الإصحَاحُ
الثَّانِي عَشَرَ
مبارك
الآتي باسم الرب
وفي
الغد، سمع الجمع الكثير الذي جاء إلى العيد أن يسوع آت إلى أورشليم، فأخذوا سعف
النخيل وخرجوا للقائه وهم يصرخون: أوصنّا، مبارك الآتي باسم الرب، ملك اسرائيل.
الإنجيل
حسب يوحنا 12: 12 و 13
الإنسان
مخلوق عجيب وغامض. فمع أنّه قام منذ فجر التاريخ بمآثر لا تعدّ ولا تحصى، إلا أنّه
لم ينجح إلى يومنا هذا في العيش بسلام ووئام مع جاره الإنسان ومع كثرة الحاجة إلى
الاهتمام بأمور المعيشة اليومية والتغلّب على الأمراض التي تفتك ببني البشر، إلا
أننا نرى بكل أسف ميل الإنسان نحو تكديس آلات الدمار والهلاك.
وبما
أن الإنسان هو الذي أوجد مشاكله العديدة فإنه من العبث أن نتأمّل منه بأن يجد
حلولاً لها. الله وحده قادر بأن يرينا الطريق السليم الذي نجد عليه السلام. وإذ
أصبح الشرّ جزءاً من طبيعتنا البشرية فنحن بحاجة إلى أكثر من معلّم أو مرشد، إننا
بحاجة إلى مخلّص ومنقذ يحررنا من عبوديتنا للخطية أي ذلك الميل الدائم الذي يدفعنا
للقيام بأمور معارضة للشرعية الإلهية.
وعندما
ندرس الإنجيل نلاحظ توّاً أن المسيح يسوع جاء لإنقاذنا من شرورنا وآثامنا وليعطينا
الإمكانية للعيش بسلام مع أقراننا بني البشر. وقد أعطى الله الآب السيد المسيح
أوراق اعتماد خاصة لتظهر للملأ صحة تعاليمه وطبيعة رسالته السماوية. وما هي أوراق
الاعتماد هذه ؟
كانت
المعجزات والآيات والعجائب التي قام بها لصالح بني البشر والذين كانوا من معاصريه
في فلسطين. أطعم الآلاف من بضعة أرغفة خبز وسمكتين وشفى المرضى وأقام الموتى.دلّت
هذه الأمور أنّ المسيح كان موفد السماء للقيام بعمل خلاصي جبار لصالح البشرية
جمعاء.
ولكن
ماذا حدث عندما ابتدأ المسيح يسوع بالتجوال في الأرض المقدسة معلّما وشافيا ؟ ظهرت
في وجهه معارضة شديدة قادها زعماء الدين في القدس. لم يقبلوا شهادة المسيح عن نفسه
ولم يؤمنوا بمعنى وهدف المعجزات التي قام بها وعملوا جهدهم للتقليل من شأنها.
وعندما لم ينجحوا في ابعاد الجماهير عنه تآمروا عليه للتخلّص منه نهائياً. وعندما
أقام المسيح لعازر من بين الأموات كان لهذه الآية تأثير كبير على الناس الذين
كانوا قد وفدوا القدس نظراً لاقتراب موسم الأعياد. فقرّر أعداء المسيح أن يقتلوه
في أول فرصة تسنح لهم. وكتب عن هذا الموضوع الرسول يوحنا في الإنجيل ما يلي:
وعلم
جمع كثير من اليهود أنّه – أي المسيح – هناك، فجاءوا لا من أجل يسوع فقط، بل
لينظروا أيضاً لعازر الذي أقامه من بين الأموات. فأتمر رؤساء الكهنة أن يقتلوا
لعازر أيضاً، لأن كثيرين من اليهود كانوا بسببه يذهبون ويؤمنون بيسوع. يا لها من
كلمات صعبة ! عوضاً عن أن يمجّد رؤساء الكهنة الله بمناسبة هذه المعجزة العظيمة
التي جرت في ضواحي القدس، أخذوا يتآمرون على قتل كل من المسيح ولعازر ؟ أهناك شك
في وجود خلل هائل في صميم حياة البشر ؟
حضر
المسيح وتلاميذه وليمة عشاء في قرية بيت عنيا وهي قرية لعازر، فأكرمت مريم، أخت
لعازر، المسيح بدهن قدميه بطيب من الناردين الخالص. فامتلأ البيت من رائحة الطيب.
فقال أحد تلاميذه وهو يهوذا الإسخريوطي – الذي كان مزمعاً أن يسلّمه – : لماذا لم
يبع هذا الطيب بثلاث مئة دينار وتعطى للفقراء ؟ وإنما قال هذا ليس لأنه كان يبالي
بالفقراء بل لأنه كان سارقاً، إذ كان الصندوق عنده وكان يسرق ما يلقى فيه. فقال
يسوع: دعها. فإنها قد حفظته ليوم دفني. فإن الفقراء معكم في كل حين وأمّا أنا فلست
معكم في كل حين.
هل
لاحظت أيها القارئ الكريم نبوّة المسيح عن موته الذي كان سيتم بعد نحو أسبوع واحد
؟ ذكر المسيح موضوع موته الذي كان سيضحي الطريقة الفعّالة لشفائنا من خطايانا
وآثامنا ولإعطائنا القوّة اللازمة للعيش بسلام مع الله ومع البشر. وقد تقول لي:
ألم يكن المسيح منحدراً من نسل داود الملك، فكيف تقول بأنه كان سيقتل ؟ ! نعم كان
المسيح من نسل داود وكان ملكاً لكن ملكوته لم يكن من طراز ممالك هذه الدنيا. وقد
أظهر ذلك بصورة جلية عندما دخل القدس في أيام عيد الفصح راكباً على جحش متمماً
نبوة زكريا النبي وهو أحد أنبياء العهد أو النظام القديم (أي أيام ما قبل
الميلاد).
وفي
الغد، سمع الجمع الكثير الذي جاء إلى العيد أن يسوع آت إلى أورشليم، فأخذوا سعف
النخل وخرجوا للقائه وهم يصرخون: أوصنا، مبارك الآتي باسم الرب، ملك اسرائيل. ووجد
يسوع جحشاً فركب عليه كما هو مكتوب: لا تخافي يا ابنة صهيون، هوذا ملكك يأتي
راكباً على جحش ابن أتان.
أوصنّا
! كلمة عبريّة أتت إلينا بقالب يوناني وتعني: خلّصنا ! هذا ما كانت ترنو إليه
الجماهير الواردة إلى القدس لتعيّد عيد الفصح. خلّصنا، يا مسيح الله ! ربما لم
يفقه الجميع بأن الخلاص الذي جاء المسيح لتتميمه كان خلاصنا من الخطية والشرّ
الكامنين في قلب كل بشريّ. لكن المسيح لم يعلن نفسه ملكاً من طراز ملوك البشر
والذين كانوا يمتطون آنئذ حصاناً للذهاب على الحرب. ركب المسيح على جحش فرمز بذلك
إلى وداعته وإلى كون ملكوته ملكوتاً سماويّاً. لم يأت المسيح من تلقاء نفسه بل جاء
من الله وباسم الرب أي باسم الله الآب، لتتميم مهمته الفريدة على الأرض.
ولم
يفهم تلاميذه هذه الأمور أولاً ولكن لما تمجّد يسوع – أي بعد أن مات وقام من بين
الأموات وصعد إلى السماء – عندئذ تذكروا أن هذا قد كتب عنه – أي في الفصل التاسع
من نبوّة زكريا النبي – وأنهم صنعوا هذه له. والجمع الذي كان معه حين دعا لعازر من
القبر وأقامه من بين الأموات كان يشهد له. من أجل هذا أيضاً استقبله الجمع لأنهم
سمعوا أنه قد صنع هذه الآية. فقال الفريسيون فيما بينهم: أنتم ترون أنكم لا تفيدون
شيئا، فهوذا العالم قد ذهب في أثره.
رحّب
الناس بالمسيح وطلبوا منه أن يمنحهم الخلاص ومجّدوا اسم الله الذي أرسله للقيام
بمهمته الفدائية الفريدة. لكن الذين كانوا قادة الشعب لم يرحّبوا به بل صمموا على
قتله. وليس هذا بموقف منعزل عن موقف العديدين عبر العصور المتعاقبة والذين لم
يرحّبوا بالمسيح وبرسالته الخلاصية. فما أكثر الذين وقعوا في نفس الخطأ الفادح
الذي سقط فيه معاصرو المسيح ! نشدوا ملكاً أرضياً يضاهي إمبراطورية الرومان
المستعمرين. ومع أن المسيح كان عالماً كل العلم ببطش الرومان وبقساوتهم في
مستعمراتهم العديدة المنتشرة في حوض المتوسط وفي أوربا الغربية حتى أواسط
بريطانيا، إلا أنه شدّد على هذا الأمر: جاء من السماء لتدشين ملكوت الله وذلك
بمجابهته للشر والخطية الكامنين في حياة كل بشري، أكان يهودياً أو رومانياً أو
يونانياً. الجميع أخطأوا والجميع بحاجة إلى انقاذ إلهي المصدر.
كان
المسيح مصمّماً على أن لا يثنيه عن عزمه أي بشري. كان يعمل على تخليص البشرية من
عذاباتها وآلامها وشقائها وذلك بالقضاء على الخطية. نشد زعماء اسرائيل في تلك
الأيام بطلاً حربياً كبعض أبطالهم الذين حاربوا الاستعمار السلوقي في القرن الثاني
قبل الميلاد. فلم يفتحوا قلوبهم لقبول تعاليم الكتاب المقدّس التي كانت تشير إلى
شخصية المسيح المنتظر وأهمية العمل الفدائي الذي كان سيقوم به في الأرض المقدّسة
وفي الوقت المعيّن من الله.
وكم
علينا أن نحمد الله لأن البعض من عامة الشعب كصيادي السمك وجباة الضرائب
المحتقرين، رحّبوا برسالة المسيح الخلاصية. وبعد موت المسيح على الصليب وقيامته في
اليوم الثالث من بين الأموات، صاروا رسل المسيح ونادوا بانجيله الخلاصي في سائر
أنحاء العالم المتوسّطي. ونحن ننضم إليهم ونؤمن بالمسيح المخلّص كما كشف عن ذاته
في
الإنجيل المقدس ونقول فرحين ومتهللين: أوصنا، مبارك الآتي باسم الرب. ولا نحيي
ذكرى هذه الحادثة التاريخية فقط بل ننظر إلى المستقبل برجاء حيّ وننتظر عودة
المسيح إلى عالمنا كالملك الجبّار الذي سيدين الأحياء والأموات والذي سيعطينا
السلام في ملكوت الله المجيد.
أيها
القارئ العزيز ! هل أنت مستعدّ للقاء المسيح ؟
من هو
ابن الإنسان ؟
لقد
سمعنا من الناموس أن المسيح يبقى إلى الأبد. فكيف تقول أنت أنه ينبغي أن يرتفع ابن
الإنسان ؟ من هو ابن الإنسان هذا ؟
الإنجيل
حسب يوحنا 12: 34
من
الجدير بالذكر أن الكثيرين من الناس يحصرون اهتمامهم بالظروف الخارجية التي تحيط
بالإنسان وهم يعالجون مشاكله المتكاثرة. فهم تارة يلومون وضعه الاقتصادي وتارة
أخرى نوعيّة النظام الذي يحيا ضمنه. وقلّما تسمع كلاماً متّزناً يبدأ بمعالجة
المشكلة الإنسانية في قلب الإنسان ذاته. لا بد للإنسان في نهاية المطاف من أن
يضطلع بمسؤوليته ويقرّ بأن الخلل الذي طرأ على الحياة البشرية لا يمكن ارجاعه إلى
مجرّد عوامل خارجية. ومهما حاول الإنسان أن يتنصّل من مسؤولياته فإنه يبقى مرغماً
على مجابهة الواقع ولو كان الواقع أليماً.
ونتعلّم
درساً هاماً عن موضوعنا هذا في القسم الثاني من الفصل الثاني عشر من الإنجيل حسب
يوحنا. كان عيد الفصح قد اقترب وكان المعيّدون قد جاؤوا من سائر أنحاء فلسطين ومن
البلاد المجاورة لزيارة القدس. ومما ورد في الإنجيل: وكان قوم من اليونانيين (أي
من الدخلاء الذين كانوا قد اعتنقوا اليهودية) من الذين صعدوا ليسجدوا في العيد.
فتقدّم هؤلاء إلى فيلبس وسألوه قائلين: يا سيّد نريد أن نرى يسوع.
يا
لها من كلمات هامة ! فبينما كان زعماء الدين في القدس يتآمرون على قتل المسيح
يسوع، كان بعض الدخلاء يطلبون مشاهدة يسوع. وما أن سمع المسيح طلبهم هذا حتى قال:
لقد أتت الساعة التي يتمجّد فيها ابن الإنسان. الحق، الحق أقول لكم: إن لم تقع
حبّة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها، ولكن إن ماتت فإنها تأتي بثمر كثير. من
يحب نفسه يفقدها ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها للحياة الأبدية. إن كان أحد
يخدمني فليتبعني، وحيث أكون أنا هناك أيضاً يكون خادمي، إن كان أحد يخدمني يكرمه
الآب.
ما
معنى هذه الكلمات التي تفوّه بها المسيح ؟ أشار له المجد إلى رسالته السماويّة
والخلاصية التي رفضها الزعماء الدينيّون في القدس بينما قبلها بكل فرح ولهفة
الغرباء والدخلاء ! ثم أشار المسيح إلى أن مهمته الخلاصية والفدائية لم تكن لتتحقق
بدون موته على الصليب. ونظر المسيح إلى موته الكفاري كالعمل الرئيسي الذي أسنده
إليه الله الآب. وإن كان البعض من سامعيه قد عارضوا هكذا تعليم فإنهم لم يكونوا قد
فهموا المنهج الإلهي للحياة. فمن يحب نفسهن أي ذلك الإنسان الذي تدور حياته على
محور الذات يكون في النهاية من الخاسرين. وأما الذي يبغض نفسه أي ذلك الإنسان الذي
يضحي بنفسه في سبيل الله والآخرين فإنه يحفظ حياته للحياة الأبدية.
ظهرت
هذه التعاليم غريبة للغاية ولذلك رفع المسيح هذا الدعاء قائلاً:
الآن
نفسي قد اضطربت وماذا أقول ؟ أيها الآب نجّني من هذه الساعة ؟ ولكنّي لأجل هذا جئت
إلى هذه الساعة. أيها الآب مجّد اسمك. فجاء صوت من السماء: قد مجّدته وسأمجّده
أيضاً. فسمع هذا الجمع الواقف هناك فقالوا: قد حدث رعد. وآخرون قالوا: قد كلّمه
ملاك. فأجاب يسوع وقال: ليس من أجلي جاء هذا الصوت بل من أجلكم.
كان
ظل الصليب مخيّماً على جميع ساعات وأيام هذا الأسبوع الحاسم في سيرة المسيح. وكان
له المجد ملمّاً بمعارضة اليهود للفداء الجبّار الذي كان سيتمّمه بموته الكفاري
على الصليب وبقيامته من بين الأموات. أكّد المسيح في صلاته هذه أنه جاء من السماء
إلى هذه الساعة أي لتتميم برنامج الله الفدائي عندما كان سيسمّر على خشبة الصليب
خارج أسوار المدينة المقدسة. ولم يكن موت المسيح يظهر أي ضعف لدى الله. على العكس،
كشف الله عن محبّته اللانهائية لنا نحن البشر عندما بذل ابنه الوحيد على الصليب
لكي لا يهلك كل من يؤمن بل تكون له الحياة الأبدية.
تابع
المسيح كلامه قائلاً: الآن دينونة هذا العالم، الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجاً.
فمجئ المسيح إلى عالمنا كشف نوايا الشيطان عدو الله وعدو الإنسان. ولم يكن بنو
اسرائيل يتمتعون في تلك الأيام بقيادة روحية سليمة. فرؤساء الكهنة والكتبة أي
خبراء الشريعة الموسوية لم يعلّموا الشعب كلمة الله بصورة تقية. فبينما كانت شهادة
الوحي الإلهي تتمركز في مسيح الله وفي عمله الخلاصي الذي كان سيتممه على الصليب،
فإن قادة بني اسرائيل أنكروا ذلك وعمدوا إلى وضع أساس خاطئ للديانة المقبولة لدى
الله أي بالاتكال على أعمالهم وجهودهم الخاصة.
وإذ
كان المسيح شاعراً بأن ساعة آلامه قد اقتربت وأنه كان سيموت عنا على الصليب قال:
وأنا متى ارتفعت عن الأرض أجذب إليّ الجميع. وعلّق يوحنا الرسول على هذه الكلمات
قائلاً: قال يسوع هذا ليشير إلى أيّة ميتة كان مزعماً أن يموتها.
وما
أن سمع الحاضرون المسيح يتكلّم عن ارتفاعه عن الأرض حتى أخذوا يقولون له: لقد
سمعنا من الناموس أن المسيح يبقى إلى الأبد، فكيف تقول أنت أنّه ينبغي أن يرتفع
ابن الإنسان ؟ من هو ابن الإنسان هذا ؟ ذكر هؤلاء أنهم سمعوا من الناموس؛ وهذه
الكلمة أي ناموس تعادل كلمة توراة العبرية. كانت تشير أحياناً إلى الأسفار الخمسة
الأولى من الكتاب المقدّس وأحياناً أخرى أشارت كلمة ناموس إلى جميع أجزاء الكتاب
المقدّس أي إلى التوراة والأنبياء والمزامير. وبعبارة أخرى كان السامعون قد فهموا
من التعاليم التي كانوا قد تلقنوها أن المسيح متى جاء كان سيبقى إلى الأبد.
احتاروا من كلمات المسيح لأنه ذكر أنه كان سيرتفع عن الأرض. عارضت كلمات المسيح
هذا التقليد الموروث عن الآباء والأجداد. فما هو الحلّ ؟ وازدادت حيرتهم عندما دعا
المسيح نفسه بلقب ابن الإنسان. فقالوا له: من هو ابن الإنسان هذا ؟
من
هو ابن الإنسان هذا ؟ سؤال هام للغاية وليس فقط لمعاصري المسيح بل لنا نحن أيضاً.
لماذا اختار المسيح هذا اللقب للإشارة إلى نفسه ؟ كان أول بشري خلقه الله آدم وقد
خلقه الله من تراب وعلى صورته وشبهه. امتاز الإنسان منذ البدء بسموّه على سائر
المخلوقات التي صنعها الله. لكن الإنسان الأول فشل في الامتحان وسقط في الخطية
والمعصية وجلب على نفسه وعلى نسله الشرّ والعبودية للشيطان. من ينقذ الإنسان من
الدمار الروحي الذي ألمّ به ؟ وعد الله أبوينا آدم وحوّاء بأن يرسل واحداً من نسل
المرأة ليسحق رأس الشيطان. وقد كرّر الله هذا الوعد بصورة أكثر جلاء في أيام
ابراهيم واسحاق ويعقوب ومن بعدهم في أيام الأنبياء.
وفي
الوقت المعيّن من قبل الله والمدعو بلغة الكتاب بملء الزمن جاء المسيح من السماء
وأخذ طبيعة بشرية حقيقية بولادته من العذراء مريم. وعلى هذا الأساس دعا المسيح
نفسه بابن الإنسان. المسيح هو ابن الله الأزلي، إنه كلمة الله الأزلي كما تعلّمنا
في فاتحة الإنجيل حسب يوحنا. لكنه وفد عالمنا وحلّ بيننا لينقذنا من خطايانا
باتخاذه ناسوتنا ضمن شخصه أو أقنومه الواحد. المسيح يسوع هو ابن الإنسان الفريد
الذي لم يعرف الشرّ ولم يرتكب الخطية والمعصية جسم البشرية جمعاء هكذا كان الخلاص
من الخطية بواسطة المسيح يسوع ابن الله وابن الإنسان.
تساءل
معاصرو المسيح عن شخصية ابن الإنسان وكان من واجبهم الإصغاء إلى جواب المسيح الذي
دعا ولا يزال يدعو جميع السامعين لقبول هذا التعليم الهام عن طبيعة العمل الخلاصي
الذي كان سيتم على الصليب. قال المسيح:
إن
النور معكم زماناً يسيراً بعد، فسيروا ما دام النور معكم لئلا يدرككم الظلام. ومن
يسير في الظلام لا يعلم أين يذهب. فما دام النور معكم فآمنوا بالنور لتكونوا أبناء
النور.
وخلاصة
القول أن المسيح لم يأت ليتجادل معنا بل وفد من السماء ليخلّصنا وينقذنا من
خطايانا وليدحر الشيطان عدوّنا اللدود. إن سرنا في طريق المسيح المستقيم نسير في
نوره العظيم، وإن لم نؤمن به ولم نتخذه مخلّصاً لنفوسنا نبقى سائرين في الظلام
الذي يتوه فيه بنو البشر. وإن تابعنا مسيرتنا في الظلام أي خارج الطريق الذي رسمه
لنا المسيح، يكون مصيرنا الأبدي قاتماً للغاية. ساعدنا الله القدير بروحه القدّوس
لنقف موقف المؤمنين من ابن الإنسان: يسوع المسيح الذي أحبّنا محبة قصوى وبذل دمه
الزكي على الصليب لنحصل على الغفران والحياة الأبدية السعيدة.
خلاص
العالم
وإن
كان أحد يسمع كلماتي ولا يحفظها فأنا لا أدينه، لأني لم آت لأدين العالم بل لأخلص
العالم. من رذلني ولم يقبل كلماتي فإن له من يدينه: الكلمة التي نطقت بها هي تدينه
في اليوم الأخير.
الإنجيل
حسب يوحنا 12: 47 و 48
أدرت
مؤشر المذياع إلى إحدى المحطات الإذاعية فسمعت برنامجاً شائقاً كان عبارة عن
مقابلة أجراها صحفي في الإذاعة مع طلاب وطالبات إحدى الجامعات الكبيرة في مدينة
يبلغ عدد سكانها بالملايين. وكان الموضوع الذي تطرّق إليه الصحفي هو تحدّيات العصر
والطرق السليمة لمجابهتها وإيجاد الحلول لمشاكل الحياة المستعصية. أنصت بكل انتباه
إلى الحوار ولاحظت أن الذين شاركوا في الحوار تطرّقوا للكلام عن مواضيع اقتصادية
وسياسية وتاريخية. ومما لفت انتباهي هو أن أحد الطلاب كان يردد: ليس باستطاعة
الإنسان أن يغيّر نفسه أو اتجاه حياته بعد عامه العشرين. وكان هدف هذا الطالب أن
يظهر كون مشكلة الإنسان الأساسية كامنة في صميم حياته وأنه من واجب الإنسان أن
يغيّر أسلوب أو اتجاه حياته وأن يعيش حياة الأنانية. ولكن هيهات للإنسان أن يصل
إلى هذا الهدف النبيل !
لم
يقبل الجميع هكذا نظرة تشاؤمية للحياة بل انبرت إحدى الطالبات للرد على الطالب
المتشائم قائلة: طبعاً يحتاج الإنسان إلى أكثر من حوافز اقتصادية أو ماليّة للقيام
بواجباته كما يجب. وهكذا يجدر به أن يتحلّى بمثل عليا وأن يستنير ضميره من هكذا
مثل ليجلبه تحدّيات العصر بصورة فعّالة.
تأملت
بعد الانتهاء من سماعي لهذه المقابلة الإذاعية في الموضوعين الأساسيين اللذين
ذكرا:
1:
مقدرة أو عدم مقدرة الإنسان على تغيير نفسه بعد عامه العشرين.
2:
ضرورة التحلّي بمثل عليا وإنارة هذه المثل للضمير الإنساني لتضحي مجابهيه لتحدّيات
العصر مجابهة سليمة وبنّاءة.
ومع
تقديري لروح الجدّيّة والصراحة التي ظهرت في تلك المقابلة إلا أنه المني أن الحوار
جرى في جوّ لم يذكر فيه اسم الله ولا وحيه ولا منهجه الخلاصي لعالمنا هذا. ولست
أريد الظهور بمظهر المنتقد للجيل الطالع عندما أبدي رأيي الصريح بأن نسيان أو
تناسي الله لا يساعدنا على حلّ مشاكلنا.
لقد
شاطرتكم هذا الاختبار كمقدمة لبحثي في موضوع هام مبني على تعاليم القسم الأخير من
الفصل الثاني عشر من الإنجيل حسب يوحنا. كتب الرسول هذه الكلمات الحزينة عن موقف
العديدين من معاصري المسيح من رسالته الخلاصية:
ومع
أنه كان قد صنع أمامهم آيات كثيرة فإنهم لم يؤمنوا به. ليتم قول اشعياء النبي: يا
رب ؟ من صدّق خبرنا، ولمن أعلنت ذراع الرب ؟ واستطرد يوحنا متابعاً اقتباسه من
نبوة اشعياء النبي الذي عاش قبل المسيح بعدة قرون: من أجل هذا لم يقدروا أن يؤمنوا
لأن اشعياء قال أيضاً: قد أعمى عيونهم وقسّى قلوبهم لئلا يبصروا بعيونهم ويفهموا
بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم. قال اشعياء هذا لأنه رأى مجده وتكلّم عنه.
كان
المسيح قد ابتدأ بالمناداة بالإنجيل في عامه الثلاثين وجال في سائر أنحاء البلاد
المقدسة معلّماً الناس وصانعاً المعجزات والآيات والعجائب التي شهدت للملأ بأنه
كان مرسلاً من الله للقيام بمهمته الخلاصية لصالح بني البشر. ظهر المسيح بمظهر
انسان متواضع ومحب لسائر الناس ولكنه كان في نفس الوقت كلمة الله الأزلي الذي تجسد
للقيام بمهمته الفريدة. ولم تكن غاية أعماله الباهرة التي قام بها هي لإرغام الناس
على الإيمان به بل كانت بمثابة أوراق اعتماد سماوية المصدر. وعلى هذا الأساس
يمكننا أن نفهم كلمات الرسول يوحنا: ومع أنه كان قد صنع آيات كثيرة فإنهم لم
يؤمنوا به.
سمع
معاصرو المسيح مرسل الله يعلّم كما لم يعلّم أي بشري آخر وشاهدوا معجزات شفاء
المرضى وطرد الشياطين وإقامة الموتى. أبصروا كل هذه الأمور الباهرة ولكنهم لم
يؤمنوا ! كيف نفسّر هذا الأمر المحزن ؟ أي منطق كانوا يدينون به عندما أنكروا مصدر
رسالة المسيح الخلاصية ؟ لم يقبلوا المسيح لأنهم رفضوا تشخيصه الواقعي لحالتهم
الروحية أي كونهم أسرى للخطيّة وعبيداً للشيطان. انتظروا مسيحاً من طراز آخر،
مسيحاً عسكرياً يطرد جحافل الرومان ويعيد إليهم مجد مملكة داود وسليمان. إنهم
أحبّوا مجد الناس أكثر من مجد الله.
وبما
أن المسيح كان قد وفد عالمنا لتنفيذ مهمته الخلاصية فإنه أنهى تعاليمه للجماهير
بهذه الكلمات الصريحة: من آمن بي فليس يؤمن بي بل بالذي أرسلني. ومن رآني فقد رأى
الذي أرسلني. كان معاصرو المسيح يفتخرون بأنهم قد استؤمنوا على الوحي الإلهي
وكانوا يفتخرون بأنهم يتعبدون للإله الواحد الحقيقي الذي كان قد دعا ابراهيم
واسحاق ويعقوب وكونهم شعباً خاصاً لم ينكر المسيح هذه الأمور التاريخية ولا الهبات
الفريدة التي استلمها بنو اسرائيل ولكنه لفت أنظارهم إلى أن المؤمن بالله يؤمن
بالمسيح أيضاً. وبعبارة أخرى، من رفض الإيمان بالمسيح المخلّص يكون قد رفض الإيمان
بالله مرسله. وإن كانت أرواحهم تتضوّر جوعاً أو تتوق متلهفة للتقرب من الحضرة
الإلهية، أفهمهم المسيح هذه الحقيقة الجوهرية: ومن رآني فقد رأى الذي أرسلني. دلّت
هذه الكلمات على أن المسيح يسوع كان ذروة الوحي الإلهي وإن رفض الإنسان قبول هذا
الوحي يكون قد رفض الله وقطع علاقته مع باريه.
وتابع
السيد المسيح كلامه مكرّراً ما كان قد ذكره في مناسبات سابقة: إني جئت نوراً إلى
العالم حتى لا يمكث في الظلمة كل من يؤمن بي. دلّت هذه الكلمات الربّانية بأن
تقييم المسيح لحالة الإنسان الروحية كان تقييماً منطبقاً على الواقع البشري الأليم
كما يراه الله. فمنذ أن ثار الإنسان الأول على الله جلب على نفسه وعلى ذرّيته حالة
روحية وأخلاقية محزنة وصفها المسيح بحالة الظلمة أو الظلام. ومجئ المسيح إلى
العالم كان بمثابة بزوغ نور الشمس الوضّاح الذي يطرد أشباح الظلام الروحي المسيطر
على كل بشري. ومن قال في قرارة قلبه بأنه لا يعيش في الظلام وأنه ليس بحاجة إلى
مخلّص أو منقذ أو محرّر، هكذا انسان يبقى ماكثاً في الظلمة. وإن لم يتب إلى الله
يبقى في الظلمة إلى الأبد.
عاد
المسيح إلى الكلام عن لبّ رسالته الإنقاذية قائلاً: وإن كان أحد يسمع كلماتي ولا
يحفظها فأنا لا أدينه، لأني لم آت لأدين العالم بل لأخلّص العالم. من رذلني ولم
يقبل كلماتي فإن له من يدينه: الكلمة التي نطقت بها هي تدينه في اليوم الأخير.
لأني لم أتكلّم من نفسي ولكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصيّة ماذا أقول وبماذا
أتكلّم. وأنا أعلم أن وصيّته هي حياة أبديّة. فما أتكلّم به إذن فإنما أتكلّم به
هكذا كما قاله لي الآب.
كانت
هذه هي الكلمات الأخيرة التي تفوّه بها المسيح قبل إلقاء القبض عليه والمجئ به
أمام رئيس الكهنة والوالي الروماني وصلبه وموته وقيامته من بين الأموات. ولذلك
يجدر بنا أن نعيرها الأهمية القصوى. فنحن لا نقف تجاهها موقفاً حيادياً. فإما
نقبلها ككلمات من جاء من السماء لينقذنا من الخطية أو نرفضها وإذ ذاك نجعلها
الأساس الذي سندان عليه في يوم الحساب. وليست كلمات المسيح هذه كلمات تهديد أو
إكراه. إنها صدرت من الذي أحبنا وبذل نفسه عنا إلى درجة أنه لم يحجم عن الموت عنّا
موت الصليب. من قبل المسيح ورسالته الخلاصية نال الحياة الأبدية.
يعلمنا
الإنجيل أن لبّ مشاكلنا هو في قلب الإنسان المظلم والذي هو بحاجة للخلاص. ومهما
كنّا صريحين في حوارنا مع الآخرين ومهما تكلّمنا عن مثل عليا، فإننا لا نحل
مشاكلنا إن تمادينا في رفض الحل الإلهي الذي تمّ منذ نحو ألفي سنة عندما وفد
المسيح عالمنا وأنجز عمله الخلاصي بموته على الصليب وبقيامته من بين الأموات.
وأدعو الله القدير بأن يمنح كل قارئ وقارئة المقدرة على قبول انجيل الخلاص
والتمتّع بالحياة الأبدية التي لن ينتزعها منا أي بشريّ أو مخلوق آخر!