الإصحَاحُ
الْخَامِسُ عَشَرَ

 

93   المحاكمة أمام بيلاطس                                                   (1:1515)

94   استهزاء
العسكر                                                          (16:1520)

95   الطريق
إلى الصليب                                                      (21:15و22)

96   الصلب                                                                    (23:1532)

97   الثلاث
ساعات الأخيرة والظلمة تغطِّي الأرض                           (33:1541)

98   الدفن                                                                      (42:1547)

 

93 المحاكمة أمام بيلاطس

[1:1515] (مت 1:2726) (لو 1:2325) (يو 28:18-16:19)

 

رواية ق. مرقس عن محاكمة المسيح أمام بيلاطس عبارة عن مجموعة
فقرات من التقليد جمعها ق. مرقس بحسب أصولها الأُولى. وهو يبدأ بعرض أول فقرة وهي
اجتماعٌ ثانٍ للسنهدريم عُقد صباحاً (1:15)، حيث الاجتماع الأول كان في (55:1464).
وهذه الفقرة تقف مستقلة ولكنها كانت خاصة وهامة لإمكانية عرض القضية على بيلاطس،
وذلك بحسب تسلسل تاريخ الحوادث.

والملاحَظ
أن ق. مرقس يقدِّم عرضاً محدَّداً مختصراً، ولكن عند ق. متى ابتدأ التقليد يتسع مع
بعض الإضافات الجديدة التي جُمعت بعد ذلك، مثل موضوع حلم زوجة بيلاطس (مت 19:27)،
وغسل أيدي بيلاطس (مت 24:27 إلخ). أمَّا ق. لوقا فيضيف المحاكمة أولاً أمام هيرودس
أنتيباس (لو 23: 612) كعمل مصالحة بين بيلاطس وهيرودس لأنهما كانا في
عداوة.

أمَّا
ق. يوحنا فيعطي للقصة شكلاً درامياً مؤثراً، ويصوِّر بيلاطس يخرج من دار الولاية
ليكلِّم الكهنة الممتنعين عن دخول دار الولاية (الأُممية) لئلاَّ يتنجَّسوا، وهم
يريدون أن يأكلوا الفصح في هذه الليلة. ثم يعود إلى دار الولاية يتناقش مع المسيح
في موضوع أن “المسيح ملك”. ثم يُخرج المسيح لابساً تاجاً من شوك وثوباً قرمزياً
وبيلاطس هاتفاً بالجمع الحاشد «هوذا الرجل
« وأخيراً يخضع للتهديد التهكمي: «إن أطلقتَ هذا فلستَ محباً لقيصر. «(يو 12:19)

كل
هذه والتطورات في القضية جعلت المحاكمة تحتل مكانة هامة جداً في التقليد، وهي تحمل
في مجملها تأكيداً شديداً على براءة المسيح واتهام اليهود أمام الله والتاريخ.

ولكن
بالمقارنة نجد تسجيل ق. مرقس يمتاز بالبساطة المتناهية والواقعية، فإن لم يكن هذا
عن شاهد عيان مباشرة، وهو الأرجح، فهو حتماً عن شاهد لشاهد عيان.

1:15 «وَلِلْوَقْتِ
فِي الصَّبَاحِ تَشَاوَرَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْكَتَبَةُ
وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ، فَأَوْثَقُوا يَسُوعَ وَمَضَوْا بِهِ إِلَى بِيلاَطُسَ».

هذه
هي الحصيلة النهائية من تشاور رؤساء الكهنة والشيوخ والكتبة، الذي بدأ أولاً
بانعقاد السنهدريم ليلاً، ووصفه ق. مرقس في (55:1465). لذلك حُسبت هذه
محاكمة ثانية.

«فأوثقوا يسوع»: d»santej

لأول
مرَّة في إنجيل ق. مرقس ترد هذه الكلمة في رواية الآلام، وهذه هي بدايات آلام
وعذابات ابن الإنسان، “القيود” في يديْ رب الحرية الحقيقية للإنسان: «فإن
حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً.
«(يو 26:8)

نعم
هذه أول غرامة يتحمَّلها المسيح من عالم الخطية، فالخطية بحسب المسيح أقصى قيد
تَقيَّد به الإنسان:

+
«الحق الحق أقول لكم: إنَّ كُلَّ مَنْ يعمل الخطيةَ هو عبدٌ للخطيةِ
أنا أعلم أنكم ذُرِّية إبراهيم. لكنكم تطلبون أن تقتلوني لأن كلامي لا موضع له
فيكم … ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني، وأنا إنسان كلَّمكم بالحق الذي سمعه من
الله. هذا لم يعمله إبراهيم. أنتم تعملون أعمال أبيكم … أنتم من أبٍ هو إبليس،
وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتَّالاً للناس من البدء.
«(يو 8: 3444)

لقد
قبل المسيح القيود في يديه ليستطيع بالنهاية أن يفك قيودهم الأبدية من الخطية
والشيطان والعالم. فالقيود كانت الخطوة الأُولى على طريق الصليب.

«بيلاطس»:

وهو
بنتيوس بيلاطس ووظيفته والي اليهودية من قِبَل الإمبراطورية الرومانية، وبالرغم من
سمعته السياسية السيئة جداً، لكن تحتفظ
الأناجيل بذكرى حسنة لشخصيته وتصرفاته إلاَّ ضعفه أمام
اليهود.

لثلاث
مرَّات يعلن بيلاطس في كل من تقليد ق. لوقا وق. يوحنا أنه أراد ملحاً أن يطلق
المسيح. ففي هذه القضية واضح أقصى الوضوح أنه يلقي على الأُمة اليهودية ورؤسائها
وشيوخها مسئولية موت المسيح.

والقديس
مرقس يخص بيلاطس بالرغم من كشفه لضعفه أنه لم يقبل أبداً
ادعاءات اليهود واتهاماتهم، وق. مرقس إذ يعلم أنه يكتب لتقليد الكنيسة الداخل ليس
في التاريخ بقدر ما هو داخل في العبادات والإيمان بالمسيح، لذلك لم يسترسل في وصف
المكان ولا الظروف ولا الحاكم. أمَّا القارئ
المسيحي فهو حتماً عارف بكل هذه الأوصاف. فالقديس مرقس يكتب للكنيسة في

عَقْدها الثاني من بعد قيامة الرب من الأموات، والأماكن على طبيعتها والأسماء
أصحابها أحياءٌ يُرْزَقون.

ويحكي
يوسيفوس المؤرِّخ اليهودي أن محل إقامة بيلاطس كان أحد قصور هيرودس الكبير حينما
انتقل من قيصرية إلى اليهودية في وقت العيد! ولكن كثير من العلماء يعتقدون أن
إقامته كانت في قلعة أنطونيا الموجودة في شمال الهيكل والمُطِلَّة عليه.

2:155 «فَسَأَلَهُ بِيلاَطُسُ:
أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ تَقُولُ. وَكَانَ
رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ كَثِيراً. فَسَأَلَهُ بِيلاَطُسُ
أَيْضاً قَائِلاً: أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ اُنْظُرْ كَمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ!
فَلَمْ يُجِبْ يَسُوعُ أَيْضاً بِشَيْءٍ حَتَّى تَعَجَّبَ بِيلاَطُسُ».

بلا
أي مقدِّمات أو توضيحات للظروف، يسجِّل ق. مرقس مباشرة أول سؤال في تحقيق طلب صلب
المسيح: هل أنت ملك؟ وهنا واضح أن الذي وضع في فم بيلاطس هذا السؤال هو اتهام
اليهود بأن المسيح يدَّعي أنه «ملك
« والمقصود طبعاً أنه ملك على اليهودية. وهذا أول عود ثقاب لإشعال
قضية سياسية مؤدَّاها أن المسيح يطالب بمملكة اليهود، وبالتالي يصير عدواً لقيصر
ومزاحماً لبيلاطس. واليهود عرضوا الوجه الآخر لاتهامهم هم بأنه هو المسيَّا،
فمسيَّا اليهود يكون بالتالي ملكاً ضد قيصر في المستوى السياسي الكَيدي.

ويُلاحِظ القارئ لغة التهكم أو الاستصغار التي طرحها بيلاطس:
«أأنت ملك اليهود؟
«وأنت هنا مركز
التهكم، وذلك طبعاً وبالضرورة راجع لشكل المسيح وهو مقبوض عليه ولبسه وتواضع
منظره!! «لا صورة له ولا جمال (ملوكية) فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه (مع أنه كل
المشتهى)، محتقر ومخذول من الناس (اليهود)، رجل أوجاع (سبق ضربه في بيت رئيس
الكهنة) ومختبر الحزن (على حالي وحالك)، وكمستَّر عنه وجوهنا محتقر فلم نعتد به
«(إش 53: 2و3). أأنت ملك اليهود؟؟

وكانت
إجابة المسيح: «أنت تقول
«لا توحي شكلاً بنعم أو
لا، ولكن فيها وفي أعماقها كل الرد. بمعنى ها أنت تقول! لأن المسيح اعتاد أن لا
يرد على السؤال إلاَّ بسؤال، أو بقول يُحْرِج السائل. وهنا وَضَعَ بيلاطس في هذا
الحرج لأنه ينقل عن آخرين ما لا يؤمن به. وقد أوضح القديس يوحنا هذا الرد هكذا:

+
«أجابه يسوع: أمن ذاتك تقول هذا، أم آخرون قالوا لك عني؟ أجابه بيلاطس: (في الحال لينفي عن نفسه أنه يؤمن بذلك) ألعلي أنا يهودي؟
أُمَّتك ورؤساء الكهنة أسلموك إليَّ.
«(يو 18: 34و35)

«يشتكون عليه كثيراً»:

بمعنى
وضعوا اتهامات كثيرة لم يَخُضْ فيها ق. مرقس. ولكن من مُجْرَيات الحديث لم يتحرَّك
المسيح أو يرد بأي شيء في مقابل هذه الاتهامات، لأنه كما سبق وقلنا إن المسيح قادم
على الصليب ليحمل كل أخطاء وخطايا البشرية، فمهما قدَّموا من اتهامات تُفيد أنه
صانع شر: «لو لم يكن فاعل شر لما كنا قد سلَّمناه إليك
«(يو 30:18)، فهذا يدخل سهلاً مهلاً في مجموع حمل الخطايا الكثيرة
جداً: «وضع عليه إثم جميعنا
«(إش 6:53)، «الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة «(1بط 24:2)

ولكن
صمت المسيح لم يستطع أن يجد بيلاطس له حلاًّ!! لذلك تعجَّب، وله أن يتعجَّب جداً،
لأن بهذا الصمت سيفقد المتهم حقَّه في أي تبسيط للعقوبة، وسيفقد القضية برمتها،
وتُعتبر هذه الاتهامات كلها صحيحة لأن المتهم لم يستطع أن يرد عليها. ولكن ليست
الأمور هكذا في مواجهة هذا البريء العظيم في مظهره، الذي كل شيء فيه ينطق لا
بالبراءة بل بالبرارة. لذلك في إنجيل ق. يوحنا نسمع أن بيلاطس بدأ أن يخاف منه (يو
8:19).

لقد تحيَّر بيلاطس للغاية: «فدخل أيضاً إلى دار الولاية
وقال ليسوع: من أين أنت؟ وأمَّا يسوع فلم يُعطه جواباً. فقال له بيلاطس: أما
تكلمني؟ ألست تعلم أن لي سلطاناً أن أصْلِبَك وسلطاناً أن أُطلقك؟ فأجاب يسوع: لم
يكن لك عليَّ سلطان البتَّة، لو لم تكن قد أُعطيت من فوق.
«(يو 19: 911)

ولعل
أقوى اتهام ركَّز عليه رؤساء الكهنة هو ما سجَّله ق. لوقا في إنجيله:

+
«وابتدأوا يشتكون عليه قائلين: إننا وجدنا هذا يُفسد الأُمة، ويمنع أن تُعطى جزية
لقيصر، قائلاً: إنه هو مسيحٌ ملكٌ.
«(لو 2:23)

ولكن
هذا الاتهام عينه ذكره ق. مرقس مبسَّطاً للغاية مما جعل بيلاطس يسأله: «أأنت ملك؟
« والجواب على ذلك جاء في إنجيل ق. يوحنا:

+
«مملكتي ليست من هذا العالم.
«(يو 36:18)

وأخيراً
قال بيلاطس كلمته مؤكِّداً:

+
«وخرج أيضاً إلى اليهود وقال لهم: أنا لست أجد فيه علة واحدة.
«(يو 38:18)

وعاد
بعد الحوار الثاني يقول:

+
«ها أنا أخرجه إليكم لتعلموا أني لست أجد فيه علة واحدة.
«(يو 4:19)

وبعدها
أيضاً حينما علم أنه ابن الله:

+
«ومن هذا الوقت كان بيلاطس يطلب أن يطلقه.
«(يو 12:19)

6:1510 «وَكَانَ يُطْلِقُ لَهُمْ
فِي كُلِّ عِيدٍ أَسِيراً وَاحِداً، مَنْ طَلَبُوهُ. وَكَانَ الْمُسَمَّى
بَارَابَاسَ مُوثَقاً مَعَ رُفَقَائِهِ فِي الْفِتْنَةِ، الَّذِينَ فِي
الْفِتْنَةِ فَعَلُوا قَتْلاً. فَصَرَخَ الْجَمْعُ وَابْتَدَأُوا يَطْلُبُونَ أَنْ
يَفْعَلَ كَمَا كَانَ دَائِماً يَفْعَلُ لَهُمْ. فَأَجَابَهُمْ بِيلاطُسُ:
أَتُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ مَلِكَ الْيَهُودِ؟ لأَنهُ عَرَفَ أَنَّ
رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوهُ حَسَداً».

يذكر
إنجيل ق. يوحنا قصة باراباس، ولكن إنجيل ق. لوقا لم يأت على ذكرها. وقد انتهز
بيلاطس فرصة عادة أن يطلق لهم أسيراً يعيِّنونه هم فطلب هو أن يُطلق لهم يسوع.
والسبب عجب حقا! وهو أنه علم أن رؤساء الكهنة أسلموه حسداً!! إذن، فأساس القضية
منهار عند بيلاطس ومزعزع، وأركان القضية قائمة على ضغائن وأحقاد وحسد، وبذلك تكون
قد سقطت قانونياً، وهذا ما جعل بيلاطس يحاول أن يتخلَّص من هذه القضية بأي ثمن،
فطلب هو أن يطلق لهم يسوع! ليريح ضميره كقاضٍ. وكان قد سبق كما جاء
في إنجيل ق. يوحنا أن حاول أن يتخلَّص من هذه القضية أصلاً:

+
«خذوه أنتم واحكموا عليه حسب ناموسكم.
«(يو 31:18)

وهكذا
أراد مرَّتين أن يتخلَّص من القضية بجملتها، وثلاثَ مرَّاتٍ يعلن براءة المتهم!!

كان
بيلاطس في قضية المسيح قاضياً نزيهاً للغاية، ويمثِّل القضاء الروماني أصدق تمثيل!
ولكن تحت مراوغة اليهود وتهديدهم بقيصر تصرَّف كحاكم ولم يتصرَّف كقاضٍ!!

11:15و12
«فَهَيَّجَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ الْجَمْعَ لِكَيْ يُطْلِقَ لَهُمْ
بِالْحَرِيِّ بَارَابَاسَ. فَأَجَابَ بِيلاَطُسُ أَيْضاً وَقَالَ لَهُمْ: فَمَاذَا
تُرِيدُونَ أَنْ أَفْعَلَ بِالَّذِي تَدْعُونَهُ مَلِكَ الْيَهُودِ؟».

لقَّنَ
رؤساء الكهنة الشعب المحيط بهم، وهم من أتباعهم وخدَّامهم، لكي ينادوا ويصرخوا أن
يطلق لهم باراباس، ولكن ليس بنوع الطلب المهذَّب، بل بالإثارة والهياج كنوع من
إظهار القوة والغضب للتخويف. والناظر من بعيد يتهيأ له أن هذا معقول، فاللص بحسب
مهنته وانحطاطه أقرب إلى رؤساء الكهنة والشعب المأجور، أمَّا المسيح فمطلوب
التخلُّص منه، ولكن هل إلى هذا الحد؟ أن يُقارَن المسيح بلص فيربح اللص الرهان؟

+
«ظُلم أمَّا هو فتذلَّل ولم يفتح فاه.
«(إش 7:53)

لقد
قاسى المسيح مشقَّة الفداء ليس على الصليب فحسب، بل في قلوب الرؤساء والخدَّام،
وأن يُحسب كلص: «كأنه على لصٍّ خرجتم
«(مر 48:14)، ولكن كان اللص أفضل منه! أطلق لنا باراباس
والمسيح اصلبه! مَنْ يصدِّق؟ ولكن المسيح وافق والسكوت علامة الرضى!! ألم يأتِ
ليحمل عن الناس عيوبهم الأخلاقية والنفسية وخطاياهم جملة وتفصيلاً؟ ألم يأتِ
لينادي للمأسورين بالإطلاق؟ (لو 18:4)، فلماذا
لا يُطلق باراباس؟ فطالما إطلاق باراباس لا يُعطِّل
الصليب فليُطلق باراباس. مَنْ يقيس لنا هنا أعماق نفس
المسيح؟ مَنْ يكشف لنا أغوار هذا العمق
الفدائي الذي صنعه المسيح في نفسه
قبل أن يصنعه على الصليب؟ مَنْ يصدِّق؟ مَنْ يحتمل؟ مَنْ يرضى؟ ولكن المسيح صدَّق
واحتمل ورضِيَ!! أمَّا أن نَرْضَى نحن فشاق على النفس جداً أن تقبل هذا العرض
إلاَّ إذا كانت على مستوى استعداد المسيح، أن تتساوى بلص ويُحسب اللص أفضل منها!!

13:15و14 «فَصَرَخُوا
أَيْضاً: اصْلِبْهُ! فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ؟ فَازْدَادُوا
جِدًّا صُرَاخاً: اصْلِبْهُ!».

الصراخ
هنا لا محل له على الإطلاق، فالصوت المنادي بإطلاق باراباس كان على مستوى الطلب
والرجاء، وهنا صراخ على مستوى الأمر بالصلب. هذا الأمر أخرج بيلاطس عن عقله: «وأي
شرٍّ عَمل؟
«صراخ بالمزيد!! أصلبه لثلاث مرَّات: «اصلبه! اصلبه! فقال لهم
ثالثة: فأي شرٍّ عمل هذا؟ إني لا أجد فيه علة للموت
«(لو 23: 21و22)، «أنا
لست أجد فيه علة واحدة«
(يو 38:18)، «أنا أخرجه إليكم لتعلموا إني لست أجد
فيه علة واحدة.
«(يو
4:19)

وفي
إنجيل ق. متى هنا بالذات لم يجد بيلاطس وسيلة لإسكاتهم، ولكن أعلن براءة ضميره:

+
«فلما رأى بيلاطس أنه لا ينفع شيئاً، بل بالحري يحدث شغبٌ، أخذ ماءً وغسل يديه
قدَّام الجميع قائلاً: إني بريء من دم هذا البار.
أبصروا أنتم. فأجاب
جميع الشعب وقالوا: دَمُهُ علينا وعلى أولادنا.
«(مت 27: 24و25)

15:15 «فَبِيلاَطُسُ إِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ
يَعْمَلَ لِلْجَمْعِ مَا يُرْضِيهِمْ، أَطْلَقَ لَهُمْ بَارَابَاسَ، وَأَسْلَمَ
يَسُوعَ، بَعْدَمَا جَلَدَهُ، لِيُصْلَبَ».

يُلاحِظ
القارئ أن بيلاطس قاضٍ غريب عن الأُمة وهو حاكم بآن واحد، وأهم ما يسعى إليه في
حكمه على هذا الشعب العنيد أن يفعل ما يرضيه ليكْفِيَ نفسه شر هذه الأُمة التي
أتعبت الله إن جاز هذا التعبير. اسمع تقرير موسى اليهودي وهو قاضي، وحاكم، ونبي
هذا الشعب، ماذا قال في آخر أيامه:

+
«إنهم أُمة عديمة الرأي ولا بصيرة فيهم …
صخرهم باعهم والرب سلَّمهم … عنبهم عنب سم ولهم عناقيد مرارة. خمرهم حُمَةُ الثعابين
وسُمُّ الأصلالِ القاتل.«
(تث 32: 28و29و32و33)

وأمَّا
الجلد فهو قانون عقوبة الذي يُقدَّم للموت. والجلد يتم بسوط من الجلد فيه قطع
رصاص. والمحكوم عليه يوثق في عامود ويُضرب على الظهر عارياً. لقد قاسى هذه أيضاً
المسيح في مشوار الفداء ووافق مقدَّماً ليكون هو لكل إنسان ظهراً مضروباً لينال
بواسطته البراءة. لم يئن، لم يستعفِ أو يطلب الإعفاء لكي لا تقع على مَنْ يؤمن به
ضربة واحدة! لقد وفَّى العقوبة بالكامل حتى يتقدَّم باسم المسيح
كل خاطئ لينال عن حق وجدارة غفراناً كاملاً:

+
«وبجلدته شفينا.
«(إش 5:53، 1بط
24:2)

 

94 استهزاء العسكر

[16:1520] (مت 27:2731) (يو 2:19و3)

 

تبدأ الرواية هنا بعد أن تمَّ الجلد عندما سلَّمه بيلاطس
ليُصلب، وتُعتبر الأعداد من (1620)
رواية عينية خاصة بذاتها، ويعطي ق. يوحنا مثيلتها في
(19: 2و3). غير أن الاستهزاء في إنجيل ق.
يوحنا يأتي قبل النطق بالحكم،
وهذا بعيد عن الواقع ويُعتبر بالنسبة لتقليد القديس مرقس في الدرجة الثانية. وأمَّا ق. لوقا فيغيب عنده هذا
الفصل، وإنما يحل محلَّه عرض المسيح للمحاكمة الجانبية أمام هيرودس (لو 11:23): «فاحتقره
هيرودس مع عسكره واستهزأ به وألبسه لباساً لامعاً وردَّه إلى بيلاطس
«

ولكن في رواية ق. مرقس تقع إساءة معاملته مرَّة أُولى قبل
هذه بيد رؤساء الكهنة والخدم، وخاصة تسجيل عملية البصق والضرب على الرأس، وذلك قبل
تقديمه لبيلاطس (مر 65:14). وهي توضِّح شماتة رؤساء الكهنة ورعاعهم بلا حق، وسواء
كان في الموقف الأول أو الثاني نجد رواية ق. مرقس بما فيها من حيوية
ويقظة ودقائق التفاصيل أكثر واقعية، وأكثر أصالة، ومسجَّلة تاريخياً
بشهادة شهود أوائل. والحقيقة أن أوقع ما فيها من حيوية غير مفتعلة هي إساءة
العسكر، إذ تتناسب أعمالهم مع ما يُوصفون به من موت المشاعر. لذلك فقد حسب العلماء
بعد أبحاث كثيرة أن تقليد ق. مرقس في وصف الاستهزاء بالرب قطعة واقعية تاريخية
تزيد الآلام أصالة.

16:1518 «فَمَضَى
بِهِ الْعَسْكَرُ إِلَى دَاخِلِ الدَّارِ، الَّتِي هِيَ دَارُ الْوِلاَيَةِ،
وَجَمَعُوا كُلَّ الْكَتِيبَةِ. وَأَلْبَسُوهُ أُرْجُواناً، وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً
مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَيْهِ، وَابْتَدَأُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ
قَائِلِينَ: السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ!».

«دار الولاية»: praitèrion وباللاتينية: praetorium

وهو دار الحكومة حيث يتواجد فيه الحاكم، وهو بحسب الأبحاث
إمَّا قصر هيرودس الكبير الفخم أو قلعة أنطونيا. أمَّا اجتماع العسكر كُلِّهم عليه
فكانت مأساة أليمة قبلها المسيح وحيداً وسط ذئاب ضارية لا تعرف الرحمة. يا لحزن
قلبه الوديع البريء المحب عن مجازاة البشرية التي جازوه بها على يدي هذه الأُمة
التي شيمتها الحماقة، هكذا جازوه عوض الحب والبذل الذي أحدره من حضن الآب ليصنع
فداءً لبني الإنسان. كان منظره كإنسان سقط في وسط جب أسود جائعة ليتسلُّوا به قبل
أن يأكلوه. وقد حرص في نفسه جداً أن لا تقع عينه على أعينهم لئلاَّ يرتاعوا،
لئلاَّ يُصعقوا، فكان يتفادى النظر إليهم وكأنما هو غير موجود في تمثيليتهم
الوحشية. كان مشغولاً بالتلاميذ وبالأجيال الآتية كيف يُنشيء شعباً جديداً يقدِّم
توبة عن هؤلاء وعن ما فعله اليهود الشعب المختار!

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس قاموس الكنيسة أزل ل

وكان إكليل الشوك الذي ضفروه وضغطوه فوق رأسه يُدمي جبهته
وأذنيه، فاعتبره الصورة الحتمية على الأرض لإكليل المجد المعد بأيدي الملائكة في
السماء. فمجد الله حوَّله الأشرار إلى شوك وخزي وعار بأيديهم. ومجد التجلي والثياب
البيضاء كالثلج صارت في أيديهم ثوب هزءٍ لِمَلكٍ مستعار وأعطوه سلام خزيهم. ولكن
الذين أسلموه لأيديهم خطيتهم أعظم.

19:15و20 «وَكَانُوا يَضْرِبُونَهُ عَلَى رَأْسِهِ
بِقَصَبَةٍ، وَيَبْصُقُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسْجُدُونَ لَهُ جَاثِينَ عَلَى
رُكَبِهِمْ. وَبَعْدَمَا اسْتَهْزَأُوا بِهِ، نَزَعُوا عَنْهُ الأُرْجُوانَ
وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ، ثُمَّ خَرَجُوا بِهِ لِيَصْلِبُوهُ».

والآن بدأوا يمارسون مهنتهم بالضرب والتعذيب، والجسم الغض
والرأس الكريمة نالها ما نالها: الجسم ترضضت عظامه والرأس غطَّتها الكدمات.
والعجيب أنه بقي رابط الجأش صامتاً بوداعة كالنعجة أمام الذي يجزّها لم يفتح فاه!!
لقد سلَّمه لهم اليهود باعتبار أنه مرفوض من الله، فصدقوا الآية وحسبوه مضروباً
حقا من الله ومذلولاً، فأكملوا كيل اليهود! أمَّا هو فرضي بجروحه إذ حسبها ثمن
معاصينا، وقَبِلَ سحق عظامه إذ قيَّمها بآثامنا، وقَبِلَ استهزاء العسكر كتأديب
ثمناً لسلامنا!! أما دمه الذي كان يسيل على وجهه ورأسه وظهره فكان لشفائنا.
والبصاق ثمن خزينا!

إن كان الخاطئ أو الأثيم إذا وقع بين أيدي العسكر هكذا
يصنعون به ولا حرج ولا لوم عليهم ولا تثريب، فما بالك بالذي وُضع عليه إثم جميعنا؟
أليس من حق العسكر أن يضربوا الرأس التي حملت خطية الإنسان وكل فجوره؟ لقد سلَّموه
إليهم كصانع شر، فماذا يليق بصانع الشر غير ما صنعوه؟ أمَّا ما هو “الكأس”
الذي وُضع عليه ليشربه حتى الثمالة فهذا هو كأس
تعاذيبه. نعم هذه صورة
مصغَّرة من «الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها؟
«(يو 12:18). شربها
المسيح وهو هادئ النفس والأعصاب لأنه استلمها من يد الآب قبل أن تصل إليه بأيدي الوحوش!!

فالذي
سكب للموت نفسه كيف لا يُحصَى مع أثمة؟ والذي جعل نفسه ذبيحة إثم كيف لا ينتثر
لحمها بتسع وثلاثين جلدة؟

+ «يا أبتاه، إن شئت أن تجيز
عني هذه الكأس. ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك.
«(لو 42:22)

وبعد أن شرب هذه الكأس حَقَّ له أن يستعيد ملابسه ليحمل
الخشبة وجروحه مستورة.

 

95 الطريق إلى الصليب

[21:15و22] (مت
32:27و33) (لو 26:23
32) (يو
16:19و17)

 

في
الحال يتغير المنظر، فبعد فرقة التعذيب تأتي عساكر بيلاطس الخاصة تسلِّم الحمل
لقائد المائة ومساعديه، وفي الحال تتوقَّف أعمال الإهانات وبطش الوحوش، فينشغل
الجميع بتنفيذ الأوامر الخاصة بكل انضباط. وحسب العادة وضعوا على المسيح الصليب
وحمله حسب إنجيل ق. يوحنا (17:19)، ولكنه لم يقوَ إذ بدأت تخور قواه، فانتبه
العسكر لثقل الصليب أنه فوق الطاقة. وإذ تلفتوا رأوا شخصاً قادماً فسخَّروه لحمل
الصليب. وهذا الشخص يعرفه ق. مرقس، وهو الوحيد الذي يذكره بالتفصيل مع اسم أولاده،
ويذكر بالتفصيل هذه الحادثة المختصة به، وهو سمعان القيرواني وهو بلديات ق. مرقس.
ويزيد ق. مرقس التعريف به لغرض في نفسه إذ يقول إنه «أبو ألكسندرُس ورُوفُس
«(مر 21:15)، وذلك ليعطينا وقفة تأمل لماذا هنا الأسماء؟ فالقديس
مرقس يمتنع نهائياً عن ذكر الأسماء حتى وفي أهم المواقف، حتى إنه لم يذكر اسم رئيس
الكهنة، وكان قيافا معروفاً لدى الكل. فلماذا هنا يتوقَّف أمام هذه الحادثة
الجانبية جداً ليذكر اسم شخص عابر سبيل ويعرِّفنا بأنه هو سمعان الذي من مدينة
القيروان، وأنه أبو ألكسندرُس ورُوفُس. والآن ليس من الصعب أن يزول الغموض إذا
عرفنا أن ق. مرقس من القيروان “كيريني” بشمال إفريقيا، وأنه نزح منها منذ سنوات
قليلة. إذن، فسمعان ليس من بلدياته فقط، لأنه يذكر ابنيه بشيء من العاطفة للتعرُّف
على أهميتهما بالنسبة له شخصياً، إذن فهما من العائلة وقد نزحا معاً. وربما
ويقدِّر معي بعض العلماء هذا أن ثلاثتهم كانوا يقطنون نفس منزل ق.
مرقس. وهكذا يأتينا شعاع من نور يلقي على قصة القبض والآلام وضوحاً أن ق. مرقس كان
شاهد عيان. وهذا يكشف لنا لماذا وكيف يعطي ق. مرقس بيانات خاصة ودقيقة للغاية في
إنجيله عن آلام المسيح بأكثر دقة من كافة الأناجيل. وهذا هو المقطوع به لدى كل
العلماء أن إنجيل ق. مرقس يختص بذكر الآلام.

كان
القديس مرقس سائراً وراء المسيح ومرافقاً من بعيد ومن قريب على طول الآلام!! منذ
لحظة أن خرج معهم من العلية إلى جثسيماني وإلى الصليب.

21:15و22 «فَسَخَّرُوا
رَجُلاً مُجْتَازاً كَانَ آتِياً مِنَ الْحَقْلِ. وَهُوَ سِمْعَانُ
الْقَيْرَوَانِيُّ أَبُو أَلَكْسَنْدَرُسَ وَرُوفُسَ، لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ.
وَجَاءُوا بِهِ إِلَى مَوْضِعِ جُلْجُثَةَ الَّذِي تَفْسِيرُهُ مَوْضِعُ
جُمْجُمَةٍ».

يهتم
ق. مرقس كما قلنا في المقدِّمة بذكر اسم الرجل حامل صليب ربنا يسوع المسيح
وقد أخذت عنه الأناجيل بدون مناقشة. ويؤكِّد ضمناً أنه يعرفه معرفة شخصية وأُسرية
قريبة له للغاية. ولأن ق. مرقس كان سائراً وراء الموكب الحزين يذرف الدمع السخين،
يؤكِّد عن معرفة خاصة للغاية أن سمعان كان قادماً من الحقل، حيث الحقل هو خارج
أُورشليم. وهذا يكشف لنا بأكثر دقة وبيان أن هذا اليوم لم يكن عيداً للفصح، لأن
إنساناً يدخل من أُورشليم مسافراً من الخارج يمنع أن يكون يومه هذا يوم الفصح.

ولكن
يمدنا العالِم ألفريد بلومر بمعلومة هنا عن كلمة هامة أوردها ق. مرقس في بداية
الجملة لأهميتها وهي كلمة «سخَّروه
«

«سخَّروه»: ¢ggareÚousin

ويقول
هذا العالِم إنها كلمة فارسية أصلاً وكانت تفيد إلزام الناس لخدمة أمور الملك بلا
أجر([1])
وهي تشبه الكلمة الرومانية
cursus
publicus
لخدمة الامبراطورية،
والكلمة الفرنسية تُقرأ
corvée ولكن أصبحت الكلمة بعد ذلك شائعة لتفيد الخدمة الإجبارية لدى
الحكومة والملك، وذلك حسب رأي دايزمان([2])،
ويقول العالِم ألفريد بلومر إن سمعان القيرواني هذا كان أحد الجالية القيروانية
اليهودية التي اجتمعت يوم الخمسين (أع 1:2، 9:6)، ويبدو أن ق. مرقس نفسه كان أحد
أعضاء هذه الجالية بل وكان من أثريائها. ويُلاحَظ أن إنجيل ق. مرقس وحده هو الذي
يعرِّفنا بأن سمعان أبو ألكسندرُس وروفس! ويقول ق. لوقا إن العسكر وضعوا الصليب
على كتف سمعان كنوع من مساعدة المسيح لثقل الصليب.

«جلجثة»:

ويعطيها
كل من ق. مرقس وبعده ق. متى وق. يوحنا شرح اسمها وهي «موضع جمجمة
Kran…ou
TÒpoj
« أمَّا ق. لوقا فيكتفي فقط بالاسم اليوناني Kran…on الذي يعني “جمجمة”. ويبدو أن أصل اسمها إمَّا تقليد غير معروف أو
بسبب شكل هذه الصخرة. ويخبرنا ق. جيروم (وكان من قاطني أُورشليم فترة طويلة من
حياته) بتقليد يقول إن هذا المكان دُعي بهذا الاسم نظراً لدفن جمجمة آدم في هذا
المكان، وهكذا صار هو نفس المكان الذي صُلب عليه ربنا يسوع المسيح حتى يتقابل
مُعطي الحياة مع مُعطي الموت لتنتصر الحياة بالنهاية. ويبدو أن ق. أمبروسيوس اعتقد
هذا الاعتقاد، غير أن جيروم يقول إنه مجرَّد اعتقاد شعبي، وكذلك يقول ذهبي الفم إنه
مجرَّد اسم. أمَّا الاسم الإنجليزي:
Calvary فهو من اللاتينية في الفولجاتا Calvariae
وهو ترجمة لكلمة كرانيون، أي جمجمة.

أمَّا
طريق الآلام
Via Dolorosa فهو اسم دخل في القرون الوسطى ويُظن أنه الطريق الذي سار عليه
الرب حاملاً الصليب.

 

96
الصلب

[23:1532] (مت 34:2744) (لو 33:2343) (يو
18:1926)

 

يقدِّم
القديس مرقس قصة مختصرة ذات أساس مكين من التقليد الراسخ وذات اتجاهات تاريخية.
والكل مرتَّب على أساس مراحل زمنية من ثلاث ساعات. ولكن تتميز الساعات الثالثة
والسادسة والتاسعة بتركيز شديد ملفت للنظر. ومن هذه الثلاث وقفات ذات العنف الزائد
تكمُل القصة. ومنظر النسوة الواقفات كأنهن يقدِّمن صورة للقيامة التي سيشاهدنها
كما شاهدن الصليب والمصلوب. وهناك لفت النظر إلى صرخة المسيح العالية مرَّتين في
الآية (34و37). أمَّا كل الأشخاص والأسماء الماضية على طريق الصليب فأخذت تختفي
واحدة وراء الأخرى ليبقى المسيح وحده ملك القصة المأساوية حيث تتركز فيه كل
الاهتمامات. وهكذا نجح ق. مرقس في أن يجذب في النهاية جميع الأنظار إلى المصلوب.
ولكن ترتيب القصة في منظرها العريض يثير الإعجاب للغاية. وواضح أن قصة الصلبوت
تذهب بعيداً جداً إلى لحظات البداية الأُولى لشاهد عيان قادر على التسجيل الفوري.
ولكن يبدو التقليد واضحاً كيف صاغ من هذه الحوادث المتقطعة هذه القصة المنسجمة
المنقطعة النظير. وبالنهاية نحن في هذه القصة نواجه أساسها الأول.

23:15 «وَأَعْطَوْهُ خَمْراً مَمْزُوجَةً
بِمُرٍّ لِيَشْرَبَ، فَلَمْ يَقْبَلْ».

يقول
ق. مرقس في الآية (22): «وجاءوا به إلى موضع جُلجُثة الذي تفسيرة موضع جُمجمة
« وكان موضع جلجثة خارج أبواب أُورشليم، وهو الموضع الذي تحتله
كنيسة القبر المقدَّس الآن، وقد تعيَّن منذ زمن بعيد جداً. ولمعرفة مكان القبر
المقدَّس تقليد قديم في الكنيسة له قصة طويلة، إذ يُقال أن اليهود حاولوا أن
يطمسوا معالم القبر المقدَّس بأن كانوا يلقون فوقه المخلَّفات حتى صار كومة عالية
من الزبالة. ولما جاءت الملكة هيلانة تبحث عن القبر المقدَّس في القرن الرابع،
فبعد جهد كثير دلَّها خبير يهودي على هذه الكومة. وبالحفر عثروا على القبر الفارغ
وعليه بُنيت أول كنيسة وتسميت بكنيسة القبر المقدَّس أو كنيسة القيامة.

«خمراً ممزوجة بمرٍّ»: ™smurnismšnon onon

حاولوا
أن يعطوه هذا المشروب الذي كان قد تعوَّد اليهود أن يسقوه لكل مَنْ يقدَّم للصلب
حتى يخفِّف عنه الإحساس بالألم، لأن من المعروف أن المر مع الخمر يضعف الحساسية
كمخدِّر.

ولكن
إنجيل ق. متى يعطي مادة المرارة الحيوانية
col«= gall
بدل المر
myrrh وهو خُلاصة نباتية، غير أن مرارة الحيوان ليس لها أي تأثير مخدِّر
سوى أنها مرَّة مذاقاً فقط، فقد كتب من أجل طعمها، ولكن ليس من أجل أثرها الطبي.
لذلك فتقليد ق. مرقس هو الصحيح طبياً.

وقد
سبقت النبوَّة تصف هذا المرّ: «ويجعلون في طعامي علقماً([3])
وفي عطشي يسقونني خلاً
«(مز 21:69). والمسيح رفض أن يشرب منها ليس لأنها مرَّة، بل لأنه
يعلم أنها مخدِّرة وتزيل الإحساس بالآلام، وإذا أُفرغ الصليب من الألم ما عاد
صليباً. ويُقال: إن بعض النسوة أخذن على عاتقهن
أن يقدِّمن هذا الشراب المخدِّر بنوع من المواساة الإنسانية وذلك بناءً على وصية
سفر
الأمثال: «أعطوا مسكراً لهالك وخمراً لمرِّي النفس، يشرب وينسى فقره
ولا يذكر تعبه بعد.
«(أم
6:31)

المسيح
رفض المخدِّر لكي يستقبل الصليب صاحي العقل ويقدِّم الوديعة بمنتهى الوعي. كان
الألم بالنسبة للمسيح رفيق رحلة العمر من شتاء بيت لحم القاسي، لتعاذيب الخيانة في
بيت قيافا رئيس الكهنة، لتمزيق الجسد بجلدات بيلاطس، لمسامير الجند فوق الخشبة.
لقد خطَّ الألم في هيكل جسد المسيح خطوطه الأبدية التي لن تُمحى، والتي بها وعلى
خلفيتها يقف أمام الآب يشفع في المذنبين. فلو قُدِّر لنا أن نصف المسيح من واقع
حياته فيمكن أن ندعوه “مسيح الآلام”! كأعظم صفة تربطنا به، وتعزِّي قلوبنا في رحلة
العمر في هذا الدهر وعلى أرض الشقاء هذه. بل إن شركتنا في آلام المسيح تُحسب
لاهوتياً أنها مدخلنا الوحيد إلى شركة المجد معه:

+
«إن كنَّا نتألم معه لكي نتمجد أيضاً معه.
«(رو 17:8)

وأنت
لو قُدِّر لك أن تسأل المسيح عن أفضل شيء وجده في عالمنا لأجاب في الحال: “الألم”،
لأن به وعلى هَدْيِهِ أكمل رحلته إلى الآب وهو حامل البشرية في جسده. بل ولو أُعطي
لك أن تسأل أي قديس استوطن السماء عن أعظم عمل قدَّمه على الأرض ليتأهَّل هكذا أن
يستوطن السماء العلى لأجاب: “الألم”. وعندما تكلَّم ق. بولس وهو «كمختل العقل
«عن مستواه
بالنسبة لباقي الرسل قال: إني أفضل من جميعهم لأني تألمت أكثر منهم (2كو 23:11).

وهل
بعد هذا كان يمكن أن يشرب المسيح مزيج الخمر بالمرِّ؟؟

ويا
لخسارتنا أعظم خسارة لو كان المسيح شرب من الشراب المخدِّر، إذاً لكنا قد فقدنا
الكلمات على الصليب واختزلت الآلام.

24:15 «وَلَمَّا صَلَبُوهُ اقْتَسَمُوا
ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا: مَاذَا يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ؟»

«ولَمَّا صلبوه»: staurèsantej
aÙtÒn

لقد
حُرِمْنَا من أي تعليق من الإنجيليين جميعاً على حادثة صلب المسيح ذاتها، فقد مروا
عليها مروراً بلا تعليق. هل لأن الحادث أعظم وأخطر من أن يجوس فيه عقل إنسان.

لقد
صُلب المعلِّم، أين التلاميذ؟ أين الذين أحبهم حتى الموت!؟

لم
يعطنا أي إنجيل من الأربعة ولا كلمة واحدة غير ما نطق به المسيح على الصليب، ولكن
مقدار ما أعطته لنا المزامير من أوصاف وتعابير وأحاسيس وتقارير طبية ونفسانية
وعصبية وجسدية، شيء يفوق أي واقع يمكن أن يتخيَّله أي إنسان. وقد صدق القول: «أن
الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله.
«(1كو 10:2)

+
«نُسيت من القلب مثل الميت. صرت مثل إناء متلف، لأني سمعت مذمَّة من كثيرين، الخوف
مستدير بي بمؤامرتهم معاً عليَّ. تفكَّروا في أخذ نفسي.
«(مز 31: 12و13)

وربما
يكون مزمور (22) وحده قد أعطى أعظم تقرير عن حالة مصلوب يعاني سكرات الموت حتى
التراب:

+
«فغروا عليَّ أفواههم كأسد مفترس مزمجر. كالماء انسكبتُ. انفصلت كل عظامي، صار
قلبي كالشمع قد ذاب في وسط أمعائي. يبست مثل شقفة قوتي ولصق لساني بحنكي، وإلى
تراب الموت تضعني … ثقبوا يديَّ ورجليَّ. أُحصي كل عظامي وهم ينظرون ويتفرسون
فيَّ. يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون.
«(مز 22: 1318)

+
«قد شبعت من المصائب نفسي وحياتي إلى الهاوية دنت، حُسبت مثل المنحدرين إلى الجب،
صرت كرجل لا قوة له. بين الأموات فراشي مثل القتلى المضطجعين في القبر الذين لا
تذكرهم بعد، وهم من يدك انقطعوا. وضعتني في الجب الأسفل في ظلمات في أعماق. عليَّ
استقر غضبك وبكل تياراتك ذللتني!! أبعدت عني معارفي، جعلتني رجساً لهم، أُغلق
عليَّ فما أخرج، عيني ذابت من الذل …
«(مز 88: 39)

+
«عند كل أعدائي صرت عاراً وعند جيراني بالكلية ورعباً لمعارفي، الذين رأوني خارجاً
هربوا مني.
«(مز 11:31)

+
«كل مبغضيَّ يتناجون معاً عليَّ، عليَّ تفكَّروا بأذيتي، يقولون أمر رديء قد انسكب
عليه، حيث اضطجع لا يعود يقوم!! أيضاً رجل سلامتي الذي وثقت به آكل خبزي رفع عليَّ
عقبه.
«(مز 41: 79)

+
«المياه قد دخلت إلى نفسي غرقت في حمأة عميقة وليس مقرٌّ. دخلت إلى أعماق المياه
والسيل غمرني، تعبت من صراخي، يبس حلقي، كلَّت عيناي من انتظار إلهي، أكثر من شعر
رأسي الذين يبغضونني بلا سبب. اعتز مستهلكيَّ أعدائي ظلماً. حينئذ رددت الذي لم
أخطفه.
«(مز 69: 14)

+
«من أجلك احتملت العار، غطَّى الخجل وجهي، صرت أجنبياً عند إخوتي وغريباً عند بني
أمي، لأن غيرة بيتك أكلتني وتعييرات معيريك وقعت عليَّ.
«(مز 69: 7و8)

+
«نجني من مبغضيَّ ومن أعماق المياه. لا يغمرني سيل المياه ولا يبتلعني العمق ولا
تُطبق الهاوية عليَّ فاها.
«(مز 69: 14و15)

+
«العار كسر قلبي فمرضت، انتظرت رقة فلم تكن ومعزين فلم أجد.
«(مز 69: 20)

لأن الوحي يعلم أنه حينما يُرفع المسيح ليُصلب لن يكون هناك
مَنْ يحكي ولا مَنْ ينعي ولا مَنْ يُدرك طول هذه الأحزان وعرضها، ومدى الأثر الذي
خطَّه الصلبوت بسفك الدم في نفسه وفي جسده. فتبارى سفر المزامير بنوع ممتاز ليرسم
صورة واقعية لآلام وأحزان المخلِّص وهو معلَّق على الخشبة!!

ولو
أوتي القارئ قلباً فهيماً وقرأ وتأمل وأعاد القراءة والتأمل فيما خطَّته النبوات
من مشاعر جدّ عميقة، ومن صور الأحزان وأثرها الفتَّاك من نفس المسيح الوديعة، ومن
عمق الحيرة وهو يتلفت فلا يجد محبين ولا معزين ولا تلاميذ ولا أهلين، نعم لو قرأ
القارئ وتأنَّى فلن تكفيه أيام وشهور ليستجلي هذه الصورة الأليمة ويستنطقها فتنطق
عن قيمتها الإلهية وأثرها في قلب الآب!! لأنه لا ينبغي أن ننسى أن المسيح ولو أنه
صُلب من أجلنا، ولكنه صُلب بالدرجة الأُولى طاعة لأبيه، وبالتالي فإن كانت الآلام
تخصنا حتماً، فهي في جوهرها استجابة لإرادة الآب. فهو لم يحتمل الآلام من أجلنا
نحن فقط بل من أجل تكميل طاعة الآب.

كذلك
فإن كان المسيح قد جاز آلام الصليب التي لا يفوقها آلام عند البشر حبًّا لنا: «أحبني
وأسلم نفسه لأجلي
«(غل
20:2)، فمحبة الآب هي التي أعطته القوة لاجتيازها، فلولا محبة الآب له ما استطاع
المسيح أن يرتفع فوق الصليب راضياً!! ولا احتمل أهوال الموت هذه.

فإن
كان سرّ الصليب يدوِّي في عالم الإنسان حتى اليوم وإلى الأبد، فهو في السماء ولدى
كل السمائيين قد زلزل أعتاب السماء وسماء السموات لمَّا مات الابن على الصليب!! «إني
مرَّة أيضاً أزلزل لا الأرض فقط بل السماء أيضاً
«(عب 26:12). فإن تمخَّضت آلام الصليب عن خليقة صوِّرت على الأرض
فوطنها الأصيل الباقي والدائم هو في السماوات! وإن كنَّا لم نستعلن بعد لاهوت
الصلبوت ومداه فلأننا في الجسد نعيش، أمَّا سرُّه وعمقه ومداه فسوف نُعطى هناك
ونُوهب أن نراه مرسوماً على قلب الآب.

هل تبحث عن  الكتاب المقدس يسوعية كاثوليكية عهد قديم سفر زكريا 07

لذلك
فإن تخاذل الإنسان عن تقييم الصليب هنا فسوف يراه يوماً يملأ بنوره السموات ويضيء
وجه كل السمائيين والمفديين.

«ولمَّا صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين
عليها ماذا يأخذ كل واحد؟»:

يوضِّحها
ق. يوحنا هكذا:

+
«ثم إن العسكر لمَّا كانوا قد صلبوا يسوع أخذوا ثيابه وجعلوها أربعة أقسام لكل
عسكري قسماً، وأخذوا القميص أيضاً وكان القميص بغير خياطة منسوجاً كله من فوق.
فقال بعضهم لبعض لا نشقُّه بل نقترع عليه لمَنْ يكون؟ ليتم الكتاب القائل: اقتسموا
ثيابي بينهم وعلى لباسي ألقوا قرعة. هذا فعله العسكر.
«(يو 19: 23و24)

وهكذا
تكاد حوادث الصلب وأدواته وظروفه ومناسباته وأقواله وأعماله تكون رجعاً تصويرياً
عملياً كصدى النبوات بإحكام يفوق العقل. ولن تجد في جميع حوادث العهد الجديد
مقداراً من النبوات المتزاحمة والإشارات المزدحمة والدقيقة بقدر ما تجدها تدور حول
الصليب مع كل أحزانه وأوجاعه. فهو في الحقيقة المحور الأساسي الذي تدور
حوله كافة الذبائح وكافة الطقوس والمراسيم وكافة النبوات والإشارات. ولا عجب فهو
مركز الموت والحياة معاً للإنسان الجديد.

25:15و26 «وَكَانَتِ السَّاعَةُ الثَّالِثَةُ
فَصَلَبُوهُ. وَكَانَ عُنْوَانُ عِلَّتِهِ مَكْتُوباً: مَلِكُ الْيَهُودِ».

الساعة
الثالثة هنا هي بالتوقيت اليهودي الذي يساوي الآن الساعة التاسعة صباحاً، ولكن جاء
القديس يوحنا بعد ذلك ويبدو أنه تعمَّد فكتب أنها الساعة السادسة. وهنا يظهر أن ق.
مرقس يتبع توقيتاً أو تقليداً خاصاً غير إنجيل ق. يوحنا، لأن الفارق بين التقليدين
شاسع للغاية، ما يقرب من خمسين سنة!! وق. مرقس يتبع الساعة الكنسية الليتورجية في
أيامه وهي التي لا تزال معمولاً بها في الكنيسة القبطية حتى الآن. فالساعة الثالثة
من النهار هي التاسعة صباحاً، والسادسة هي الثانية عشرة والتاسعة هي الثالثة بعد
الظهر.

«ملك اليهود»: O BASILEUS TWN
IOUDAIWN

ولكن
تقليد القديس يوحنا يضيف قبل ملك اليهود اسمه
الرسمي: «يسوع الناصري
«(يو 20:19). وهذه هي علة المصلوب،
إذ أن هذا كان نظاماً رومانياً للتعريف بالمصلوب، وهو في حقيقته العلَّة الشرعية
التي من أجلها صُلب، ولو أنها كانت موضع احتقار بيلاطس لليهود، ولكنها هي التهمة
التي تقدَّموا بها رسمياً لصلبه! وقد كُتب العنوان بالثلاث لغات العبرانية
واللاتينية واليونانية. وعندما احتج رؤساء الكهنة لأنها فعلاً جاءت للتشهير بالأمة
اليهودية كلها، ردَّ عليهم بيلاطس: «ما كتبت قد كتبت
«بكبرياء
الحاكم (يو 22:19).

ولكن
الحقيقة المرَّة في المنظور الإلهي أن رؤساء الكهنة
قتلوا فعلاً ملكهم وعلَّقوه على خشبة! وهكذا وعفوياً حمل المسيح عار الأُمة
اليهودية!! ولكن بحسب تدبير الله والمسيح كان هذا أساساً ليحمل عار البشرية
ولعنتها التي قبلها آدم وورَّثها لبني جنسنا.

ولكن لم يقبل المسيح عار الصليب كجزء من رواية كما هو
مقدَّم الآن في هذا الفصل، بل إن
العار الذي
حمله المسيح كسر قلبه: «العار قد كسر قلبي
«(مز 20:69). فأن يحمل المسيح كرامة
أبيه

ولقبه «أنا هو
«الذي هو لقب يهوه العظيم، ويؤكِّد أنه جاء باسم أبيه ليعمل
مشيئته، ويصنع المعجزات التي تكشف عن أي سلطان يحمل، ثم بعد ذلك يتعرَّى ويُصلب
على خشبة كمجرم ويشهَّر به بين الناس، هنا يبلغ العار مضادته العظمى: حامل المجد
كيف يحمل عاراً. وهي ليست مضادة مجازية أو فكرية، بل مضادة جوهرية يستحيل حدوثها
بأي حال من الأحوال. فعار الابن يلحق الآب ولا محالة!! والعار لعنة، واللعنة إن
أصابت الابن أصابت الآب حتماً. لذلك لولا أن المسيح كشف لنا سر اللعنة التي حملها
لظلَّ الصليب لغزاً لاهوتياً غير مقبول بل عثرة. هنا كشف المسيح الستار عن كيف
تحمَّل المسيح العار وحده، عندما رفع صوته بصراخ ليسمعه الجميع وتسجِّله
الأناجيل والتاريخ وعلماء اللاهوت: «إلهي إلهي لماذا تركتني؟
«(مر 34:15). هذا هو الترك الحتمي الذي أجراه الله على المسيح حتى يمكن أن يجوز اللعنة وحده من أجل البشرية التي
يحملها([4]).
فلولا هذا
الترك الإلهي لما صحَّ الصليب ولما صارت اللعنة لعنة بل ضحكاً!!
هنا صار الصليب صليباً حقا
وزادت
مرارته ألف مرَّة. فَتَرْك الله الآب له هو أشدُّ هَوْلاً من آلام الصليب مراراً،
بل هو الموت
حقا الذي ذاقه المسيح
بالترك قبل أن يذوقه بالموت على الصليب. فالمسيح صُلب مرَّتين، صُلب بترك الآب له
عمداً وصُلب بيد الأشرار قهراً. أو هو صليب ذو وجهين، وجه سماوي قاتم قتام
الظلام الحالك لا نور فيه لاختفاء وجه الآب، ووجه
أرضي اظلمَّت له الدنيا كرجع وصدى لظلمة
السماء،
فاختفى نور الشمس لاختفاء نور
وجه الآب عن الابن رب الخليقة ونورها، كرد
فعل للجريمة التي اقترفها الإنسان من نحو الابن!!

27:15و28
«وَصَلَبُوا مَعَهُ لِصَّيْنِ، وَاحِداً عَنْ يَمِينِهِ وَآخَرَ عَنْ
يَسَارِهِ. فَتَمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ».

يقول
أحد العلماء الظرفاء إنهما كانا من ضمن اللصوص الذين وقع في أيديهم اليهودي
المتغرِّب من أُورشليم نازلاً إلى أريحا، ولا نستبعد أنهما كانا قاطعَيْ طريق،
وكانا على علم بمحاكمة يسوع الغاشة وأدرك أحدهما أنه سيد عظيم ورب. وقد وضع تقليد
الكنيسة اسم “ديماس” للصِّ التائب والآخر أعطوه اسم “جستاس”([5]).
وقد داعب العالم ألفريد القارئ بقوله إنهما احتلاَّ اليمين والشمال للرب عوض يعقوب
ويوحنا. وفي تقليد القديس متى والقديس لوقا تتكرَّر هذه العبارة: «واحداً عن يمينه
والآخر عن يساره
«(مت 38:27، لو
33:23). وكأنهما يلمِّحان على يعقوب ويوحنا. ويعود ق. مرقس بعد ذلك في الآية (32)
ويقول: «واللذان صُلبا معه كانا يعيِّرانه
« ولكن ق. مرقس لم يذكر قصة اللص التائب.

«فتمَّ الكتاب القائل وأُحصي مع أثمة»:

هو
كتاب إشعياء النبي في الأصحاح (53). ولكن هذه النبوَّة هنا تحمل معنىً آخرَ عميقاً
للغاية. فبرفع المسيح على الصليب يكون بحسب قول ق. بطرس قد «حمل هو نفسه خطايانا
في جسده على الخشبة
«(1بط
24:2). وبحسب إشعياء: «الرب وضع عليه إثم جميعنا
«(إش 6:53). فليس بسبب اللصين أُحصي المسيح مع أثمة، بل من أجل
الخطايا التي حملها، إذ صار بالضرورة محسوباً خاطئاً من الخطاة، بل أخطى الخطاة
جميعاً، بل الحامل للخطاة وخطاياهم معاً. فلمَّا نضح من جسده الحامل الخطايا قوَّة
غفرانها، على التو أحس اللص اليمين بالتوبة وطلب المغفرة فغُفر له ووُعِد
بالفردوس، فكان كنازفة الدم التي اختلست من لمس ثوب المسيح قوة شفاء فشُفيت، وها
هو اللص وقد أحس بقوة الغفران تشع من جسد المسيح الدامي فطلبها ونالها.

وهكذا
دخل الصليب والمصلوب عليه إلى العالم ينضح قوة غفران ينالها كل مَنْ يطلبها. وقد
اعتادت الكنيسة القبطية أن تداعب ق. بطرس وتعيره باللص فيهتف الكاهن في “أمانة
اللص” التي تقرأ يوم الجمعة العظيمة قائلاً: “التلميذ (بطرس) أنكر واللص صرخ
قائلاً: اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك.”

29:1531 «وَكَانَ
الْمُجْتَازُونَ يُجَدِّفُونَ عَلَيْهِ، وَهُمْ يَهُزُّونَ رُؤُوسَهُمْ
قَائِلِينَ: آهِ يَا نَاقِضَ الْهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلاَثَةِ أَيامٍ!
خَلِّصْ نَفْسَكَ وَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ! وَكَذلِكَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ
وَهُمْ مُسْتَهْزِئُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَعَ الْكَتَبَةِ، قَالُوا: خَلَّصَ
آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا».

