الإصحَاحُ
الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ

 

–   وليمة عرس ابن الملك                                                 (22:
1 14)

–   جزية قيصر                                                             (15:22
22)

–   في القيامة لمن تكون زوجة؟                                          (22:
2333)

–   أيَّة وصية هي العُظمى؟                                                (22:
3440)

–   ماذا تظنون في المسيح ابن مَنْ هو؟                                  (41:2246)

 

وليمة عُرس ابن الملك

[1:2214]                     (لو 15:1424)

 

نظرة عامة على الأمثلة الثلاثة معاً:

في
المَثَل الثاني، مَثَل الكرَّامين الأردياء، انتهى المسيح من إعلانه أن الأُمة
اليهودية سيؤخذ منها الملكوت وتُرفض ليُعطَى لأمة تصنع أثماره. لذلك فهناك صلة
قوية بين هذا المَثَل والمَثَل الذي نحن بصدده، وهو مَثَل عُرس ابن الملك.

ونلاحِظ
أن في المَثَلَين السالفين: مَثَل الابن الذي قال نعم ولم يذهب، والمَثَل الثاني
مَثَل الكرَّامين الأردياء، أن “الملك” (أي المسيح الذي دخل دخول الملك المنتصر في
أُورشليم) كان يتعامل مع الرؤساء ومسئولياتهم التي أهملوها وأهملوا واجباتهم مع
الله. ولكن هنا في مَثَل عُرس ابن الملك لا يتعامل مع مسئوليات مُهْمَلة بعد، بل
مع دعوة للتمتُّع بوليمة الملكوت. والنقلة هي من الكرم وخدمته إلى وليمة عُرس
والمدعوين، أي من عمل وجهد وتعب إلى متعة وفرح ومسرَّة.

كذلك
من خلال هذه الأمثال لا يكف المسيح عن الإعلان عن العلاقة بين المسيح والآب
كذلك فلم
يخطئ المسيح قط في توجيه الكلام بحذق وشدة نحو الكهنة والفريسيِّين الذين أدركوا
بالفعل أن الكلام مصوَّب إليهم، وتضجَّروا من عنف الضغط. والقصد أن يملي عليهم
الشعور أنهم مسئولون تحت يد الله وتحت سلطانه
طبعاً
ردًّا على سؤالهم له: بأي سلطان تفعل هذا ومَنْ أعطاك هذا السلطان؟ فالآن يريد أن
يحاسبهم على سلطانهم هم الذي أخذوه وداسوه وازدروا بمعطيه وتحدُّوا صاحب السلطان
الحقيقي.

وفي
المَثَل الثاني كان واضحاً، ويصعب أن يغيب عنهم، أن المسيح كان يقصد نفسه كالابن
الذي أرسله أبوه لمحاسبة الكرَّامين ومطالبتهم بالثمر هذه السنين!! وكيف رفضوا
الاستجابة لدعوة خدَّام الملك (الأنبياء) بإعطاء الثمر لصاحب الثمر، وعلى أثر ذلك
جاء “الابن” يطالب بحقوق الآب والابن الوريث.

وليس
عسير الآن على القارئ أن يحسّ بالتدرُّج في حركة المحاكمة. ففي الأول موقفهم من
الآب، الموقف الذي اتَّسم “بنعم وحاضر” ودخل في الإهمال والرفض، وهذا يكشف حقيقة
عدم طاعتهم وكسر نير الخضوع! وفي المَثَل الثاني كان موقفهم أمام الابن:
» هذا هو الوريث هلم
نقتله ونأخذ الميراث

«
فيصير الميراث بدون رقابة
ولا محاسب ويصبح سلطانهم مطلقاً من كل قيد. أمَّا المَثَل الثالث الذي سندخل فيه
الآن فهو سيكشف منه عن موقفهم من رسل المسيح الذين يدعونهم بالإقناع للدخول تحت
امتياز وليمة الملكوت. وهكذا انتقل من عهد المساءلة عن المسئوليات، الأمر الذي تمَّ في زمانه وفشلوا، والآن سيواجهون الدعوة
برفق وترغيب إلى التمتُّع بالملكوت في عهد
رسله.

ولكن
إذا نظرنا إلى هذا المَثَل الخطير نظرة عامة نجده يحتوي على ثلاث حركات متتالية،
تحدِّدها الثلاث دعوات المتتالية. علماً بأن الملك (المسيح من منطلق إحساسه الخاص)
قد قارب النهاية في خدمته، وهو الآن في أُورشليم في مهمته السريَّة التي جاء
ليكمِّلها في مدينته، وهي عزل وإقصاء جماعة رؤساء الكهنة والفريسيِّين الذين رفضوا
أن يملك عليهم. على هذا الاتجاه المعنوي المضمر على مستوى الأمثال هو يفكِّر
ويحكي. وهذا يعني بالنسبة لنا أننا لسنا بصدد إنجيل للوعظ أو التعليم، فهي ليست
أمثالاً نطبِّقها على حالنا، إنما هي إجراءات تخليص ذمة بالنسبة للمسيح مع هؤلاء
الرؤساء قبل أن يكمِّلوا عملهم وينهوا على خدمته، حتى تقف شاهدة بوعي فائق منقطع
النظير على محاسبة المسيح لهؤلاء الرؤساء، من مصدر حقيقة سلطانه وواقع ملوكيته قبل
أن يسدلوا الستار ويختفوا من الوجود. فالمسيح هنا يخاطب التاريخ ويُشهد الأرض
كلَّها وكل ذي حكمة وفهم ودراية برد الفعل الذي في نفسه كقاضٍ، إزاء أعمال رؤساء
الكهنة والكتبة والفريسيِّين وشيوخ الشعب في مواجهة خدمته والمعاملة التي تلقَّاها
منهم على مدى إرساليته كلها، وذلك في أخطر قضية تختص بالعالم وبالإنسان وهو على
قيد ساعات من قبول الصلب على أيديهم.

والآن
إلى هذه الدَعَوات الثلاث التي تغطِّي تماماً خدمته بطولها فيما يخص ملكوت الله
الذي جاء يدعو إليه!

1
الدعوة
الأُولى:
إنما كانت موجهة منه شخصياً وبمساعدة تلاميذه على مدى رحلاته في
المنطقة كلها.

2
الدعوة
الثانية:
وهي إنما ستوجه بواسطة تلاميذه ولكن بلسانه من لحظة تركه الأرض حتى
تقول الأُمة كلمتها الأخيرة، في رفضها النهائي للرسالة والمرسلين وصاحب الرسالة في
الدعوة لمائدة ملكوته، وذلك لثاني مرة بعد رفضه وقتله.

وفي
هذه الحال يحل لصاحب الوليمة والدعوة أن يُرسل جيوشه ويحطم مدينتهم ويحرقها
بالنار، الأمر الذي حدث بالفعل في سنة 70م أي بعد الصلب بحوالي جيل كامل. ويلاحظ
القارئ أن الدعوة الثانية لم تكن على أيدي تلاميذه فقط وباسمه، بل وبفعل قوة الروح
القدس وبشهادتهم، أي شهادة رؤساء الكهنة. إذ بعدما قُبض على ق. بطرس وق. يوحنا بعد
أن صنع ق. بطرس معجزة الشفاء بالروح القدس على باب الهيكل، وبعد أن سمعوا دفاع
بطرس:

+
» ولمَّا
أقاموهما في الوسط، جعلوا يسألونهما (كالعادة): بأية قوةٍ وبأيِّ اسمٍ صنعتما
أنتما هذا؟ حينئذٍ امتلأ بطرس من الروح القدس وقال لهم: يا رؤساء الشعب وشيوخ
إسرائيل، إن كنا نُفحصُ اليوم عن إحسان إلى إنسان سقيم، بماذا شفي هذا، فليكن
معلوماً عند جميعكم وجميع شعب إسرائيل، أنه باسم يسوع المسيح الناصري، الذي
صلبتموه أنتم، الذي أقامه الله من الأموات، بذاك وقف هذا أمامكم صحيحاً … فلمَّا
رأوا مجاهرة بطرس ويوحنا ووجدوا أنهما إنسانان عديما العلم وعاميَّان، تعجَّبوا.
فعرفوهما أنهما كانا مع يسوع. ولكن إذ نظروا الإنسان الذي شُفي واقفاً معهما لم
يكن لهما شيء يناقضون به …
«(أع 4: 714)

3
الدعوة
الثالثة:
بعد خراب أُورشليم وحرقها بالنار، فإن المرسلين سيرسلون في الطرق
البعيدة خارج أُورشليم والأقاليم. بمعنى فيما بعد بلاد الموعد وفيما بعد شعب
الموعد. ولكن الفرق في الدعوة هذه المرة أن على المرسلين أن يَدْعوا ويُدخلوا
الصالحين والطالحين، “أشراراً وصالحين”، حتى يمتلئ البيت (كما هو الحادث في
الكنيسة الآن فهي ممتلئة ولكن من الفئتين). أمَّا الزمان فمنذ خراب أُورشليم حتى
اليوم. فهو العمل المنوط بنا نحن الآن أن ندعو الجميع.

والآن
إلى المَثَل لنشرحه آية آية:

الدعوة الأولى:

1:223 «وَجَعَلَ
يَسُوعُ يُكَلِّمُهُمْ أَيْضاً بِأَمْثَالٍ قَائِلاً: يُشْبِهُ مَلَكُوتُ
السَّمَوَاتِ إِنْسَاناً مَلِكاً صَنَعَ عُرْساً لاِبْنِهِ، وَأَرْسَلَ عَبِيدَهُ
لِيَدْعُوا الْمَدْعُوِّينَ إِلَى الْعُرْسِ، فَلَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَأْتُوا».

والآن
«يشبه ملكوت السموات إنساناً ملكاً» المسيح هنا يعطي المَثَل على المستوى
الإنساني، ولكن المقصود هنا هو الله الآب السماوي. فلو أخذنا الأمور بعيداً عن
التوراة والإنجيل وتأمَّلنا المَثَل، نجد أن الملك يحب رعيته، وعمل حفلة كبيرة
للرعية، وأرسل ليدعو رؤساء الشعب والوجهاء ووكلاء الشعب وكل مَنْ له استطاعة أن
يلبِّي الدعوة ليحضروا وليمة عرس ابنه. أمَّا ابنه فمعروف وهو المسيح، أمَّا عرسه
فهو الشعب المختار الذي أحبَّه وجاء بنفسه ليعقد قرانه به لشركة أبدية وحياة
مقدَّسة في ملكوته، على نفس مستوى العهد القديم الذي كشف فيه الله عن مستوى ما
أضمر في نفسه من نحو شعبه الذي أحبَّه جدًّا:

+
» ها أنذا
أتملَّقها وأذهب بها إلى البرية وأُلاطفها … وهي تغنِّي هناك كأيام صباها وكيوم
صعودها من أرض مصر. ويكون في ذلك اليوم يقول الرب أنكِ تَدْعِينَني رَجُلي ولا
تدعينني بعد بعلي … وأخطبكِ لنفسي إلى الأبد وأخطبك لنفسي بالعدل والحق والإحسان
والمراحم. أخطبكِ لنفسي بالأمانة فتعرفين الرب. ويكون في ذلك اليوم أني أستجيب
يقول الرب، أستجيب السموات وهي تستجيب الأرض.
«(هو
2: 14
21)

ولكن
للأسف فكما يقول هوشع نفسه مباشرة بعد هذا الأصحاح أنهم تركوا الرب وزنوا وراء
آلهة غريبة. وكذلك إشعياء يقول لهم:
» أين كتاب طلاق أُمكم التي طلَّقتها. «(إش
1:50)

ولكن كل هذا التودُّد والملاطفة والوعد بالخطوبة، وأن يكون
رجلها لم يُفْدِ إسرائيل بشيء، ولم
يكن إلاَّ رؤية بعيدة ونبوَّة صادقة عن مجيء
زمان الخطوبة الحقيقية، بل وشركة زيجة مقدَّسة، “بالتجسُّد”، حيث اتحد الابن
بالبشرية اتحاداً لا انفصام فيه إلى الأبد، وقدَّسه يوم صليبه بدم نفسه فصبغ
الزيجة ووثَّقها بالدم وبالروح، والكلام في ذلك كثير. ولكن نَنْتَقِي منه وصف بولس
الرسول لهذه الخطوبة المقدَّسة والزيجة
الطاهرة، فكان بالحق عرس البشرية الأبدي ووليمة حبها الذي دُعيت
إليه
الأجيال:
» أيها
الرجال، أحبوا نساءَكُم كما أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها، لكي
يقدِّسها (في نفسه)، مطهِّراً إيَّاها بغسل الماء بالكلمة (المعمودية والروح)، لكي
يُحضرها لنفسه كنيسة مجيدة، لا دنس فيها ولا غَضْنَ أو شيءٌ من مثل ذلك، بل تكون
مقدَّسة وبلا عيب … لأننا أعضاء جسمه، من لحمه ومن عظامه. من أجل هذا يترك الرجل
أباه وأُمه ويلتصق بامرأته، ويكون الاثنان جسداً واحداً. هذا السر عظيمٌ،
ولكنني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة.
«(أف
5: 25
32)

كما
أن ق. بولس يوثِّق هذه الخطوبة لهذه العذراء العفيفة:
» فإني أغار عليكم غيرة الله لأني خطبتكم لرجل
واحد: لأُقدِّم عذراء عفيفة للمسيح.
«(2كو 2:11)

أمَّا
من كلام المسيح نفسه فنحن لا يمكن أن نستهين بوصف نفسه بالعريس:

+
» هل يستطيع
بنو العُرس أن ينوحوا مادام العريس معهم؟
«(مت
15:9)

والمسيح يكرِّر الأمثال التي يوضِّح فيها نفسه كعريس في
عُرس: (مت 22: 2
12،
25: 1
13)، (لو 36:12). كما يشهد له المعمدان أنه عريس
البشرية الحقيقي:
»
مَنْ
له العروس فهو العريس

«
(يو 29:3). في هذا كله ينبغي أن يتضح أمامنا أن
وليمة العُرس هي وليمة المسيح. وهو يدعو الشعب لينتخب منه عروسه أي كنيسته. فأول
درجات وليمة الملكوت تمَّت والمسيح يدعو ويختار بنفسه أركان الكنيسة وأعمدتها.
وكان ينبغي أن يكونوا هم رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيِّين حكماء إسرائيل ودكاترة
القانون ورؤساء الشعب الشيوخ السبعين الموهوبين للقيادة بنعمة روح الله الذي طلبه
موسى ووضعه على رؤوسهم. ولكنهم استعفوا جميعاً، فاكتفى المسيح بالاثني عشر
ليمثِّلوا الأسباط جميعاً، والسبعين تلميذاً ليمثِّلوا شيوخ الشعب السبعين.

هذه
هي صورة عقد قران العريس مع العروس التي خُتمت بدم العريس على الصليب في غياب كل
المدعوين من الشعب المختار. هنا انتهت الدعوة الأُولى التي ظلَّ المسيح والتلاميذ
يخدمونها ثلاث سنوات ونِصْفاً.

الدعوة الثانية:

ولكن
الدعوة للملكوت لم تكن تقفل أبوابها بهذا الإخفاق، فقد استعاض المسيح عن غيابه
بمجيء الروح القدس بفاعلية قوية في التلاميذ وكل الشعب حتى الإماء والعبيد. ليعطي
فرصة أخرى لدعوة الشعب المحبوب أصلاً، والمختار، والذي كان مَعْنياً أن يكون هو
العروس. وهنا أرسل خدَّاماً آخرين وهم من جاء بعد الرسل مع الباقي منهم، وأرسل
بدعوة فيها ترغيب من أطايب الروح القدس التي ظهرت وانتشرت لتحكي عن الملكوت وقوات
الملكوت.

4:228 «فَأَرْسَلَ
أَيْضاً عَبِيداً آخَرِينَ قَائِلاً: قُولُوا لِلْمَدْعُوِّينَ: هُوَذَا غَدَائِي
أَعْدَدْتُهُ. ثِيرَانِي وَمُسَمَّنَاتِي قَدْ ذُبِحَتْ، وَكُلُّ شَيْءٍ مُعَدٌّ.
تَعَالَوْا إِلَى الْعُرْسِ! وَلكِنَّهُمْ تَهَاوَنُوا وَمَضَوْا، وَاحِدٌ إِلَى
حَقْلِهِ، وَآخَرُ إِلَى تِجَارَتِهِ، وَالْبَاقُونَ أَمْسَكُوا عَبِيدَهُ
وَشَتَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ. فَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِكُ غَضِبَ، وَأَرْسَلَ
جُنُودَهُ وَأَهْلَكَ أُولئِكَ الْقَاتِلِينَ وَأَحْرَقَ مَدِينَتَهُمْ. ثُمَّ
قَالَ لِعَبِيدِهِ: أَمَّا الْعُرْسُ فَمُسْتَعَدٌّ، وَأَمَّا الْمَدْعُوُّونَ
فَلَمْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ».

لا
يَخفى على القارئ أن وراء هذا الكلام الحلو اللطيف، كقول هوشع قديماً:
» ولكن ها أنذا أتملَّقها
… وأُلاطفها … وأخطبكِ لنفسي إلى الأبد وأخطبك لنفسي بالعدل والحق والإحسان
والمراحم. أخطبكِ لنفسي بالأمانة فتعرفين الرب.
«(هو
2: 14و19و20)

لا
يفوت عليك عزيزي القارئ كَمْ كلَّف الآب السماوي هذه الوليمة. كلّفها بأمرِّ
الآلام التي جازها ابنه وحيده مع غصَّة الموت على الصليب. نعم هذه الصورة مصغَّرة
مخفية وراء
» ثيراني
ومسمَّناتي قد ذُبحت

«
! هذا كله كان هو الوسيلة
الوحيدة لكي يفسح لهم الطريق إلى الأقداس العليا
بدم ابنه وطريقاً حيًّا حديثاً بجسده المسكور على الصليب (عب 20:10). ليست دعوة

كلامية منمَّقة بل بدعوة دبَّرها الآب مع ابنه منذ الأزل بثمن باهظ لا تقوى عليه
الملائكة ولا بنو البشر مجتمعين، بدم كريم
أثمن من كل ذهب الدنيا وفضتها!! فالوليمة غالية جداً وعزيزة للغاية. فالملك في شخص

المسيح يعبِّر عن دعوة الآب بقلب مجروح، وهو عارف الثمن الباهظ الذي حلَّ زمن دفعه
وشيكاً. ولكنه يتكلَّم عنه كيف سيتم بعد ذهابه إلى السماء. ولكن كانت استجابتهم
طبق الأصل من إجابتهم الأُولى. وانقسموا إلى فئتين: فئة تهاونوا بالدعوة والداعي
وانهمكوا في زراعاتهم وتجارتهم وصمُّوا آذانهم عن الدعوة، والفئة الثانية كانت
فظَّة ورثت الجريمة عن أجيالها الأُولى القاتلة للأنبياء، هؤلاء مسكوا الداعين
وشتموهم وأقاموهم أمام المحاكم وقتلوهم. دم القديس استفانوس يشهد بذلك، وكذلك
يعقوب أخو يوحنا وآخرون بلا عدد. فلمَّا قالوا جميعاً الكلمة الأخيرة وبدَّدوا
الكنيسة وطردوها من أُورشليم وانقطع الرجاء في نفع النداء والدعوة، عاد المُرسَلون
إلى الرب باكين.

وهنا
غضب الملك غضبته التاريخية التي سجلتها الأرض في سجلات الكوارث العظمى، قاد الله
جيوش روما وأعطاهم الضوء الأخضر ليؤدوا نقمتهم في الشعب الذي دوَّخهم، فكان ما
استغرق وصفه كتب يوسيفوس المؤرِّخ اليهودي الذي كان مترجم الحملة!! شيء مهول لا
تطيق الأذن سماعه عن الفظائع التي اقترفها جيش تيطس إزاء غطرستهم وثورتهم وإيذائهم
للجند والضبَّاط. مما جعل نقمة الرومان تساوي نقمة السماء تماماً. وانتهت الدعوة
الثانية وقُفل باب الوليمة في وجه الشعب المختار. وتمَّت النبوَّة التي اشترك
رؤساء الكهنة في نطقها:
»
إن
ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأمة تعمل أثماره.
«(مت
43:21)

أمَّا
تعليق المسيح الإلهي المنطبق عليهم أشد المطابقة فكان كما قال في المَثَل:
» أمَّا العرس فمستعد
وأمَّا المدعوون فلم يكونوا مستحقين
«

الدعوة
الثالثة:

9:22و10
«فَاذْهَبُوا إِلَى مَفَارِقِ الطُّرُقِ،
وَكُلُّ مَنْ وَجَدْتُمُوهُ فَادْعُوهُ إِلَى الْعُرْسِ. فَخَرَجَ أُولئِكَ
الْعَبِيدُ إِلَى الطُّرُقِ، وَجَمَعُوا كُلَّ الَّذِينَ وَجَدُوهُمْ أَشْرَاراً
وَصَالِحِينَ. فَامْتَلأَ الْعُرْسُ مِنَ الْمُتَّكِئِينَ».

هنا
الدعوة الثالثة خرجت عن التقليد القديم في الدعوتين الأُولى والثانية، لأن
المختارين فقط كانوا هم المدعوين بتعيين من المسيح والروح القدس. ولكن الآن ضاع
التمييز، فهناك بحكم الواقع أصبح من المستحيل أن يعرف المُرسَلون المدعو من الله
أو المسيح أو الروح القدس من غير المدعو. فالدعوة للصالح والشرير ليدخلوا البيت
ويسمعوا ويتعلَّموا ما هي الدعوة إلى ملكوت الله ومدى قدراتهم لاستيعابها. والمسيح
حلَّ هذا اللغز في آخر آية في المَثَل:
» لأن كثيرين يُدعون وقليلين يُنتخبون «(14). إذن، فالدعوة عامة بدون تمييز لغياب عامل التمييز، وهو عامل
الروح القدس الذي ضعف عمله واختياره بصورة واضحة. وبعد ذلك من واقع سلوك المدعوين
ومدى إدراكهم لواجبات الملكوت يُختارون. ولكن من الواضح والمؤكَّد أنه لم يُعطَ
المُرسَلون أن يميِّزوا في دعوتهم بين الأشرار والصالحين، فهذا ليس عملهم، وقد
تركه الملك لنفسه لأنه هو الذي سيميِّز ويختار. إذن، وبصورة واضحة لا لَبس فيها،
تكون الدعوة للملكوت بالنسبة للأُمم منذ أن نُحِّي شعب إسرائيل وانتُزع منه
الملكوت وأُعطي للشعب الجديد وهو الكنيسة، تكون دعوة عامة لا تمييز فيها، هي
للجميع للأشرار والصالحين، ويُترك الاختيار والتمييز للمسيح وحده. وسوف نرى في
الآية القادمة بعد أن امتلأ البيت
الكنيسة وصار زمان
دخول الملك، كيف سيكون التمييز.

11:2214 «فَلَمَّا
دَخَلَ الْمَلِكُ لِيَنْظُرَ الْمُتَّكِئِينَ، رَأَى هُنَاكَ إِنْسَاناً لَمْ
يَكُنْ لاَبِساً لِبَاسَ الْعُرْسِ. فَقَالَ لَهُ: يَا صَاحِبُ، كَيْفَ دَخَلْتَ
إِلَى هُنَا وَلَيْسَ عَلَيْكَ لِبَاسُ الْعُرْسِ؟ فَسَكَتَ. حِينَئِذٍ قَالَ
الْمَلِكُ لِلْخُدَّامِ: ارْبُطُوا رِجْلَيْهِ وَيَدَيْهِ، وَخُذُوهُ وَاطْرَحُوهُ
فِي الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ
الأَسْنَانِ. لأَنَّ كَثِيريِنَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ».

إذن،
فهناك تفتيش دقيق وتمييز شخصي من الملك بنفسه، وفحص دقيق في الوجوه والأشخاص
واللباس. ولكن السؤال الذي شغل بال كل مَنْ قرأ وشرح هذا المَثَل ما هو لباس
العُرس الذي سأل عنه المسيح ذلك الإنسان باعتباره أمراً معروفاً له وللجميع؟ في
حين أن الأمر للرسل أن كل مَنْ وجدوه يدعونه إلى العرس، أشراراً وصالحين! إذن هذا
اللباس للعرس لا دخل له على الإطلاق بصلاح الشخص أو سيرته الرديَّة، إذ الفحص
والتمييز الآن هو بالنسبة للعرس نفسه والعريس الذي يتحتَّم أن يكون لباس العرس لكل
مَنْ يقف في حضرته باعتباره أنه يخصَّه هو كتذكرة عليها إمضاؤه:
» لأن كلكم الذين اعتمدتم
بالمسيح قد لبستم المسيح
«(غل 27:3). وهنا
رجعة سريعة لمعنى العرس والعروس، فهنا شركة المسيح مع المؤمنين واتحاده معهم، الذي
يتم بالمعمودية التي يعبَّر عنها دائماً بلباس الإنسان الجديد، أو لبس الروح
القدس، أو لباس المسيح الذي صنعه المسيح للمؤمن من برِّه الشخصي، وألبسه إيَّاه
يوم المعمودية، الذي يعطي صاحبه حق الدخول إلى الملكوت مباشرة. فهو لباس البر الذي
ألبسه لنا المسيح بنفسه بقيامته من الأموات في المعمودية، فهو ختم المسيح وصورته،
فهو لا علاقة له بالأعمال والسلوك إطلاقاً، لأنه برّ مجَّاني ممنوح من الآب مجاناً
لكل مَنْ يؤمن بابنه. فاللباس ليس له ثمن، بل مُهدى من الملك نفسه وهو من صنع يديه
وتعب نفسه ودم صليبه، لذلك كل مَنْ يلبسه يدخل العرس بلا قيد ولا شرط. هنا وضح
المعنى جداً، فالإنسان هذا الذي ليس عليه ثياب العرس ليس حائزاً على معمودية
الإيمان ولا بر المسيح المجاني وبالتالي شركة المسيح. ومعروف أن
» الذي يؤمن بالابن له
حياة أبدية (ملكوت) والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله (الذي يقع على آدم وذريته تلقائياً بدون
المسيح).
«(يو 36:3)

أمَّا
السؤال الذي يتبادر الآن لذهن القارئ فهو: هل كل مَنْ يعتمد مؤمناً بالمسيح وموته
وقيامته يخلص؟ الجواب على هذا واضح وصريح “نعم”! ولكن السؤال الذي يحرج هذا
“الجواب بنعم” هو: وهل الذي يسيء إلى الإيمان بسلوك مشين يخلص؟ هنا أيضاً الجواب
واضح وصريح: إذا اعترف وتاب غُفرت خطيته ويدخل
(1يو 9:1). والسؤال الأخير: وإذا لم يعترف ويتب؟ الجواب:
يؤدَّب.

أمَّا
قول المسيح بخصوص الذي ليس عليه لباس العرس:
» اربطوا رجليه ويديه وخذوه واطرحوه في الظلمة
الخارجية هناك يكون البكاء وصرير الأسنان
«
فهي المقولة التي تعبِّر عن الحرمان من النور الأبدي والطرح خارج الملكوت حيث
الحزن والندم.

ولأن
» كثيرين
يُدعون وقليلين يُنتخبون

«
فهذه
تصوِّر الدعوة الآن
»
كثيرون
يُدعون
«وفي
الدينونة في النهاية
»
قليلون
يُنتخبون
«

جزية قيصر

[15:2222]                   (مر 12: 13-17)، (لو 20: 20-26)

 

15:2222 «حِينَئِذٍ
ذَهَبَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَتَشَاوَرُوا لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ.
فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ تَلاَمِيذَهُمْ مَعَ الْهِيرُودُسِيِّينَ قَائِلِينَ: يَا
مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَتُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ بِالْحَقِّ، وَلاَ
تُبَالِي بِأَحَدٍ، لأَنَّكَ لاَ تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ. فَقُلْ لَنَا
مَاذَا تَظُنُّ؟ أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟ فَعَلِمَ
يَسُوعُ خُبْثَهُمْ وَقَالَ: لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي يَا مُرَاؤُونَ؟ أَرُونِي
مُعَامَلَةَ الْجِزْيَةِ. فَقَدَّمُوا لَهُ دِينَاراً. فَقَالَ لَهُمْ: لِمَنْ
هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟ قَالُوا لَهُ: لِقَيْصَرَ. فَقَالَ لَهُمْ:
أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ. فَلَمَّا سَمِعُوا
تَعَجَّبُوا وَتَرَكُوهُ وَمَضَوْا».

هذا
إجراء سريع للحصول على شكاية ضد المسيح تُقدَّم لبيلاطس. إذن، فالسنهدرين بدأ
يرتِّب أوراقه. لا يزال المسيح داخل الهيكل. ومن خلال أسئلة الفريسيِّين وأعدائهم
الصدوقيين الذين اجتمعوا معاً ليجرِّبوا المسيح بخبث، انطلقت من فم المسيح حكمة
كالنور، تكشف الفارق الهائل بين مستوى هؤلاء المُعتَبرين حكماء إسرائيل وبين حكمة
المسيح الفائقة الوصف. كانوا قد قصدوا أن يحصلوا على شكاية ضدَّه يأخذونها من فمه
للإيقاع به ضد سياسة قيصر وحكمه. ولكن الواضح أمامنا من جهة تحليلنا للموقف
الحيادي، نلاحظ أن هؤلاء القوم الذين اجتمعوا معاً: كتبة وصدوقيين، بالرغم من ادعائهم المعرفة والحكمة كانوا
وبعد هذه السنين
على جهل مُطْبِق بالمسيح
وقدراته الذهنية الفذَّة، لأنها مسنودة بنعمة فائقة القدر،
فكيف يأتون بهذا السؤال الساذج للإيقاع به؟

هنا
المستوى الذهني والبصيرة والرجولة الفكرية منحطَّة للغاية إذا وُزِنت بما للمسيح،
إذ كان على معرفة جيدة ودراية بكل أفكارهم وتصوراتهم وتدبيراتهم الخبيثة التي
يُحيكُونها في الظلام، ثم يَظْهَرون أمامه كأبرياء، وهم كما وصفهم، حيَّات وأفاعي!
وهذه اللفتة واضحة حينما نظر إلى وجوههم وقال لهم: «لماذا تجربونني يا مراؤون»،
هنا كشف ليس خبث سؤالهم فقط بل خبث شخصياتهم. ولمَّا حاولوا بالرياء ممزوجاً
بالخبث مدحه وإطراءه كمَنْ
» يعلِّم طريق الله « و» لا يبالي بأحد «و» لا ينظر إلى وجوه الناس «ظنُّوا أنهم قد اخترقوا هيبة شخصيته، ولكن وقبل
أن يتلقوا الرد فضحهم أمام أنفسهم، إذ كشف الخطة والفخ بكلمة واحدة:
» لماذا تجربُّونني يا
مراؤون
« وهكذا أثبت عن جدارة أنه يعلِّم طريق الحق!!

أمَّا
سؤالهم في جواز إعطائهم الجزية لقيصر من عدمه، فمردود عليه أنهم يعطون بالفعل، ولا
وسيلة للتهرُّب من هذا الحق الذي يطالب به الرومان بتهديد السيف، فهل وجدوا المسيح
يحمل سيفاً أقوى من سيف الرومان؟ أو أنه ينادي بالمقاومة. ولكن كيف يقول المسيح لا
يجوز وهو لا يحمل مؤهِّلات القوة العسكرية ولا السياسية. فالخطة تكشف عن عقلية
هزيلة، أوقعها جهلها في سوء ضميرها، ليعطي المسيحُ درساً للعالم أجمع في ضرورة
وحتمية فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية من ناحية، وعدم جواز تسلُّح السلطة
الدينية بالمقاومة أو التهديد أو الحرب.

ولكن
في قول المسيح:
»
أعطوا
ما لقيصر لقيصر
« لم يكتف المسيح بهذا الحكم، بل يتحتَّم عليهم بآنٍ واحد أن يعطوا
لله حقوقه، وهو الجزء الغائب من حياتهم، حيث حقوق الله “أو ما لله” ليس ذهباً وفضة
بل الحياة والسلوك، وحتى ما لقيصر فهو لله. فقيصر لا يقف بموازاة الله بالنسبة
لليهودي آنذاك، بل له الجزء الأقل جداً بالنسبة لما هو لله. أمَّا ما هو لقيصر فهو
إضطراري كمسئولية عابرة تؤدَّى، أمَّا الخضوع الكلي والطاعة الكلية التي بمنتهى
حرية الفكر والقلب والضمير فهي لله وليست كمسئولية، بل كمسرَّة قلب وفرحة نفس
وتهليل روح. فعرش قيصر هو من تحت عرش الله، ونحن من أجل خضوعنا لله نخضع لقيصر أو
للحكومة، ومن أجل توقيرنا لله نكرِّم قيصر أو الحكومة، لأن من خيرات الله نعطي
الجزية لقيصر أو الضريبة للحكومة. وهكذا يكون سر ولائنا وأمانتنا وحبنا للملك أو
الرئيس أو رجال الدولة هو ولاؤنا وأمانتنا وحبنا لله.

 

في القيامة لمَنْ تكون زوجة؟

[23:2233]                   (مر
18:12
27)، (لو 20: 2740)

 

23:2233 «فِي
ذلِكَ الْيَوْمِ جَاءَ إِلَيْهِ صَدُّوقِيُّونَ، الَّذِينَ يَقُولُونَ لَيْسَ
قِيَامَةٌ، فَسَأَلُوهُ قَائِلِينَ: يَا مُعَلِّمُ، قَالَ مُوسَى: إِنْ مَاتَ
أَحَدٌ وَلَيْسَ لَهُ أَوْلاَدٌ، يَتَزَوَّجْ أَخُوهُ بِامْرَأَتِهِ وَيُقِمْ
نَسْلاً لأَخِيِهِ. فَكَانَ عِنْدَنَا سَبْعَةُ إِخْوَةٍ، وَتَزَوَّجَ الأَوَّلُ
وَمَاتَ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسْلٌ تَرَكَ امْرَأَتَهُ لأَخِيهِ. وَكَذلِكَ
الثَّانِي وَالثَّالِثُ إِلَى السَّبْعَةِ. وَآخِرَ الْكُلِّ مَاتَتِ الْمَرْأَةُ
أَيْضاً. فَفِي الْقِيَامَةِ لِمَنْ مِنَ السَّبْعَةِ تَكُونُ زَوْجَةً؟
فَإِنَّهَا كَانَتْ لِلْجَمِيعِ! فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: تَضِلُّونَ إِذْ
لاَ تَعْرِفُونَ الْكُتُبَ وَلاَ قُوَّةَ اللهِ. لأَنَّهُمْ فِي الْقِيَامَةِ لاَ
يُزَوِّجُونَ وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ، بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةِ اللهِ فِي
السَّمَاءِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ قِيَامَةِ الأَمْوَاتِ، أَفَمَا قَرَأْتُمْ مَا
قِيلَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ اللهِ القَائِلِ: أَنَا إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ
إِسْحَقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ. لَيْسَ اللهُ إِلهَ أَمْواتٍ بَلْ إِلهُ أَحْيَاءٍ.
فَلَمَّا سَمِعَ الْجُمُوعُ بُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ».

الصدوقيون
هم نسل صادوق الكاهن أيام داود وسليمان، وهم محترفو الكهنوت، وهم من طبقة الأغنياء
الأرستقراط في إسرائيل الذين لا يؤمنون بالقيامة ولا بالأرواح أو الملائكة ولا
الحياة الأبدية. ويعتقدون أن الروح تفنى مع الجسد. وكانوا مُعتَبَرين أنهم طبقة
دنيوية يعيشون ليومهم. وسؤالهم الذي جاءوا من أجله هو من صميم عقائدهم وحدهم، لذلك
لم يأتِ معهم الفريسيُّون لأنهم يؤمنون بالقيامة والروح والملائكة والحياة
الأبدية.

وواضح
من قول الآية:
» في ذلك
اليوم
«أنهم جاءوا
بعد حملة رؤساء الكهنة والفريسيين. وهو يوم الثلاثاء بعد أحد السعف. وبدأ
الصدوقيون سؤالهم بالتمسُّك بكلام موسى، لأنهم يوقرون الخمسة أسفار الأُولى دون
باقي الأسفار. والآن يتمسَّكون بالآية التي جاءت في سفر التثنية (5:25) بخصوص أنه
إذا مات أخ ولم يترك نسلاً “ذكراً” يحل لأخيه أن يتزوَّج بامرأته ليقيم نسلاً
لأخيه. والحكمة في ذلك أن لا يضيع حق الرجل الإسرائيلي في الميراث الأرضي، وأيضاً
بالأكثر أهمية أن يُحفظ النسل من الضياع فربما يأتي منه المسيَّا‍!! وقد ألَّف
هؤلاء الصدوقيون هذه القصة عن السبعة أخوة الذين ماتوا دون أن يتركوا نسلاً، ثم
اتخذوها قضية ليسخروا بها في حق موضوع القيامة والحياة فوق. فكان سؤالهم: فلمَنْ
تكون زوجة وقد صارت لهم جميعاً؟ وابتدأ المسيح يَرُدُّ عليهم برفق ولم يعنِّفهم
كما عنَّف الفريسيين، لأن سؤالهم كان نابعاً من إيمان خاطئ بسبب معرفة خاطئة
بالتوارة. فالصعوبة في فهم هذه القضية جاءت عندهم ليس عن خبث ولا رياء بل عن جهل.
لذلك بدأ ردَّه بالعودة إلى الأسفار التي يتمسَّكون بها، وعلَّق أنهم يضلُّون بسبب
عدم معرفتهم للكتب، والأخطر من ذلك جهلهم
» بقوة الله «
لأن عدم إيمانهم بالقيامة كان سببه استحالة القيامة فكرياً أو عقلياً. وأسقطوا من
حسابهم مدى قوة الله التي تفوق العقل، لأن العقل والذهن يدرك الجسديات فقط،
والإنسان أصلاً روح في جسد، والروح هي الأساس للشخصية ودوامها وليس الجسد. فالعقل
يتحكَّم في أمور الجسد ويستحيل أن يتعرَّف على أمور الروح التي لا تخص الجسد،
إلاَّ بالإيمان. وأساس الإيمان هو الإيمان بقوة الله لتدبير كل شئون الروح التي لا
يقوى على معرفتها العقل. والروح هي خليقة روحانية من الله مباشرةً ومآلها الذهاب
إليه. ففي القيامة لا توجد أجساد قابلة للزواج، بل أجساد روحانية (1كو 44:15)
عابدة كالملائكة لا تتزوَّج. وبذلك صار سؤالهم ليس بذي معنى ولا وجود. وهكذا أنهى
المسيح على سؤالهم وعلى خطأ إيمانهم. ولكن عاد يؤسِّس في ذهنهم مفهوماً حقيقياً عن
وجود حياة فوق الحياة الطبيعية، وهي نفسها حياة الله التي يُدعَوْن إليها.
فالقيامة هي لحياة فائقة عن الحياة الطبيعية.

كذلك
فالقيامة ليست بذات الأجساد التي ماتت بل بأجساد جديدة روحية مطابقة بكل دقة
للأجساد الأُولى، ولكن من طبيعة روحانية غير خاضعة للجاذبية الأرضية ولا للحواس
» لا يزوِّجون
ولا يتزوَّجون
« »
لأن
كُلَّكُم الذين اعتمدتُم بالمسيح قد لبستُم المسيح. ليس يهوديٌّ ولا يونانيٌّ، ليس
عبدٌ ولا حرٌّ، ليس ذكرٌ وأُنثى لأنكم جميعاً واحدٌ في المسيح يسوع
«(غل 3: 2729). فليس هناك زواج
ولا ثنائية من أي نوع بل فردية منجمعة في المسيح ككل. فلا وجود فوق بدون المسيح،
وهذا ما شرحه ق. بولس:
»
لأجل
تكميل القديسين، لعمل الخدمةِ، لبنيانِ جسد المسيح، إلى أن ننتهي جميعنا إلى
وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله. إلى إنسانٍ كاملٍ. إلى قياس قامة ملء المسيح
«(أف 4: 12و13). كذلك فالحياة فوق ليست استمراراً للحياة على الأرض
من أي نوع، كما قال ق. بولس أيضاً:
» يا غبيُّ! الذي تزرعه لا يحيا إن لم يمت. والذي تزرعه، لست
تزرع الجسم الذي سوف يصير، بل حبَّةً مجرَّدةً، ربما من حنطةٍ أو أحد البواقي.
ولكن الله يعطيها جسماً كما أراد. ولكل واحد من
البذور جسمه … يُزرع جسماً حيوانيًّا ويُقام جسماً روحانيًّا.

«
(1كو 15: 3644)

والسر
في ضرورة الزواج هنا لأن كل إنسان يموت فلا بد من أن يتزوَّج ليحفظ الجنس البشري
من الانقراض. ولكن فوق لا يموتون لذلك لا يصبح للزواج سبب ولا إمكانية، كالملائكة
لأنهم لا يموتون فهم لا يتزوَّجون.

أمَّا
علاقة الإنسان بالله فتزداد فوق وتمتد، فالله دُعي في التوراة إله إبراهيم وإله
إسحق وإله يعقوب، فلمَّا ماتوا ذهبوا إلى فوق بكل شخصياتهم المحبوبة عند الله، فظل
الله يُدعى إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب. لأنه ليس هو إله أموات بعد بل إله
أحياء. هكذا أثبت المسيح للصدوقيين من توراتهم التي يتعلَّقون بها أنه توجد حياة
فوق وعلاقة بالله دائمة. وهكذا فاتت عليهم معرفة هذه الحقيقة عن الحياة فوق لأنهم
لم يقبلوا الإيمان بقوة الله الفائقة والقادرة أن تقيم من الأموات أجساداً جديدة
روحانية. والإنسان الذي يفقد الإيمان والعقيدة الراسخة والإحساس بالحياة الآتية
يفقد سبب ومعنى وقوة وجمال الحياة الحاضرة. أمَّا قول ق. متى إنهم لمَّا سمعوا ذلك
بُهتوا من تعليمه، فهذا يعني أنهم وصلوا إلى حل لسؤالهم.

 

أية وصية هي العظمى؟

[34:22-40]                  (مر 28:1234)، (لو 25:1028)

 

34:2240 «أمَّا
الْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا سَمِعُوا أَنَّهُ أَبْكَمَ الصِّدُّوقِيِّينَ
اجْتَمَعُوا مَعاً، وَسَأَلَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ نَامُوسِيٌّ،
لِيُجَرِّبَهُ قَائِلاً: يَا مُعَلِّمُ، أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ الْعُظْمَى فِي
النَّامُوسِ؟ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ
قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ
الأُولَى وَالْعُظْمَى. وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ.
بِهَاتَيْنِ الْوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ النَّامُوسُ كُلُّهُ وَالأَنْبِيَاءُ».

وعاد الفريسيُّون يجرِّبون حظهم في الإيقاع بالمسيح في
شئونهم الناموسية. ورتَّبوا السؤال وراء
السؤال،
ولكن لم يجدوا فرصة إذ أفحمهم المسيح أيضاً من بدء الأمر. والذي تقدَّم بالسؤال هو
ما
يسمَّى عندنا دكتور محامي في الناموس أي القانون، وقد أسماه ق. متى
nomikÒj اختصاصي قانون.

أمَّا السؤال: أية وصية هي العظمى في الناموس، فلا يعني ما
هي الوصية العظمى، لأن كلمة “أيَّة
po…a” تفيد النوع. والمعنى يكون: ما الذي يجعل، أو ما نوع الوصية لتكون
هي العظمى في الناموس. ذلك لأن النقاش بين الناموسيين المتخصِّصين في الناموس كان
حول فحص الوصايا على أساس النوع. لأن الوصايا كان عددها عندهم 613 وصية منها 248
وصية إيجابية + 365 سلبية. ومعنى: أية وصية هي العظمى عندهم، هو: ما الذي يجعل
الوصية أعظم، ثم الأعظم، أو التي يترتَّب عليها درجات العظمة. فأجاب المسيح إجابة
شافية على مستوى أبحاثهم ونقاشهم، فقال لهم الوصية: تُحب الرب إلهك من كل قلبك ومن
كل نفسك ومن كل فكرك، هذه هي الوصية الأُولى والعظمى التي يترتَّب عليها بعد ذلك
درجات الوصايا كلها، والثانية في الترتيب مثلها في النوع: تحب قريبك كنفسك. ثم
بهاتين الوصيتين تتعلَّق بقية الوصايا جميعاً في تدرجها وتبويبها. أمَّا شرحها فهو
أجمل:

هذا يعني أن “المحبة” هي النوع، ومحبة الله هي قمة المدرَّج
في “الوصايا العظمى”، ومحبة الله من
كل القلب، ومن كل النفس، ومن كل الفكر
تعطي كمال هذه المحبة. وق. بولس وضعها باختصار:
» الإيمان والرجاء والمحبة … ولكن أعظمهن المحبة «(1كو 13:13). هذه المحبة هي الخاصة
بالله وحده ومن كل كيان الإنسان. فالقلب هو مركز الأحاسيس والمشاعر والعواطف
جميعاً، والنفس مركز الإرادة، والفكر مركز التصوُّر، والمعنى أن الإنسان عليه أن
يحب بكل كيانه: “كل”.

أمَّا
محبة القريب كالنفس فهي المحك العملي المنظور والمحسوس لصدق محبة الله من كل
الكيان. فهذا الكيان الكلي نفسه يلزم أن يكون حاضراً في محبة القريب، لسبب عظيم
للغاية هو لكي يكون للمؤمنين كيان واحد أمام
الله، تمهيداً لاتحاد المسيح بالبشرية ككل
.

وعاد
وأكمل المسيح للناموس كل ما يتمنَّاه من جهة علاقة الناموس بالأنبياء، في أن بهذه
الآية المحورية لمحبة الله والقريب يتعلَّق الناموس كله ثم الأنبياء، بمعنى كل ما
يطلبه الله. ثم بهذه الإجابة كشف المسيح درايته بالناموس كإله وكواضع الناموس
ومكمِّله!!
» ليس لأحد حب
أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه
«(يو
13:15) ولكنه هو
نفسه وضعها من أجل الخطاة، من أجل كل إنسان! أمَّا علاقة الوصية العظمى بالثانية
التي مثلها، فهي لأن محبة الله عماد الأخلاق والسلوك. فكما يقول ق. يوحنا أن
» بهذا قد عرفنا المحبة
أن ذاك وضع نفسه لأجلنا، فنحن ينبغي لنا أن نضع نفوسنا لأجل الإخوة. وأمَّا مَنْ
كانت له معيشة العالم ونظر أخاه محتاجاً وأغلق أحشاءه عنه فكيف تثبت محبة الله فيه؟ يا أولادي لا نحب بالكلام ولا باللسان بل
بالعمل والحق.
«(1يو 3: 1618)

ونظر
المسيح الفريسيِّين وكأنهم أكملوا فخاخهم، فسألهم:

 

ماذا تظنون في المسيح ابن مَنْ هو؟

[41:22-46]

(مر 35:1237)، (لو 41:2044)

 

41:2246 «وَفِيمَا
كَانَ الْفَرِّيسِيُّونَ مُجْتَمِعِينَ سَأَلَهُمْ يَسُوعُ قَائِلاً: مَاذَا
تَظُنُّونَ فِي الْمَسِيحِ؟ ابْنُ مَنْ هُوَ؟ قَالُوا لَهُ: ابْنُ دَاوُدَ. قَالَ
لَهُمْ: فَكَيْفَ يَدْعُوهُ دَاوُدُ بِالرُّوحِ رَبًّا قَائِلاً: قَالَ الرَّبُّ
لِرَبِّي اْجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً
لِقَدَمَيْكَ؟ فَإِنْ كَانَ دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبًّا، فَكَيْفَ يَكُونُ ابْنَهُ؟
فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يُجِيبَهُ بِكَلِمَةٍ. وَمِنْ ذلِكَ الْيَوْمِ لَمْ
يَجْسُرْ أَحَدٌ أَنْ يَسْأَلَهُ بَتَّةً».

هنا
المسيح يعالج أكبر مشكلة واجهت الكتبة والفريسيِّين في معرفتهم للمسيَّا القادم.
وهي المشكلة التي جعلتهم لا يتعرَّفون على المسيح بالرغم من كل ما عمله المسيح كما
جاء في جميع النبوَّات. فالفكرة الوحيدة التي كانت مسيطرة على كل رؤساء اليهود
والمنتظرين خلاصاً سياسياً، هي أن المسيَّا القادم سيأتي بقوة أرضية وسلطان يفوق
كل القوى المعادية لإسرائيل، ويضرب بعصا من حديد ويحطِّم أُمماً وملوكاً من أجلهم.
وهنا وفي آخر فرصة للمسيح على الأرض، يتكلَّم مع الفريسيِّين كلاماً وديًّا،
ليُصلح من أفكارهم الخاطئة، ويعطيهم إلهاماً عمَّن هو المسيَّا الحقيقي الذي ينبغي
أن يتعرَّفوا على صفاته. فتقدَّم بسؤاله الهادئ: «ماذا تظنون في المسيح ابن
مَنْ هو؟»،
سأل سؤاله وهو يعلم تماماً بالجواب الذي سيجاوبون به إنه ابن
داود،
هذا حسن. ولكن هذا لا يكفي على الإطلاق للتعرُّف على المسيَّا، أن نعتمد
على السلسال الجسدي فقط. فبادرهم بالسؤال الذي يتحتَّم عليهم رفع عقلهم مباشرة
لتأمل الحقيقة التي وراءه: إذاً فكيف يخاطب داود المسيَّا بالروح وهو ابنه قائلاً
عنه: «قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك». فهنا
ازدواجية، داود يخاطب المسيَّا أنه ربَّه مع أن المسيَّا بحسب
النبوَّات هو ابنه: فكيف يكون المسيَّا ابن داود ورب داود
بآن واحد إلاَّ إذا كان ابناً من جهة الجسد وربًّا من جهة الروح؟ فإن كان داود
يدعوه ربًّا فكيف يكون ابنه؟
إذن، فهو ابن داود بالجسد ولكنه رب داود بالروح!!
هذا المجال للتأمُّل الصامت وليس مجالاً للكلام والرد على الإطلاق. فماذا يقولون؟
المسيح لم ينتظر منهم ردًّا لأن الرد الصحيح لا بد أن يكون عن استعلان الحقيقة وهي
أمامهم واضحة ومنطوقة، وإلاَّ فليسألوه مرَّة أخرى عن الإجابة، وكان على استعداد
للإعلان، ولكنهم أخفقوا أن يلتقطوا من كلام المسيح الحقيقة. لماذا؟ لأنهم أضمروا
الشرَّ به، أضمروا قتله واتفقوا وخطَّطوا وانتهوا!!

ولكن
المسيح كان بهذا السؤال رائعاً حقـًّا، فلم ينكر نفسه إلى النهاية وإلاَّ يُحسب
منه تقصيراً، وحاشا. وها هو يقول صراحة: أنا مولود من نسل داود بحسب الجسد فأنا
ابنه حقـًّا، ولكني أنا جئت من الآب فأنا الابن الرب بالحقيقة كما رآني داود،
ونزلت لألبس هذا الجسد وأُوجد به بينكم، وأُذبح به على يديكم!!

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ع عِير 1

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي