الإصحَاحُ
الثَّالِثُ

 

1
فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ ٱلْمَسِيحِ فَٱطْلُبُوا مَا
فَوْقُ، حَيْثُ ٱلْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ. 2
ٱهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لاَ بِمَا عَلَى ٱلأَرْضِ، 3 لأَنَّكُمْ قَدْ
مُتُّمْ وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ ٱلْمَسِيحِ فِي
ٱللّٰهِ. 4 مَتَى أُظْهِرَ ٱلْمَسِيحُ حَيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ
تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً مَعَهُ فِي ٱلْمَجْدِ.

إن
الحقيقة التي يريد الرسول بولس أن يضعها أمامنا، هي أن المسيحي الذي اتحد بالمسيح
في شبه موته ودفنه وصار بقيامته يجب أن يقوم إلى حياة جديدة. وإذا كان الأمر كذلك
فإن المسيحي لا يقدر أن يخرج من المعمودية وهو نفس الإنسان. لا بد أن يحدث فرق
واضح في حياته. وهذا الفرق هو أن أفكاره تتجه إلى طلب ما فوق.

القيامة
مع المسيح تستلزم حياة جديدة روحية موافقة لحال المسيح بعد قيامته، بالنظر إلى
اتحادنا به، وطلب ما فوق يستلزم الشوق إليه وتجنب الأمور التي تمنع عواطف الإنسان
من الاتجاه إليه.

من
المؤكد أن الرسول بقوله: «ٱهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لاَ بِمَا عَلَى
ٱلأَرْضِ» (الرسالة إلى كولوسي 3: 2) لا يدعونا إلى الكف عن كل مظاهر النشاط
هنا، ولا يحرّضنا على الانطواء على النفس. وإنما أراد أن نعطي الأهمية الأولى لما
فوق، على وفق قول المسيح: «ٱطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ
ٱللّٰهِ وَبِرَّهُ» (الإنجيل بحسب متّى 6: 33).

إن
جلوس المسيح عن يمين الله، يحقق جلوس مختاريه في السماء بدليل قوله: «حَيْثُ
أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضاً يَكُونُ خَادِمِي» (الإنجيل بحسب يوحنّا 12: 26).
وقد أشار الرسول إلى هذا الأمر في رسالته إلى أهل أفسس حيث يقول: «وَأَقَامَنَا
مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ فِي ٱلْمَسِيحِ
يَسُوعَ» (الرسالة إلى أفسس 2: 6).

إن
أعظم ما يعزينا كمؤمنين إن المسيح صعد إلى السماء بناسوته الممجد. وإنه ذهب ليعد
لنا مكاناً، وقد صرّح بهذا ليوحنّا إذ قال: «مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ
يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضاً وَجَلَسْتُ مَعَ أَبِي
فِي عَرْشِهِ» (رؤيا يوحنا 3: 21).

ومما
لا ريب فيه أن النظر إلى الأبدية يعطي المؤمن مجموعة جديدة من القيم الروحية،
وفكراً جديداً للحكم على الأشياء. وإحساساً جديداً لوضع الأمور في مواضعها
المناسبة. فالأشياء التي يحسبها أبناء هذا الدهر بالغة الأهمية، لا يراها المؤمن
جديرة باهتمامه. صحيح أنه يستعمل أشياء هذا العالم ولكنه يستعملها بروح جديدة
وبأسلوب جديد. فبالنسبة له أصبح العطاء أهم من الأخذ.

المؤمن
الحقيقي يضع الخدمة فوق المركز المرموق، ويضع التسامح فوق الانتقام. بمعنى أنه يرى
الأشياء لا بعيني العالم بل بعيني الله. وهذا المقياس يتسنى له بموته للخطية وكل ما
يتعلق بها واستتاره مع المسيح في الله. إن حياته مستترة عن أبصار العالم، لأن
العالم لا يعرف حقيقة حياته ولا مصدرها ولا قوتها، التي نالها بالاتحاد بالمسيح.
هذه الحياة السعيدة المقامة مع المسيح تبتدئ هنا وتكمل في السماء.

لكن
إن كانت حياة المسيحي المولود من الله، مستترة عن العالم فحين سيأتي اليوم الذي
فيه سيعود المسيح ثانية بمجده سيكون من امتياز المسيحي، الذي لا يعرفه العالم أن
يأخذ نصيبه من مجد المسيح. وكأني بالرسول يقول: إن يوماً آتياً فيه ستنسخ أحكام
الأبدية ما أصدرته الأرض على المسيحيين من أحكام قاسية. يومئذ ستتم الكلمة
المكتوبة بإشعياء: «كُلُّ آلَةٍ صُوِّرَتْ ضِدَّكِ لاَ تَنْجَحُ، وَكُلُّ لِسَانٍ
يَقُومُ عَلَيْكِ فِي ٱلْقَضَاءِ تَحْكُمِينَ عَلَيْهِ» (إشعياء 54: 17).

وهل
من امتياز أعظم من هذا أن يكون المسيح حياتنا، فليتك تختبر فيكون لك امتياز القول
مع الرسول: «لي الحياة هي المسيح» «مَعَ ٱلْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ
أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (الرسالة إلى غلاطية 2: 20).

في
أحيان كثرة نقول عن إنسان ما: إن الموسيقى حياته أو الرسم حياته أو الشعر حياته
كأن هذا الإنسان يجد في إحدى هذه الهوايات حياته. أما للمسيحي فإن المسيح حياته
إنه يسيطر على فكره ويملأ كل حياته.

هذه
الاختبارات تجعل المسيحي أفكاره وقلبه وكل عواطفه في المسيح، فيطلب ما فوق لأنه
منذ أن عرف المسيح في شركة آلامه صار يحكم على أشياء هذا العالم بنور الصليب،
ويقيّم كل شيء على ضوء المحبة التي أحبه المسيح بها، حتى بذل نفسه لأجله. وفي نور
صليب الفداء يرى أن المحبة وحدها هي التي تستحق أن يجلسها على عرش قلبه. وبذلك
يستطيع أن يتخلّص من جاذبية الأشياء الأرضية ويحلّق في السماء، إلى حيث المسيح
جالس عن يمين الله.

الصلاة:
يا إلهنا الصالح، عظيمة هي محبتك. هذه المحبة رفعت شأن الإنسان إذ أعطته الإيمان.
وبالإيمان أعطته هذا الشرف العظيم أن يدعى ابناً لله. نشكرك لأجل الحياة المستترة
مع المسيح في الله. افتح قلوب الناس حتى يدركوا هذه الحقيقة، فيطلبوا خلاصك،
ويمجدوك بحياة جديدة في البر وقداسة الحق.

 

5
فَأَمِيتُوا أَعْضَاءَكُمُ ٱلَّتِي عَلَى ٱلأَرْضِ: ٱلزِّنَا،
ٱلنَّجَاسَةَ، ٱلْهَوَى، ٱلشَّهْوَةَ ٱلرَّدِيَّةَ،
ٱلطَّمَعَ ٱلَّذِي هُوَ عِبَادَةُ ٱلأَوْثَانِ، 6
ٱلأُمُورَ ٱلَّتِي مِنْ أَجْلِهَا يَأْتِي غَضَبُ ٱللّٰهِ
عَلَى أَبْنَاءِ ٱلْمَعْصِيَةِ، 7 ٱلَّذِينَ بَيْنَهُمْ أَنْتُمْ
أَيْضاً سَلَكْتُمْ قَبْلاً، حِينَ كُنْتُمْ تَعِيشُونَ فِيهَا.

كان
بولس أقدر من بحث وتعمّق في أسرار الإيمان المسيحي. ولكنه في رسائله كان دائماً
يوجّه الأنظار إلى النتائج العملية لكل ما وصل إليه من تفكير عميق. ويبدأ الرسول
الكريم هنا بمطلب صريح واضح، مفاده أن العهد الجديد لا يتردد في أبعاد كل شيء
يتعارض مع وجود الله في حياتنا. قال: أميتوا من نفوسكم وشخصياتكم أي شيء، يمنعكم
عن إتمام إرادة الله. وعبّر عن إماتة الأعضاء بالصليب، إذ قال: «ٱلَّذِينَ
هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا ٱلْجَسَدَ مَعَ ٱلأَهْوَاءِ
وَٱلشَّهَوَاتِ» (الرسالة إلى غلاطية 5: 24) وبإماتة أعمال الجسد بقوله:
«إِنْ كُنْتُمْ بِٱلرُّوحِ تُمِيتُونَ أَعْمَالَ ٱلْجَسَدِ
فَسَتَحْيَوْنَ» (الرسالة إلى رومية 8: 13). وهو يتفق تماماً مع فكر المسيح في
قوله: «فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ ٱلْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَٱقْلَعْهَا
وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ
يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ» (الإنجيل بحسب متّى 5: 29).

ونفهم
من القرائن أن الرسول كنّى بالأعضاء هنا عن الخطايا، وعنى بإماتتها اعتزال الخطية.
ويختلف موتها عن الموت الحقيقي بأنه اختياري وتدريجي. وربط الأعضاء بالأرض، لأن
الأرض موضع استعمال الخطية ولأنها تميل إلى ربط أنفسنا بالأرض.

ويمضي
الرسول في ذكر بعض الرذائل، التي ينهي المؤمنين عن ممارستها. فالزنى والنجاسة وكل
الشهوات الردية يجب أن تتلاشى من حياة المؤمن. ونلاحظ أن الرسول لم يكتف بالنهي عن
الزنى بل نهى عن كل ما يشابهه ويؤدي إليه. وفي رسالته إلى الأفسسيين، قال : «إِنَّ
كُلَّ زَانٍ أَوْ نَجِسٍ أَوْ طَمَّاعٍ، ٱلَّذِي هُوَ عَابِدٌ لِلأَوْثَانِ
لَيْسَ لَهُ مِيرَاثٌ فِي مَلَكُوتِ ٱلْمَسِيحِ وَٱللّٰهِ» (الرسالة
إلى أفسس 5: 5).

في
العالم القديم كانت الصِلات الجنسية قبل الزواج وخارج دائرة الزواج تُمارس بلا
حياء أو خجل. لأن المفكرين آنئذ كانوا يرون في الشهود الجسدية غريزة، يجب إشباعها.
فلما جاءت المسيحية أكرمت الزواج ووضعت حداً للفوضى الخلقية.

ولكن
مما يؤسف له أن كثيرين من مفكري زمننا، ينادون بالإباحة الجنسية وقد ملأوا
المكتبات بالكتب التي تدعو إلى إباحية الجنس تحت شعار سمّوه التحرر. والذي يدعو
إلى الأسف هو أن شباب اليوم أخذ بهذه الأفكار الإباحية. فليت الرب إلهنا يتدخل
بنعمة لدى شبان اليوم ليضع في قلوبهم فكر العفة وضبط النفس!

ثم
يتحدث الرسول عن وجوب الامتناع عن «الهوى وكل الانفعالات الشريرة». ونعتها بالشهوة
الردية، التي كما قال الرسول يعقوب « إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً،
وَٱلْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتاً» (رسالة يعقوب 1: 15). ولا
ينسى الطمع، الذي هو أقبح الخطايا، لأنه رغبة دائمة ومتزايدة في امتلاك ما هو
للغير. وفي تعبير آخر، إن الطمع هو الشهوة الجامحة للتحصيل والامتلاك دون حق. فهو
إذن خطية لها آثار بعيدة المدى. فإن كان رغبة في المال، قاد صاحبه إلى السرقة
والاحتكار والاختلاس. وإن كان رغبة في السلطة دفعه إلى الطغيان والاستبداد. صدق
العالم الشهير مول حين قال الطمع، هو عكس الرغبة في العطاء. أما بولس فقال: «
ٱلطَّمَعَ ٱلَّذِي هُوَ عِبَادَةُ ٱلأَوْثَانِ» (الرسالة إلى
كولوسي 3: 5).

ويختم
الرسول تعليمه في هذا الموضوع بالقول إنه بسبب هذه الأمور ينصّب غضب الله على
أبناء المعصية المرتكبين. هذا على وفق قوله: «فَإِنَّ ٱلَّذِي يَزْرَعُهُ
ٱلإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضاً» (الرسالة إلى غلاطية 6: 7). وهذا هو
عدل الله في العقاب، المعلن على جميع فجور الناس وإثمهم. وما من أحد يستطيع أن
يتهرب من عواقب خطيته. وقد علّمتنا كلمة الله، إن غضب الله والقانون الأدبي،
يسيران جنباً إلى جنب. صحيح أن العقاب المعلن من السماء على الإثم سيكون في يوم
الدين. ولكن ذلك لا يمنع من أن الله يعاقب الأثمة في هذا العالم، والأمثلة كثيرة
على ذلك.

اهرب
من الشهوات الشبابية أيها الفتى، واهرع إلى يسوع، الذي عالج مشكلة الشباب. سلّم له
واتكل عليه يعطك نعمة لكي تحفظ إناءك بقداسة وكرامة. اقبل إليه بقلبك فهو يقول لك:
«يَا ٱبْنِي أَعْطِنِي قَلْبَكَ وَلْتُلاَحِظْ عَيْنَاكَ طُرُقِي» (سفر
الأمثال 23: 26).

الصلاة:
قلباً نقياً اخلق فيّ يا الله. وروحاً مستقيماً جدد في داخلي. أعطني القوة لكي
اضبط نفسي، وأقاوم أفكار هذا العالم الدنسة، التي تقود إلى صنع الشر. قوّني لكي
أحفظ نفسي، بلا دنس في العالم اقبل شكر قلبي يا إلهي ولك أعطي المجد.

 

8
وَأَمَّا ٱلآنَ فَٱطْرَحُوا عَنْكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً
ٱلْكُلَّ: ٱلْغَضَبَ، ٱلسَّخَطَ، ٱلْخُبْثَ،
ٱلتَّجْدِيفَ، ٱلْكَلاَمَ ٱلْقَبِيحَ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ. 9 لاَ
تَكْذِبُوا بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِذْ خَلَعْتُمُ ٱلإِنْسَانَ
ٱلْعَتِيقَ مَعَ أَعْمَالِهِ، 10 وَلَبِسْتُمُ ٱلْجَدِيدَ
ٱلَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ حَسَبَ صُورَةِ خَالِقِهِ، 11 حَيْثُ
لَيْسَ يُونَانِيٌّ وَيَهُودِيٌّ، خِتَانٌ وَغُرْلَةٌ، بَرْبَرِيٌّ سِكِّيثِيٌّ،
عَبْدٌ حُرٌّ، بَلِ ٱلْمَسِيحُ ٱلْكُلُّ وَفِي ٱلْكُلِّ.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ل ليريكون 1

في
هذه الآيات يحدثنا الرسول عن أشياء أخرى، يجب أن نجرّد أنفسنا منها. قال: اطرحوا
عنكم كل الآثام، كما يطرح الإنسان عنه ثوباً بالياً قذراً. وكلمة «الكل» تشمل
الخطايا المذكورة في هذه الآية مع الخطايا المذكورة في الآية الخامسة. فعلى
المسيحي أن يطرح عنه هذه الكبائر، التي لا تليق به.

يركز
الرسول في هذه الآية على مجموعة من الآثام، في مقدمتها السخط والغضب. قيل إن السخط
يمتاز عن الغضب بأنه لا يكون إلا من الكبراء والعظماء على من دونهم. أما الغضب
فيصدر عن الجميع. وقد يصبح رذيلة متأصلة، ترفض التهدئة وتحتضن الحقد وترعاه بمختلف
الوسائل. لهذا حذّر الرسول المؤمنين من الانفعالات الانتقامية التي تصدر عن كل
الرذيلتين، وأوصاهم أن يكونوا لطفاء ومسامحين بناء ما اختبروه من رحمة الله.

لا
تغذ السخط السريع الاحتداد. ولا تحتفظ بالغضب الدفين، لئلا تدفعك الانفعالات إلى
ارتكاب الجريمة. لا تغضب لأن الغضب لا يصنع بر الله. ولا يليق بقديسين، عرفوا
المسيح في وداعته وطول أناته.

ولزام
على المسيحي، أن يطرح عنه التجديف والكذب. والتجديف في هذه العبارة يشمل الوشاية
والافتراء على الإخوة. والكلام القبيح هو الكلام البذيء الفاحش. أما الكذب، فهو من
شر سقطات اللسان. وقد قال الرسول يعقوب إن «ٱللِّسَانُ نَارٌ! عَالَمُ
ٱلإِثْمِ… ٱلَّذِي يُدَنِّسُ ٱلْجِسْمَ كُلَّهُ، وَيُضْرِمُ
دَائِرَةَ ٱلْكَوْنِ، وَيُضْرَمُ مِنْ جَهَنَّمَ» (رسالة يعقوب 3: 6).

يا
أخي تحلّ باللطف والشفقة، ولا تجعل مكاناً لكلام البذاءة والافتراء على لسانك. قبل
أن تتفوه بكلمة اسأل نفسك: هل كلامك حق؟ هل له لزوم؟ هل هو لطيف رقيق؟ اذكر إن ناموس
روح الحياة في المسيح يدين الألسنة النمامة الكاذبة، التي تغيّر وجه الحقيقة،
وتسيء إلى سمعة الناس.

تذكر
إن لغة المسيحية، يجب أن تكون نقية طاهرة عفيفة. ولهذا أوصى الرسول: «لاَ تَخْرُجْ
كَلِمَةٌ رَدِيَّةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ صَالِحاً لِلْبُنْيَانِ،
حَسَبَ ٱلْحَاجَةِ، كَيْ يُعْطِيَ نِعْمَةً لِلسَّامِعِينَ» (الرسالة إلى
أفسس 4: 29). والصالح للبنيان هو الكلام الطاهر بالذات، والخارج من القلب الصالح.
لأنه يفيد السامعين بالتعليم والنصح والإنذار والتعزية. وهذا على وفق النبوءة
بالمسيح، بأنه انسكبت النعمة على شفتيه.

عندما
يولد الإنسان ثانية من الله، ينبغي أن يحدث تغيير كامل في حياته. عليه أن يخلع
طبيعته القديمة، التي أطلق عليها الرسول اسم «ٱلإِنْسَانَ ٱلْعَتِيقَ
ٱلْفَاسِدَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ ٱلْغُرُورِ» (الرسالة إلى أفسس 4: 22).
ويلبس طبيعة جديدة. وهي الطبيعة التي أشار إليها المسيح في قوله لنيقوديموس
«يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ» (الإنجيل بحسب يوحنّا 3: 7) وقد سمّاها
الرسول بالإنسان الجديد، الذي يتجدد للمعرفة. بفعل الروح القدس، يوماً فيوماً حسب
صورة خالقه. بمعنى أن الإنسان الذي خلقه الله على صورته في البدء، بكلمة قدرته
يعيد له تلك الصورة ثانية بفعل روحه القدوس.

ما
أكثر الذين يتهربون من هذا الحق المعلن في العهد الجديد بوضوح، وهو أن المسيحية
التي لا تجدد الإنسان هي مسيحية ناقصة، تكتفي بشكليات التدين وممارسة الرسوم
الخارجية.

وقد
عُرف بالاختبار أن التغير في حياة المولود ثانية من الله، يتزايد ويتجدد بصفة
دائمة، وينمو على الدوام في النعمة والمعرفة، حتى يصل إلى الإنسان الكامل المخلوق
على صورة الله. والمسيحية لا تكون مسيحية حقيقية ما لم تخلق الإنسان من جديد، حتى
يبلغ المستوى، الذي قصد الله أن يبلغه.

ومن
أعظم آثار المسيحية الحقة، أنها تلاشي الحواجز، التي تفصل بين الإنسان وأخيه
الإنسان. ففيها لا تكون فوارق بين جنس أو لون، أو أمة أو لسان. أي أن التميزات
المتعلقة بالعنصر والجنس واللون، لا شأن لها في الإنسان الجديد في المسيح، ولا
تليق أن تكون في كنيسة المسيح التي هي ملكوت السموات على الأرض. لأنه لن يكون لها
وجود في السماء، حيث مسكن الله مع الناس.

كان
العالم القديم مليئاً بالحواجز الفارقة بين الناس. فالإغريقي نظر إلى البربري نظرة
احتقار وامتهان. واليهودي كان يحتقر كل أمة أخرى. وبحكم تمتعه بالمواعيد التي أعطيت
لإبراهيم ونسله، كانت الأمم الأخرى في رأيه لا تصلح لشيء إلا أن تكون وقوداً
لجنهم.

ولكن
كل هذه الحواجز قد أُزيلت من أساسها في المسيح يسوع، الذي بتعليمه جذب الناس بعضهم
إلى بعض وقد محت كلمة بربري من قاموس البشرية، وحلّت محلها كلمة «أخ». وقبل
المسيحية ما كان العالم بمستطيع أن يتقدم خطوة واحدة في معارج الرقي الصحيح.

الصلاة:
أيها الآب، رب السماء، نشكرك من كل القلب لأجل النعمة التي تعطيها للمؤمن، لكي
يطلب ما هو حق وعادل وجليل وطاهر. أعطنا هذه النعمة لكي نحيا كما يحق للدعوة، التي
دعيتنا بها في البر وقداسة الحق. ونشكرك بنوع خاص لأنك علّمتنا أن نزيل الفوارق
بين طبقات الناس.

 

12
فَٱلْبَسُوا كَمُخْتَارِي ٱللّٰهِ ٱلْقِدِّيسِينَ
ٱلْمَحْبُوبِينَ أَحْشَاءَ رَأْفَاتٍ، وَلُطْفاً، وَتَوَاضُعاً،
وَوَدَاعَةً، وَطُولَ أَنَاةٍ، 13 مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وَمُسَامِحِينَ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً إِنْ كَانَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ شَكْوَى. كَمَا غَفَرَ لَكُمُ
ٱلْمَسِيحُ هٰكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً. 14 وَعَلَى جَمِيعِ
هٰذِهِ ٱلْبَسُوا ٱلْمَحَبَّةَ ٱلَّتِي هِيَ رِبَاطُ
ٱلْكَمَالِ. 15 وَلْيَمْلِكْ فِي قُلُوبِكُمْ سَلاَمُ ٱللّٰهِ
ٱلَّذِي إِلَيْهِ دُعِيتُمْ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ، وَكُونُوا شَاكِرِينَ.

في
الآية العاشرة من هذا الأصحاح، أشار الرسول إلى ما فعله مؤمنو كولوسي، حين قبلوا
الرب يسوع وتجددوا بروح ذهنهم. وهنا يذكر الفضائل المسيحية الواجب أن يتحلوا بها،
تمشياً مع مطالب الحياة الجديدة بالنظر لكونهم مختاري الله، الذين عينهم ليكونوا
مشابيهن صورة ابنه. لأنهم موقوفون لخدمة الله ولقداسة القلب والسيرة. فهم مغروزون
كما قال بطرس «بِمُقْتَضَى عِلْمِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ
ٱلسَّابِقِ فِي تَقْدِيسِ ٱلرُّوحِ» (رسالة بطرس الأولى 1: 2).

حين
نتأمل كلمات الرسول، نرى أن كل فضيلة من الفضائل التي طلب إلى المؤمنين أن
يلبسوها، لها صلة بالعلاقات الشخصية، بين الإنسان وأخيه. فهو لم يذكر فضائل
الاقتدار والمهارة والنشاط والجهاد، مع أنها فضائل مهمة. ولعله ركز على الفضائل
التي تشد أواصر الود بين الأفراد، وبالتالي تنظم العلاقات في المجمتع، على أساس
المحبة. والواقع أن الديانة المسيحية هي ديانة جامعة، قوامها عطية الله في المسيح
يسوع الذي جاء لكي يوجد السلام بين الإنسان وخالقه، ويحقق التعايش السلمي الحبي
بين الإنسان وأخيه. أما الفضائل التي أهاب الرسول بالمؤمنين أن يرتدوها فهي:

1.
أحشاء رأفات – الفضيلة التي كان العالم القديم في أمس الحاجة إليها فقبل المسيحية،
ما كانت آلام المرضى لتحرك قلوب الناس. ومعاملة المختلين وضعفاء العقول كانت قاسية
خالية من الرحمة ومجردة من المشاعر الإنسانية. ولكن لما جاءت المسيحية قدّمت
للعالم الرأفة العملية المتزايدة. فخدمت العاجز والمريض والضعيف عقلياً والطفل
والمرأة. ولعله بوحي من هذه الحقيقة قال الشاعر العربي أحمد شوقي بك:

ولد
الرفق يوم مولد عيسى والمروءات والهدى والحياء

2.
اللطف – اعتبر المفكرون القدامى اللطف، أنه فضيلة الإنسان الذي يعتبر مصالح جاره
عزيزة كمصالحه هو. وقد أعطى المؤرخ يوسيفوس مثلاً على اللطف في تصرف يعقوب حين حفر
آباراً وأعطاها للآخرين، لأنه لم يرد أن ينازعهم بشأنها. أما اللطف في المسيحية
فهو الصلاح الشفوق الذي عامل به المسيح المرأة الخاطئة، التي في توبتها اقتحمت
مجلسه في بيت سمعان الفريسي. فأشفق على دموعها، وقال لها: «مَغْفُورَةٌ لَكِ
خَطَايَاكِ. اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ» (الإنجيل بحسب لوقا 7: 48 و50).

3.
التواضع – والتواضع فضيلة، أدخلتها المسيحية إلى العالم. وهي في لغة الإنجيل، لا
تعني الحقارة والمذلة. إنه تنازل العزيز النفس عن حقه في الرفعة لأجل الخير
والجمال، كما فعل يسوع، الذي مع أنه رب المجد، إلا أنه حباً بالإنسان ولأجل فدائه،
أخلى نفسه وتجسّد وقبل الموت موت الصليب.

لا
تشمخ بنفسك ولا تستكبر، لأن الله يقاوم كل مستكبر أما المتواضع فيعطيه نعمة.
والمسيح قال: «اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي
وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ ٱلْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ»
(الإنجيل بحسب متّى 11: 29).

4.
الوداعة – في القديم عرف أريسطو الفيلسوف فضيلة الوداعة بأنها الحلقة السعيدة التي
تتوسط بين الغضب الشديد والتساهل الزائد. والإنسان الوديع هو من يضبط نفسه أمام
الإثارة، ويملك روحه أمام النكرزات. وقديماً قال سليمان الحكيم: « اَلْبَطِيءُ
ٱلْغَضَبِ خَيْرٌ مِنَ ٱلْجَبَّارِ، وَمَالِكُ رُوحِهِ خَيْرٌ مِمَّنْ
يَأْخُذُ مَدِينَةً» (أمثال 16: 32).

5.
طول الأناة – وهي الفضيلة التي لا تفقد الصبر مع الناس. وهي تحمل الإنسان على ضبط
نفسه عن الغضب، وعلى ا لتمهل في عقاب المذنبين، معاملتهم بالصبر الجميل. ومما لا
ريب فيه أنطول الأناة فينا، ما هو إلا انعكاس لطول أناة الله علينا. بدليل قول
بطرس : «يَتَأَنَّى عَلَيْنَا، وَهُوَ لاَ يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ، بَلْ
أَنْ يُقْبِلَ ٱلْجَمِيعُ إِلَى ٱلتَّوْبَةِ» (رسالة بطرس الثانية 3:
9).

تأني
يا أخي ولا تترك إساءات الغير تدفعك إلى الحنق والمرارة، فالانتقام الذي قد تكون
عواقبه غير محمود العقبى لا يليق بك.

6.
الاحتمال – في الرسالة إلى أفسس، أوصى المؤمنين أن يحتملوا بعضهم بعضاً في المحبة.
وقد وصفت المحبة أنها تحتمل كل شيء. والمفروض في المسيحي أنه يتحلى بالروح
المحتمل، الذي يصفح عن الإساءة إلى سبعين مرة سبع مرات، هكذا قال المسيح لبطرس.
لكأن الفادي يجعل المسامحة ديناً في عنق كل مسيحي. إنه يذكّره بالغفران الذي ناله،
والذي يرتب عليه المسامحة باستمرار. وقد أدرجه له المجد في نموذج الصلاة الذي أمر
مختاريه أن يرددوه: «ٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ
أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا» (الإنجيل بحسب متّى 6: 12).

هل تبحث عن  الكتاب المقدس أخبار سارة عربية مشتركة عهد قديم سفر أخبار الأيام الثانى 01

7.
المحبة – البسوا المحبة، قال الرسول، فبلغ القمة في التعليم عن الكمال، لأن المحبة
هي رباط الكمال. ولعل الرسول حين كتب هذه العبارة كان يذكر قول المسيح: «وَصِيَّةً
جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً… بِهٰذَا
يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ
بَعْضاً لِبَعْضٍ» (الإنجيل بحسب يوحنّا 13: 34-35). وربما أراد الرسول هنا أن
ينقض تعليم الغنوسيين، الذين قالوا بأن الكمال في المعرفة فأراد أن يرسخ في أذهان
المؤمنين أن المال في المحبة. وحين قارن بين المعرفة والمحبة، قال:
«ٱلْعِلْمُ يَنْفُخُ، وَلٰكِنَّ ٱلْمَحَبَّةَ تَبْنِي» (رسالة
كورنثوس الأولى 8: 1).

حين
تكون هذه الفضائل فينا وتكثر، تصيّرنا مثمرين لمعرفة ربنا يسوع المسيح. وعندئذ
يملك في قلوبنا سلام الله، ونتحد في جسد واحد، الذي هو كنيسة الله الحي، التي
رأسها المسيح. وعندئذ تمتليء قلوبنا بالشكر لذاك «ٱلَّذِي أَحَبَّنَا،
وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ» (رؤيا يوحنا 1: 5).

الصلاة:
أيها الرب سيدنا ما أعظم اسمك! ما أطيب قلبك! ما أسمى حبك! رحمتنا في المسيح، الذي
وضع نفسه لأجلنا. أعطنا أن نتجاوب معك في محبتك الفائقة، بأن نتواضع عند قدميك،
ونسكن قلوبنا قدامك. اغفر لنا كبريائنا، واسحقنا بالتواضع، واعطنا روح الوداعة
وطول الأناة حتى نحتمل بعضنا بعضاً بالمحبة.

 

16
لِتَسْكُنْ فِيكُمْ كَلِمَةُ ٱلْمَسِيحِ بِغِنىً، وَأَنْتُمْ بِكُلِّ
حِكْمَةٍ مُعَلِّمُونَ وَمُنْذِرُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، بِمَزَامِيرَ
وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، بِنِعْمَةٍ، مُتَرَنِّمِينَ فِي
قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ. 17 وَكُلُّ مَا عَمِلْتُمْ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ،
فَٱعْمَلُوا ٱلْكُلَّ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ،
شَاكِرِينَ ٱللّٰهَ وَٱلآبَ بِهِ.

يحرّض
الرسول المؤمنين ليس فقط على تلاوة كلمة المسيح، بل أيضاً على استيعاب الكثير منها
في القلب. وهي كلمة الإنجيل التي نادى بها المسيح وأمر رسله الأطهار بنشرها في
العالم. وهذه الكلمة سمّاها يعقوب: «ٱلْكَلِمَةَ ٱلْمَغْرُوسَةَ
ٱلْقَادِرَةَ أَنْ تُخَلِّصَ نُفُوسَكُمْ» (رسالة يعقوب 1: 21). إشارة إلى
أنها ثابتة حيّة، عاملة في قلب الناس كقوة في يد الله لخلاص النفس من الهلاك. فهذه
الخواص مناسبة لقول بولس في إنجيل المسيح: «إِنَّهُ قُوَّةُ ٱللّٰهِ
لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ» (الرسالة إلى رومية 1: 16) ونسب إلى الإنجيل
مثل هذه القوة، في مخاطبة أساقفة أفسس، إذ قال: «ٱلآنَ أَسْتَوْدِعُكُمْ يَا
إِخْوَتِي لِلّٰهِ وَلِكَلِمَةِ نِعْمَتِهِ، ٱلْقَادِرَةِ أَنْ
تَبْنِيَكُمْ وَتُعْطِيَكُمْ مِيرَاثاً مَعَ جَمِيعِ ٱلْمُقَدَّسِينَ»
(أعمال الرسل 20: 32).

من
المعروف بالاختبار أنه ليس في قلب الإنسان شيء من المبادئ الطبيعية، التي تنشئ من
تلقاء نفسها القداسة، وبالتالي تؤدي إلى الخلاص. فكل ما يؤثر في القلب للخلاص،
إنما يأتي من خارجه بروح إلهنا العامل بكلمة الإنجيل. الكلمة التي وُصفت بأنها
«حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ
إِلَى مَفْرَقِ ٱلنَّفْسِ وَٱلرُّوحِ وَٱلْمَفَاصِلِ
وَٱلْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ ٱلْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ»
(الرسالة إلى العبرانيين 4: 12).

فالرسول
أوصى المؤمنين بأن تسكن في قلوبهم بوفرة. وسكنى كلمة المسيح بوفرة في المؤمن.
تؤهله ليعرف حقائقها أحسن معرفة، وتجعله «يَلْهَجُ فيها نَهَاراً وَلَيْلاً»
(مزامير 1: 2). فيدرك معانهيا والوعود المقطوعة له فيها. لا سيما الوعود التي له
بالمسيح يسوع، الذي هو موضوع الإنجيل، والذي أعلن لنا أن الله محبة. وقد جسّد تلك
المحبة بالفداء العظيم، الذي أكمله في ملء الزمان. فمعرفة الإنجيل هي معرفة المسيح
في فدائه، وفي هذه المعرفة يصبح المؤمن غنياً بالتعزية.

وفي
اكتناز كلمة الرب في القلب، قوّة فعالة ضد الخطية. هذا ما عرفه داود المرنم الحلو
وخبره في حياته، فكتب لنا بمداد الاختبار كلمته الخالدة: «خَبَّأْتُ كَلاَمَكَ فِي
قَلْبِي لِكَيْلاَ أُخْطِئَ إِلَيْكَ» (مزامير 119: 11). أي أنه رأى في الكلمة
الإلهية قوة تجنبه الشر وتحمله على فعل الخير.

وإنه
لمن المبهج أن نرى هنا أن الكنيسة المسيحية من بدء عهدها كانت منكبة على كلمة
الله. وإن الرسل الأطهار أوصوا الأساقفة بالاهتمام بها بدليل قول بولس لتميوثاوس:
«ٱكْرِزْ بِٱلْكَلِمَةِ. ٱعْكُفْ عَلَى ذٰلِكَ فِي وَقْتٍ
مُنَاسِبٍ وَغَيْرِ مُنَاسِبٍ» (رسالة تيموثاوس الثانية 4: 2).

ونفهم
من مرمى كلام الرسول، إن الذين تسكن فيهم كلمة المسيح بغنى، يجب أن يظهروا حكمتهم
بتعليم غيرهم وإنذاره على الطريق المذكورة. وغاية التعليم والإنذار تقوية إيمان
المؤمنين وإرشاد الخطاة إلى التوبة، وغرس الحقائق الإلهية في قلوب الجميع. لتكون
لهم تعزية في الضيقات وتمكنهم من الانتصار على التجربة.

ويبدو
أن الرسول يشير بهذه الآية إلى ما اعتاده المؤمنون القدماء في اجتماعاتهم الدينية
من الترنم معاً، أو على التناوب بمزامير التسبيح وترانيم الحمد الصادرة إعلاناً
لمحبتهم لله وابتهاجهم بعبادته وخدمته.

ويقيناً
أنه ليس من سبيل أفضل لبنيان المؤمنين على أساس كلمة الله إلا تلاوة المزامير
والتسابيح والترنم بها، لأنه عندئذ ترسخ في النفس، وتأتي بأثمار في الحياة. ونلاحظ
أن الرسول قد وصف الترنم المقبول بثلاث صفات:

الأولى
إنه صادر من نعمة الروح القدس. الثاني أن يكون من القلب المملوء شكراً ومحبة، لا
من مجرد الشفتين، على وفق قوله للأفسسيين «مُرَتِّلِينَ فِي قُلُوبِكُمْ» (أفسس 5:
19) الثالثة أن يكون الله موضوع الترنم، لا مدح الناس ولا لافتخار المرنمين.

ومن
الأوصاف التي ذكرت في التاريخ للعبادة المسيحية، ما جاء في التقرير الذي أرسله
بليني الوالي الروماني إلى الأمبراطور تراجان عن حياة المسيحيين ونشاطتهم، إذ قال:
إن المسيحيين ينهضون من نومهم عند بزوغ الفجر، ويرتلون تمجيداً للمسيح باعتباره
الله المتجسد. فهذا التقرير يخبرنا أن شكر الكنيسة لله وعرفانها بأفضاله عليها، قد
ظهر دائماً في صورة التسبيح المسيحي.

وأخيراً
يعطينا بولس في هذه الفقرة، المبدأ العظيم للحياة المسيحية، وهو أن كل كلمة نقول
بها، وكل عمل نعمله يجب أن يكون باسم المسيح. ومن أفضل الاختبارات التي نختبر بها
أعمالنا هو أن نسأل أنفسنا، هل نستطيع أن نؤدي هذا العمل، ونحن ندعو باسم المسيح؟
وهل نستطيع القيام به ونحن نطلب عون المسيح وتأييده؟ ومن جهة الكلام هل كلامنا
متفق مع فكر المسيح؟ هل يعطي نعمة للسامع؟

جرّب
أن تطبق هذه القاعدة في حياتك، في أقوال فمك وعمل يديك فإذا استطعت أن تختبر أن كل
عمل أو قول هو باختبار حضور المسيح الدائم، يمكنك أن تقول بأنك سائر في طريق الرب.

الصلاة:
اختبرني يا الله واعرف قلبي، امتحني واعرف أفكاري. وانظر إن كان فيّ طريق باطل،
واهدني طريقاً أبدياً.

 

18
أَيَّتُهَا ٱلنِّسَاءُ، ٱخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا يَلِيقُ فِي
ٱلرَّبِّ. 19 أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ، وَلاَ
تَكُونُوا قُسَاةً عَلَيْهِنَّ.

هنا
يتطرق الرسول إلى السلوك المسيحي في المجتمع، ابتداء من العائلة. فيبسط أمامنا
جوانب الحياة اليومية التي يجب ان نحياها كمسيحيين عرفوا الحق، وعاشوا كما يحق
لإنجيل المسيح.

إن
الآداب المسيحية، هي آداب الالتزام المتبادل. لأن الحق لا يجيز إطلاقاً أن توضع
الواجبات على طرف واحد، ويُعفى الطرف الآخر منها. والأمر كما يبسطه الرسول يحتّم
بأن يلتزم الأزواج بواجباتهم، كما تلتزم الزوجات بواجباتهن. وأن يقوم الآباء
بالتزاماتهم. وأن يحمل السادة مسؤولياتهم، كما يحتمل العبيد مسوؤلياتهم. وهذا
التعليم كان شيئاً جديداً على مسامع الناس. لأنه في الشريعة اليهودية لم يكن
للمرأة أي اعتبار. كانت تُعد كسلعة يقتنيها الرجل ليتمتع بها. ولم يكن لها أن
تتمتع بأدنى الحقوق القانونية. وكان القانون اليهودي يعطي الرجل الحق في أن يطلّق
امرأته، بينما لم يكن للمرأة أي حق في طلب الطلاق. أما في المجتمع اليوناني فكانت
المرأة الشريفة تعيش في عزلة كاملة. حتى أنه لم يكن ليسوع لها أن تظهر بمفردها ولو
في الشوارع، أو الأسواق لشرءا حاجاتها. وكان يطلب منها الخضوع الكامل والعفة
الكاملة. أما زوجها فكان مطلق الحرية في إقامة علاقات خارج دائرة الزواج، كما يشاء
دون أن يصيبه ما يسيء إلى سمعته. وباختصار فإن القوانين اليهودية واليونانية، تعطي
كل الامتيازات للزوج، وتفرض كل الواجبات على الزوجة. ولكن لما جاءت المسيحية جعلت
الالتزامات متبادلة بين الزوجين.

في
المسيحية طلب إلى الزوجة أن تكون خاضعة لزوجها، خضوعاً ليس من نوع خضوع العبيد
للسادة. لأن الكتاب المقدس يقول: «ٱلرَّجُلَ لَيْسَ مِنْ دُونِ
ٱلْمَرْأَةِ، وَلاَ ٱلْمَرْأَةُ مِنْ دُونِ ٱلرَّجُلِ فِي
ٱلرَّبِّ» (رسالة كورنثوس الأولى 11: 11). هذا الخضوع تطوعي اختياري، تمليه
أنوثة المرأة التي هي تاج جمالها. أما واجب الزوج فقد ذكره بولس في رسالته إلى أفسس،
وهو المحبة المضحية التي «أَحَبَّ ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً ٱلْكَنِيسَةَ
وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا، لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّراً إِيَّاهَا
بِغَسْلِ ٱلْمَاءِ بِٱلْكَلِمَةِ» (رسالة أفسس 5: 25 و26).

أيها
الرجال لا تكونوا قساة على نسائكم، لا بالقول ولا بالفعل كونوا ساكنين، بحسب الفطنة
مع نسائكم. ولا تنفصلوا عنهن. راعوا مقتضيات الأحوال بينكم وبينهن اعطوهن إكراماً،
لأنهن وارثات معكم نعمة الحياة. لأن لهن نفساً خالدة كما للرجال. والله لا يميز
بين الرجال والنساء. فباب الإيمان مفتوح لكل من الرجل والمرأة، لكي يدخلوا
ويخلصوا.

أيها
الرجال عاملوا نساءكم بلطف متفهم، لئلا تعاق صلواتكم لأن الخصومات في البيت منافية
لروح الصلاة. وقد عُرف بالاختبار، أنه إذا وُجد خصام في البيت تنتفي الصلاة منه.
أو على الأقل لا يبقى فيها وجه يرضي الله. الخصام بين الزوجين يمنع البركة الموعود
بها في قول المسيح: «إِنِ ٱتَّفَقَ ٱثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى
ٱلأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ
قِبَلِ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (الإنجيل بحسب متّى 18: 19).

إن
المساواة بين الرجل والمرأة سنّها الله منذ القديم القديم. حين قال الله في
الفردوس: «لَيْسَ جَيِّداً أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِيناً
نَظِيرَهُ» (تكوين 2: 18). وكلمة نظيره لا تعني أن المرأة في منزلة أدنى من
الاعتبار لدى الله.

هل تبحث عن  كتب أبوكريفا عهد قديم أخنوخ الثانى 45

وحين
نقرأ هذه العبارة: «فَخَلَقَ ٱللّٰهُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى
صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ ٱللّٰهِ خَلَقَهُ. ذَكَراً وَأُنْثَى
خَلَقَهُمْ. وَبَارَكَهُمُ» (تكوين 1: 27 و28). نرى أن الرجل والمرأة، هما في
الأصل واحد. كل منهما كان في حاجة إلى الآخر لكي يكمله. ولهذا قال الله في البدء:
«لِذٰلِكَ يَتْرُكُ ٱلرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِٱمْرَأَتِهِ
وَيَكُونَانِ جَسَداً وَاحِداً» (تكوين 2: 24).

الصلاة:
يا ربنا المبارك، لك شكرنا من كل القلب من أجل كلمة الحياة، التي أوحيتها لرسلك
الأطهار، لتكون دستوراً لحياتنا، حتى تكون حياتنا بحسب مشيئتك. نعترف بأننا في
أحيان كثيرة نهتم بحقوقنا أكثر من الواجبات الملقاة علينا. سامحنا واغفر لنا.
واعطنا قلب حكمة حتى نعيد النظر في مسؤولياتنا ونتصرف بلياقة في البيت وفي
المجتمع.

 

20
أَيُّهَا ٱلأَوْلاَدُ، أَطِيعُوا وَالِدِيكُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ لأَنَّ
هٰذَا مَرْضِيٌّ فِي ٱلرَّبِّ. 21 أَيُّهَا ٱلآبَاءُ، لاَ
تُغِيظُوا أَوْلاَدَكُمْ لِئَلاَّ يَفْشَلُوا.

كان
للآباء في العالم القديم، مطلق السيادة على الأبناء. وتخبرنا السجلات القديمة، أن
القانون الروماني، كان يجيز للآباء أن يصنعوا بأولادهم ما يشاءون. كان النص
القانوني يسمح للأب أن يبيع ابنه عبداً، أن يجبره ليعمل في مزرعته، أو يحكم عليه
بالموت، وينفذ الحكم فيه بالطريقة التي يستحسنها.

ولكن
لما جاءت المسيحية بفضائلها وسماحتها، وضعت لمسة الرفق والحنان على العلاقة بين
الآباء والأبناء. فقالت: إن الأولاد مدعوون لأن يطيعوا والديهم، إكراماً للمسيح.
لأن إكرام الوالدين مستحسن عند الله الذي قال: «أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ» (خروج
20: 12).

«أَطِيعُوا
وَالِدِيكُمْ فِي ٱلرَّبِّ» (الرسالة إلى أفسس 6: 1) قال الرسول، فأوضح بذلك
أن الطاعة للوالدين يجب أن لا تتعارض مع شريعة الرب. فالولد غير مكلف بأن يكذب أو
يجدّف أو يزوّر أو يقتل أو يرتكب أي معصية لشريعة الله إرضاء لوالديه. لكن واجبه
كمؤمن بالله قبل الشروع بالطاعة أو برفضها، أن يتحقق ويتأكد من موافقة العمل الذي
طُلب إليه القيام به لمشيئة الله. ولعله من الخير له أن يصلي لله ويطلب الإرشاد في
كل شيء.

طاعة
الوالدين في الرب حق، توجبها شريعة الله، ويستسيغها ضمير كل إنسان. ولكن هذا الحق
ليس مبنياً على حكمة الوالدين، ولا على إحسانهم إلى أولادهم، ولا عنايتهم الأبوية
بهم في حداثتهم، ولا على حسن أخلاقهم وسيرتهم، ولا على أنه جدير بالولد أن يطيع
والديه. بل على أساس وصية الله بإكرام الوالدين. وهناك حقيقة يجب أن نذكرها هنا
وهي أن وصايا الوالدين المؤمنين يجب أن تكون مبنية على الحكمة التي اقتبساها من
كلام الله، مما يجعلها نافعة للنجاح.

وقد
عُرف بالاختبار العملي أن الولد، الذي اعتاد الطاعة في البيت، يتقبل نصائح أساتذته
في المدرسة، ورؤساءه في العمل. الأمر الذي يساعده على اكتساب ثقة الجميع. أما
الولد الذي لم يتدرب في الطاعة البيتية فيعسر عليه أن يقوم بالطاعة لله ولأولي
الأمر، وتبعاً لذلك تتعثر حياته ويصادف صعوبات ويتعرّض للفشل في مشاريعه.

ونلاحظ
أن الرسول في تعليمه عن الطاعة، أشار إلى أن إكرام الوالدين له مجازاة، إذ يقول إن
الطاعة للوالدين، «هي أول وصية بوعد». أي أن الله وعد الابن البار بوالديه بالبركة
المتضمنة بقوله: «أَصْنَعُ إِحْسَاناً إِلَى أُلُوفٍ مِنْ مُحِبِّيَّ وَحَافِظِي
وَصَايَايَ» (تثنية 5: 10). فالله حافظ عهده لمطيعيه. وهذا الوعد أيضاً له جزاء
هنا، بدليل قول الله: «أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِتَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى
ٱلأَرْضِ» (خروج 20: 12).

ويتجه
الرسول الكريم إلى الآباء فيقول: أيها الآباء لا تغيظوا أولادكم، بأن تقسوا عليهم
أو أن تظلموهم، أو أن تظهروا المحاباة بينهم، أو أن تذهبوا في فرض الطاعة إلى
الطلب إليهم القيام بأعمال ليست من الحق في شيء. وقد دل الاختبار على أن لا شيء
يهيّج الغيظ في قلوب الأولاد مثل اعتماد القسوة في معامتلهم. وقد ندر أن استفاد
ولد شيئاً من قصاص أوقعه به والده وهو مغتاظ.

ربوهم
في تأديب الرب وإنذاره، قال الرسول لأهل أفسس. وهذا معناه أن يأخذ الوالدون في
تهذيب أولادهم، في سن مبكرة، بالكلام البنّاء والسيرة والنصح والتوبيخ، ليك يفعلوا
المستقيم وما يرضي الله. ومعنى كلمة «تأديب الرب وإنذاره» هو أن يربي الأولاد
بمغتضى مبادئ الإنجيل ولعل أهم ما يقدمه الوالدون في تربية أولادهم هي القدوة. أن
تكون حياتهم إنجيلاً خامساً.

قال
أحد المربين الأتقياء إن تأديب الأولاد وتشجيعهم، يجب أن يسيرا جنباً إلى جنب.
وقال المصلح مارتن لوثر: إذا منعت العصا عن ابنك أفسدته، ولكن بجوار العصا احتفظ
بتفاحة تعطيها له إذا أرضتك تصرفاته.

يا
أخي الأب اذكر هذا: إن الحكمة تهيب بك أن تتجنب القساوة على ابنك لئلا يفشل في
حياته. إن الأب الحكيم هو من يقدم لابنه التهذيب في إطار المحبة، وإلى جانب
التأديب يقدم له التشجيع.

الصلاة:
أيها الإله المتعالي، ساكن الأبد القدوس اسمك، نشكرك لأجل شريعتك التي وضعت لأجل
إنذارنا وتهذيبنا، ولأجل إعدادنا إلى ما هو حق وأفضل. درّبنا في أحكامك وامنحنا
الحكمة في تعاملنا بعضنا مع بعض.

 

22
أَيُّهَا ٱلْعَبِيدُ، أَطِيعُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ سَادَتَكُمْ حَسَبَ
ٱلْجَسَدِ، لاَ بِخِدْمَةِ ٱلْعَيْنِ كَمَنْ يُرْضِي ٱلنَّاسَ،
بَلْ بِبَسَاطَةِ ٱلْقَلْبِ، خَائِفِينَ ٱلرَّبَّ. 23 وَكُلُّ مَا
فَعَلْتُمْ فَٱعْمَلُوا مِنَ ٱلْقَلْبِ، كَمَا لِلرَّبِّ لَيْسَ
لِلنَّاسِ، 24 عَالِمِينَ أَنَّكُمْ مِنَ ٱلرَّبِّ سَتَأْخُذُونَ جَزَاءَ
ٱلْمِيرَاثِ، لأَنَّكُمْ تَخْدِمُونَ ٱلرَّبَّ ٱلْمَسِيحَ. 25
وَأَمَّا ٱلظَّالِمُ فَسَينَالُ مَا ظَلَمَ بِهِ، ولَيْسَ مُحَابَاةٌ.

من
أصعب المشاكل الاجتماعية في زمن بولس، كانت العلاقة بين العبد والسيد. لهذا تكلم
الرسول فيها أكثر مما تكلم عن المشكلتين اللتين سبقتاها. ولعل هذا الكلام المستفيض
يعود إلى ما سمعه الرسول الكريم من أنسيمس العبد الآبق، الذي أعاده إلى سيده.

لقد أصرّ
الرسول على أن يكون العبد عاملاً في خدمة سيده بضمير حي. ويتبين لنا في واقع الأمر
أنه أراد القول بأن مسيحية العبد، يجب أن تعمل منه خادماً أفضل خلقاً وأكثر أمانة
وكفاية. فالمسيحية كما عرفها بولس وعلّمها لا تقدم لنا أعذار للهروب من المسؤوليات
والأعمال الصعبة، العكس هو الصحيح، لأن المسيحية في ما علمته عن المحبة التي
«تَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ،
وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» (رسالة كورنثوس الأولى 13: 7) تمدناً بطاقة على
احتمال المضايقات والقيام بالأعمال التي يستصعبها غيرنا.

قال
الرسول لا ينبغي للعبد أن يكتفي بخدمة العين، كالمرائين الذين يظهرون الغيرة فيما
هم مراقبون، وذلك حوفاً من العقاب، أو طمعاً في الثواب. بل أن يتصرف كما لو كان
يخدم المسيح بالذات معتبراً أن المسيح يراقب أعماله ويجازيه عليها.

ستأخذون
جزءا الميراث قال الرسول، مؤكداً أن الجزاء من الرب هو ميراث القديسين في النور،
الذي لا يفنى ولا يضمحل. وهذا الجزاء يكفي للتعويض عن كل أتعاب العبودية وآلامها.

وأنت
ياأخي أيا كان نوع العمل الذي تزاوله، في المكتب أم في المصنع أم في المدرسة أم في
المتجر، يجب أن تؤدي عملك بنية صالحة، كما للرب، ليس للناس. واذكر أن الواقع في
العمل يعتبرك خادماً. وعليك أن تقوم بالخدمة بكل أمانة، بعيداً عن الحقد على
مرؤوسيك، وبدون تذمر على الله، الذي جعلك تحت أمرة الغير. اخدم بإخلاص كما لو كنت
تخدم الله بالذات.

قد
تتعرض في أثناء ممارسة خدمتك للظلم ولسوء الفهم. ولكن هذا يجب أن لا يوجد في نفسك
حقداً على أحد، أو يضعف أمانتك. أما الظالم فسينال ما ظلم به من الله الذي قال:
«لِيَ ٱلٱنْتِقَامُ، أَنَا أُجَازِي» (الرسالة إلى العبرانيين 10:
30). وهذا على وفاق القانون العام القائل: «ٱلَّذِي يَزْرَعُهُ ٱلإِنْسَانُ
إِيَّاهُ يَحْصُدُ» (الرسالة إلى غلاطية 6: 7). واذكر إن يوم الجزاء آت عند مجيء
الرب يسوع للدينونة. والسيد الرب ليس عنده محاباة. وقد قال الرسول في مكان آخر:
«لاَ بُدَّ أَنَّنَا جَمِيعاً نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ ٱلْمَسِيحِ،
لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِٱلْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ،
خَيْراً كَانَ أَمْ شَرّاً» (رسالة كورنثوس الثانية 5: 10).

فالعبد
والسيد، المرؤوس والرئيس، سيقفون أمام العرش الأبيض، حيث لا سبيل إلى الرياء أو
الإخفاء، أو الخداع. هناك ستظهر سرائر الناس، كأنها مكتوبة في طروس منشورة، أو
منقوشة على صخر. حينئذ سينال كل واحد ما كان على سبيل الجزاء من ثواب وعقاب بدون
محاباة. أي يعاقب الظالمون مع مظالمهم فيأخذون الأجرة التي يستحقونها. ويثاب
الأمناء على أعمالهم، ولكن لا على سبيل الأجرة، بل على سبيل النعمة.

وتمشياً
مع نعمته المتفاضلة جداً، يغفر الله خطايا المؤمنين، الذين تبرروا بدم المسيح،
وتقدسوا بروح إلهنا. على وفق قوله: «لاَ شَيْءَ مِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ
ٱلآنَ عَلَى ٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ،
ٱلسَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ ٱلرُّوحِ»
(الرسالة إلى رومية 8: 1).

لا بد
أن كلام الرسول في هذا الموضوع، قد وقع في مسامع العبيد موقع الدهشة. فبموجب
القانون الروماني، لم يكن للعبد من حق بأن يقتني شيئاً ما مهما كان ضئيلاً. أما
هنا فيقول الرسول بأن له ميراثاً في السماء مع جميع القديسين.

الصلاة:
يا إلهنا الصالح تشكرك قلوبنا لأن شريعتك ليس فيها محاباة. ولأنه في المسيح يسوع
لا يوجد سيد وعبد، بل أن سيدنا واحد، وهو المسيح. وإن كنت قد سمحت للكثيرين منا أن
يكونوا في مراكز وضيعة، نسألك أن تعطينا القوة لكي نمارس أعمالنا بكل نيّة حسنة
كما للرب.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي