الإصحَاحُ
الثَّالِثُ عَشَرَ
1
وَكَانَ حَاضِرًا فِي ذلِكَ الْوَقْتِ قَوْمٌ يُخْبِرُونَهُ عَنِ الْجَلِيلِيِّينَ
الَّذِينَ خَلَطَ بِيلاَطُسُ دَمَهُمْ بِذَبَائِحِهِمْ. 2 فَأجَابَ يَسُوعُ
وَقَالَ لَهُمْ:«أَتَظُنُّونَ أَنَّ هؤُلاَءِ الْجَلِيلِيِّينَ كَانُوا خُطَاةً
أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ الْجَلِيلِيِّينَ لأَنَّهُمْ كَابَدُوا مِثْلَ هذَا؟ 3
كَلاَّ! أَقُولُ لَكُمْ: بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ
تَهْلِكُونَ. 4 أَوْ أُولئِكَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ سَقَطَ عَلَيْهِمُ
الْبُرْجُ فِي سِلْوَامَ وَقَتَلَهُمْ، أَتَظُنُّونَ أَنَّ هؤُلاَءِ كَانُوا
مُذْنِبِينَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ السَّاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ؟ 5
كَلاَّ! أَقُولُ لَكُمْ: بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ
تَهْلِكُونَ». (عدد 1-5).
معلوم
أن اليهود تباحثوا معًا في كثير من المسائل المُتعلقة بسياسة الله وأعمال عنايتهِ
وهذا نفسهُ موضوع المُباحثة التي وقعت بين أيوب وأصحابهِ. ويتضح أن الحاضرين فهموا
كلام الرب السابق من حيثيَّة إشارتهِ إلى مُعاملات الله معهم كأُمة فبادر البعض
إلى عرض حادثة عليهِ مما جرى ويا ترى هل كانت تلك الحادثة بسبب شرور أولئك
الجليليين شخصيًّا أو جزءًا من مُعاملات الله العامة معهم كأُمة. فجاوبهم الرب
أنها ليست استثنائية شخصيَّة لأن الذين كابدوا مثل هذا لم يكونوا خطاة أكثر من
الآخرين فإذًا ينبغي أن يعتبر قتلهم وخلط دمهم مع ذبائحهم من العلامات الدالة على أن
الله في الطريق مع الأُمة كلها إلى القضاء فلا بد أن يهلك الجميع إن لم يتوبوا. ثم
يُذكرهم بما أصاب ثمانية عشر إذ وقع عليهم برج من أبراج أُورشليم ويقول أن حادثتهم
كحادثة الجليليين تمامًا. نعم لما كانت أحوال إسرائيل مستقيمة كان الله مُعتادًا
أن يُظهر غيظهُ بطرق مخصوصة على أفراد آثمة وأما الآن فما بقى موضع لذلك في أُمة
مُنحطة مُتمردة على وجه العموم. وأيضًا لو انتبهوا انتباهًا قليلاً لَميَّزوا
أمرًا يدلهم صريحًا على يد الله في الحادثتين فإن الوالي الوثني ذبح الجليليين وهم
مُقتربون إلى مذبح إلههم وأحد أبراج المدينة المقدسة سقط على الآخرين وهم
مُطمئنون.
6
وَقَالَ هذَا الْمَثَلَ:«كَانَتْ لِوَاحِدٍ شَجَرَةُ تِينٍ مَغْرُوسَةٌ فِي
كَرْمِهِ، فَأَتَى يَطْلُبُ فِيهَا ثَمَرًا وَلَمْ يَجِدْ. 7 فَقَالَ
لِلْكَرَّامِ: هُوَذَا ثَلاَثُ سِنِينَ آتِي أَطْلُبُ ثَمَرًا فِي هذِهِ التِّينَةِ
وَلَمْ أَجِدْ. اِقْطَعْهَا! لِمَاذَا تُبَطِّلُ الأَرْضَ أَيْضًا؟ 8 فَأَجَابَ
وَقَالَ لَهُ: يَا سَيِّدُ، اتْرُكْهَا هذِهِ السَّنَةَ أَيْضًا، حَتَّى أَنْقُبَ
حَوْلَهَا وَأَضَعَ زِبْلاً. 9 فَإِنْ صَنَعَتْ ثَمَرًا، وَإِلاَّ فَفِيمَا بَعْدُ
تَقْطَعُهَا». (عدد 6-9).
شجرة
التين عبارة عن إسرائيل كأُمة في أرض كنعان يُطلب منهم ثمر الطاعة لله والمحافظة
على إيمانهم. والثلاث سنين: عبارة عن الوقت الكافي لإظهار الثمر المطلوب أي كل
وقتهم الذي قضوهُ في أرضهم تحت عناية الله وفلاحتهِ فطالما طلب ثمرًا منهم ولم
يجد، والكرام: هو المسيح مدة حياتهِ يخدم إسرائيل، ويعلمهم بقصد أن ينبههم فالله
بسياستهِ لهم حكم بإن الوقت قد حان لإقراضهم. راجع قول يوحنا: والآن قد وُضعت
الفأس على أصل الشجر… إلخ (إصحاح 9:3). إن كانت الأمة لا تأتي بالثمر لماذا تبطل
أرض الرب بعد. ثمَّ قول الكرام: يا سيد، أتركها هذه السنة أيضًا حتى أنقب حولها
وأضع زبلاً فإن صنعت ثمرًا، وإلاَّ ففيما بعد تقطعها. يشير إلى خدمة المسيح
والوسائط التي استعملها لكي يأتي بهم إلى التوبة بواستطها. سبق الله واعتنى بهم
بواسطة عبيدهِ القدماء، وآخر الكل أرسل لهم ابنهُ الذي أفرغ كل الوسائط معهم بدون
نتيجة، وأخيرًا جرت سياسة الله مجراها وقطعتهم كما نعلم.
10
وَكَانَ يُعَلِّمُ فِي أَحَدِ الْمَجَامِعِ فِي السَّبْتِ، 11 وَإِذَا امْرَأَةٌ
كَانَ بِهَا رُوحُ ضَعْفٍ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُنْحَنِيَةً
وَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ تَنْتَصِبَ الْبَتَّةَ. 12 فَلَمَّا رَآهَا يَسُوعُ دَعَاهَا
وَقَالَ لَهَا:«يَا امْرَأَةُ، إِنَّكِ مَحْلُولَةٌ مِنْ ضَعْفِكِ!». 13 وَوَضَعَ
عَلَيْهَا يَدَيْهِ، فَفِي الْحَالِ اسْتَقَامَتْ وَمَجَّدَتِ اللهَ. 14 فَأَجابَ
رَئِيسُ الْمَجْمَعِ، وَهُوَ مُغْتَاظٌ لأَنَّ يَسُوعَ أَبْرَأَ فِي السَّبْتِ،
وَقَالَ لِلْجَمْعِ:«هِيَ سِتَّةُ أَيَّامٍ يَنْبَغِي فِيهَا الْعَمَلُ، فَفِي
هذِهِ ائْتُوا وَاسْتَشْفُوا، وَلَيْسَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ!» 15 فَأَجَابَهُ
الرَّبُّ وَقَالَ:«يَا مُرَائِي! أَلاَ يَحُلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ فِي
السَّبْتِ ثَوْرَهُ أَوْ حِمَارَهُ مِنَ الْمِذْوَدِ وَيَمْضِي بِهِ وَيَسْقِيهِ؟
16 وَهذِهِ، وَهِيَ ابْنَةُ إِبْراهِيمَ، قَدْ رَبَطَهَا الشَّيْطَانُ ثَمَانِيَ
عَشْرَةَ سَنَةً، أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُحَلَّ مِنْ هذَا الرِّبَاطِ فِي
يَوْمِ السَّبْتِ؟» 17 وَإِذْ قَالَ هذَا أُخْجِلَ جَمِيعُ الَّذِينَ كَانُوا
يُعَانِدُونَهُ، وَفَرِحَ كُلُّ الْجَمْعِ بِجَمِيعِ الأَعْمَالِ الْمَجِيدَةِ
الْكَائِنَةِ مِنْهُ. (عدد 10-17).
كان
يسوع في طريقهِ إلى أورشليم لكي يهان ويموت، وكان الله في الطريق مع شعبهِ للقضاء
أيضًا، ولكن النعمة الإلهية كانت تمّهل خطواتهِ كقاضٍ وتستغنم كل فرصة لإظهار
الرحمة للشعب البائس لأن الله يحب أن يسرع لممارسة المحبة ويتباطئ عن إجراء
الدينونة. كانت هذه المرأة من بنات إبراهيم الذي دُعي خليل الله، ولكن من زمان
طويل منحنية بضعفٍ مثل: الأمة الإسرائيلية تمامًا. فحضر الطبيب الصالح وبادر
كعادتهِ إلى علاجها بكلمتهِ الشافية. وأما رؤساؤهم المراؤن المتكبرون فاغتاظوا من
حضورهِ واتخذوا شريعتهم من جهة حفظ السبت علَّةً لرفض خدمة الطبيب. كانوا يحافظون
على صوالحهم الشخصية بغاية الاعتناء، ولكنهم لم يبالوا كثيرًا بحالة الشعب. كانت
بهائمهم أفضل عندهم من شفاء إحدى بنات إبراهيم بل من شفاء الأمة أيضًا المنحنية
بالضعف المزمن. سكت المعاندون وأخجلوا في وقتهِ رغمًا عن ريائهم، ولكنهم لم
يقتنعوا. لم يزل البسطاء يفرحون بأعمال الرحمة، ولكن يوجد فرق كبير بين فرحهم
بنوال الشفاء لأجسادهم من يد المسيح، وبين خضوعهم لهُ كابن الله ومخلصهم من
خطاياهم.
18
فَقَالَ:«مَاذَا يُشْبِهُ مَلَكُوتُ اللهِ؟ وَبِمَاذَا أُشَبِّهُهُ؟ 19 يُشْبِهُ
حَبَّةَ خَرْدَل أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَأَلْقَاهَا فِي بُسْتَانِهِ، فَنَمَتْ
وَصَارَتْ شَجَرَةً كَبِيرَةً، وَتَآوَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ فِي أَغْصَانِهَا».
20 وَقَالَ أَيْضًا:«بِمَاذَا أُشَبِّهُ مَلَكُوتَ اللهِ؟ 21 يُشْبِهُ خَمِيرَةً
أَخَذَتْهَا امْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيق حَتَّى
اخْتَمَرَ الْجَمِيعُ. (عدد 18-21).
معلوم
أن المثلين المُدرجين في هذا الفصل موجودين أيضًا في (مَتَّى إصحاح 13) ضمن
الأمثال التي تشير إلى هيئات ملكوت السماوات المختلفة مدة غياب الملك، وأما هنا
فنراهما في قرينة أخرى. ولا شك بأن الرَّبَّ نطق بهما في وقت آخر خلاف الوقت
المذكور في إنجيل مَتَّى. فقال: ماذا يشبه ملكوت الله؟ وبماذا أُشبههُ؟ فقد قلت
آنفًا أن ملكوت الله: عبارة عن سلطانهِ وأعمالهِ في وقت حضور المسيح، وفي هذا
الوقت أيضًا. قرائن الكلام في موضعٍ ما تدلُّنا دائمًا على ما هو المقصود بهِ
لأنهُ يشير بعض الأوقات إلى حضور المسيح في إسرائيل، وأخرى إلى النظام المسيحي في
العالم في الوقت الحاضر، ولكن في هذا نظر بحيث يُشار إليهِ باعتبار وجهيهِ أي
وجههِ الخارجي ووجههِ الداخلي. ويشبه حبة خردل أخذها إنسان وألقاها في بستانهِ
فنمت وصارت شجرة كبيرة وتآوت طيور السماء في أغصانها. فينبغي أن نلاحظ قرائن
الكلام بحيث أن الرَّبَّ عدَّة مرار في هذا الإنجيل سبق وتكلم عن أبطال النظام
القديم وإبدالهِ بنظام آخر وقد رأينا أنهُ يصف للمنتسبين إليهِ كتلاميذ كيف يجب أن
يسلكوا؟ وأنذرهم في (إصحاح 12) عن مشاكلة العالم، والتغافل عن نسبتهم لسيدهم ثمَّ
في أول هذا الإصحاح يتكلم صريحًا عن إجراء الدينونة الصارمة على إسرائيل. فإذًا في
هذا الفصل يعود إلى موضوع النظام الجديد الذي يصبح تلاميذهُ فيهِ بعد قطع التينة
الإسرائيلية ولكن وا أسفاه! على الإنسان فأنهُ في كرامة لا يبيت بل يشبه البهائم
التي تباد (مزمور 12:49). إن كان إسرائيل اسأوا التصرُّف وافسدوا طريقهم وصارت
امتيازاتهم علَّة دينونة أزيد فهكذا سيفعل أيضًا الذين ينتسبون للمسيح كتلاميذ مدة
غيابهِ. لاشك أن ملكوت الله كان على حالة جيدة في الأول غير مختلط مع المبادئ
العالمية، ولكنهُ أُسلم إلى أيدي الناس فانحطَّ كما انحطَّ النظام القديم قبلهُ.
نما وصار نظامًا عالميًّا يعبَّر عنهُ بشجرة كبيرة: يعني أن هذا العمل حدث بعد
تأسيس الملكوت بين الناس وتسليمهِ إلى مسئوليتهم. الله أنشأه بحالة الجودة، ولكنهُ
تحوَّل إلى هيئة غير لائقة بواسطة البشر لأن الله دائمًا يبدأ نظاماتهِ على حالة
جيدة، وإنما تنحرف وتفسد من سوء عمل شعبهِ المنتسب إليهِ. كما قال أيضًا: بماذا
أشبه ملكوت الله؟ يشبه خميرة أخذتها امرأة وخبأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر
الجميع. هذا نفس الكلام حرفيًّا الوارد في مَتَّى، ويشير إلى الفساد في الديانة،
المعروف بالرياء، سبق الرَّبُّ وقال لتلاميذهِ: أولاً تحرزوا لأنفسكم من خمير
الفريسيين الذي هو الرياء (إصحاح 1:12) وقد رأينا أن الرياء كان يسري كالسهمّ في
أبدان إسرائيل ورؤسائهم فاغاظوا الله بهِ أكثر من كل ما سواهُ فأنهم اقتربوا إليهِ
بالفم وقلبهم مُبتعد عنهُ. فخمير الفريسيين لم يُقطع من بين البشر وقت تشتيت اليهود
وخراب نظامهم ومدينتهم؛ لأنهُ لم يلبث أن دخل بين المسيحيين وبقى يعمل في نظامهم
حتى صار متصفًا بالرياء في الداخل ومشاكلة العالم من الخارج.
22
وَاجْتَازَ فِي مُدُنٍ وَقُرًى يُعَلِّمُ وَيُسَافِرُ نَحْوَ أُورُشَلِيمَ، 23
فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ:«يَا سَيِّدُ، أَقَلِيلٌ هُمُ الَّذِينَ يَخْلُصُونَ؟»
فَقَالَ لَهُمُ: 24 «اجْتَهِدُوا أَنْ تَدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ،
فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَطْلُبُونَ أَنْ يَدْخُلُوا وَلاَ
يَقْدِرُونَ 25 مِنْ بَعْدِ مَا يَكُونُ رَبُّ الْبَيْتِ قَدْ قَامَ وَأَغْلَقَ
الْبَابَ، وَابْتَدَأْتُمْ تَقِفُونَ خَارِجًا وَتَقْرَعُونَ الْبَابَ قَائِلِينَ:
يَارَبُّ، يَارَبُّ! افْتَحْ لَنَا. يُجِيبُ، وَيَقُولُ لَكُمْ: لاَ أَعْرِفُكُمْ
مِنْ أَيْنَ أَنْتُمْ! 26 حِينَئِذٍ تَبْتَدِئُونَ تَقُولُونَ: أَكَلْنَا
قُدَّامَكَ وَشَرِبْنَا، وَعَلَّمْتَ فِي شَوَارِعِنَا! 27 فَيَقُولُ: أَقُولُ
لَكُمْ: لاَأَعْرِفُكُمْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمْ، تَبَاعَدُوا عَنِّي يَا جَمِيعَ
فَاعِلِي الظُّلْمِ! 28 هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ، مَتَى
رَأَيْتُمْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَمِيعَ الأَنْبِيَاءِ فِي
مَلَكُوتِ اللهِ، وَأَنْتُمْ مَطْرُوحُونَ خَارِجًا. 29 وَيَأْتُونَ مِنَ
الْمَشَارِقِ وَمِنَ الْمَغَارِبِ وَمِنَ الشِّمَالِ وَالْجَنُوبِ، وَيَتَّكِئُونَ
فِي مَلَكُوتِ اللهِ. 30 وَهُوَذَا آخِرُونَ يَكُونُونَ أَوَّلِينَ، وَأَوَّلُونَ
يَكُونُونَ آخِرِينَ». (عدد 22-30).
نراهُ
مجتازًا في بلاد إسرائيل، ولا يفتر عن تعليمهم مع أن سفرهُ سينتهي بالموت في
أورشليم. فقال لهُ واحد: يا سيد، أقليل هم الذين يخلصون؟ كان اليهود قد فهموا من
عدَّة نبوات أنهم لا بدَّ أن يجتازوا في زمن ضيق شديد قبل أقامة الملكوت بوقت وجيز
وأنهم يصفُّون بهِ، ولا يدخل الملكوت إلاَّ البعض منهم. (انظر الإصحاحات الأولى من
نبوة إشعياء) نعم، وأكثر النبوات، فأنها تكشف شرور إسرائيل المستدعية دينونة الله
ثمَّ تذكر ضيقًا شديدًا لهم وحالاً بعد ذلك أقامة الملكوت، فكانوا مصيبين بأفكارهم
هذه ولكنهم تباحثوا كثيرًا في هل البقية التي ستخلص من الضيقات وترث الملكوت هي
قليلة أو كثيرة؟ ولكن الرَّبَّ رفض أن يجاوب هذا السؤال بحسب مقصد الذي سألهُ بل
اتخذ الفرصة لينبه الجميع على شيء أعظم من تلك المباحثة. فقال لهم: اجتهدوا أن
تدخلوا من الباب الضيق، والباب الضيق: عبارة عن التوبة والإيمان بالمسيح، وكان
الدخول من هذا الباب عسرًا على اليهود وعلينا نحن أيضًا كما لا يُخفى. فكان من
الأمور العظيمة الأهميَّة لهم في ذلك الوقت أن يعملوا جهدهم ليتخلصوا من كبريائهم
وريائهم، ويقبلوا المسيح كفاديهم وإلههم، ولا يستغرقوا الوقت في المباحثات التي
وأن تكن مفيدة في محلها لا تغنيهم عن التوبة والإيمان. يعلم الرَّبُّ أن ينقذ
الأتقياء من التجربة، ويحفظ الأثمة إلى يوم الدين معاقبين (بطرس الأولى 9:2) ولا
شك بأنهُ سيحفظ لنفسهِ بقية من أسباط إسرائيل ومن الأمم أيضًا في ساعة التجربة
العظيمة العتيدة أن تأتي على كل المسكونة كما نتعلم من مواضع كثيرة من سفر الرؤيا،
ولكن لو فهمنا النبوات تمامًا وعشنا غير تائبين، فمعرفتنا النبوة لا تخلصنا من تلك
الضربات والويلات. فأني أقول لكم: أن كثيرين سيطلبون أن يدخلوا ولا يقدرون. هذا
الكلام كلهُ متجه لليهود باعتبار ظروفهم وقتئذٍ، وسرعة قدوم الدينونة عليهم،
ولكنهُ يوافقنا نحن أيضًا الذين انتهت إلينا أواخر الدهور، لأن حالتنا من كل
الأوجه تشبه حالتهم. فالطلب هنا بالمقابلة مع الاجتهاد الذي سبق وخاطبهم: أن
يعملوهُ ولكنهُ لا ينفع الطالبين بحيث أنهُ لا يكون ذلك الوقت وقت الطلب والوجدان.
وأيضًا الاجتهاد في الوقت الحاضر هو لأجل الدخول من الباب الضيق: يعني قبول المسيح
نفسهِ، وأما الطلب فيصير وقت الشدَّة والخوف إذ الدينونة تفاجئ المُتغافلين
فيطلبون الدخول إلى موضع أمان لكي يخلصوا من الغضب المنسكب عليهم. من بعد ما يكون
ربّ البيت قد قام وأغلق الباب وابتدأُتم تقفون خارجًا وتقرعون الباب قائلين: يا
ربّ، ياربّ، أفتح لنا، يُجيب ويقول لكم: لا أعرفكم، من أين أنتم؟ المسيح هو ربُّ
البيت، وهو جالس الآن مع أبيهِ على عرشهِ، وباب الرحمة مفتوح، وما دام هو هناك على
هذه الهيئة يُقال للوقت الوقت المقبول، ويوم الخلاص، ولكن لا بدَّ أن يأتي وقت آخر
حين يقوم من الموضع المُتصف بالنعمة، ويتهيأُ لإجراء الدينونة. حينئذٍ تبتدئون تقولون
أكلنا قدامك وشربنا وعلَّمتَ في شوارعنا فأقول لكم: لا أعرفكم، من أين أنتم؟
تباعدوا عني يا جميع فاعلي الظلم. لاحظ أن الرَّبَّ يصف حالة اليهود الذين حضر في
وسطهم وافتقدهم كالمُشرق من العلاء وينظر إلى وقت القضاء كقريب بحسب طريق الوحي
دائمًا، إذا تكلم عن هذا الموضوع الخطير. وصدق كلامهُ نوعًا في ذلك الوقت على
معاملاتهِ معهم كأُمة بحيث أنهُ كان يفتقدهم بنعمتهِ آخر مرة، ولكن لا يُخفى أنهُ
يصدق تمامًا على جميع الذين قد امتازوا بافتقادات إلهية وقت النعمة، وعاشوا
متغافلين إلى أن يفاجئهم يوم الرَّبِّ كلصّ في الليل وقد رأينا في (إصحاح 12)
عدَّة إنذارات خطيرة لجميع المنتسبي إليهِ كتلاميذ مدة غيابهِ ويخاطبهم مرَّة بعد
أخرى، أن يسهروا ويستعدُّوا لمجيئهِ. ونرى هنا أن مجرد حصول اليهود وغيرهم على
وسائط النعمة، وانتسابهم إلى المسيح كشعبهِ الأرضي وهو على الأرض أو كتلاميذهِ وهو
في السماء لا يخلّصهم من دينونتهِ وقت الدينونة بل بالعكس يزيدها مضاعفًا. لا شك
بأن هذا يتم في الذين يموتون بدون التوبة، ولكن الكلام هنا يشير إلى وقت قيام
المسيح كرّب البيت من موضعهِ الحاضر ليرعب المسكونة، ويعاقب الأحياء على أعمالهم
لا سيما احتقارهم نعمة الإنجيل. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان متى رأيتم إبراهيم
وإسحاق ويعقوب وجميع الأنبياء في ملكوت الله، وأنتم مطرحون خارجًا قلت آنفًا أن
للعبارة «ملكوت الله» أوجه مختلفة أخصُّها الخارجي الظاهر كنظام في هذا العالم،
والداخلي الذي يصدق في الذين يخضعون حقيقة لله ونعمتهِ فأن لهؤلاء ملكوت الله الآن
وإلى الأبد أيضًا، لأنهم قد تصالحوا مع الله وأتوا إليهِ وعرفوهُ كإلههم في المسيح
يسوع راجع حادثة التجلي والشرح عليها. كان الآباء القدماء المذكورون هنا مؤسّسي
بيت إسرائيل وآنية المواعيد ولا يُخفى أن اليهود افتخروا بنسبتهم إليهم بحسب
الجسد، وكلما ابتعدوا عن الله مصدر البركات زاد افتخارهم الباطل بالبشر كما هو
الأمر تمامًا مع عموم النصارى في أيامنا. ولكن صورة التقوى بدون قوتها لا تغشُّ
إلاَّ البشر القليلي البصر والتمييز. أتقياء الله وعبيدهُ سيرثون الملكوت ويتمتعون
بتتميم المواعيد وأما المراءون إن كانوا م نسل إبراهيم أو من تلاميذ المسيح بالاسم
فسيطرحون خارجًا إلى حيث البكاء وصرير الأسنان. فلا يكون لهم نصيب في الملكوت لا
في جزءهِ السماوي ولا في جزءهِ الأرضي. على أن الرَّبَّ لا يشير صريحًا هنا إلاَّ
إلى المقام السماوي في مجد الملكوت. ويأتون من المشارق ومن المغارب ومن الشمال
والجنوب ويتكئون في ملكوت الله. فيشير هنا صريحًا إلى دعوة الأمم في وقت النعمة
وأن المدعوين سيشتركون في أمجاد السماء غير أنهُ لا يذكر نسبتهم إليهِ بالإيمان
ولا كيفية تمتُّعهم بالنصيب السماوي فقط أنهم يفوزون بالدخول إلى الملكوت على هيئة
المجد خلاف الذين سيطلبون ذلك باطلاً حين يكون الوقت قد مضى والباب أُغلق.وهوذا
آخرون يكونون أوَّلين وأوَّلون يكونون آخرين. هذا من جملة الأقوال التي نعرف أن
الرَّبَّ كرَّرها من وقت إلى آخر ويكون معناها بحسب قرائنها. فالأولون هنا اليهود
والآخرون هم الأمم الذين يبلغهم الإنجيل بعد رفضهِ من اليهود.
31
فِي ذلِكَ الْيَوْمِ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْفَرِّيسِيِّينَ قَائِلِينَ لَهُ:«اخْرُجْ
وَاذْهَبْ مِنْ ههُنَا، لأَنَّ هِيرُودُسَ يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَكَ». 32 فَقَالَ
لَهُمُ: «امْضُوا وَقُولُوا لِهذَا الثَّعْلَبِ: هَا أَنَا أُخْرِجُ شَيَاطِينَ،
وَأَشْفِي الْيَوْمَ وَغَدًا، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ أُكَمَّلُ. 33 بَلْ
يَنْبَغِي أَنْ أَسِيرَ الْيَوْمَ وَغَدًا وَمَا يَلِيهِ، لأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ
أَنْ يَهْلِكَ نَبِيٌّ خَارِجًا عَنْ أُورُشَلِيمَ! (عدد 31-33).
لم
يزل الرَّبَّ في سلطنة هيرودس أي نواحي الجليل أو في عبر الأردن وتظاهر بعض
الفريسيين بأن لهم اهتمامًا بحفظ حياة الرَّبِّ التي كانت في خطر من الوالي
المذكور الذي كان قد حبس يوحنا المعمدان وقتلهُ. ولكنهم أرادوا أن يتخلصوا من
حضورهِ فقط. فجاوبهم أن نزع حياتهِ ليس في طاقة البشر وأنهُ متّمم خدمتهُ
المعيَّنة لهُ وبعد وقت وجيز يكَّمل يعني يبلغ نهاية خدمتهِ بالموت غير أن أورشليم
هي الموضع المعيَّن لموتهِ لأنها أخذت امتيازًا رديًّا بقتل أنبياء الله. فيلقب
هيرودس كثعلب نظرًا إلى خبثهِ ومكرهِ وربما هو نفسهُ كان قد أرسل المشار إليهم
بهذا التخويف على أمل بأن الرَّبَّ يخاف على نفسهِ ويهرب من ولايتهِ.
34
يَا أُورُشَلِيمُ، يَاأُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ
الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا
تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا! 35
هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَابًا! وَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ:
إِنَّكُمْ لاَ تَرَوْنَنِي حَتَّى يَأْتِيَ وَقْتٌ تَقُولُونَ فِيهِ:
مُبَارَكٌالآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ!». (عدد 34، 35).
فمهما
كان هيرودس متصفًا بصفات الثعلب فلأورشليم المسكينة الأثيمة وصفٌ أردأ من ذلك بحيث
أنها اعتادت من الزمان القديم أن تقتل الأنبياء وترجم الذين أرسلهم الله إليها
لينبهوها على خطاياها ويدعوها إلى التوبة. كم مرَّة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع
الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. يتكلم هنا كإله أورشليم فأنهُ هو الذي سبق
وأرسل الأنبياء إليها ثم آخر الكل حضر بذاتهِ آخر الأنبياء وأفضلهم أيضًا وتعب في
جمع أولاد أورشليم تحت ظلهِ بغاية الحنو وأما تعبهُ كجامع لإسرائيل ذهب سدي مثل:
تعبهِ ككرّام يعمل بينهم كتينةٍ؛ لأنهم لم يريدوهُ. افتخروا بأسيادهم قيصر وبيلاطس
وهيرودس مع رؤساءهم المرائين ولو كانوا كالوحوش وأما اعتناء الدجاجة الحنونة
فرفضوهُ. هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا. رفضوا النعمة وعرَّضوا أنفسهم للقضاء
فالقضاء سيُجري مجراهُ. خربت مدينتهم وبيتهم وتفرق أولادها الأثمة إلى أقصى
المسكونة. مضى فرح قلبنا صار رقصنا نوحًا. سقط اكليل رأسنا. ويلٌ لنا لأننا قد
أخطأنا من أجل هذا حزن قلبنا. من أجل هذا أُظلمت عيوننا. من أجل جبل صهيون الخرب.
الثعالب ماشية فيه (مراثي إرميا 15:5-18). كان جبل صهيون موضع كرسي داود والهيكل
مكان اجتماع أسباط إسرائيل لعبادة إلههم وحفظ مواسمهم المفرحة وحضر المسيح كابن
داود وربّ الهيكل ليملك عليهم ويجمعهم إلى مركزهم ويفرحهم في البيت المعيَّن للصلة
لهم ولجميع الأمم أيضًا وأما بعد رفضهم إياهُ فترك بيتهم خرابًا واستمرَّت الثعالب
تمشي في جبل صهيون، ولكن ليس ذلك إلى الأبد. والحق أقول لكم أنكم لا ترونني حتى
يأتي وقت تقولون فيهِ مبارك الآتي باسم الرَّبِّ. (انظر مزمور 26:118) حيث نرى
توبة إسرائيل في المستقبل وترحُّبهم بالرَّبِّ حين يأتي. ويكون ذلك يومًا عظيمًا
في تاريخ إسرائيل. راجع المزمور المشار إليهِ كلهُ وترى أنهُ يتضمن ملخص تاريخهم
إذ كثيرًا ما أدَّبهم الرَّبَّ، وإلى الموت لم يسلّمهم والحجر المرفوض من البنائين
قد صار رأس الزاوية أي ارتفع إلى السماء، وهو عمل عجيب في عيون التائبين في
إسرائيل، ويحسبون وقت مجيئهِ يومًا صنعهُ الرَّبُّ. لم يزل إسرائيل محبوبين بحسب
مقاصد الله فلا بدَّ أنهُ يفتقدهم ثانيةً ويأتي بهم إلى التوبة استعدادًا لقبولهم
المسيح الذي سيأتي من المجد ليباركهم ويجمعهم ويجعلهم يعرفون قيمة محبتهِ ونعمتهِ
التي احتقروها مرةً ورفضوها.