كان
مكان الصلب في مدخل أُورشليم، فكل الداخلين والخارجين كانوا يميلون لينظروا،
فكانوا يسخرون من المفارقة الهائلة بين تعليمه وبين ما حدث له إذ حسبوها تخلية من
الله. فتمَّ قول إشعياء النبي: «ونحن حسبناه مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً
«(إش 4:53). ولا يتعجب القارئ من تهكم الشعب الساذج الذي تبهره
المعجزات وتضعفه الكوارث. فالذي نادى بالخلاص للناس كيف لا يخلِّص نفسه، لأنه لم
يُستعلَن لأحد بعد أنه «مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا تأديب سلامنا عليه
وبحبره (جروحه) شُفينا
«(إش 5:53). ثم لأنهم لم يروا بعد أن الهيكل العظيم معجزة الدنيا
نُقض بالفعل ولم يبق فيه حجر على حجر، وأن هيكل جسده قد نقض بالفعل بأيديهم ولم
يقم بعد. فمن كان فيهم يظن أن تعاليمه هكذا كملت وهكذا تمَّت، وأن ولا كلمة منها
قد زالت ولن تزول ولو زالت الأرض والسماء. ولكن كان لابد أن يكمِّل الصليب بالاستهزاء
والتهكُّم، فالعار الذي حمله كيف لا يتحوَّل لدى المجتازين إلى فضيحة؟ فالذي حمل
العار عليه أن يتحمَّل المعيِّرين. وهل كان منتظراً أن الذي قَبِلَ اللعنة
معلَّقاً على خشبة أن يمدحه الغادون والرائحون؟ ولكن هذا كان لابد منه ليتم
المكتوب: «تعييرات معييرك وقعت عليَّ
«(مز 8:69). والذي تحدَّى رؤساء الكهنة في هيكلهم، وكشف مساوئ
عبادتهم، إن هو هكذا استسلم لحكمهم وقَبِلَ السياط على ظهره وإهانة الجند أمام
أعينهم، وأخيراً جازت المسامير في جسده مرفوعاً على خشبة ولم يستطع أن ينقذ نفسه
ولا هو دافع عن حقه، كيف لا يَشْمَتون فيه؟ كيف لا يُهينُونه ليشعروا في قلوبهم
بتفوّقهم عليه ويطمئنوا إلى صحة حكمهم وبرِّ أنفسهم. أليس أن المسيح بقبوله الصلب
من أيديهم أعطاهم حق الاستظهار عليه والشماتة فيه. نعم لكي تكون هذه كلها جزءاً لا يتجزأ من صليبه وحمله العار حيًّا
وميتاً. قَبِله راضياً من أيديهم ومن لسانهم
معاً.

ثم
قام من الموت بعد ذلك ناقضاً أوجاع الموت وجراح الصليب وشماتة الأعداء وحقد
الحاقدين، فأعاد الإيمان للمؤمنين، وسجَّل الدينونة على رؤوس المعتدين، وحوَّل
عثرة الصليب إلى فخر للذين قبلوه وبقيت علة هلاك للرافضين. وإلى اليوم فالصليب
باقٍ كما هو حجر عثرة للذين يرفضون وسبب مجدٍ للذين يقبلون.

وكانت أعظم أعمال الصليب وأفخر ثماره وهو معلَّق عليه أن
غفر لصالبيه والمتهكمين والشامتين
فيه:

+
«يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون.
«(لو 34:23)

32:15
«لِيَنْزِلِ الآنَ الْمَسِيحُ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ عَنِ الصَّلِيبِ، لِنَرَى
وَنُؤْمِنَ. وَاللَّذَانِ صُلِبَا مَعَهُ كَانَا يُعَيِّرَانِهِ».

وكيف ينزل وهو الذي قبله بإرادته وحده؟ وما دروا
أنه صعد ليموت عليه ليُرضي مشيئة الله أبيه. ويكمِّل حب الآب لهم وللعالم أجمع: «هكذا
أحب الله العالم (باليهود الذين فيه) حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل مَنْ
يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية
«(يو 16:3). وإن هو نزل من على الصليب مَنْ ذا الذي يؤمن به،
والإيمان بالمسيح لا يكون إلاَّ وهو معلَّق عليه!!؟ وبماذا نؤمن إن نزل من عليه،
وإيماننا رهن موته الذي مات فوقه؟ وهل يدرون أن بقاءه على الصليب حتى الموت لا يزال هو الباب الوحيد أمامهم ليؤمنوا
به، وإن هم لم يؤمنوا فهلاكهم قائم قيام
الأبد؟!

 

 

97
الثلاث ساعات الأخيرة والظلمة تغطِّي الأرض

[33:1541] (مت 45:2756) (لو 44:2349) (يو
29:19و30)

 

33:15 «وَلَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ
السَّادِسَةُ، كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى الأَرْضِ كُلِّهَا إِلَى السَّاعَةِ
التَّاسِعَةِ».

يتفق
الإنجيليون الأربعة أن من الساعة السادسة حتى الساعة التاسعة كانت ظلمة على الأرض
كلها. والعلة الوحيدة أن وجه الآب انحجب عن الابن فتحوَّل نور العالم إلى ظلمة!! وفي
نهايتها صرخ المسيح: «إلهي إلهي لماذا تركتني
« يقول المزمور: «أضىء بوجهك … «(مز 16:31)، فإذا حجب الله وجهه فالظلام حتمي هو! فإن كان
قد دخل المسيح الظلمة وهو نور العالم فمن أين يستمد العالم نوره. وليس هذا مجرَّد
توارد خواطر بل هو لاهوت النور والظلمة. فنور الشمس لا يكفي لإنارة عالمنا لأن
الشمس تستمد ضياءها من نور الخالق: «تحجب وجهك فترتاع
«(مز 29:104). لذلك مادام لنا النور فنحن في النور نعيش، ولكن إن
انحجب مصدر النور فقد أدركتنا الظلمة (يو 35:12). ومعنى أن الظلمة غطَّت الأرض من
الساعة السادسة إلى التاسعة هو عميق للغاية، إذ معنى ذلك أن الابن المُرسَل إلى
العالم وهو نور العالم قد انقطعت صلته بالعالم هذه الثلاث ساعات. دخل فيها معركته
الفاصلة مع رئيس هذا العالم، فساد الظلام «هذه ساعتكم وسلطان الظلمة
«(لو 53:22)، وانتهت بموته على الصليب الذي ظفر به على الرؤساء
والسلاطين وأشهرهم جهاراً. فبموت المسيح انقشع سلطان الظلمة من عالم الإنسان. فهذه
الثلاث ساعات أساس للمعركة الكبرى التي تمَّت بين سلطان النور وسلطان الظلمة، سادت
فيها الظلمة إلى ثلاث ساعات واكتسحها النور إلى الأبد. ونتيجة هذه الثلاث ساعات لا
تزال قائمةً، فظلمة العالم مغلوبة حتى وإن سادت، ومهما طغت علينا فنحن خارجون منها
حتماً لأننا نتبع النور. لقد أُعطي للظلمة أن تغلب النور إلى ثلاث ساعات، ولكن
النور يبدِّدها بيقين كيقين الفجر بعد ليل!!

34:15
«وَفِي السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً:
إِلُوِي إِلُوِي لَمَا شَبَقْتَنِي؟ الَّذِي تَفْسِيرُهُ: إِلهِي إِلهِي، لِمَاذَا
تَرَكْتَنِي؟»

«بصوتٍ عظيم»: fwnÍ
meg£lV

مرَّتان
أعطى المسيح هذا الصوت العظيم في ندائه للآب، هنا وفي تسليمه الروح (مر 37:15).
ولم يكن هذا الصوت العظيم يخصّه بقدر ما يخصنا. وقد سجَّلها ق. مرقس وعنه أخذها ق.
متى، وقد نطقها المسيح باللغة الأرامية:

«ألوي ألوي لما شبقتني»([6]):

هنا
النطق الحرفي للغة الأرامية ذات النبرة العبرية، هو مأخوذ من نص المزمور: «إلهي
إلهي لماذا تركتني …
«(مز 1:22). وفي إنجيل ق. مرقس يوضِّح النص الأصلي العبري. وقد
قدَّم ق. مرقس الترجمة اليونانية مباشرة لمنفعة القارئ الأممي، وهي بآن واحد شرح
لتسليم الروح الذي جاء في الآية (37). وطبعاً ليس من السهل أبداً إدراك عمق هذه
الصرخة وأهميتها في تكميل الصليب والفداء، لأن ظاهرها معثر وغير مقبول ولا مفهوم،
كيف يقول المسيح إلهي لماذا تركتني؟ لذلك لم يذكرها كل من ق. لوقا وق. يوحنا،
أمَّا ق. متى فأخذها حرفياً من ق. مرقس.

أمَّا
قيمة هذا النداء اللاهوتي الذي يصرخ فيه المسيح من صعوبة وعذاب التخلي وترك الآب
له، فهو بند لاهوتي جليل الشأن حسب ما شرحناه سابقاً (صفحة 607). فلولا ترك الآب له ما استطاع أن يُصلب
وما أمكن أبداً أن يموت، لأن لعنة الصليب لا يمكن أن يقبلها دون أن يتخلَّى الآب
عنه ليتحمَّل اللعنة وحده، وإلاَّ فإنها تمس الآب، وهي الجزء الأكبر من الفداء
الذي فيه يقبل اللعنة من أجل البشرية التي يحملها فتشترك البشرية في اللعنة معه،
وهكذا تكون قد أكملت الجزء الأول من العقوبة التي اكتسبها آدم وسلَّمها
لبنيه. ولكن الابن بار هو، فإن قَبِلَ اللعنة من أجلنا فبرُّه أقوى منها، لذلك
استحالة أن تحتويه اللعنة أو ينصبغ بها. فهو قبلها في جسده مشاركة لنا في كل عمقها، ولكن هيهات أن تطاله في برِّه. فهو قَبِلَ
اللعنة في الجسد وبقي باراً كما هو، قبلها لكي يرفعها علناً بعد ذلك بقيامته من
الأموات.

أمَّا الجزء الآخر والأكثر فاعلية في الفداء والأكثر مهانة
للابن فهو أنه قَبِلَ الموت حتى إلى ثلاثة أيام كامِلَة كطقس الموت والموتى بكل
سطوته. فلولا أن الآب تركه ليموت وحده ما كان ممكناً أن يموت البتة. فالترك الإلهي
من الآب هو الذي جعل الموت على الصليب ممكناً. وبه أكمل المسيح الفداء، فداء
الإنسان من الموت والهاوية. ولكن الموت لم يستطع أن يُمسك بالمسيح أو فيه لأنه بار
وبرُّه أقوى من الموت لأنه بر الله، بر الحياة الأبدية. فإن كان المسيح قد رضي
بالموت من أجل الإنسان لنموت معه، فبعد أن أكمل الموت وأكملنا الموت معه ووفَّينا
العقوبة كاملة، قام المسيح ببرِّه نافضاً الموت عنه، ودائساً على سلطانه وسطوته،
ودسناه لمَّا داسه بالحياة الأبدية التي أخذنا. فأقامنا معه في بشريته شركاء قيامة
وحياة أبدية، فلن يعود للموت سلطان علينا لأننا وُهبنا حياة الأبد.

وهكذا يتضح لدى القارئ أن ترك الآب للمسيح كان العنصر
الفعَّال الذي جعل المسيح يكمِّل الفداء، إذ دخل اللعنة والموت وحده اللذين
احتواهما ولم يحتوياه، ورفعهما ببرِّه فتبرَّرت فيه البشرية التي لبسها ببر الله.
وحينما أكمل الفداء هكذا بنفسه وحده أقامه الاب بمجد عظيم، وأقامنا معه، فصرنا
شركاء قيامة ومجد. فالمجد الذي تسربل به المسيح بالقيامة من الأموات أعطانا: «وأنا
قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني
«(يو 22:17). وكان ثمناً لاحتماله
تخلِّي الآب وتكميله اللعنة والموت وحده من أجلنا فاستحققنا ما استحقه!!

35:15
«فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْحَاضِرِينَ لَمَّا سَمِعُوا: هُوَذَا يُنَادِي
إِيلِيَّا».

هكذا
تُفسَّر أقوال المسيح حتى اليوم تفسيراً غوغائياً عند الذين لا يتبصَّرون!

36:15 «فَرَكَضَ
وَاحِدٌ وَمَلأَ إِسْفِنْجَةً خَّلاً وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاهُ
قَائِلاً: اتْرُكُوا. لِنَرَ هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا لِيُنْزِلَهُ!»

أمَّا الخل فشأنه شأن الخمر الممزوج بمرارة (23:15)، والقصد
منه تخفيف الآلام عن المحكوم عليه بالصلب. وشَرِبَ المسيح الخل من أجلنا لتتم
النبوَّة حتى آخر لحظة «وفي عطشي يسقونني خلاًّ.
«(مز 21:69)

37:15 «فَصَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ
وَأَسْلَمَ الرُّوحَ».

لم
يقل هنا أيُّ إنجيل من الأناجيل أن المسيح: «مات
«كفعل ماضٍ،
ولكنه أسلم الروح بسلطانه وإرادته وحده.

«أسلم الروح»: ™xšpneusen = breathed his last

الكلمة
اليونانية لا تفيد أنه أسلم الروح بل «تنفَّس النفس الأخير». أمَّا ق. متى
فقال: أسلم الروح =
¢fÁken
tÕ pneàma
وهنا أسلم الروح ترجمة صحيحة yielded up his spirit أمَّا ق. لوقا فجاءت عنده: «يا أبتاه
في يديك أستودع روحي، ولمَّا قال هذا أسلم الروح
«(لو 46:23). فالقديس مرقس يتبع
قول المسيح نفسه قبل الصليب الذي قاله: «لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها
أيضاً
«(يو 18:10)، «لأني أضع نفسي لآخذها أيضاً«(يو 17:10)
كما سيجيء، فهو وضع نفسه ووضع روحه ليكمِّل واجبات الموت، ولكنها بقيت له وفيه
وبها قام بعد أن أكمل عقوبة الموت معنا حتى التمام إلى ثلاثة أيام. “فحياته
الأبدية” جزء من كيانه الإلهي لم تفارقه ولا لحظة واحدة، فموته الذي ماته ماته
“بالجسد” أمَّا نفسه وروحه فلم تُمس. لذلك من الواجب واللازم لاهوتياً أن لا نقول
أبداً أن “المسيح مات وحسب” أو أن الابن مات وحسب، بل ينبغي لاهوتياً أن يُقال إنه
مات بالجسد أو الابن مات بالجسد. فالآب لم يحيه من موت بل هو الذي قام وحياته فيه،
بل وأقامنا معه بحياته وقيامته، ولكن الآب بعد ذلك رفَّعه إلى أعلى السموات.
ومجازاً يُقال إن الآب أقامه من الأموات أو أن الروح القدس أقامه من الأموات، لأنه
هو “قام حقًّا” قام بقوته وسلطانه وإرادته. ولكن أن يُقال الله أو الآب أو الروح
أقامه فهذا جيدٌ، لأن الآب والابن والروح القدس قوة واحدة وسلطان واحد. وهذا
اللاهوت يؤمِّن وحدانية الله في أقانيمه ويؤمِّن الوحدة القائمة بين اللاهوت
والناسوت.

وغني
عن البيان الدقة اللاهوتية في تقرير ق. مرقس وهو الأصل
أن المسيح على الصليب تنفَّس النفس الأخير وحسب، الذي على أساسه ينبغي أن يُعاد
صياغة اللاهوت.

ولكن ق. يوحنا يقول: paršdwken
tÕ pneàma
وتعني أسلم
الروح
= gave up his spirit وهكذا نرى في جميعها أن المسيح سلَّم روحه بإرادته وسلطانه وحده.

ومن
السهل ملاحظة أن صرخة تسليم الروح مرتبطة تماماً بصرخة «إلهي إلهي لماذا تركتني
« حيث لمَّا بلغ الترك أقصاه بلغت الرسالة مداها فكانت النهاية.

وواضح
من الإنجيل أن المسيح أسلم روحه على أساس أنه سيستردها بنفسه:

+
«لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي لآخذها أيضاً (ثانية). ليس أحد يأخذها مني
بل أضعها أنا من ذاتي، لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً هذه
الوصية قبلتها من أبي.
«(يو 10: 17و18)

لقد
لاحَظَ بيلاطس أن المسيح مات بأسرع من معدَّل موت الآخرين:

+
«جاء يوسف الذي من الرامة وهو مشير شريف، وكان هو أيضاً منتظراً ملكوت الله،
فتجاسر ودخل إلى بيلاطس وطلب جسد يسوع: فتعجَّب بيلاطس أنه مات كذا سريعاً، فدعا
قائد المائة وسأله هل له زمان قد مات.
«(مر 15: 4345)

هذا
يوضِّح لنا أن المسيح لم ينتظر عوارض الموت لتداهمه، بل أسلم روحه لما وجد أن كل
شيء قد أُكمل:

+
«فلمَّا أخذ يسوع الخل قال قد أُكمل ونكَّس رأسه وأسلم الروح.
«(يو 30:19)

هذه
كلها براهين واضحة أن روحه لم تُنتزع منه بل هو هو الذي أسلمها بإرادته بعد
أن أكمل واجبات الموت من آلام.

هذا
هو الموت عند المسيح، فهو ليس عدواً يَصرَع وقضاءً مبرماً ونصيباً محتوماً، وصاعقة
تنزل في لحظة لا ينتظرها الإنسان، بل هو المسيح الذي اقتحمه بجرأة وقداسة برِّه،
لأنه منزَّه عن كل دين للموت، دخله وهو يحمل في كيانه قوة الحياة الأبدية، فوطأ
الموت بقدميه وخلَّص من براثنه كل أسرى الرجاء الذين ماتوا وعيونهم شاخصة لله
يطلبون الحياة والوطن الأفضل، وهبهم حياته وصعد
بهم فتلقاه الآب بجبرؤوت يمينه ورفعه إلى أعلى السموات وأجلسه عن يمينه مع كل أسرى

حبه:

+
«وأنتِ أيضاً فإني بدم عهدكِ قد أطلقتُ أسراكِ من الجب الذي ليس فيه ماء.
«(زك 11:9)

+
«ارجعوا إلى الحصن يا أسرى الرجاء.
«(زك 12:9)

+
«لذلك يقول أيضاً: إذ صعد إلى العلاء سبى سبياً (ضمَّ إليه الذين سباهم الشيطان)
وأعطى الناس عطايا، وأمَّا أنه صعد فما هو إلاَّ أنه نزل أيضاً إلى أقسام الأرض
السفلى. الذي نزل، هو الذي صعد أيضاً فوق جميع السموات لكي يملأ الكل.
«(أف 4: 810)

38:15 «وَانْشَقَّ حِجَابُ الْهَيْكَلِ إِلَى
اثْنَينِ، مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ».

يذكر
هذه الحادثة الثلاثة الإنجيليون، وفي معناها تكشف عن انفتاح قدس الأقداس، أي قلب
الله، للعالم أي الأُمم. بمعنى أن حجاب الغضب الفاصل بين الله والإنسان قد انكسر
بانكسار جسد الابن على الصليب. لذلك يقول ق. بولس في سفر العبرانيين: «فإذ لنا
أيها الإخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع طريقاً كرَّسه لنا حديثاً حيًّا بالحجاب
أي جسده
«(عب 19:10). فموت
المسيح حُسب بحد ذاته قوة أزالت العقوبة باللعن والموت معاً عن الإنسان، وبارتفاع
العقوبة من الوسط تصالح الله مع الإنسان، فرُفع حجاب الغضب الفاصل بين الله
والإنسان الذي صنعه الإنسان بعصيانه وتعدِّيه وخطاياه ولفَّه الموت بالسواد. والآن
لا خطية بعد ولا موت بل نعمة في بر المسيح وحياة أبدية:

+
«إن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم …
«(2كو 19:5)

+ «لأنه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحداً ونقض حائط
السياج المتوسط، أي العداوة،
مبطلاً بجسده ناموس الوصايا في فرائض، لكي يخلق
الاثنين في نفسه إنساناً واحداً جديداً صانعاً سلاماً.
ويصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب قاتلاً العداوة به.
«(أف
2: 14
16)

وينبغي
أن ننتبه إلى طريقة ق. مرقس في ضم تسليم الروح إلى إنشقاق الحجاب، إذ جعل موت
المسيح ذا تعبير لحظي شديد الوقع، وعلى مستوى عيني منظور، وفي أقدس ما يملك اليهود
وهو الحجاب الذي يفصل قدس الأقداس عن القدس، حيث قدس الأقداس هو المكان الذي
يتراءى فيه يهوه الإله العظيم! إذن فبموت المسيح صار الله ظاهراً للجميع.

39:15 «وَلَمَّا رَأَى
قَائِدُ الْمِئَةِ الْوَاقِفُ مُقَابِلَهُ أَنهُ صَرَخَ هكَذَا وَأَسْلَمَ
الرُّوحَ، قَالَ: حَقًّا كَانَ هذَا الإِنْسَانُ ابْنَ اللهِ!».

وقائد
المئة هو المنوط به حراسة المحكوم عليه، فكان واجبه أن يقف طول الوقت في مواجهة
الصليب بحيث لا تغيب عنه أي حركة. وقد ذكره هنا ق. مرقس في بساطة متناهية، أمَّا
الأناجيل الأخرى فأضافت أنه مجَّد الله على ما رأى، وأنه اندهش مما حدث. ولكن على
كل حال قد وُهِبَ هذا الإنسان أن يرى عن قرب موت المخلِّص وكل حركاته وسكناته،
وغالباً أنه دخله خشوع فائق لأن تصرُّف المسيح كان أعلى ما شهده هذا القائد
المبارك.
واعتراف هذا القائد يشعرنا أنه نال مسحة من انفتاح البصيرة فأحسَّ
بالله وأعماله.

وينبغي
أن لا يغيب عن بالنا كيف بدأ ق. مرقس إنجيله بقوله: «إنجيل يسوع المسيح ابن الله
« وهكذا انتهز فرصة اعتراف هذا القائد ليختم إنجيله بشهادة أجنبي
غريب عن «ابن الله
«لمَّا عزَّت الشهادة عند الرؤساء والتلاميذ وذوي
القربى. وقد أعطت الكنيسة في تقليدها اسماً لهذا القائد المبارك فأسمته لونجينوس.

40:15و41 «وَكَانَتْ أَيْضاً نِسَاءٌ
يَنْظُرْنَ مِنْ بَعيِدٍ، بَيْنَهُنَّ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ، وَمَرْيَمُ
أُمُّ يَعْقُوبَ الصَّغِيرِ وَيُوسِي، وَسَالُومَةُ، اللَّوَاتِي أَيْضاً
تَبِعْنَهُ وَخَدَمْنَهُ حِينَ كَانَ فِي الْجَلِيلِ. وَأُخَرُ كَثِيراتٌ
اللَّوَاتِي صَعِدْنَ مَعَهُ إِلَى أُورُشَلِيمَ».

هنا
يقدِّم ق. مرقس بهذه الأسماء لرواية الدفن والقيامة بالضرورة. فقصة الصليب بلغت
نهايتها عند ذكر شهادة قائد المئة التي ختم بها ق. مرقس حياة المسيح، مؤكِّداً أنه
ابن الله من البداية للنهاية!
وهذا يُحسب له روعة في تنسيق الإنجيل لاهوتياً
على واقع الأحداث!

«مريم المجدلية»:

منسوبة
إلى بلدة مجدله (المجدل) على الجانب الغربي من بحيرة طبرية.

«مريم أُم يعقوب الصغير ويوسي»:

ويصفها
إنجيل ق. يوحنا أنها زوجة كلوبا (25:19). ويظهر أنها مريم أُم يعقوب الصغير ويوسي
وهما شخصان معروفان لدى الكنيسة الأُولى. وأمَّا يعقوب هذا فهو ابن حلفى (مر 18:3)
وربما يكون حلفى هو كلوباس، أمَّا وصفه بالصغير لتمييزه عن يعقوب أخي يوحنا، إمَّا
صغر كرامة أو قامة أو عمر. أمَّا يوسي فهو يوسف ولا يُعرف عنه أكثر من اسمه.

«سالومي»:

ويجيء
اسمها بعد ذلك حالاً في ترتيب الحنوط للجسد. وهي ضمن النسوة اللاتي كُنَّ يخدمن
يسوع. هؤلاء وقفن من بعيد، حسب طاقة احتمالهن الرهيفة لأن شناعة تحدِّي رؤساء
الكهنة والكتبة وأعوانهم كانت لا تطاق. كذلك لا تحتمل قلوبهن الرقيقة هذا العنف
الشديد. ولكن من المعروف أن مريم أم يسوع كانت قريبة من الصليب جداً وربما تحته
مباشرة، فقلب الأُم يحتمل الأهوال من أجل نظرة الابن الوحيد!! وقد كلَّمها يسوع عن
ق. يوحنا: «يا امرأة هوذا ابنكِ
«(يو 26:19) لتكون معه بقية أيام حياتها!! ولكنها ظهرت يوم الخمسين
ونالت الحظوى من الروح القدس وصارت شفيعة المؤمنين إلى أبد الآبدين.

 

98
الدفن

[42:1547] (مت 57:2761) (لو 50:2356) (يو
38:1942)

 

نحن
هنا أمام أقدم تقليد للكنيسة وأشدها أصالة يمتدحه أشد العلماء نقداً أن الواقعية
الأمينة تكاد تنطق في كل كلمة منها. ويحكي التقليد هنا عن آخر العمليات التي تمَّت
في موت المسيح يرويها يهودي متنصِّر على غاية من الورع، بأدق التفاصيل وبأكثر
حيوية مصوَّرة تصويراً متقناً، وهي مجموعة خصيصاً لتنقل التقليد كما هو ليقرأه
الأُمم. والطقوس واضحة أنها فلسطينية صرف، ووصف النسوة الساهرات يعددن الحنوط
للأكفان بعد أن زُرن مكان القبر الذي وضَعَ فيه يوسف الجسد وعرفن المكان وكأنهن لم
ينمن، ففي الصباح باكراً جداً، أي والظلام باقٍ، يوم الأحد المحسوب أنه أول
الأسبوع، خرجن وذهبن وعاينَّ القبر مفتوحاً والحجر مدحرجاً. صورة حية وكأنها لقطات
على الطبيعة تنضح بالصدق والعاطفية والانفعال والدهشة. والرواية عند ق. مرقس
مختصرة وفي غاية البساطة تكشف عن بدء التقليد كحقائق مرصوصة.

42:15و43 «وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ، إِذْ
كَانَ الاسْتِعْدَادُ، أَيْ مَا قَبْلَ السَّبْتِ، جَاءَ يُوسُفُ الَّذِي مِنَ
الرَّامَةِ، مُشِيرٌ شَرِيفٌ، وَكَانَ هُوَ أَيْضاً مُنْتَظِراً مَلَكُوتَ اللهِ،
فَتَجَاسَرَ وَدَخَلَ إِلَى بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ».

«ولمَّا كان المساء»: Ñy…aj

والمساء
هو الوقت الذي يبدأ عند اليهود من الساعة الثالثة بعد الظهر حتى الغروب.

«إذ
كان الاستعداد»:
™peˆ
Ãn paraskeu
« يبدأ السبت من لحظة الغروب. لذلك كان على يوسف الإسراع جداً
ليُنزل الجسد من على الصليب ويكفِّنه بسرعة ويضعه في القبر قبل أن يبدأ السبت.
وكان يوسف بالإضافة إلى عامل السبت الذي يسارعه فإنه لو توانى لحظة لأخذ اليهود
الجسد ومثَّلوا به شر تمثيل. وعلى أقل تقدير كان العسكر سيضعونه في مقبرة المجرمين
مع اللصين. وحتى لو لم يكن السبت هو عامل الإسراع والخوف من الأعداء والعساكر فإن
القانون اليهودي يمنع أن يحل الظلام على جسد مرفوع على خشبة بحسب سفر التثنية (تث 21: 22و23). أمَّا كلمة الاستعداد التي جاءت
هنا
paraskeu«فهي يوم الجمعة السابق على السبت، وهي لا تزال في طقوس
الكنيسة القبطية بلفظها اليوناني. وق. مرقس هنا يشرح هذه الكلمة لأنه يكتب للأُمم.
وكلمة ما قبل السبت
pros£bbaton كانت كلمة طقسية في العبادة اليهودية.

ويوسف
الذي من الرامة، هو من المدينة التي وُلِدَ فيها ودُفن صموئيل النبي (1صم 1:1)،
واسم الرامة الأصلي هو راماتيم صوفيم، وتعني: “مرتفع الحرَّاس”
([7])، وتقع على
أميال قليلة من شمال أورشليم
([8]). وقول ق.
مرقس:
«الذي
من الرامة
«يفيد أنها وطنه فقط وهو لا يعيش فيها بل هي كانت بلده. ويضيف
أنه كان يملك مقبرة جديدة في أُورشليم. وق. متى يصفه بأنه «غني
«(مت 57:27). أمَّا ق. لوقا فيصفه أنه: «كان مشيراً ورجلاً صالحاً
وبارًّا. هذا لم يكن موافقاً لرأيهم (رؤساء الكهنة) وعملهم
«(لو 23: 50و51). والواضح أن ق. مرقس بكلمتين استوفى كل أوصافه: «مشير
شريف ينتظر ملكوت الله
«بمعنى حكيم وصاحب نعمة
وعضو سنهدريم.

وقول
ق. مرقس أنه تجاسر ودخل إلى بيلاطس يعني أشياءَ كثيرة: فأولاً يوسف ليس من عائلة
المسيح، وثانياً الدخول إلى بيلاطس للحديث عن إنسان مصلوب فيه مجازفة، والأخطر من
الجميع أنه عضو في السنهدريم فأي تبليغ عنه يصبح قتله أمراً محتملاً. ولكن الوقار
والاحترام الشديد الذي كان يحتفظ به يوسف في قلبه من نحو المسيح دفعه أن يعمل هذا
العمل العظيم والجريء.

44:15و45 «فَتَعَجَّبَ بِيلاَطُسُ أَنهُ مَاتَ
كَذَا سَرِيعاً. فَدَعَا قَائِدَ الْمِئَةِ وَسَأَلَهُ: هَلْ لَهُ زَمَانٌ قَدْ
مَاتَ؟ وَلَمَّا عَرَفَ مِنْ قَائِدِ الْمِئَةِ، وَهَبَ الْجَسَدَ لِيُوسُفَ».

تعجَّب
بيلاطس لأن المعتاد أن يموت المحكوم عليه بعد مدَّة طويلة وفي العادة يومين أو
ثلاثة([9])
ولكن موت المسيح هنا هكذا سريعاً يوضِّح أنه
لم ينتظر عوامل الموت البطيئة لتسري في جسده،
فأسلم الروح عندما وجد أن كل
شيءٍ قد أُكمل. لأن روحه لم تنزع منه بل هو الذي تنفسها خارجاً.

«وهب الجسد ليوسف»:

هنا
عطية الجسد هي بنوع الأمانة كمسئول عن دفنه، وبيلاطس كَسَرَ العرف القانوني لأن
المجرم المحكوم عليه بالصلب إنما يُدفن في مقبرة عامة. فهنا نوع من التخصيص.

46:15
«فَاشْتَرَى كَتَّاناً، فَأَنْزَلَهُ وَكَفَّنَهُ بِالْكَتَّانِ، وَوَضَعَهُ
فِي قَبْرٍ كَانَ مَنْحُوتاً فِي صَخْرَةٍ، وَدَحْرَجَ حَجَراً عَلَى بَابِ
الْقَبْرِ».

إن
الاختصار الشديد والرتابة في ذكر الحوادث وراء بعضها لتعطي أقوى صورة صحيحة عمَّا
تمَّ بواسطة يوسف في سطر واحد لأمر يُدهش القارئ، فالدقة مع البساطة مع أمانة
النقل التاريخي كان هو منهج ق. مرقس من البداية.

وكون
ق. مرقس يذكر أول كل شيء أنه اشترى كتاناً، يوضِّح أنه أسرع قبل أن يحل ميعاد
السبت حيث لا بيع ولا شراء. والكتان الأبيض هو القماش الموصوف لتكفين الموتى ويكون
على هيئة شرائط يُلف بها كل عضو على حدة. أمَّا المقبرة المحفورة في الصخر فهي
أفضل أنواع المقابر لأنها تكون في مأمن من الوحوش ولا يقوى على نحتها إلاَّ
الأغنياء لأنها مُكَلِّفة، وهي أحياناً من غرفة واحدة أو غرفتين، وعلى الأرجح كانت
غرفتين لأن الذين جاءوا بعد القيامة دخلوا ثم نظروا (جانباً). أمَّا حجر الباب
للغلق فكان مستديراً حتى يمكن دحرجته وكان يلزم أن يكون ثقيلاً جداً. وق. يوحنا
يصف أن القبر كان في حديقة: «وكان في الموضع الذي صُلب فيه بستانٌ، وفي البستان
قبرٌ جديدٌ لم يوضع فيه أحدٌ قط
«(يو 41:19). وهكذا تمَّ ما قاله إشعياء النبي: «وجُعل مع الأشرار
قبره ومع غني عند موته
«(إش 9:53). ولكن يا للحسرة، لم يكن أحدٌ من أقربائه ولا تلاميذه
الذين «أحبهم إلى المنتهى
«(يو 1:13)، ذهبوا وهربوا ودخلوا بيوتهم وأقفلوا أبوابهم والرعدة
أخذتهم مما لا رعدة فيه: «هوذا تأتي ساعة، وقد أتت الآن، تتفرقون فيها كل واحد إلى
خاصته، وتتركونني وحدي. وأنا لست وحدي لأن الآب معي.
«(يو 32:16)

ولكن
ق. يوحنا يكمِّل عمل الدفن هكذا: «وجاء أيضاً نيقوديموس، الذي أتى أولاً إلى يسوع
ليلاً، وهو حامل مزيج مُرٍّ وعودٍ نحو مائة منًّا. فأخذا جسد يسوع، ولفَّاه (يوسف
ونيقوديموس معاً) بأكفان مع الأطياب، كما لليهود عادة أن يكفِّنوا
«(يو 19: 39و40). وهكذا تقليد ق. يوحنا يكمِّل التقليد الذي استقى
منه ق. مرقس إنجيله.

47:15 «وَكَانَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ
وَمَرْيَمُ أُمُّ يُوسِي تَنْظُرَانِ أَيْنَ وُضِعَ».

هاتان
المرأتان عاينتا أين وُضِع يسوع بعد أن كفَّنه يوسف ونيقوديموس. كانت أمانة
المرأتين شديدة للغاية بعاطفة جارفة لم تدعهما يغادران مكان الصلب حتى يُلْقِيا
النظرة الأخيرة على مَنْ أحببنه حبًّا أقوى من الموت. وحتى بعد أن غادر يوسف
ونيقوديموس جلستا تنظران في حزن مرير وتعلَّقت عيونهما وقلبهما بالذي دفنوه. ولم
تناما حتى لاح الفجر الذي بعد السبت فقامتا وحملتا معهما الأطياب والحنوط لتكميل
تحنيط الجسد.

أي
أمانة، أي حب، أي شجاعة هذه؟ نعم من أجل هذه المشاعر العنيفة والحب الطاغي قام
المسيح من الأموات ليعطي الحياة الأبدية لكل القلوب التي آمنت وأحبَّت!! نعم كان
لابد أن يقوم!!



 ([1])Herodot,
viii. 98, cited by Alf. Plummer, op. cit., p. 350.

 ([2])Deissmann,
Bibl. St., pp. 86,87.

([3]) في هامش الكتاب المقدَّس يصف العلقم بأنه خشخاش أي “أفيون”، وهو المادة
المخدِّرة جداً، وهي مرَّة أيضاً وهذا ربما يكون أصح تعبير عن إعطاء المتألِّم هذه
المادة لكي لا يعود يحس بالألم.

([4]) توضيح
لاهوتي:

إن
ترك الآب للابن لم يتم من جهة الطبيعة، لأننا نؤمن أن لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة
واحدة ولا طرفة عين، وأن لاهوت الابن ولاهوت الآب واحد لا ينقسم. ولكن الترك تمَّ
فعلاً من جهة
التدبير أي بانحجاب وجه الآب ومعونته زمنياً عن المسيح المتجسِّد حتى يمكن أن
يتقبَّل الموت واللعنة زمنياً ويتم الفداء.

 ([5])Alfred
Plummer, op. cit., p. 354.

([6]) راجع شرح هذه الآية في مقالة “يوم الصليب، يوم القضاء ويوم البراءة” في
كتاب: “مع المسيح في آلامه حتى الصليب” (طبعة عام 1987) صفحة 221225.

 ([7])Storley,
Sinai and Palestine., p. 224. cited by Alfred Plummer, op. cit.,
p. 362.

 ([8])Vincent
Taylor, op. cit., p. 600.

 ([9])Ibid.,
p. 601.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي