الإصحَاحُ
السَّادِسُ عَشَرَ

 

2 – تقوية
كنائس سوريا والأناضول واختيار تميوثاوس للخدمة (16: 1 – 5)

اَلأَصْحَاحُ
ٱلسَّادِسُ عَشَرَ : 1 ثُمَّ وَصَلَ إِلَى دَرْبَةَ وَلِسْتِرَةَ، وَإِذَا
تِلْمِيذٌ كَانَ هُنَاكَ ٱسْمُهُ تِيمُوثَاوُسُ، ٱبْنُ
ٱمْرَأَةٍ يَهُودِيَّةٍ مُؤْمِنَةٍ وَلٰكِنَّ أَبَاهُ يُونَانِيٌّ، 2
وَكانَ مَشْهُوداً لَهُ مِنَ ٱلإِخْوَةِ ٱلَّذِينَ فِي لِسْتِرَةَ
وَإِيقُونِيَةَ. 3 فَأَرَادَ بُولُسُ أَنْ يَخْرُجَ هٰذَا مَعَهُ،
فَأَخَذَهُ وَخَتَنَهُ مِنْ أَجْلِ ٱلْيَهُودِ ٱلَّذِينَ فِي تِلْكَ
ٱلأَمَاكِنِ، لأَنَّ ٱلْجَمِيع كَانُوا يَعْرِفُونَ أَبَاهُ أَنَّهُ
يُونَانِيٌّ. 4 وَإِذْ كَانُوا يَجْتَازُونَ فِي ٱلْمُدُنِ كَانُوا
يُسَلِّمُونَهُمُ ٱلْقَضَايَا ٱلَّتِي حَكَمَ بِهَا ٱلرُّسُلُ
وَٱلْمَشَايِخُ ٱلَّذِينَ فِي أُورُشَلِيمَ لِيَحْفَظُوهَا. 5
فَكَانَتِ ٱلْكَنَائِسُ تَتَشَدَّدُ فِي ٱلإِيمَانِ وَتَزْدَادُ فِي
ٱلْعَدَدِ كُلَّ يَوْمٍ.

صعد بولس من
طرسوس المدينة الباهرة بمدرجها وجامعاتها إلى الجبال الطورسية العالية الشرسة،
ومضى مسافات طويلة على قدميه في سهول الأناضول المرتفعة الحارة الجافة، حتى وصل
أيضاً بعد عناء كبير إلى دربة. وإننا إذ نجد في هذا المبشر شوقاً جاحاً إلى
كنائسه. حتى أنه لا يدخر لنفسه أمناً من الأخطار، وغايته أن يرى أحباءه، فكم
بالأحرى مجيء المسيح أكيداً ليتحد معنا إلى الأبد. لأنه فدانا على الصليب. أن الرب
يشتاق إلينا ويأتينا بأقرب وقت ممكن.

وفي دربة
قوى بولس وسيلا الأعضاء وأخبراهم عن الكنيسة المصلية في انطاكية. وثبتاهم في
حريتهم من الناموس التي وافقت الكنيسة الأصلية في أورشليم عليها. وكان سيلا عضواً
مبعوثاً من تلك الكنيسة، فأصبح قولهما رسمياً. كما أن سيلا كنبي من الرح القدس
أعلن مباشرة أن الأمم يتجددون بالنعمة بدون حفظ الناموس، وينالون حلول قوة الروح
القدس مجاناً بدون أعمال الإنسان، بل بالإيمان بالمسيح، الأمر الذي كان عظيماً
وجذرياً وجوهرياً بمقدار أن المستمعين كلهم فتحوا أنفسهم لروح النعمة النابعة من
العهد الجديد.

ولما وصل
المبشران إلى لسترة، وجدا هناك شاباً اسمه تيموثاوس. وقد أصبح مؤمناً في رحلة بولس
السابقة، لما رجم في تلك المدينة. وكان الشاب ابن يوناني وأمه يهودية. وامتاز هذا
المؤمن الجديد بنار المحبة والحكمة اللطيفة، حتى أنه قوى الكنائسوشجعها ووحدها
وبناها دون تفويض سابق من الرسل. وقد سافر أيضاً إلى إيقونية وزار الإخوة هناك.
فكان معروفاً عند كل المسيحيين، واعترفوا به كخادم أمين للمسيح.

وشعر بولس
ببصيرة الروح القدس، أن هذا الشاب يستطيع مساعدته ودعاه شريكاً في سفراته الطويلة
الخطيرة. وحقاً ليس أحد رافق الرسول المعذب أميناً كتيموثاوس، حتى سماه بولس ابنه
الأمين، الذي بنى النفوس في الكنائس الحديثة في فيلبي وكورنثوس وي أماكن أخرى،
حيثما لم يقدر الرسول أن يمكث طويلاً. فأصبح تيموثاوس مكملاً عمل بولس (فيلبي 2:
20 و1 كو 4: 17). والأغلب أنه بعد موت بولس صار تيموثاوس خليفة الرسول في الكنيسة
الكبيرة في أفسس. فمارس هناك ما كان قد كتبه الرسول إليه في رسائله. وصبحت هذه
الرسائل المرشدة أساساً لبنيان الكنائس حتى اليوم.

وطفحت في
دعوة هذا الشاب النشيط تيموثاوس كرفيق لبولس مشكلة عويصة، لأن أمه كانت يهودية
وأباه يوناني. فحسب الشريعة اليهودية آنذاك كان هذا الزواج غير شرعي، واعتبر الشاب
لذلك ابناً غير شرعي. فختن بولس لتيموثاوس لم يكن لتبريره أو تقديسه بل لكيلا يعثر
اليهود بنقدهم إياه. فأصبح الشاب متهوداً معترفاً به لرعوية أمه، وقدر أن يشترك مع
اليهود في الحياة الاجتماعية، كما كان بنفس الوقت يونانياً يخدم اليونانيين
بتبشيره. فلم يكن ما فعله بولس من ختن تيموثاوس ارتداد إلى عبودية الناوس، بل
تقدما في سبيل المحبة. وليس لربح الأمميين بل ليربح اليهود ختن تلميذه. فالتبشير
لا يتقيد بقالب متجمد، بل يتمشى مع حرية المحبة المضحية المتفانية بالخدمة.

الصلاة: أيها الرب
يسوع المسيح، نشكرك لأنك ولدت تيموثاوس ثانية ابناً روحياً لك وملأته بمواهب روحك
القدوس، ليبني كنائسك ويستعد للذهاب بالسفر التبشيري الصعب. ساعدنا أن نتبعك أيضاً
ونشترك في بناء كنيستك بالأمانة، ونربح نفواً باسمك.

3 – ممانعة
الروح القدس للرسل في التوجه لبعض الأمكنة (16: 6 – 10)

16: 6 وَبَعْدَ
مَا ٱجْتَازُوا فِي فِرِيجِيَّةَ وَكُورَةِ غَلاطِيَّةَ، مَنَعَهُمُ
ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِٱلْكَلِمَةِ فِي
أَسِيَّا. 7 فَلَمَّا أَتَوْا إِلَى مِيسِيَّا حَاوَلُوا أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى
بثِينِيَّةَ، فَلَمْ يَدَعْهُمُ ٱلرُّوحُ. 8 فَمَرُّوا عَلَى مِيسِيَّا
وَٱنْحَدَرُوا إِلَى تَرُوَاسَ. 9 وَظَهَرَتْ لِبُولُسَ رُؤْيَا فِي
ٱللَّيْلِ: رَجُلٌ مَكِدُونِيٌّ قَائِمٌ يَطْلُبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ:
«ٱعْبُرْ إِلَى مَكدُونِيَّةَ وَأَعِنَّا!». 10 فَلَمَّا رَأَى
ٱلرُّؤْيَا لِلْوَقْتِ طَلَبْنَا أَنْ نَخْرُجَ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ،
مُتَحَقِّقِينَ أَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ دَعَانَا لِنُبَشِّرَهُمْ.

يمتحن
المسيح أحياناً مرسليه بامتحانات ثقيلة. وإحداها صمته عن صلواتهم أو رفض
تخطيطاتهم، رغم طلباتهم الملحة المستفهمة.

لقد اجتاز
بولس وسيلا وتيموثاوس معاً الكنائس في دربة ولسترة وقونية وانطاكية الأناضولية،
ووعظوا وكرزوا ووصلوا أخيراً إلى حدود خدمتهم السابقة. فبهذا انتهت خطة بولس
الأصلية، أن يزور الكنائس الحديثة لتقويتها (15: 36). فماذا يعملون؟ أيرجون أو
يتقدمون؟

فصلى هؤلاء
المبشرون ليرشدهم الرب، إن كان يريد أن يقتحموا أفسس العاصمة المهمة لمحافظة آسيا
التابعة للرومان؟ لقد مانع الروح القدس، قائلاً لا. وهل يرجعون؟ قال لا. هل يبقون
في إيقوينة لا لا. إنه ليس لرجال الله تخطيط خصوصي. ولربما فضل بولس أن يذهب إلى
أفسس، مركز المحافظة الرومانية. ولكنه لم يتجرأ على السفر، لئلا يكون معارضاً
لمشيئة ربه، بل طلب منه أرشاده باستمرار، عالماً أن كل تقدم في ملكوت الله بدون
أمر الرب خطية مستوجبة الفشل الذريع.

وسيلا كان
نيباً (15: 32) وتكلم الروح القدس بواسطته مباشرة. كما أن هذا الروح أثبت سابقاً
للمؤمنين من الأمم حريتهم من التبعية للناموس. ولكن حتى سيلا لم يسمع جواباً من
الله، أين يذهبون، وماذا يعملون؟ فكل تخطيطاتهم شطبها روح الله. وأخياً تقدموا إلى
الشمال متكلين على الله. ومن بعدئذ شرقاً نحو غلاطية، ومن ثم غرباً. ومن هنالك
اتجهوا إلى الشمال مرة أخرى. فوصلوا بعد السفر المرهق. وفي إرشاد خفي من الروح
القدس إلى شاطئ البحر المتوسط عند ترواس، حيث وقف البحر نصب أعينهم فلم يتطيعوا
تقدماً أكثر.

ولم يتكلم
الله إليهم، فلماذا يا ترى؟ ولربما راجعوا أفكارهم، وتصوروا المشاجرة مع برنابا
وانفصالهم عنه بسبب مرقس. فهل ارتكبوا بذلك خطأ، فأحزنوا الروح القدس. ولذلك ابتعد
عنهم! ولربما فكروا في ختن تيموثاوس، هل كانت هذه العملية مضادة لحرية من الناموس،
وانحصرت قوتهم الروحية؟ أم لعل تشكلة فرقتهم لم تحز مرضاة الرب أو ارتكب أحدهم
خطية ما؟ أو أخطأوا في بعض مبادئ تبشيرهم؟ فدفعت هذه التساؤلات القديسين إلى
التوبة وانكسار الأنفس والصلوات الحارة وتمسك الإيمان بالنعمة فقط. فأدروا من
جديد، أنه لم تكن إطاعتهم للمسيح ولا عصمتهم سبباً للبركة والثمار وجريان قوة الله
فيه، بل نعمة المسيح وحدها، التي اختارتهم ودعتهم وعينتهم وقدستهم وحفظتهم. فلا
فضل للمبشرين البتة، ولا بسلوكهم ما يكفل استمرار العلم. إنما الإيمان في نعة
المصلوب المجانية هو الذي يسبب الثمار والشكر والاطمئنان. فدم المسيح يطهرنا من كل
إثم، ويحفظنا في شركتنا مع الله. فالمصالحة على الصليب هي سبب سلطان خدام الرب
فقط.

وبعد كفاحات
الإيمان الطويلة في ليالي امتحان الأنفس، وبعد الانكسار في التوبة التامة، كلم
الله بولس فجأة في الحلم. فرأى النائم رجلاً في لباس مكدوني على شاطئ البحر
الثاني، صارخاً ومنادياً. تعالوا اعبروا إلى مكدونية وساعدونا. فلم يظهرالمسيح
لرسول الأمم، بل فلاح بسيط طالب الخلاص معبر عن حاجته. وهذه الدعوة إلى الخلاص
تمثل حاجة أوروبا كلها إلى نور الشرق، وليس عكساً.

عندئذ تحاور
الرجال الثلاثة عن معنى الحلم، وأدركوا في يقين الروح القدس، أن يسوع لا يريدهم في
آسيا. بل يرسلهم نحو الغرب، صوب روما. فأدركوا معاً الحلم كدعوة إلهية وأمراً
لتبشير الإنجيل في أمة الاسكندر الكبير.

ورأساً ابتدأ
هؤلاء المبشرون تلبية الدعوة، باحثين عن سفينة مقلعة. ولم يدرسوا اللغة المكدونية،
ولم يسألوا عن معارف ووسطاء هنالك، بل انطلقوا رأساً، حيث تكلم الروح القدس إليهم
أخيراً بعد صمت طويل، وأثبت نعمته مانحاً لهم نوراً وإرشاداًإلى أفق جديد. فالآن
زال عنهم الثقل الكابس، وطغا الفرح العميم. فأبحروا مهللين مترنمين لأن عاصفة محبة
الله هبت من جديد في شراعهم.

وابتدأ من
العدد 10 يسطر المؤلف كلامه بصيغة «نحن» دالاً على أن لوقا الطبيب قد انضم إليهم
في ترواس في الوقت المناسب، الذي قيضه الله قبل الانطلاق للحصاد في البلدان الجديدة
أثناء هذه الرحلة الثانية. فنسمع من الآن الأخبار من شاهد عيان ن عجائب المسيح
الحي، التي حققها بواسطة عبيده بموكب انتصاره في أوروبا.

فتأكد لوقا
أن الرب قد وحده مع الرجال الثلاثة ليمجدوا معاً اسم الله. ولربما عرف بولس من قبل
لما كان في انطاكية – سورية. فتعاونا الآن لفتح أوروبا للمسيح.

الصلاة: أيها الرب
يسوع المسيح، نشكرك مع الرجال الثلاثة لأنك دعوتنا نحن الفاشلين الغير مستحقين،
لنمجد اسمك في محيطنا. احفظنا من الخطوات غير المتزنة، وقدس مقاصدنا، لكي نفعل
مشيئتك، وندرك الوقت والمكان، الذي نستطيع به أن مجدك.

4 – إنشاء
كنيسة فيلبي (16: 11 – 40)

16: 11
فَأَقْلَعْنَا مِنْ تَرُوَاسَ وَتَوَجَّهْنَا بِٱلِاسْتِقَامَةِ إِلَى
سَامُوثْرَاكِي، وَفِي ٱلْغَدِ إِلَى نِيَابُولِيسَ. 12 وَمِنْ هُنَاكَ
إِلَى فِيلِبِّي، ٱلَّتِي هِيَ أَّوَلُ مَدِينَةٍ مِنْ مُقَاطَعَةِ
مَكِدُوِيَّةَ، وَهِيَ كُولُونِيَّةُ. فَأَقَمْنَا فِي هٰذِهِ
ٱلْمَدِينَةِ أَيَّاماً. 13 وَفِي يَوْمِ ٱلسَّبْتِ خَرَجْنَا إِلَى
خَارِجِ ٱلْمَدِينَةِ عِنْدَ نَهْرٍ، حَيْثُ جَرَتِ ٱلْعَادَةُ أَنْ
تَكُونَ صَلاةٌ، فَجَلَسْنَا وَكُنَّا نُكلِّمُ ٱلنِّسَاءَ
ٱللَّوَاتِي ٱجْتَمَعْنَ. 14 فَكَانَتْ تَسْمَعُ ٱمْرَأَةٌ
ٱسْمُهَا لِيدِيَّةُ، بَيَّاعَةُ أُرْجُوانٍ مِنْ مَدِينَةِ ثَيَاتِيرَا،
مُتَعَبِّدَةٌ لِلّٰهِ، فَفَتَحَ ٱلرَّبُّ قَلْبَهَا لِتُصْغِيَ إِلَى
مَا كَانَ يقُولُهُ بُولُسُ. 15 فَلَمَّا ٱعْتَمَدَتْ هِيَ وَأَهْلُ
بَيْتِهَا طَلَبَتْ قَائِلَةً: «إِنْ كُنْتُمْ قَدْ حَكَمْتُمْ أَنِّي مُؤْمِنَةٌ
بِٱلرَّبِّ، فَٱدْخُلُوا بَيْتِي وَٱمْكُثُوا».
فَأَلْزَمَتْنَا.

إن عاصفة
محبة الله دفعت سفينة رسله مباشرة من آسيا إلى أوروبا. وحيث كانت السفرة عادة
تستغرق خمسة أيام بليالهيا، فقد وصلت السفينة على غير عادتها في يومين. ولم يبق
بولس في ميناء المدينة الساحلية كفلا بل انطلق رأساً إلى مدينة فيلبي مرز
المحافظة.

انتصر
أوغسطوس القيصر على قتلة يوليوس قيصر حين تعقبهم إلى هذه المدينة التي حصلت في
سهولها تلك المعركة الهائلة الشهيرة. وبعدئذ نهض بفيلبي ووسعها وزينها وحررها من
الضرائب وجعلها منجعاً للجنود المتقاعدين. فشابهت هذه المدينة مدينة انطاية
السورية في جوها ونظام حكمها.

ولقد كان
بولس متوتر الأعصاب متشوقاً للالتقاء بالرجل المقدوني، الذي شاهده حلماً. وللعجب
فإنه ما وجد أحداً يهتم بالمسيح وخلاصه. فالكل كان هدفهم التمتع والراحة. وخدام
المسيح لم يجدوا يهوداً، لأن المدينة كان يخيم عليها الطابع العسكري ليس النشاط
التجاري. فتساءل الرجال فيما بينهم، هل كان الحلم هاجساً والدعوة انعكاس لتمنياتهم
الخاصة؟

وقد علم
بولس، أن المدن التي ليس فيها كنيس خاص لليهود. فإنهم يجتمعون فيها سبتاً عند مسيل
المياه خارج المدينة للغسولات ولإجراء الطقوس الصلواتية المشتركة. فتقدم الرسول
إلى نهر كنكيتس على بعد كيلو مترين خارج المدينة. وحقاً فقد اجتمعت سوة من اليهود
واليونان للصلاة المشتركة. ولما رآهم بولس، تساءل ما لي وللنساء؟ لقد رأيت رجلاً
في الحلم، وليس امرأة. أنا لا أفتش عن نساء غرباء.

والروح
القدس جعل رسول الأمم متواضعاً، فلم يميز بين غني وفقير كبير أو صغير، رجل أو
امرأة حر أو عبد، أبيض أو أسود. بل أشبع كل نفس جاعت إلى كلمة الإنجيل. فكلم
النساء الجالسات بملء الخلاص.

وكان بين
المستمعات تاجرة بائعة أرجوان، وهي في الأصل من مدينة ثياتيرا في آسيا الصغرى
البلد الذي منع الروح القدس مرسليه أن يبشروا فيه. ولكن ها هي ذي الآن في مدينة
فيلبي المكدونية تستمع إلى بشرى الخلاص. إنها غنية وتتاجر بأثمن بضاعة آنذاك.
صناعة الأرجوان. وهي نشيطة قادرة على تمييز الناس، فأدركت سريعاً قوة الله الجارية
من الرسل. وشعرت بصوت الله، مصغية إلى الإنجيل بكل انتباه. عندئذ فتح الرب قلبها،
فاستنارت وولدت ثانية في الحال ولادة روحية. ليس لصلاحها الشخصي بل لأنها اتمعت
وجاعت إلى كلمة الله. فالإنجيل يجدد حتى اليوم قلوب طالبي بر الله، فيحل روح الحق
في الذين يخضعون له.

وليديا كانت
ترتدي الملابس الحديثة تبعاً للموديل. كانت ذكية خبيرة، فأدركت رأساً لب الخلاص.
وطلبت المعمودية، لأنها آمنت أن يسوع هو ابن الله، الذي غفر ذنوبها على الصليب.
فخضعت تحت ماء المعمودية، وامتلأت من الروح القدس، واختبرت المحبة والحق والحياة
الأبدية.

وللعجب فإن
بولس، لم يعمد هذه المرأة لوحدها بل كل بيتها أيضاً، المتضمن زوجها وأولادها
وعبيدها ومساعديها في العمل جميعاً. فوثق بولس في قدرة روح الله أن المستنارة تنير
غيرها أيضاً، والموهوبة بمحبة الله تجعل من الأنانيين خداماً للرب علياً. ما أوسع
قلبك يا بولس. فليس عندك درس طويل تمهيداً للتعميد، بل جرأة لتسليم جماعة كاملة
للمسيح، متكلاً عليه أنه سيكمل العمل المبتدئ. فعلم بولس أنه ليس هو، بل المسيح
يخلص المؤمنين.

وبعدئذ طلبت
المؤمنة الغنية من بولس ورفقائه الثلاثة، أن يسكنوا في بيتها، ويمكثون عندها مدة،
ويفتحون في بيتها مركزاً للتبشير. ولكن بولس لم يرد قبول هذه المساعدة، وفضل أن
يشتغل هو وزملاؤه بأيديهم، ليسكبوا قوتهم. ولكن التاجرة الشاطرة لحفت على رجال
الله حتى استسلموا لطلبها، وبقوا ليقووا المتجددين. فقبل بولس المكوث عندها
واستضافتها إياهم هكذا تغلبت محبته على ما اعتاده، لأن المحبة هي مبدؤه الأهم.

لقد رأى
بولس في الحلم رجلاً. لكن الشخص المهتدي كان امرأة. وأتى الرسول من دين يعطي
السيطرة للرجال. أما في أوروبا، فقد اختار المسيح أولاً امرأة. ونرى في هذه
التطورات رموزاً لحرية المرأة وقدرة الرسول أن يصغي إلى إرشادات الروح القدس.
بواسطة إطاعة الرسول أتى الإنجيل إلى أوروبا. والثمرة الأولى كانت امرأة مؤمنة
بائعة أرجوان.

الصلاة: أيها الرب،
نشكرك لأنك فتحت قلب السيدة ليديا، وجاوبت اشتياقها بانسكاب روحك. اغفر لنا
تفكيرنا المحدود. ووسع صدورنا في سبيل التواضع والمحبة، لكي نسمع أيضاً البنات
والسيدات حق الإنجيل بكل طهارة وحكمة.

16: 16
وَحَدَثَ بَيْنَمَا كُنَّا ذَاهِبِينَ إِلَى ٱلصَّلاةِ، أَنَّ جَارِيَةً
بِهَا رُوحُ عِرَافَةٍ ٱسْتَقْبَلَتْنَا. وَكَانَتْ تُكْسِبُ مَوَالِيَهَا
مَكْسَباً كَثِيراً بِعِرَافَتِهَا. 17 هٰذِهِ ٱتَّبَعَتْ بولُسَ
وَإِيَّانَا وَصَرَخَتْ قَائِلَةً: «هٰؤُلاءِ ٱلنَّاسُ هُمْ عَبِيدُ
ٱللّٰهِ ٱلْعَلِيِّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَ لَكُمْ
بِطَرِيقِ ٱلْخَلاصِ». 18 وَكَانَتْ تَفْعَلُ هٰذَا أَيَّاماً
كَثِيرَةً. فَضَجِرَ بُولُسُ وَٱلْتَفَتَ إِلى ٱلرُّوحِ وَقَالَ:
«أَنَا آمُرُكَ بِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا».
فَخَرَجَ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ.

العالم
ممتلئ بالشياطين، حتى أن الرسول يوحنا قال: العالم كله قد وُضع في الشرير. ونرى
سلطة الشياطين الماكرة اليوم جهراً. وفي زمن يسوع تراكض الملبوسون المظلمون إلى
النور الأصيل، وصرخوا: ما لنا ولك. أنت قدوس الله. لماذا أتيت لتهلكنا. كذا اجتذبت
العرافة بتأثير روح بولس ومحبة رفقائه، فصرحت: انتبهوا يا أناس هؤلاء الرجال رسل
الله العلي، الذين يرشدونكم إلى الخلاص من الأرواح والموت.

كانت العرافة
معروفة في كل المدينة. والناس يبتسمون لها، ويخافونها بنفس الوقت. وكثيرون أصغوا
بانتباه لإعلاناتها، وسقطوا إلى قبضة الشيطان لأجل استفهامهم عن مستقبلهم من
العرافة. أيها الأخ ننصحك ألا تذهب إلى عرافة أو شيخ ليشفيك، لأن إيمانك بهم يربطك
بأرواحهم! فاستاء بولس من عبارات الملبوسة. لماذا؟ لقد اشمأز من الصوت الغريب
الطالع من أعماقها. ولم يعتبر بولس كلامها دعاية صالحة لإنجيله. ولم يرد انتباه كل
المدينة لتبشيره بواسطة هذا الروح المضل.

وعرف بولس
أيضاً أن روح الشيطان ليس هو روح المسيح. إنما هو أمكر الماكرين، وأكذب الكاذبين.
فبتاتاً لا يريد بولس أن يسند تبشيره بروح العرافة، حتى ولو أبرزت كثيراً من
الحقائق في سبيل كذبها.

فإلهنا ليس
الإله العلي بين آلهة وأرواح وجن. بل الله الوحيد وليس غيره. وخصوصاً في ذلك
الزمن، فقد آمن العالم اليوناني بكثير من الآلهة والأوراح. فعنت دعاية الجارية
خراب الإيمان بالله الوحيد في الإنجيل.

وبزيادة على
ذلك، لم يعرف روح الشيطان الله الوحيد في جوهره. فلم يعرفه أنه الآب القدوس، وأن
ابنه يسوع المسيح يجلس عن يمينه مالكاً معه في وحدة الروح القدس على أساس الفداء
بالصليب. وأيضاً لم يعترف الروح الشرير أن بولس ورفقاءه هم أبناءالله، وليسوا
عبيده فقط، لأن الخلاص الحق لا يحررنا من الخطية والموت والشيطان فقط بل يمنحنا
التبني والولادة الثانية كأولاد الله.

هكذا أنكر
الروح الشرير الله ولب الخلاص، رغم أنه تكلم عن الخالق وفدائه، جاعلاً منه أمراً
مدهشاً عكساً من غاية المسيح الذي يريد الهدوء والتأمل لأن بهما يتوب الإنسان،
ويسمع كلام ربه ويتأمله بإيمانه فيخلص.

وأدرك بولس
استعباد البنت للروح الشرير. ورأى نفسها المعذبة. واشمأز من نجاسة الشيطان وإضلاله
الملايين. فرحم الرسول المسكينة، وطرد الروح الشرير منها بأمره إياه بالخروج منها.
ولم يقدر بولس أن يخرج الروح الشرير باسمه الخاص، كما كان يفع المسيح. كلا بل أن
رسول الأمم، اعترف أنه باطل وغير مقتدر، ويسوع المسيح هو المخلص الوحيد. فأمر
الروح النجس أن يخرج باسم المسيح يسوع.

وحقاً فإن
هذا الاسم الفريد يسوع معروف في جهنم. فالناس الأغبياء هم عميان ومتدينون بتعصب
وجهل، ولا يعرفون حقيقة الله. ولكن في كلمة بولس ظهر من هو الرب الحق. أنه يسوع
المسيح الحي. فلم يستخدم بولس دعاية الشيطان إسناداً لتبشيره، بل أخر بإنجيله الروح
الشرير من المعذبة، وخلصها في عمق نفسها.

وحتى الآن
فإن لاسم يسوع قوة عظيمة. ولكن ليس لنا أن نستخدم هذا الاسم حسب أهوائنا، بل ننتظر
بتواضع إرشاد الروح القدس. لأن بولس لم يخرج في أول التقائه بالفتاة الشيطان منها،
بل بعد أيام كثيرة. وبعد صلوات متعددة استيقن أن يسوع نفسه أرا هذا الأمر. فتحقق
ذلك بجملة واحدة قاطعة: باسم يسوع. وحتى اليوم يستطيع جماعة من المصلين السالكين
في حماية روحه إخراج الأرواح النجسة. فانتبه أيها الأخ ألا تفعل شيئاً باسمك
الشخصي، متلاعباً بأفكارك، ولا تستخدمن اسم يسوع كتجربة لتحقيق رغبات، بل اخضع
للإنجيل وروحه، فتر عظمة الرب تتحقق حولك وفيك.

الصلاة: أيها الرب
يسوع، نشكرك ونسجد لك لأنك حررت المرأة الملبوسة من الروح الشرير. وأنت لا زلت حتى
اليوم رب الأرباب، وتحرر أفراداً من قيود الشياطين وأكاذيبهم المفترية. افتح أعين
الملايين لكي يروا الأكاذيب الدينية الباطل، ويخلصوا في قوة اسمك الفريد.

16: 19
فَلَمَّا رَأَى مَوَالِيهَا أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ رَجَاءُ مَكْسَبِهِمْ، أَمْسَكُوا
بُولُسَ وَسِيلا وَجَرُّوهُمَا إِلَى ٱلسُّوقِ إِلَى ٱلْحُكَّامِ. 20
وَإِذْ أَتَوْا بِهِمَا إِلَى ٱلْوُلاةِ قَالُوا: «هٰذَانِ
ٱلرَجُلانِ يُبَلْبِلانِ مَدِينَتَنَا، وَهُمَا يَهُودِيَّانِ، 21
وَيُنَادِيَانِ بِعَوَائِدَ لا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْبَلَهَا وَلا نَعْمَلَ
بِهَا، إِذْ نَحْنُ رُومَانِيُّونَ». 22 فَقَامَ ٱلْجَمْعُ مَعاً
عَلَيْهِمَا، وَمَّزَقَ ٱلْوُلاةُ ثِيَابَهُمَا وَأَمَرُوا أَنْ ُضْرَبَا
بِٱلْعِصِيِّ. 23 فَوَضَعُوا عَلَيْهِمَا ضَرَبَاتٍ كَثِيرَةً
وَأَلْقُوهُمَا فِي ٱلسِّجْنِ، وَأَوْصُوا حَافِظَ ٱلسِّجْنِ أَنْ
يَحْرُسَهُمَا بِضَبْطٍ. 24 وَهُوَ إِذْ أَخَذَ وَصِيَّةً مِثْلَ هٰذِهِ
أَلْقَاهُمَا فِي ٱلسِّجْنِ ٱلدَّاخِلِيِّ، وَضَبَطَ أَرْجُلَهُمَا
فِي ٱلْمِقْطَرَةِ.

اعتبرت
الجارية العرافة بقرة حلوباً لعدة أغنياء، وهم لا يبالون بعذاب تلك الملبوسة
النفسي، بل كوموا أموالاً من كذب الشيطان ومكره بواسطتها. فاغتاظوا لما انتهى فجأة
مورد رزقهم، وأشبهوا مجانين، وتربصوا ببولس وسيلا، وقبضوا عليهما وجروهم بشغب وعنف
إلى رئيس البلدية، واتهموهما بإثارة التمرد في المدينة. طبعاً أنهم لم يقولوا
شيئاً عما فعله الرسولان من تحرير تلك المستعبدة من كابوس التباسها، بل ألصقوا
برسل وداعة المسيح أنهم ثوريون من اليهود، ويدخلون عوائد غير مستحبة وغير لائقة
لروماني شريف. فأثاروا حمية العساكر المتقاعدين، الذين كانوا يقطنون مدينة فيلبي،
خاصة بعد انتهاء خدمتهم. فسرعان ما اهتاجوا، لأن موالي العرافة كانوا معروفين
ومحترمين. وهكذا تقدمت أمواج الجماهير صاخبة إلى دار البلدية. ولما وصلوا إلى
رئيسي البلدية، رأى هذان المسؤولان، أن الرأي العام ضد اليهوديين. فأعطى أحدهما
علامة البلدية، فخفوا هجوماً على الرسولين ومزقوا ثيابهما، حتى عروهما وضربوهما
ضربات أليمة كثيرة. وأشبعوهما تعييراً وسخرية، أمام مشهد الجماهير المستهزئة.

ولأجل
الاستخبار عن هذين المشاغبين المضروبين، فقد ألقيا في السجن، إلى غرفة داخلية ضيقة
وسخة، وظهورهما دامية من الجَلد، وأجسامهما منهوكة متألمة. وأكثر من ذلك، فقد
وضعوا أرجلهما في المقطرة، القيد الشديد. وصفدوهما بسلاسل ثقيلة كيلا يهبا. فبماذا
فكر المسكينان المحبوسان؟ أَلَعَنا الرومان؟ أو تأسفا لتحريرهما العرافة من
شيطانها؟ أو خافا من مغبة الاعتداء على الكنيسة النامية حديثاً؟ لا ثم لا! فإن
المحبوسين تكلما مع ربهما في الصلاة، وباركا مضطهديهما وأدركا أنهما اشتركا في مل
صليب المسيح.

16: 25
وَنَحْوَ نِصْفِ ٱللَّيْلِ كَانَ بُولُسُ وَسِيلا يُصَلِّيَانِ
وَيُسَبِّحَانِ ٱللّٰهَ، وَٱلْمَسْجُونُونَ يَسْمَعُونَهُمَا.
26 فَحَدَثَ بَغْتَةً زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَتَّى تَزَعْزَعَتْ أَسَاسَاتُ
ٱلسِّجْنِ، فَانْفَتَحَتْ فِي ٱلْحَالِ ٱلأَبْوَابُ كُلُّهَا،
وَٱنْفَكَّتْ قُيُودُ ٱلْجَمِيعِ. 27 وَلَمَّا ٱسْتَيْقَظَ
حَافِظُ ٱلسِّجْنِ، وَرَأَى أَبْوَابَ ٱلسِّجْنِ مَفْتُوحَةً،
ٱسْتَلَّ سَيْفَهُ وَكَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ ظَانّاً أَنَّ
ٱلْمَسْجُونِينَ قَدْ هَرَبُوا. 28 فَنَادَى بُولُسُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ
قَائِلاً: «لا تَفْعَلْ بِنَفْسِكَ شَيْئاً رَدِيّاً، لأَنَّ جَمِيعَنَا
هٰهُنَا».

لم يسترح
الرسولان بعد عذابهما وتشقق ظهورهما الدامية في إحدى المستشفيات تحت إشراف علاج
راهبات لطيفات، بل كانا مقيدين بالمقطرة والسلاسل، جالسين في العراء على الصخور
والظلمة مخيمة ورابضة عليهما. ولكنهما لم يشتما ولم ينوحا بل رتلا معا. فالصلاة
بصوت خفيف لم تكفهما، لأن قلبهما امتلأ شكراً وحمداً لانتصار المسيح بعد المنع
الطويل من الروح القدس في آسيا الصغرى. لقد أشرقت أصباح غلبة المسيح في أوروبا،
فعلى الظلمة أن تسمع اسم المقام من بين الأموات. ولا حائل مطلقاً لاقتحام ملوت
الله وانتشاره في الأرض. فرتل المعذبان بصوت عال حتى سمعهما المحبوسون الآخرون.
وكان منتصف الليل، لما بلغت ترانيم الحمد عنان السماء. وهذا الخبر في أعمال الرسل
كان رمزاً معزياً لكثير من المعذبين والمضطهدين في تاريخ الكنيسة، إذ ارتفع حمدها
في منتصف وآناء الليل الغسق. عندئذ جاوبهما الله فجأة ليس بظهور ملاك ولا بكلمات
وحي، بل بزعزعة زلزال. فبان لهما لأول بادرة كأنما الشيطان يزيد في تعذيبهما.
وسقطت حجارة وأتربة من السقف عليهما. ولكن بعد قليل انفتحت كل أبواب السجن بقوة،
وسقطت عنهما كل سلاسلهما المعذبة. ومع ذلك لم يهرب بولس مستغنماً الفرصة مع
السجناء الأُخر الذين كانوا مضطربين في أعماق قلوبهم من الترتيل وجواب الله عليه
بالزلزلة، حتى ما تجرأوا على الحراك. وربما خافوا من دينونة الله على خطاياهم
الظاهرة.

لكن رئيس
السجن انتفض من فراشه، ورأى أبواب السجن مفتوحة، ظاناً أن كل السجنى قد فروا. فخاف
من عار هربهم من يده، ومما ينتظره من محاكمة وعذاب أليم، وقتل له واستعباد
لعائلته. وهكذا مزحوناً بهذه المخاوف والتصورات استل سيفه مزمعاً أن يخرق صدره به.

ورأى بولس
مدير السجن المزمع على الانتحار وسيفه بيده، فصرخ به: قف لا تقتل نفسك. لا تخف لم
يهرب أحد، كل السجناء موجودون هنا. فالمحبة في صوت بولس وتعزيته بهذا الكلام
الرقيق كان عكس ما اعتاده هذا الضابط من شتائم المسجونين ولعناتهم ووحيتهم
وصراخهم. وكان إذا أُتيح للسجناء فرصة، مزقوا حراسهم وانطلقوا هاربين. لكن الآن يا
للغرابة، أبواب السجن مفتوحة. ومع ذلك ها أولاءهم السجناء لا يهجمون عليه كالوحوش،
بل أن أحدهم وهو بولس، يناديه بكل كلام لطيف حتى لا يضر بنفسه ويرديها الحف. فصدم
هذا الكلام عقل الحارس وفاق تصوره. واستغربه جداً، لأن عدوه أحبه وخلصه من
الانتحار. فصار يفتح عينيه ويبحلق بها محاولاً تجميع أفكاره كأنما كان في حلم
سحيق.

الصلاة: أيها الرب
الحي، دعنا نسمع صوتك اللطيف إن سقطنا في اليأس والاحتيار. وعلمنا سمع كلمات محبتك
إن زال رجاونا. واجذبنا إلى تعزيتك لكي نعيش ولا نموت أبداً.

16: 29
فَطَلَبَ ضَوْءاً وَٱنْدَفَعَ إِلَى دَاخِلٍ، وَخَرَّ لِبُولُسَ وَسِيلا
وَهُوَ مُرْتَعِدٌ، 30 ثُمَّ أَخْرَجَهُمَا وَقَالَ: «يَا سَيِّدَيَّ، مَاذَا
يَنْبَغِي أَنْ أَفْعَلَ لِكَيْ أَخْلُصَ؟» 31 فَقَالا: «آمِن بِٱلرَّبِّ
يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ». 32 وَكَلَّمَاهُ
وَجَمِيعَ مَنْ فِي بَيْتِهِ بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ. 33 فَأَخَذَهُمَا فِي
تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ مِنَ ٱللَّيْلِ وَغَسَّلَهُمَا مِنَ
ٱلْجِرَاحَاتِ، وَٱعْتَمَدَ فِي ٱلْحَالِ هُوَ
وَٱلَّذِينَ لَهُ أَجْمَعُونَ. 34 وَلَمَّا أَصْعَدَهُمَا إِلَى بَيْتِهِ
قَدَّمَ لَهُمَا مَائِدَةً، وَتَهَلَّلَ مَعَ جَمِيعِ بَيْتِهِ إِذْ كَانَ قَدْ
آمَنَ بِٱللّٰهِ.

صرخ رئيس
السجن. أعطوني مصباحاً. وهذا الطلب رمز على أنه قد عاش طيلة حياته العسكرية في ظلم
وظلمات. ولكن الآن استنار قليلاً بكلمات بولس. فأدرك نور الروح السماوي رأساً وسجد
عند قدمي الرسول الذي خلص حياته. ولعله ظنهم آلهة أو ملائكة إذ ان مستحيلاً عليه
عدم هربهما ومحبتهما الفائقة له والمحافظة على حياته. إن لطف المسيح أعظم ثورة
روحية في العالم.

ولم يستغل
بولس ارتعاب الرجل لينتفخ، بل وضح للضابط أنه مثله إنسان لكن تغيّر وتجدد بنعمة
المسيح. ولما سمع هذا المرتعب المضطرب قول الرسول قاده مع رفيقه إلى الساحة. فشاهد
جسديهما الدامين، وخاف من غضب الله. لأنه اشترك في تعذيب رسله الكام وتمتم بهلع
مخيف: ماذا يجب عليّ أن أفعل، لكي أهرب من غضب القدوس وأخلص؟ عندئذ لخص الرسول
بولس لهذا الحائر الإنجيل في جملة عظيمة، هي من أهم جمل الكتاب المقدس. وبشر
المرتعب بالحق الكامل صراحة: آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك. فذا
القول أعطى الحارس رجاء قوياً. فلم يهلكه الله، ولم يضربه بصاعقة من السماء، بل
فتح له طريق الباب إلى النعمة في شخص يسوع المسيح. وشهد بولس لكل المتراكضين
والمتجمهرين هنالك نساء ورجالاً، عبيداً وسجناء، شيباً وشباباً، أن المسيح يسوع هو
الب المقتدر أن يجري زلازل، القادر أن يغفر الذنوب، المعطي خلاصاً، والرب الذي
يقيم من الموت والمستعد أن يملأ التائبين بالروح القدس واللطيف، الذي يحرر الإنسان
من سلطة خطاياه. فبكلمات قليلة ألقى رسول الأمم الإنجيل إلى القلوب الفزعة. وهؤلاء
الستمعون آمنوا رأساً وأدركوا أن الله نفسه كان واقفاً في رسله أمامهم. هكذا لا
يتكلم إنسان، بل الأزلي بالذات، مقدماً لهم يد المصالحة. فنما نور الإنجيل السماوي
في قلوب المستمعين. ودعا الضابط الرسولي إلى داره، وغسل جروحهما وألبسهما ثياباً
نظيفة وطلب منهما المعمودية، رمزاً لتسليمه الكامل إلى ملك المحبة يسوع المسيح.

وهذا الضابط
المتقاعد والمشرف على السجن، أراد تصفية كل رواسب حياته. وأراد فتح بيته لهذا
الروح الجديد. وجمع كل أهله وخدامه وموظفيه ليعتمدوا في نفس الليلة معاً. وقد أدرك
هذا العسكري أن لأمر الله ضرورة، وكل تباطوء يكون خطية. فجوابه كان توبة كاملة
مباشرة، وتسليماً تاماً للرب الحي.

وعندما حل
الروح القدس في المتعمدين، انشرحت صدورهم لذكر الله. وملأت ترانيم الحمد قلوبهم،
وأدركوا أن الله قد زارهم وسط السجن وغياهب الظلمات.

عندئذ هيأوا
العلية. التي في بيتهم وابتدأوا يحضرون الطعام لإقامة وليمة كبيرة. وتهللوا معا،
لأن المسيح قد غسل ضمائرهم من الخطايا، وقدسهم مجاناً، هم الخطاة المجرمون الذين
عاشوا الآن في ملء نور الله وسط الليل البهيم. ما أجمل هذه الصور، أن تقام وليمة
في نصف الليل! فالمسيح أنار المؤمنين وسط الظلمات المحيطة بهم، وملأهم بأعظم
الفرح. هذا كان ثمار احتمال العذاب وإطاعة الإيمان في بولس وسيلا. كما أن ليديا
ولوقا وتيموثاوس، لم ينتهوا من الصلاة لأجل المحبوسين.

16: 35
وَلَمَّا صَارَ ٱلنَّهَارُ أَرْسَلَ ٱلْوُلاةُ ٱلْجَلاَّدِينَ
قَائِلِينَ: «أَطْلِقْ ذَيْنِكَ ٱلرَّجُلَيْنِ». 36 فَأَخْبَرَ حَافِظُ
ٱلسِّجْنِ بُولُسَ أَنَّ ٱلْوُلاةَ قَدْ أَرْسَلُوا أَنْ تُطْلَقَا،
فَٱخْرُجَ ٱلآنَ وَٱذْهَبَا بِسَلامٍ. 37 فَقَالَ لَهُمْ
بُولُسُ: «يَضَرَبُونَا جَهْراً غَيْرَ مَقْضِيٍّ عَلَيْنَا، وَنَحْنُ رَجُلانِ
رُومَانِيَّانِ، وَأَلْقَوْنَا فِي ٱلسِّجْنِ – أَفَٱلآنَ
يَطْرُدُونَنَا سِرّاً؟ كَلاَّ! بَلْ لِيَأْتوا هُمْ أَنْفُسُهُمْ
وَيُخْرِجُونَا». 38 فَأَخْبَرَ ٱلْجَلاَّدُونَ ٱلْوُلاةَ
بِهٰذَا ٱلْكَلامِ، فَٱخْتَشَوْا لَمَّا سَمِعُوا أَنَّهُمَا
رُومَانِيَّانِ. 39 فَجَاءُوا وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِمَا وَأَخْرَجُوهُمَا،
وَسَأَلُوُمَا أَنْ يَخْرُجَا مِنَ ٱلْمَدِينَةِ. 40 فَخَرَجَا مِنَ
ٱلسِّجْنِ وَدَخَلا عِنْدَ لِيدِيَّةَ، فَأَبْصَرَا ٱلإِخْوَةَ
وَعَّزَيَاهُمْ ثُمَّ خَرَجَا.

انتظر حافظ
السجن بقلب مشوش القرار النهائي للمسؤولين في البلدية، لأنه حرر السجينين بلا أمر
منهما واستضافهما. ففرح كثيراً لما سمع الأمر الجديد بتخليتهما. وركض فرحاً إلى
بولس ينبئه، وطلب إليه الذهاب بسلام، لكي لا يتعرض لأذى.

ولكن ها
هوذا بولس منتصب رافض الذهاب ومطالب بحقه، ليس لنفسه بل لكل الكنيسة. إنهما ليسا
لصين بل رومانيين. وقد وقع عليهما ظلم ثلاث مرات. فضربا جهراً وهذا عذاب للعبيد
فقط، ينبغي ألا يقع على روماني البتة. وحكم عليهما بلا محاكمة، وهذا يعني في دولة
عادلة مثل الرومان خطأ من القضاة وخطراً عليهم يؤدي بهم إلى السجن والمقاصصة
الشديدة. ومن ثم في إقامة الدعوة على المسؤولين.

فطلب بولس
أن يأتي الحكام شخصياً إلى السجن ويعتذروا منهما ويرافقوهما كضيفي شرف وسط شوارع
المدينة. فلم يقصد بولس الانتقام لأنه كمؤمن حق قد غفر للمسؤولين مسبقاً، كل
ذنبوهما. ولكنه أراد تبرير الكنيسة الجديدة جهراً، وإظهارها كحركة شريف غير محتاجة
للتخفي في الكهوف والمغاور والسراديب.

وحقاً فإن
مسؤولي المدينة أسرعوا خوفاً إليه. وتكلموا مع رسول الأمم متواضعين، ولاطفوه
وطلبوا إليه ترك المدينة، تحرزاً من المشاكل التي يثيرها إنتقاماً أسياد العرافة
التي تحررت من السيطرة بالنعمة.

ولم يبال
بولس بكلامهم كثيراً، بل عاد إلى بيت ليديا بائعة الأرجوان، حيث كان أعضاء الكنيسة
مجتمعين للصلاة. وها هي ذي محاطة بجمع من الإخوة في بيتها، مما يدلنا أنه بين
اهتداء الأوروبية الأولى وخلاص مدير السجن كانت فترة طويلة بشر الرسو خلالها أهل
فيلبي، مؤسساً كنيسة حية. وبعد أن التقوا في بيت ليديا، عزى المعذبون إخوانهم
السالمين بتأكيد حضور المسيح أثناء كل الضيق. بعدئذ مضى الرسولان وتيموثاوس معهما،
وخلفا الطبيب لوقا في فيلبي ليرعى الكنيسة هنالك. لذلك نقرأ منذ هذه الحدثة كلام
البشير لوقا بصيغة الغائبين (هم)، دلالة على أن لم يذهب معهما.

الصلاة: أيها الرب
نشكرك، لأن كلمتك تخلص أناساً وتغيرهم. فنؤمن أنك تخلص بيتنا كاملاً أيضاً. طهر
قلوبنا من كل الذنوب بدمك الثمين، ونق أذهاننا تماماً بإنارة الروح القدس، لكي يرى
كل أعضاء عشيرتنا محبتك الموهوبة لنا، ويشتاقن لاطمئنان سلامك.

هل تبحث عن  هوت دستورى قوانين ورسائل مجمع نيقية 31

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي