 21:21). أما عند الأمم فالملوك
يضعون لؤلؤة كبيرة في تيجانهم! رمز البهاء
والمجد.

ونحن
لو فحصنا تكوين اللؤلؤة نجد أن الإفرازات التي يفرزها حيوان المحارة، القصد منها
هو أن يصنع حاجزاً يتَّقي به الإيذاء الحاصل له من دخولِ عدوٍّ. فاللؤلؤة بكاملها
هي محاولة لدفع المعاناة وللحفظ من الإيذاء، لذلك حُسبت أنها رمز البراءة والنقاء
والطهارة، ولذلك أيضاً تُقدَّم للعرائس لتوضع في أطواق الصدر وفي الخواتم وفي
التاج الذي يوضع على رأس العروس ليلة إكليلها.

واسم
اللؤلؤة باليونانية “مارجريت”
margar…thj، وبالإنجليزية Marguerite، ويعني “اللؤلؤ”؛ وهو اسم محبوب جداً عند السيدات. ومعناه عند
العارفين هو النقاء والطهارة. وهكذا حوَّلت المحارة الإيذاء إلى جمال فائق وطهارة.

والسؤال
الآن: ماذا يصنع هذا التاجر بهذه اللؤلؤة الواحدة الكثيرة الثمن مع أنه لا يلبس
اللآلئ التي لا تليق إلاَّ لتيجان الملوك؟ ولماذا بحث عنها وباع من أجلها كل ما
يملك في السماء وعلى الأرض؟ لقد اشتراها بدمه ليقدِّمها للملك العظيم.

فمَنْ
هو التاجر؟ واضح أنه المسيح، ولكن يلزم أن ننتبه أن المسيح يستعرض هنا اللؤلؤة كيف
أنها واحدة. وكيف أن ثمنها كثير. وإذ عرفنا ما يستبطنه داخلها ندرك أن المسيح يعني
مفهومها السرِّي العميق جداً.

إذن،
حينما يقول المسيح: يشبه ملكوت السموات تاجراً يطلب اللآلئ الحسنة، وأنه وجد لؤلؤة
واحدة كثيرة الثمن؛ فهو يتكلم عن نفسه، وكيف اشترى هذه اللؤلؤة الواحدة بعد أن
تخلَّى عن مجده في السماء ونزل وغاص في بحر العالم ووجد كنيسة الإنسان في حالها
وقد أذاها الشيطان، فأفرز عليها دمه وغطَّاها، فجمُلَتْ جداً وصلُحَتْ أن توضع في
تاج الآب السماوي:
» عالمين أنكم افتُديتم لا بأشياء تفنى، بفضة أو
ذهب، من سيرتكم الباطلة التي تقلَّدتموها من الآباء، بل بدم كريم، كما من حَمَلٍ
بلا عيب ولا دنس، دم المسيح.
«(1بط 18:1و19)

الجسد
البشري الذي كان قد تأذَّى بالخطية وجُرح جرحاً لا شفاء له، غطَّاه دم الحمل، فصار
يتلألأ بنور اللاهوت والمجد الذي له. فصارت البشرية المغطَّاة بدم الفدية جميلة
وطاهرة:
» لكي يقدِّسها، مُطهِّراً إياها بغسل الماء بالكلمة، لكي
يُحضرها لنفسه كنيسة مجيدة، لا دنس فيها ولا غَضْن أو شيء من مثل ذلك، بل تكون
مقدسة وبلا عيب
«(أف 26:5و27)، » كنيسة الله
التي اقتناها بدمه.
«(أع
28:20)

وصارت
أثمن ما اقتنى المسيح وقدَّمها للآب لتبقى في ملكوته. ثم ألسنا نحن هذه المرجريت
البهيَّة، اللؤلؤة الكثيرة الثمن والوحيدة؟ نتباهى بموقعنا عن يمين الملك.

«لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن»:

أعجب
وأخطر ما في اللؤلؤة أنها لا تنقسم وإلاَّ صارت تراباً، فهي واحدة عن تكوين
واضطرار، لأن عظماً من عظامه لا يُكسر منه!! فهي واحدة لأنها جسد الوحيد ولا يجسر
أحد أن يمسَّها لأن أبواب الجحيم لن تقوى عليها. لهذا في مفهوم الخلاص تُعتبر
الكنيسة مركز الفداء والحاصلة على كل قوته والحاملة لاستعلانه والقادرة أن تعطيه،
تعطيه في الإنجيل بالكلمة وتعطيه بالسر الذي استؤمنت وحدها عليه: سر الموت
ممثَّلاً في الدم، وسر الحياة ممثَّلاً في الروح القدس والقيامة.

فالمسيح
بعد ما أكمل آلامه وقدَّم دمه مسفوكاً على الصليب، ودخل الموت وقهره وقام، وارتفع
بيد الله إلى أعلى السموات، وحصل على كل ما يمكن من القوة والمجد والكرامة؛ وهبها
جميعاً للكنيسة، لأنه أكمل آلامه من أجلها، وسفك دمه من أجلها، وذاق الموت من
أجلها، وقام ناقضاً أوجاع الموت من أجلها، وارتفع إلى أعلى السموات من أجلها،
وهكذا أعطاها ما لها!!!

+
» مستنيرة عيون أذهانكم، لتعلموا ما هو رجاء دعوته، وما هو
غِنَى مجد ميراثه في القديسين، وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين، حسب
عمل شِدَّة قوته الذي عمله في المسيح، إذ أقامه من الأموات، وأجلسه عن يمينه في
السماويَّات، فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة، وكل اسم يُسمَّى ليس في هذا الدهر
فقط بل في المستقبل أيضاً، وأخضع كل شيء تحت قدميه، وإيَّاه جعل رأساً فوق كل شيء للكنيسة،
التي هي جسده، ملء الذي يملأ الكلَّ في الكلِّ.
«(أف 18:123)

ومرة
أخرى نرجو القارئ أن يقرأ الآية السابقة ليتأكَّد أن كل مكاسب المسيح في الموت
والقيامة والسلطان الفائق كانت للكنيسة.

وهكذا
تبدو الكنيسة لؤلؤة وحيدة تحمل كل مذَّخرات الابن الوحيد. أخذتها لتعطيها، تعطيها
ولكن لا تتنازل عنها لأحد. فالكل يأخذ منها وخيرها باقٍ فيها ولها كالميراث الثمين
الذي لا يُقسَّم ولا يُباع طالما كان الوريث حيًّا. الكل يرضع منها وخيرها يتجدَّد
فيها. نهر مائها الحي ينبع من أمام عرش الله، والذي يستقي منه يحيا إلى الأبد.
تعطي شركة المسيح في الدم وتهب شركة الآلام بالجسد المكسور. لا كأسرار تتثبَّت
بالتكرار، ولكن الأسرار تُدرك بالعبادة وتُستعلن قوتها بالصلاة. لا تؤتى قوتها من
ذاتها بل تُسلِّم قوتها للذي يؤمن بسرِّها ويتلهَّف لكشف مفعولها، وباستلام قوة
الأسرار ينفتح الذهن لقوة الكلمة. فسر الإنجيل كله قائم في سر الدم، وقوة الكلمة
نابعة من قوة الصليب. فالأسرار والإنجيل وحدة متماسكة وهي بعينها الكنيسة اللؤلؤة
الواحدة الكثيرة الثمن.

الكنيسة
لا ترى الإنجيل كلمة مقروءة، بل تراه كلمة معبودة، وبدون روح العبادة لا تُفهم
كلمة الإنجيل. فالإنجيل في الكنيسة ليتورجيا، حيث تخرج الكلمة مسنودة بقوة الصلاة،
تسمعها الأذن لتدخل القلب وتثبت وتؤسَّس لتبني حياة. فالإنجيل أصلاً ليس للقراءة
ولكن للبناء، تدخل الكلمة لتبقى وتدوم، ولا تبقى أبداً وحيدة بل تنمو وتزداد.
فالذي يتقبَّل الكلمة بالعبادة لا يحتاج لكثرة القراءة بل يحتاج للثبوت بعزم
القلب، والكلمة فيه تنمو وتزداد، وهو يرى ويحس كيف تصير حياة وسلوكاً واستعلاناً
لبناء روحي ينمو ويرتفع.

مرة
أخرى، الإنجيل ليس للعزاء الروحي بل للبناء الروحي، كثرة القراءة بدون عمق
وتعدُّدها تشوِّه البناء، ولكن التمسُّك بالكلمة البانية بعزم القلب والثبات عليها
هو الذي يعطيها طبيعة النماء:
» ليس كل مَنْ يقول لي:
يا رب يا رب، يدخل ملكوت السموات. بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات.
«(مت 21:7)

والنعمة
لا تعمل إلاَّ من خلال الكلمة، ولكن ليس الكلمة المقروءة وحسب، بل الكلمة التي
دخلت لتتحوَّل إلى عبادة وصلاة. ونحن لا نستطيع بهذا الوصف أن نسمِّيها مجرد كلمة
بل كلمة الملكوت. هناك كلام إنجيل وهناك كلام إنجيل الملكوت. إنجيل الملكوت وكلام
الملكوت يزرع الإنسان في تربة الملكوت، فينمو كل يوم ويزدهر.

كلام
الملكوت له سمة، له رائحة، له بريق يخطف القلب. حينما تقع عليه العين أو الأذن
يخطفه الإنسان خطفاً ويخزِّنه في أثمن مواضع قلبه، في الموضع الذي يحتفظ فيه بالله
نفسه. إنها مجرد كلمة، لا ينتبه إليها الآخرون، ولكن تدخل لتصير سند العمر كله
وقوة تناطح الزمن.

والذي
يُدرك سرَّ الكنيسة يقتني اللؤلؤة!

 

شبكة أُلقِيَت في البحر

 

47:1350 «أَيْضاً
يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ شَبَكَةً مَطْرُوحَةً فِي الْبَحْرِ، وَجَامِعَةً
مِنْ كُلِّ نَوْعٍ. فَلَمَّا امْتَلأَتْ أَصْعَدُوهَا عَلَى الشَّاطِئِ،
وَجَلَسُوا وَجَمَعُوا الْجِيَادَ إِلَى أَوْعِيَةٍ، وَأَمَّا الأَرْدِيَاءُ
فَطَرَحُوهَا خَارِجاً. هكَذَا يَكُونُ فِي انْقِضَاءِ الْعَالَمِ: يَخْرُجُ
الْمَلاَئِكَةُ وَيُفْرِزُونَ الأَشْرَارَ مِنْ بَيْنِ الأَبْرَارِ،
وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ النَّارِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ
الأَسْنَانِ».

بهذا
المَثَل تأتي الأمثال التي قيلت عن ملكوت الله إلى نهايتها. والمنظر هنا غير مألوف
إلاَّ عند بعض الصيَّادين في بعض الأماكن المزدحمة بالسمك، فهم يطرحون شبكة كبيرة
في البحر ويثبتونها ويتركونها حتى تجمع السمك للملء، ثم يرفعونها. فهو ليس صيداً
بل جمعاً بالجملة، وبعد ذلك يخرجونها ويفرزون السمك. ويعود المسيح وبسرعة يطبق هذا
المنظر على ما سيكون في نهاية هذا الدهر. وهذا هو آخر مراحل المَثَل. والمسيح هنا
يركِّز على رفع الشبكة كعلامة نهاية الصيد الأخير، ثم فرز الأسماك. أمَّا عن البحر
والموج والسمك والشبكة ووسيلة طرحها فلا يذكر شيئاً لأنها لا تدخل في اختصاص
النهاية. وهو يشرح كيفية الفرز على الطبيعة فيجعل الملائكة منوطين بهذه العملية:
يفرزون الأشرار من وسط الأبرار ويلقونهم إلى المصير المحتوم حيث الندم الذي لا
يفارقهم. والذي يكشفه المسيح لنا للمعرفة والحذر هو: كيف سينتهي هذا الدهر؟

وعملية
الفرز سيقوم بها ملائكة متخصصون، وهذا هو المهم في المَثَل، وليس لنا بالتالي أن
نتساءل ونرهق أفكارنا عبثاً بما سيحدث في نهاية الأيام من عمليات لا ندري عنها
شيئاً، كل المسموح لنا أن نفهمه وأن نضعه في الاعتبار أن الأشرار سيُرفعون من
الوسط، هذا كل ما يلزم أن نعرفه. ولكن كيف هذا، ليس من اختصاصنا لأنه من اختصاص
الملائكة.

وفي
هذا المَثَل لا تُذكر الكنسية على الإطلاق، فالأمر يخص كل الجنس البشري، وكيف
سيُفصل منه الأشرار ليبقى المختارون. ولكن الذي يسترعي انتباهنا هو أن العملية
مقتصرة على الذين ستمسكهم الشبكة فقط وليس كل الذين في البحر. ولا يدخل كل البحر
في المَثَل. فالمسيح يقدِّم لنا مشهداً عبارة عن قطاع في المنظر.

ولكن
الذي نكرره للانتباه، أن عملية النهاية يغطيها حدث واحد هو فرز الأشرار عن
الأبرار. المسيح يلتقط هذا المنظر ويترك الباقي، وهو يحتفظ بجمع الأبرار فقط ولا
يزيد على ذلك أي توضيح، ويختص كلية بالأشرار كيف أنهم سيلقون إلى خارج أو إلى أتون
النار حيث يكون البكاء وصرير الأسنان.

هذا
المنظر لا يدخل فيه كيف يجيء ابن الإنسان، وكيف يختار الكنيسة التي سبق وصنعها
واختارها لله. هذا لم يذكره المسيح البتة.

ولكن
إذ نعود إلى أنفسنا نجد أن الكلام هنا غاية في الأهمية، فالعملية تبدو أنها تبدأ
في هذا الدهر ولا تخص النهاية فقط. فالبداية في المَثَل واضحة:
» يشبه ملكوت السموات
شبكة مطروحة في البحر

«
إذن فهذا المَثَل داخل في
تدرُّج خطير بالنسبة لتطور ملكوت السموات في هذا الدهر = “انقضاء العالم”! هنا
تتركز الأهمية في تدبير الله من جهة الملكوت. فالملكوت هو الشبكة المطروحة والتي
طُرحت خصيصاً لجمع المختارين، لأن هنا عمل نهاية الملكوت في هذا الدهر الذي شرحه
المسيح:
» هكذا يكون
في انقضاء العالم، يخرج الملائكة ويفرزون …
«فالشبكة هي المكني عنها بالملائكة التي تجمع
المختارين، ولكن بين المختارين يوجد أشرار. إذن الشبكة تجمع الكنيسة، على أن كلمة
الكنيسة تعني الأخيار أي الأبرار المختارين فقط ولا تعني الأشرار قط. فالأشرار
غرباء عن الكنيسة تجمعهم الشبكة اضطراراً ولكن للإلقاء خارجاً. ولكن فعل طرح
الشبكة هو الذي يعني ملكوت الله! طرح الشبكة هو في هذا الدهر، في هذا العالم، وهذا
نفسه يكون صورة لما يحدث في انقضاء العالم:
» هكذا يكون في انقضاء العالم « الشبكة الآن مطروحة وهي شبكة الإنجيل بكل يقين وتأكيد. والشبكة
بتأثير الإنجيل تمسك السمك وتضعه في عيون الشبكة استعداداً للجذب:
» فأجعلكما صيَّادي الناس «(مت 19:4). والمسيح بصفته الصيَّاد الأعظم له تأثير خفي على السمك
لكي يلتجيء إلى العيون باستعداد الجذب. وكلما امتدت الشبكة كلما جمعت المختارين.
فتأثير الكنيسة ممتد ولا نهاية لامتداده حتى إلى أقصى الأرض. ولا زلنا في هذا
الجيل، فنحن هنا في جيل جمع السمك، والشبكة مطروحة خفياً حولنا وممتدَّة، وتمتد
بلا نهاية بقدر مسيرة أقدام المُرسلين. وهناك في نهاية الدهر، نهاية هذا العالم،
عندما تكون الكنيسة في أتم استعداد لمجيء الرب، يبدأ جذب الشبكة ليبدأ الفرز
أي الدينونة، كعمل داخل في صميم عمل الملكوت. ولكن السؤال الحتمي هنا: وماذا بعد
فرز الأشرار وتنحيتهم خارجاً؟ هنا يبدأ يتجلَّى وجه الملكوت وعمل الملائكة بالنسبة
للأبرار على الوجه المكشوف وليس في الخفاء والسر، كما في هذا الدهر الآن
يعملون
علنيًّا كالأيام الأُولى. وعملهم الأول جمع الأبرار بمعرفة واقتدار فيما يخص أعمال
الناس ومقدَّراتها([8]).
وكأن بدل صحبة الأشرار ومضايقاتهم التي بلاحصر يأتي عزاء الملائكة وملاطفتهم التي
لا تُحد. ولكن معاملاتهم مع الأشرار ستفوق حد تصورنا، الأمر الذي تعذَّر على كل
قوة أرضية. وحينئذ تنتهي العثرات والمضايقات والأحزان والاضطهاد والقتل وتهديد
معيشة الإنسان وأمنه وسلامه:
» يرسل ابن الإنسان ملائكته فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر
وفاعلي الإثم
«(مت 41:13). وحينئذ يتهلَّل الأبرار وتضيء وجوههم في كنيسة الدهور،
فيُستعلن ملكوت الله في الأبرار على أرضنا هذه، ولكن في صورتها الجديدة الخالية من
جميع المعاثر وفاعلي الإثم، الأمر الذي استحال على كل كارز ومُرسَل، وامتنع
نهائياً أن يُرى أو يُسمع به في هذا الدهر. ولكن في كل ما أخفقنا فيه لن يخفق
الله. وتُشفى الأرض من لعنتها ويسعد الإنسان بخالقه ويفرح بخلاصه ويدوم فرحه ولا
ينزعه أحد منه بعد، ويتجلَّى العريس في وسط محبيه.

 

والآن
نظرة شاملة على حديث الأمثال: فبالبحث وجدنا أن كل مَثَل قائم بذاته، كل كلماته
تهدف نحو هدف معيَّن وُضع مسبقاً قبل تركيب المَثَل يكشف عن حكمة لا تجارى، ثم
وجدنا أن كل مَثَل مرتبط بالآخر بصورة تهدف إلى بلوغ نوعٍ من التعليم أوسع
امتداداً عن مفهوم الملكوت غير المنحصر في صورة واحدة.

أمَّا
القول بأن المَثَل يضيء عقل التلاميذ بقدر ما يعتِّم عقل الآخرين غير الجادين في
إثر الملكوت، فهو كما يقول أحد الشُّرَّاح: إن هذا يشبه عمود النور الذي كان يضيء
لبني العهد من ناحية وبآن واحد يعتِّم أمام المصريين الساعين في إثرهم لقتلهم([9]).

وفي
هذا النوع من التعليم يقول العالِم ليسكو:

[كلما
كررنا التأمُّل والانتباه بدقة لهذه الأمثال، معطين أنفسنا للفهم، فسواء كان النظر
إلى الأمثال ككل أو لكل مَثَل على حدة، كلما امتلأنا بالعجب والاندهاش على الكمال
في تكوينها ومادتها، فهي تظهر لي كصندوق خشب مطعَّم بجزئيات صغيرة من معادن ثمينة
منمَّقة بزخرف بسيط بديع وأخَّاذ. ولكن إذا أُعطينا مفتاحه لنفتحه نرى بداخله
الجواهر باهرة تفوق أي وصف وأي شيء آخر، وتجعلنا لا نقتنع أبداً لمجرَّد النظر
والتأمُّل لهذا المجد الفائق. فمهما كانت هذه الأمثال قادرة أن تشد الإنسان وبقدر
ما تدعونا إلى المزيد من التأمُّل، إلاَّ أنها تحوي من الحقيقة ما يفوق جمالها
الظاهري من المجد، لأن الحقيقة فيها هي التي تُسعد وتقودنا إلى الغبطة الإلهية
بإشعال الرجاء فينا نحو الحياة الأبدية … وهي تحوي مكنوزاً من التعليم لا يفرغ،
وعزاءً وإعلاناً وتوبيخاً. إن المعرفة التي فيها أغنى وأعمق من نهر، ولم يحدث أن
أحداً استطاع أن يستقيها كلها، فكل اعتبار جديد فيها يكشف علاقات أجدّ وحلولاً
أكثر ونوراً أوفر لعمل ملكوت الله([10])].

ونحن
نزيد على هذا أن هذا الصندوق وجدناه ضمن ميراثنا!!

هذا العالِم الروحي الكثير التأمُّل في الأمثال استطاع أن
يرى هذه الأمثال فرصة للشركة مع الله:

[فأحياناً
يأخذ الحديث إلى دعوة للشركة مع الله على مستوى “كلمة الله”: كمَثَل
الزارع. ومرَّة أخرى يأخذنا لنتأمل معاً في قيمة الملكوت كالجوهرة واللؤلؤة.
ومرَّة أخرى يدعونا إلى شركة معاً وكأنها الكنيسة في صميم العالم الحاضر كمَثَل
الزوان. ثم يأخذنا لنلاحظ نمو الملكوت وتقدُّمه كمَثَل حبة الخردل. ثم إلى الأمثال
الأخرى التي تُدخلنا في حالة من الروح ذات هدف لكل مَنْ يريد أن يتحد في هذه
الشركة. فالملكوت في تركيبه ككنيسة في ماضيها وحاضرها، في الزمن والأبدية، هذا هو
شغل يسوع الشاغل في أمثلة الملكوت([11])].

 

الكاتب
المتعلِّم في ملكوت السموات

 

51:13و52
«قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَفَهِمْتُمْ هذَا
كُلَّهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا سَيِّدُ. فَقَالَ لَهُمْ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كُلُّ
كَاتِبٍ مُتَعَلِّمٍ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلاً رَبَّ بَيْتٍ
يُخْرِجُ مِنْ كَنْزِهِ جُدُداً وَعُتَقَاءَ».

كانت
الأمثال تختص بالملكوت من حيث ما هو، وأمَّا الآن فالمَثَل عن الذين فهموا أمثال
ملكوت السموات. أمَّا السؤال:
» أفهمتم هذا كله؟ «فيعني: هل أصبحتم الآن عارفين بما هو الملكوت من حيث ظروف
عمله وقيمته ونهايته في هذا الدهر؟ وباختصار: هل استوعبتم هذا التعليم الكامل في
كل ما يخص ملكوت السموات؟ الأمر الذي بناءً عليه يصبحون مسئولين كأرباب بيت الله
يعلِّمون بكل ما تعلَّموا:
» علِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به «(مت
20:28)، لأنهم حينما أجابوه “نعم” وضع عليهم هذه المسئولية. وهكذا وبهذا التعليم
الخاص بملكوت الله اعتبر المسيح تلاميذه أنهم كتبة العهد الجديد
أي حكماء
وعلماء في ملكوت السموات.

وللعلم،
فإن اسم “الكتبة” ووظيفتهم ابتدأت في العهد القديم من أيام عزرا المحسوب
أنه أول نبي وكاتب متعلِّم في أول أيام الرجوع من سبي بابل، وهو أصلاً كاهن من
ذرية هارون الكاهن الأول (عز 5:7). وكان الكتبة مؤرِّخين يحفظون الأنساب وجداول
أنساب الشعب، وكانوا جزءاً لا يتجزَّأ من القوة الحربية للشعب يسيرون معهم. ولكن
بعد عزرا صاروا قارئي ناموس ومعلمين للناموس. وكان عزرا أول كاتب يقف وسط الشعب
ويقرأ التوراة ويشرحها بدقة، وهكذا صار من بعده الكتبة. أمَّا أيام المسيح
فتحوَّلوا وصاروا معلمي ناموس مشروح من الرابيين والفريسيِّين، فدخلت فيه تعاليم
الناس. فإذا تعرَّضوا للناموس المكتوب التزموا بالحرف وليس المعنى، وهكذا انطمس
الناموس على أيديهم، وزادوا عليه تقاليد الشيوخ. وهكذا صاروا بعلمهم حائلاً يحول
بين الشعب وفهم كلمة الله الحقيقية. وهكذا صاروا أكبر عائق لكرازة المسيح([12]).

 

كتبة العهد الجديد علماء وحكماء ودارسو
ملكوت

 

«كل كاتب متعلِّم في ملكوت السموات»:

 p©j grammateÝj
maqhteuqeˆj tÍ basile…v

وهكذا في مقابل طبقة كتبة العهد القديم المحسوبين تلاميذ موسى
ويشوع أي تلاميذ ناموس،
أقام
المسيح في العهد الجديد طبقة الكتبة والمتعلِّمين في المسيح والملكوت، يُخرجون من
كنوزهم جدداً
وعُتقاء.

والكنز
في القديم هو صندوق تُحفظ فيه الجواهر، وسُمِّي عُرفاً الصندوق الذي يُحفظ فيه كتب
البيعة بالكنز. ولكن المسيح يقصد الكنز في القلب أو الكنز المحفوظ في الصدور.
أمَّا الجدد فهي معرفة الملكوت كما أوضحها المسيح، وأمَّا العتقاء فهي النبوَّات
وما يتعلَّق بمجيء المسيَّا:
» ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسِّر لهما الأمور
المختصَّة به في جميع الكتب
«(لو 27:24).
والمعنى الذي يقصده المسيح أن يصبح التلاميذ
ومَنْ
كانوا على مستواهم من المعرفة بالملكوت
كتبة العهد
الجديد في تعليم كل ما يختص بملكوت الله.

انظر
أيها القارئ بأي نهاية انتهت تعاليم المسيح بالأمثال عن الملكوت، التي جعلها قاعدة
علم اللاهوت والخلاص والمعرفة السمائية. وكيف جعل التعليم مقصوراً بمقتضاها لكشف
سر الملكوت على أسُس ثابتة ومشروحة بالنبوَّات. فكل ما علينا أن نكرز بالملكوت ولا
نقارع الشر والأشرار أو نحارب الفساد والمُفسدين. فعملنا محدود بتعليم سر الملكوت
والخلاص.

عصرنا
هذا هو جيل الصراع بين القمح والزوان، ومحظور أن نقترب ناحية الزوان:
» دعوهما ينميان كلاهما
معاً
« علينا أن نزرع قمحاً وليس أن نقتلع زواناً. وأملنا الأخير والأعظم
هو في مجيء صاحب الملكوت ومعه الحصَّادون، يطهِّرون الحقل من الزوان. وكل ما
نحتاجه الآن هم الكتبة المتعلِّمون في ملكوت السموات الذين يذّخرون في كنزهم جدداً
وعُتقاء، يمهِّدون للحَصَاد الجيد لرب الحصاد، ويزرعون ما شاءوا حتى وإلى كل شبر
في العالم: حنطة تطرح مئة وستين وثلاثين.

ويا
ليت أن نكون كلنا رب بيت، وكلنا كتبة مسئولين عن كل ما تعلَّمنا إن كنا قد
تعلَّمنا صحيحاً:
»
أفهمتم
هذا كله؟
«

 

نهاية القسم الثالث

 

53:13
«وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هذِهِ الأَمْثَالَ انْتَقَلَ مِنْ هُنَاكَ».

هي
آية القديس متى التقليدية التي يختم بها كل كتاب من كتبه الخمسة. وواضح أنه إن كان
الكتاب الثاني تظهر عليه علامات سفر الخروج، فهنا الكتاب الثالث تظهر عليه علامات
سفر اللاويين أي الكتبة. علماً بأن الكتبة الجدد الذين انتهى إليهم المسيح في هذا
الحديث المطوَّل هم لاويو العهد الجديد.

 

عودة المسيح إلى وطنه

[54:1358]                   (مر 6: 1-6)، (لو 16:4-30)

 

54:1358 «وَلَمَّا
جَاءَ إِلَى وَطَنِهِ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ فِي مَجْمَعِهِمْ حَتَّى بُهِتُوا
وَقَالُوا: مِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ الْحِكْمَةُ وَالْقُوَّاتُ؟ أَلَيْسَ هذَا
ابْنَ النَّجَّارِ؟ أَلَيْسَتْ أُمُّهُ تُدْعَى مَرْيَمَ، وَإِخْوَتُهُ يَعْقُوبَ
وَيُوسِي وَسِمْعَانَ وَيَهُوذَا؟ أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ جَمِيعُهُنَّ
عِنْدَنَا؟ فَمِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ كُلُّهَا؟ فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ.
وَأَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ لَهُمْ: لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إِلاَّ فِي
وَطَنِهِ وَفِي بَيْتِهِ. وَلَمْ يَصْنَعْ هُنَاكَ قُوَّاتٍ كَثِيرَةً لِعَدَمِ
إِيمَانِهِمْ».

أمَّا
لماذا يختم ق. متى هذا الحديث عن الملكوت بهذه الخاتمة التي يكشف فيها عن مقاومة
أهل الناصرة وعداوتهم المكشوفة، وجهلهم به وبتعليمه واحتقار عائلته وشخصه بلا
تحفُّظ، فهذا واضح جداً إذ كان هذا هو السبب المباشر الذي جعله يبدأ يعلِّم
بالأمثال حتى يحجز الأسرار لمستحقيها ويخفي الحكمة عن مزدريها، ويكشف علناً أن
الملكوت لمختاريه.

والملاحَظ
أن المسيح كان في كفرناحوم في المجمع (9:12) ثم غادرها مؤقَّتاً (15:12) ثم عاد
إلى كفرناحوم، وبعدها اتجه إلى الشاطئ (13: 1و2) وبقي في بيتٍ حتى (36:13). وهنا
ابتدأ يترك كفرناحوم. وفي (54:13) عاد إلى مدينته الناصرة واتجه إلى المجمع
ليعلِّم هناك التعليم الذي أدهشهم
وكان ذلك في السبت والحكمة
التي أدهشتهم كان يعلِّم بها منذ البداية، وأمَّا المعجزات فليست جديدة وهي التي
أظهر فيها قوته في الجليل كله. ولكن بنوع من التعصُّب والجهالة رأوه كأحد مواطني
الناصرة لم يتعلَّم ولا تتلمذ على ربيين، وكون أبوه نجاراً جعل استصغارهم لشخصه
يزداد لأنه ليس كاتباً أو فرِّيسيًّا حتى يكتسب هذا العلم وهذه الحكمة. كذلك أُمه
وبقية مَنْ معها من أولاد يوسف وبناته لم يجدوا فيهم نسل أنبياء أو كهنة، بل بيتاً
عاديا مستضعفاً. كل هذا جعلهم يستكثرون عليه الحكمة والقوة بدل أن تكون دليلاً
قاطعاً على كونه مسيَّا الذي ينتظرونه. ويستفاد من هذا الكلام أن يوسف غير موجود
وكان غالباً قد انتقل، وهذا يوحي بنوع ما أنه كان كبيراً في السن إذ لم يُذكر له
مرض.

أمَّا
المسيح فكان ردّه عليهم تعليةً من شأنه الروحي وتحقيراً لمستواهم المنحط عن أن
يدركوا قيمة نبي في وسطهم. وكان عدم إيمانهم به سبباً في عدم إجراء معجزات كثيرة
في مدينته مما زاد سخطهم عليه، مع أن السخط مردودٌ عليهم وعلى إيمانهم. غير أن
الذين آمنوا شُفوا. فعمل الله لا يرتاح إلاَّ في متقيه. وأينما وُجِدَ عدم الإيمان
حلَّ السخط.



([2])
G.
Campbell Morgan, The Parables of the
Kingdom,
1907, p. 12.

([3]) يلاحظ العالِم هندركسن في كتابه: “شرح إنجيل ق. متى” أن قول المسيح: «هذا
هو» في الأربع مرّات التي يكرِّرها المسيح في شرحه للمَثَل يعود الضمير فيها على
المذكر العاقل، ويتشدَّد في أنه لا يتنازل عن أن
oátÒj لا يمكن تجاهلها كما يحاول
بعض الشُّرَّاح جعلها تخص البذرة. وقد أوضحتها الطبعة الجديدة للكتاب المقدَّس
T.C.N.T.
وجعلتها «هذا هو الإنسان» ليزداد تأكيد المعنى.                                              
(W. Hendriksen, op. cit.,
p. 559.)

([4])
Thomson, The Land and the Book, cited by G.
Campbell Morgan, The Parables of the
Kingdom,
pp. 99 f.

([5])
R.H. Gundry, op. cit., p. 268; Leon Morris, op. cit.,
p. 353, n. 85.

([6]) G. Campbell Morgan. The Parables of the
Kingdom
, pp. 147-148.

([7])
G. Campbell Morgan, ibid, pp. 155-175.

([8])
G. Campbell Morgan, ibid, pp. 179-197.

([9])
Von Gerlach cited by H.A.W. Meyer, op. cit., p. 265.

([10]) Biblical Cabinet, “Lisco on Parables”, pp. 21, 22,
cited by H.A.W. Meyer op. cit., p. 265.

([11])
Ibid, pp. 23, 24, cited by H.A.W. Meyer, op. cit., p. 266.

([12])
G. Campbell Morgan, ibid, pp. 205 f.

هل تبحث عن  الكتاب المقدس أخبار سارة عربية مشتركة عهد قديم سفر يشوع بن سيراخ 22

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي