الإصحَاحُ
السَّادِسُ

 

«أيُّها
الأولاد، أطِيعُوا والِدِيكُمْ فِي الرَّبِّ لأنَّ هذا حقٌّ» (ع 1).

تعتبر
التسعة الأعداد الأولى من هذا الأصحاح مرتبطة بالجزء الأخير من الإصحاح السابق (أف
22:5- 33)، ذلك لأن الرسول هنا يستمر في الكلام عن الواجبات العائلية في بيوت
المؤمنين. لقد شرح الرسول بإفاضة في الأعداد السابقة الواجبات المتبادلة بين الزوج
وزوجته، إذ أن البيت يبدأ دائمًا بالزواج، ثم يأتي بعد ذلك دور الأولاد الذين هم
ثمرة الزواج، لذا يحدثهم الرسول عن الواجبات المتبادلة بينهم وبين والديهم، وهنا
نرى أن موضوع الخضوع أو الطاعة لم ينته بعد، فإن كان واجب الرجل أن يحب امرأته،
وواجب المرأة هو أن تخضع لرجلها، فإننا هنا نرى واجب الأولاد هو الخضوع أو الطاعة
لوالديهم، وهذا ما يجب أن يتميَّز به الأولاد -البنون والبنات- الذين نشأوا في
بيوت مسيحية. إننا نجد في رسالتي رومية وتيموثاوس الثانية قائمتين من الخطايا،
الواحدة عن خطايا الأمم الوثنيين الذين لم يعرفوا الله الحي الحقيقي، ومن بين تلك
الخطايا أنهم «غير طائعين للوالدين» (رو29:1- 31)، والثانية تصف خطايا الناس في
الأزمنة الصعبة في هذه الأيام الأخيرة؛ أيام لاودكية. ومن بين هذه الخطايا أنهم
«غَيْرَ طَائعِينَ لِوَالِدِيهِمْ» (2تى2:3). هذه علامة من ضمن العلامات التي تصف
الأيام الأخيرة. إن قلب الإنسان البعيد عن الله هو هو، فكما كانت حالته بين
الوثنيين قديمًا لا زالت كما هي في هذه الأيام؛ أيام المسيحية الاسمية والمدنية
الكاذبة. أما كلام الرسول هنا فإنه مُوجَّه إلى الذين عرفوا الرب يسوع، وهذا واضح
من قوله: «أَطِيعُوا وَالِدِيكُمْ فِي الرَّبِّ»؛ إذ لا ننتظر الطاعة «في الرب»
ممَنْ ليست لهم معرفة بالرب أو علاقة به.

رسالة أفسس

 

وهناك
سببان يُذكران في كلمة الله عن لزوم طاعة الأولاًد لوالديهم:
السبب الأول: «لأَنَّ هَذا
حَق
»،
والسبب
الثاني
هو:
«
هذا
مَرْضِيٌّ فِي الرَّبِّ
» (كو20:3). لقد كان ربنا يسوع المسيح المثال
الأعظم في ذلك، كما في كل شيء آخر، فقد كان مطيعًا وخاضعًا لأمه وليوسف رجلها كما
هو مكتوب: «ثمَّ نزلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إلى النَّاصِرَةِ وَكانَ خَاضِعًا
لَهُمَا» (لو51:2). ليت جميع الأولاد يتمثَّلون في ذلك بالرب يسوع عالمين أن
«لأَنَّ هَذَا حَق». فإن كانت الطاعة هي حق، فإن عدم الطاعة هو شر.

«أكرِم أباك
وأُمَّك، التِي هِي أول وصِيَّةٍ بِوعدٍ، لِكي يكون لكم خَيْرٌ، وتكُونُوا طِوَال
الأعْمَارِ على الأرض» (ع 2، 3).

يُوجِّه
الرسول بولس التفات المؤمنين إلى هذه الحقيقة الهامة وهي أن طاعة الأولاد لوالديهم
لها أهميتها وتقديرها عند الله، فقد أعطى الله قديمًا الناموس؛ أعني الوصايا
العشر، وعندما نقرأها نجد أن الأربع الوصايا الأولى، مع ما لها من أهمية عظمى، ليست
مقترنة بأي وعد، ولكن الوصية الخامسة، وهي الخاصة بإكرام الأولاد لوالديهم «هي أول
وصية بوعد»، «أَكْرِمْ أباك وَأُمَّكَ لِتَطُولَ أيامكَ عَلَى الأرض» (خر12:20). فإن
كان هذا تقدير الله لطاعة الأولاد لوالديهم في عهد الناموس فهل يكون تقديره لهذه
الطاعة أقل في عهد النعمة؟ فكما أن طاعتنا للرب لها مجازاتها كذلك طاعة الأولاد
لوالديهم لها مجازاتها الحسنة «لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ خَيْرٌ، وَتَكُونُوا طِوَالَ
الأَعْمَارِ عَلَى الأرض». هذا وعد مبارَك يجب أن يثق فيه ويمسك به الأولاد
الأتقياء الذين يُطيعون والديهم ويُكرمونهم. وكما أن للطاعة مكافأتها فإن لعدم
إطاعة الوالدين وإكرامهم عاقبتها الوخيمة «مَنْ سَبَّ أباهُ أو أُمَّهُ يَنْطَفِئ
سِرَاجُهُ فِي حَدَقَةِ الظَّلاَمِ» (أم20:20) «اَلْعَيْنُ الْمُسْتَهْزِئة
بِأبيهَا، وَالْمُحْتَقِرَةُ إِطَاعَةَ أُمِّهَا، تُقَوِّرُهَا غِرْبَانُ
الْوَادِي، وَتَأْكُلُهَا فِرَاخُ النَّسْر» (أم17:30). ليت كل الأولاًد -بنين
وبنات- يطيعون والديهم ويكرمونهم فيتمتعون برضى الله عليهم ويختبرون عمليًا هذا
الوعد الجميل «لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ خَيْرٌ، وَتَكُونُوا طِوَالَ الأَعْمَارِ
عَلَى الأرض».

«وأنتم أيها
الآباء، لا تُغِيظُوا أولادكُمْ، بل رَبُّوهُم بِتأْدِيبِ الرَّبِّ وإِنذارهِ» (ع
4).

إن كان واجب
الأولاد هو الطاعة لوالديهم، «لأَنَّ هَذا حَق»، ولأنه «مَرْضِيٌّ فِي الرَّبِّ»،
فإن واجب الوالدين هو أن لا يعاملوا أولادهم بالقسوة والعنف، وفي هذا يحتاج الآباء
والأمهات أن يكونوا قريبين من الله وفي شركة معه ليمنحهم الحكمة التي يحتاجون
إليها في تربية أولاًدهم التربية المسيحية الحقَّة. لا شك أنه من الخطورة بمكان أن
يتهاون الوالدون ويتساهلون في تربية أولادهم، الأمر الذي يجلب عليهم متاعب وآلامًا
لا حصر لها، كما يجلب عليهم أيضًا قضاء إلهيًا مثلما حدث لعالي الكاهن وبيته
(1صم27:2- 36). إلا أنه من الناحية الأخرى يجب على الوالدين أن لا يكونوا قساة على
أولادهم، وحتى عندما يستلزم الأمر استعمال الحزم والتأديب يجب أن لا يكون ذلك بروح
الغضب، بل أن يكون الباعث عليه المحبة التي لا تريد سوى خير الأولاًد وبركتهم. إن
كثيرين من الآباء يعاملون أولادهم بالقسوة ويتسرَّعون في معاقبتهم ويضربونهم
باستمرار وبغضب وهياج. أ بهذه الكيفية يعاملنا الله أبونا؟ إن هؤلاء الوالدين
يكونون سبب عثرة لأولادهم ويبعدونهم عن الله «أيُّهَا الآباءُ، لا تُغِيظُوا
أولاًدكُمْ لِئلاَّ يَفْشَلُوا» (كو21:3). فليحذر الوالدون من الكلام مع أولادهم
بروح الغضب، كما يجب عليهم أن لا يأمروهم بشيء فوق طاقتهم كما لو كانوا كبار
نظيرهم، بل يراعون مدى فهمهم ومداركهم التي تتفق مع أعمارهم.

رسالة أفسس

 

إن
واجب الوالدين هو أن يُربُّوا أولادهم «بِتَأْدِيبِ الرَّبِّ وَإِنْذَارِهِ»
متذكرين بأنهم كانوا أولاً أولادًا قبل أن يكونوا والدين، وكم كانوا في حاجة إلى
صبر وطول أناة والديهم في تربيتهم لهم، وهذا ما يحتاجه أولادهم منهم الآن. يجب على
الآباء الأمهات أن يُصلُّوا كثيرًا لأجلهم ومعهم. يجب أن يسهروا على سلامتهم
روحيًا وعقليًا وجسديًا من بدء حياتهم، في سن الطفولة، وفي كل مرحلة من مراحل
حداثتهم ولاسيما في سن المراهقة. إن واجب الوالدين هو أن يجلسوا كثيرًا مع أولادهم
ويُوجِّهوهم التوجيه الحسن، ويُرشدوهم إلى الكُتب التي يجب عليهم أن يقرأوها
ويحذِّروهم من قراءة الكتب التي تؤذي حياتهم الروحية والأخلاقية، وأن يعرفوا ما هي
هواياتهم التي يحبونها، وما هو نوع الأصدقاء الذين يعاشرونهم، وبالجملة يجب عليهم
أن يُهذِّبوهم التهذيب المسيحي الذي لا يمكن أن يُستعاض عنه بشيء آخر. عليهم أن
يرشدوهم إلى ما يعلِّمه الكتاب المقدس عن الإيمان بالمسيح وعن العيشة المسيحية،
فلا يتركون هذا الواجب المقدَّس لمدرسة الأحد أو لاجتماعات الشبان ولا للكنيسة، بل
عليهم أن يغرسوا هم أولاً بذار الكلمة الإلهية في قلوبهم الغضَّة، وبذا يقودونهم
إلى قبول الرب يسوع مخلصًا لهم. إن أي ميراث أرضي يتركه الوالدون لأولادهم لا قيمة
له، إذ أن أهم وأثمن ما يمكن أن يقدموه لأولادهم هو أن يربوهم «بِتَأْدِيبِ
الرَّبِّ وَإِنْذَارِهِ» لا بالكلام فقط، بل بالقدوة الحسنة. يجب أن يرى الأولاد
في والديهم أحسن مثال لحياة القداسة والعيشة التقوية.

لقد قال
الرب يسوع: «هَكَذَا لَيْسَتْ مشيئة أَمَامَ أبيكُمُ الَّذِي فِي السماوات أن
يَهْلِكَ أَحَدُ هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ» (مت 14:18)، بل أن أمره الصريح هو: «دَعُوا
الأولاد يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ لأَنَّ لِمِثْلِ هَؤُلاءِ
مَلَكُوتَ السماوات» (مت14:19).

ولنا مثال
جميل على تربية الأولاد تربية مسيحية في البيت وثمار هذه التربية في «تيموثاوس». فقد
كتب له الرسول بولس: «وَأَمَّا أَنْتَ فَاثْبُتْ عَلَى مَا تَعَلَّمْتَ
وَأَيْقَنْتَ، عَارِفًا مِمَّنْ تَعَلَّمْتَ. وَأَنَّكَ مُنْذُ الطُّفُولِيَّةِ
تَعْرِفُ الكُتُبَ المُقَدَّسَةَ، القَادِرَةَ أن تُحَكِّمَكَ لِلْخَلاصِ،
بِالإيمان الَّذِي فِي المَسِيحِ يَسُوعَ» (2تي14:3، 15). فتيموثاوس قد تعلَّم ولا
شك من الكتب المقدَّسة الطاعة وإكرام الوالدين وهو طفل على ركبتي أمه وركبتي جدته
(2تي 5:1). لقد ربَّياه بتأديب الرب وإنذاره. إنه تعلَّم الكتب المقدَّسة في البيت
أولاً. ولا بد أن والديه وجدته سينالون المجازاة والمكافأة أمام كرسي المسيح.

رسالة أفسس

 

«أيُّها
العبِيد، أطِيعُوا سادتكُم حَسَبَ الجَسَدِ بِخَوْفٍ ورِعْدَةٍ، في بَسَاطَةِ
قُلُوبِكُمْ كما لِلمسِيحِ» (ع 5).

يستمر
الرسول في كلامه عن الخضوع والطاعة، فكما هو واجب الأولاد أن يطيعوا والديهم، كذلك
هو واجب العبيد أن يطيعوا سادتهم، ومما لا ريب فيه أن هذا لا ينطبق على العبيد
والسادة في البيت فقط، بل أيضًا على العامل وصاحب العمل، على الصانع وكذلك على
الموظف ورئيسه، وهذا واضح من قوله في نفس هذا الفصل: «عَبْداً كَانَ أَمْ حُرًّا»
(ع8). وإذا ما راعى الكل هذا المبدأ الإلهي فإن ذلك يحل مشاكل معقَّدة كثيرة بين
العمال وأصحاب العمل، مشاكل كثيرًا ما يترتب عليها اضطرابات بل وثورات أيضًا.

في الوقت
الذي كتب الرسول فيه هذه الأقوال كان نظام العبيد الأرقاء سائدًا في كل العالم،
ولاسيما في الدولة الرومانية التي كانت لها السيادة العليا وقتئذ، ومع أن ذلك
النظام لم يكن بحسب إرادة الله، لأن مشيئته هي أن جميع البشر يعيشون أحرارًا، إلا
أنه مما لا يتفق مع مبادئ الإنجيل تحريض العبيد ليثوروا ضد سادتهم، ومع ذلك فإننا
نجد في رسالة الرسول بولس إلى فليمون فكر الله من جهة تحرير العبيد، لا بالعنف
والقوة بل بالمحبة والسلام، لذا يحث الرسول بولس فليمون على أن يقبل أنسيمس العبد
الآبق «لا كَعَبْدٍ فِي مَا بَعْدُ، بَلْ أَفْضَلَ مِنْ عَبْدٍ: أَخًا مَحْبُوبًا،
وَلا سِيَّمَا إِليَّ، فَكَمْ بِالحَرِيِّ إِليْكَ فِي الجَسَدِ وَالرَّبِّ
جَمِيعًا! فإن كُنْتَ تَحْسِبُنِي شَرِيكًا، فَاقْبَلْهُ نَظِيرِي» (ع 16، 17). وهذا
نفس ما أشار إليه الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس «الدَّعْوَةُ التِي
دُعِي فِيهَا كُلُّ وَاحِدٍ فَلْيَلْبَثْ فِيهَا. دُعِيتَ وَأَنْتَ عَبْدٌ فَلاَ
يَهُمَّكَ. بَلْ وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أن تَصِيرَ ححُرًَّا فَاسْتَعْمِلْهَا
بِالحَرِيِّ. لأَنَّ مَنْ دُعِيَ فِي الرَّبِّ وَهو عَبْدٌ، فهو عَتِيقُ الرَّبِّ»
(1كو20:7- 22).

إن الأمر
الصريح هو أن العبيد يُطيعون سادتهم «بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ»؛ أي الخوف من إهمال
القيام بواجباتهم، فإن واجبهم يحتم عليهم أن يؤدُّوا أعمالهم بكل أمانة «فِي
بَسَاطَةِ قُلُوبِكُمْ»؛ أعني بكل إخلاص «كَمَا لِلمَسِيحِ». وهذا ما يملأ قلوبهم
رضى وسرورًا.

«لا
بِخِدمةِ العينِ كَمَنْ يُرْضِي النَّاس، بل كَعَبِيدِ المسِيحِ، عَامِلِينَ مشيئة
اللهِ مِنَ القَلْبِ، خَادِمِينَ بِنِيَّةٍ صالحةٍ كما لِلرَّبِّ، ليس للنَّاسِ»
(ع 6، 7).

يمكننا
القول بأن: «خِدْمَةِ الْعَيْنِ» هي نوع من عدم الأمانة في العمل، فإذا ما قام
العامل بعمله عندما يرى أن صاحب العمل أو رئيسه يراقبه وذلك لكي يرضيه، ثم يهمل القيام
بعمله عندما يبتعد عنه، فإنه في هذه الحالة لا يكون أمينًا في القيام بواجبه. أما
المؤمن الذي يعتبر أنه «عَبِدِ المَسِيحِ» فإنه يمارس عمله بكل أمانة لا كَمَنْ
«يُرْضِي النَّاسَ»، بل ليعمل «مشيئة اللهِ مِنَ القَلْبِ». إنه يقوم بعمله بكل
أمانة واجتهاد «بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ كَمَا لِلرَّبِّ، لَيْسَ لِلنَّاسِ» فهو يعمل
عمله، مهما كان شاقًا، واضعًا نصب عينيه المسيح وليس الناس الذين يخدمهم، وهذا ما
يجعل للخدمة، مهما كانت حقيرة في نظر الناس، قيمة عظيمة في نظر العامل كما هي في
عيني الله نفسه.

 

رسالة أفسس

 

«عالِمِين
أن مهما عَمِلَ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الخَيْرِ فذلِك يَنَالُهُ مِنَ الرَّبِّ، عبدًا
كان أَمْ حُرًا» (ع 8).

للأمانة في
القيام بالعمل الذي يُعيِّنه الرب لكل واحد منا مجازاتها ومكافأتها من الرب نفسه،
فالعبد الذي يطيع سيده أو العامل الذي يطيع رئيسه ويقوم بواجبه بأمانة وإخلاص لا
بد أن ينال المكافأة من الرب حتى ولو كان ذلك الرئيس لا يقدِّر أمانته وإخلاصه في
عمله، فإن الرب لن ينسى تلك الأمانة وذلك الإخلاص «لا تَضِلُّوا! اللهُ لاَ
يُشْمَخُ عَلَيْهِ. فإن الَّذِي يَزْرَعُهُ الإنسان إِيَّاهُ يَحْصُدُ أيضًا»
(غل7:6). فليُتقن كل مسيحي أمين عمله، مهما كان مركزه حقيرًا في هذا العالم، بأن
للأمانة مجازاتها الصالحة في الحياة الحاضرة والعتيدة أيضًا.

بعض الناس
في هذا العالم أغنياء والبعض فقراء. البعض سادة والبعض عبيد أو خدم. البعض رؤساء
والبعض مرؤوسون، كذلك البعض أمناء والبعض غير أمناء، ولكن كل هذه الفوارق ستزول
ولا يبقى لها أثرًا، وكل إنسان سيُعطي حسابًا أمام الله عن حياته التي عاشها في
هذا العالم. عندئذٍ سيسمع كثيرون من المؤمنين الأمناء، الذين كانوا فقراء ومجهولين
في هذا العالم، كلمات الرب المبهجة: «نِعِمَّا أيها العَبْدُ الصَّالِحُ الأَمِينُ!
كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. ادْخُلْ إلى فَرَحِ
سَيِّدِك» (مت23:25). فليتشجَّع وليتعزَ كل مؤمن عائش بالأمانة ولو كان مركزه
حقيرًا في هذا العالم، عالمًا «مَهْمَا عَمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الخَيْرِ
فَذَلِكَ يَنَالُهُ مِنَ الرَّبِّ». هل يعاملك رئيسك بدون تقدير لأمانتك؟ ثق بأن
الله لن يغفل أو يهمل هذه الأمانة فلا يكافئك عليها. هل يقسو رئيسك عليك ويظلمك
كما حدث ليوسف قديم؟ (تك39). عش أمينًا في أداء عملك واثقًا بأن الله لا بد أن
يُجازيك «سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ وَاتَّكِلْ عَلَيْهِ وَهو يُجْرِي،
وَيُخْرِجُ مِثْلَ النُّورِ بِرَّكَ، وَحَقَّكَ مِثْلَ الظَّهِيرَةِ. انْتَظِرِ
الرَّبَّ وَاصْبِرْ لَهُ» (مز5:37- 7).

«وأَنتُم
أيها السَّادَةُ، افْعَلُوا لهم هذِهِ الأمور، تَارِكِينَ التَّهْدِيد، عالِمِين
أن سَيِّدَكُم أنتم أيضًا فِي السماوات، وليس عنده مُحَاباةٌ» (ع 9).

يختتم
الرسول بولس هذا الجزء الخاص بالعلاقات والواجبات المُتبادلة في البيت المسيحي
بتوجيه النصح للسادة، فلا يُوجَّهه إلى طرف واحد، بل إلى كل طرف في البيت المسيحي.
فإنه في العلاقة الزوجية، كما يعظ النساء بأن يخضعن لرجالهن، كذلك يعظ الرجال بأن
يحبوا نساءهم، وكما يعظ الأولاد بأن يطيعوا والديهم، كذلك يعظ الوالدين بأن لا
يغيظوا أولادهم بل أن يُربُّوهم بتأديب الرب وإنذاره، وهنا كما يعظ العبيد أو
المرؤوسين بأن يطيعوا سادتهم (أو رؤساءهم)، كذلك يعظ السادة (أو الرؤساء) بأن
يكونوا لُطفاء ومترفِّقين بعبيدهم (أو مرؤوسيهم).

«وَأَنْتُمْ
أيها السَّادَةُ، افْعَلُوا لَهُمْ هَذِهِ الأمور». إن الرب الذي سيُحاسب ويُجازى
العبيد هو هو بعينه الرب والسيد الذي سيُحاسب ويُجازى السادة أيضًا، وكل واحد منهم
سينال: إما المجازاة الحسنة أو العقاب المُؤلم من الرب الذي هو سيد السادة والعبيد
على السواء. إنه سيد المرؤوس كما هو سيد الرئيس، فلا يليق بالسادة المؤمنين أن
يعاملوا مرؤوسيهم بالتهديد، كما ولا بالمواعيد الكاذبة.

وكلمات
الرسول بولس هذه واضحة كل الوضوح فإنه يقول للسادة: «افْعَلُوا لَهُمْ هَذِهِ
الأمور»، أعني نفس الأمور التي طلبها من العبيد، أي أنهم (أي السادة) يتعاملون مع
عبيدهم (أو مرؤوسيهم) «كَعَبِيدِ المَسِيحِ، عَامِلِينَ مشيئة اللهِ مِنَ
الْقَلْبِ، خَادِمِينَ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ كَمَا لِلرَّبِّ، لَيْسَ لِلنَّاسِ.
عَالِمِينَ أن مَهْمَا عَمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَيْرِ فَذَلِكَ يَنَالُهُ
مِنَ الرَّبِّ، عَبْدًا كَانَ أَمْ حُرًا» (ع 5-8). فإذا كانت الأمانة والإخلاص
مطلوبين من العبيد، فإنهما مطلوبان أيضًا من السادة. وكما أن العبد (أو المرؤوس)
يجب أن يخدم بأمانة عاملاً ما فيه خير ومصلحة سيده، (أو رئيسه)، كذلك يجب على
السيد أو الرئيس أن يعمل ما فيه خير وفائدة مرؤوسه، فلا يليق به أن يسود عليه
بالقسوة أو التهديد بل باللطف والعطف. إن العنف أو القساوة هما من صفات الأشرار
الذين لم يختبروا محبة الله ورحمته «الصِّدِّيقُ يُرَاعِي نَفْسَ بَهِيمَتِهِ،
أَمَّا مَرَاحِمُ الأَشْرَارِ فَقَاسِيَةٌ»(أم 10:12). فإن كان الصديق يُشفق على
بهيمته، فكم بالأحرى يجب عليه أن يُشفق على ابن آدم نظيره حتى ولو كان عبدًا له؟
إن من واجب السادة أو الرؤساء أن يكونوا مترفِّقين بمَنْ يخدمونهم، فلا يظلمونهم
في أجورهم أو في أي حق من حقوقهم، كما لا يليق بهم أن يُرهقوهم في القيام بعمل فوق
طاقتهم. يجب عليهم أن يعنوا بصحتهم وبكل ما فيه خيرهم وسلامتهم روحيًا وجسديًا ومن
كل وجه. ويا له من تحذير خطير يُوجِّهه الرسول يعقوب إلى السادة! «هَلُمَّ الآنَ
أيها الأَغْنِيَاءُ، ابكُوا مُوَلْوِلِينَ عَلَى شَقَاوتِكُمُ الْقَادِمَةِ…
هوذَا أُجْرَةُ الْفَعَلَةِ الَّذِينَ حَصَدُوا حُقُولَكُمُ، الْمَبْخُوسَةُ
مِنْكُمْ تَصْرُخُ، وَصِيَاحُ الْحَصَّادِينَ قَدْ دَخَلَ
قَدْ دَخَلَ
إِلَى أُذْنَيْ رَبِّ الْجُنُودِ
ِ» (يع1:5- 4).

رسالة أفسس

 

«عَالِمِينَ
أن سَيِّدَكُمْ أَنْتُمْ أيضًا فِي السماوات، وَلَيْسَ عِنْدَهُ مُحَاباة». فكما
أن سيدنا، تبارك اسمه، يعاملنا بالمحبة والرفق كذلك يجب على السادة المؤمنين أن
يعاملوا مرؤوسيهم بنفس الكيفية التي يعاملنا بها الرب. فكما أن العبيد هم تحت
سلطان ورئاسة سادتهم كذلك نحن أيضًا تحت سلطان ورئاسة ربنا وسيدنا الذي هو الآن في
السماوات. وكما يحاسب الرئيس مرؤوسيه على ما عملوه كذلك نحن وكل السادة أو الرؤساء
سنعطي حسابا أمام كرسي المسيح، فهو لا بد أن يجازى السادة القساة كما سيجازى
العبيد غير الأمناء، إذ «ليْسَ عِنْدَهُ مُحَاباةٌ». إن من واجب جميع المؤمنين-السادة
والعبيد، أو الرؤساء والمرؤوسين- أن يراعى كل منهم واجبه المسيحي، وإلا فإننا نكون
سبب عثرة للبعيدين عن المسيح.

كم هو جميل
أن نراعى أن هذه الرسالة تبدأ وتدور حول مقامنا السماوي كأعضاء في جسد المسيح
المُقام من الأموات والمُمجَّد عن يمين أبيه في السماويات، وكيف أن الآب قد باركنا
بكل بركة روحية في السماويات في المسيح. ومع ذلك فإننا نجد بين أعضاء الجسد الواحد
أشخاصًا فقراء في هذا العالم يشغلون مركز عبيد لسادة قد يكون البعض منهم قساة
وظالمين، ولكن شكرًا لله الآب والرب يسوع المسيح على النعمة التي رفعتهم ورفعتنا
جميعًا وعلى الرجاء المبارك الموضوع أمامنا، فإن العبد المسيحي سيكون مع المسيح
ومثله في المجد، سيكون العبد (في الأرض) واحدًا من الذين يُرنِّمون الترنيمة
الجديدة في السماء قائلين: «وَجَعَلْتَنَا لإلهنا مُلُوكًا وَكَهَنَةً،
فَسَنَمْلِكُ عَلَى الأرض» (رؤ10:5). ليت كلاً منَّا يعيش بالأمانة للرب في المركز
الذي وضعه فيه هنا، منتظرين كلنا اللحظة السعيدة التي فيها يأتي الرب لينهي غربتنا
في هذا العالم ويُوجدنا معه في المجد الأبدي.

رسالة أفسس

 

«أخيرًا
يا إِخوتِي تَقَوَّوا فِي الرَّبِّ وفِي شِدَّةِ قُوَّتِهِ» (ع 10).

وصلنا الآن إلى
الجزء الختامي من هذه الرسالة، وهو الخاص بالحرب الروحية مع قوات الظلمة التي
تحاول دائمًا أن تُحرمنا من التمتع ببركاتنا الروحية التي بُوركنا بها في المسيح
يسوع. فكما أن شعب الرب الأرضي قد أعطاهم الله أرض الموعد، الأرض التي تفيض لبنًا
وعسلاً، وكان عليهم أن ينتصروا على أعدائهم الجبابرة لكي يمكنهم أن يمتلكوا الأرض
عمليًا ويتمتعوا بخيراتها، كذلك الأمر مع المؤمنين الحقيقيين الآن، فإنهم، لكي
يتمتعوا عمليًا بكل بركة روحية، عليهم أن يجاهدوا للانتصار على قوات الظلمة التي
تحاول حرمانهم من التمتع بهذه البركات السماوية.

يظن
الكثيرون من المؤمنين خطأ أن أرض كنعان هي رمز للسماء التي يدخلها المؤمن بعد
الموت، وأن نهر الأردن يرمز إلى الموت الجسدي، ولكن لدى التأمل في هذا الموضوع نجد
أن الأمر بعكس ذلك، فإنه بعد دخول الشعب أرض كنعان بدأت الحروب المتواصلة مع
أعدائهم الذين قاوموهم بكل قواهم لمنعهم من التمتع ببركات تلك الأرض، فهل بعد
انتهاء حياتنا من هذا العالم ودخولنا إلى السماء يكون هناك أعداء وتكون هناك حروب؟
إن كنعان، في الواقع، هي رمز بهذه البركات يجب أن ننتصر على أعدائنا الروحيين؛
إبليس وأجناده، الذين لا يكفُّون عن مقاومتنا ليحرمونا من التمتع بهذه البركات.

«أخيرًا يا
إِخْوَتِي تَقَوُّوا فِي الرَّبِّ وَفِي شِدَّةِ قُوَّتِهِ». يا لها من كلمات
مُشجِّعة لنا نحن المؤمنين! فإننا في ذواتنا ضعفاء، وأعداؤنا أقوى منا بكثير ولكن
لنا كل الكفاية في الرب وفي
شدة قوته، ومن المهم أن نتيقن بأن
جميع المؤمنين، حتى ولو كانوا قد قبلوا الرب يسوع مخلصًا لهم من سنين كثيرة ولهم
اختبارات وتدريبات روحية مباركة، فإنهم لا شيء في ذواتهم، وأنهم بأنفسهم أو بقوتهم
لا يستطيعون أن ينتصروا على أعدائهم. فليكن لنا جميعًا الإيمان بالرب والثقة فيه
وفي شدة قوته. لقد رأينا في تأملاتنا في الإصحاح الأول (ع 19، 20) أن عظمة قدرة
الله الفائقة نحونا نحن المؤمنين هي حسب عمل شدة قوته الذي عمله في المسيح إذ
أقامه من الأموات… إلخ، فالقوة التي لحسابنا الآن هي نفس القوة التي أقامت
المسيح من الأموات وأجلسته عن يمين أبيه في السماوات، إننا في ذواتنا ضعفاء
كالوَبَار «الْوِبَارُ طَائفةٌ ضَعِيفَةٌ، وَلَكِنَّهَا تَضَعُ بُيُوتَهَا فِي
الصَّخْرِ» (أم26:30). فمهما كان الأعداء الروحيون جبابرة فإن قوتنا هي في «الصخر»
صخر الدهور. ولكي نتقوَّى في الرب وفي شدة قوته، علينا أن نمارس كل وساط النعمة:
أن نصلى كثيرًا، وأن ندرس كلمة الله ونلهج فيها باستمرار، كما يجب أن تكون لنا
شركة مع المؤمنين الأتقياء؛ القديسين والأفاضل.

«البَسُوا
سِلاح اللهِ الكَامِل لِكي تَقْدِرُوا أن تَثْبُتُوا ضِدَّ مَكَايِدِ إبلِيسَ» (ع
11).

تأملنا في
الأعداد السابقة في البيت المسيحي، وكلما قرأنا تلك الأعداد الجميلة (22:5 إلى
9:6) نجد أنفسنا في جو لطيف مملوء بالبهجة والسلام. نعم كم هو جميل أن نقرأ في تلك
الأعداد عن العائلة المسيحية حيث الزوج والزوجة يعيشان معًا في جو مُشبَّع بالمحبة
والوئام، ولهما الهدف الواحد وهو مجد الرب يسوع المسيح، وحيث الأولاد يُربُّون
بتأديب الرب وإنذاره، وحيث السادة والعبيد يعرفون معًا مسؤوليتهم للسيد الأعظم
الذي عاش هنا على الأرض «كالعبد»، ولكنه الآن السيد المُمجَّد عن يمين الآب في
السماوات، إلا أن الروح القدس ينقلنا فجأة من هذا المشهد الجميل والمبارك، مشهد
البيت المسيحي إلى مشهد آخر يختلف عنه كل الاختلاف، إلى مشهد الحرب الروحية
والجهاد المقدَّس مع إبليس وأجناده الكثيرين، لذا يحثنا الرسول على أن نلبس
سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ. وسنرى في الأعداد التالية أجزاء هذا السلاح مذكورة
بالتفصيل قطعة بعد قطعة.

رسالة أفسس

 

في
الأصحاح الرابع من هذه الرسالة (ع 24) يحثنا الرسول على أن نلبس ما يليق بنا
كقديسين، أما هنا
فيحثنا على أن نلبس ما يليق بنا
كجنود للرب يسوع، أن نلبس سلاح الله
الكامل
،
السلاح الذي أعده الله نفسه «إذ أَسْلِحَةُ مُحَارَبَتِنَا ليْسَتْ جَسَدِيَّةً،
بَل قَادِرَةٌ باللهِ عَلى هَدْمِ حُصُونٍ» (2كو4:10). إن سلاح الله الكامل هو
الذي به
نقدر
أن نثبت

ضد مكايد إبليس. هذه هي إرادة الله من نحو كل مؤمن، أن يكون
ثابتًا «ضِدَّ
مكايِدِ إبلِيسَ». ولنلاحظ أن الروح القدس يشير هنا إلى الثبات ضد «
مكايد» إبليس
أكثر مما إلى
قوة إبليس. لقد
انتصر الرب يسوع على قوة إبليس كما على مكايده (أو حيله وأساليبه) ذلك لأنه عدو قد
هزم بالصليب «لِكي يُبِيدَ بِالمَوْتِ ذاكَ الذِي لَهُ سُلْطَانُ المَوْتِ، أَيْ
إبلِيسَ» (عب14:2). ويجب علينا أن ننظر إليه كعدو مهزوم. هذا ما أشار إليه الرسول
يعقوب بقوله: «قاومُوا إبلِيسَ
فيهرب مِنكُم » (يع 7:4). فمكايد إبليس هي
التي يجب أن نثبت ضدها. إنه عدو مخادع «وَلا عَجَبَ. لأَنَّ الشَّيْطانَ نَفْسَهُ
يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إلى شِبْهِ مَلاكِ نُورٍ!» (2كو14:11). إنه عدو الله والمسيح،
وبالتالي هو عدو المؤمنين المُدرَّب على المكايد والمخادعات. إن له ما يقرب من ستة
آلاف سنة يعمل فيها بحيلة ومكايده، فقد ظهر أولاً لحواء في الحيَّة التي هي أحيل
جميع حيوانات البرية، وهو للآن «الحية القديمة»، لكن شكرًا لله الذي يقودنا في
موكب نصرته في المسيح. إذًا «البَسُوا سِلاحَ اللهِ الكَامِلَ لِكي تَقْدِرُوا أن
تَثْبُتُوا ضِدَّ مَكَايِدِ إبلِيسَ».

«فإن
مُصارعتنا ليْسَت مع دَمٍ ولحمٍ، بل مع الرُّؤساءِ، مع السَّلاطِينِ، مع وُلاَةِ
العَالَمِ، على ظُلْمَةِ هذا الدَّهْرِ، مع أجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي
السماويات» (ع 12).

لا ريب في
أن الحروب التي تحدث بين البشر في العالم، ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه
الاختراعات الجهنمية الفتَّاكة، هي مُروعة ومُدمِّرة، ولكن القول هنا بأن مصارعتنا
ليست مع لحم ودم، أي ليست مع البشر المنظورين مثلنا، يرينا بأن الحرب الروحية مع
قوات الظلمة غير المنظورة هي أشد وأقسى، فإن الحروب البشرية هي بين إنسان وإنسان،
أو بين جيش وجيش، أو بين طائرات وطائرات وما إلى ذلك، بينما الحرب الروحية هي ضد
إبليس وأجناده. إنها حرب ضد مملكة الظلمة الكبيرة «مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ
السَّلاطِينِ، مَعَ وُلاةِ العَالَمِ، عَلى ظُلْمَةِ هَذا الدَّهْرِ، مَعَ
أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السماويات». ولا يمكننا أن ننتصر على هؤلاء
الأعداء إلا إذا لبسنا «سِلاحَ اللهِ الكَامِلَ». إن أعداءنا الروحيين هؤلاء
يعملون بلا هوادة ولا مهادنة على حرماننا من العيشة لمجد الرب سيدنا وبالتالي من
التمتع ببركاتنا الروحية السماوية. فمصارعتنا مع قوات الظُلمة هي أقسى وأشد من
المصارعة مع اللحم والدم، إذ أن إبليس وكل مملكته مُجنَّدون باستمرار ضدنا نحن
المؤمنين، ومَنْ يجهل هذه الحقيقة يُعرِّض حياته الروحية للأذى والخطر.

رسالة أفسس

 

في
رسالة بطرس الرسول الأولى، حيث يُرَى المؤمنون «كَغُرَبَاءَ وَنزلاءَ» في هذا
العالم (1بط 11:2) يحثهم الرسول على التعقل والصحو «اصْحُوا وَاسْهَرُوا لأَنَّ
إبلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائرٍ، يَجُولُ (في الأرض) مُلْتَمِسًا مَنْ
يَبْتَلِعُهُ هو» (1بط 8:5). أما هنا في رسالة أفسس فإن أعداءنا يُرَوْن «فِي
السماويات» حيث المؤمنون قد بُوركوا «بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السماويات
فِي الْمَسِيحِ» (أف3:1)، المسيح الذي قد تمجَّد عن يمين أبيه «فِي السماويات»
(أف120:1)، وهم (أي المؤمنون) قد أُجلسوا معًا «فِي السماويات فِي الْمَسِيحِ»
(أف6:2)، حيث الرؤساء والسلاطين «فِي السماويات» يتعلَّمون بواسطتهم (أي بواسطة
الكنيسة) حكمة الله المتنوعة. فالحرب الروحية إذًا هي مع «رئيس سُلْطَانِ
الْهواءِ» وأجناده غير المنظورين (أف2:2). ولكن شكرًا لله على معدات النعمة
الغنية، فإن كنا لسنا كُفاة من أنفسنا لمواجهة هؤلاء الأعداء الروحيين، ولكن كل
الكفاية هي في الرب يسوع وفي شدة قوته، هذا الذي به «يعظم انتصارنا».

«من أجل ذلك
احْمِلُوا سِلاح اللهِ الكَامِل لِكي تَقْدِرُوا أن تُقاومُوا فِي اليومِ
الشِّرِّيرِ، وبعد أن تُتَمِّمُوا كل شيء أن تَثْبُتُوا» (ع 13).

يُكرِّر
الرسول الإشارة إلى أهمية «سِلاحَ اللهِ الكَامِلَ» ففي العدد الحادي عشر يقول:
«البَسُوا سِلاَحَ اللهِ الكَامِلَ»، وهنا في هذا العدد يُكرِّر ذلك بقوله:
«احْمِلُوا سِلاحَ اللهِ الكَامِلَ»، ذلك لأن كل أجناد مملكة الظلمة مصطفون ضدنا،
لذلك يُكرِّر الرسول الحث على أن نحمل السلاح كله «سِلاحَ اللهِ الكَامِلَ»، هذا
السلاح الذي لا يمكن لقوتنا الذاتية أو لحكمتنا الجسدية أن تحل محله أو تغنى عنه. إن
مسؤولية كل مسيحي حقيقي هي أن يلبس سلاح الله الكامل وأن يحمله باستمرار. وهنا يجب
أن نراعى أن هناك فرقًا كبيرًا بين لبسنا سلاح الله الكامل وبين اللباس الذي أعده
الله لنا بنعمته الغنية. فإن كل واحد منا وضع ثقته في الرب يسوع وفي كفاية عمله
لأجله فوق الصليب قد صار «بر الله فيه» أي في المسيح. لقد ألبسه الله أعظم حُلّة
«الحُلَّة الأولى»، هذا هو مركزنا أمام الله في المسيح. وهذه الحُلَّة أو هذا
اللباس لا نضعه نحن على أنفسنا لأن الله هو الذي ألبسنا إياه، أما عند الحرب أو
المصارعة فإن واجبنا نحن هو أن نلبس كل جزء من أجزاء هذا السلاح.

وليُصغ كل
مؤمن حقيقي إلى قول الرسول هنا: «احْمِلُوا سِلاحَ اللهِ الكَامِلَ لِكي
تَقْدِرُوا أن تُقاومُوا فِي
اليومِ الشِّرِّيرِ»، لا شك أنه ما دامت
رحى الحرب الروحية دائرة باستمرار وفي كل مدة وجودنا في هذا العالم، فإن هذه المدة
ينطبق عليها القول: «اليَومِ الشِّرِّيرِ» ولا سيما من بعد صلب ربنا يسوع المسيح
حيث سُميَ العدو إبليس: «رئيس هذا العالم».

في الأصحاح
الخامس من هذه الرسالة يحث الرسول المؤمنين على السلوك بالتدقيق «لا كَجُهَلاَءَ
بَلْ كَحُكَمَاءَ، مُفْتَدِينَ الْوَقْتَ لأَنَّ الأيام شِرِّيرَةٌ»، أما هنا
فالتحذير أقوى وأشد، أي يجب أن نحمل سلاح الله الكامل لكي نقدر أن نقاوم «اليَوْمِ
الشِّرِّيرِ». ومع أن زمان الحرب والمصارعة، أعني كل مدة وجودنا في هذا العالم،
يمكن أن يوصف بأنه «اليَوْمِ الشِّرِّيرِ» إلا أن هناك أوقاتًا خاصة فيها يختبر
المؤمن فرديًا قوة الحرب الروحية عليه وشدة مقاومة العدو العنيفة له بصور مختلفة.
وعندئذٍ يكون الخطر عظيمًا إذا لم يكن صاحيًا وحاملاً السلاح الكامل. ووقت كهذا
يمكن أن يقال عنه بحق بأنه: «اليَوْمِ الشِّرِّيرِ» ويجب أن نراعى بأنه من واجبنا
أن نكون مستعدين ومهيئين لمثل هذه الظروف القاسية أو ذلك «اليَوْمِ الشِّرِّيرِ»
من قبل. فليس واجبنا هو أن نلبس سلاح الله الكامل عندما يجيء يوم شرير كهذا، بل أن
نكون لابسين هذا السلاح باستمرار حتى لا يفاجئنا العدو بقوته، بل بالحري نقدر أن
نقاومه وننتصر عليه.

رسالة أفسس

 

ثم
لنراع قوله: «وبَعْدَ أن تُتَمِّمُوا كُلَّ شَيْءٍ أن تَثْبُتُوا» أي بعد أن
تفوزوا بالنصر في «اليَوْمِ الشِّرِّيرِ»
يجب أن تستمروا حاملين
سلاح الله الكامل ومستعدين لأي
هجوم آخر يفاجئكم به العدو، ذلك لأننا
عند كسب المعركة الروحية، مُعرَّضون للإعجاب بأنفسنا والثقة في ذواتنا والاستناد
على قوتنا، وفي ذلك كل الخطر على حياتنا الروحية. يجب ألا يغيب عن أذهاننا أن
انتصاراتنا الروحية لا تعنى أن الحرب قد انتهت. إنها حرب متواصلة ما دمنا هنا في
هذا العالم، ولكن شكرًا لله فإنه بعد قليل سيأتي الرب من السماء ليأخذنا للمجد في
بيت الآب، وهناك لا تكون حرب أو جهاد بل سجود وابتهاج، فبدل لبس السلاح سنلبس هناك
الأكاليل، وبدل الجهاد ستكون الراحة المجيدة في السماء.

***

الجزء
الأول من سلاح الله الكامل:

«فاثبتوا
مُمَنْطِقِين أحقاءَكُم بِالحَقِّ، ولابسِين دِرْعَ البِرِّ» (ع 14).

يتحدث
الرسول بولس هنا وفي الأعداد التالية عن سلاح الله الكامل بالتفصيل فيذكر كل جزء
من أجزائه قطعة بعد قطعة، فيشير أولاً إلى
المنطقة
«فاثْبُتُوا مُمَنْطِقِينَ أَحقاءَكُمْ بِالحَقِّ». إن أول شيء يجب أن يلبسه
الجندي المسيحي هو:
منطقة الحق. والمقصود بالحق هنا هو كلمة الله، إذ لا
يستطيع أن يكون ثابتًا غير متزعزع إلا إذا كان مُمنطق الحقوين بكلمة الله. هذا ما
يحتاج إليه المؤمنون في هذه الأيام بصفة خاصة، فإن كثيرين من المؤمنين يُهملون
قراءة كلمة الله والتغذِّي بها واللهج فيها مفضلين عليها قراءة الكتب والقصص
العالمية، لذا نجدهم ضعفاء روحيًا. تراهم بلا قوة أو همَّة روحية؛ وبالتالي
مهزومين في حياتهم الروحية. يقول الرسول بطرس: «مَنْطِقُوا أَحقاءَ ذِهْنِكُمْ
صَاحِينَ» (1بط13:1)؛ وهذا معناه أن كلمة الله يجب أن تهيمن على ذهن المسيحي
الحقيقي، وبذا يُحفظ من الأفكار الخاطئة ومن التعاليم الغريبة المؤذية لحياته
الروحية.

وكما أن
المنطقة على حقوي الإنسان تُكْسِب جسده قوة ونشاطًا، كذلك درس كلمة الله فإنه يُقوِّي
ويُنشِّط إنساننا الباطن. ليتنا نُمنطق أحقاءنا دائمًا بالحق الإلهي «كي لا
نَكُونَ فِي مَا بَعْدُ أَطْفَالاً مُضْطَرِبِينَ وَمَحْمُولِينَ بِكُلِّ رِيحِ
تَعْلِيمٍ، بِحِيلَةِ النَّاسِ، بِمَكْرٍ إلى مَكِيدَةِ الضَّلالِ. بَلْ
صَادِقِينَ فِي الْمَحَبَّةِ، نَنمو فِي كُلِّ شَيْءٍ إلى ذَاكَ الَّذِي هو
الرَّأْسُ: الْمَسِيحُ» (أف14:4، 15).

رسالة أفسس

 

متى
يخلع الجندي منطقته؟ أ ليس عند النوم؟ وهل يليق به أن ينام وهو في ساحة الوغى؟ ما
أخطر هذا! لقد نام سيسرا قائد جيش أعداء الرب فقتلته امرأة (قض4). أيها الأحباء
«جَمِيعُكُمْ أبناء نُورٍ وَأبناء نَهَارٍ. لَسْنَا مِنْ لَيْلٍ وَلاَ ظُلْمَةٍ.
فَلا نَنَمْ إذًا كَالبَاقِينَ، بَلْ لِنَسْهَرْ وَنَصْحُ» (1تس5:5، 6).

إن مجيء
الرب أصبح قريبًا فلنصغ إذًا لقول الرب المبارك: «لِتَكُنْ أَحقاًؤُكُمْ
مُمَنْطَقَةً» (لو35:12).

الجزء
الثاني من سلاح الله الكامل:

«وَلابسِينَ
دِرْعَ الْبِرِ
».
والبر هنا ليس هو «بر الله» الذي صرناه في المسيح يسوع (2كو21:5)، فإن هذا البر هو
ما احتجنا إليه في علاقتنا مع الله. بينما «
دِرْعَ الْبِرِّ» هو ما
نحتاج إليه باستمرار للنُصرة في مصارعتنا مع إبليس وكل أجناده. إننا لا نُلْبِس
أنفسنا «بر الله» فإن الله هو الذي ألبسنا إياه، أما «
درع البر» المذكور
هنا فإن الله يطلب منا أن نلبسه: «لابسِينَ دِرْعَ الْبِرِّ».

وكما أن
الروح القدس يرينا في الجزء الأول من أجزاء سلاح الله الكامل أي «
منطقة الحق» حاجتنا
إلى تطبيق كلمة الله على حياتنا العملية وكيف يجب أن تُكيِّف هذه الكلمة كل طرقنا،
كذلك يرينا في الجزء الثاني من أجزاء هذا السلاح أعني «
دِرْعَ الْبِرِّ» حاجتنا
إلى أن تكون حياتنا حياة البر العملي، وهذان الجزءان مرتبطان معًا، إذ متى كنا
مُمنطَقين بحق الكلمة الإلهية فإن ذلك يُثمر فينا ثمر البر العملي. ولنراع أن لا
شيء يفقدنا الضمير الصالح ويُعرِّض حياتنا للهزيمة نظير إهمال السلوك في البر
العملي. إن عدم لبس «دِرْعَ الْبِرِّ» يعطى للعدو منفذًا للقلب والضمير، لذا يجب
على كل المؤمنين الحقيقيين الذين قد تبرَّروا مجانًا بالفداء الذي بيسوع المسيح أن
يحيوا حياة البر العملي «قَدِّمُوا ذَوَاتِكُمْ لِلَّهِ كَأَحْيَاءٍ مِنَ الأموات
وَأَعْضَاءَكُمْ آلاتِ بِرٍّ لِلَّهِ» (رو13:6).

الجزء
الثالث من سلاح الله الكامل:

«وحاذين
أرجلكُم بِاستِعداد إنجيل السَّلامِ» (ع 15).

المقصود باستعداد
إنجيل السلام
هو
السلوك العملي المطابق لتعليم إنجيل الله «عِيشُوا كمَا يَحِقُّ لإنجيل
الْمَسِيحِ» (في27:1) فإنه لا يكفى أن نشهد بأفواهنا بأن إنجيل المسيح «هو قوة
الله للخلاص»، وبأنه صار لنا نحن المؤمنين «سلام مع الله»، وهذا حسن وجميل حقًا
ولكن يجب أن نُظْهِر ذلك عمليًا في سلوكنا. كذلك يجب أيضًا أن نحمل، بكافة
الوسائل، إنجيل السلام للنفوس المحرومة من السلام مع الله. فعلينا من الناحية
الواحدة أن نُظْهِر قوة إنجيل السلام في حياتنا العملية، ومن الناحية الأخرى نحمل
بشارة النعمة والسلام إلى النفوس البعيدة عن الله. هاتان الناحيتان قد ظهرتا بكل
وضوح في حياة الرسول بولس وفي خدمته للإنجيل، فمن حيث الحياة العملية كانت حياته
شهادة ناطقة لقوة الإنجيل، وكذلك من حيث خدمته للإنجيل كانت له الرغبة الصادقة في
توصيل الإنجيل للبعيدين «لِليُونَانِيِّينَ وَالْبَرَابرَةِ، لِلحُكَمَاءِ
وَالجُهَلاءِ» (رو14:1، 15).

أيها القارئ
العزيز، إن إنجيل ربنا يسوع المسيح هو «إنجيل السَّلامِ» فهل نلت هذا السلام مع
الله، السلام المُؤسَّس على موت ربنا يسوع المسيح فوق الصليب وقيامته من الأموات؟
هذا هو أساس الله الراسخ الذي عليه يستريح الضمير المُتْعَب، وتجد النفس السلام الحقيقي
مع الله. بعد أن رُشَّ دم خروف الفصح على أبواب شعب الرب القديم في أرض مصر،
واحتمى الشعب من سيف الملاك المُهْلِك، وبذا صار لهم أمان تام وسلام كامل، أمرهم
الرب بأن يأكلوا من خروف الفصح قائلاً: "«وهَكَذَا تَأْكُلُونَهُ:
أَحقاًؤُكُمْ مَشْدُودَةٌ» (خر11:12). ليت القارئ العزيز يكون قد استراح على ما
عمله حَمَلَ الله؛ المسيح فصحنا الذي ذُبِحَ لأجلنا، هذه هي الراحة التي أعلنها
بكل وضوح إنجيل السلام.

رسالة أفسس

 

الجزء الرابع من سلاح الله الكامل:

«حامِلِين
فوق الكل تُرْسَ الإيمان، الذِي بِهِ تَقْدِرُونَ أن تُطْفِئوا جمِيع سهامِ
الشِّرِّيرِ المُلْتَهِبَةِ» (ع 16).

كلمة ترس لا ترد في
كل العهد الجديد إلا في هذا العدد فقط، ولكنها ترد مرارًا عديدة في العهد القديم،
وهي تعنى، في لغة الكتاب المقدس، أن الله هو ترس لأولاده الواثقين فيه والمُحتمين
به. وأول مرَّة ذكرت فيها كلمة «
ترس» كانت عندما قالها الله نفسه لإبراهيم
بعد انتهاء الحرب بينه وبين الملوك الذين حاربوا ملك سدوم وحلفاءه، إذ قيل:
«بَعْدَ هَذِهِ الأمور (أي بعد الحوادث المذكورة في تكوين14) صَارَ كَلامُ
الرَّبِّ إلى أبرَامَ فِي الرُّؤْيا: لا تَخَفْ يا أبرَامُ. أَنَا
تُرْسٌ لَكَ.
أَجْرُكَ كَثِيرٌ (أو الكثير)[1]جِدّاً»
(تك1:15). فقد كان هذا الإعلان موافقًا لحالة وحاجة عبده إبراهيم حتى لا يتسرَّب
الخوف إلى نفسه، الخوف من أي هجوم من أولئك الأعداء أو غيرهم عليه. وإذا كان الله
ترسًا لنا فليس
هناك ما يدعو إلى الخوف من هجمات الشر أو الشياطين ضدنا، لان ترسنا فيه كل الكفاية
لحمايتنا من سهام الشرير المُلتهبة.

والمرَّة
الثانية التي ترد فيها كلمة «
ترس» هي في النشيد الذي علَّمه موسى رجل
الله لشعب الرب قبيل موته «الإِلهُ القَدِيمُ مَلجَأ، وَالأذرُعُ الأبدية مِنْ
تَحْتُ. فَطَرَدَ مِنْ قُدَّامِكَ العَدُو وقَال: أهلكْ… طُوبَاكَ… مَنْ
مِثْلُكَ يا شَعْبًا مَنْصُورًا بِالرَّبِّ؟
تُرْسِ عَوْنِكَ
وَسَيْفِ عَظَمَتِكَ فَيَتَذَلَّلُ لكَ أَعْدَاؤُكَ، وَأَنْتَ تَطَأُ
مُرْتَفَعَاتِهِمْ» (تث27:33- 29). يا له من وعد جميل لشعب الرب! فالله نفسه هو
ترس لحماية
أولاده من كل سهام الشرير المُلتهبة. فهل لنا الإيمان الذي ينتظر الرب ويثق فيه؟
«أَنْفُسُنَا انْتَظَرَتِ الرَّبَّ. مَعُونَتُنَا
وَتُرْسُنَا هو»
(مز20:33)، «لأَنَّ الرَّبَّ، اللهَ، شَمْسٌ
وَمِجَنٌّ (أي ترس).
الرَّبُّ يُعْطِي رَحْمَةً وَمَجْدًا» (مز11:84)، «
تُرْسٌ هو
لِجَمِيعِ الْمُحْتَمِينَ بِهِ» (2صم31:22). كل هذه الأقوال وغيرها ترينا أن الله
نفسه هو
ترس لكل شعبه.

على أن
واجبنا هو أن نحمل هذا
الترس في كل حين «حَامِلِينَ فَوْقَ الكُلِّ تُرْسَ
الإيمان
»؛
أي أن يكون لنا الإيمان الذي يثق في الرب ويستند عليه في كل الظروف. هذا الإيمان
الذي به، وليس بقوتنا الذاتية، نقدر أن نطفئ سهام الشرير المُلتهبة. إنها سهام
نارية ولكن
ترس
الإيمان

أقوى، فعندما نضع ثقتنا في ربنا المُبارَك ونستند عليه وعلى قوته بكل قلوبنا فإنه،
تبارك اسمه، يصد عنا هجمات العدو. إنه
ترس الإيمان الذي يطفئ تلك السهام
قبل أن تصل إلينا أو تمسنا بأذى. ليتنا نحمل «
تُرْسَ الإيمان» في كل حين
فنضمن لأنفسنا النصرة الروحية «ويعظم انتصارنا بالذي أحبنا».

رسالة أفسس

 

الجزء الخامس من سلاح الله الكامل:

«وخُذُوا
خُوذَة الخَلاصِ، وسَيْفَ الرُّوحِ الذِي هو كَلِمَةُ اللهِ» (ع 17).

خذوا أي
اقبلوا أو تناولوا هذه العطية «
خُوذَةَ الْخَلاَصِ» من يد الله المُعطي. إن
الرأس هي مركز الفهم والإدراك والتفكير، وأي أذى يلحق الرأس له خطورته وله تأثيره
على بقية أعضاء الجسم، لذا تحتاج الرأس إلى الحماية مما تتعرَّض له من أذى أو ضرر.
ونشكر الله لأنه أعد للمسيحي المجاهد «
خُوذَةَ الْخَلاَصِ» لحمايته
من هجمات إبليس وكل أجناده.

وخوذة
الخلاص

للمؤمن هي يقينه بخلاصه المُؤسَّس على ذبيحة ربنا يسوع المسيح، والخلاص ليس شيئًا
وهميًا أو خياليًا ولكنه يقيني. والإنسان الذي نال هذا الخلاص قد أدرك وأيقن
تمامًا بأن الله قد خلَّصه. قد لا يكون قادرًا أن يجيب على الأسئلة الكثيرة التي
يُوجِّهها إليه المُلحِدُون أو العًصريون وغيرهم ممَنْ يُنكرون وحي الكتب
المقدَّسة، ولكن لا توجد قوة بشرية أو شيطانية تستطيع أن تسلب منه يقينه بخلاصه
وبغفران خطاياه إن كان قد أخذ
خوذة الخلاص التي تصون رأسه
وأفكاره.

بعد أن فتح
الرب عيني الرجل المولود أعمى حاول الفريسيون بأسئلتهم الكثيرة أن يبعدوه عن
المسيح. ومع أنه لم يستطع أن يجيب على كل أسئلتهم فكان يقول لهم: «لست أعلم»
ولكنهم لم يستطيعوا أن يزحزحوه عن معرفته بشيء واحد كان يعلمه جيدًا، فقال لهم:
«أَعْلَمُ شيئًا وَاحِدًا: أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَالآنَ أُبصِر» (يو25:9). كذلك
الرسول بولس، فقد أقر بأنه لا يعرف كل الأشياء «لأَنَّنَا نَعْلَمُ بَعْضَ
العِلْمِ… فَإِنَّنَا نَنْظُرُ الآنَ فِي مِرْآةٍ، فِي لُغْزٍ» (1كو9:13، 12).
ولكن أعداء الإنجيل لم يستطيعوا أن يزحزحوه عن إيمانه بالرب ويقينه فيه، وهذا واضح
من قوله: «لسْتُ أَخْجَلُ، لأَنَّنِي عَالِمٌ بِمَنْ آمَنْتُ، وَمُوقِنٌ أَنَّهُ
قَادِرٌ أن يَحْفَظَ وَدِيعَتِي إلى ذَلِكَ اليَوْمِ» (2تي12:1). لقد أخذ الرسول
بولس
خوذة
الخلاص
،
فهل أخذت أيها القارئ المحبوب هذه الخوذة؟ إذا تطرَّق الشك إلى نفسك من جهة خلاصك
فإنك لا تستطيع أن تثبت بيقين كامل أمام العدو. أما يقين الخلاص فإنه يُزحزح من
أمامك الخوف من الدينونة ويملأك فرحًا بالمُخلِّص نفسه.

يشير الرسول
بولس إلى
الخوذة في رسالته
الأولى إلى أهل تسالونيكي «وَأَمَّا نَحْنُ الَّذِينَ مِنْ نَهَارٍ، فَلْنَصْحُ
لابسِينَ دِرْعَ الإيمان وَالْمَحَبَّةِ،
وخُوذة هِي رَجَاءُ
الخَلاصِ
»
(1تس 8:5). فالخلاص لا يشمل الماضي فقط، بل الحاضر والمستقبل أيضًا، فهو خلاص من
قصاص الخطية ودينونتها وكذلك من قوتها أيضًا، هذا هو تعليم كلمة الله. إنها
تُعلِّم بأننا خلصنا بالنعمة «لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ» (أف8:2)،
وأننا في الحاضر «نَخْلُصُ بِحَيَاتِهِ» (رو10:5)، وإننا سنخلص في المستقبل
(القريب) بمجيء الرب من السماء ليأخذنا لمجده «فإن سِيرَتَنَا نَحْنُ هِيَ فِي
السماوات، التِي مِنْهَا أيضاً نَنْتَظِرُ مُخلِّصًا هو الرَّبُّ يَسُوعُ
المَسِيحُ، الَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى
صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ، بِحَسَبِ عَمَلِ استطاعتِهِ أن يُخْضِعَ لِنَفْسِهِ
كُلَّ شَيْءٍ» (في20:3، 21). فالمؤمن الحقيقي يستطيع أن يتمتع بالسلام الكامل
واثقًا أن المسيح بموته قد خلَّصه، وبحياته يحفظه، وبمجيئه ثانية يُمجِّده معه إلى
الأبد «وَاثِقًا بِهَذَا عَيْنِهِ أن الَّذِي ابتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحًا
يُكَمِّلُ إلى يَوْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (في6:1). إن نصرتنا وأمننا وسلامتنا
الروحية تتوقف على لبس
خوذة الخلاص في كل حين وفي جميع
الظروف. إنها (أي خوذة الخلاص) عطية إلهية فليتنا نلبي نداء الروح القدس في قوله:
«خُذُوا
خوذة
الخَلاص
».

رسالة أفسس

 

الجزء
السادس من سلاح الله الكامل::

 «…
وسَيْفَ الرُّوحِ الذِي هو كَلِمَةُ اللهِ» (ع 17).

إن كل أجزاء
السلاح الخمسة التي تأملنا فيها هي أسلحة دفاعية، أعني لوقايتنا من مكايد إبليس
وأجناده، أما الجزء السادس أي: «
سَيْفَ الرُّوحِ» فهو ليس لصد هجمات
ذلك العدو، بل للانتصار عليه. وليس المقصود بالسيف هنا هو الروح القدس، بل هو
كلمة الله التي أوحى
بها الروح القدس لكتبة الأسفار الإلهية، وليست هذه هي المرة الوحيدة التي فيها
يُشار إلى كلمة الله بأنها السلاح الذي أعطاه الله للمؤمنين، فإننا نقرأ في
الرسالة إلى العبرانيين: «لأن كَلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ
كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إلى مَفْرَقِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ
وَالمَفَاصِلِ وَالمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ القَلْبِ وَنِيَّاتِهِ» (عب
12:4).

إنه لا توجد
أعمال أو مكايد شيطانية أو قوات جهنمية لا تستطيع كلمة الله أن تُحطِّمها
وتُبدِّدها وتنتصر عليها. لما كتب الرسول يوحنا، وهو في منفاه في جزيرة بطمس عن
الرب، قال: «وسَيْفٌ مَاضٍ ذُو حَدَّيْنِ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ» (رؤ116:1). إن سيف
الرب الظافر هو كلمته التي لا يمكن أن تُقاوَم. فهو الذي يقول فيكون. فكلمة تخرج
من شفتيه تُسقط أعداءه على وجوههم. لقد قال، له المجد، بروح النبوة قبل تجسده بنحو
سبعمائة سنة: «وجَعَلَ فَمِي كَسَيْفٍ حَادٍّ» (إش2:49).

إن السيف هو كلمة
الله -الكتاب المُقدَّس- الذي أظهر قوته وسلطانه في كل الأجيال. فكم من البركات
التي قدمها هذا الكتاب للبشر في كل العصور. لقد انتصرت كلمة الله وأخضعت لسلطانها
الملايين العديدة من الناس في كل القرون وإلى الآن وستظل كذلك إلى النهاية. كما
كانت سلاح خدام الله في العهدين القديم والجديد فأحرزوا نصرات مجيدة ومباركة، ذلك
لأنهم كانوا عشراء مُحبِّين لكلمة الله، كان لها مكانها في عقولهم وفي قلوبهم. وكانوا
هم أجنادًا أمناء للمسيح فواجهوا العدو بنفس السلاح الذي استعمله الرب نفسه، فالرب
يسوع واجه العدو في البرية بهذا السلاح الإلهي «مَكْتُوب ٌ… مَكْتُوب…ٌ
مَكْتُوبٌ» (مت1:4- 11). وقريبا سيجيء الوقت الذي ستكون النصرة الأخيرة فيه بواسطة
«
سيف
الرُّوحِ
»
كما هو مكتوب عن الرب يسوع «وَمِنْ فَمِهِ يَخْرُجُ
سيف مَاضٍ لِكَيْ
يَضْرِبَ بِهِ الأُمَمَ. وَهو سَيَرْعَاهُمْ بِعَصًا مِنْ حَدِيدٍ، وَهو يَدُوسُ
مَعْصَرَةَ خَمْرِ سَخَطِ وَغَضَبِ اللهِ القَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَلَهُ
عَلَى ثَوْبِهِ وَعَلَى فَخْذِهِ اسم مَكْتُوب: مَلِكُ المُلُوكِ وَرَبُّ
الأرْبَاب» (رؤ 15:19، 16).

إننا بهذا
السيف عينه نستطيع أن ننتصر على إبليس وكل قوات الظلمة. لأن كلمة الله هي السيف
الذي أعطاه الروح القدس لنا لنظفر به على كل أعدائنا الروحيين.

رسالة أفسس

 

الجزء السابع من سلاح الله الكامل:

«مُصلِّين
بِكل صلاةٍ وطِلْبَةٍ كل وقْتٍ فِي الرُّوحِ، وساهِرين لِهذا بِعَيْنِهِ بِكل
مُواظبةٍ وطِلْبَةٍ، لأجل جمِيع القِدِّيسِين» (ع 18).

الصلاة هي الجزء
السابع من أجزاء سلاح الله الكامل، ومع أن كل جزء من أجزاء السلاح الستة التي
تأملنا فيها له قيمته وأهميته، ولكن القيمة العظمى هي
للصلاة، إذ أنها
تجعل الجندي المسيحي على اتصال دائم بالقائد الأعظم: الرب يسوع المسيح، «رئيس جند
الرب»، فإنه ليست لنا قوة في ذواتنا ولا نستطيع بقوتنا أن ننتصر على أعدائنا، لذا
نحتاج أن نكون في صلة دائمة بالرب الذي هو أقوى من العدو والذي يحارب حروبنا ويضمن
لنا النصرة «فلنتقدم بِثِقَةٍ إلى عَرْشِ النِّعْمَةِ لِكي نَنَالَ رَحْمَةً
وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْنًا فِي حِينِه» (عب16:4).

(أ) «مصلِّين
بِكل صلاة وطِلْبَة
». أي الصلاة لأجل كل النواحي والأمور التي نحتاج إلى
الصلاة، وما أكثر النواحي التي تحتاج إلى التضرعات أمام الله! إن كلمتي «بِكُلِّ
صَلاةٍ» تتضمنان الصلاة الفردية والصلاة العائلية. الصلاة السرية والصلاة
الجهارية.

(ب) «كل وقْت». فقد قال
الرب له المجد: «ينبغي أن يًصلَّى كل حين ولا يُمَلَّ» (لو 1:18) ذلك لأننا في
حاجة مستمرة إلى الصلاة، إذ أن العدو لا يكف عن مقاومتنا. إن الخطأ عند الكثيرين
هو أنهم يصلُّون في وقت الشدائد والتجارب فقط، ولكن واجبنا هو أن نصلى كل وقت، فإن
ذلك يُجنِّبنا أخطارًا وتجارب متنوعة، لذا يجب أن تكون صلتنا بالله مستمرة، إذ
حاجتنا إليه ليست بأقل من حاجتنا إلى الهواء الذي نستنشقه. إننا نتنفس باستمرار،
ولا يمكن لأجسادنا أن تتوقف عن التنفس لحظة واحدة، هكذا من الناحية الروحية فإننا
لا يمكن أن نحيا الحياة الحقيقية بدون الصلاة. صحيح أنه ليس ممكنًا أن نكون راكعين
على ركبنا باستمرار للصلاة، ولكن من واجبنا بل هو امتيازنا أن نكون في روح الصلاة،
أن نكون في صلة مستمرة مع إلهنا. إن الصلاة تمدنا بقوة من السماء أعظم من قوة كل
الأعداء الذين ضدنا. يقول الرسول بولس: «صَلُّوا بِلا انْقِطاعٍ» (1تس17:5)
فلندرِّب أنفسنا على أن نكون في اتصال دائم بإلهنا وأبينا مصدر القوة.

(ج) «في الرُّوحِ». كما أن
كلمة الله هي «سَيْفَ الرُّوحِ»، كذلك يجب أن تكون صلواتنا بعمل وقيادة الروح
القدس. إن الصلاة كل وقت «
فِي الرُّوحِ» هي الصلاة طبقا لفكر
وإرادة الروح الساكن فينا نحن المؤمنين، ولا يستطيع أن يصلِّي «
فِي
الرُّوحِ
»
إلا كل من وُلِدَ من الروح القدس وكان في حياته العملية منقادًا بالروح. أما إذا
لم نكن مُصلِّين في الروح فخير لنا أن لا نُصلِّي صلوات جسدية ينطبق عليها قول
الرسول يعقوب: «تَطْلُبُونَ وَلَسْتُمْ تَأْخُذُونَ، لأَنَّكُمْ تَطْلُبُونَ
رديًَّا لِكي تُنْفِقُوا فِي لذَّاتِكُمْ» (يع3:4). إن من وسائل البنيان والنمو في
الحياة الروحية هو أن نكون «مُصَلِّينَ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ» (يه20).

(د) «وساهِرِين
لِهذا بِعيْنه بِكل مُواظَبَة وطِلْبَة، لأجل جَمِيعِ القِدِّيسِينَ
». إن هذا
ما نحتاج أن نراعيه باستمرار، فإن الكسل والتهاون والتراخي في الصلاة تعطى للعدو
منفذًا إلى حياتنا. لقد نام التلاميذ في الوقت الذي كان يجب أن يكونوا فيه ساهرين
ومُصَلِّين، لذا قال لهم الرب: «أَ هَكذا مَا قَدَرْتُمْ أن تَسْهَرُوا مَعِي
سَاعَةً وَاحِدَةً؟ اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئلا تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ»
(مت40:26، 41). وما أكثر التحريضات التي في كلمة الله عن أهمية ولزوم السهر
والمواظبة على الصلاة.

رسالة أفسس

 

وما
أوسع دائرة الصلاة! فإنها ليست قاصرة على ذواتنا وعلى احتياجاتنا الفردية فقط، بل
يجب أن تشمل «
جمِيعِ
القدِّيسِين
».
إن جميع المؤمنين هم أعضاء في الجسد الواحد، وفي الوقت نفسه هم هدف العدو الواحد
«رئيس سلطان الهواء وأجناد الشر الروحية»، لذا نحن في حاجة أن نسند بعضنا بعضًا
أمام عرش النعمة. هذه هي خدمة الشفاعة المباركة؛ أي أننا نُصلِّي لأجل شعب الرب
أفرادًا وجماعات، الذين نعرفهم والذين لا نعرفهم، في الوطن وفي كل أقطار المسكونة،
وبقدر ما تتسع دائرة الصلاة بهذا القدر عينه يزيد تمتعنا بالرب الذي نسكب قلوبنا
أمامه، لا لأجل أنفسنا فقط، بل ولأجل «
جمِيع القِدِّيسِين».

«ولأجلي،
لِكي يُعْطَى لي كلا عند افْتِتَاحِ فمي، لأعلِّم جِهارًا بِسِرِّ الإنجيل، الذِي
لأجلهِ أنا سفِيرٌ فِي سَلاَسِلَ، لِكي أُجاهر فِيهِ كما يجب أن أتَكَلَّم» (ع19،
20).

تتبيَّن هنا
أهمية الصلاة لأجل الآخرين، فلم يكتفِ الرسول بولس بأن يطلب من المؤمنين في أفسس
بأن يُصلُّوا لأجل جميع القدِّيسين، بل طلب منهم أن يُصلُّوا أيضًا لأجله هو. لقد
كان الرسول يُصلِّى لأجل جميع المؤمنين، لأجل الأفراد كما لأجل الكنائس، لأجل
الذين رآهم وكرز بينهم كما لأجل القدِّيسين الذين لم يكن قد رآهم بعينيه، وقد
رأينا في تأملاتنا في هذه الرسالة أنه صلَّى لأجل القدِّيسين في أفسس مرَّتين
(أف1،3) وأن كل صلاة منهما لها قيمتها العظمى، ومع ذلك فقد عرف الرسول حاجته هو
شخصيًا إلى صلوات أولئك المؤمنين لأجله. ومن ذا الذي يستطيع أن يقدِّر قيمة
البركات التي ينالها القدِّيسون بصفة عامة ومَنْ يكرزون بالإنجيل بصفة خاصة بسبب
صلوات المؤمنين لأجلهم؟ إن الأبدية ستُرينا كم كان لصلوات المؤمنين لأجل بعضهم
البعض ولأجل خدام الإنجيل من ثمار مُبارَكة. إن كاتب هذه السطور مدين كثيرًا
لصلوات القدِّيسين في جهات عديدة لأجله. فكم من المرَّات جاز في أمراض قاسية
وشديدة ولكن الرب رحمه منها استجابة لشفاعات وتوسلات المؤمنين لأجله، ولا ينسى ما
ناله من معونات إلهية في خدمته البسيطة استجابة لصلوات القدِّيسين لأجله. لقد قال
له مرة أحد الإخوة في بلد أجنبي بأنه منذ رآه من خمس عشرة سنة لم يمر يوم واحد دون
أن يُصلِّى لأجله، وقال له آخر: إنني منذ رأيتك أقول للرب يوميا: احفظ هذا الإناء
الضعيف ليواصل الخدمة التي ائتمنته عليها. إن مَنْ يُصلِّى لأجل خدَّام الرب هو
شريك لهم في خدمتهم وفي المجازاة التي ينالونها أمام كرسي المسيح. ليتنا نُصلِّى
باستمرار وبلجاجة لأجل جميع العاملين في كرم الرب.

لم يطلب
الرسول بولس من المؤمنين أن يُصلُّوا لأجله لكي تُفَك قيوده ويُطْلَق سراحه من سجن
رومية، بل لكي يُعطَى له كلام عند افتتاح فمه، وهذا ما يحتاج إليه كل خادم
للإنجيل. إنه في حاجة دائمة إلى صلوات إخوته المؤمنين لكي يعطيه الرب كلامًا عند
افتتاح فمه ليجاهر «بِسِرِّ الإنجيل»؛ الإنجيل الذي هو عطية الله للبشر، وواجب
الخادم الأمين لإنجيل المسيح هو أن يجاهر به، لا بحكمة إنسانية بل «كما يجب أن
يتكلَّم»، وفي هذا يحتاج إلى تعضيد إخوته المؤمنين له بالصلوات المستمرة.

رسالة أفسس

 

وليس
المقصود «بِسِرِّ الإنجيل» أنه شيء غامض بل أنه بالحري يتضمن مشورات النعمة الغنية
التي كانت قبلاً مجهولة، ولكن الله أعلنها في ابنه الحبيب ربنا يسوع المسيح وفي
صليبه.

«الذِي
لأجلهِ أَنا سَفِيرٌ فِي سَلاسِلَ». فمع أن الرسول بولس كان أسيرًا في سجن رومية
ومُقيَّدًا بالسلاسل، ولكنه يعتبر نفسه أنه «سَفِيرٌ» لأجل الإنجيل. إنه لا ينظر
إلى أسره من ناحية إنسانية، أعني كمَنْ أسرته الدولة الرومانية، بل من ناحية
إلهية، فيذكر مرتين في هذه الرسالة أنه «أَسِيرُ المَسِيحِ يَسُوعَ» (أف1:3)، وأنه
«الأسِيرَ فِي الرَّبِّ» (أف1:4).

إن سفراء
الدول الأرضية يفتخرون بما نالوه من ألقاب وما يحملونه من أوسمة ونياشين يزيِّنون
بها صدورهم، أما أوسمة الرسول بولس فقد كانت سماوية. إنها السلاسل التي كان
مربوطًا ومُقيَّدًا بها. وحسنا قال واحد من القديسين:
إن الله سوف لا ينظر إلى
ما نلناه من شرف عالمي أو أوسمة أو نياشين أرضية، بل إلى ما حملناه في أجسادنا من
سمات آلام ربنا يسوع المسيح، وإلى ما تحملناه من مشقَّات من أجل الاسم الحسن الذي
دُعيَ علينا
.

«ولكن لِكي
تَعْلَمُوا أنتم أيضًا أحوالِي، ماذا أفعل، يُعَرِّفُكُمْ بكل شيءٍ تِيخِيكُسُ
الأخ الحَبِيب والخَادِمُ الأمِين في الرَّبِّ، الذِي أرْسلْتُه إِليكم لِهذا
بِعينِهِ لِكي تعْلَمُوا أحوالَنَا، ولِكي يُعَزِّيَ قُلُوبَكُمْ» (ع 21، 22).

يشهد الرسول
بولس عن تيخيكس شهادتين جميلتين وهما أنه: «الأَخُ الحَبِيبُ» وأنه: «الخَادِمُ
الأَمِينُ فِي الرَّبِّ». ومع أنه يذكر عنه نفس هاتين الصفتين الطيبتين في الرسالة
إلى أهل كولوسى، إلا أنه هناك يضيف إليهما صفة أخرى وهي أنه: «العَبْدُ مَعَنَا
فِي الرَّبِّ» (كو7:4). وكم هو جميل أن تظهر هذه الصفات الحسنة في جميع المؤمنين
وبصفة خاصة في خدَّام الرب، فإن الجمع بين هذه الصفات ولا سيما المَحبَّة
للقدِّيسين والأمانة في الخدمة للرب يحتاج إلى نعمة من الله وإلى حكمة سماوية،
فإنه من الخطر الذي قد يتعرَّض له خادم الرب أنه لأجل الاحتفاظ بالمحبة الأخوية،
أعني محبته للقدِّيسين ومحبة القدِّيسين له، قد يتهاون في الخدمة الأمينة للرب
التي تستلزم، في كثير من الحالات، الصراحة الواجبة للتمسُّك بالحق والمجاهرة به.

لقد عرف
الرسول بولس أشواق القدِّيسين في أفسس إليه ورغبتهم في معرفة أحواله، لذلك أرسل
إليهم تيخيكس حاملاً هذه الرسالة إليهم، وفي نفس الوقت لكي يُعرِّفهم أحواله ولكي
يُعزِّي قلوبهم، وقد كان تيخيكس أمينًا في توصيل هذه الرسالة للقدِّيسين في أفسس،
وبالتالي إلينا وإلى كنيسة المسيح في كل الأجيال، فكانت لتعزية قلوبهم كما لقلوبنا
وقلوب جميع المؤمنين بما تضمنته من حقائق وإعلانات سماوية. وخدمة تيخيكس هذه أثبتت
بأنه كان حقًا "«الأخُ الحَبِيبُ وَالخَادِمُ الأمِينُ فِي الرَّبِّ».

«سلامٌ على
الإِخوةِ، ومحبَّةٌ بِإيمان من اللهِ الآب والرَّبِّ يسُوع المَسِيحِ» (ع 23).

رسالة أفسس

 

لنلاحظ
أنه لا ترد في خاتمة هذه الرسالة تسليمات لأفراد من القدِّيسين كما في معظم
الرسائل الأخرى وذلك لأن هذه الرسالة مُوجَّهة إلى القدِّيسين باعتبارهم «جسدًا
واحدًا»؛ أعني إلى «الكنيسة التي هي جسده»، كما أن غاية الروح القدس فيها أن
تُقْرَأ لا في أفسس فقط، بل وفي غيرها أيضًا.

«سَلامٌ
عَلَى الإِخْوَةِ». ذلك السلام الذي هو امتياز كل المؤمنين الذين يستودعون ذواتهم
وكل ظروف حياتهم لعناية الآب المبارك. «وَمَحَبَّةٌ» لجميع القديسين الذين أُعطوا
إيمانًا من الله الآب والرب يسوع المسيح. هذا ما يجب أن نتمناه دائمًا لجميع
المؤمنين.

«النعمة مع
جَمِيعِ الذِين يُحِبُّون ربَّنا يَسُوعَ المسِيحَ فِي عدم فَسَادٍ. آمين» (ع 24).

 يختم
الرسول بولس هذه الرسالة الغنية بالحقائق الإلهية الجوهرية بهذه التحية الجميلة
والأمنية الطيبة أي «النعمَةُ مَعَ جَمِيعِ الذِينَ يُحِبُّونَ رَبَّنا يَسُوعَ
المَسِيحَ» يا لسمو هذه النعمة! النعمة التي خلَّصتنا والتي تعلِّمنا كيف نعيش في
هذا العالم الموضوع في الشرير. النعمة الغنية «التي نحن فيها مُقيمون» حيث لا
تستطيع أية قوة أن تُخرجنا من دائرتها، والتي سيُؤتى بها إلينا عند مجيء ربنا يسوع
المسيح.

والرسول
يضيف إلى قوله: «النعْمَة مَعَ جَمِيعِ الذِينَ يُحِبُّونَ رَبَّنا يَسُوعَ
المَسِيحَ». هذه الكلمات الفاحصة لقلوبنا وهي قوله: «فِي عَدَمِ فَسَادٍ»، أعني أن
التمتع بالنعمة هو من نصيب كل المؤمنين الذين يحبون ربنا يسوع المسيح حبًا لا فساد
فيه، أو بعبارة أوضح أن الذين يحبون ربنا يسوع المسيح يُظهرون هذه المحبة في
الحياة النقيَّة والعيشة التقوية وفي السلوك في القداسة العملية. إننا بهذه
الكيفية، دون سواها، نستطيع أن نتمتع عمليًا بهذه النعمة وبكل بركة روحية في
السماويات في المسيح يسوع.

«آمِينَ». ما
أجمل أن تُختم هذه الرسالة بهذه الكلمة «
آمِينَ». لقد ختم
الرسول تسبيحته المباركة بهذه الكلمة عينها (أف21:3)، وها يختم الرسالة كلها بنفس
هذه الكلمة «آمِينَ»، وكل مؤمن حقيقي يشترك بكل قلبه مع الرسول في تسبيحته المُشار
إليها ويقبل بإيمان قلبي وبيقين كامل ما تضمنته رسالة «السماويات» هذه من حقائق
إلهية ثمينة لا يستطيع إلا أن يضم صوته مع الرسول قائلاً: «آمِينَ».

***

أخيرًا لا
يسع كاتب هذه السطور إلا أن يسكب قلبه بالشكر الكثير والحمد القلبي للرب الذي
أعانه في كتابة هذه التأملات البسيطة واضعًا إياها بين يديه تعالى ضارعًا بأن
يستخدمها لمجد اسمه المعبود المبارك أن يجعلها سبب بركة وبنيان للكاتب ولكل القراء
الأعزاء.

***

ولا يفوت
الكاتب أن يشير إلى ما لقيه من معونة في كتابة هذه الصحائف بواسطة بعض المراجع
وأهمها:

1-            
محاضرات
الأخ/ وليم كلي في هذه الرسالة باللغة الإنجليزية.

2-            
كتاب
"في السماويات" بقلم الأخ/ الدكتور أيرنسيد باللغة الإنجليزية.

3-            
مجلة "رجاؤنا" our hopeالتي كانت تصدر قبلاً
في أمريكا باللغة الإنجليزية.

***



 "reward I am thy shield, and thy exceeding great " [1]

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ى يشانة 1

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي