سِفْرُ أَعْمَالُ
الرُّسُلِ

 

الفَصلُ
الأوَّل "أعمالُ المسيح المُقام"

 إنَّ
سِفرَ الأعمال هُوَ السفرُ الوحيدُ المُوحى بهِ، والذي يتكلَّمُ عن تاريخِ الكنيسة
في العهدِ الجديد. إنَّهُ بمثابَةِ حلقَةِ وصلٍ بينَ الأناجيل الأربَعة ورسائِل
بُولس الرسول الثلاثة عشر. ولولا هذا الكتاب التاريخي، لكُنتَ فورَ بدئِكَ
بقراءَةِ رسائِلِ بُولُس، ستَتَساءَلُ قائِلا، "من هوَ هذا الرسُول المُسمَّى
بُولُس؟ فأنا لم أقرَأْ عنهُ شيئاً في الأناجيل." ولولا السفر الذي
سندرُسُهُ، لكانَ هُناكَ حلقةٌ مُفرَغَةٌ كبيرة في العهدِ الجديد.

 

 بمَعنَى
ما، تُعتَبَرُ الأسفارُ الخمسةُ الأولى في العهدِ الجديد أسفارَاً تاريخيَّة.
لأنَّ الأسفارَ الأربعة الأولى، أي الأناجيل، رُغمَ كونِها قصصاً مُوحَى بها عن
حياةِ يسوع، إلا أنَّها في نفسِ الوقت مرجعٌ تاريخي. ويُعتَبَرُ سفرُ الأعمال
السفر التاريخي في العهدِ الجديد. ونجدُهُ موضوعاً على حِدَةٍ من الأناجيل،
لأنَّهُ كتابُ تاريخِ كنسيةِ العهدِ الجديد.

 

يبدَأُ
سفرُ الأعمالِ بالقول:"الكلامُ الأوَّلُ أنشأتُهُ يا ثَاوُفِيلس عن جميعِ ما
ابتدأَ يسوعُ يفعلُهُ ويُعلِّمُ بهِ، إلى اليوم الذي ارتفَعَ فيهِ بعدما أوصى
بالروحِ القُدُس الرُّسُلَ الذينَ إختارَهُم." (أعمال 1: 1، 2).

 

 عندما
نقرأُ هذه الأعداد الأُولى من سفرِ الأعمال، يتَّضِحُ لنا أنَّ كاتِبَ سفر الأعمال
هو نفسُهُ كاتِب الإنجيلِ الثالِث، إنجيل لوقا، وأنَّهُ يُوجِّهُ سفرَ الأعمال
لنفسِ الشخص الذي وجَّهَ لهُ الإنجيل الثالِث. ثاوُفِيلس، الذي يعني إسمُهُ
"مُحِبُّ الله،" إعتَبَرَهُ لوقا شخصاً يستحقُّ إستلامَ هكذا وثيقَتين
قَيِّمَتَين ومُمَيَّزَتين.

 

 في
سفرِ الأعمالِ، يُتابِعُ لُوقا مُكمِّلاً ما بدأَ كِتابَتَهُ في الإنجيلِ الذي
يحمِلُ إسمَهُ. كتبَ لُوقا أنَّهُ في إنجيلِهِ، أعطى سِجِلاً تاريخيَّاً دقيقاً عن
جميع ما إبتدأَ يسوعُ يفعلُهُ ويُعلِّمُ بهِ، إلى يومِ صُعُودِه. ولكنَّ لُوقا
يُخبِرُنا على أيَّةِ حال، أنَّ يسُوعَ بعدَ صُعُودِهِ، إستمَرَّ "يعمَلُ
ويُعلِّمُ" من خلالِ الرُّسُل. لهذا تُسمِّي الكثيرُ من نسخاتِ الكتابِ المقدَّس
هذا السفرَ "أعمال الرُّسُل."

 

 عندما
نفهَمُ أهمِّيَّةَ يوم الخَمسين، سنعتَقِدُ أنَّ عُنوانَ هذا السفر ينبَغي أن
يكونَ، "أعمال الروح القُدُس من خِلالِ الرُّسُل." وبما أنَّ بُطرُس
يُعيدُ كُلَّ آياتِ ومُعجِزاتِ يوم الخمسين للمسيح الحيّ المُقام، يُعتَبَرُ
العُنوانُ الأكثَرُ مُلاءَمَةً لهذا السفر هو، "أعمالُ المسيحِ المُقَام من
خِلالِ الرُّسُل." (2: 32، 33)

 

لاحِظُوا
أنَّ سفرَ الأعمال لا ينتَهي، بل بِبَساطَةٍ يتوقَّف. يعتَقِدُ بعضُ المُفسِّرين
أنَّ هذا يرجِعُ إلى كونِ لُوقا قد تمَّ توقيفُهُ في السجن، ولم يعُدْ قادِراً على
إنهاءِ كتابَةِ السفر. ويعتَقِدُ آخرونَ أنَّ السفرَ لا ينتَهي، لأنَّهُ تاريخُ
الكنيسة، ونحنُ لا نزالُ نصنَعُ هذا التاريخ.

 

علامَ
علينا أن نبحَثَ في سفرِ الأعمال؟

بما
أنَّ سفرَ الأعمال هو سفرٌ تاريخيّ، علينا أن نقتَرِبَ منهُ كما إقتَرَبنا من
أسفار العهد القديم التاريخيَّة الإثني عشر. يُخبِرنا الرسولُ بُولُس كيفَ ينبَغي
أن ننظُرَ إلى السردِ التاريخي في الكتابِ المقدَّس. قالَ، "جميعُ هذه
الأُمور قد حدَثَت لهُم لتكونَ لنا مِثالاً، نحنُ الذين إنتَهَت إلينا أواخِرُ
الدُّهور." (1كُورنثُوس10: 11). لهذا، علينا أن نَنظُرَ إلى نماذِج وتحذيراتٍ
عندما نَقرَأُ سفرَ الأعمال.

 

القصدُ
من الكَنيسة

 بينما
تقرَأُونَ هذا السفر التاريخيّ، فتِّشُوا عن الهدف المقصُود من الكنيسة. فعندما
وصلَ يسوعُ إلى خاتِمَةِ الوقتِ الذي قضاهُ معَ رُسُلِهِ، أعطاهُم ما نُسمِّيهِ "المأمُوريَّةَ
العُظمَى." وسوفَ تجدونَ هذه المأموريَّة العُظمَى في نهايَةِ كُلِّ إنجيلٍ
من الأناجيل الأربعة. ففي إنجيلِ متى، كانت كلماتُ يسُوع الأخيرة لتلاميذِهِ هي
التاليَة:

 

"دُفِعَ
إليَّ كُلُّ سُلطانٍ في السماءِ وعَلى الأرض. فاذهَبُوا وتَلمِذُوا جمعَ الأُمَم
وعمِّدُوهُم باسمِ الآبِ والإبنِ والروحِ القُدُس. وعَلِّمُوهُم أن يحفَظُوا جميعَ
ما أوصَيتُكُم بهِ. وها أنا معكُم كُلَّ الأيَّام إلى إنقضاءِ الدهر." (متَّى
28: 18- 20).

 

 يبدأُ
سفرُ العهدِ الجديد التاريخي بنفسِ الطريقَة التي تنتَهي بها الأناجيل، بالمأمُوريَّةِ
العُظمَى. هذه الوصيَّة أو المأمُوريَّة العُظمَى تحتَوى على وصيَّةٍ واحِدَة هي:
"تَلمِذُوا." ثُمَّ هُناكَ أربَعةُ أجزاءٍ للمأمُوريَّة، وهي: الذهاب،
التبشير، التعميد، والتعليم.

 

وهذا
ما يحدُثُ بالتحديد في سفرِ الأعمال. فكانَ الرسُلُ حيثُما كانُوا يذهَبُون
يُتلمذُونَ أشخاصاً ليسوع، ويُعمِّدونَ، ويُعلِّمُون. ولكنَّ المأمُوريّة والهدف
المركزي المُعطى للكَنيسة هو المأمُوريَّة العُظمى. قالَ أحدُهُم أنَّ
المأمُوريَّةَ العُظمى هي بمثابَة شُرعَة الكنيسة أو دُستُورها أو هدَفُها
المَكتُوب. وكَكُلِّ مُؤسَّسَةٍ أُخرى، يتحتَّمُ على الكنيسةِ أن تُتَمِّمَ
بُنُودَ شُرعَتِها وإلا زالَت من الوُجود.

 

الوَعدُ
المُعطَى للكَنيسة

 في
الأعداد الأُولى من سفرِ الأعمال، يُخبِرُنا لُوقا أنَّ يسوعَ أعطى وصاياهُ
للرُّسُل قبلَ صُعودِهِ إلى السماء. فبِالإضافَةِ إلى المأمُوريَّة العُظمى، أوصى
يسوعُ تلاميذَهُ أن ينتَظِروا. "إنتَظِرُوا موعِدَ الآبِ الذي سَمِعتُمُوهُ
منِّي." (أعمال 1: 4، 5). فلقد سبقَ ووعدَ يسُوعُ تلاميذَهُ في العُلِّيَّة
بأنَّهُ سيُرسِلُ لهُم الرُّوحَ القدُس. فهُوَ الآن يأمُرُهُم بشكلٍ أساسِيّ بأن
لا يأخُذُوا الخُطوَةَ الأُولى بِإطاعَةِ مأمُوريَّتِهِ العُظمَى، قبلَ أن
يتحقَّقَ هذا الوعد.

 

 يتكلَّمُ
الكتابُ المقدَّسُ كَثيراً عن إنتِظارِ الرب. ألقَى إشعياءُ إحدَى أفضَلِ عِظاتِهِ
حولَ موضُوع الإنتِظار: "وأمَّا مُنتَظِروا الربِّ فيُجدِّدونَ قُوَّةً.
يرفَعُونَ أجنِحَةً كالنُّسُور. يركُضُونَ ولا يتعبُونَ يمشُونَ ولا
يُعيُون." (إشعياء 40: 31).

 

 عندما
طلبَ الربُّ من شعبِهِ في إشعياء 40 أن ينتَظِروا كما تنتَظِرُ النُّسُور، وأن
يرفَعوا أجنِحَةً كما ترفَعُ النُّسُور، كانَ يُشارِكُ معهُم ومعنا حقيقَةً
ثمينَةً عنِ الإيمان. فهُناكَ أوقاتٌ لا تطيرُ فيها النُّسور. إذ يقِفُ النسرُ على
طرفِ عُشِّهِ أحياناً لِساعاتٍ طِوال قبلَ أن يطير، إلى أن تهُبَّ الرياحُ
المُناسِبَة. فعندما يُلاحِظُ النسرُ أنَّ الريحَ قويَّةٌ بما فيهِ الكِفاية،
يقفِزُ النسرُ حوالي خمسة أمتار من عُشِّهِ، ويفرِدُ جناحَيهِ لتحمِلَهُ الرياحُ،
فيُحلِّقُ كطائِرَةٍ في الأُفُق فوقَ العواصِفِ والرياح.

 

على
ضوءَ هذه الحقائق، أنظُروا إلى الوصيَّة المُعطاة للكنيسة في أعمال 1 التي تنتظِر
تحقيقَ الوعد. تصوَّروا الكنيسةَ وكأنَّها نَسرٌ يجلِسُ على طرفِ عُشِّهِ،
منتَظِرَةً هُبُوبَ رِياحِ الروحِ القُدُس يومَ الخمسين. عندما تقرأونَ الإصحاحَ
الثاني من هذا السفر، تصوَّرُوا النسرَ يَقفِزُ من عُشِّهِ، واثِقاً بالرِّياح
لتُعطيه الديناميكيَّةَ الدافِعة ليُحلِّقَ فوقَ هذه الرياح المُضادَّة.

 

القُوَّة
المُعطاة للكنِيسة

 يَصِفُ
الإصحاحُ الثاني من سفرِ الأعمال حُلولَ الرُّوحِ القدُس يومَ الخمسين. فيومُ
العَنصَرَة هو أحدُ أهمِّ الأحداث في تاريخِ شعبِ الله، لأنَّ الكنيسةَ بِبَساطَةٍ
لا تستطيعُ أن تُحقِّقَ الهدَف المَرجُوَّ منها، إن لم تحُلَّ عليها قُوَّةُ
الرُّوح القُدُس. وهذا يَصدُقُ على الصعيد الفَردِيّ أيضاً. فعندَما نُحاوِلُ أن
نُتلمِذَ شخصاً ليَسُوع المسيح، بدونِ قُوَّةِ الرُّوحِ القُدُس نكُونُ نُحاوِلُ
عملَ المُستَحيل.

 

الأداءُ
المُقدَّمُ مِنَ الكنيسة

 قد
تذكُرونَ أنَّ تشديدَ تعاليم يسوع في الموعِظَة على الجبل لم يكُنْ الوظيفَة أو
المركَز، بل الأداء والإنجاز (متى 5- 7). فبالنسبَةِ ليسُوع، الأمرُ المُهِمُّ
ليسَ ما نَقُولُهُ، بل ما نعمَلُهُ. لقد شدَّدَ على هذه القِيمة خِلالَ تعليمِهِ
للرُّسُل. لهذا، علينا أن لا نتفاجَأَ عندما نقرَأُ أنَّ عالم القرن الأوَّل
أُدهِشَ بأداءِ الكنيسة.

 

 هُناكَ
عدَّةُ أُمورٍ جديرةٌ بالإعتِبار في مُلاحظةِ أَداءِ الكنيسة. أوَّلُ هذه الأُمور
الجديرة بالإعتِبار هو وعظ الرُّسُل. هُناكَ الكَثيرُ من الوعظِ العظيمِ في سفرِ
الأعمال، ويبدأُ هذا الوعظِ يومَ الخمسين. النتيجَةُ الأكثرُ أهمِّيَّةً ليوم
الخمسين كانت صيرورةُ ثلاثة آلاف نفس تلاميذَ ليسوع في يومِ الخمسين. ففي كُلِّ
مرَّةٍ وعظَ فيها بطرُس بعدَ يوم الخمسين، تجدَّدَ الآلافُ من الناس وتجنَّدُوا
ليُصبِحُوا تلاميذَ ليسوع المسيح.

 

 لقد
كانَ وعظُ الرُّسُل في سفرِ الأعمال وعظاً مَمسوحاً. وأنا أقصدُ بهذا أنَّ روحَ
اللهِ القُدُّوس كانَ يحِلُّ عليهِم عندما كانُوا يَعِظُون. هذا ما يُسمَّى
بالمسحةِ في الكتابِ المقدَّس، الذي يعني مسحة الروح القُدُس التي تمنَحُ القُوَّة
للذي يقومُ بالخدمة، الأمرُ الذي صارَ يُعرَفُ بمواهِبِ الرُّوحِ القُدُس.

 

 لاحِظ
بعِنايَة سِجِلَّ مواعِظِ بُطرُس في سفرِ الأعمال. لن تجدَ فيهِ أيَّ شيءٍ
مُمَيَّزاً. فلماذا تجدَّدَ الآلافُ في كُلِّ مرَّةٍ وعظَ فيها بطرُس؟ لأنَّ بطرُس
كانَ ممسوحاً ومُؤيَّداً بالروحِ القُدُس الذي كان يحلُّ عليهِ عندما كانَ يُلقِي
هذه العِظات. لقدِ إتُّهِمَ تلاميذُ يسُوع بأنَّهُم ملأُوا كُلَّ أُورشَليمَ
بِتَعلِيمِهِم (أعمال 5: 28). فهل نحنُ الذين نتبَعُ المسيحَ اليوم مُتَّهَمُونَ
بِهذا، وهل هُناكَ ما يكفي من الأدلَّةِ لإلقاءِ هذا الإتِّهام علينا؟

 

فما
هي الكنيسةُ إذاً؟

 بينما
تدرُسُ سفرَ الأعمال، لاحظْ أنَّكَ سوفَ تتعرَّفُ على حوالي الخمسينَ شخصيَّةً في
هذا السفر التاريخي عن كنيسةِ العهدِ الجديد. إنَّ كلمة "كنيسة" هي
باليونانية "إكليسيا" الذي يعني "جماعة" أو "مَدعُوُّونَ
إلى خارِج،" أي أشخاص مدعُوُّون إلى خارِجِ هذا العالم ليتبَعوا المسيح
المُقام ويتمتَّعُوا بالشرِكَة معَهُ ومعَ بعضِهم البعض. فبالمعنى الدقيق للكلمة،
تعني كَلِمة "كنيسة": "أشخاص أو أُناس."

 

 خلالَ
قراءَتِكَ لسفرِ الأعمال للمرَّةِ الأولى، حاوِلْ أن تتآلَفَ معَ خمسينَ شخصاً على
الأقل، بالإضافَةِ إلى بطرُس وبُولُس. إنَّ سفرَ الأعمال يتكلَّمُ بمُجمَلِهِ عن
أُناسٍ إعتِيادِيِّين كانُوا يعمَلونَ أُموراً غير إعتِيادِيَّة، بسبب كَونِهم
مملوئينَ من قُوَّةِ رُوحِ الله. إن هذا الإله نفسَهُ وهذه القُوَّة نفسَها
مُتَوفِّرَةٌ لنا اليوم لنعمَلَ عملَ الله (متى 28: 18- 20).

 

عندما
تخدُمُ الرَّبَّ اليوم، هل تدخُلُ إلى حضرَةِ اللهِ قبلَ أن تخرُجَ وتذهَبَ من
أجلِه؟ وهل تنتَظِرُ في حضرَتِهِ لتأتيَ عليكَ مسحَةُ قُوَّةِ الرُّوحِ القدُس، أم
أنَّكَ تذهَبُ ببساطَةٍ وتُحاوِلُ أن تعمَلَ عملَ الله بقُوَّتِكَ؟ إحدى رسائِل
سفر الأعمال هي أنَّنا بدونِ عونِ الله لن نستطيعَ أن نُكمِّلَ عملَ الله. فعلينا
إذاً أن ننتَظِرَ نوالَ قُوَّةِ الروحِ القدُس قبلَ أن نُحاوِلَ أن نعمَلَ عملَ
المسيحِ الحيِّ المُقام.

 

الفصلُ
الثاني "البصَمات المنظُورة للكنيسة غير المنظُورَة"

 يبدَأُ
الإصحاح الثاني من سفرِ الأعمال بِوصفِ يومِ الخمسين، الذي شَهِدَ ولادَة الكنيسة
(أعمال 2: 1- 18). فعندما نقتَرِبُ من هذا الإصحاح، من المُهِمِّ أن نُدرِكَ قبلَ
كُلِّ شيء أنَّ هذا الحدَثَ العظيم حَدَثَ في يومِ عيدٍ ديني مُقدَّس، هُوَ يومُ
الخمسين أو العنصَرة. لقد كانَ هذا اليومُ عيداً يهوديَّاً، كانُوا يحتَفِلونَ بهِ
بعدَ الحصاد بيومِ الشُّكر. هُناكَ الكثير من المعنَى والرمز في كونِ هذا الحدَث
الجميل والهام قد حدَثَ في يومِ تذكارِ الحصاد، لأنَّ حصاداً رُوحيَّاً عظيماً
كانَ سيبدَأُ آنذاك. ففي يومِ الخمسين، بدأَ المسيحُ الحَيُّ المُقامُ بِبِناءِ
الكنيسة، التي ستُبشِّرُ العالمَ معَهُ وبِه.

 

 لقد
أصبَحَ هذا مُمكِناً لأنَّ الرُّوحَ القُدُس حلَّ بقُوَّةٍ في ذلكَ اليوم. وكانت
هُناكَ آياتٌ وعجائِبُ أُخرى رافَقت حُلولَ قُوَّة يوم الخمسين. كانَ هُناكَ صوتٌ،
ضَجَّةٌ كريحٍ عاصِفَة. ثُمَّ ظهرت ألسِنَةٌ كأنَّها من نَار واستقرَّت على رُؤوسِ
الأشخاص الذين كانُوا "يتنبَّأُون". ثُمَّ أخذَ هؤلاء الأشخاص أنفُسُهُم
يتكلَّمونَ بِلُغاتٍ أُخرى.

 

 هُنا
نجِدُ سُؤالاً وجواباً يُساعِدانِنا على التركيزِ على معنى هذا الإصحاح. كانَ
السؤال، "ماذا يعني هذا؟" ولقد أجابَ عنهُ بطرُس في عظتِهِ بالقول،
"هذا ما قيلَ بيُوئيل النبي." إن ما تنبَّأَ بهِ يُوئيلُ كانَ أنَّهُ في
آخرِ الأيَّام سوفَ يسكُبُ اللهُ روحَهُ على أبنائِهِ وبناتِهِ وسوفَ يتنبَّأُون
(يُوئيل 2: 28، 29).

 

 يومَ
الخَمسين، الرِّسالَةُ التي جاءَت من خِلالِ هذه الألسِنة سُمِّيَت بالنُّبُوَّة،
أو بِرسالَةٍ من الله، وُجِّهَت إلى آذانِ الناس.

 

 كتبَ
بُولُس عن مُعجِزَةٍ وصفَها بأنَّها "مَوهِبَةُ الألسِنَة." ولقد قالَ
بِوُضُوح أنَّ موهِبَةَ الألسنة التي يصفُِها لنا مُختَلِفَةٌ كثيراً عن الألسِنَة
التي نُطِقَ بها يومَ الخمسين. يقولُ بُولُس الرسول، "لأنَّ من يتكلَّمُ
بِلِسان لا يُكلِّمُ نفسَهُ بلِ الله لأن ليسَ أحَدٌ يسمَع. ولكنَّهُ بالروحِ
يتكلَّمُ بأسرار." (1كُورنثُوس 14: 2).

 

عندما
يُمارِسُ مُؤمِنٌ موهِبةَ التكلُّمِ بألسِنَةٍ، لا تكُونُ رسالتُهُ مُوجَّهَةً
لآذانِ الناس. بل هُوَ يُكلِّمُ الله. إنَّهُ لا يُكلِّمُ الناس كما فعلَ
المُتكلِّمُونَ يومَ الخمسين، بَل يُكلِّمُ الله. ولكنَّ الألسِنَةَ يومَ الخمسين
أدَّت نُبُوَّةً أو رسالةً من الله للإنسان. إنَّ تلكَ الألسِنة كانت إحدى
العلامات والآيات الكثيرة التي رافَقَت مَجيءَ الرُّوحِ القُدُس يومَ الخمسين.

 

 هُناكَ
أكثَرُ من يومِ خمسين واحد مذكُورٌ في سفرِ الأعمال. أوَّلاً، هُناكَ يوم الخمسين
في أُورشليم. ثُمَّ عندما ذهبَ الرُّسُلُ إلى السامِرة، وبعضَ المرَّات عندما
إجتازُوا الحُدود إلى العالم الأُمَمِي غير اليهُودي، إختَبَرُوا يومَ خمسين آخر.
لاحِظْ أنَّهُ في كُلِّ مرَّةٍ حدَثَ فيها يومُ خمسين، كانت لهُ علاقَةٌ بالهدَف
المُعطَى للكنيسة في المأمُوريَّةِ العُظمَى: "ولكنَّكُم ستنالُونَ قُوَّةً
متَى حلَّ الرُّوحُ القُدُسُ عليكُم؛ وتكُونُونَ لي شُهُوداً في أُورُشليم
واليهُوديَّة والسامِرَة وإلى أقصَى الأرض." (أعمال 1: 18)

 

"بَصَمَاتٌ"

 هُناكَ
أمرٌ آخر عليكَ أن تُلاحِظَهُ عندما تقرأُ سفرَ الأعمال. لاحظ النماذِج الذي
ظهَرَت في الجيلِ الأوَّلِ للكنيسة. لاحظْ أوَّلاً نموذَجَ الكنيسة نفسها. قد
تُسمِّي هذا النموذَج، "البصمات المنظُورة للكنيسة غير المنظُورَة."
يتكلَّمُ اللاهُوتِيُّونَ عن الكنيسةِ المنظورَة والكنيسةِ غير المنظُورة، أو عن
الكنيسة العالمية الشامِلة والكنيسة المحليَّة. إنَّ شَرِكَة المُؤمنين التي أنتَ
جزءٌ منها في مُجتَمَعِكَ، هي التعبير المَحَلِّي المَنظُور عن الكنيسة الشامِلة
غير المنظُورة التي يبنيها المسيحُ القائم من الأموات في هذا العالم.

 

 ولكن
كيفَ نعرِفُ أنَّ الكنيسة التي نحنُ جزءٌ منها، أي كنيستُنا المحلِّيَّة، هي
تعبِيرٌ منظُورٌ عن الكنيسة الكونيَّة غير المنظُورة؟ تماماً كما أنَّ بصماتِنا
بإمكانِها أن تُحدِّدَ أينَ كُنَّا وماذا لمَسنا، فإنَّ الكنيسةَ يُمكِنُ أن
يُحدَّدَ مفهُومُها من خِلالِ "البَصَمات". فتِّشْ عن هذه البصمات بينما
تدرُسُ كنيسةَ الجيل الأوَّل. لقد كانت للكنيسةِ في سفرِ الأعمال
"بَصَماتٌ" – أي تعابير منظُورة عن الكنيسة الحقيقيَّة الشامِلة غَير
المَنظُورة.

 

"التبشير"
كان بَصمَةَ "إبهام" الكنيسة التي وُلِدَت يومَ الخَمسين. لقد فَهِمَ الرُّسُل
أنَّهُ كانَ عليهِم أن يذهبُوا إلى العالم كمُرسَلين وكَمُبشِّرين. ولقد تجدَّدَ
ثلاثَةُ آلاف نفس يومَ الخمسين وحدَهُ، وآلافٌ أُخرى تبِعتهُم في التجديد لاحِقاً،
عندما كرزَ الرُّسُلُ بالإنجيل.

 

 "التعليمُ"
كانَ بَصمَةَ "سُبابَة" الكنيسة. نقرَأُ أنَّ المُؤمِنينَ الجُدُد
ثابَرُوا على التعليمِ والشَّرِكة وكسر الخُبزِ والصلوات معَ الرُّسُل (أعمال 2:
42).

 

البصمَةُ
المنظُورة للإصبعِ الوَسَطِي للكنيسة غير المنظُورة كانَ "الشرِكَة."
لقد آمنَ الرُّسُلُ أنَّ الشعبَ الذي كانُوا يُعلِّمُونَهُ ينبَغي أن يتفاعَلَ معَهُم.
إن الكلمةَ اليونانية للشركة هي
Koinonia. وتعني هذه الكلمة أن يُوجدَ إثنانِ في شراكَةٍ وثيقَة مَبنِيَّة
على عهدِ إلتِزام. إنَّ العهدَ والإلتِزام اللذين إمتازَ بِهما الجيلُ الأوَّلُ من
المُؤمنين كانا أوَّلاً تِجاهَ المسيح الحَي القائِم من الأموات، وبعدَ ذلكَ تجاهَ
بَعضِهم البَعض.

 

فمن
أينَ أتى الرُّسُلُ بهذهِ الفِكرة أنَّهُ ينبَغي أن تكُونَ هُناكَ شَرِكَةٌ بينَ
الذين يتعلَّمُونَ وبينَ الذين يُعلِّمُونَهُم؟ لربَّما تتذكَّر من دِراستِنا
لإنجيلِ يُوحنَّا، عندما إقتَرَبَ بعضُهم من يسوع وسألاهُ أينَ يمكُث (يُوحنَّا 1:
37- 39). فأجابَ يسُوعُ بدَعوَتِهم بالقَول، "تعاليا وانظُرا أينَ
أمكُث." ونقرَأُ أنَّ تِلميذَي يُوحنَّا المعمدان هذين مالا ونظرا حيثُ كانَ
يمكُثُ، ومكثا معهُ، وعاشا وماتا من أجلِهِ بسبب ما شاهداهُ عندما إلتَزما
بالمجيءِ والنظَرِ كيفَ وأينَ يمكُث. لقد عاشا معهُ ثلاثَ سنين. لهذا علينا أن لا
نتفاجَأَ عندما نقرَأُ أنَّ الناسَ الذين تجدَّدُوا يومَ الخمسين كانَ لديهم
ميزَةٌ خاصَّةٌ من الشركة معَ الذين تلمذُوهم للمسيح.

 

 ثُمَّ
البصمَةُ المنظُورة لإصبَعِ "الخنصَر" كانَ "العِبادَة." لقد
واظَبَ المُؤمِنُونَ الجُدُد على "كسر الخُبز" مع الرُّسُل (أعمال 2:
42). كانَ هذا يعني مائدة العشاء الرُّبَّاني. عندما أسَّسَ يسُوعُ ما نُسمِّيهِ
"العَشاء الرُّبَّاني"، وعلَّمَ تلاميذَهُ أن يشتَرِكُوا بهذه المائِدة
حتَّى رُجُوعِه (1كُورنثُوس 11: 26)، كانَ يُعطي الرُّسُل تعليمَهُ الوَحيد عن
كيفيَّة العِبادة التي أرادَ أن تُمارِسَها كنيستُهُ (لُوقا 22: 14- 19). فعِندما
كانَ يتجمَّعُ التلاميذُ الأوائِلُ معاً، كانُوا يعبُدُونَ بحفظِهِم لِمائِدَةِ
الرَّبّ.

 

 ونقرأُ
أيضاً أنَّهُم واظَبُوا معَ الرُّسُل على "الصلاة"، والتي تُشكِّلُ البَصمَةَ
المنظُورة "للخِنصَر" أو الإصبَع الصغير للكنيسةِ غَير المَنظُورة. فبما
أنَّنا لا نستطيعُ أن نعمَلَ عملَ المسيح المُقام إلا إذا ثَبَتنا فيهِ، فإذاً
علينا أن نُصلِّيَ باستمرار طالِبينَ إستِمدادَ القُوَّة من الكَرمةِ الرُّوحيَّة
للمسيح الحي القائم من الموت (يُوحنَّا 15: 1- 16). لقد علَّمَ يسُوعُ الرُّسُلَ
أن يطلُبُوا بإستِمرار، وبِمُثابَرة، وأن يقرَعُوا، لأنَّ كُلَّ من يطلُبْ يأخُذْ
ويَجِد ويُفتَحْ لهُ البابُ، ويُعطيهِ اللهُ الآبُ الرُّوحَ القُدُس (لُوقا 11: 9-
13؛ متَّى 7: 7-11).

 

"أينَ
هُوَ؟"

 يبدَأُ
العهدُ الجديدُ معَ أشخاصٍ يطرَحُونَ السؤال، "أينَ هُوَ؟" (متَّى 2:
2). لقد أخبَرَنا يسُوعُ أنَّهُ كانَ سيبني كنيستَهُ وقُوَّاتُ الجحيم لن تمنَعَهُ
من بُنيانِ كنيستِهِ (متَّى 16: 18). ولقد كتبَ يُوحنَّا رُؤيا خارقة للطبيعة عن
المسيح الحي القائم من المَوت، والذي يتمشَّى بينَ كنائِسهِ (رُؤيا 1: 13- 2: 1).
إنَّ هذا الرُّؤيا تُجيبُ على سُؤالِ المَجُوس: إنَّهُ "في وسطِ"
الكنائِس. هذا هُو مكانُ وُجُودِهِ، وهذا ما يعمَلُهُ اليوم. لقد بدَأَ عملَهُ
العجائِبي في سِفرِ الأعمال، ولا يزالُ يُتابِعُ هذا العمل اليوم.

 

 كيفَ
بإمكانِنا أن نقيسَ صِحَّةَ كنائِسنا المحليَّة اليوم، أو أن نكتَشِفَ علامات
الحياة فيها؟ أوَّلاً، علينا أن نبحَثَ عن براهين هذه البَصمات. عندما نرى هذه
البصمات في كنائِسنا، على سُلَّمٍ من واحد إلى عشرة، علينا أن نضعَ علامات
كنيستِنا على أساس الخَدَمَات التالية: التبشير، التعليم، الشركة، العِبادة،
والصلاة، وعندها نرى كيفَ تُشبِهُ كنيستُنا كنيسةَ الجيلِ الأوَّل التي نجدُها في
سفرِ أعمالِ الرُّسُل.

 

 عندها
ستكُونُ لدينا طريقَةٌ نقيسُ بها درجةَ إستطاعَتِنا القول عن كنيستِنا أنَّها
تعبيرٌ منظُور عن كنيسة المسيح الحي المُقام، التي يبنِيها في هذا العالم اليوم.

 

الفصلُ
الثالِث "النماذِج المَنظُورة للكنيسة غَير المَنظُورَة"

مُباشَرةً
بعدَ وِلادَتِها تقريباً، واجَهتِ كَنيسةُ العهدِ الجديد تهديداتٍ وتَحدِّيات.
فبينما نُلاحِظُ كيفَ تعامَلَ قادَةُ الكنيسة معَ هذه المشاكِل – إضطِّهادٌ من
الخارِج ومشاكِل من الداخِل – بدأت بعضُ النماذِج بالظُّهُور. هذه النماذِج هي
بعضٌ من هذه الأمثِلة والتحذيرات التي أخبَرنا بُولُس أنَّ المقصُودَ منها أن
تُعلِّمَنا وتُحذِّرَنا اليوم عندما نقرَأُ هذا التاريخ الكِتابِيّ (1كُورنثُوس
10: 11).

 

أيمثلاً،
لاحِظُوا نموذج العطاء الذي تأسَّسَ في زمنٍ مُبَكِّرٍِ في تاريخِ الكنيسة. نقرَأُ
أنَّ أُولئكَ الذين كانُوا يملِكُون مُمتَلكات، كانُوا يبيعونَها ويأتُونَ
بأثمانِها ويُعطُونَها للرُّسُل، لكي يتمَّ التوزيعُ بحَسَبِ حاجَةِ المُؤمِنين.
لقد أعطَوا أكثَر من العُشر أو من التقدِمة، أو حتَّى من التضحِيَة؛ لقد أعطُوا
كُلَّ ما كانَ لهُم.

 

 لاحِظُوا
أيضاً نموذَج العِصيان المَدَني المُثير للإهتِمام. قالَ يسُوع، "أعطُوا ما
لِقَيصَر لِقَيصَر، وما للهِ لله." (متَّى 22: 21) فاللهُ لن يُطالِبَ بما
هُوَ لقَيصَر، ولكن هُناكَ أوقاتٌ يُطالِبُ فيها قيصَرُ بما هُوَ لله. وعندما
يُطالِبُ قيصَر بما هُوَ لله، يُعلِّمُنا هذا المثلُ التعليمي الذي أعطاهُ يسُوعُ
في العهدِ الجديد أنَّهُ لا ينبَغي أن نُعطِيَ لقَيصَر ما هُوَ لله.

 

 لقد
أُمِرَ التلاميذُ من قِبَلِ يسوع بأن يُبشِّروا ويُعلِّمُوا بإسمِ وبإنجيلِ يسوع
المسيح. ولكن أمرتهُم السُّلطاتُ المشروعة، دينيَّةً ومدنيَّة، بأن لا يأتُوا على
ذكرِ إسمِ المسيح ثانيةً (أعمال 4: 18). أوَّل مرَّة حدَثَ فيها هذا الأمر، أجابَ
الرُّسُل هذه السُّلطات بما معناهُ أنَّهُم كعِلمانِيِّين بُسطاء، لم يكُونُوا
مُؤهِّلِينَ لِيحكُمُوا ما إذا كانَ يحِقُّ أن يسمَعُوا للهِ أم لقادَتِهم. ثُمَّ
عقَدُوا إجتِماعَ صلاة. وفي المرَّةِ الثانِيَة التي منعتهُم فيها السُّلطاتُ من
الكرازَةِ بإسمِ وبإنجيلِ المسيح، أجابُوا مُبَاشَرَةً، "ينبَغي أن يُطاعَ
اللهُ أكثَر من الناس" (أعمال 5: 29). هذا هُوَ ما يُسمَّى بالعِصيانِ
المَدَني.

 

 هُناكَ
وقتٌ يتوجَّبُ فيهِ على المسيحيِّين الذين يُريدُونَ أن يكُونُوا مُخلِصينَ
لدعوتِهم كأتباع للمسيح، أن يُعانُوا من عواقِب طاعة المسيح والله، بدل طاعة
الناس. فعبرَ عدَّةِ قُرون وفي شتَّى أنحاءِ العالمِ اليوم، يُعانِي المُؤمنُونَ
من هذه العواقِب الوَخيمة. إنَّ عددَ المُؤمنين الذين ماتُوا من أجلِ إيمانِهم
منذُ عام 1940 وحتَّى نِهايَة الحرب العالميَّة الثانِية، هُوَ أكثَر من باقي
المُؤمنين الذي ماتُوا من أجلِ إيمانِهم في تاريخِ الكنيسة.

 

 نجدُ
أيضاً نموذَج التأديب الكنسيّ يظهَرُ في الكنيسة. كانَ هُناكَ رجُلٌ إسمُهُ
حنانيَّا وامرأتُهُ سفيرة، اللذانِ باعا حقلاً. ولقد كذبا على الرُّسُل حولَ
المبلَغ الذي باعا بهِ الحقل. في هذه القصَّة، يُرينا بطرُس موهبتَهُ الروحيَّة في
التمييز. سألَ بُطرُس حَنانِيَّا، "لماذا كذبتَ على الروحِ القُدُس؟ أنتَ لم
تكذِب على إنسان. بل كذبتَ على الله." (أعمال 5: 3، 4). وعندما تواجَهَ كُلٌّ
من حنانِيَّا وسَفيرَة معَ خطِيَّتِهما على حِدَة، سقطا كِلاهُما مَيِّتَين.

 

 لقد
حافَظَ هذا التأديبُ الكَنَسيُّ القاسي على نقاوَةِ الكنيسة، ووضعَ خوفَ اللهِ
المَهُوب في التلاميذ. ولقد عرفَ الناسُ غيرُ المُتَدَيِّنين في أُورشَليم أنَّ
إتِّخاذَ قرار إتِّباع المسيح وصيرورة الإنسان عُضواً في الكنيسة كانَ أمراً في
غايَةِ الجَدِّيَّة (5: 11- 13).

 

 في
أعمال 6، ترونَ نموذجاً آخر مُهِمَّاً ينبَغي تطبيقُهُ على الكنيسة عندما تنمُو.
ولقد كانت الكنيسةُ تنمُو بسُرعَة، معَ كثيرينَ يعيشُونَ معاً في ترتيبٍ جَماعِيّ.
وعندما يعيشُ آلافُ الناسِ معاً، والذين يجِب أن يتمَّ إطعامُهم بضعَ مرَّاتٍ في
اليوم، ينبَغي أن يتوفَّرَ لهُم نِظامُ تَغذِيَةٍ مُعيَّن (أعمال 6: 1). فوجدَ
التلاميذُ أنفُسَهُم مُضطَّرِّينَ إلى تنظِيمِ هذا البرنامج، لأنَّ الإهتمامَ بهِ
كانَ يُشتِّتُ إنتِباهَهُم عن خدمتِهم لكلمةِ الله. فدعا الرُّسُلُ جُمهُورَ
المُؤمنينَ إلى إجتِماعٍ وقالُوا لهُم: "لا يُرضي أن نترُكَ نحنُ كَلِمَةَ
اللهِ ونخدُمَ موائِدَ. فانتَخِبُوا أيُّها الإخوة سبعَةَ رجالٍ منكُم مَشهُوداً
لهُم ومملُوِّينَ من الرُّوحِ القُدُس وحكمة فنُقِيمَهُم على هذه الحاجة. وأمَّا
نحنُ فنُواظِبُ على الصلاةِ وخدمَةِ الكلمة." (6: 2- 4).

هل تبحث عن  الكتاب المقدس يسوعية كاثوليكية عهد قديم سفر المكابيين الأول 08

 

 وعندما
تمَّ هذا الأمر، كلَّفُوا أولئكَ الذين تمَّ إختِيارُهم ليُشرِفُوا على هذا
الخدمة، وأمَّا الرُّسُل فتفرَّغُوا كُلِّيَّاً للصلاةِ ولِخِدمَةِ كَلِمَةِ الله.
ولقد بارَكَ اللهُ هذا القرار جداً، وأدَّى إلى إنتِشارٍ حيويٍّ للإنجيل في
مدينَةِ أُورشَليم. هُنا نجدُ الأساس لم تُسمِّيهِ الكثيرُ من الكنائس اليوم
بالشمامِسة. ولقد كانت مسؤُوليَّةُ الشمامِسة أن يُشرِفُوا على إدارَةِ أعمالِ
الكنيسة، لكي ينصَرِفَ الأشخاصُ ذَوي المواهِب الروحيَّة ويتفرَّغُوا بحُرِّيَّة
للخدمةِ الرعويَّة.

 

 لقد
كانت هذه السابَقة التي وضعتها الكنيسةُ بهذه المُناسَبة، أساساً لمبدأ كون كُلّ
تلميذ لهُ مكانٌ خاصٌّ في جسدِ المسيح. فجميعُ الذينَ أخذُوا مسحَةَ الرُّوحِ
القُدُس لدَيهِم مواهِب رُوحيَّة. بعضُ هذه المواهِب رعويَّة، وبعضُها مواهِبُ
روحيَّة عمليَّة.

 

 إنَّ
المواهِبَ العمليَّة، والتي يَصِفُها العهدُ الجديدُ بالقول: "أعواناً، أو
تدابير، أو نُظَّاراً،" هي مواهِبُ رُوحيَّة بمِقدارِ روحانِيَّة مواهِب
الشخص الذي يعِظُ، يُعلِّمُ، ويُبشِّرُ. ولكنَّ كُلَّ تلميذٍ عليهِ أن يقِفَ في
مكانهِ، وأن يُمارِسَ مواهِبَتهُ التي أعطاهُ إيَّاها الله. إنَّ الكنيسةَ التي
تقبَلُ وتُطبِّقُ هذا النموذَج سوفَ تتبارَكُ وسوفَ تنمُو.

 

 هل
إكتَشَفتَ نمُوذَجَ موهِبَتِكَ الرُّوحيَّة؟ إن كُنتَ قد فعَلتَ، كرِّسْ نفسَكَ
كُلِّيَّاً للخدماتِ التي تُؤهِّلُكَ مواهِبُكَ الرُّوحيَّة لتَعمَلَها من أجلِ
الرَّبّ. إنَّ هذا النمُوذج قد يُجنِّدُ تلاميذَ يُبَرهِنُونَ عن جدارتِهم في
الخدمةِ العمليَّة، ومن ثمَّ يجتازُونَ إلى الخدمةِ الرُّوحيَّة. إنَّ الشهيد
إستفانُوس والمُبَشِّر فيلبُّس هُما مَثَلانِ عن هذا الإنتِقال في النمُوذَج من
حيثُ إنطَلَقا بأمانَة كشمامِسة، ومن ثمَّ أصبَحا مُبَشِّرَين.

 

 نموذَجٌ
آخر يظهَرُ من سفرِ الأعمال هو الإستشهاد. هُناكَ قولٌ مأثُورٌ لمُؤرِّخي الكنيسة
يقُول: "دماءُ الشُّهداء بِذارُ نُمُوِّ الكنيسة." لقد إستشهَدَ
إستفانُوس من أجلِ عظةٍ (أعمال 7: 54- 60). عندما ماتَ إستفانُوس من أجلِ
إيمانِهُ، كانَ شاوُل الطرسوسي يحمِلُ أثوابَ الذين كانُوا يرجُمونَهُ. وهكذا
فإنَّ تجدُّدَ شاوُل، لربَّما نتجَ عن تأثيرِ إستشهادِ إستفانُوس عليه. هذا ما
قصدَهُ القول "لأنَّ دماءَ القدِّيسين هو بِذارُ الكَنيسة."

 

 نموذَجُ
آخر جميل نستطيعُ أن نجدَهُ في سفرِ الأعمال، هو نموذَج الشِّفاء. هُناكَ تشديدٌ
كبيرٌ على الشفاءِ في سفرِ الأعمال الذي كتبَهُ لُوقا، تماماً كما كانَت الحالُ في
إنجيلِهِ. فبالنسبَةِ للُوقا، إنَّ المسيحَ الحيَّ المُقام يعمَلُ من خِلالِ
الرُّسُل ليُكمِّلَ خدمةَ الشِّفاء.

 

 إلتَقى
بطرُس ويُوحنَّا بِرَجُلٍ جالِسٍ على باب الهَيكَل. كانَ هذا الرجُل مُقعَداً،
وكانَ في الأربَعين من عُمره. وكان طوالَ حياتِهِ يحمِلُهُ أحدٌ ويضعُهُ على بابِ
الهيكل حيثُ يجلِسُ ليستعطي حامِلاً كأساً لجمعِ المال. وبينما كان بطرُس
ويُوحنَّا صاعِدينِ إلى الهَيكَل، إلتَفتَ إليهِ بطرُس وكأنَّهُ كانَ سيُلقِي
شيئاً في كأسِِهِ، فركَّزَ الرجُلُ إنتِباهَهُ على بطرُس. فقالَ لهُ بطرُس عندها،
"ليسَ لي فضَّةٌ ولا ذهَب. ولكن الذي لي فإيَّاهُ أُعطيك. بإسمِ يسوع المسيح
الناصِري قُمْ وامشِ!" (أعمال 3: 6).

 

 نقرأُ
أنَّ هذا الرجُل لم يقُمْ فقط ويمشِ، بل دخلَ إلى الهيكَل وراحَ يقفِزُ من الفرح
ويُمجِّدُ الله. قالَ أحدُ القادة الكَنَسيِّين المُتَكَبِّرين مُؤخَّراً، أنَّ
الكنيسةَ لم يعُدْ بِوُسعِها القول، "ليسَ لي فِضَّةٌ ولا ذَهَب."
فأجابَ أحدُ خُدَّامِ الرَّبِّ الأتقِياء، "ولم يعُدْ بإمكانِ الكنيسةِ أن
تقولَ اليوم، "بإسمِ يسُوع الناصِري قُم وامشِ!"

 

 إنَّ
هذا الشفاء، مثل شفاء يسوع للرجُل عندَ بركة بيتِ حِسدا كما نجدُهُ موصُوفاً في
يوحنا 5، مَنَحَ الرسُلَ فُرصَةً عظيمةً للكرازَةِ بالإنجيل. لقدِ ارتَعبَ رجالُ
الدين عندما رأوا صيَّادي السمك الأُمِّيِّين هؤلاء يكرزونَ في الهيكَل. ولكن
بينما كانوا يُحاولونَ أن يُوقِفوا الرسُلَ عن التبشير، الأمرُ الوحيدُ الذي لم
يستطيعوا إنكارَهُ هو أنَّ هؤُلاء الرُّسُل قد حقَّقُوا مُعجِزَةَ الشفاء هذه.

 

 إنَّ
مَصدَرَ هذه الخدمة الشفائِيَّة هُوَ أمرٌ أساسيٌّ. إنَّهُ مَوهِبَةُ الرُّوحِ
القدُس لكنيسةِ العهدِ الجديد. لاحِظوا هذا النمُوذَج في كنيسةِ الجيلِ الأوَّل:
وحدَها القُوَّةُ المُعطاة للكنيسة هي التي تجعَلُنا نرى الإنجازات التي حقَّقتها
الكنيسةُ، والتي لا يستطيعُ العالمُ إنكارَها.

 

نمُوذَجُ
الإستِشهاد

 لقد
إنتَقَلَ إستفانُوس، الذي إنتُخِبَ كواحدٍ من الشمامِسة الأوائل، من الخدمَةِ
العمليَّة إلى الخِدمَةِ الرَّعَويَّة، وأصبَح واعِظاً عظيماً. وبينما كانَ يُلقي
عظتَهُ الرائِعة أمامَ السِّنهدريم، أي المجلِس الدينيّ القِيادي عندَ اليهود،
وعظَ إستفانُوس بوُضُوحٍ بقُوَّةِ الرُّوحِ القدُس. فالوعظُ ليسَ مُجرَّدَ تحضيرٍ
بعنايَة وإلقاءٍ بفِطنة. الوعظُ هُوَ موهِبَةٌ رُوحيَّة، وإن لم يُقدَّم معَ
مَسحَةِ الرُّوحِ القُدُس، لن يكُونَ الوعظَ المَمسُوح الذي نراهُ في هذا السفر.

 

 لقد
غطَّى إستفانُوس أسفارَ العهدِ القديم التسعة والثلاثين في عظةٍ واحدة. إنَّ هذا
الرجُل إستفانُوس كانَ لدَيهِ استيعابٌ مُنقطع النظير لكَلِمَةِ الله. بدأَ إستفانُوس
مع إبراهيم؛ وذكرَ إسحَق؛ وذكرَ يعقوب؛ وتكلَّمَ عن خدمةِ يُوسُف؛ وعن خدمةِ مُوسى
ويشوع وداوُد وسُليمان. وهكذا غطَّى التاريخَ العِبريَّ بأسرهِ وُصُولاً إلى السبي
البابِليّ.

 

 لم
يكُنْ هدَف عظة إستفانُوس تبشيريَّاً، رُغمَ أنَّها كانت عظةً مُثمِرَةً جداً كما
سنرى. كانَ هدفُ عظة إستفانُوس أن يُخبِرَ القادة الدينيِّين أنَّهُم رفضوا نعمَةَ
الله ومحبَّة الله وخلاص الله. لقد رفضوا كُلَّ شيءٍ صالِح حاولَ اللهُ أن
يمنَحَهُم إيَّاهُ. وكانت قمَّةُ رفضِهم لبركاتِ الله رفضَهُم لِرَبِّ إستفانُوس،
يسُوع المسيح المسيَّا.

 

 بينما
كانَ إستفانُوس يسرُدُ ويُراجِعُ التاريخَ العِبري أمامَ رِجالِ الدِّين، شدَّدَ
على النُّقطَةِ التالية: أنَّهُم دائماً رفضُوا خلاصَ الله. وكانَ التجاوُبُ معَ
عظَةِ إستفانُوس مُتَوقَّعاً:

 

 "فصاحُوا
بِصَوتٍ عظيمٍ وسَدُّوا آذانَهم وهَجَمُوا عليهِ بنفسٍ واحدةٍ. وأخرجُوهُ خارجَ
المدينَة ورجمُوهُ. والشُّهودُ خلعُوا ثِيابَهم عندَ رِجلَي شابٍّ يُقالُ لهُ
شاوُل."

 

"فكانُوا
يرجُمونَ إستفانُوس وهُوَ يدعُو ويقولُ أيُّها الربُّ يسوع اقبَلْ روحي. ثُمَّ
جَثا على رُكبَتَيهِ وصرخَ بصوتٍ عظيمٍ يا ربّ لا تُقِم لهُم هذه الخطيَّة. وإذ
قالَ هذا رقد."

 

 إنَّ
موتَ إستفانُوس بسببِ عِظَتِهِ، أرانا أنَّهُ كانَ مملوءاً من الرُّوحِ القدُس.
لقد شاهَدَ رُؤيا عظيمة للهِ والمسيح. وماتَ بالطريقَةِ التي أوحى لهُ ربُّهُ أن
يمُوتَ بها، مُصَلِّياً من أجلِ أعدائِهِ، طالِباً الغُفران للذين كانُوا
يقتُلونَهُ.

 

 عندَ
رَجْمِ إستفانُوس، نَلتَقي بأعظَمِ مُرسَلٍ على الإطلاق، وأعظَمِ مُؤسِّس كنائس،
وأعظمِ راعٍ، وأعظمِ مُعلِّمٍ وكاتِبٍ في تاريخِ كنيسةِ يسوع المسيح. عندما نلتَقي
بهِ، نراهُ حامِلاً ثِيابَ الذين كانُوا يرجُمونَ إستفانُوس حتَّى الموت. إنَّهُ
شاوُل الطرسُوس، الذي أصبَحَ بُولُس الرَّسُول.

 

 عندما
نتعرَّفُ إلى الرجُلِ الشاب الذي يُدعَى شاوُل الطرسُوسي، سنُدرِكُ لماذا أثَّرَت
عِظَةُ إستفانُوس ومِثالُ إستفانُوس على حياة شاوُل بشكلٍ ديناميكي. لقد كانَ
شاوُل "فرِّيسيَّاً من الفَرِّيسيِّين" وكانَ مُلتَزِماً بتعصُّبٍ
بالمُحافَظَةِ على عقائدِ الإيمان اليهوديّ المُستَقيمة. وكانَ يكرَهُ ما يُسمَّى
بالشيعَةِ الجديدة التي كانت تتهدَّدُ اليهُوديَّة.

 

 ولكن،
بالإضافَةِ إلى تأثُّرِهِ بموتِ إستفانُوس بِسببِ قَنَاعَاتِهِ، بطريقَةٍ تُشبِهُ
موتَ المسيح، فلِكَونِهِ عالِماً عظيماً بالنامُوس اليهودِيّ وبالعهدِ القديم، لا
بُدَّ أنَّ شاوُل أُعجِبَ وإقتَنعَ بالتطبيقاتِ المُختَصَرَة والمُوجَزة التي
قدَّمها إستفانُوس عن التاريخِ اليهودي في عظتِه.

 

 فهَل
أنتَ مُستَعِدٌّ أن تمُوتَ من أجلِ يسُوع المسيح كما فعلَ إستفانُوس؟ وهل لديكَ
نِعمَةُ الغُفرانِ لأعدائِكَ؟ لَرُبَّما ينبَغي أن أُوجِّهَ إليكَ هذا السؤال
الأصعب، "هل أنتَ مُستَعِدٌّ، وهل لديكَ النعمة لتعيشَ من أجلِ يسُوع
المسيح؟"

 

الفصلُ
الرابِع "كيفَ يُصنَعُ التلميذُ؟"

 كيف
يُمكِن بالتحديد صناعَةُ تلميذٍ للمسيح؟ هُناكَ قِصَّةٌ جميلةٌ في سفرِ الأعمال
تُجيبُ على هذا السؤال (أعمال 8: 26- 40). كانَ هُناكَ رجُلٌ إسمُهُ فيلبُّس،
إنتُخِبَ كواحدٍ من الشمامِسة السبعة، للمُناظَرة على أعمالِ الكنيسة. ومثل
إستفانُوس، إجتازَ فيلبُّس من الخدمة العمليَّة إلى الخدمة الرعويَّة، إذ أُعطِيَت
لهُ موهِبَةُ التبشير، الموهِبَة اللازِمة لصناعَةِ التلاميذ. لقد ذهبَ فيلبُّس
إلى السامِرة، وكانت لهُ خدمَةٌ تبشيريَّة مُثمِرَةٌ هُناك.

 

وخِلالَ
هذه الحملة التَبشِيريَّة المُثمِرَة جداً، كلَّمَ الربُّ فيلبُّس من خِلالِ ملاكٍ
قائِلاً لهُ: "أُريدُكَ أن تذهَبَ‌ إلى البرّيَّة إلى مكانٍ إسمُهُ
غزَّة." (أعمال 8: 26). فحتَّى ولو كانَ المُبَشِّرُونَ يذهبونَ عادَةً إلى
المُدُن، لكنَّ فيلبُّس أطاعَ وذهبَ إلى البَرِّيَّة.

 

 عندما
وَصَلَ فيلبُّس إلى الصحراء، رأى مَوكِباً من عرباتِ الخيل تجتازُ في البرِّيَّة.
فكلَّمَهُ الروحُ القُدُسُ قائلاً، "تقدَّم ورافِقْ هذه المركبة
بالذَّات." ونعرِفُ من صيغَةِ اللُّغَةِ اليونانية هُنا أنَّهُ كان هُناكَ
موكِبٌ من المركبات تجتازُ في البرِّيَّة. فأطاعَ فيلبُّس صوتَ الروحِ القُدُس
وتقدَّمَ ورافَقَ تِلكَ المَركَبَة بالتحديد. وهُناك رأى رجُلاً أثيوبيَّاً
جالِساً فيها. هُنا أيضاً نجِدُ الأحكام المُسبَقَة. فالرجُلُ الأثيوبِيُّ كانَ
رجُلَ سياسَةٍ ووزير المال في أثيوبيا. وكانَ يقرأُ الإصحاح الثالِث والخمسين من
دَرجِ النبيِّ إشعياء.

 

لقد
كانَ هذا الأثيُوبِيُّ رجُلَ سياسَة، وكانَ وزيرَ المال في أثيُوبيا. وكانَ يقرأُ
من درجِ إشعياء. يبدو أنَّ هذا القائد السياسي الأثيوبِيّ قد سافَرَ رحلةً طويلَةً
من أثيوبيا إلى أُورشليم، لأنَّهُ كانَ لديهِ جوعٌ روحِيٌّ. وعندما وصلَ إلى
أُورشليم، وجدَ تِلكَ الدِّيانَة الخالِيَة من المحبَّة، والتي هاجَمَهَا يسُوعُ
بِشدَّة. ولم يلتَقِ بأيَّةِ حقيقَةٍ روحيَّةٍ في أُورشَليم، ولكنَّهُ رُغمَ ذلكَ
تمكَّنَ من الحُصُولِ على نُسخَةٍ من سفرِ النبي إشعياء. وكانَ يقرَأُ بِصوتٍ
مُرتَفِع من ذلكَ السفر: "كُلُّنا كَغَنَمٍ ضللنا، مِلنا كُلُّ واحدٍ حسبَ
طريقه، والربُّ وضعَ عليهِ إثمَ جميعِنا." (إشعياء 53: 6).

 

فسألَهُ
فِيلبُّس: "هل أنتَ تفهَمُ ما تقرأ؟" فأجابَ الأثيُوبِيُّ، "كيفَ
أفهم إن لم يُرشِدني أحد؟" (أعمال 8: 30، 31). فصعِدَ فيلبُّس إلى المركَبة
إلى جانِبِ الأثيوبي، وفتحَ فيلبُّس فاهُ وابتدأَ من سفرِ إشعياء فبشَّرَهُ بإنجيلِ
يسوع المسيح.

 

يتَّضِحُ
أنَّ فيلبُّس إستطاعَ بموهِبَتِهِ التبشيريَّة أن يقودَ هذا الأثيوبي إلى إتِّخاذِ
قرار، وذلكَ بإخبارِهِ أنَّ الإيمان بالمسيح يُعبَّر عنهُ علانِيَةً بمَعمُوديَّةِ
الماء. هُنا نقرَأُ أنَّ الأثيُوبِيَّ قالَ: "هُوَّذا ماء، ماذا يمنَع أن
أعتَمِدَ؟" فأجابَ فيلبُّس "إن كُنتَ تُؤمِنُ من كُلِّ قلبِكَ
يجُوز."

 

هذا
هُوَ الشرطُ المُسبَقُ لمَعمُوديَّةِ الماء: "أن تُؤمِن من كُلِّ
قَلبِكَ." هذا ما نُسمِّيهِ "معمُوديَّةِ الإيمان." إنَّ الكنيسةَ
مُنقَسِمَةٌ حولَ طريقَة معمُوديَّةِ المُؤمنين. ولكنَّ القضيَّة المُهِمَّة في
المعمُوديَّة هلي ليسَت الأُسلُوب، بل معنى المعمُوديَّة. إنَّ المأمُوريَّةَ
العُظمى ينبَغي أن تُقرَأَ هكذا، "تَلمذُوا، إذهبُوا، أكرُزُوا، عمِّدوا،
وعلِّمُوا هؤلاء التلاميذ."

 

إنَّ
المعمُوديَّةَ هي مثل إحتفال الزواج. عندما يطلُبُ رجُلٌ يدَ فتاةٍ للزواجِ منهُ،
وهي تُوافِقُ، تكونُ هذه لحظَةٌ مُقدَّسَةٌ بالنِّسبَةِ لهُما. وعندما يتزوجان،
يدعُوانِ العائِلة، والأقرِباء والأصدِقاء إلى إحتِفالٍ هُو بمثابَةِ تَصريحٍ
عَلَنِيّ بالإلتِزام الذي سبقَ وتمَّ بطريقَةٍ فرديَّة. فعندما آمنَ الأثيوبِيّ، كانَ
هذا بمثابَةِ إلتزامٍ فَردِي صَرَّحَ بهِ علانِيَةً عندما إعتَمَد.

 

 عندما
جعلَ يسُوعُ المعمُوديَّةَ جزءاً لا يتجزَّأُ من المأمُوريَّةِ العُظمَى، جعلَ
إتَّباعَنا لهُ بطريقَةٍ سرِّيَّةٍ أمراً مُستَحيلاً. فكيفَ يعتَرِفُ إنسانٌ ما
بإيمانِهِ بالمسيح؟ هل بالإنضِمامِ إلى الكنيسة؟ هل بالتجاوُب معَ الدعوة التي
يُقدِّمُها المُبَشِّر؟ من المُهِمِّ أن نُلاحِظَ أنَّ المعمُوديَّة لا
تُخلِّصُنا، ولكنَّ المعمُوديَّة هي الإعتِرافُ العَلني بالإيمانِ بالرَّبِّ يسُوع
المسيح.

 

قِصَّةٌ
عن بُطرُس

 قبلَ
أن نبدَأَ بالنَّظَر إلى تجديدِ شاوُل الطرسوسيّ (أعمال 9)، علينا أن ننظُرَ إلى
قصَّةٍ عن بطرُس (أعمال 10 و11) التي ينبَغي النظَرُ إليها إلى جانِب قصَّة
فيلبُّس، لأنَّ هاتَين القصَّتَين تُخبِرانِنا عن كيفيَّةِ صِناعَةِ التلاميذ.
فبينما كانَ بطرُس نائماً على سطحِ منزِلٍ ما، رأى في رُؤيا شَرشفاً مربُوطاً من
أربَعِ زواياهُ، وعلى هذا الشرشَف كانَت هُناكَ عدَّةُ حيوانات، كانَ ممنُوعاً على
اليهُودِ أكلَها. فجاءَ صَوتٌ إلى بطرُس ثلاثَ مرَّاتٍ قائِلاً، "قُم يا
بُطرُس، إذبَحْ وكُلْ." (أعمال 10: 13). وفي كُلِّ مرَّةٍ أجابَ بطرُس،
"حاشا! فأنا لم آكُلْ أبداً لحماً نَجِساً أو دَنِساً."

 

 ثُمَّ
يُقرَعُ البابُ في الأسفَل. ولقد أخبَرَ الرُّوحُ القُدُسُ بطرُسَ أن يذهَبَ معَ
الرجال الذين يقرَعُونَ الباب، بدونِ أن يطرَحَ أيَّةَ أسئِلة. لقد كانَ هؤلاء
الرِّجال خُدَّامَ قائد مئة إسمُهُ كرنيليُوس. ولقد شرحوا لبُطرُس أنَّ
مُعلِّمَهُم رأى رُؤيا بينما كانَ يُصلِّي، قِيلَ لهُ فيها أن يُرسِلَ خُدَّامَهُ
إلى بيت سِمعان الدبَّاغ، ويطلُبَ رجُلاً إسمهُ بطرُس، وهذا سيجيءُ إلى بيتِهِ
ويخبِرهُ كلاماً بهِ يخلُص.

 

 تأمَّلُوا
بالأحكامِ المُسبَقَة التي واجَهَها بطرُس. فكرنيليُوس لم يكُن أمَمِيَّاً فحَسب،
بل وكانَ عدُوَّ بطرُس. كانَ اليهودُ يُشيرُونَ إلى الوثَنيِّين كالكلاب، لأنَّهُم
كانُوا يعتَقِدونَ أنَّ الوعيَ الرُّوحِيَّ عندَ الوَثنيّ غير اليهودي كانَ
معدُوماً. ولقد كانَ مَمنُوعاً على اليهود أن يذهَبُوا لزيارَةِ بيتِ شخصٍ غير
يهُوديّ. والآن بطرُس يُؤمَرُ بأن يكرِزَ بالخَلاص في بيتِ قائدِ مئة رُوماني
أُمَمي.

 

 عندما
ذهبَ بطرُس إلى بيتِ كرنيليُوس، وجدَ أنَّ كَرنيليُوس قد جمعَ أهلَ بيتِهِ
وأقاربَهُ معاً ليسمعوا كِرازَةَ بطرُس بالإنجيل. ولقد برهَنَ بطرُس أنَّهُ الآن
فهِمَ معنى الرُّؤيا. فهذه الحيوانات النَّجِسة كانت تُشيرُ إلى البَشَر
النَّجِسين، أي الأُمَم الوَثنِيِّين. فكانت كلِماتُ بطرُس الأُولى هي،
"وأمَّا أنا فقد أراني اللهُ أن لا أقُولَ عن إنسانٍ ما إنَّهُ نَجِسٌ أو
دَنِس." (أعمال 10: 28).

 

وبينما
كانَ بطرُس يعِظُ بالإنجيل، حدَثُ شيءٌ شَبيهٌ بيومِ الخمسين. نقرَأُ:
"فبَينما بطرُس يتكلَّمُ بِهذهِ الأُمُور حَلَّ الرُّوحُ القدُسُ على جميعِ
الذين كانُوا يَسمَعُونَ الكَلِمة." (أعمال 10: 44). في الإصحاحِ التالي،
عندما وصفَ بطرُس للرُّسُل وباقي المُؤمنين كيفَ حلَّ الرُّوحُ القُدُسُ على كُلِّ
بيتِ كرنيليُوس، أضافَ الكلمات التالية، "كما علينا أيضاً في
البَداءَة." (11: 15). من الجديرِ بالإعتِبار أنَّ يومَ الخمسين هذا كانَ
يحدُثُ عندما يجتازُ المسيحُ المُقامُ فوق حُدُودِ الأحكامِ المُسبَقة من العالم
اليهُوديّ المُتَعصِّب إلى العالمِ الأُمَمِيّ، عندما كانَ يبنِي كنيستَهُ.

 

السِّلسِلَة
المُثلَّثة الحلقات

 في
هذه القِصَص عن فيلبُّس وبطرُس، نَجِدُ منهَجِيَّةً تُرينا كيفَ نصنَعُ تلاميذ.
إنَّ هذه الأمثِلَة المُوحَاة تُظهِرُ لنا وكَأنَّ هُناكَ "سلسِلَة مُثلَّثة
الحلقات" بينَ الله وبينَ الضَّالِّين. الحلقةُ الأُولى هي الرُّوح القُدُس.
الحلقَةُ الثانِيَة هي كَلِمَةُ الله، والحَلَقَةُ الثالِثَة هي خادِم الله –
صانِع التلاميذ.

 

 لِكَي
نصنَعَ تِلميذاً، ينبَغي أن يعمَلَ الرُّوحُ القُدُسُ في ومن خِلالِ صانِعِ
التلاميذ، كَي يحُضَّ ذلكَ التلميذ على تقديمِ إنجيلِ يسوع المَسيح لفَردٍ ما.
وينبَغي أن يكُونَ الرُّوحُ القُدُس عامِلاً أيضاً في ذلكَ الشخص الضَّال،
مُولِّداً فيهِ جُوعاً رُوحيَّاً، تماماًَ كما عمِلَ معَ الأثيُوبيّ ومعَ قائدِ
المئة.

 

 إنَّ
كَلِمَةَ الله، أو الإنجيل ينبَغي أن يأخُذَ مكانَهُ كأداةٍ يستَخِدمُها اللهُ في
صناعَةِ التلاميذ. عندما تُقبَلُ بِذرَةُ كلمةِ اللهِ في قَلبٍ مُفعَمٍ بالإيمان،
يحصَلُ الحملُ الرُّوحي (1بُطرُس 1: 22، 23).

 

 ثُمَّ
ينبَغي على خادِمِ الرَّب، أو صانِعِ التلاميذ، أن يكُونَ في موقِعِهِ. فصانِعُ
التلاميذ المُكرَّس، المُتوفِّر، والأمين، مثل فيلبُّس وبطرُس، هو الحلقةُ
الثالِثة في السلسِلَةِ المُثلَّثَةِ الحلقات بينَ الله والضالِّين. من المُثيرِ
والمَهُوب أن نعرِفَ أنَّ اللهَ يختارُ أشخاصاً من أمثالِكَ وأمثالِي، ليكُونُوا
خُدَّامَهُ ويُشارِكُوا الأخبارَ السارَّة معَ الضالِّين.

 

 ما
هي البَراهِين أنَّ الرُّوحَ القُدُس يعمَلُ في حياةِ الأشخاصِ الضَّالِّين الذي
لم يسبِقْ لهُم أن سمِعُوا أو قبِلُوا الإنجيل؟ في هذين المَثَلَين، يُعطينا لُوقا
براهين واضِحَة تماماً عن النشاط الرُّوحيّ. قد لا تكُونُ هذه البَراهينُ واضِحَةً
تماماً في تعامُلِنا معَ الأشخاصِ الضَّالِّين، ولكنَّنا سنراها إن كُنَّا
نُصَلِّي ونبحَثُ عن هكذا براهين.

 

 سُؤالٌ
وَجيهٌ ينبَغي طرحُهُ لأنَّهُ يقُودُنا إلى حِوارٍ حَولَ أينَ يُمكِنُنا أن
نُشارِكَ الإنجيل، هُوَ السؤالُ التالي: "هل أنتَ مُهتَمٌّ بالأُمُورِ
الرُّوحيَّة؟" أسوأ ما يُمكِن أن يحدُثَ هُنا هو أن يأتيَ الجوابُ بالقَول:
"لا". فإن كانَ لديكَ الإيمانُ والشجاعَةُ أن تطرحَ هذا السؤال، سوفَ
تكتَشِفُ أنَّ أشخاصاً كثيرينَ مُهتَمُّونَ بالأُمُورِ الرُّوحيَّة. يحتاجُ
الأشخاصُ الضَّالُّون إلى خادِمٍ لله، يكُونُ مُستَعِدَّاً أن "يصعَدَ إلى
المركبَة" معَ هؤلاء الضَّالِّين، وأن يُساعِدَهُم على فَهمِ ما تُريدُ كلمةُ
اللهِ أن تقُولَهُ، والذي لهُ علاقَةٌ حيويَّة بخلاصِهم.

 

 عندما
ترى براهين عن عملِ الرُّوحِ القُدُس في حياةِ شخصٍ ضالّ، فيقُودُكَ الرُّوحُ إلى
مُشارَكَةِ الإنجيلِ معَ هذا الشخص الضَّالّ، فهل أنتَ ترغَبُ بأن تكُونَ الحلقَةَ
الثالِثة في هذه السلسِلة بينَ الله والشخص الضَّالّ؟ لقد إتَّخذتُ هذا الإلتِزام
معَ الله، ظَنَّاً منِّي أنَّني لن ألتَقيَ بالكَثِرينَ أمثال قائِدِ المئة
والأثيُوبيّ. ولكنَّني كُنتُ على خطأ. فمُنذُ أن إتَّخذتُ هذا الإلتِزام أمامَ
الله عام 1957، إلتَقيتُ بالعَدِيدِ من الأَشخَاص من هذا المثيل، ولقد رأيتُ
الكثيرينَ منهُم يأتُونَ للإيمان بالمسيح ويختَبِرونَ الوِلادَةَ الجديدة.

 

 عندما
كُنتُ جديداً في الإيمان، كُنتُ خَجُولاً وتُعوِزُني الثِّقَةُ بالنفس عندما بدأتُ
أتجاوَبُ معَ إرشادِ الرُّوحِ القُدُس لمُشاركَةِ الإنجيلِ معَ أفرادٍ جُدُد.
وعندما إستَوعبتُ المَفهُومَ الذي أصِفُهُ كَسِلسِلةٍ مُثَلَّثَةِ الحَلَقات،
تشَجَّعتُ كَثيراً عندما أدرَكتُ وتأكَّدتُ مِراراً كثيرة، أنَّ أوَّلَ حَلَقتَين
من هذه السِلسِلة قَويَّتانَ لدرجة، أنَّ خلاصَ الضَّالِّينَ لا يعتَمِدُ على
ذكائِنا، أو قُوَّتِنا في الإقناع، أو على براعَتِنا في "الترويجِ"
للإنجيل.

 

 نحنُ
بِدونِ شَكّ الحلقة الأضعَف في هذه السِّلسِلة، ولكن لِسببٍ لا أفهَمُهُ،
بالرُّغمِ من أنَّ اللهَ يستطيعُ أن يعمَلَ هذه المُعجِزة بِدُونِنا، وهذا ما
يفعَلُهُ أحياناً، ولكنَّهُ إختارَ أن يستَخدِمَ الحلقةَ الأضعَف التي هي الإنسان
لكي يأتِيَ بالضَّالِّين إلى الإيمانِ والخلاص. إنَّ المسيحَ الحيَّ المُقام هُوَ
كَرمَةٌ تبحَثُ عن أغصان، التي من خِلالِها يستَطيعُ أن يُنتِجَ "الثمر
الباقي." (يُوحنَّا 15: 16).

 

 هل
سبقَ لكَ وشاركتَ الأخبارَ السارَّة معَ الآخرين؟ هل أنتَ طائِعٌ للمأمُوريَّةِ
العُظمى التي أعطاها المسيح؟ إن لم تكُنْ كذلكَ، فأنا أُشجِّعُكَ أن تطلُبَ من
الله أن يُريَكَ كيفَ يعمَلُ هُوَ أصلاً في حياةِ أُولئكَ الذين من حَولِكَ. ثُمَّ
أُطلُبْ منهُ أن يمنَحَكَ شجاعَةَ بطرُس وفيلبُّس لكي تُِشارِكَ رِسَالَةَ
نِعمَتِهِ ورحمتِهِ معَ هؤلاء الناس.

 

 بينَما
نُبشِّرُ بالإنجيل، سوفَ نختَبِرُ فرحَ طاعَةِ الله وإستخدام الله لنَا. فعندما
نُعلِنُ أخبارَ المسيح السارَّة للضَّالِّين، نُحدِثُ في حياتِهم تغييراً
أبديَّاً. صلاتي هي أنَّنا بينَما ندرُسُ سفرَ الأعمالِ هذا، أن نأخُذَ قُوَّةَ
مَسحَةَ الرُّوحِ القدُس، لكي نتمكَّنَ من مُشارَكَةِ الإنجيل مثل بطرُس، فيلبُّس،
بُولُس، وآخرينَ سندرُسُ عنهُم.

 

الفصلُ
الخامِس "عنصَرةُ بُولُس الخاصَّة"

"أما
شاوُل فكانَ لم يزَلْ ينفُثُ تهدُّداً وقتلاً على تلاميذِ الربِّ. فتقدَّمَ إلى
رئيسِ الكهنة وطلبَ منهُ رسائِلَ إلى دِمشق إلى الجماعات حتَّى إذا وجدَ أُناساً
من الطريق رجالاً أو نِساءً يسوقُهم مُوثَقِينَ إلى أورشليم.

 

"وفي
ذهابِهِ حدث أنَّهُ اقتَرَبَ إلى دِمشق فبغتَةً أبرَقَ حولَهُ نُورٌ من السماء.
فسقطَ على الأرضِ وسمِعَ صوتاً قائِلاً لهُ شاوُل شاوُل لماذا تضطَّهِدُني؟ فقالَ
من أنتَ يا سيِّد؟ فقالَ الربُّ أنا يسوع الناصِري الذي أنتَ تضطهِدُهُ. صَعبٌ
عليكَ أن ترفُسَ مناخِس.

 

"فقالَ
وهُوَ مُرتَعِدٌ ومُتَحيِّر يا رَبُّ ماذا تُريدُ أن أفعَل؟ فقالَ لهُ الربُّ قُم
وادخُل المدينَة فيُقالَ لكَ ماذا ينبَغي أن تفعَلَ." (أعمال 9: 1- 6).

 

 إن
هذه الكلمات المألُوفَة في الإصحاحِ التاسِع من سفرِ الأعمال تصِفُ لنا تجدُّدَ
شاوُل الطرسوسي، أو إختِبارَهُ على طريقِ دمشق. ليسَ بالإمكان تفسير شخصيَّة هذا
الرجُل بمَعزَلٍ عن عِبارَة "إختِبار." وكما رَأَينا سابِقاً، عندما
نَلتَقي بهِ، نجِدُ فيهِ عدُوَّاً لَدُوداً للمسيح، ولكنَّ هذا الإختِبار على
طريقِ دِمشق هوَ الأوَّل بينَ بِضعَةِ إختِبارات جعلَت منهُ أعظَمَ رَسُولٍ (أو
مُرسَل) في تاريخِ كنيسةِ يسُوع المسيح.

 

 هُناكَ
عدَّةُ أماكِن في سفرِ الأعمال حيثُ سيُخبِرنا بُولُس عن إختِبارِهِ الأوَّل هذا.
فأمامَ الجُموع الغاضِبة، وأمامَ الولاة الرُّومان، وأمامَ مَلِكٍ ومَلِكَة، وفي
المحاكِمِ الدِّينيَّة، وفي رسائلِهِ المُوحاة، يُخبِرُنا بُولُس بإستِمرار عن
الإختِبار الذي إجتازَهُ.

 

 يُخبِرُنا
بُولُس عن ثلاثَةِ إختِباراتٍ جعلتهُ الرسُول الأكثر إثماراً في تاريخِ الكنيسة.
إختِبارُهُ الأوَّل كانَ تجدِيدُهُ على طريقِ دِمشق. ثُمَّ إجتازَ في إختِبارِ
الصحراء العربيَّة، الأمرُ الذي يُفسِّرُهُ بحيويَّة في رسالتِهِ إلى أهلِ غلاطية
(1: 11- 2: 10). ولقد إجتازَ أيضاً في إختِبارٍ سَمَاوِيّ أثَّرَ على حياتِهِ
بعُمق. ولقد شارَكَ هذا الإختِبار معَ الكُورنثُوسيِّين ومعنا (2كُورنثُوس 12:
1-4). لرُبَّما حدَثَ هذا عندما رُجِمَ في لِسترة (14: 19- 20).

 

 ولقد
إقتَنَعَ بُولُس من إختِبارِهِ السماوِيّ أنَّهُ لا يتوجَّبُ علينا أن ننتَظِرَ
حتَّى نَمُوت لكي نعيشَ في السماء. فمَوضُوعُ رسالتِهِ إلى أهلِ أفسُس هُوَ،
"في السماوِيَّات"، أي أنَّهُ بإمكانِنا أن نعيشَ في المجالِ السماوِيّ
بينَما نَعيشُ حياتَنا هُنا على الأرض (أفسُس 1: 3). ليسَ بِوُسعِنا أن نفهَمَ هذا
الرسُول الغريب بمعزَلٍ عن إختِباراتِه.

 

 هُناكَ
بعضُ الأُمور التي ينبَغي الإشارَة إليها عندما ننظُرُ إلى هذا الإختِبارِ الذي
يتكلَّمُ عن تجديدِ هذا العَدُوّ اللَّدُود للمسيح. أولاً، سمِعَ بُولُس هذا الصوت
يُنادِيهِ بإسمِهِ سائلاً إيَّاهُ، "لماذا تضطَّهِدُني؟" هُنا أيضاً
نجدُ أنَّ المسيحَ المُقام هُوَ مُتَّحدٌ بشكلٍ لا يَنفَصِم عن كنيستِه. لقد كانَ
شاوُل يضطَّهِدُ الكنيسة. أمَّا إتِّهامُ المسيح المُقام لهُ فكان، "لماذا
تضطَّهِدُني؟" كانت الرسالَةُ المُوجَّهَةُ بِوُضُوح من يسُوع إلى شاُول هي
التالية: "عندما تضطَّهِدُ هذه الكنيسة أنت تضطهِدُني أنا شخصيَّاً."

 

 فأجابَ
شاوُل الطرسوسي بالسؤال، "من أنت يا رَبّ؟" فهوَ لم يكُن يعرِف حتَّى
معَ من يتكلَّم، ولكنَّهُ عرفَ أنَّ الذي يُكلِّمُهُ هو رَبُّهُ، فسألَ.

هل تبحث عن  م الكتاب المقدس العهد القديم من منظور مسيحى 14

 

 في
حادِثةِ توبَةِ بُولُس الرسول العظيمة، نجدُ إيضاحاً رائعاً يُساعِدُنا على فهمِ
مفهوم الوداعَة. فمن خِلالِ هذا القصَّة نفهَمُ أنَّ الوداعة تعني أن يكونَ
الإنسانُ مُروَّضاً. فعندما يكونُ هُناكَ حصانٌ بَرِّيٌّ، لم يسبِق لأحدٍ أن وضعَ
رسغاً في فمِهِ، ولِجاماً على رأسِهِ، وسرجاً على ظهرِهِ، ينبَغي أن يتمَّ ترويضُ
هذا الحصان. وعندما يتمُّ ترويضُهُ، وعندما يصِلُ إلى مرحَلَةٍ يكُفُّ معها عن
مُقاومة الرسغِ واللجام، بل يمشي بموجَبِ توجيهاتِهما، لا يُصبِحُ هذا الحصانُ
ضعيفاً، بل وديعاً. فالحَيوانُ المُرَوَّض هو حيوانٌ وَديع.

 

 عندما
قالَ المسيحُ المُقام لِشاوُل الطرسوسي: "صَعبٌ عليكَ أن ترفُس مناخِس،"
قصدَ بِقَولِهِ هذا، "لماذا تُقاوِمُ الرسغ؟ فسوفَ يُمزِّقُ فمَكَ. إنَّ هذا
قاسٍ جدَّاً عليكَ." تُشيرُ هذه الصورَةُ المجازيَّةُ إلى أنَّه قبلَ إختِبار
طريقِ دمشق، كانَ الروحُ القُدُس يتعامَلُ معَ شاوُل الطرسوسي، مُتكلَّماً إليهِ
من خِلالِ شهادَةِ إستفانُوس والمُؤمِنينَ الآخرينَ الذي إضطَّهَدَهُم شاوُل.
ويُظهِرُ لنا شاوُل أنَّهُ قبِلَ وضعَ الرَّسغِ وَالرَّسن وأصبحَ وديعاً،
بمُجرَّدِ سؤالِهِ، "يا رب، ماذا تُريد منِّي أن أفعَل؟" (العدد 6).

 

عندما
كتبَ بُولُس هذه الرسائل، أخبَرَنا بُولُس أكثرَ من كُلِّ الآخرين ما عمِلَهُ
اللهُ لمنحِنا الخلاص من خلالِ المسيح. ولكن، عندما إلتَقى بيسوع، لم يكُنْ
سُؤالُهُ، "ماذا ستعمَلُ من أجلي يا رب؟" بل كانَ سُؤالُهُ، "يا
رب، ماذا تُريدُ منِّي أن أفعَل من أجلِكَ؟"

 

 عندما
تجدَّدَ شاول الطرسُوسي على طريقِ دمشق، تغَيَّرَتْ نظرَةُ بُولُس للحَياة بِشكلٍ
دراماتِيكيّ. ومن بينِ التغييرات العديدة، غيَّرَ شاوُل إسمَهُ. كانَ إسمُ بُولُس
العِبري هو شاوُل، الذي يعني "القادِر" أو "العظيم." عندما
تجدَّدَ، قرَّرَ أن يستخدِمَ الإسمَ الروماني "بُولُس" الذي يعني
"الصغير" أو "الحقير" أو الصِّفر أو اللاشَيء.

 

 لرُبَّما
كانَ الدافِعُ وراءَ هذا الأمر أنَّهُ كُلِّفَ بالوُصُولِ إلى المُؤمنين من غيرِ
اليَهُود عبرَ الأمبراطُوريَّةِ الرُّومانية. وبما أنَّهُ وُلِدَ كمُواطِنٍ
رُومانيّ وأرادَ أن يكُونَ للكُلِّ كُلَّ شَيءٍ، لَرُبَّما كانَ قرارُهُ
بإستِخدامِ إسمهِ الرُّوماني ستراتيجيَّاً. ولكن ليسَ بإمكانِنا تَجَاهُلَ كون إسم
شاوُل يعني الجَبَّار أو العظيم، وبُولُس يعني "الصغير أو اللاأحد."
عندما تجدَّدَ شاوُل وأصبَحَ بُولُس، إختَبَرَ بِوُضُوح ما تعنيهِ عِبارَة
"مِسكين بالرُّوح." (متَّى 5: 3).

 

 فيما
بعد، كتبَ بُولُس للفِيليبِّيين، "كانت لديَّ أُمورٌ أسعَى وراءَها، لأنَّها
كانت تعني لي الكثير. ولكن عندما إلتَقيتُ بيَسُوع، أصبَحَتْ هذه الأُمُورُ لا
تَعني شيئاً بالنسبَةِ لي. بالحقيقة، إعتَبَرتُ هذه الأُمور نِفايَةً بالمُقارَنة
معَ الأُمُور التي لم تكُن تعني لي شيئاُ قبلَ أن ألتَقيَ بالمَسيح على طريقِ
دِمشق – مثل أن أعرِفَهُ وأكتَشِفَ ماذا يُريدُ منِّي أن أفعَل – هذه الأُمور
الجديدة أصبَحَت شُغلي الشَّاغِل." (فيلبِّي 3: 1- 11).

 

 المُهمُّ
فيما يتعلَّقُ بالإختِبار هو ليسَ تفاصيل إختِبارِنا، بَل نتائج إختبارنا.
فالإختِبارُ ليسَ غايَةً بحدِّ ذاتِها، بل وَسيلَةٌ تُؤدِّي إلى غايَة. الإختِبارُ
هُوَ بِبَساطَة بابٌ نجتازُهُ لنُصبِحَ خُدَّاماً أفضل للمسيح. في سفرِ الأعمال،
يُخبِرُ بُولُس بتفاصيلِ إختبارِهِ على طريقِ دِمشق بضعَ مرَّاتٍ. وما يكتُبُهُ
للفِيلبِّيِّين يُشدِّدُ على نتائج إختِبارِهِ على طريقِ دِمشق.

 

 بعضُ
المُؤمنين هُم كما أُسمِّيهم أنا، مُؤمنون نَّفعِيُّون. فالمنفَعة هي شيءُ
نستَخدِمُه. والمُؤمنونَ قد يستَخدِمُونَ الله كما نستَخِدُم نحنُ أحياناً الماء،
الشمعة، الكهرباء، الدرَّاجة، أو الباصّ في المدينة. فمن حَيثُ لا ندري، قد
نُصبِحُ أتباعاً للمسيح لأنَّنا نعتَقِدُ أنَّهُ سوفَ يجِدُ حَلاً لمشاكِلنا.
بالطبع، عندما نتبَعُ المسيح، سوفَ يجدُ حُلولاً لمشاكِلِنا الأكثَر صُعُوبَةً.
ولكن دَعُوني أَسأَلَكُم سُؤالاً: إذ تَتبَعُونَ المسيح، هل أنتُم تسأَلُونَهُ
ماذا سيفعَلُ من أجلِكُم، أم أنَّكُم مثل بُولُس تَسألُونَ ربَّكُم ومُخَلِّصَكُم
ماذا بإمكانِكُم أن تعمَلُوا من أجلِه؟

 

 بعدَ
قِصَّةِ تجديد بُولُس، نقرَأُ عمَّا يُمكِن أن نُسمِّيَهُ "مُتابَعة"
تجديده. ذهبَ الربُّ إلى تلميذٍ إسمُهُ حنانِيَّا، وطلبَ منهُ أن يُعمِّدَ شاوُل
الطرسوسي. لقد دَبَّ الرُّعبُ في قَلبِ هذا الرجُلِ الشيخ عندما سمِعَ إسم شاوُل
الطرسُوسي. فأجاب، "يا رَبّ، قَد سَمِعتُ من كَثيرين عن هذا الرَّجُل كم من
الشُّرُور فعلَ بِقِدِّيسيك في أُورشَليم. وههُنا لهُ سُلطانٌ من قِبَلِ رُؤساء
الكهنة أن يُوثِقَ جَميعَ الذي يَدعُونَ باسمِكَ. فقالَ لهُ الربُّ اذهَبْ. لأنَّ
هذا لي إناءٌ مُختارٌ ليَحمِلَ إسمي أمامَ أُمَمٍ ومُلوكٍ وبَني إسرائيل."
(أعمال 9: 13- 15).

 

إذا
تكلَّمنا مَجازِيَّاً نقُول أنَّ اللهَ فتحَ دَرْجَاً وأظهَرَ لحَنانِيَّا
خُطَّتَهُ لِحَياةِ شاوُل الطرسُوسيّ. لاحِظوا أنَّ اللهَ لم يفعَلْ هذا لشاوُل.
بل كانَ كُلَّ ما قالَهُ لهُ، "قُم وإذهَب إلى دِمشق، وعندما تصِلُ إلى
هُناك، أقولُ لكَ ماذا أُريدُ منكَ أن تفعَل." (العدد 6) إنَّ التطبيقَ
التعبُّديّ لنا هُنا، هو أنَّ اللهَ يستطيعُ أن يُظهِرَ لنا كامِلَ خُطَّتِهِ
لحياتِنا إذا شاء. ولكنَّهُ عادَةً لا يفعَلُ هذا. بل يُظهِرُ مشيئتَهُ لنا كما
فعلَ لِشاوُل، يوماً بعدَ الآخر وخطَّةً بعدَ الأُخرى.

 

من
أجمَلِ كلماتِ سفر أعمالِ الرُّسُل هي الكلمات التي قالَها حنانِيَّا عندما ذهبَ
إلى المنزِل حيثُ كانَ شاوُل الطرسُوسِي ينتَظِرُهُ. فسُرعانَ ما فهِمَ حنانِيَّا
أنَّ هذا العَدُو اللدُود للكنيسة قد تجدَّدَ، قالَ لَهُ، "أيُّها الأخُ
شاوُل." ما نَراهُ هُنا هو ما تتمحوَرُ حولَهُ كنيسَةُ يسوع المسيح: نعمَة الله
التي تُغيِّرُ حياةَ الناس!

 

إختِبار
بُولُس في الصحراء

 عندما
نقرَأُ قصَّةَ إختِبارِ تجديد بُولُس، نُواجِهُ صُعُوبَةً في الترتيبِ الزَّمَنيّ.
نأخُذُ إنطِباعاً أنَّهُ سُرعانَ ما تجدَّدَ بُولُس، حتَّى بدَأَ بالوعظِ بِشجاعَة
بإسمِ يسُوع المَسيح في دمشق وأُورشَليم. ولكن، علينا أن نُدخِلَ فترَةً
إنتِقالِيَّة كبيرة بينَ تجديد بُولُس وبينَ خدمتِهِ في الوعظ. علينا أن نأخُذَ
بالحِسبان ما قالَهُ بُولُس للغلاطيِّين عن ذهابِهِ إلى العَرَبِيَّة، بعدَ أن
تجدَّدَ (غلاطِية 1: 11- 21).

 

 يختَلِفُ
المُفسِّرُون حولَ طُول المُدَّة التي قضاها بُولُس في العَرَبِيَّة، ولكنَّ
مُعظَمَهُم يتَّفِقُ أنَّهُ يقُولُ أنَّهُ كانَ هُناكَ على الأقَلّ لمُدَّةِ ثلاثِ
سنوات. يقُولُ بُولُس أنَّ المسيحَ المُقام قضى معَهُ هُناكَ ثلاثَ سنوات،
وعلَّمَهُ كُلَّ الأشياء التي دوَّنَها في رسائِلِهِ، والتي تُشكِّلُ نِصفَ العهدِ
الجديد. وبعدَ ذلكَ يبدُو أنَّهُ رجعَ إلى دِمشق، والأرجح إلى مدينَتِهِ طرسُوس.

 

 يُخبِرُنا
بُولُس أنَّهُ بعدَ تجديدهِ بأربَعَة عشر عاماً، صَعِدَ إلى أُورشَليم وإلتَقَى
بباقِي الرُّسُل للمرَّةِ الأُولى (غلاطِية 2: 1- 10). يبدو أنَّ بُولُس أقنَعَهُم
أنَّهُ قضى معَ يسُوع مُدَّةَ ثلاث سنين في البَريَّة، تماماً كما كانت الحالُ
معهُم سابِقاً. لا بُدَّ أنَّهُ أخبَرَ الرُّسُل أُمُوراً عن يسُوع، وحدَهُ الذي
قضى وقتاً معَ يسُوع يستطيعُ أن يعرِفَها. عندها فقط قرَّرُوا أنَّهُ بإمكانِ
بُولُس أن يكرِزَ بالإنجيل للعالمِ الأُمَمِيّ، وأما باقي الرُّسُل فكرزوا
لليَهُود.

 

 لو
توقَّفَ الأمرُ عليَّ، لما كُنتُ تصرَّفتُ بهذه الطريقة. لكُنتُ أرسَلتُ بُولُس،
مُعلِّم النامُوس والعلاَّمة اليهودي، إلى اليهود، ولكنتُ أرسلتُ صَيَّادي السماك
أمثال بطرُس، يعقُوب، ويُوحنَّا، إلى الأمُم البَرابِرة. ولكنَّ اللهَ لا يعمَلُ
الأُمور على طريقَتِنا. بل يبدو أنَّهُ يُسَرُّ بإستِخدامِ أشخاصٍ عادِيِّين
ليعمَلَ أُموراً غير إعتِيادِيَّة. لقد أرسَلَ مُعلِّمَ النامُوس المُتجدِّد إلى
الأُمَم البرابِرة، وأرسَلَ الرُّسُلَ الأُمِّيِّين إلى مُعلِّمي النامُوس وعُلماء
الدين.

 

 النصف
الأَوَّل من سفرِ الأعمال تقريباً يُقدِّمُ بُطرُس كالرسُول القائد، وباقي السفر
يُبرِزُ حياةَ وخدمة بُولُس الرسُول. وبينما تقرأُون قِصَّةَ تجديد بُولُس في هذا
السفرِ التاريخيّ، لا تنسُوا أن تقفِزوا لتقرأُوا ما يقُولُهُ عن إختِبارِهِ في
الصحراء، في الإصحاحَين الأَوَّلَين من رسالتِهِ إلى أهلِ غلاطية. عندما يُصرِّحُ
بُولُس بهذه الأُمور في غلاطية، يقودُنا إلى إقتناعٍ راسِخٍ بِصحَّتِها عندما
يقُول، "أمامَ الله أنا لا أكذِب."

 

 عليكُم
أن تتَّخِذُوا قراراً حِيالَ بُولُس. فإمَّا أن يكُونَ بُولُس كاذِباً، أو أن
يكُونَ رَسُولاً. يقُولُ أنَّهُ تَعِبَ وأثمَرَ أكثَرَ من باقي الرُّسُل
(1كُورنثُوس 15: 9، 10). إنَّ الحقيقَةَ التي لا تُنكَر هي أنَّهُ كانَ أكثَر
إثماراً من باقِي الرُّسُل. فلقد قامَ بِكِتابَةِ نصف أسفار العهدِ الجدي تقريباً،
والتي سنقُومُ بدَرسِها عندما ننتَهي من دراسَةِ سفرِ الأعمال. إحتَفِظوا
بحُكمِكُم على بُولُس إلى أن تكُونُوا قد قرأتُم وتأمَّلتُم بمُحتَوى رسائلِهِ
المُوحاة بعُمق.

 

 لقد
بدأتُ أقرأُ الكتابَ المقدَّس عام 1949، وذلكَ بِقراءَةِ النِّصف الثاني من سفرِ
الأعمال، إستِعداداً لدراسَةِ رسائل بُولُس المُوحى بها من الله. ولقد أصبَحتُ
مُقتَنِعاً بعُمق أن وحدَهُ المسيحُ المُقامُ كان قادِراً أن يُوحِيَ لرَجُلِ
اللهِ المُمَيَّز هذا، الحقيقَةَ السامِيَة التي أخذتُ أكتَشِفُها عبرَ عشراتِ
السنين في رسائِلِ بُولُس المُوحَى بها.

 

لِقاءُ
بَرنابا

 يُرَكِّزُ
لُوقا قبلَ كُلِّ شَيء على خدمَةِ كُلٍّ من بطرُس وبُولُس، بينما يكتُبُ تاريخَهُ
للجيل الأوَّل للكنيسة. ولكن، بالإضافَةِ إلى هذين القائدين العَظيمَين، هُناكَ
عدَّةُ أشخاصٍ آخرين يعتَقِدُ أنَّهُ علينا أن نعرِفَ عنهُم، لِكي نُقدِّرَ بدايات
كنيسة المسيح الحَيّ المُقام. أحدُهم هو رجُلٌ إسمُهُ برنابا، ويعني إسمُهُ
"إبن التشجيع." (أعمال 4: 36).

 

 وإقتداءً
بما فعلَهُ يسُوع معَ الكثيرين، غيَّرَ الرُّسُلُ إسمَهُ من يُوسُف إلى برنابا،
الأمرُ الذي يُعبِّرُ عن نمُوذج موهِبَتِهِ الرُّوحيَّة وخدمتِهِ. وسوفَ نجدُهُ
دائماً يعيشُ على مُستَوى هذا الإسم الجديد الذي أُعطِيَ لهُ، داعِماً الآخرينَ
بأمانَةٍ، ومُشجِّعاً إيَّاهُم ليعمَلُوا ما دعاهُم إليهِ الرَّبُّ يسُوعُ
المَسيح. لقد كانَ برنابا هُوَ الشخص الذي شجَّعَ بُولُس للإنطلاق إل خدمتِهِ
الإرساليَّة العجيبة.

 

 نقرَأُ
أنَّهُ كانَ يعمَلُ في الكنيسة في أنطاكيا، مُتَلمِذاً الكثير من المُؤمنينَ
الجُدُد. ولقد إختَبَرَت الكنيسةُ نُمُوَّاً كبيراً في عددِ المُؤمِنين لأنَّ
الرُّوحَ القُدُس كانَ يعمَلُ هُناكَ بِقُوَّة. لقد كانَ هُناكَ عدَّةُ مُهتَدِينَ
جُدُد، ممَّا جعلَ برنابا يُدرِكُ أنَّ الكنيسةَ هُناكَ كانت تحتاجُ إلى مواهِبَ
التعليم الفريدة وغير الإعتِيادِيَّة التي كانت يتحلَّى بها مُعلِّمُ النامُوس
المُتَجدِّد، شاوُل الطرسُوسي. لهذا ذهبَ برنابا إلى طرسُوس وفتَّشَ إلى أن وجدَ
بُولُس، ومن ثمَّ أتَى بهِ إلى أنطاكيا وأقامَهُ على خدمةِ التعليمِ هُناكَ.
نقرَأُ أنَّ برنابا توسَّطَ أمامَ باقِي المُؤمين، من أجلِ هذا الذي كانَ عدُوَّ
الكنيسة سابِقاً، ولكنَّ المُؤمنينَ كانُوا شديدي الحذَر من مَجيءِ بُولُس إلى
أنطاكِيا (أعمال 9: 26).

 

 علينا
أن نَتَذَكَّرَ أنَّهُ لما كانَ هُناكَ من يُسمَّى بالرسُول بُطرُس لو لم يكُن
هُناكَ شخصٌ يُدعى أندراوُس. فأندراوُس هُوَ الذي أتى بأخيهِ سِمعان وعرَّفَهُ إلى
يسُوع. ونرى أندراوُس مُجدَّداً وهُوَ يَعمَلُ عملاً فرديَّاً، آتِياً بأشخاصٍ إلى
المسيح، خاصَّةً عندما إكتَشَفَ الصبيّ الصغير، الذي قدَّمَ زَادَهُ المُؤلَّفَ من
خمسة أرغِفَة وسَمَكَتين، التي أطعمَت آلاف الجائِعين. بنفسِ الطريقة، بإمكانِنا
القَول أنَّ بُولُس ما كانَ ليتمتَّعَ بخدمتِهِ العظيمة لولا إبن التشجيع هذا،
الذي هُوَ برنابا.

 

 لقد
أُرسِلَ كُلٌّ من بُولُس وبرنابا من قِبَلِ كنيسةِ أنطاكيا ليشرَعا معاً
برحلاتِهِما الإرساليَّة المُثمِرة (أعمال 13: 1-3). ولكن، بينما كانا على وَشَكِ
الإبحارِ في رحلةٍ تبشيريَّةٍ ثانِيَة، وقعَ بينَهُما خِلافٌ حادّ، أدَّى إلى
إنهاءِ عملِهِما معاً كَفَريق من تِلميذَين مَرتَبِطَينِ معاً تحتَ نيرِ المسيح.
فلقد أرادَ برنابا أن يأخُذَ معَهُ إبنَ أُختِهِ يُوحنَّا مرقُس، إلى تِلكَ الرحلة
الإرساليَّة الثانِيَة. لقد سبقَ ورافَقَهُما يُوحنَّا مرقُس في رحلتِهِما
الإرساليَّة الأُولى، ولكنَّهُ تركَهُما عندما بدَأَ الإضطِّهاد. لهذا عارَضَ
بُولُس أخذَ يُوحنَّا مرقُس ثانِيَةً.

 

 لقد
كانَ الخلافُ بينَ بُولُس وبرنابا حادَّاً لدَرجَة أنَّهُما إفترقا عن بعضِهما
البعض. فأخذَ بُولُس سيلا وسافَرَ في إتِّجاهٍ مُعَيَّن؛ أمَّا برنابا فأخذَ
يُوحنَّا مرقُس وسافَرَ في إتِّجاهٍ آخَر. نعرِفُ من تاريخِ الكَنيسة أنَّهُ بمعنَىً
ما، كانت أصعَبُ المشاكِل التي واجَهَها المُرسَلُون، مُوجَّهَةً من مُرسَلينَ
آخرين. فإبليس يعرِفُ أنَّنا لن نتمكَّنَ من ربحِ العالم إذا خَسِرنا بعضُنا
بعضاً. لهذا وضعَ يسُوعُ هذا التشديد الكبير على العمل على تحسينِ علاقتنا معَ
أخينا (متَّى 5: 23، 24؛ 18: 15- 17).

 

 على
أيَّةِ حال، من المُهِمِّ أن نقرَأَ بعض كَلِمات بُولُس الرسُول الأخيرة التي
كتبَها من زنزانَةٍ في سجن
Mamertine المُرعِب
في رُوما. إنَّها مُوجَّهَةٌ إلى تيمُوثاوُس: "أحضِرَ معكَ يُوحنَّا مرقُس.
أنَّهُ نافِعٌ للخِدمة." ما هي القِصَّة الكامِنة وراءَ هذا الشاب، ليُصبِحَ
"نافِعاً للخدمة؟" يعتَقِدُ المُفسِّرُونَ أنَّ الجوابَ على هذا
السُّؤال هُوَ أنَّ برنابا تابعَ بخدمَةِ التشجيع ليُوحنَّا مرقُس، أمَّا بُولُس
ففقدَ الأملَ منهُ. وهكذا أصبَحَ يُوحنَّا مرقُس الشخص الذي كتبَ الإنجيلَ الثاني،
لأنَّ برنابا كانَ "إبن التَّشجيع."

 

 دائماً
كانَ يُوجدُ في الكنيسةِ، ماضِياً وحاضِراً ومُستقبَلاً، أشخاصٌ كثيرون يحتاجُونَ
من يُشجِّعُهُم ويخدُمُهم على صَعيدٍ فَردِيّ. هل أنتَ راغِبٌ بأن تكُونَ
مُتوفِّراً لمُساعَدَةِ هكذا شخص؟ إن كُنتَ مُؤمِناً جديداً، فأنتَ تحتاجُ إلى
برنابا. وإن كُنتَ مُؤمِناً ناضِجاً، عليكَ أن تُشجِّعَ وترعى شخصاً مثل يُوحنَّا
مرقُس. فكما تتوفَّرُ لكَ الفُرصَة، وكما يُرشِدُكَ الرُّوحُ القُدُس، دائماً
إتبَعْ مِثالَ برنابا، وشجِّع أولئكَ الذين يُحيطُونَ بكَ – خاصَّةً المُؤمنينَ
الجُدُد – ليكُونُوا كما يُريدُهم رَبُّهُم ومُخَلِّصُهم أن يكُونُوا عليهِ.

 

الفصلُ
السادِس "نماذِج يوم الخَمسين تُؤسِّسُ الكنيسة"

بِحَسَبِ
لُوقا، كانَت هُناكَ نُقاطُ تَحَوُّل حاسِمَة في إنتِشار الإنجيل. نقرَأ عن إحدَى
نُقاط التحوُّل هذهِ في الإصحاح 16 من سفرِ الأعمال. فعندما كانَ بُولُس مأخُوذاً
في رحلتِهِ الإرساليَّة الثانِيَة، رغِبَ بأن يذهَبَ إلى أسيا ليُبشِّرَ بالإنجيل.
هُنا نقرأُ أنَّ الروحَ القُدُس تدخَّلَ، فمنَعَهُ الروحُ هُوَ ورِفاقَهُ من
الكِرازَةِ في آسيَّا. وظَهَرَت لبُولُس رُؤيا في الليل، رجُلٌ مكدونِيٌّ قائمٌ يطلُبُ
إليهِ ويقولُ، "أعبُرْ إلينا وأعِنَّا."

 

بعدَ
أن رأى بُولس الرؤيا، نعرِفُ أنَّ لُوقا إنضَمَّ إلى الفَريق الإرسالِيّ عندما
نقرَأ: "فَلَمَّا رأى الرُّؤيا طَلبنا أن نخرُجَ إلى مَكدُونيَّة
مُتَحَقِّقِين أنَّ الرَّبَّ قد دَعانا لِنُبَشِّرَهُم." (أعمال 16: 10).
فعلى الرُّغم من أنَّ بُولُس ورِفاقَهُ سوفَ يُسافِرونَ إلى آسيا قريباً، كانَ من
المُهِمّ جداً بالنسبَةِ للرُّوحِ القُدُس أن يجعَلَهم يدخُلُونَ مكدُونيا قبلَ أن
يُبَشِّرُوا آسيا.

 

 لقد
قامَ بُولُس في نُقطَةِ التحوُّلِ هذه بخدمةِ الغلاطِيِّين. فعِندما نتأمَّلُ بما
كتبَهُ بُولُس للغلاطِيِّين عن المشاكِل الصحِّيَّة التي عانى منها في تِلكَ
المرحلة، بإمكانِنا أن نفتَرِضَ أنَّ الرُّوحَ القُدُس إستَخدَمَ مُشكِلَةَ بُولُس
الصِّحِّيَّة ليمنَعَهُ من دُخُولِ آسيَّا (غلاطِية 4: 13- 15). إنَّ هذا
الإفتِراض معقُولٌ جداً، لأنَّ طبيبَهُ المحبُوب لُوقا إنضَمَّ إليهِ في هذه
المرحلة.

 

 أوَّلُ
مدينَةٍ وصلوا إليها عندَ دُخُولِهم مكدُونيَّة، هي فيلبِّي. قد نظُنُّ أنَّهُ بما
أنَّ بُولُس رأى في رُؤياهُ رجُلاً، سُرعانَ ما سيصِلُ إلى مكدونية، حتَّى يجد
حوالي مائتي رجُل ينتَظرونَهُ ليسمعوا الإنجيل. لقد وجدَ بُولُس مجمُوعَةً صغيرَةً
من النساء بقُربِ نَهرٍ، حَيثُ كُنَّ يجتَمِعنَ للصلاة. بدأَ بُولُس بما أعطاهُ
إيَّاهُ الرَّبُ فكرزَ بالإنجيل لتلكَ النساء اليهوديَّات.

 

"وكانَ
هُناكَ إمرأةٌ تُسمَّى ليديا، وكانت بائعة أُرجُوان."(14) لربَّما كانت
خيَّاطَةً للعائِلاتِ المَلَكِيَّة. نقرَأُ أنَّهُ عندما فتحَ بُولُس كلمةَ الله،
"فتَحَ الربُّ قلبَها." (14) ثُمَّ فتَحَت بيتَها لِبُولُس ولِفَريقِهِ
الإرسالي. فأصبَحَ بيتُ ليديا أوَّلُ كنيسةٍ في أوروبَّا. لقد كانَت هُناكَ
الآلافُ من مَباني الكنائِس الرائِعة في أُورُوبَّا، ولا تزال، ولكن في السماء،
سيكُونُ بإمكانِ هذه الخَيَّاطَة اليهُودِيَّة البسيطَة القَول أنَّ بيتَها كانَ
أوَّل كنيسة في أُوروبَّا.

 

 وهُناكَ
في مدينَةِ فيلبِّي، تمَّ إعتِقالُ بُولُس وسيلا. وجُلِدوا بالسِّيَاط وأُلقُوا في
السجِن (22- 24). رُغمَ هذا العِقاب، نقرأُ أنَّهُ في مُنتَصَفِ تلكَ الليلَة،
كانَ بُولُس وسيلا يُصلِّيانِ ويُسبِّحانِ الرب وسَمِعَهُما السُّجناء. وفجأَةً في
مُنتَصَفِ الليل حدَثَت زلزَلَةٌ عجيبَة وتحطَّمَت قُيُود السُّجَناءِ وفُتِحَت
أبوابِ السجنِ. لقد كانت هذه زلزلَةٌ غريبَةٌ بالفِعل.

 

عندما
استَيقَظَ حارِسُ السجنِ في مُنتَصَفِ الليل، ورأى أبوابَ السجنِ مفتُوحَةً ظَنَّ
أنَّ السُّجناءَ قد هربُوا جميعاً، فاستَلَّ سيفَهُ عازماً أن يقتُلَ نفسَهُ،
ولكنَّ بُولُس قالَ لهُ، "إيَّاكَ أن تُؤذِي نفسَكَ؛ فنحنُ جميعاً
هُنا." عندها طرحَ السجَّانُ سُؤالَهُ العظيم قائلاً، "ماذا ينبَغي
عليَّ أن أفعَل لكَي أخلُص؟" فأعطاهُ بُولُس جوابَهُ العظيم: "آمن
بالربِّ يسوع المسيح، فتخلُص أنتَ وأهلُ بيتِكَ."

 

ثُمَّ
نقرأُ، "وكلَّمَاهُ وجميعَ من في بيتِهِ بكَلِمَةِ الربّ. فأخذَهُما في تِلكَ
الساعَةِ منَ الليل وغسَّلَهُما من الجِراحاتِ واعتَمَدَ في الحَالِ هوَ والذينَ
لهُ أجمَعُون. ولمَّا أصعَدَهُما إلى بيتِهِ قدَّمَ لهُما مائدةً وتهلَّلَ معَ
جميعِ بيتِهِ إذ كانَ قد آمنَ بالله." (28- 34).

 

 لم
يسبِقْ أن قُدِّمَ طريقُ الخلاصِ بشكلٍ أوضَح من الكلماتِ التالية: "آمن
بالربِّ يسوع فتخلُص." لقد إختَبَرْتُ الخلاص وأصبحتُ تِلميذاً ليسُوع المسيح
عام 1949، في أوِّلِ مرَّةٍ سمِعتُ وعظاً عن هذه الكلمات. أعتَقِدُ أنَّ بُولُس
إلتَقى عندها بالرَّجُل الذي رآهُ في الرُّؤيا ووجَّهَهُ للذهابِ إلى مَكدُونِية.

 

 بعدَ
إيمانِ سجَّانِ فيلبِّي، أرسَلَ الوُلاةُ أمراً بإطلاقِ سراحِ بُولُس وجعلِهِ
يَترُكُ المدينة (35، 36). ولكن بُولُس رفَضَ المُغادَرة بتلكَ الطريقة وفي ذلكَ
الظرف. لقد تمَّ ضَربُ بُولُس وهو مُواطِنٌ روماني، بدونِ مُحاكَمة. لهذا طلبَ
بُولُس أنَّ يأتيَ الوُلاةُ بأنفُسِهم ويُرافِقوهما إلى خارِجِ المدينة. وهكذا
تركَ بُولُس فيلبِّي طوعاً واختِياراً.

 

لقد
رأى بُولُسُ المسيحَ يَقلِبُ المدينَةَ رأساً على عقِب. ولقد تأسَّست الكنيسة التي
ستكُونُ المُفضَّلَةَ عندهُ في مدينَةِ فيلبِّي. إنَّ هذه الكَنيسة أصبَحَت مركز
الدعم الذي مكَّنَ بُولُس من الوُصولِ إلى تأسيسِ كنائِس في مُدُنٍ مثل كُورنثُوس،
أفسُس، وتسالُونيكي. لقد إستَخدَمَ بُولُس أمانة الفيلبِّيِّين نمُوذجاً ومِثالاً
للكنائِسِ الأُخرى (2كُورنثُوس 8، 9). ولقد مارَسَ بُولُس مهنتَهُ كَصانِعِ خِيام،
بدَلَ أن يقبَلَ دَعماً من المُؤمنين الذين لم يكُونُوا ناضِجينَ في دوافِعِهم،
والذين شكَّكُوا بِحقِّ بُولُس بأن يدعُوَ نفسَهُ رَسُولاً، ولم يكُونُوا جديرينَ
بأن يُدعَوا شُركاءَهُ في خِدمتِهِ.

 

بينما
تقرأ قصَّة بُولُس في مدينَةِ فيلبِّي، لا تنسَ الكلمات العظيمة التالية:
"آمنْ بالرَّبّ يسُوع المسيح، فتَخلُص أنتَ وأهلُ بيتِكَ." لاحِظْ أنَّ
هذه الكلمات تضَعُ أمامَنا التحدِّي بأن نُؤمِنَ بالرَّبِّ يسُوع المسيح. فيسُوعُ
يعني أن نُؤمِنَ أنَّهُ مُخَلِّصُنا. والمسيحُ يعني أن نُؤمِنَ أنَّ مُخَلِّصَنا
هُوَ المَسيَّا. والرَّبُ يعني أنَّنا جعلنا من مُخَلِّصِنا المسيَّا، ربَّاً
وسيِّداً.

 

هل
تُؤمِنُ أنتَ شخصيَّاً أن يسُوعَ هُوَ مُخَلِّصُكَ ومسيحُكَ وربُّكَ؟ إن لم تكُن
قد إتَّخذتَ هكذا خُطوةً من قَبل، "آمِنْ بالرَّبِّ يسُوع المسيح، فتخلُص –
أنتَ وأهلُ بيتِكَ."

 

الفَصلُ
السابِع "وعظُ بُولُس"

 عندما
ذهبَ بُولُس إلى مدينَةِ أثينا، احتدَّت رُوحُهُ فيهِ إذ رأى الشعبَ في كُلِّ
مكانٍ يعبُدُونَ الأصنام (أعمال 17: 16)." قالَ أحدُ المُؤرِّخِين أنَّهُ
كانَ من الأسهَل إيجاد إلهٍ من إيجادِ رجُلٍ في مَدينَةِ أثينا التي زارَها
بُولُس. وذلكَ بسببِ كثرة عبادَةِ الأصنامِ فيها الذي أقلَقَت بُولُس جداً،
لأنَّهُ يعرِفُ أنَّ هذه الأصنام ليسَت آلِهة، وأنَّ هؤلاء الناس لن يعرِفُوا
اللهَ الحقيقيّ من خِلالِ هذه الأَوثان.

 

 لقد
شكَّلَ هَمٌّ أساسيٌّ نمُوذَجَ ستراتيجيَّتهِ الإرساليَّة في المُدُن التي
بَشَّرَها. فلَقَد ذهَب أوَّلاً إلى المجمَع، وأعَلن لليَهُود أنَّ: "يسُوع
هُوَ المسيح." كانَ بُولُس مُعلِّماً للنامُوس، وكانت لديهِ وثائق تُبرهِنُ
هذا. لهذا، كانَ يذهَبُ إلى المجمَع ليحصَلَ على إذنٍ بالكلامِ والتعليم. ثُمَّ
كانَ يَعِظُ ويُعلِّمُ الإنجيلَ لليهُود. كانت هذه دائماً ستراتيجيَّةُ بُولُس،
"لليهودي أوَّلاً، ثُمَّ لليُوناني." (رُومية 1: 16). فحتَّى ولو أنَّ
بُولُس مدعوٌّ ليخدُمَ للعالم غير اليهودي، إلا أنَّهُ كانَ مُثقَّلاً جداً تجاهَ
الشعبِ اليهودي، ولذلكَ دائماً كانَ يذهَبُ أوَّلاً لتَبشيرِ اليهود. بإمكانِنا أن
نفهَمَ لماذا ذهبَ دائِماً ليكرِزَ لليهُود أوَّلاً، عندما نقرَأُ وصفَهُ للثِّقل
الذي كانَ على قلبِهِ تجاهَ اليهود في رِسالتِهِ إلى أهلِ رُومية (9: 1-5).

 

 الجزءُ
الثاني من ستراتيجيَّتِهِ، هُوَ أنَّهُ كان يذهَبُ إلى السُّوقِ ويكرِزُ بالإنجيل
حيثُ كانَ الناسُ يتجمَّعُونَ بأعدادٍ كَبيرَة. نقرأ، "وأمَّا الأثينيُّونَ
أجمَعُون والغُرَباء المُستَوطِنون فلا يتفرَّغُونَ لِشَئٍ آخر إلا لأن يتكلَّمُوا
أو يسمَعوا شيئاً حديثاً." (أعمال 17: 21) لقد كانَ اليونانِيُّونًَ
متَفلسِفِينَ، وأحبُّوا المُحاجَجَةَ في مواضيع فكريَّة عميقَة، خاصَّة الجديدة
منها. وهكذا كانَ بُولُس يذهَبُ إلى السُّوقِ كُلَّ يَومٍ، ويُشارِكُ الإنجيلَ معَ
أيٍّ شخصٍ يسمَعُهُ.

 

 بُعدٌ
آخر في ستراتيجَّتِهِ، كانَ أن يُقدِّمَ الإنجيلَ للقادَةِ ذوي التأثير في
المُجتَمَع. فبِما أنَّ بُولُس كانَ أحد أعظَم مُفَكِّري عصرِهِ، كانَ فعَّالاً
جداً في الوُصُولِ إلى هؤلاء القادَة. وبينما كانَ يُطبِّقُ ستراتِيجيَّتَهُ في
أثينا، دُعِيَ عرَضاً إلى مكانٍ جميلٍ مُمَيَّز على تلَّةِ مارس، التي كانت
تُعرَفُ بآريُوس باغُوس. كانَ آريُوس باغُوس مكانَاً لا يُدعَى إليهِ إلا أشخاصٌ
مشهُورونَ للمُقارَعة. وكان المكانُ يُستَخدَمُ أيضاً كقاعَةِ محكَمة، وكانَ
مُشرِفاً على مدينَةِ أثينا. عندما دُعِيَ بُولُس ليتكلَّمَ في آريُوس باغُوس على
تلَّةِ مارس، ألقَى عِظَةً في مُنتَهى البَلاغة. بدأَ بالقول: "أيُّها
الرجالُ الأثِينيُّون أراكُم من كُلِّ وجهٍ مُتَدَيِّنونَ كثيراً. لأنَّني بينما
كُنتُ أجتازُ وأنظُرُ إلى معبُوداتِكُم وجدتُ أيضاً مذبَحاً مكتُوباً عليهِ: لإلهٍ
مجهول. فالذي تتَّقُونَهُ وأنتُم تجهَلُونَهُ هذا أنا أُنادي لكُم بهِ." (22،
23).

 

 لقد
كانَ تصرُّفُ بُولُس في غايَةِ الذَّكاء. مدَحَ بُولُس شعبَ أثينا لكَونِهم
مَُتَديِّنين. ثُمَّ قالَ لهُم ما معناهُ، "رأيتُ أنَّ أحدَ آلهِتِكُم كانَ
مكتُوباً تحتَهُ ما يعني أنَّهُ يُوجَدُ على الأقلّ إلهٌ واحِدٌ أنتُم
تجهَلُونَهُ. هذا هوَ الإلهُ الذي سأُخبِرُكُم عنهُ."

 

 ثُمَّ
وعظَ بُولُس أنَّنا نحنُ ذُرِّيَّةُ الإله خالِقِ السماءِ والأرض. لهذا، لا يُمكِن
أن يُصنَعَ اللهُ من ذهَب أو فضَّة أو حجر أو خشب. هُنا يقتَبِسُ بُولُس من
شُعرائِهم اليُونانِيِّين، لأنَّهُ حتَّى شعراؤُهُم قالُوا أنَّنا ذُرِّيَّةُ
اللهُ. ومن ثَمَّ إقتَبَسَ من شُعَرائِهم، وفي نهايَةِ عظتِهِ، أعلنَ موت وقِيامَة
يسُوع المسيح. وعندما وعظَ بُولُس عنِ القِيامة، نقرَأُ: "ولمَّا سمِعُوا
بالقِيامَةِ من الأموات كانَ البَعضُ يَستَهزِئُونَ والبَعضُ يَقُولُون سنسمَعُ
مِنكَ عن هذا أيضاً. وهكذا خرجَ بُولُس من وَسَطِهم. ولَكِنَّ أُناساً إلتَصَقُوا
بهِ وآمنُوا. منهُم دِيونِيسيُوس الأريُوباغِيّ وامرأَةٌ إسمُها دامِرس وآخرُونَ
معَهُما." (32- 34)

هل تبحث عن  الكتاب المقدس يسوعية كاثوليكية عهد جديد سفر رؤيا يوحنا اللاهوتى 12

 

يختَلِفُ
المُفسِّرونَ حولَ طريقَةِ تقييم عِظَةِ بُولُس على تَلَّةِ مارس. يعتَقِدُ بعضُ
المُفسِّرين أنَّ بُولُس إستسلَمَ للضُّغُوطات الفكريَّة للحضارَةِ اليُونانيَّة،
عندما إقتَبَسَ من فلاسفتِهم وشُعَرائِهم، ولهذا كانت الحصيلَةُ التبشيريَّةُ
هزيلَةً جداً. فلا نَجدُ رسالَةً إلى أهلِ أثينا، ولا نرى بُولُس يُشيرُ إلى
كنيسةٍ أسَّسَها في أثينا كما في سائِرِ المُدُن، مثل كُورنثُوس وأفسُس. هُناكَ
مُفسِّرُونَ آخرونَ يُخالِفُونَ هذا الرأي. أنا شخصيَّاً مُقتَنِعٌ أنَّ بُولُس
نما في فلسفةِ وعظِهِ التَّبشِيريّ نتيجَةً لإختِبارِهِ في أثينا.

 

الإنجيلُ
يَصِلُ إلى كُورنثُوس

 من
أثينا، إنتَقَلَ بُولُس مُباشَرَةً إلى كُورنثُوس. ولقد كانت كُورنثُوس مدينَةً
مُنحَلًَّةً أَخلاقِيَّاً. في عالَمِ القرنِ الأوَّل، أن تدعُوَ شخصاً
"كُورنثُوسِيّ" كان يعني أنَّكَ تتَّهِمُهُ بأنَّهُ مُنحَلٌّ
أخلاقِيَّاً. بينما كانَ بُولُس يتفكَّرُ في الكرازَةِ بالإنجيل في مدينَةٍ مثل
كُورنثُوس، إمتَلأَ بالخَوف (1كُورنثُوس 2: 3). ولكنَّ اللهَ طمأنَ بُولُسَ في
رُؤيا قائِلاً لهُ، "لا تخَفْ بل تكلَّم ولا تسكُتْ. لأنِّي أنا معكَ ولا
يقَعُ بكَ أحدٌ ليُؤذِيَكَ. لأنَّ لي شعباً كثيراً في هذه المدينَة." (أعمال
18: 9، 10).

 

لقد
كانت لدى بُولُس عنصَرتُهُ الخاصَّة لتحضيرِهِ لخدمتِهِ في كُورنثُوس. بمعنى ما
بإمكانِنا القَول أنَّهُ كانَ لدَيهِ إختِبارٌ حضَّرَهُ لخدَماتِهِ للغَلاطِيِّين،
للأفسُسِيِّين، للفِيلبِّيِّين، وللكُورنثِيِّين. لقد كانت هذه الإختِباراتُ
تَدَخُّلات إلهيَّة أكَّدَت لبُولُس حقيقَةَ أنَّ المسيح الحَي القائِم من الموت
كانَ معَهُ عندما كانَ ينشُرُ الإنجيل في هذه المُدُن الستراتيجيَّة. وهكذا
إستَمرَّت عجائِبُ وآياتُ يوم الخمسين كصدى تمَوُّجاتٍ من القُوَّة لتُمكِّنَ
الكنيسةَ من إعلانِ الإنجيل الذي إئتَمَنَها عليهِ المسيح. إنَّ نماذِجَ يوم
الخَمسين أو العَنصَرَة هي التي زرعت الكنيسة في الجيل الأوِّل من التاريخ
الكَنَسيّ.

 

إنَّ
وُجهَةَ النَّظَرِ التي شاركتُكُم بها عن العظة التي ألقاها بُولُس في أثينا، لها
علاقَةٌ بوُجهَةِ النظر التي شارَكَها بُولُس معَ مُؤمني كُورنثُوس. لقد كتبَ لهُم
قائِلاً أنَّهُ عندما أتى إلى كُورنثُوس، كانَ قد قرَّرَ أن لا يستَخِدِمَ
"كلامَ الحكمةِ الإنسانِيَّة المُقنِع،" بل أن يُقدِّمَ بِبَساطَةٍ
بُرهان الرُّوح والقُوَّة (1كُورنثُوس 2: 1- 5). عندما ألقَى بُولُس تِلكَ العظة
على تَلَّةِ مارس، لم يستَخدِم "كلامَ الحِكمَةِ الإنسانيَّةِ
المُقنِع." إقتَبَسَ من شُعَرائِهم وفلاسِفتِهم، مُلقِياً عظةً في مُنتَهى
البَلاغَةِ والذَّكاء.

 

إنَّ
الكلمة اليُونانِيَّة "تبشير" تعني حَرفِيَّاً "إعلان"، أي
الطريقة التي كانَ يُعلَنُ بها مرسُومُ المَلِك لِرعاياهُ في مُدُنِ وقُرى
مملكتِهِ. إذ تدرُسُونَ وعظَ بُولُس في الإصحاحاتِ الستَّة القادِمة من هذا السفر
التاريخي المُوحى بهِ، لاحِظوا أنَّ ما تعلَّمَهُ بُولُس بينَ أثينا وكُورنثُوس
كانَ محطَّةً رُوحِيَّة في تكوينَ ستراتيجيَّتِهِ لِلوعظِ بالإنجيل.

 

أنا
مُقتَنِعٌ أنَّهُ بينَ خَدَماتِهِ في أثينا وكُورنثُوس، إختَبَرَ بُولُس أزمةً
أثَّرَت بِعُمق على ستراتيجيَّتِهِ في وعظِ الإنجيل. لقد أدركَ بُولُس أنَّ الوعظَ
كانَ خِدمَةً رُوحِيَّةً، وكُلّ ما كانَ يحتاجُ إليهِ هُو أن يُعلِنَ حقائِقَ
الإنجيل عن يسُوع المسيح. ختمَ بُولُس رسالتَهُ إلى الكُورنثُوسيِّين بِتصريحٍ آخر
عن الإنجيل الذي كرزَ بهِ عندما جاءَ إلى مدينتِهِم (1كُورنثُوس 15: 1-4). كتبَ
يقُولُ لأهلِ رُومية: "لستُ أستَحي بإنجيلِ المسيح لأنَّهُ قُوَّةُ اللهِ
للخلاص لكُلِّ من يُؤمِن." (رُومية 1: 16).

 

بعدَ
أثينا وكُورنثُوس، أعلَنَ بُولُس ببساطَة رسالةَ الإنجيل، وتحدَّثَ تِكراراً عن
إختِبارِهِ الشخصِيّ وعن كيفَيَّةِ إختِبارِهِ لهذا الإنجيل.

 

بُولُس
في أفسُس

 لقد
كانت خدمَةُ بُولُس العظيمة في مدينَةِ أفسُس هي إتمامُهُ لِرغبَتِهِ بإيصالِ
الإنجيل إلى آسيا. في أفسُس، دخلَ بُولُس في مجالِ خدمةِ مُثمِرَةٍ جداً في تأسيسِ
الكنائِس. يعتَقِدُ المُفسِّرُون أنَّ الكنيسةَ التي تأسَّسَت في أفسُس أصبَحت
الكَنيسة الأُمّ التي وُلِدَت منها ستَّةُ كنائِس أُخرى، التي نراها مذكُورَةً في
سفرِ الرُّؤيا. فكنائِسُ برغامُس، ثِياتِيرا، سميرنا، فيلادِلفِيا، لاوُدكِيَّة،
وساردِس، لرُبَّما كانت مراكز تبشيريَّة أسَّستها كنيسَةُ أفسُس. إنَّ رسالَةَ
بُولُس إلى أهلِ كُولُوسي لَرُبَّما وُجِّهَت إلى كنيسةٍ كانت أيضاً إبنَة كنيسةَ
أفسُس.

 

 أحد
أسباب كون الكنيسة التي تأسَّست في أفسُس مُثمِرَةً إلى هذا الحدّ، هُوَ أنَّ
بُولُس أسَّسَ فيها مدرَسَة لاُهوت. نقرَأُ أنَّهُ علَّمَ "في مدرَسَة
تيرانُّوس لمُدَّةِ سنتَين." (أعمال 19: 10). تُخبِرُنا إحدى المخطُوطات
القديمة أنَّهُ كانَ بإمكانِ بُولُس أن يستَعيرَ مبنى هذه المدرسة ويُعلِّم فيها
من الحادِيَة عشرة صباحاً وحتَّى الخامِسة مساءً من كُلِّ يَوم، أي في الوقت الذي
لم تكُن المدرَسَةُ تُستَخدَمُ فيه. ففي هذا الجزء من العالم، يتوقَّفُ نهارُ
العمَل لبِضعِ ساعاتٍ من قَيلُولَةِ العصرِ، عندما يكُونُ الطقسُ حارًّاً، ممَّا
يُوقِفُ الصُّفُوف.

 

 لرُبَّما
درَّبَ بُولُس رُعاةَ هذه المراكِز التَّبشيريَّة في تلكَ المدرسة. إنَّ مدرسَةَ
الله هذه تُفسِّرُ لماذا بَقِيَ بُولُس في أفسُس لأكثَرِ من ثلاثِ سنوات، هذه
المُدَّة التي كانت أطوَل من تِلكَ التي قضاها في أيٍّ من المُدنِ الأُخرى التي
أسَّسَ فيها كنائِس. لقد كانت الكنيسةُ في أَفَسُس قد تعلَّمت الكَثير بِعُمق من
خِلالِ هذا الراعي والمُعلِّم، لدرجةِ أنَّهُ يُذكِّرُهم في النِّصفِ الأوَّل من
رسالتِهِ الرائِعة للأفسُسِيِّن بما سبقَ وعلَّمَهُم بهِ.

 

 إحدى
أكثر المُلاحظات تأثيراً حِيالَ بُولُس وخدمتِهِ في سفرِ الأعمال التاريخي هذا،
نجدُها في الإصحاح العشرين. لقد كانَ بُولُس على طريقَهِ إلى أُورشليم، حيثُ
أوضَحَ الرُّوحُ القُدُسُ أنَّهُ سيتمُّ توقِيفُهُ هُناك، وسوفَ يُقَيَّدُ ويُضرَب
(أعمال 20: 22- 24). عندما وصلَ إلى مكانٍ يُسمَّى مِيليتُس، بالقُربِ من أفسُس،
أَدرَكَ أنَّهُ لن يكُونَ مُجدَّداً قريباً من هؤلاء المُؤمنين، الذي وضعَ فيهم
الكثير من الجُهد في خدمتهِ معهُم. لهذا أرسلَ بطلبِ شُيوخِ كنيسةِ أفسُس، وهُناك،
على شاطِئِ ميليتُس، أعطاهُم خَطَابَهُ الوداعِي. لقد كان كلماتُ بُولُس الأخيرة
لهؤلاء الشيُوخ هي: "والآن أستَودِعُكُم يا إخوَتي لله ولِكَلِمَة نعمتِهِ
القادِرة أن تَبنِيَكُم وتُعطِيَكُم مِيراثاً معَ جميعِ المُقدَّسين. فِضَّةَ أو
ذهَبَ أو لِباسَ أحدٍ لم أشتَهِ. أنتُم تعلمُونَ أنَّ حاجاتي وحاجات الذين معي
خدمتها هاتانِ اليَدان. في كُلِّ شيءٍ أريتُكُم أنَّهُ هكذا ينبَغي أنَّكُم
تتعَبُونَ وتعضُدُونَ الضُّعَفاء مُتَذَكِّرينَ كَلِماتِ الرَّبّ يسوع أنَّهُ
قالَ: مغبُوطٌ هُوَ العطاءُ أكثَر من الأخذ." (أعمال 20: 32- 35).

 

 بما
أنَّ بُولُس دعَمَ نفسَهُ في أفسُس، لم يستَطِعْ أحدٌ أن يتَّهِمَهُ بالوعظِ
والتعليمِ لِقاءَ أُجرَةٍ أو عطايا أرادَ الحُصُولَ عليها منهُم. بالواقِع، لم
يدعَمْ بُولُس نفسَهُ فحسب، بل ودعمَ كُلَّ فريقه الإرساليّ أيضاً، لأنَّهُ
أرادَهُم أن يتعلَّمُوا حقيقَةَ كلمات يسوع، "مغبُوطٌ هُوَ العطاءُ أكثر من
الأخذ." إنَّ تصريحَ يسُوع هذا ينبَغي أن يُمثِّلَ دافِعنا للعملِ الشاق. فإن
كُنَّا نعمَلُ عملاً شاقَّاً ونَكسَبُ المال، سيكُونُ لدينا شيءٌ نُعطيه، ولهذا
سيكُونُ بإمكانِنا أن نتعلَّمَ هذه "التطويبة التاسِعة" من يسُوع.

 

 عندما
أخبَرَ بُولُس هؤلاء الشُّيُوخ أنَّهُم لن يرَوا وجهَهُ ثانِيَةً، "كانَ
بُكاءٌ عظيمٌ من الجَميع ووَقَعُوا على عُنُقِ بُولُس يُقَبِّلُونَهُ." (37)
إنَّ هذه هي نظرَةٌ جميلة لعبارَة
Koinonia, أو الشركة الحميمة التي نجدُها في الجيلِ الأوَّل من الكنيسة.

 

الفَصلُ
الثامِن "نماذِج بُولُس"

 في
الإصحاح الحادِي والعشرين، نقرَأُ أنَّ بُولُس وصَلَ إلى أُورشليم وبدَأَ بالوعظ.
ونتيجَةً لوعظِهِ، تعرَّضَ لِهُجُومٍ من قِبَلِ الجُموع الصاخِبَة (27). لقد ضربَ
الجمعُ بُولُسَ حتَّى قارَبَ الموت، وعندها أتى ضابِطٌ رُومانِيٌّ معَ جُنودِهِ،
وأنقُذُوا بُولُس من أيديهم. بينما كانَ الجُنُودُ يحمِلُونَ بُولُس فوقَ
رُؤُوسِهم إلى داخِلِ القلعة، حيثُ سيكونُ سجينَ رُوما، إلتَمسَ بُولُس من القائد
العسكَري أن يُنزِلُوهُ عنِ الأكُفّ وأن يدعُوهُ يعِظ، لأنَّهُ رأى فُرصَةً رائعةً
للوعظِ بالإنجيل. وهكذا ألقَى عظةً رائعة، نراها مُسَجَّلَةً في الإصحاحِ التالي.

 

 لم
تكُن هذه العظة كالعظة التي ألقاها بُولُس على تلَّةِ مارس في آريوس باغُوس. هُنا
لم يقتَبِس بُولُس من الشُّعراء والفلاسفة، ولم يستَخدِم كلامَ الحكمةِ
الإنسانيَّةِ المُقنِع. بل أعطى شهادةَ إختِبارِهِ الشخصي للمسيح. وأخبَرَ عن
قصَّتِهِ أو إختِبارِهِ معَ الله ومعَ يسوع المسيح. ولم تكُن ردَّةُ الفعلِ
مُتنوِّعة. نقرأ: "فسَمِعوا لهُ حتَّىهذه الكَلمة ثُمَّ رفعوا أصواتَهُم
قائِلين خُذْ مثلَ هذا منَ الأرض لأنَّهُ كانَ لا يجوزُ لهُ أن يعيش." (22:
22) فعندما ثارَ الجمعُ مُجَدَّداً، عادُ الجُنودُ وأخذُوا بُولُس إلى القَلعَة.

 

 عندما
كانَ الرومانُ يُوقِفونَ أحداً، كانُوا يقومونَ بِتقييدِهِ إلى عامُودٍ وسطَ
الساحة وبجلدِهِ، وكانُوا يفعلونَ هذا إلفاتاً للإنتِباه. وكانُوا يُسمُّونَ هذا
"الفحص بالضرب." وبينما كانوا على وشكِ تقييدِ بُولُس إلى عامُودٍ
لضربِهِ، قالَ بُولُس للجُنود الذينَ كانُوا يُقيِّدُونَهُ أنَّهُ مُواطِنٌ
رُومانِيّ. فذهبَ الجُنودُ إلى الأمير وأخبَروهُ أن لا يجلُدَ بُولُس (29). لا
يسعُني إلا أن أتساءَلَ لماذا لم يُعلِن بُولُس حقُوقَهُ كحامِلٍ للجِنسيَّةِ
الرُّومانيَّة عندما أُوقِفَ هُوَ وسيلا وضُرِبُوا في فِيلبِّي. لرُبَّما سمحَ
لنفسِهِ أن يُضرَبَ هُناكَ، لأنَّهُ أرادَ أن يستَخدِمَ هذا كَوَرَقَة ضغط على
حُكَّامِ تِلكَ المدينة فيما بعد.

 

 بعدَ
أن قرَّرَ الرُّومانُ أنَّهُ لم يعُد بوُسعِهم أن يضرِبُوه، وضعُوهُ في السجن. وفي
اليومِ التالي، قرَّرُوا أن يبدَأوا المُحاكَمة أمامَ رئيسِ الكهنة والسنهَدريم.
ودُعِيَ اليهودُ المُتَديِّنون الذين كانوا يُحاجِجونَ بُولُس، لِكي يُوجِّهوا لهُ
التهمَ في المُحاكَمة.

 

 يبدأُ
سجلُّ المُحاكَمة في أعمال 23. كانَت هذه أوَّلُ مُحاكمَةٍ من سلسلةٍ طويلةٍ من
المُحاكمات التي سيخضَعُ لها بُولُس. نرى إنسانِيَّة بُولُس عندما تبدَأُ هذه
المُحاكَمة. فلقد جالَ بنظَرِهِ في قاعةِ المحكمة بمقدارِ ما ساعدَهُ نظرُهُ على
تمييزِ الحاضِرين، ولاحظَ أنَّ نصفَ الحُضور هُم من الفرِّيسيِّين، أي من اليهود
المُحافِظين. لقد كانُوا جماعَةً مُنظَّمة مُهِمَّتُها الدفاعُ عن إستقامَة
الإيمان اليهوديّ. وكانَ النصفُ الآخرُ من الحُضورِ من الصدُّوقِيِّين. وكانَ
هؤلاء من المُتحرِّرين. فلم يكنِ الصدُّوقِيُّونَ يُؤمِنونَ لا بالقِيامَة، ولا
بالأُمور الخارِقة للطبيعة. وهكذا نظرَ بُولُس حولَهُ في قاعَةِ المحكمة، فرأى
أنَّها مقسومَةٌ مُناصفةً بينَ الصدُّوقِيِّينَ المُتَحرِّرين، والفريسيِّينَ
المُحافِظين. فوقفَ بُولُس وقدَّمَ تصريحاً حَذِقاً قائلاً، "ايُّها الرجالُ
الإخوة أنا فرّيسيٌّ إبنُ فرِّيسيّ. على رجاءِ قِيامَةِ الأمواتِ أن
أُحاكَم." (أعمال 23: 6)

 

عندما
صَرَّحَ بُولُس بفِطنةٍ بإيمانِهِ بِقيامَةِ الأموات، حدثَت مُنازَعَةٌ بينَ
الفَرِّيسيِّينَ والصدُّوقِيِّين، فإنحازَ الفرِّيسيُّونَ إلى بُولُس. لقد عرفَ
بُولُس أنَّهُ لن ينالَ مُحاكَمةً عادِلة في هذه المحكَمة، بسبب مُحاولةِ اليهود
السُّخرية منهُ. فقرَّرَ أن يقلِبَ المحكمةَ رأساً على عقِب، كما فعلَ في مَدينَةِ
فيلبِّي. فكانَ على الجُنودِ أن يُنقِذوهُ ثانِيَةً ويأخذُوهُ إلى القَلعة
ليضعُوهُ في السجن، من أجلِ حِمايَتِه.

 

 فقامَ
أربعونَ من هؤلاء اليهود بأخذِ عهدٍ على أنفُسِهم بأن لا يأكُلوا ولا يشرَبوا إلى
أن يقتُلوا بُولُس. كانت خطَّتُهم أن يكمُنوا لهُ على الطريق، ويقتُلوهُ بينما
يُحضَرُ للإستجواب (12). وسمِعَ إبن أُخت بُولُس هؤلاء اليهود الصائمين يتآمَرونَ
لقَتلِ بُولُس، فجاءَ إلى السجن وزارَ بُولُس وأخبَرهُ عن هذه المُؤامَرة. ثُمَّ
ذهبَ الشابُّ إلى الأمير وأخبَرهُ ما كانَ يُخطِّطُ لهُ هؤلاء الأربعون يهوديَّاً.

 

 فإتَّخذَ
هذا الأميرُ قراراً بأن يُرسِلَ بُولُس إلى مكانٍ آخر ويُخرِجَهُ من تحتِ
مسؤوليَّتِه. وهو لم يكُن يعرِف ماذا فعلَ بُولُس أو ما الذي كانَ يحدُث، ولكنَّهُ
عرفَ أنَّ هذا الرجُل كانَ مصدَرَ المشاكِل. وهكذا نقرأُ أنَّهُ "دعا إثنين
من قُوَّادِ المِئات وقالَ أعِدَّا مِئتَي عسكَري ليذهَبوا إلى قيصَريَّة وسبعينَ
فارِساً ومئتي رامِحٍ من الساعَةِ الثالِثة من الليل. وأن يُقدِّما دوابَّ
ليُركِبا بُولُس ويُوصِلاهُ سالِماً إلى فيلكس الوالي." (23، 24)

 

 أليسَ
هذا مُثيراً للإهتِمام؟ فتحتَ جناحِ الظَّلام، إذا بِهذا اليهوديُّ الصغيرُ القامة
الضعيفُ النظَر، والذي كانَ مُجرَّحاً من كثرةِ ضربِ اليهود المُتعصِّبينَ
الهائجينَ لهُ، إذا بهِ يُحاطُ بحمايَةِ أربعمائة وسبعين جُندِياً رومانيَّاً
لحمايتِهِ، ثُمَّ تسلَّلَ هؤلاء بهِ من البابِ الخلفي للقلعة، وأخذوهُ على شاطِيءِ
البحرِ المُتوسِّط، ذاهِبينَ من أورشليم إلى قيصريَّة في فلسطين.

 

المُثُول
أمامَ حاكِمَين

 عندما
وصلَ بُولُس إلى قيصريَّة في فِلسطين، سُلِّمَ للوالي فيلكس. فطلبَ فيلكس من
اليهود أن يحضُروا إلى قيصريَّة لكي يتَّهِمُوا بُولُس بِجرائِمِهِ. فجاءَ اليهود،
وهُنا أيضاً ألقى بُولُس رسالةً عظيمة أمامَ الوالي ومحكَمَتِه. فأخبَرَ بُولُس
مُجدَّداً بقصَّةِ إختِبارِهِ.

 

وفي
نهايَةِ هذه المُحاكَمة، قرَّرَ فيلكس أنَّ هذا الرجُل بُولُس لا يجب أن يُعتَبَرَ
مُجرِماً. ولكنَّهُ قرَّرَ أن يُبقِيَ بُولُس تحتَ الإقامَةِ الجبريَّة نوعاً ما،
إلى أن يُقرِّرَ فيلكس ما سيفعلُهُ بهذا السجين غير الإعتِيادِي (أعمال 24: 22،
23).

 

لقدِ
اِفْتُتِنَ الحاكِمُ فيلكس وزوجتُهُ اليهُوديَّة درُوسيلا بِبُولُس ساعةَ سمِعاهُ
يُدافعُ عن نفسِهِ. تأَثَّرا جداً حتىَّ طَلَبا مَوْعِداً معَهُ على اِنْفراد.
ولقد كانَ من دَواعي سُرورِ بُولُس أن يقومَ بهذا العمل، ولكنَّ رسالتَهُ كانَت
تُسبِّبُ الإضطراب. "وبينما كانَ بُولُس يَتَكلَّمُ عَنِ البرِّ والتَّعفُّفِ
والدينونةِ العتيدةِ أنْ تكونَ، اِرتعَبَ فيلكس وأجابَ: أمّا الآن فاذهبْ ومتى
حَصَلْتُ على وَقْتٍ أَستدعيكَ". (24، 25).

 

لقد
تبكَّتَ الحاكِمُ بِوُضُوحٍ من الرُّوحِ القُدُس عندما سمِعَ بُولُس يعِظ، في
الجماعَةِ أم على إنفِراد. فكانَ غالِباً ما يدعُو بُولُس، ولكنَّنا نُخبَرُ أنَّ
دوافِعَهُ كانت أن يأخُذَ من بُولُس مالاً ليُطلِقَهُ. ونقرَأُ أيضاً أنَّهُ أبقَى
بُولُس في السجن ليسترضِيَ اليهود.

 

ولمّا
كََمَلَتْ سنتانِ، ماتَ فِيلكسُ وجاءَ بوركيوسَ فستوس خليفةً له. عندما اكتشفَ
الحاكمُ فستوس حالما استلمَ السُّلطةَ أنَّ في حَوْزَتِهِ سَجينا مشهوراً دينياً
وسياسياً، إستدْعاهُ إلى المحُاكمةِ. لقد عَرَفَ بولسُ أنَّه لن يُحاكَمَ بعدالةٍ
في محاكِمَ تحتَ تأثيرِ اليهُود في أورشليم. لهذا رَفَعَ بُولُس دعواهُ في هذه
المُحاكَمة إلى قيصر، الذي كانَ من حقِّهِ كمُواطِنٍ رُومانِيّ (أعمال 25: 10).
فأجابَ الحاكمُ: "إلى قيصر رفعْتَ دعواكَ، إلى قيصر تَذهبُ" (12).

 

أمامَ
المَلِك أغريباس

بينما
كَانَ يَنْتَظِرُ بولسُ أن يُرَحَّلَ إلى روما، نَزَلَ الملكُ أغريباس وزوجتُهُ
برنيكي ضَيفانِ على الحاكمِ فستوس. فبعدَ أن سمِعا عن بُولُس، أخبَرا فستُوس أنَّهُما
يُحِبَّانِ أن يلتَقِيا بِبُولُس (22). هل تَذْكُرُ ما قالَهُ الربُّ لحنانيا عن
خطتِهِ لبولس، قال له: "سيَحملُ إسمي أمامَ أُممٍ وملوك وبَني إسرائيل"
(أعمال 9: 15). لقد تحقَّقَت هذه النُّبُوَّة عندما إلتَقى بُولُس بالمَلِك
أغريباس.

 

وهكذا
أُحضِرَ بولسُ أمامَ الملكِ والملكة، حيثُ ألقَى عظَةً أُخرى رائعة. مَرَّةً أُخرى
أخبَرَ بُولُس عن قصَّةِ تجديدهِ على طَريقِ دِمَشق. وبينما كان بولس الرسولُ
يَخْتِمُ عِظتَهُ العظيمةَ، وَقَفَ الحاكمُ وقالَ: "أنتَ تهذي يا بولس.
الكُتُب الكثيرة تُحَوِّلُكَ إلى الهَذَيان!" (أعمال 26: 24).

 

إنَّ
المصطلح "تهذي" يعني في اليونانية "غريب الأطوار،" أو
"خارج مِحوَر ذاتِكَ". نعم هذا صحيح، لقد ابْتَعَدَ بولُس عَنِ المركز.
كانَ لبولس مركزا آخرَ تَدورُ حولَهُ حياتُهُ. ذلك المركزُ كانَ المسيحَ يسوع
المُقامُ الذي قابَلَهُ على طريقِ دمشق. فمثل فيلكس، تأثَّرَ الحاكِمُ فِستُوس
أيضاً بكلماتِ بُولُس.

 

لكنَّ
بولس تحوَّلَ بالحديثِ إلى الملك. كانَ الملكُ أغريباس مِنْ أصلٍ يهودي، لهذا
سألَهُ بُولُس، "أَتؤمنُ أيُّها الملكُ أغريباس بالأنبياء؟ أنا أَعْلَمُ
أنَّك تُؤمنُ. فقالَ أغريباس لبولس بقليلٍ تُقنِعني أنْ أَصيرَ مسيحيا" (27،
28).

 

على
الرَّغْمِ مِنْ أنَّ بعضَ المُفسِّرين لا يَرونَ صِدقاً بل تهكُّماً في كلامِ
أغريباس عندما قالَ "بِقيلٍ تُقنعَني أنْ أَصِيرَ مسيحيا"، إلاّ أنَّني
أرى إخلاصا فيما قال. لهذا كانَ جوابُ بولس مُخلِصا أيضا إذْ قالَ: "كنتُ أُصلِّي
إلى الله أنَّه بقليلٍ وبكثيرٍ ليس أنتَ فقط، بلِ أيضا جميعُ الذين يَسمعونَني
اليومَ يَصيرون هكذا ما خلا هذه القيود". (29)

 

سببٌ
آخرٌ يجعلُني أَعتقدُ أنَّ أغريباس كانَ صادقا، هو ما نقرأُهُ عن تجاوُبِ الملك،
والملكة، والحاكِم، بعدَ أن تكلَّمَ بُولُس: "فلمَّا قالَ هذا قامَ الملكُ
والوالي وبرنيكي والجالسون معهم. وانصرفوا وهم يُكلِّمونَ بعضُهم بعضا قائلين إنَّ
هذا الإنسانَ ليس يَفعلُ شيئا يَستحقُّ الموتَ أو القيود. وقالَ أغريباس لفستوس
كانَ يُمكنُ أنْ يُطلقَ هذا الإنسانُ لو لم يَكنْ قد رَفَعَ دعواه إلى قيصر".
(30 – 32)

 

رحلَة
بُولُس إلى رُوما

إحدَى
أكثر القصص إثارَةً في هذا السفرِ التاريخيّ المُوحَى بهِ، هُوَ سردُ لُوقا
لرَحلَةِ بُولُس في البَحرِ إلى رُوما (أعمال 27). لقد برهَنَ بُولُس عن قُدُراتٍ
قِيَادِيَّة غير إعتِيادِيَّة عندما حمَلَ شهادَةً عجائِبِيَّة لكُلِّ الناجِينَ
من هذه الرحلة معَهُ. لقد أخذَ كَلِمَةً من الرَّبّ أنَّهُ بسبب ظُروف الطقس التي
تُهدِّدُ سفرَهُم بالخَطر، فعلى السفينة أن لا تُبحِر عندما تَصِلُ إلى كريت.
ولكنَّ القادَةَ الرُّومانِيين لم يُصغُوا لنصيحَةِ سجينِهم بُولُس.

 

 وعندما
هبَّت العاصِفة التي تنبَّأَ بها بُولُس، وبعدَ أربَعةَ عشرَ يَوماً من إستسلامِ
السفينةِ لأهواءِ العاصِفة الهوجاء، وبعدَ أن أصبحَ المُسافِرونَ مُصابينَ بدُوارِ
البَحرِ، وغيرَ قادرينَ على تناوُلِ الطعام، وعظَ بُولُس هؤُلاء المُسافِرينَ
المَذعُورينَ رُفَقاءَهُ (20- 26). لقد أكَّدَ بُولُس لكُلِّ المُسافِرينَ على
مَتنِ السفينَةِ أنَّ اللهَ ظهرَ لهُ وأكَّدَ لهُ أنَّهُ بالرُّغمِ من أنَّ
السفينَةَ سوفَ تتحطَّمُ إلى أشلاء، ولكنَّ أحداً من رُكَّابِها لن يُصابَ باذىً،
بل سينجُون.

 

وعندما
تحقَّقت الكلمة النَّبَويَّة التي أخذَها بُولُس من الرَّبّ بِحذافِيرِها، نجحَ
النَّاجُونَ في الوُصُولِ إلى جزيرَةِ مالطا. فأشعَلوا ناراً لكي يُجفِّفُوا
ثِيابَهُم المُبلَّلَة وأجسادَهُم التي كانت ترتَجِفُ برداً. وإذا بأفعى سامَّة
تنشُبُ من وسطِ الحطَب المُشتَعِل وتنقَضُّ على يدِ بُولُس وتلسعهُ. فظنَّ
سُكَّانُ مالطا الأصليِّين أنَّ بُولُس كانَ ولا بُدَّ مُذنِباً بجرائِمَ فظيعة،
ولهذا كانَ اللهُ يقتصُّ منهُ العِقاب. ولكن عندما نفضَ بُولُس الأفعى السامَّة من
يدِهِ إلى النار، ولم يُصبهُ شيءٌ من الضرَر، ظنَّ السُّكَّانُ الأصلِيُّونَ
أنَّهُ ينبَغي أن يكُونَ إلهاً.

 

عندما
تمَّت مُتابَعةُ الرِّحلة إلى رُوما على متنِ سفينَةٍ أُخرى، قدَّمَ لُوقا صُورَةً
جميلةً عن المُجتَمَعِ المَسيحي الرُّوحِي في رُوما، الذي هُوَ كنيسةُ المسيح
الحَي القائم من الموت. مِنَ المُؤثِّر جِدَّاً أن نقرَأَ كيفَ تعلَّمَ
المُؤمِنُونَ في رُوما عن وُصولِ بُولُس المُتوقَّع، وكيفَ تشجَّعَ وتعزَّى
قَلبُهُ، عندما لاقاهُ المُؤمنونُ عندَ دُخُولِهِ إلى مدينَةِ رُوما سجيناً.

 

بينما
سُلِّمَ السُّجناءُ إلى سُلطاتِ السجن الرُّومانِيَّة، سُمِحَ لبُولُس أن يسكُنَ
في الإقامَةِ الجَبرِيَّة في بيتٍ إستأجَرَهُ لنَفسِهِ، حيثُ مكثَ قسرِيَّاً
لمُدَّةِ سنتَين. لقد سُمِحَ لهُ بدَعوَةِ قادَةِ اليَهُود في المدينة، وإنسجاماً
معَ ستراتيجيَّتِهِ التي تقُولُ "لليهودِي أوَّلاً"، راحَ يكرِزُ
بالإنجيل مُعلِناً أنَّ يسُوعَ هُوَ المسيح المُرسَل لهُم. فآمنَ البعضُ منهُم،
ولكنَّ مُعظَمَهُم أصبَحوا أعداءَ ألِدَّاء لبُولُس.

 

في
هذا المنزِلِ المُستَأجَر، كتبَ بُولُس رسائِلَهُ المدعُوَّة برسائِلِ السجن –
غلاطية، أفسُس، فيلبِّي، وفيلمون – وكانَ مسمُوحاً لهُ بإستِقبالِ الضُّيُوف،
وكانت آخِرُ صُورَةٍ رسمها لنا لُوقا عن هذا الرسُول المحبُوب، هي أنَّهُ كانَ
يكرِزُ بملكوتِ اللهِ لكُلِّ الذين كانُوا يزُورونَهُ ويُصغُونَ إليهِ (28: 30،
31).

 

بمعزَلٍ
عمَّا نتعلَّمُهُ من رسالةِ بُولُس الرسُول الثانِية إلى تيمُوثاوُس، علينا أن
نعتَمِدَ على تاريخِ الكنيسة لكي نعرِفَ نهايَة حياة بُولُس وخدمته. يعتَقِدُ
مُعظَمُ المُفسِّرينَ أنَّ بُولُس مَثَلَ للمُحاكَمَةِ أمامَ قيصَر، ثُمَّ أُطلِقَ
سراحُهُ، ثُمَّ ذهبَ مدعُوماً من كنيسةِ رومية لكي يُوسِّعَ تُخُومَ خدمتِهِ
الإرساليَّة العظيمة إلى إسبانيا.

 

عندما
أَحرَقَ نَيرُون رُوما، وألقى اللائمةَ على المسيحيِّين، إنفجرَ ضدَّ الكنيسةِ
إضطِّهادٌ عنيفٌ إستمرَّ لمُدَّةِ ثلاثِ قُرونٍ. فأصبَحَ المُؤمنونَ بالمسيح
مكرُوهِينَ، واعتُبِرُوا وكأنَّهُم ألدّ أعداء حُكُومَة وشعب رُوما. ولقد أصبَحَ
كُلٌّ من بطرُس وبُولُس أكثَرَ شخصيَّتين مكروهتين. فأُلقِيَ القبضُ مُجدَّداً على
بُولُس. ويعتَقِدُ المُفسِّرونَ أنَّهُ سُجِنَ عندَها في سجنِ المَامِرتَاين
المُرعِب في رُوما، من حَيثُ كتبَ رسالتَهُ الثانِية إلى تيموثاوُس، قبلَ أن
يُقطَعَ رأسُهُ.

 

هل
تشعُرُ أنَّكَ بدأتَ تتآلَفُ معَ هذا الرسُول العظيم والرائع؟ إنَّهُ كاتِبُ
الأسفار الثلاثة عشر التالية من العهدِ الجديد، والتي سنقُومُ بدراستِها تِباعاً.
فجميعُنا نحتاجُ إلى أبطال ونماذِج من الإيمان لنقتَدِيَ بها. صلاتي هي أن تُحِبَّ
بُولُس كما أحببتُهُ أنا منذُ أن قرأتُ أوَّلاً هذه الإصحاحات من سفرِ أعمالِ
الرُّسُل التي كُنَّا بِصددِ دراستِها.

 

من
خِلالِ الإصحاحاتِ الأخيرة من هذا السفر التاريخيّ، لدينا شعُورٌ أنَّ كُلَّ شيءٍ
يسيرُ نحوَ أَوْجِ القِمَّة، عندَ زِيارة بُولُس إلى عاصِمة الأمبراطُوريَّة
الرُّومانِيَّة، وإلى مُحاكمتِهِ أمامَ قيصَر. يتولَّدُ لدينا الشعُور بأنَّ
سِياقَ سَردِ التاريخ يتوقَّفُ فجأةً بدونِ نهايَة في آخرِ هذا السفر التاريخي.
يعتَقِدُ المُفسِّرونَ أنَّ الإضطِّهاد قد يكُونُ السبب الكامِن وراءَ هذه
النهايَة المَبتُورة لسفرِ الأعمال. فإذا لاحظتَ ضمير المُتكلَّم الجمع
"نحنُ" في الإصحاحَين الأخيرين، يتَّضِحُ أنَّ لُوقا كانَ معَ بُولُس في
تِلكَ المرحلة البَحريَّة العاصِفة، وعندَ دُخُولِهِ إلى رُوما. ولرُبَّما تمَّ
توقِيف لُوقا معَ بُولُس، فلم يعُدْ بإمكانِهِ أن يُتابِعَ كتابَةَ تاريخِهِ
الرائع عن الجيل الأوَّل للكنيسة.

 

وكما
ذكرتُ في بِدايَةِ هذا الكُتَيِّب، قد يكُونُ من ترتيبِ العنايَةِ الإلهيَّة، أنَّ
تاريخَ الكنيسةِ هذا لم ينتَهِ، لأنَّنا نحنُ الآن، كما سبقَ لنا وكَّنا، نكتُبُ
الإصحاحَ التاسِع والعِشرين من سفرِ الأعمال، مُنذُ يوم الخمسين، عندما وُلِدَت
كنيسةُ المسيحِ المُقام.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي