الإصحَاحُ الْخَامِسُ

 

4
دعوة التلاميذ

(1:511) (مت
4: 1822)
(مر 1: 1620)

 

على ضفاف بحيرة جنيسارت

يختار القديس لوقا من
كل خدمة المسيح في الجليل هذه الحادثة الفريدة التي كانت فاتحة اختيار أربعة من
التلاميذ كانوا شركاء صيد. عائلتان: عائلة ابني زبدي وعائلة بطرس وأخيه. المنظر
خلاَّب، البحيرة تعج بالصيادين. وهنا توقَّف المسيح أمام مركبين لبطرس وأخيه، وقد
خرجا لتوّهما بعد رحلة ليلية مضنية وسهر وجهاد ولم يصطادا شيئاً. فغسلا الشباك
وخرجا من المركب، فناداهما عارف الأسرار والأخبار والأماني واليأس القانط الذي أصابهما،
وطلب منهما أن يدخل السفينة بقرب الشاطئ ويعلِّم الشعب المتزاحم عليه. بعدها قام
بمداعبة خلاصية غاية في النعمة في فنون الصيد: أمرهما ليذهبا إلى العمق ويطرحا
شبكتهما. والعمق لا يحوي أسماكاً يتم صيدها بالشباك، ولكن أسماك المسيح لا تعيش
إلاَّ في الأعماق، فتجمَّعت كلها في الشباك حتى تعطَّل سحبها ورفعها، فصرخوا إلى
الرفاق طلباً في المعونة وكانت الأسماك كافية لتُغرِق السفينتين من ثقلها لأنها
كانت أسماك ذات وزن عالٍ لا تحملها لا شباك الناس التي تخرَّقت، ولا سفن الناس
التي مالت بها طلباً للغرق. لأن البحيرة كانت تسمَّى جنيسارت، وهي اختصار لكلمة
جنة السرور، وهو الاسم الآخر للأخبار المفرحة. وهكذا أقنع السيد المعلِّم الصيَّاد
الأعظم هؤلاء الرفاق الأربعة مرَّة واحدة أنَّ اتباعه أربح لهم من شقاء صيد بحيرة
الجليل، مع أن جنيسارت هي بعينها بحيرة الجليل ولكنها بقيت هكذا بعد أن عرف الناس
جمالها. فأخذت الخشية والرعدة بطرس لأنه رأى في المسيح صيَّاداً يعرف مسالك
الأسماك في البحيرة ويدعوها فتستجيب وتتجمَّع حوله وكأنها وُلِدَت لحسابه وغاية
رجائها أن تُحسب له. فسلَّم بطرس نفسه ليكون له، فرحَّب به الرب ليكون سمكة
وصيَّاداً معاً. ورأى الثلاثة الباقون أن بطرس اختار النصيب الفاخر، فاختاروه.

ويُلاحَظ أن القصة ألقت
منذ البدء الأضواء الشديدة على بطرس وخيبة أمله في ليالي الشقاء والعمر الذي لم
يأتِ بثمنه. صورة صوَّرها ق. لوقا لأنه سيقدِّمه قائداً للكنيسة وصيَّاداً
متمرِّساً ليملأ السفينة ويبحر بها “ويشدِّد الرفاق”.

وقد أتى القديس مرقس
بهذه القصة عينها ولكنه لم يلوِّنها بألوان ق. لوقا، فجاءت طبيعية مختصرة، فيها
الأربعة متلاصقون معاً يتبعون المسيح بكلمة (مر 1: 1620)، وفصَلَ
اختيار التلاميذ عن التعليم بجوار البحيرة إذ جاء التعليم متفرِّقاً في (مر 1:4،
13:2، 7:39). ويعتقد العلماء الذين يبحثون وراء الكلمات والحركات
والسكنات أن ق. لوقا وجد تقليداً إضافياً غير الذي أخذ منه ق. مرقس، وبالرغم من
ذلك كان تحت تأثير شديد لرواية ق. مرقس.

والذي استرعى انتباه ق.
مرقس في دعوة التلاميذ هو شدة الطاعة والاستجابة السريعة. أمَّا ق. لوقا فهو
ليس مجرَّد قصَّاص ولا مسجِّل صور ولكنه جرى وراء خلفيات الدعوة وهذه الطاعة
المذعنة، متأكِّداً أن وراءها ترقد حتماً دوافع أعطتهم هذا الإذعان والطاعة
الشديدة. فبحث وعثر على قصة الصيد الوفير الذي خرّق الشباك فقطع خط الرجعة على
التردد، والغرق الذي كاد أن يكون حتماً للسفينتين معاً الذي سهَّل تركهما على
الشاطئ تحت إمرة أبيهما (يوحنا ويعقوب) أفضل من الغرق بما فيها وبمَنْ فيها، نعم
كانت سبباً في رفع وعيهم الروحي لينظروا ما كان وما سيكون وأن الذي تركوه نفاية:
من شباك تتخرّق ومراكب آيلة للغرق، وسمك يلقى مرَّة أخرى في الماء لرداءته وتعب
طول الليل بلا طائل.

والعجيب أن ق. يوحنا
يوافق ق. لوقا تماماً في المناظرة بين ليل انقضى في بؤس رمْي الشباك وجمعها، وفجر
أشرق بالحسرات والأمل الضائع والشباك التي تثقَّلت بخير الرب، ولكن الأسماء
تتغيَّر. فهنا في إنجيل ق. يوحنا، نجد أنَّ ق. بطرس أيضاً بعينه صاحب فكرة الصيد
في الوقت الضائع بعد قيامة الرب، في عودة إلى خيبة الأمل وصيد العدم:
» قال لهم
سمعان بطرس: أنا أذهب لأتصيَّد بعد ترك المهنة لثلاث سنوات ونصف
قالوا له: نذهب نحن أيضاً معك (وكانوا توما ونثنائيل وابني زبدي). فخرجوا ودخلوا
السفينة للوقت وفي تلك الليلة لم يُمسِكوا شيئاً. ولمَّا كان الصبح، وقف يسوع على
الشاطئ. ولكن التلاميذ لم يكونوا يعلمون أنَّه يسوع … فقال لهم: أَلقوا
الشبكة إلى جانب السفينة الأيمن فتجدوا. فألقوا، ولم يعودوا يقدرون أن يجذبوها من كثرة
السمك
«(يو 21: 36).
أليس هذا عجباً من المسيح أن يتمشَّى مع الهاربين من الخدمة؟ ووقف على شاطئ الحياة
الأخرى يداعب هؤلاء الهاربين من المدرسة ويستقبل بطرس كاستقبال السيد للعبد الآبق
من خدمته ليردّه وليشدِّد العبيد الأُخر الذين أغواهم معه.

وفي قصة ق. لوقا واضح
من انفعال ق. بطرس لضخامة المعجزة كصيَّاد، أنه أدرك مقدار هذا الوافد على المهنة
جديداً فنظر وإذ هو “ربِّي”، ونظر إلى نفسه فإذ هو غير مستحق أن تحمله سفينته مع
رب الحياة، فتجرأ ليقول:
» اخرج من سفينتي يا رب
لأني رجل خاطئ
«(لو 8:5). فأنا لست
أهلاً أن أقف أمامك وسجد متوسِّلاً. وقد كان أن خرج هو من سفينته ولم يعد إليها.
وهكذا كانت دعوة الرب لبطرس بإقناع من صميم مهنته فكانت أجمل دعوة في مضمونها
وإقناعها، ولسان حاله: إن كان هذا هو المسيح الذي يطيعه كل السمك فمالي أنا وصيد
السمك.

1:5 «وَإِذْ
كَانَ الْجَمْعُ يَزْدَحِمُ عَلَيْهِ لِيَسْمَعَ كَلِمَةَ اللهِ، كَانَ وَاقِفاً
عِنْدَ بُحَيْرَةِ جَنِّيسَارتَ».

سبق أن وصف ق. مرقس هذا
المنظر في الأصحاح (7:39، 1:4) حيث يقف المسيح في مركب ملاصقة للشاطئ
ويعلِّم الجموع فلا يزحمونه. والقديس لوقا يدخل في هذا الوصف بالذات، ذاكراً أن
المركب كانت لبطرس وأن دعوة بطرس جاءت بعد أن سمع كلمة المسيح متأثِّراً بها،
والتي سماها القديس لوقا “كلمة الله”، وهي التسمية التي غلبت على سفر
الأعمال، وقد جاءت هنا لربط التعليم بين الإنجيل والرسل. وفي هذا الموضع بالذات
تُحسب أول مرَّة في حياة بطرس يسمع فيها كلمة الله التي ستكون مذخراته وسلاح حياته
وتعليمه.

«جنيسارت»: Gennhsaršt

وهي كلمة مدغومة من
كلمتين بالأرامي وتعني: “جنة السرور”، وهي الاسم المحلِّي للبحيرة.

2:5 «فَرَأَى
سَفِينَتَيْنِ وَاقِفَتَيْنِ عِنْدَ الْبُحَيْرَةِ، وَالصَّيـَّادُونَ قَدْ خَرَجُوا
مِنْهُمَا وَغَسَلُوا الشِّبَاكَ».

هذا يعني أنها بعد رحلة
صيد طويلة، علمنا بعد ذلك أنها استغرقت الليل كله ولم يصطادوا شيئاً. وعادة بعد
العودة إلى الشاطئ يغسلون الشباك وينشرونها لتجف، والحزن يخيِّم على الوجوه
المتعبة. وق. مرقس يزيد أن يعقوب ويوحنا أخذا يصلحان الشباك التي تمزَّقت أثناء
الطرح والجذب استعداداً لرحلة أخرى.

3:5 «فَدَخَلَ
إِحْدَى السَّفِيْنَتَيْنِ الَّتِي كَانَتْ لِسِمْعَانَ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُبْعِدَ
قَلِيلاً عَنِ الْبَرِّ. ثُمَّ جَلَسَ وَصَارَ يُعَلِّمُ الْجُمُوعَ مِنَ
السَّفِينَةِ».

كانت
الوسيلة المحببة للمسيح حينما تزحمه الجموع، إمَّا أن يذهب إلى جبل أو تلَّة عالية
ويقف

من علٍ ليخاطب الجموع الجالسين على السفح،
وإمَّا أن يدخل سفينة ويتكلَّم منها والشعب واقف أو جالس
على الشاطئ. ويقول ق. لوقا إن المركب كانت لبطرس،
تمهيداً لكي يصنع خصيصاً أول معجزة صيد سمك
لجذب انتباه بطرس جذباً شديداً،
يسهِّل عليه قراره بترك المهنة واتباع الرب باعتباره أبا الصيد وصاحب الأسماك في البحار. لم يحدِّد ق. لوقا أي نوع
من التعاليم، ولكنه اكتفى في بداية الآية
الأُولى أن يقول إنها كانت “كلمة الله” بمعنى كلمة الحياة، تعبيراً
عن مفهوم “الخلاص”. اخلصوا لحياتكم.

ويلاحظ أن المسيح كان
من عادته أن يعلِّم وهو جالس.

4:5 «وَلَمَّا
فَرَغَ مِنَ الْكَلاَمِ قَالَ لِسِمْعَانَ: ابْعُدْ إِلَى الْعُمْقِ وَأَلْقُوا
شِبَاكَكُمْ لِلصَيْدِ».

سيبتدئ هنا تركيز
الانتباه على بطرس، الذي أمره المسيح بصفته قبطان
Captain
المركب أن يقلع إلى عمق البحيرة. وذلك طبعاً يحتاج إلى الطاقم كله مرَّة واحدة،
واحد يرفع الهلب الذي يثبت المركب في
مكانه، وآخر يستدير بالقارب، ثم يقوموا بالتجديف إلى أن تهب الريح فيفردوا الشراع.
بالرغم من ذلك لم يذكر ق. لوقا أحداً غير بطرس، ليركز الانتباه أكثر إلى المعجزة
ثم إلى الدعوة.

«ابعد إلى
العمق»:

حسب أصول الصيد العمق
ليس للشباك ولكن للصيد بالصنارة التي تتدلَّى بثقل وفيها الشص به الطعم ليصطاد
السمك الراقد في القاع يتغذى على حشائش الأرض في الأعماق. ولكن المسيح يصعِّب
احتمالات الصيد حتى إذا خرج الصيد الوفير تشكَّلت المعجزة في ذهن الصيَّاد العارف
بأصول الصيد فتُربك تفكيره وتجعله يتساءل: مَنْ هذا المعلِّم الذي يطيعه السمك حتى
في المستحيل؟

5:5 «فَأَجَابَ
سِمْعَانُ وَقَالَ لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، قَدْ تَعِبْنَا الَّليْلَ كُلَّهُ وَلَمْ
نَأْخُذْ شَيْئاً. وَلكِنْ عَلَى كَلِمَتِكَ أُلْقِي الشَّبَكَةَ».

«يا
معلِّم»:
™pist£ta = (rabb…)

يتحاشى القديس لوقا في
إنجيله استخدام “رابي” بالأصل الأرامي لأنه يكتب إلى رجل يوناني أُممي، وق. مرقس
اختار الكلمة المرادفة
did£skaloj.

«قد تعبنا
الليل كله ولم نأخذ شيئاً»:

هنا ق. لوقا لا يلقى
الكلام على عواهنه، فالمعنى دفين، فكأن ق. بطرس قبل أن يدخل في تلمذة الحياة
الأبدية ويتعلَّم حرفة الصيد الإلهي للنفوس، يحكي عن ليل العالم بالنسبة لإنسان
العالم أو صيَّاد البحيرة، الذي يقضي عمره وكأنه ليل طويل ولا يخرج في النهاية منه
بشيء
» عرياناً خرجت من بطن أمي وعرياناً أعود إلى هناك. «(أي 21:1)

«على كلمتك
ألقي الشبكة»:

بمعنى ليس على أساس
خبرتنا العريضة في الصيد التي تقول إنه من غير المعقول أن نصيد بالمرَّة، فما بالك
بالعمق والعمق لا يستجيب معنا في الصيد بالشباك. هنا كلمة
» على ™p… «تفيد اعتماداً على » قوة «كلمتك. هنا
دخل في اعتبار فن الصيد شيء جديد لم يكن موجوداً قط: أن
» كلمة الله «إذا دخلت في
فن الصيد جعلت السمك لا ينجذب بعد إلى الشبكة بحكم مكر الصيَّاد وخبرته في مسك
السمك، بل ينجذب بدافع الانصياع لقوة حاكمة جاذبة من فوق، ليست من الماء ولا من
الصيَّاد ولا من الشباك ذات العيون الضيقة، ولكنها قوة الأرزاق إلى أفواه الجائعين
من بني البشر.

وهكذا صارت هذه الآية
آية كل إنسان يَئِسَ من تعب الليل أو العمر كله ولم يَفُزْ بشيء من هذه الدنيا
العاصية، التي تعطي باليمين وتسلب بالشمال. أمَّا الله فملجأ لنا وقوة، يعطي أكثر
مما نظن أو نفتكر، ويخبئ لنا وراء عبوس الدهر خيرات ومسرَّات. فنحن على كلمته نلقي
كل يوم رجاءنا على يمين السيد حيث من الأعماق أعدّ لنا صيداً وفيراً.

6:5 «وَلَمَّا
فَعَلُوا ذلِكَ أَمْسَكُوا سَمَكَاً كَثِيراً جِدًّا، فَصَارَتْ شَبَكَتُهُمْ
تَتَخَرَّقُ».

وفي إنجيل ق. يوحنا
حدَّد جهة اليمين حيث تُلقى الشبكة. ولأنهم التزموا بقول السيد وعلى غير رجاء منهم
ألقوا الشباك على يمين المركب. واليمين عند المسيح غير يمين الناس، فيمين المسيح
يقف الله:
» جعلت الرب أمامي في كل حين لأنه عن يميني فلا أتزعزع «(مز 8:16)، وذراعه اليمين ذراع العطاء والقوة، تكيل بالكيل المهزوز
الملبَّد من عمق نِعَم الله وبفيض حتى لا متَّسع!!

فحينما
قال السيد ألقوا الشبكة، سمع السمك وتزاحم تحت المركب، وما أن طُرحت الشبكة
حتى تسابقت
السمكات الجيدة لتكون عند حسن ظن السيد.

ونجحت التجربة الأُولى
لبطرس على بحيرة جنيسارت، وتعلَّم كيف يُلقي بعد ذلك شباك النعمة في العمق على
كلمة السيد بقوة يمينه دائماً. وأول مرَّة اصطاد ثلاثة آلاف نفس في يوم الخمسين،
ثم بعد ذلك اصطاد كرنيليوس وكل أهل بيته: سمكات كبيرات جيدات ليست من بحيرة
جنيسارت بعد بل من البحر العظيم.

7:5 «فَأَشَارُوا
إِلَى شُرَكَائِهِمْ الَّذِينَ فِي السَّفِينَةِ الأُخْرَى أَنْ يَأْتُوا
وَيُسَاعِدُوهُمْ. فَأَتَوْا وَمَلأُوا السَّفِينَتَيْنِ حَتَّى أَخَذَتَا فِي
الْغَرَقِ».

لقد نفَّذوا أمر المسيح
فكان أن تمَّ وعد الله منذ القديم:
» قال رب الجنود: إن كنت
لا أفتح لكم كوى (طاقات) السموات وأفيض عليكم بركة حتى لا تُوسَعَ
«(مل 10:3). وهنا اشترك كل من يوحنا ويعقوب أيضاً في هذا التدريب
الروحي الفائق المثال إذ امتلأت سفينتهم أيضاً، لأن دورهم في ترك الصيد والشباك
وتعب الليل كله كان وشيكاً. فالمعجزة هي دعوة مغطَّاة بالسمك لترك كل شيء واتباع
السيد الذي يُغني وغناه ليس معه تعب.

فلأول وهلة تبدو معجزة
صيد السمك الوفير أنها معجزة استعراضية لسلطان المسيح على السمك الذي في قاع
البحر، مع أنها معجزة الدخول إلى أعماق قلوب أربعة تلاميذ من أميز تلاميذ المسيح، الذين
قام الإنجيل على أكتافهم، وكانوا أفضل التابعين. لقد تحادث المسيح في قلوبهم دون
حديث هكذا: ما رأيكم: هل رأيتم في حياتكم صيداً كصيدي؟ فأيهما أفضل أن تتبعوني أم
تعودوا إلى صيد الليل الذي أفلس عافيتكم وبيوتكم؟

ولكن المعجزة تكشف عن
إبداع أسلوب المسيح في اختيار تلاميذه. ولكن واحسرتاه على الذين صنع معهم المسيح
معجزة الشباك عينها وملأوا خزائنهم وبيوتهم وبنوكهم مالاً جمعه المسيح لهم سرًّا
من عمق سوق العالم الشحيح؛ فحسبوه مهارة منهم وحذق إدارة وفن اقتصاد، فلا هم
تتلمذوا ولا هم تبعوا ولا حتى هم صاروا من الشاكرين الشاهدين!!

بل وكم وكم صنع المسيح
مع طلبة وطالبات أجهدوا أنفسهم الأيام والليالي في الدرس والتحصيل والاستذكار عن
ظهر قلب، وما جاء من كل ما درسوه واستذكروه واستظهروه على قلوبهم سؤال واحد، وجاءت
الأسئلة معقَّدة أشد التعقيد وخرجوا من الامتحان صُفر الوجوه وترقبوا النتيجة بقلب
ميت إذ قطعوا أنهم راسبون راسبون. وإذ بالنتيجة تُعلَن ويكونون من الناجحين
والمتقدمين وينالون التعيين في أحسن الأماكن والمراكز، وينسون “المعلِّم” الذي
راجع وراءهم إجاباتهم وأصلح في عيون رؤسائهم خطهم الرديء وأسلوبهم السقيم ونسيانهم
المعيب، فنالوا نصيب الذين كادت تغرق مراكبهم من صيد وقفوا أمامه مذهولين صارخين:
نحن ما صدنا ولكن هذا صيد الله. وسرعان ما جرفهم بحر العالم وغرقوا في عطب وهمّ
وأوجاع كثيرة.

والمعلِّم هو هو لا
يزال يكيِّل لأولاده بالكيل الملآن الملبَّد والمهزوز، وهم يكيلون للفقير والأرملة
واليتيم بالشح والتقتير الشديد، أو لا يكيلون جملة!!

+ » هاتوا جميع
العشور إلى الخزنة ليكون في بيتي طعام، وجرِّبوني، بهذا قال رب الجنود إن كنت لا
أفتح لكم كوى السموات وأفيض عليكم بركة حتى لا تُوسَعَ.
«(مل 10:3)

8:5 «فَلَمَّا
رَأَى سِمْعَانُ بُطْرُسُ ذلِكَ خَرَّ عِنْدَ رُكْبَتَيْ يَسُوعَ قَائِلاً:
اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ».

«سمعان
بطرس»:

لم يأخذ “بطرس” هذا
اللقب إلاَّ من فم الرب أثناء اختياره وتكريسه للتلمذة، لذلك أورد ق. لوقا
هنا الاسم بالكامل في نهاية قصة الصيد الثقيل لينبِّه ذهن القارئ أن من هنا، من
هذا الصيد الوفير دخل بطرس الإيمان بالمسيح “الرب”، كما دخله إحساس بالصغر والعدم
أمام الرب القادر على كل شيء. فلم يهرب بطرس
من أمام الرب جزعاً لأنه كان
محاصراً
في سفينته فطلب من الرب أن يغادر السفينة لأنه لم يحتمل أن يتواجد في مركبه الحقير
المتواضع. هذا الإحساس صادق غاية الصدق حينما ينكشف عن عين الإنسان أنه واقف في
حضرة الله. فكان اعتراف بطرس هذا برهاناً أيّما برهان على أن بطرس قد انفتحت عيناه
على معرفة الرب معرفة إلهية حقـًّا، مما يؤهِّله بلا نزاع للدعوة الوشيكة التي
دعاه إليها الرب أن يصير كارزاً ورسولاً يجمع المؤمنين في شبكة الحياة ويقدِّمهم
إلى رب الحياة.

9:5 «إِذِ
اعْتَرَتْهُ وَجَمِيعَ الَّذِينَ مَعَهُ دَهْشَةٌ عَلَى صَيْدِ السَّمَكِ الَّذِي
أَخَذُوهُ».

انفتاح الوعي على الله
أو معجزاته الخارجة عن العقل والمعقول يصيب الإنسان بالدهشة. والدهشة
q£mboj هي خروج عن اتزان العقل
من لمسة فرح مفرط أو لمسة خوف، التي على أثرها صرخ بطرس:
اخرج
يا رب من سفينتي
!!

هذه تُحسب أول خبرة
رسولية للأربعة المختارين الأعزاء عند المسيح: بطرس وأندراوس ويعقوب ويوحنا. وهذه
هي العتبة التي تخطُّوها بسهولة من المعقولات والمدركات اليومية إلى الدخول في
مجال الروح والنعمة وأمور الله الفائقة على العقل والمعرفة. وإن كان ق. يوحنا
انفتح عليها بالفكر:
» في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان
الكلمة الله
«(يو 1:1)، فإن
ق. بطرس عاشها ومارسها بالعمل والحركة واليقظة والمشي لما أيقظه الملاك في
السجن ووقعت القيود من يديه وأمره أن يقوم فقام، وأن يتمنطق فتمنطق، وأن البس
نعليك فلبسهما، وامش ورائي فمشي وخرجا من الباب الأول، والثاني انفتح أمامهما كما
أمام ملك متوَّج. كل هذا وق. بطرس في أعلى حالات الوعي الروحي والجسدي معاً،
فكان يظنها رؤيا وإذ هي حقيقة. هذه كلها خبرات رسولية انعكست على الإنجيل فخرجت
الكرازة الحية الملتهبة بالروح.

إن معجزة صيد السمك
الوفير تُحسب مقدِّمة للانفتاح على الإنجيل. وحينما قال بطرس في انفعاله الروحي:
» اخرج من
سفينتي يا رب لأني رجل خاطئ
« هنا لا يمكن أن يغيب عن بالنا أن ق. لوقا يسلِّط النور على
انفتاح الوعي اللاهوتي على الخلاص، لأن الذي يعترف بخطيته هو إنسان بلغ
أعلى نقطة توتر بين الخطية والخلاص. فهو يعترف بالخطية علناً، لأنه لم يعد يطيقها
أو لأنه رأى المخلِّص أمامه فرأى نفسه وصرخ يطلب الخلاص. لقد فاجأنا ق. بطرس
باعترافه هذا مبكِّراً للغاية قبل أن ينخرط في سلك الرسولية، فجاءت قوة المفاجأة
على مستوى قوة مفاجأة ردّه على سؤال المسيح:
» وأنتم مَنْ
تقولون إني أنا فأجاب سمعان بطرس وقال أنت هو المسيح ابن الله الحي
«(مت 16:16). فكان أول اعتراف علني بالمسيَّا في العهد الجديد
برمَّته.

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس القس أنطونيوس فكرى عهد قديم سفر الخروج 30

10:5 «وَكَذلِكَ
أَيْضاً يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا ابْنَا زَبَدِي اللَّذَانِ كَانَا شَرِيكَيْ
سِمْعَانَ. فَقَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ: لا تَخَفْ! مِنَ الآنَ تَكُونُ تَصْطَادُ
النَّاسَ!»

أخيراً جداً أظهر ق.
لوقا التلميذين الآخرين أصحاب المركب الأخرى بعد أن استوفى بطرس دوره كنموذج أول لدخول تلميذ إلى رفقة المعلِّم.
فأصبح الآخران بالمثل شريكين في صيد السمك
وشريكين في الصيد على يدي المعلِّم. ولكن لا يزال انتباه ق. لوقا مركَّزاً
على سمعان بطرس، إذ
يعود إليه المسيح قائلاً رداً
على
سجوده بالقرب من ركبتيه (المسيح
جالس والمركب ضيقة
ومتحرِّكة): لا تخف.

«لا تخف»: m¾ foboà

هذا الاصطلاح الصغير
نسمعه في الرد على خوف التلاميذ لمَّا ظهر لهم بعد القيامة، فهو اصطلاح استعلاني
يشرح كيف أن خوف بطرس كان بسبب أن عينيه انفتحتا وعرف حقيقة المسيح فاعتراه الخوف
والدهشة معاً. على أن كلمة «لا تخف» تردّ هنا رداً عميقاً خلاصياً بديعاً
على
» أنا رجل خاطئ « كذلك ترد رداً على أمر بطرس الجهول: » اخرج من
سفينتي يا رب لأني رجل خاطئ
« فكان الرد: اتبعني أنت ولا تتركني. وفيها أعظم معاني الخلاص. فبدل
أن يخرج الخاطئ من لدن الله أو يغيب الله عن وجه الخاطئ، يأتي الخاطئ إلى حضرة
الله والله يُقبل على الخاطئ ويحتضنه!!

«من الآن»: ¢pÕ toà nàn

انتهى الزمان، لم يعد
لبطرس وقت ولا دقيقة واحدة لحياة الليل الطويل بلا صيد، فقد صدر الأمر، وبصدور أمر
الله لا يعود يُحسب زمان إذ تكون قد انفتحت الآنية الإلهية، زمن الله، الحياة
الأبدية، الخلود السعيد! لقد أخذ الفيش والتشبيه والبطاقة المختومة بالروح ليبرزها
لدى الملائكة فتنفتح الأبواب الحديدية المغلقة وتسقط السلاسل، ويكشفها أمام
الشيطان فيرتعب ويولِّي هارباً حيث يبدأ الصيَّاد في التعميد!! يا لمجد الرب. يصطادهم
أمواتاً ويُخرجهم من شبكته أحياءً.

«صيَّاد»: zwgrîn

كلمة من أصل zw» = الحياة، ومعناها ينتشلهم (يأخذهم) أحياء.
والعجيب والمبدع حقـًّا أن تكون الكلمة التي اختارها ق. لوقا لمعنى “يصطاد”
باليونانية تعني يمسكهم أحياء (وهي تختلف عن كلمة صيَّاد التي وردت في الموضع
المقابل من إنجيل ق. مرقس
¡lie‹j مر 17:1). فهنا مهارة الصياد الذي ينعش الميت في الحال ويصيِّره
حيًّا لأن صنارته فيها قوة الحياة والطُعم “كلمة” تحيي.

ويُلاحَظ أن ق. لوقا
هنا طبيب يسمع دقات القلب.

11:5 «وَلَمَّا
جَاءُوا بِالسَّفِينَتَيْنِ إِلَى الْبَرِّ تَرَكُوا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعُوهُ».

ولأول مرَّة نفهم أن
المسيح اختار وأكمل الدعوة والتعيين داخل البحر، دخلوه صيَّادين بلا صيد وخرجوا من
البحر يصطادون ويطرحون الشباك على الأرض.

«تركوا كل
شيء وتبعوه»:

بلغوا النهاية قبل
البداية. الفعل الأول:
» تركوا كل شيء «عمل قلبي
يتحتَّم أن يتم بالتمام قبل أن يبدأ الفعل الثاني بالخطوة الأُولى، لأن الداعي هو
بالحق والفعل الأول والآخر، البداية والنهاية، الألف
والياء. هذا هو المسيح حقـًّا، مَنْ يأتي إليه يكون قد ربح الأول والآخر البداية
والنهاية والألف والياء:
» مَنْ يُقبل إليَّ لا أخرجه خارجاً «(يو 37:6)، إذ يكون قد قبل الحياة
الأبدية وفاز بالخلود.

هنا الترك للأشياء
والأشياء كلها فانية، أمَّا القبول فليس فيه ما يتغيَّر أو يفنى أو يضمحل بل
الباقي كما هو وإلى الأبد. الأربعة تركوا ما يفنى وقبلوا ما لا يفنى: الحق
والحياة.

هنا شرح مختصر اختصاراً
شديداً. فالمسيح لم ينتهز فرصة نهاية ليلة صيد شؤم حزينة ليدعوهم فتكون الدعوة
عملية تبادلية أكثر ربحاً وفضلاً، ولكن فضَّل المسيح أن تكون الدعوة بعد صيد وفير
لم يكن مثله قط لتبلغ المفاضلة آخر حرجها وتوترها حتى لا يأتي الإنسان إلى المسيح
عن إفلاس وفقر بل عن ملء وقناعة.

 

(ب) بدء
الحوار مع الفريسيين

(12:511:6)

 

يقدِّم ق. لوقا تحت هذا
البند ست حوادث أثارتها أعمال متعدِّدة انتبه إليها الفريسيون ونقدوها. وهي مأخوذة عن ق. مرقس، ولكنها تجيء في إنجيل ق. لوقا
ذات ضغط بالنسبة لخدمة المسيح التي أثارت إحراجهم بسبب النعمة الظاهرة فيها والعمل
الإعجازي الذي أثار الفرح والسرور عند
الشعب.

والقديس لوقا يمسك
بالخيط الذي كان في يده مرَّة أخرى قبل أن يدخل في دعوة التلاميذ الأربعة (مر 40:16:3)،
ولكن بأسلوب ق. لوقا المتميِّز.

 

1 شفاء
الأبرص

(لو 12:516) (مــت 8: 14) (مر 40:145)

يبدأ هذا القسم بمعجزة
شفاء الأبرص متتبعاً رواية ق. مرقس، ولكن بالرغم من أن الرواية عند ق. لوقا تأخذ
شكل رواية القصة عند ق. مرقس، لكن يتخللها ملامح خاصة لأسلوب ق. لوقا. فالرواية
تكشف أثر النعمة الذي طغى على الناس بسبب المعجزة. وبهذا يضغط ق. لوقا على الاتجاه
المسيَّاني وتتميم المواعيد المنصوص عنها في النبوَّات التي من أخص أشكالها شفاء
البُرْص (22:7)، دون ذكر النبوَّات الخاصة بذلك.

كذلك في قصة شفاء
الأبرص، بينما هي إحدى علامات أعمال المسيَّا، إلاَّ أن المسيح هنا يأمر المريض
بعد أن شُفي أن يتمِّم فريضة الناموس من ذبيحة وخلافه، واعتبرها المسيح أنها شهادة
للكهنة بالعمل المسيَّاني. ولكنها هنا أيضاً بالنسبة للمريض حتمية، وإلاَّ لا
يستطيع أن يعيش المريض الأبرص حتى ولو كان قد شُفي، بدون هذه الشهادة أنه تطهَّر
من مرضه، وإلاَّ لن يقبل أحد أن يقترب منه ولا هو يقدر أن يقترب من أحد. ولكن بعد
عرضه على الكاهن، والكاهن يكشف عليه ويطمئن أن علامات البرص الحي لا أثر لها،
يعطيه الشهادة ليتعامل مع المجتمع كإنسانٍ عادي.

12:5 «وَكَانَ فِي
إِحْدَى الْمُدُنِ، فَإِذَا رَجُلٌ مَمْلُوءٌ بَرَصاً. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ
خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ وَطَلَبَ إِلَيْهِ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، إِنْ أَرَدْتَ
تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي».

«رجل مملوء
برصاً»:
pl»rhj lšpraj

وصف طبي حقيقي، فهنا
يصف ق. لوقا عوارض مرض البرص حينما تكون حالة المريض متقدِّمة، فهي فعلاً تملأ
الجسم كله. ومعروف أن الشفاء من البرص كان قديماً كالإقامة من الموت. فهو كان
مرضاً غير قابل للشفاء (لا 13و14). لذلك يعطينا ق. لوقا حالة انتباه في أول الآية:
» فإذا رجل مملوء برصاً « بمعنى أن دخوله على المسيح كان مفاجأة وكان باقتحام لأنه ممنوع
أصلاً من الاقتراب من الناس، فلمَّا واتته الفرصة أن يقترب مِمَّن هو قادر أن
يشفيه كانت فرصته الوحيدة. ولأن الاعتقاد السائد عند اليهود أن هذا المرض هو بسبب
الخطية، لذلك كانت في آمالهم أنه بمجيء المسيَّا سيرتفع هذا المرض، لذلك من أُولى
معجزات المسيَّا هو شفاء الأبرص. وهذا هو الذي اعتمد عليه المسيح في إعطاء
المعمدان صورة للحاصل الآن ليطمئن أن عصر المسيَّا قد أتى ولا داعي لينتظر آخر:
» فأجاب يسوع
وقال لهما: اذهبا وأخبرا يوحنا بما رأيتما وسمعتما: إن العمي يبصرون،
والعرج يمشون، والبُرص يطهَّرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين
يُبشَّرون، وطوبى لمَنْ لا يعثر فيَّ.
«(لو 7: 22و23)

«يا سيد إن
أردت تقدر أن تطهرني»:

هنا الأبرص يستخدم أقصى
الرقة والأدب في السؤال وهي نابعة من حالة الذلة التي يعيشها، ولكنه مزج هذه الرقة
بإعلان إيمانه أن المسيح قادر فعلاً أن يشفيه. لذلك كانت استجابة المسيح فورية على
إيمان واضح وقوي مثل هذا، علماً بأنه يدرك أن مرضه عديم الشفاء أصلاً.

13:5 «فَمَدَّ
يَدَهُ وَلَمَسَهُ قَائِلاً: أُرِيدُ فَاطْهُرْ. وَلِلْوَقْتِ ذَهَبَ عَنْهُ
الْبَرَصُ».

«فمدَّ يده
ولمسه»:

نفس الاصطلاح الذي
يُقدَّم لله في الصلاة “أن يمد يده ويشفي” (راجع أع 30:4). ولكن هنا بالنسبة لأن
المرض هو البرص والعدوى باللمس، فقد صمَّم الرب أن يلمسه بيده ليعطيه الأمان
النفسي، وفي نفس الوقت أن يسرِّب له قوة خاصة من عنده بالروح لإعطاء الصحة وتجديد
ما تهرَّأ من الأنسجة والأعضاء التي تشوَّهت.

«أريد
فاطهر»:

رداً على قول المريض » إن أردت «كصيغة
مهذَّبة حرَّكت قلب المسيح، فردَّ عليها بما كانت تشتهي نفسه. وجميل حقـًّا أن
إرادة المسيح تنفذ في الحال. وهكذا كَسَرَ المسيح الحاجز الدهري الذي كان يفصل
الأبرص عن المجتمع:
» فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً. «(يو 36:8)

وعين القديس لوقا على
الأبرص الذي شُفي لأن خطيته قد غُفرت له، فالأبرص أراد الشفاء أولاً ولكن ما ناله
أولاً في الحقيقة هو رفع الخطية، وهذا بحد ذاته يعطيه الشفاء والخلاص معاً وفوراً.
لأن شفاء الأبرص في أيام المسيَّا مربوط بالدرجة الأُولى بمغفرة الخطايا. وهذا
جعله ق. لوقا محور إنجيله.

14:5 «فَأَوْصَاهُ
أَنْ لاَ يَقُولَ لأَحَدٍ. بَلِ امْضِ وَأَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ، وَقَدِّمْ
عَنْ تَطْهِيرِكَ كَمَا أَمَرَ مُوسَى شَهَادَةً لَهُمْ».

لقد نبَّه المسيح هذا
الأبرص أن لا يقول لأحد لسببين: الأول أنه يلزم في البداية أن يشكر الله ويقدِّم ذبيحة،
ويأخذ من الكاهن الشهادة التي نصَّ عليها الناموس أنه قد صار طاهراً ولا مانع من
مخالطته للناس، والسبب الآخر أن المسيح يريد أن يتَّقي الازدحام عليه ومحاصرته.

15:5 «فَذَاعَ
الْخَبَرُ عَنْهُ أَكْثَرَ. فَاجْتَمَعَ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ لِكَيْ يَسْمَعُوا
وَيُشْفَوْا بِهِ مِنْ أَمْرَاضِهِمْ».

يبدو أن شفاء مرض البرص
يُحسب عند الشعب أمراً خطيراً لسببين: الأول أنه عديم الشفاء فالذي يُشفى منه كان
عند الربيين كمَنْ يقوم من الأموات. والأمر الثاني أنه علامة أخروية لدى جميع
الأنبياء أنه يصاحب زمن المسيَّا. لذلك حينما كان يسمع الشعب أن المسيح أبرأ أبرصَ
كان بمثابة هلموا تعالوا انظروا المسيَّا قد حضر، بالإضافة إلى بقية الأمراض التي
كانت تلح على الناس أن يقدِّموا أصحابها للمسيح طلباً للشفاء. وواضح هنا من قول ق.
لوقا أنه خرج الخبر عنه أكثر تلميحاً أنه خبر “المسيَّا قد حضر”، وهذا هو
السبب في خروج “الجموع” الكثيرة ليسمعوا أولاً، أو بمعنى آخر لينظروا
ويسمعوا المسيَّا، والسمع يخص التحقق من المسيَّا أكثر منه التعليم بحد ذاته، بل
وأسبق من الشفاء.

16:5 «وَأَمَّا
هُوَ فَكَانَ يَعْتَزِلُ فِي الْبَرَارِي وَيُصَلِّي».

الباب الوحيد الذي يلجأ
إليه المسيح حينما يزداد الضغط عليه هو الخروج سرًّا والالتجاء إلى البراري للصلاة
المنفردة. ولكن ق. مرقس قصرها على الخلوة فقط (مر 35:1). وفي رأينا أن المسيح ما
صلَّى إطلاقاً لحاجة أو عوز أو ضيق، وما كانت صلاته إلاَّ نوعاً من التأمل الهادئ
في رسالته وعلاقاته الحميمة مع الآب والصليب والموت المعد، والقيامة وتكميل الخلاص
والوعد. فصلاة المسيح جزء من عمله والصورة غير المنظورة من رسالته. فهو كان
بالنهار يعمل وبالليل يصلِّي. وكان هذا وذاك عمله الذي جاء ليكمِّله. أمَّا الجزء
الخاص بصراعه السرِّي مع الشيطان، وعلاقته البنوية مع الآب فظلَّت من أشد
خصوصياته، وإن كان قد ألقى عليها نوراً مبكِّراً وهو ابن اثنتي عشرة سنة:
» ينبغي أن
أكون في ما لأبي.
«(لو
49:2)

 

2
سلطان المسيح على مغفرة الخطايا

(لو
17:5-26)

(مت
9: 18)
(مر 2: 1-12)

استوفى القديس لوقا
موضوع سلطان المسيح في الأعمال العظيمة والنعمة الخارجة من فمه في الآية (22:4).
وأمَّا طبيعة هذا السلطان الفائق وعلى أي شيء، فظهرت في الآية (36:4). والآن يريد
القديس لوقا أن يمتد بنا إلى نوع من الأعمال يكشف لنا ناحية جديدة من سلطانه
الفائق إنما بصورة سرِّية غير منظورة ماهيتها، مع أن أثرها وفعلها منظور وهو
سلطانه على مغفرة الخطايا. ولكن أراد أن يعطينا درساً لاهوتياً ثميناً وعميقاً بآن
واحد يشرح لنا فيه خطورة الخطية وأثرها المدمِّر على جسد الإنسان، ومعنى غفرانها
الخلاصي وما ينشأ من صحة وعافية في التو واللحظة!!

وهكذا ينكشف لنا بكل وضوح
وبصورة عملية ماذا يعني خلاص الإنسان من الخطية، وما معنى وماذا يكون المخلِّص،
ولكن والأعجب والأهم بماذا تُغفر الخطايا ومَنْ يكون المخلِّص، ثم أخيراً ما علاقة
المخلِّص هذا وهو المسيَّا بلا مواربة بالإنسان؟ وكيف
اقتحم الإيمان حضرة الله؟ ذلك كله في قصة واحدة ذات ألوان زاهية وخطوات جريئة.

ولكن لكي يستوفي ق.
لوقا درسه اللاهوتي استغل وجود الفريسيين ورذالتهم في مؤاخذة المسيح في قول من
أقواله، وكأن القول الذي لم يعجبهم تعدَّى على اختصاصات الله. فمن نقدهم نفسه أثبت
لهم بالفعل أنه إنما يُؤتي اختصاصات الله عينها فيوقفهم حيارى ويوقفنا خيارى.
فالإيمان ناطق على جسد المشلول! فالمسألة تعدَّت الشفاء إلى ما هو أعلى وأخطر من
الشفاء.

17:5 «وَفِي
أَحَدِ الأَيَّامِ كَانَ يُعَلِّمُ، وَكَانَ فَرِّيسِيُّونَ وَمُعَلِّمُونَ
لِلنَّامُوسِ جَالِسِينَ وَهُمْ قَدْ أَتَوْا مِنْ كُلِّ قَرْيَةٍ مِنَ الْجَلِيلِ
وَالْيَهُودِيَّةِ وَأُورُشَلِيمَ. وَكَانَتْ قُوَّةُ الرَّبِّ لِشِفَائِهِمْ».

التركيز الذي أبداه ق.
لوقا في هذه القصة جاء على وجود الفريسيين ومعلمي الناموس. الفريسيون حفظة التقليد
الآبائي حتى إلى أدق الأمور، ومعلمو الناموس حفظة الناموس حتى اليوطا. وقد جمعوا
بعضهم بعضاً للمراجعة والمراقبة المشروعة من حقهم على كل مَنْ يعلِّم بين اليهود.
وهنا يذكر القديس لوقا أنهم جماعة ليست قليلة إذ جاءوا من قرى الجليل واليهودية
وأُورشليم، فلو اقترحنا أن يكون ثلاثة من كل إقليم لكانوا عشرة جلسوا مترصدين
الأقوال والأعمال. وعلى قدر تربصهم كانت بنفس هذا القدر القوة التي حلَّت ساعتها
للشفاء بنفس التحدِّي والكثرة.

18:5و19 «وَإِذَا
بِرِجَالٍ يَحْمِلُونَ عَلَى فِرَاشٍ إِنْسَاناً مَفْلُوجاً، وَكَانُوا
يَطْلُبُونَ أَنْ يَدْخُلُوا بِهِ وَيَضَعُوهُ أَمَامَهُ. وَلَمَّا لَمْ يَجِدُوا
مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُونَ بِهِ لِسَبَبِ الْجَمْعِ، صَعِدُوا عَلَى السَّطْحِ
وَدَلَّوْهُ مَعَ الْفِرَاشِ مِنْ بَيْنَ الأَجُرِّ إِلَى الْوَسْطِ قُدَّامَ
يَسُوعَ».

الأسطح للبيوت الواطئة
لها دائماً في وسط الدار فسحة كبيرة ذات سقف مفتوح “رَوْشَن”، يُغطَّى في الشتاء
ويُفتح في الصيف، هذا صعدوا إليه بالمفلوج ودلّوه منه بالحبال فنزل أمام المسيح.
وغير هذا الوصف لا يُقبل وإلاَّ يسقط التراب والطوب على الجالسين أسفله.

20:5 «فَلَمَّا
رَأَى إِيمَانَهُمْ قَالَ لَهُ: أَيُّهَا الإِنْسَانُ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ».

هنا ولأول مرَّة يكشف
ق. لوقا عن علاقة الإيمان بالشفاء؛ بل وإيمان أهل المريض الذين يعرضون بإيمانهم
حالة مريضهم الذي ذاق وأذاقهم مرارة العجز والهوان في هذا المرض اللعين الذي يطرح
الإنسان أرضاً، فما يعود يقدر أن يقوم وما يعود يقدر أن يخدم أعواز جسده.

وبعد ذلك ظهرت علاقة
الإيمان بالمرض عند ق. لوقا في (9:7، 25:8و48، 19:17، 42:18). ولكن اختيار المسيح
لواسطة شفاء المريض هنا جاء بكشف علاقة الخطية بالمرض:
» مغفورة لكَ
خطاياكَ
« كاشفاً أن شفاء
الإنسان جسدياً وروحياً إنما مصدره واحد وهو مغفرة الخطايا المعادل للخلاص والذي
يستوجبه هو الإيمان. كما يكشف أن النعمة هي وسيلة المسيح في الشفاء. أمَّا علاقة
مغفرة الخطايا بشفاء المرض فقد تكلَّم عنها داود بالروح قديماً:
» الذي يغفر
جميع ذنوبك. الذي يشفي كل أمراضك
«(مز 3:103). وها هي بركات الإنجيل على يدي المسيح تربط ربطاً بين
عمل النعمة بالشفاء والإيمان بقدرة الرب:

+ » توبوا
وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح
القدس.
«(أع38:2)

+ » فتوبوا
وارجعوا لتمحى خطاياكم، لكي تأتي أوقات الفرج من وجه الرب.
«(أع 19:3)

والعلماء
يسألون: هل المسيح يقصد خطية معينة هي التي تسببت في إصابة هذا الإنسان بالشلل؟
على هؤلاء نرد ونقول: لا، بل الإنسان كله أصابه الشلل المحزن في علاقته بالله
والملائكة والأرواح القديسة بسبب خطيته المعروفة وغير المعروفة. وها هو واضح أن
الإنسان الذي خُلق ليحيا أصلاً مع الله يستمتع بقربه وبحبه ويسأله فيسمع صوته،
ينصحه ويرشده ويسقيه من نهر الحياة الذي ينبع أمامه، وإذ به
يختار
الكبرياء والتعالي ويريد أن يكون كالله عارفاً الخير والشر، فسقط في الشر ولم يقم
وانتهى إلى مرقد الأرض، عانقها ولم يفك عناقها بعد. فجاء الحُرُّ الذي لم يصنع
خطية ولا وُجِدَ في فمه غش ومسك يده وأقامه على حساب آلامه وصليبه. ولمَّا سُدَّت
المداخل إلى المسيح دلُّوه من السقف ليسمع كل الفريسيين ومعهم الناموسيون
المتربصون أن النعمة والحياة عُرضت عليهم فاختاروا اللعنة والموت.

أمَّا المشلول فقام
واستقام وحمل النعمة في حضنه والنعمة حملت عنه ثقل سريره بل ثقل ضميره، فذهب إلى
بيته مُخلَّصاً مبرَّراً قبل أن يكون صحيحاً معافى.

21:5 «فَابْتَدَأَ
الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ يُفَكِّرُونَ قَائِلِينَ: مَنْ هذَا الَّذِي
يَتَكَلَّمُ بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلاَّ اللهُ
وَحْدَهُ؟»

نعلم من إنجيل ق. مرقس
أنهم لم يتكلَّموا بل فكَّروا بقلوبهم، والمسيح يقرأ أفكارهم بأقوى مما يسمع
كلامهم، لأنه حينما يقرأ الأفكار يقرأ معها ما استتر من المعاني وما قبح. الأمر
الذي بيَّنه ق. لوقا بعد ذلك بقوله إنه شعر بأفكارهم، وكانت أفكارهم صحيحة
مائة بالمائة، فالله وحده هو الذي يغفر الخطايا، ولكن هذا الجالس أمامهم هو هو ابن
الله وهو والآب واحد، فما يغفره الآب يغفره الابن ليتمجَّد الآب والابن. وقولهم
صحيح لأن الذي نُخطئ إليه هو وحده الذي يغفر الخطية، ونحن إن أخطأنا نكون قد
أخطأنا لله وحده:
» إليك وحدك أخطأت، والشر قدَّام عينيك صنعت «(مز 4:51). لذلك اعتبروه مجدِّفاً أو صاحب تجاديف بالجمع، لأنه
اغتصب حق الله لنفسه وهو إنسان:
» من هذا الذي يتكلَّم
بتجاديف؟
«» كان منظره كذا مفسداً أكثر من الرجل وصورته أكثر (فساداً) من
بني آدم
«(إش 14:52)، » لا صورة له
ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه. محتقر ومخذول من الناس رجل أوجاع ومختبر
الحزن … محتقر فلم نعتد به.
«(إش 53: 2و3)

رفضوني أنا الحبيب مثل
ميت مرذول!!

22:5و23 «فَشَعَرَ
يَسُوعُ بِأَفْكَارِهِمْ، وَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: مَاذَا تُفَكِّرُونَ فِي
قُلُوبِكُمْ؟ أَيُّمَا أَيْسَرُ: أَنْ يُقَالَ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ
أَنْ يُقَالَ قُمْ وَامْشِ؟»

إنها موهبة في متناول
الإنسان المفتوح العقل، ويسميها العلماء تليباثي
Telepathy
أي تبادل الأفكار من بُعد. ولكن هنا وعند المسيح واضح أنها أكثر من موهبة لأكثر من
موهوب. فبالرغم من أن المسيح هو الإنسان الكامل، والكامل في كل مواهب وصفات
الإنسان الكامل، ولكنه ابن الله بآن واحد، فهو يدرك ما في قلب الله كما يدرك ما في
قلب الإنسان. وهنا تتصاغر المواهب كلها فلا تعود تُذكر.

وعاد يسألهم: » أيما أيسر
أن يُقال: مغفورة لك خطاياك، أم أن يُقال قم وامش؟
«والرد
الوحيد أن لا هذه ولا تلك في مقدور الإنسان، أي إنسان مهما كان! ولكن قالها المسيح
تماشياً مع غبائهم. فإذا فرضنا فرضاً يتمشى مع غبائهم أن إنساناً صنع الواحدة
يتحتَّم أن يصنع الثانية، لأن الحتمية هنا حتمية المستحيل، فالذي يعمل المستحيل
هنا يعمله هناك. إذن فالذي يقول قُم وامش حتماً هو الذي يقول: مغفورة لك خطاياك.
وبذلك مهَّد للمعجزة بإيمان حتمي يفرض نفسه على هؤلاء الهازئين المستهزئين. فالله
وحده الذي يغفر الخطايا وهو هو وحده الذي يقدر أن يقول للمشلول قم واحمل سريرك
وامشِ واذهب إلى بيتك. وهكذا قال المسيح للمشلول، كاشفاً ضمناً مَنْ يكون هو!

24:5و25 «وَلكِنْ
لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لاِبْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَاناً عَلَى الأَرْضِ أَنْ
يَغْفِرَ الْخَطَايَا، قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: لَكَ أَقُولُ قُمْ وَاحْمِلْ
فِرَاشَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ. فَفِي الْحَالِ قَامَ أَمَامَهُمْ، وَحَمَلَ
مَا كَانَ مُضْطَجِعاً عَلَيْهِ، وَمَضَى إِلَى بَيْتِهِ وَهُوَ يُمَجِّدُ اللهَ».

لقد أوقع المسيح الذين
مسكوا عليه خطية تجديف في خطية التجديف عينها حينما قالوا عنه إنه مجرَّد إنسان
وإنه يجدِّف على الله وهو الله! هنا أبرز المسيح سلطانه الإلهي على مغفرة الخطايا
مبرهناً برهاناً عملياً لاهوتياً لا يقبل النقد ولا النقض، إذ قَرَنَ سلطان مغفرة
الخطايا الذي هو عينه سلطان الخلاص الذي جاء ليكمِّله على الأرض، بسلطان الشفاء
الفوري لإنسان مشلول محني ظهره وهو على فراشه، فحوَّله لإنسان يحني ظهره ليحمل ما
هو قَدْر ثقله، فهو لم يُشْفَ وحسب بل نال قوة الأصحاء الذين في عنفوان صحتهم
ليمشي حاملاً سريره حتى إلى بيته.

وهكذا استطاع المسيح أن
يجعل سلطانه على مغفرة الخطايا بقدر السهولة التي نطق بها نطق الشفاء:
» لك أقول قم
واحمل فراشك واذهب إلى بيتك
« وقد سبق المسيح وألمح أن مغفرة الخطايا بالنطق بالكلمة الواحدة هي
أسهل على ذهن الإنسان من أن يقول لمريض مشلول قم واحمل سريرك واذهب إلى بيتك.

وبهذا يكون ق. لوقا قد
رفع جميع معجزات الشفاء إلى مصدرها الحقيقي وهو مغفرة الخطايا، الذي هو الخلاص في
مضمونه اللاهوتي الكامل. ونحن لا يمكن أن ننسى الكلمة الهادية التي نطق بها الملاك
معرِّفاً يوسف بمن هذا المولود من الروح القدس والعذراء القديسة مريم!
» وتدعو اسمه
يسوع لأنه يخلِّص شعبه من خطاياهم
«(مت 21:1). هذا هو يسوع المسيح أولاً وقبل كل شيء. ونفس الشيء
يقوله ق. لوقا أيضاً على فم الملائكة الذين بشَّروا الرعاة بالخبر المفرح:
» إنه وُلد
لكم اليوم في مدينة داود مخلِّص هو المسيح الرب.
«(لو 11:2)

«وهو يمجِّد
الله»:

مضى المشلول إلى بيته
حاملاً سريره يلهج بلسانه وقلبه بالمجد لله، وشُلَّ لسان الفريسيين والناموسيين،
فما استطاعوا أن يروا في هذا الذي جرى أمام أعينهم مجداً لله.

«ابن
الإنسان»:

لقد نسب المسيح عملية
المغفرة للخطية وعملية الشفاء معاً “لابن الإنسان”، مشيراً إلى نفسه في وضعه
البشري الفائق الذي احتواه دانيال النبي في رؤياه، والذي في عرف الفريسيين
والربيين أنه المسيَّا. والمسيح هنا إذ نسب لنفسه كابن الإنسان مغفرة الخطايا،
فهذه أول مرَّة في التاريخ إذ لم يحدث قط في تاريخ ما قبل المسيح أن استُخدم هذا
الاسم في مغفرة الخطايا([1]).
والمسيح هنا يحبس هذا اللقب على نفسه بصورة محكمة لا يمكن أن تذهب إلى أي تأويل
آخر، فالمسيح يشير إلى نفسه وهو قائم في وسطهم وليس إلى شخصية اسخاتولوجية قادمة،
ويشير إلى عمل المغفرة والشفاء معاً بسلطانه الذي مارسه في اللحظة والتو أمام
أعينهم. ولكن أن يقرر المسيح وهو إنسان أمام أعينهم أنه وهو
» ابن الإنسان «يعمل عمل
الله، إنْ بمغفرة الخطايا أو الشفاء اللحظي لمشلول، يكون قد أشار إشارة واضحة أن
سلطان مغفرة الخطايا قد صار للإنسان فيه نصيب بصورة ما مختبئة وراء ابن الإنسان
الذي يعمل كل أعمال الله.

فعن
طريق ابن الإنسان هذا نال التلاميذ أي الكنيسة هذا السلطان عينه:
» مَنْ غفرتم خطاياه تغفر له
ومَنْ أمسكتم خطاياه أُمسكت
«(يو 23:20)، » الذي يسمع منكم يسمع
مني.
«(لو 16:10)

فما استكثره الفريسيون
والناموسيون على المسيح أن يغفر الخطايا لم يستكثره المسيح على تلاميذه أن
يكمِّلوه بسلطانه واسمه:
» الحق الحق أقول لكم:
مَنْ يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضاً ويعمل أعظم منها.
«(يو 12:14)

26:5 «فَأَخَذَتِ
الْجَمِيعَ حَيْرَةٌ وَمَجَدُوا اللهَ، وَامْتَلأُوا خَوْفاً قَائِلِينَ: إِنَّنَا
قَدْ رَأَيْنَا الْيَوْمَ عَجَائِبَ!»

«حيرة»: œkstasij

هنا كلمة الـ» حيرة «لا تعطي
المعنى الصحيح الذي تقصده الكلمة اليونانية، إذ أن هذه تأتي بمعنى “الدهشة الفائقة
التي تذهب بالعقل”، ويلازمها دائماً إما فرح مفرط أو خوف زائد إزاء إدراك شيء يعجز
العقل عن فهمه وتصوُّره، وهي المقابل الموازي للمعجزة. فالمعجزة هي التي يعجز
العقل عن إدراكها، والمعجزة بالمقابل عند مَنْ يؤمن يلازمها تمجيدٌ وعند غير
المؤمن تجديفٌ.

 

3
انعطاف المسيح نحو الخطاة بصورة حبيَّة

(لو 27:532) (مت 9:913) (مر 13:217)

حينما أعطى ق. لوقا قصة
المشلول لاستعلان قوة مغفرة الخطايا، القوة الإلهية التي لله وحده وقد مارسها ابن
الإنسان لاستعلان شخصيته أمام الكتبة والفريسيين، كان قد رتَّب أن يأتي بعدها بهذه
القصة التي يظهر فيها المسيح محباً محيياً الخطاة والعشَّارين، مانحاً إياهم غفران
خطاياهم في شركته الرمزية معهم في المائدة الواحدة علنياً. كذلك بدعوة المسيح أحد
العشَّارين ليكون له تلميذاً، فإنه يوضِّح نوعية الذين يختارهم: فبطرس يرد على
محبة المسيح ودعوته بأن
» اخرج من سفينتي يا رب
لأني رجل خاطئ
« ثم قصة لاوي
وغالباً هو متى ومعروف أنه عشَّار وأن فئة العشَّارين محسوبون أنهم
خطاة على وجه العموم، إذ يطففون في المكيال ويتعاملون بعملة العدو المحتل للبلاد.

ثم يجمع المسيح هذه
الخيوط معاً ليعبِّر عن معيار إرساليته للخلاص بقوله إن الطبيب لا يُستدعى إلاَّ
للمرضى، هكذا أتى المسيح ليطلب الخطاة ويطلبه الخطاة فيُلبِّي دعوتهم. أمَّا
الأصحاء فلا يحتاجون إلى طبيب.

وقد لمَّح ق. لوقا في
قصة لاوي لمَّا دُعي أنه ترك كل شيء ليتبع المسيح، وأن الوليمة الكبيرة التي صنعها
للمسيح في بيته كانت دعوة مغطَّاة للخطاة ليأتوا ويتوبوا على يد المسيح، أو على
الوجه الأصح لينالوا هبة التوبة حسب تعبير ق. بطرس الرسول الذي جاء بيد ق.
لوقا:
» هذا رفَّعه الله بيمينه رئيساً ومخلِّصاً، ليعطي إسرائيل
التوبة وغفران الخطايا.
«(أع 31:5)

وهنا لا يغيب عن بالنا
لاهوت ق. لوقا الخلاصي، فهو يجمع بين هبة التوبة ومغفرة الخطايا والخلاص معاً.

27:5 «وَبَعْدَ
هذَا خَرَجَ فَنَظَرَ عَشَّاراً اسْمُهُ لاَوِي جَالِساً عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ،
فَقَالَ لَهُ اتْبَعْنِي».

الظريف هنا بخصوص
الاشتباه الواقع بين اسم لاوي واسم متى في هذه القصة، أن ق. متى في إنجيله هو
الوحيد الذي قد حَسَمَ هذا الالتباس بقوله: إن هذا العشار اسمه متى.

«جالساً عند
مكان الجباية»:

“العشار” = telènhj و“مكان الجباية” = telènion. وقد كانت الجباية أي الضرائب لها مركز معيَّن للتجار والفلاحين، وربما كان متى أحد الرؤساء المسئولين عن
الضرائب التي تُجمع هناك.

«اتبعني»: ¢koloÚqei

نفهم من سياق الكلام في
(11:5) أن المسيح دعا بنفس هذه الدعوة كلاًّ من بطرس ومَنْ معه. وقد اختص المسيح
بدعوة الاتباع بعض التلاميذ دون الآخرين.

28:5 «فَتَرَكَ
كُلَّ شَيْءٍ وَقَامَ وَتَبِعَهُ».

تنفيذ
متى أو لاوي للدعوة الإلهية هنا لخَّصه ق. لوقا بكلمة “فترك” كل شيء وقام وتبعه،
ولكن

يقيناً إنها اتخذت إجراءات كثيرة لكي يترك موظفٌ في ضرائب الدولة عمله واختصاصاته المتسعة. وهي نفس النغمة التي سمعناها من ق. بطرس:
» ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك «(لو 28:18).
ولكن ليس كل مَنْ ترك ظاهراً يكون قد ترك، فيهوذا ترك كل شيء وتبع المسيح وكان
يسرق الصندوق أولاً بأول. ويا ليته ما ترك وما تبع. إذ يرى الرب أنه كان خيراً له
لو لم يولد! وقد ردَّ المسيح على ق. بطرس:
» فقال لهم:
الحق أقول لكم: إن ليس أحدٌ ترك بيتاً أو والدين أو إخوة أو امرأة أو أولاداً من
أجل ملكوت الله، إلاَّ ويأخذ في هذا الزمان أضعافاً كثيرة، وفي الدهر الآتي الحياة
الأبدية
«(لو 18: 29و30).
وبعدها يروي ق. لوقا مباشرة تلميح المسيح عن التلميذ الذي سيسلِّمه!

29:5 «وَصَنَعَ
لَهُ لاَوِي ضِيَافَةً كَبِيرَةً فِي بَيْتِهِ. وَالَّذِينَ كَانُوا مُتَّكِئِينَ
مَعَهُمْ كَانُوا جَمْعاً كَثِيراً مِنْ عَشَّارِينَ وَآخَرِينَ».

منظر بديع لا تصدِّقه
عين يهودي: معلِّم رابِّي جالس وسط خطاة منبوذين من المجتمع، عددٌ كبيرٌ ملفتٌ
للنظر، والداعي شيخ عشَّارين مرموق ذو بيت كبير يتَّسع لعمل ضيافة لجمع كثير.
والتركيز هنا على ما لم يركِّز عليه ق. مرقس في قصته عن هذا اللاوي أنه هو الداعي
للجمع الكثير في بيته، لأن المسيح لم يكن له بيت يدعو فيه أحداً؛ مما جعل القارئ
يظن أن البيت بيت المسيح وأن العشَّارين الآخرين كانوا يتبعون:
» فقال له
اتبعني: فقام وتبعه. وفيما هو متكئ في بيته كان كثيرون من العشَّارين مع يسوع
وتلاميذه لأنهم كانوا كثيرين وتبعوه
«(مر 2: 14و15). فهنا ضمير الغائب في قوله: » وفيما هو
متكئ في بيته
«قد يظن القارئ أنه بيت المسيح، كذلك في بقية القصة عند ق.
مرقس لا يظهر فيها هذا العشَّار لاوي أنه صاحب الوليمة ولا هو الداعي للمسيح
والتلاميذ وجمع العشَّارين والخطاة. هذا أوضحه ق. لوقا من مصادره الأخرى فظهرت
القصة ظهوراً باهراً. لم يحتمل الكتبة والفريسيون أن يكون مركز الخطاة عند المسيح
بهذا القدر من الحب والألفة والمودة.

أمَّا كلمة: “وآخرين”
التي استبدل بها ق. لوقا كلمة و“الخطاة” عند ق. مرقس فهي نوع من اللياقة، ولو أنها
معروفة ضمناً أنهم قد يكونون خطاة لأنها وليمة عشَّار يترفَّع الأبرار عند أنفسهم
من حضورها. ولهذا اعتبر الكتبة والفريسيون أن كل هؤلاء خطاة بحكم الطقس والعُرف
اليهودي، لأنهم مخالطون للأُمم ويتعاملون في أموال غير طاهرة.

وهكذا كانت فرصة نادرة
للمسيح وللقديس لوقا بآن واحد أن يتسجَّل في الإنجيل هذا المشهد الإلهي الذي ينبغي
أن يُكتب فوقه:
» هكذا أحب الله “العالم” حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل
مَنْ يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية
«(يو 16:3). هذا المشهد البديع الذي تصدَّره طبيب البشرية الذي جاء
ليحمل كافة أمراضها في جسده ويهبها الصحة الروحية والحياة الأبدية عوض الخطية
والموت.

30:5 «فَتَذَمَّرَ
كَتَبَتُهُمْ وَالْفَرِّيسِيُّونَ عَلَى تَلاَمِيذِهِ قَائِلِينَ: لِمَاذَا
تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ مَعَ عَشَّارِينَ وَخُطَاةٍ؟»

«فتذمَّر»: ™gÒgguzon

كما تذمَّر شعب إسرائيل
على الله في البرية، وقد اعتاد الكتبة والفريسيون هذا التذمُّر كما نقرأه في (لو 2:15):
» فتذمَّر الفريسيون والكتبة قائلين: هذا يقبل خطاة ويأكل معهم « وهكذا يظهر من الآية التي نحن بصددها أنه ولو أن التذمُّر في
ظاهره ضد سلوك التلاميذ ولكن الاعتراض والمعارضة موجَّهة للمسيح.

ولنا الآن ونحن نكشف
الحقيقة الواضحة أن المسيح كان في سلوكه هكذا مع الخطاة بكل فئاتهم ووظائفهم، كان
يطلب خلاصهم الذي كان قد دفع ثمنه مسبقاً في مشورة الله الأزلية: دمه وحياته فدية
وخلاصاً. هكذا يظهر أمامنا تذمُّر هؤلاء الكتبة والفريسيين كم كان جهلاً وحُمْقاً
وغباوة. لذلك نغبط موسى نبي العبور الذي لاقى منهم الأمرَّين حينما وضع تقريره
الأخير عنهم هكذا :
» إنهم أُمة عديمة الرأي ولا بصيرة فيهم. لو عقلوا
لفطنوا بهذه وتأملوا آخرتهم. كيف يطرد واحد ألفاً ويهزم اثنان ربوة (10000) لولا
أن صخرهم باعهم والرب سلَّمهم … من جفنة (كرمة) سدوم جفنتهم ومن كروم عمورة،
عنبهم عنب سم ولهم عناقيد مرارة. خمرهم حمة الثعابين وسم الأصلال القاتل.
«(تث 32: 2833)

31:5 «فَأَجَابَ
يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ
الْمَرْضَى».

«الأصحاء»: Øgia…nontej

الكلمة من أصل “الصحة”
(هيجيين) المعروفة في اللغة الطبية. وأصلها في الأرامية قريب من اللغة العربية
beriã بريء من البُرْء أي الشفاء التي تفيد الصحة أو العافية، وعكسها
السقيم أو المريض
kakîj œcontej. فهنا حوَّل ق. لوقا على لسان المسيح الخطاة والمخلَّصين إلى
مرضى وأصحاء. طبعاً يستخدم هنا ق. لوقا حذقه الطبي لوضع المقارنة الصحيحة بين
الخطاة والمخلَّصين في نظر الله. وهذا إبداع ما بعده إبداع، فالخاطئ لا يزيد عن
كونه مريضاً في عين خالقه الذي يحمل همَّه ويسعى لشفائه. وما المسيح بالنسبة
للخاطئ إلاَّ الله في هيئة طبيب جاء ليعيد إليه صحته وعافيته التي خلقها له وخلقه
لها. نظرة حبيَّة فيها حنان ورأفة وبآن واحد فيها تحديد بديع لمعنى الخطية. فهي لا
تزيد في عين الله عن المرض في أعيننا، فهي بذلك عنصر غريب عن طبيعتنا الأصلية،
غرسه فينا عدو شرير في غفلة منَّا وإهمال.

ويضع القديس لوقا في
إنجيله قصة المرأة المنحنية دليلاً ما بعده دليل على عمل الشيطان العدو في
الإنسان. فبعد أن شفاها المسيح احتجَّ عليه رئيس المجمع لأنه صنع معجزة شفاء في
السبت، فرد عليه المسيح:
» يا مرائي ألا يحل كل
واحد منكم في السبت ثوره أو حماره من المذود ويمضي به ويسقيه. وهذه وهي ابنة
إبراهيم قد ربطها الشيطان ثماني عشرة سنة أما كان ينبغي أن تُحلَّ من هذا الرباط
في يوم السبت. وإذ قال هذا أخجل جميع الذين كانوا يعاندونه، وفَرِحَ كل الجمع
بجميع الأعمال المجيدة الكائنة منه.
«(لو 13: 1517)

ولنا هنا عودة على منهج
ق. لوقا في لاهوت الخلاص! فالقديس لوقا يراه من وجهة النظر الطبية الخالصة شفاءً
إلهياً بيد الطبيب السماوي لجميع الأسقام التي غزت جسده ونفسه وربطت روحه فيه
وأحنتها حتى إلى التراب، فجاء المسيح يخاطب النفس المنحنية فيه:
» وقال لها يا
امرأة إنك محلولة من ضعفك، ووضع عليها يديه ففي الحال استقامت ومجَّدت الله
«(لو 13: 12و13). وكلمة الضعف هنا ¢sqene…aj هي بعينها عدم الصحة. وهنا نرى أن ق. لوقا لا يزال يرى في المرض
ضعفاً والضعف عدم صحة، والصحة بيد الطبيب الذي هو وحده صاحب ملء الصحة في مفهومها
المطلق، إذ لم يصنع خطية البتة ولا وجد في فمه غش، فهو البار الوحيد القادر أن
يبرِّر كثيرين ببرِّه. فنازفة الدم حينما لمسته سرًّا فعوفيت في الحال كان تعليقه
مستيكياً للغاية إذ قال:
» إن قوة قد خرجت مني «(لو 46:8)، فهو من صحته وحياته يمنح
المؤمنين به صحة وحياة. وما الخلاص الكلي الذي تمَّ على الصليب إلاَّ عطاء صحته
كلها وحياته بملئها لجميع خطاة الأرض لينهلوا منها، بل لينهبوا ويختطفوا كلٌّ بقدر
دلو إيمانه ورجائه، وبعدها أدركنا أن صحته وحياته هي بعينها صحة الله وحياته وهي
باقية بملئها فيه بقاء الأبد.

32:5 «لَمْ
آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوبَةِ».

الجزء الأول من الإجابة
ركَّزه المسيح على أساس عمل الطبيب الذي يختص بالمرضى دون الأصحاء. أمَّا الجزء
الثاني من الإجابة فهو توضيح لعمله هو ليكشف به معنى المريض ومعنى الأصحاء. فجعل
عمل الطبيب عمله هو كابن الله. وعرَّف المرضى بأنهم بالنسبة لله وله هم الخطاة،
أمَّا الأصحاء فهم الأبرار عند أنفسهم الذين لا يحتاجون إليه في شيء باعتبارهم
الأصحاء شكلاً، وسرطان الموت يسري فيهم وهم لا يشعرون.

هنا الأبرار يقصد بهم
المسيح الفريسيين أنفسهم ولا يستزيد من صحة هذا الزعم من عدمه. لأنه لا داعي ولا
قيمة لأن تقول لمَنْ هو بار في عيني نفسه أنت لست باراً، فهذا في عرف تعليم المسيح
كإلقاء الدرر للخنازير، تدوسها وتعود فتمزِّق ناثرها.

والمسيح هنا جعل تركيز
القول يقع مباشرة لدعوة الخطاة إلى التوبة. وكلام المسيح هنا لا يُفهم حرفياً، فهو
يحوي أبعاداً مستيكية عميقة ذات دلالات لاهوتية وليتورجية عميقة.

فقوله “لأدعو” kalšsai تفيد هنا ليس مجرَّد
دعوة كرازة بالصوت، بل دعوة إلى وليمة غذاء كالتي صنعها له لاوي ولكل العشَّارين
معه وبقية الخطاة. وهذه تُحسب دعوة من باطن دعوة، فالدعوة الأصلية هي التي قام بها
المسيح لمَّا قال له اتبعني!! فلم يحتمل لاوي العشَّار أن يقبل الدعوة من غير أن
يقدِّم هو الشكر، فكانت دعوته لوليمة الشكر الكبرى التي جمع فيها الخطاة للمسيح،
وكأن المسيح هو الداعي لهؤلاء جميعاً في شخص لاوي الذي قبل الدعوة بفرح. وهكذا قبل
المسيح الدعوة وشارك فيها باعتباره أنه هو الداعي لوليمة محبته وهي تحمل سمات
الفصح بأجلى معانيها. فكان المسيح في وسط إفخارستية هؤلاء العشَّارين والخطاة
الحمل المذبوح بصورته السرِّية العجيبة التي تحتاج إلى عين ترى وأذن تسمع من بُعد!

وباختصار بليغ يكون قول
المسيح هكذا: إن فصحي للخطاة وذبيحة حبي هي للذين يلبُّون دعوتي وجسدي ودمي لا
يأكل منه إلاَّ التائبون!!

فلو عدنا قليلاً إلى
القول الأول:
» لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى « واعتبرنا أن مفهوم الدعوة هنا يخبِّئ المعنى المستيكي إلى دعوة
إفخارستية الفصح العتيدة، نجد أن تلاحم حقيقة المرض بالخطاة والأصحاء بالأبرار
الكذبة، ثم دعوة الخطاة وحدهم إلى وليمة محبته الفصحية، يُنشئ المعنى الأعمق
لمفهوم أكل الجسد وشرب الدم بالنسبة للخطاة الذين هم المرضى المدعوين على مائدة
حبه. إن الجسد والدم هو [ترياق عدم الموت]([2]) الذي وصفه
الآباء الأماجد الأولون، بمعنى أنه دواء الشفاء من عضة الحية لقبول صحة الخلاص من
بعد مرض الموت:
» من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه … فمَنْ يأكلني
فهو يحيا بي … هذا هو الخبز النازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت.
«(يو 6: 56و57و50)

هذا هو لاهوت ق. لوقا
الخلاصي الذي جعل مفهوم الخلاص الكلي لا يُستعلن إلاَّ على مائدة حية، حيث يتناوله
المرضى المحبّون جسداً ودماً ويسبِّحون.

نعم المسيح يأكل مع
العشَّارين والخطاة كطبيب يقود مرضاه إلى التوبة الحقيقية والخلاص. وهكذا سلَّم
الكنيسة صداقة الخطاة، كل الخطاة تُشركهم في وليمة الرب كتائبين يطلبون الصحة
والحياة. وهكذا ضمن المسيح قيام دعوة الخطاة إلى التوبة لوليمة حبه:
» فإنكم كلما
أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء.
«(1كو 26:11)

 

4
نظرة المسيح إلى الصوم

(33:539) (مت 14:917) (مر 18:222)

تتحدَّد نظرة المسيح
إلى الصوم بالآيات التي جاء ذكر الصوم فيها:

( أ )
الاتجاه الأول في الصوم عند المسيح:

+ » ومتى صمتم
فلا تكونوا عابسين كالمُرائين، فإنهم يُغيِّرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين.
الحق أقول لكم: إنهم قد استوفوا أجرهم. وأمَّا أنت فمتى صُمتَ فادهُن رأسك واغسل
وجهك، لكي لا تظهر للناس صائماً، بل لأبيكَ الذي في الخفاءِ. فأبوك الذي
يَرى في الخفاءِ يُجازيكَ علانية.
«(مت 6: 1618)

وهنا يضع المسيح أول
مبدأ مسيحي للصوم وهو أن:

1 الصوم
عمل يختص بالله وليس بالناس إطلاقاً.

2 الصوم
عمل داخلي للإنسان يمارسه سرًّا في الخفاء محترصاً أن
لا يظهر للآخرين وإلاَّ فقد قيمته الروحية كعمل روحي وليس كعمل جسدي.

3 ليس
الصوم في أي صورة له سواء كان فردياً أو جماعياً عملاً
لمجاراة الناس أو الكنيسة، بل هو عمل شخصي خاص للغاية يمارسه الإنسان بدوافع ذاتية
داخلية روحية.

4 الصوم
لا ينبغي أن يكون منظوراً من الناس كشرط لكي يُنظر من الله.

فهو في أساسه عمل مقدَّم
لله وحده،

وكلام المسيح في هذا يوضِّح أن الله وعد على فم المسيح أن ينظر لصوم الإنسان كعمل
ذبائحي يقدِّم فيه الإنسان جسده ونفسه وروحه في حالة صوم وتعفُّف وانقطاع عن طعام
الجسد وحاجة النفس من المتعة أو اللذة أو المسرَّة، كصوم للنفس حقيقي عن الدنيا
وكل ملذاتها بكل أنواعها. أمَّا الروح الصائمة فهي المرتفعة بالصلاة كحالة التصاق
بالرب صوناً كاملاً من أي مجاذبات من الشيطان. فالجسد يصوم عن الطعام والشراب،
والنفس عن الملذَّات والشهوات، والروح عن مجاذبات الشيطان بالصلاة الدائمة.

وهكذا يُحتسب الصوم أنه
حالة انقطاع عن الاتصال بالعالم بالجسد والنفس والروح للالتصاق بالله؛ أي حالة
تخصُّص لله أو حالة تخصيص الجسد والنفس والروح لله، وهذا هو عين ما يسمَّى
بالتقديس. فالتقديس هو حالة تخصُّص لله.

ومن هنا نفهم جيداً
لماذا ينظر الله إلى الإنسان الصائم وينظر إلى صومه الذي يقدِّمه كذبيحة كاملة
بالجسد والنفس والروح، لأنه حالة التصاق تام بالرب. فالجسد مستسلم لعمل الله.
والنفس منفتحة لإيحاء النعمة والروح متصلة بالروح.

فعلى قدر الفقدان الذي
يفقده الإنسان الصائم في الصوم من كافة النواحي الجسدية والنفسية، يستكمله الله
للإنسان روحياً حفظاً ورعاية ومعونة وعزاءً مع مسرة روحية فائقة. إذن فهو ليس
فقداناً في شيء.

بهذا نفهم أن الصوم هو
اختبار هام وخطير في حياة الإنسان، إذ يُحسب نقلة إرادية من حالة جسدية متفقة مع
العالم إلى حالة روحية متفقة مع الله والروح، فيها يتم للإنسان أنواع كثيرة من
تكميل حياته روحياً ونموٌّ في معرفة الله والالتصاق به وبناء لحياته الروحية.

ولذلك لا نجد الصوم يقف
وحده كعمل روحي مقدَّم إلى الله إذ يتحتَّم أن ترافقه الصلاة. فهي الوصلة الحية
الروحية التي تصل الجسد والنفس بالله، لأن الصلاة هي عمل الروح في الصوم الجسدي.
وفي نفس الوقت أصبح من الواضح جلياً أمام القارئ أن الصلاة بدون صوم تفقد كثيراً
من مقوماتها. فالصلاة والصوم جناحان تطير بهما النفس نحو الله، فإذا فقدت الصلاة
الصوم تكون وكأنها تطير بجناح واحد.

لذلك، فالكنيسة
المرتشدة بالروح القدس وضعت حتمية الصوم لإقامة الصلاة. فما من صلاة تقيمها
الكنيسة إلاَّ ويأتي الشعب صائماً. وإن شذَّ في ذلك صلاة عشية السبت صابح الأحد
فهو يكشف عن خطأ وقع فيه الطقس، إذ كان في الأصل وحسب المخطوطات الرسمية:

[في يوم السبت يخرجون
من قلاليهم وقت العشاء، ويأتون إلى المجمع وهم صائمون، لأنهم كانوا يتقرَّبون (أي
يتناولون من الأسرار المقدَّسة) عشية السبت، طوال السنة صيفاً وشتاءً … وبعد ما
يتقرَّبون يدخلون المائدة. وبعد الأكل يقفون للصلاة ليلة الأحد ساهرين بلا نوم من
العشية إلى باكر في خدمة المزامير والتسابيح وقراءة الكتب وتفاسيرها وما يسأله
الإخوة ويرتبون بينهم المواعظ.] (عن القديس مار إسحق الميمر الأول من الجزء الأول)

وواضح للقارئ الباحث أن
القداس يبدأ بعد المساء يوم السبت، حيث تدخل الكنيسة في يوم جديد حسب التقليد
القديم (في العهد القديم). وكانت الكنيسة الأولى تصلِّي بقداس الرب قبل أن تسمع عن القداس الباسيلي أو غيره. فلمَّا أُدخلت هذه
القداديس الجديدة للقديس باسيليوس
وغريغوريوس
وكيرلس (المرقسي أصلاً) وغيره، احتفظت الكنيسة المرتشدة بالروح القدس “بقداس

الرب” وجعلته هو المعروف “بتقديم الحمل” وهو
قداس كامل تماماً (راجع كتاب: “الإفخارستيا
والقداس” للمؤلِّف
الطبعة الأُولى 1977 صفحة 555 و613-621). ثم لمَّا أخذت الكنيسة في
العالم عن طقس الشيوخ في البرية اضطرت تمشياً مع حالة الشعب بنسائه
وأولاده – إلى جعل عشية السبت صابح الأحد بدون صيام. فيأتي الشعب بدون صوم وهذا
خروج عن الطقس القديم الذي يحتِّم عدم قيام صلاة بدون صوم، وبعد العشية يذهبون إلى
منازلهم ثم يعودون صباح الأحد لإقامة القداس وهم صائمون، وبهذا انكسر طقس
صوم السبت واعتُبر السبت تابعاً للأحد لا يصام فيه.

والذي نود أن نركِّز
عليه في النهاية هو أهمية اقتران الصوم بالصلاة والصلاة بالصوم كوحدة عملية واحدة
تقدَّم فيها الحياة برمتها أمام الله، مكشوفة وعريانة أمام عينيه، ليضع فيها نعمة
ويصيغها لتكون حسب مشيئته. وهذا هو المجمل السرِّي من قصد المسيح أن لا تظهر للناس
صائماً بل لأبيك الذي في الخفاء الذي يجازي علانية.

(ب) الاتجاه
الثاني في الصوم عند المسيح:

اكتساب سلطان إخراج
الشيطان بالصلاة والصوم على أساس الإيمان:

+ » ثم تقدَّم
التلاميذ إلى يسوع على انفراد وقالوا: لماذا لم نقدر نحن أن نُخرجه؟ فقال لهم
يسوع: لعدم إيمانكم. فالحق أقول لكم: لو كان لكم إيمانٌ مثل حبَّة خردَلٍ لكنتم
تقولون لهذا الجبل: انتقل من هنا إلى هناك فينتقل، ولا يكون شيءٌ غير ممكنٍ لديكم.
وأمَّا هذا الجنس فلا يخرج إلاَّ بالصلاة والصوم.
«(مت 17: 1921)

واضح من هذا الحوار
الهام جداً أن الجبال يمكن أن تنتقل من مكانها بالإيمان بالله والمسيح. وأمَّا
إخراج الشياطين من سكناها في الإنسان فلا يتم إلاَّ بالإيمان ومعه الصلاة والصوم.

فإذا سأل الإنسان:
لماذا ينصاع الجبل لأمر الإيمان ولا ينصاع الشيطان إلاَّ بالصلاة والصوم فوق
الإيمان؟ فالجواب واضح، لأن الجبل خليقة ترابية خُلقت لتكون تحت سلطان الإنسان:
» فخلق الله
الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه. ذكراً وأنثى خلقهم. وباركهم الله وقال
لهم: أثمروا واكثُرُوا واملأوا الأرض وأخضعوها …
«(تك 1: 27و28). ولكن جنس الشيطان ليس خاضعاً لجنس الإنسان. ومعروف
أن جنس الشيطان عدو مقاوم لأوامر الله، وبالتالي يُكِنُّ عداوة شريرة للإنسان الذي
هو أعلى من جنسه، لأن الإنسان خُلق على صورة الله وبالتالي خُلق خاضعاً وتابعاً
ومريداً لله. لذلك تحتَّم على الإنسان لكي يُخضع الشيطان ويُخرجه عنوة من سكناه
داخل الإنسان أن يلتجئ إلى الله. والتجاء الإنسان لله يتم بالإيمان أولاً ثم
بالصلاة والصوم. فبالإيمان يلتصق الإنسان بالله وبالصلاة يتّحد وبالصوم يتفرَّغ
الجسد من العالم وشهواته ليتخصَّص لله، أي يتقدَّس. ويكاد يكون الصوم هو العمل
الوحيد المحروم منه الشيطان، خاصة حينما يقترن الصوم بالتواضع فهو يكاد يحرق
الشيطان.

( ج ) الاتجاه الثالث
في الصوم عند المسيح:

33:535
«وَقَالُوا لَهُ: لِمَاذَا يَصُومُ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا كَثِيراً
وَيُقَدِّمُونَ طِلْبَاتٍ، وَكَذَلِكَ تَلاَمِيذُ الْفَرِّيسِيِّينَ أَيْضاً،
وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ؟ فَقَالَ لَهُمْ:
أَتَقْدِرُونَ أَنْ تَجْعَلُوا بَنِي الْعُرْسِ يَصُومُونَ مَا دَامَ الْعَرِيسُ
مَعَهُمْ؟ وَلَكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ،
فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ».

هنا تزدحم المعاني
وتتفرَّق الأمثلة المضروبة، مفارقة شديدة، وتتباعد الفئات. فأين المعمدان من
الفريسيين وأين الفريسيون من المسيح؟ فتلاميذ يوحنا يسعون خلف معلِّم يسعى خلف
الآتي من فوق وهو فوق الجميع ومن السماء هو ومن السماء يتكلَّم. وأين المعمدان من
الفريسيين الذين رفضوا مشورة الله من جهة
أنفسهم، فماذا يكون بالنسبة للذين يترجُّون الخلاص! وهكذا يظهر السائلون
عن عدم صوم تلاميذ المسيح وكأنهم يسألون عن تساوي الليل
بالنهار أو الظلمة بالنور أو الأرض
بالسماء!

عريس البشرية طرًّا جاء
إلى أرض الأحزان ليقلب حزنها فرحاً وبهجة ونوراً وضياءً، وتلاميذه منهمكون في
إعداد وليمة العرس، فأين يقع الصوم على مائدة الفصح وأين يوجد الصائمون بين خوارس
العذارى الفرحات وملائكة النور المهلِّلين؟

فإن لزم الصوم لأبناء
النور فليصوموا لينسكب الروح القدس ويظلِّل هاماتهم بالنور والمجد وألسنة الروح،
ليتحوَّل صومهم إلى فرح أبدي لا يُنزع منهم. فعريسهم رُفع من الأرض ليجلس على عرش
ملكه السماوي ليمزج آلامهم بعزاء لا يُنطق به وحزنهم بفرح مجيد.

فأولاد النور إن صاموا
عطَّروا شعر رؤوسهم بالطيب وغسلوا وجوههم بماء النعمة، ليعلنوا أن صومهم شركة
حقيقية في مجد الجالس على عرشه وسط قديسيه.

نحن نصوم لا ليأتي
المسيَّا بل لأنه أتى، ولا لكي يُرفع عنَّا ظلم الظالم بل لأننا دسنا الموت والظلم
والألم معاً ورأسنا رُفعت وطالت وجه السماء، فصومنا جزءٌ لا يتجزَّأ من ذبيحة
الصليب التي جمعت بين الموت والحياة، والقبر والسماء، والظلمة والنور، والزمن
والخلود. فإن كانت يدنا على المحراث فعيننا على الملكوت.

36:5 «وَقَالَ
لَهُمْ أَيْضاً مَثَلاً: لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ رُقْعَةً مِنْ ثَوْبٍ جَدِيدٍ عَلَى
ثَوْبٍ عَتِيقٍ، وَإِلاَّ فَالْجَدِيدُ يَشُقُّهُ، وَالْعَتِيقُ لاَ تُوافِقُهُ
الرُّقْعَةُ الَّتِي مِنَ الْجَدِيدِ».

هنا نقطة تداعي الفكر
عند المسيح جاءت من ذكر العريس والعرس حيث يأتي بالتالي لباس العرس بالتبعية.
فتلاميذ المسيح لباسهم هو لباس العرس الجديد
kainÒn في أوج جماله وجلاله: » ولبستم الجديد الذي
يتجدَّد للمعرفة حسب صورة خالقه
«(كو 10:3)، حيث الجِدَّة هنا لا تأتي من مفهوم النسيج ولكن من واقع
المعرفة بالله التي تتجدَّد بالروح كل صباح:
» لأن مراحمه
لا تزول هي جديدة في كل صباح
«(مرا 23:3). كما تأتي الجدَّة من تثبيت النظر في وجه الله: » ناظرين مجد
الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغيَّر إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من
الرب الروح.
«(2كو 18:3)

أمَّا العتيق palaiÒn فهو بالمقابل حتماً
يكون الناموس الذي عتق وشاخ وصار من نفسه قريباً من الاضمحلال (عب 13:8). وهنا
يكون قد بلغ المسيح القصد: فلا تعليم يوحنا ولا تعليم الفريسيين بقادر أن يخضع
لتعليم المسيح بأي حال من الأحوال، إذن وماذا يكون الحل؟ الحل هنا قاله ق. بولس في
منتهى اليسر والبساطة ويدور على حتمية خلع القديم كلية ولبس الجديد:

+ » إذ خلعتم
الإنسان العتيق مع أعماله ولبستم الجديد الذي يتجدَّد للمعرفة حسب صورة خالقه.
«(كو 3: 9و10)

+ » وأمَّا أنتم
فلم تتعلَّموا المسيح هكذا، إن كنتم قد سمعتموه وعُلِّمتُم فيه كما هو حقٌّ في
يسوع، أن تخلعوا مِنْ جهةِ التصرُّف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهواتِ
الغرور، وتتجدَّدوا بروحِ ذهنكم، وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في
البر وقداسة الحق.
«(أف
4: 2023)

+ » قد تناهى
الليل وتقارب النهار فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور.
«(رو 12:13)

37:539 «وَلَيْسَ
أَحَدٌ يَجْعَلُ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ عَتِيقَةٍ لِئَلاَّ تَشُقَّ
الْخَمْرُ الْجَدِيدَةُ الزِّقَاقَ، فَهِيَ تُهْرَقُ وَالزِّقَاقُ تَتْلَفُ. بَلْ
يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ جَدِيدَةٍ، فَتُحْفَظُ جَمِيعاً.
وَلَيْسَ أَحَدٌ إِذَا شَرِبَ الْعَتِيقَ يُرِيدُ لِلْوَقتِ الْجَدِيدَ، لأَنَّهُ
يَقُولُ: الْعَتِيقُ أَطْيَبُ».

لا يزال الذي يشغل بال
المسيح هو التعليم الذي يقدِّمه الفريسيون الذي أخذ اسم يهوه وموسى ظلماً وهو
تعليم الناس. فالزق من خارجه له رسم القدم وشكل العراقة، ولكن ما بداخله تجاوز
زمانه وعتق وشاخ وقارب الاضمحلال. فهل يحتمل زق موسى القائل تحب قريبك وتبغض عدوك
قول الجديد القائل أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم وأحسنوا إلى مبغضيكم؟ أو كيف
يحتمل زق موسى القائل عين بعين وسن بسن، القول الجديد مَنْ ضربك على خدك الأيمن
أدر له الآخر أيضاً؟

وما الزق هنا في عرف
المسيح إلاَّ قلب أُولئك الفريسيين الرافض لتعليم المحبة والحق والحياة. فقد أتلفت
تعاليم المسيح قلب أُولئك الفريسيين وعقولهم حقـًّا فانقلبوا إلى أعداء مردة.
فلمَّا ضيَّق عليهم المسيح بحبه ووداعته ضاقوا به وقتلوه!!

يقولون لا بل خمرنا
عتيقة وكل عتيق شهي ولذيذ، وقال موسى عنهم:
» من جفنة (شجرة
العنب) سدوم جفنتهم ومن كروم عمورة. عنبهم عنب مر ولهم عناقيد مرارة، خمرهم حمة
الثعابين وسم الأصلال القاتل.
«(تث 32: 32و33)



([1]) Marshall, op. cit., p.
215.

([2]) القديس إغناطيوس الأنطاكي، الرسالة إلى كنيسة أفسس 2:20.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي