الإصحَاحُ
الثَّالِثُ

 

العدد
التالي مباشر (وهو العدد الأول من الصحاح الثالث) يبين لنا حاجتنا إلى أكمل نعمة.
فبقدر ما نشتاق أن يكون للضمير تأثيره الحر المخلص بقدر ما نحتاج إلى الراحة التي
تهبها النعمة الكاملة. من أجل هذا نرى الرسول يقدم لنا هذه النعمة الغنية في
اقتضاب ملحوظ وغايته من ذلك إبراز علاقتنا الجديدة في محبة الآب، ليس فقط باعتبار
هذه العلاقة أساساً لسلوكنا بل لأنها لازمة أيضاً لاستمتاعنا محبة الآب التي تسمو
على كل ما يتصوره الفكر البشري والتي تصل بنا إلى أسمى النتائج وأمجدها. ولئن كان
هذا العدد يتضمن بحسب الظاهر حديثاً انتقالياً خاطفاً، على غرار ما نجده أحياناً
في كتابات رسولنا، إلا أنه بحكمة إلهية لأن النعمة التي يطالعنا بها هي عين ما
يعوزنا يومياً "انظروا أية محبة أعطانا الآب". فليس مقياس هذه المحبة هو
العجيب فيها فقط بل ونوعها أيضاً. لقد بانت وتجلت في هذا، أن الآب أعطانا هذه
المحبة اللانهائية "حتى ندعو أولاد الله" ولاحظ دقة التعبير في قوله
"أولاد" وليس "أبناء" إن يوحنا يستخدم عادة كلمة
"ابن" بالنسبة للمسيح فقط – ليس لأنه غيور على مجد المسيح فحسب بل أن
حرصه الشديد على الحق المعلن قاده لأن يقول أننا أولاد الله دون أن يتعرض لبنوتنا.
وعلى أية حال فإن كوني ولداً في العائلة أوثق بكثير من كوني ابناً متبنى. نحن
أبناء بالتبني ولكننا أولاد تربطنا بالآب أوثق رابطة عائلية ولو أن أساس كلتا
العلاقتين هو الابن إذن فهذه الصورة العجيبة من المحبة قد أعطت لنا حتى ندعى أولاد
الله.

 

"من
أجل هذا لا يعرفنا العالم لأنه لا يعرفه" يا له من شرف عظيم أن نقاسم المسيح
جهل العالم له ! إن مقامنا وطبيعتنا ووثاقة قربنا لله أمور لا يعرفها العالم ولا
يفهمها. لكن دعنا من العالم وهلم بنا نسمع ما يقوله لنا الرسول الملهم "أيها
الأحباء الآن نحن أولاد الله" وهو توكيد خطير يجب أن تعرفه النفوس لأن كلمة
"الآن" الواردة فيه هي في الواقع من الأهمية بمكان فليس فقط أننا أولاد
بل "الآن نحن أولاد" وهي عبارة جديرة بانتباهنا بالمقابلة مع العبارة
التي سبقتها مباشرة وهي أنه "من أجل هذا لا يعرفنا العالم لأنه لا
يعرفه" ويا له من تشابه عجيب مع سيدنا توحي به إلينا هذه العبارة المؤثرة! أن
العالم لم يفهم المسيح وهو كذلك لا يفهم المسيحي. والواقع أن الإنسان لا يمكن أن
يدرك المسيح إدراكاً صحيحاً مهما ادعى ذلك. ليس أحد غير الآب يعرفه معرفة كاملة.
ولئن كان العالم قد عرف الشيء الكثير من كلام سيدنا ومن حياته إلا أنه لم يسعه رغم
ذلك إلا أن يبغضه. من أجل هذا السبب ولأسباب أخرى كان مجهولاً من العالم الذي لم
ير فيه شخصاً يستحق أن يكون موضع الاحترام والتكريم والمحبة. كان في نظر العالم لا
شيء، هذا هو عين تقدير العالم للمسيحي الأمين. فكما أن النعمة قد أعطتنا أن نشاركه
في علاقته بالآب كذلك من واجبنا وامتيازنا أن نشاركه في رفضه هنا من العالم وكما
كان قوة مجهولة في العالم، كذلك نحن. أفلا ينبغي علينا أن نعتبر ذلك شرفاً عظيماً
لنا؟

 

إن
العالم كما نعلم يكافح كفاحاً لا هوادة فيه سعياً وراء السلطان والصيت والراحة
واللذة. وليس هناك ما يجمع معظم الناس على تقدير أكثر من المال الوفير أو ما
يشاكله من أمجاد العالم ومفاخره. ولعلي لا أقسو إذا قلت أن هذا هو حال الكثيرين من
المسيحيين. أما المسيح فلم يكن يفعل هكذا – ليس فقط إنه لم يسع مطلقاً وراء هذه
الأباطيل بل كان دائماً يرفضها. كان دائماً العبد المخلص والخادم الحقيقي على
الأرض حتى لقد تسنى له أن يقول "كما أرسلني الآب الحي وأنا حي (أو أحيا)
بالآب فمن يأكلني (طعام الحياة) فهو يحيا بي" (يو 6: 57). ومن هنا نرى أن
محبة الآب ومحبة العالم على طرفي نقيض، أو أن كلاً منهما ضد الأخرى على خط مستقيم.
فحيث لا توجد محبة الآب، هناك تبرز محبة العالم، وحيث تستقر محبة الآب تختفي محبة
العالم. إن العالم تجاهل سيدنا، وكذلك هو يتجاهل الأمناء – وأقول الأمناء لأن هذه
هي الصفة التي يجب أن يكون عليها أولاد الله حقاً وهل لدى العالم من طريقة يعبر
بها عن شعوره أكثر وأقوى من تجاهل سيدنا وشعبه التجاهل التام وعلى طول الطريق. إن
العالم يعتقد في نفسه الكفاية التامة لأن يستغني عنه وعن خاصته. فهو وهم سبب قلق
وانزعاج للعالم، لا أكثر ولا أقل.

 

"أيها
الأحباء" – ويحلو لنا أن نكرر هذه الكلمة، لأن الرسول يستخدمها هنا قصداً كما
سبق واستخدمها قبلاً. إنه يزمع أن يتكلم عن نسبتنا الحالية الرفيعة وعن رجاءنا
العتيد المجيد الذي ليس لغير محبة الآب أن تهبه. "أيها الأحباء، الآن نحن
أولاد الله ولم يظهر بعد ماذا سنكون ولكن نعلم أنه إذا أظهر نكون مثله لأننا سنراه
كما هو (ع 2). وهنا ترد "إذا" مرة أخرى، وهي ليست "متى" بل
كلمة مختلفة لا يمكن بحال من الأحوال التدليل على أنها جاءت بمعنى "متى"
في أي مكان. ولكن كلمة "إذا" وإن بدت غريبة على نوع ما لقلة استعمالها
فإنها في محلها تماماً كما سنرى. فلو أننا استبدلنا بها كلمة "متى"
وجعلنا العدد هكذا "ولكن نعلم أنه متى أظهر نكون مثله" فقد يعطي هذا
التعبير فكرة خاطئة فيما يتعلق بالوقت الذي سنكون فيه مثله ولا شك أن الوضع بهذه
الصورة كان خليقاً أن يحير الكثيرين ويربكهم، لأننا نعلم من (1 كو 15: 51 و 52، 1
تس 4: 16 و 17، 2 تس 2: 1)، إن تغييرنا سيتم في لحظة مجيئه أو حضوره لأجلنا. حينئذ
تتغير أجسادنا لتكون على صورة جسد مجده ونكون مثله. فإذا كنا نصير مثله عند مجيئه
فإننا بكل يقين، ومن باب أولى، نكون هكذا حينما يظهر أو يستعلن. وهذا هو المقال
والمقصود هنا بالضبط. فإن العالم سيرانا مستعلنين معه مثله، لأن الاستعلان في ذات
المجد الواحد سيكون للعالم كله لكي يراه (يو 17: 22 و 23، كو 3: 4) وعندما يتم هذا
الاستعلان نكون نحن معه ومثله. ولكن التغيير لا يتم في ذلك الوقت ولكن قبله. ومن
هنا كانت الدقة في استخدام كلمة "إذاً" بدلاً من كلمة "متى"
وكأن الرسول يقصد أن يقول أنه أظهر المسيح – ومن المحقق أنه سيظهر – فإننا نكون
مثله. ونتعلم من شواهد كتابية أخرى كالتي ذكرناها أننا سنكون مثله قبل أن يضرنا
إلى السماء وقبل أن يدخل بنا إلى بين الآب. لأنه بعد ذلك سيأتي من السماء وفي
ركابه هؤلاء القديسون. وحين يستعلن هكذا، سنكون مثله، ولكن ليس لأول مرة بل نكون
قد سبق وصرنا مثله حينما رأيناه نحن آتياً لأجلنا. وعلى ذلك فإن كلمة
"متى" في هذه الحالة كانت تؤدي إلى تضليل خطير، فنحن سنكون مثله لدخول
السماء كما سنكون مثله للخروج منها.

 

فما
أسماها امتيازات هذه، أيها الإخوة الأحباء! وإزاءها ماذا نقول عن أمانتنا وتكريسنا
الآن؟ على أنه مما لا شك فيه أن قرار قلوبنا وشوقها هو أننا إذ نسمع صوته نتبعه،
وأننا على قدر تفرسنا في المسيح بالإيمان ومشغوليتنا به نتغير في الوقت الحاضر من
مجد إلى مجد كما من الرب الروح. ولكنه لا يقال مطلقاً إننا مثله الآن قد نتشبه به
كمن تألم لأجلنا تاركاً لنا مثالاً لكي نتبع خطواته. والرسول بولس على قدر ما كان
يتمثل بالمسيح يطلب إلينا أن نتمثل به. ولكن لا يقال عنا مطلقاً إننا مثل المسيح
بعد. سنكون مثله عندما نتغير ونخطف ولكن ليس قبل ذلك، وأنه لادعاء جسور أن يزعم
احد أنه مثل المسيح الآن. بعد قليل ستأتي وسنكون حينئذ في حالة مجد سيدنا وغير
مختلفين مطلقاً عن صورته. فالعدد الذي إمامنا إذن هو تعبير كامل وثمين للغاية عن
التغيير العظيم الذي ينتظر المسيحيين حينما يأتي الرب لأجلنا، فإنه إذا أظهر – ومن
المحقق أنه سيظهر – سنكون مثله لأننا سنظهر في ذات المجد. وسيرى العالم كله هذه
الحالة حينئذ. ولكن نتغير حينما نراه لأننا سنراه كما هو. وأليس واضحاً أن رؤيتنا
له سوف لا تكون يوم استعلانه للعالم بل في المرحلة الأولى من حضوره حينما يأتي
ليأخذنا إليه في الأعالي؟ حينئذ أيضاً نكون مثله. أما ظهوره في المجد – ونحن معه –
فستراه كل عين.

 

ومع
ذلك فلهذا الرجاء تأثيره الروحي في الوقت الحاضر، وهو تأثير هام وخطير ومن واجب كل
مسيحي أن يتدبره ويعطيه مكانه اللائق به "وكل من عنده هذا الرجاء به، يطهر
نفسه كما هو طاهر" (ع 3). وهذا ليس رجاء في الإنسان بل في المسيح أو بالحري
به. رجاء متجه إلى المسيح ومؤسس عليه. بهذا الرجاء به يطهر المسيحي نفسه كما هو
طاهر. وهذه النتيجة ذاتها تدل على أننا لسنا مثله الآن. أن المسيح لم يكن بحاجة قط
لأن يطهر نفسه، ولكنه قدس أو أفرز نفسه في السماء ليكون النموذج الأعظم لنا ونحن
على الأرض، حتى نكون نحن أيضاً مقدسين أو مفروزين للآب بالحق أو في الحق (يو 17:
19) ولكن علينا أيضاً أن نطهر أنفسنا على الأرض لأنه بجانب ملكيتنا لحياة المسيح
فإنه فينا أيضاً الطبيعة القديمة التي علينا أن نقاومها ونميتها ونخضعها حتى لا
تظهر بطرقها الشريرة. من أجل هذا كان علينا أن نطهر ذواتنا من كل دنس يجلبه علينا
عدم سهرنا وتقصيرنا في الصلاة، ونطهرها "كما هو طاهر" لأن المسيح هو
مقياسنا. لقد كان دائماً طاهراً طهارة مطلقة. وهذا أيضاً ينطبق انطباقاً كاملاً
على الله لأن الله نور، وهو الطهارة عينها، الأمر الذي لا يشك فيه مسيحي قط، ولكن
المسيح هو المشار إليه هنا وهو طاهر أيضاً نفس هذه الطهارة المطلقة، وهذا ما يجعل
الأمر عجيباً وإن كان مؤكداً، لأن المسيح كان إنساناً حقيقياً ولكنه رغم كونه ولد
من امرأة، فإنه الطهارة في أسمة درجاتها.

 

هذا
يقود بطبيعة الحال إلى الكلام عما هو عكس الطهارة على خط مستقيم إذ يحدثنا الرسول
حديثاً هاماً وخطيراً عن ماهية الخطية وحقيقتها (ع 4). وهنا أقرر أني أكاد لا أعرف
عدداً في العهد الجديد كله قد أسيء فهمه وانحرف به الناس عن معناه الحقيقي مثل هذا
العدد الذي نحن بصدده، ولا شك أن السبب الذي أدى إلى هذا الخطأ وجعل له قبولاً في
مسامع الناس هو محاولة تهويد المسيحية. أو لسنا نرى كثيراً من الطوائف النصرانية
على اختلافها تعتبر ناموس قانوناً للحياة المسيحية؟ إن المسيح هو قانون الحياة
المسيحية الحقيقي، وكلمته هي دستورها في كل تفاصيلها. أليس (يو 1: 17) يفارق بين
الناموس وبين "النعمة والحق اللذين بيسوع المسيح صارا"؟ أما الناموس،
على عكس ذلك، فهو خدمة موت ودينونة (2 كو 3: 7 – 9). هو ناموس الموت للخاطئ، وقد
دل على أنه كذلك للإسرائيلي. ليس فقط الناموس الطقسي بل بالذات الكلمات العشر
المنقوشة في ألواح حجرية كما يقول الرسول بولس.

 

"كل
من يفعل الخطية يفعل التعدي أيضاً. والخطية هي التعدي". هذا لا يعني مطلقاً
أن الخطية هي تعدي الناموس. ومع ذلك فإن كثيراً من الكتب المسماة "تعليم أصول
الدين بالسؤال والجواب" تحدد الخطية وتعرفها بأنها تعدي الناموس. ولكنه تعريف
خاطئ من كل الوجوه، وهو ليس ما يقصد إليه الرسول مطلقاً فالكلمة الأصلية معناها
الإباحة أو فعل الإرادة الذاتية أو عدم التقيد بأي ناموس كان (
Lawlessness) وهي كلمة تذهب
إلى ما هو أعمق وأدهى وأوسع مدى من كسر الناموس، فهي تعني ليس فقط العمل الشرير في
ذاته بل نشاط إرادة الطبيعة العاصية، ولذلك فإنها تنطبق انطباقاً كاملاً حتى على
الذين لم يسمعوا شيئاً عن الناموس والذين ينقادون إلى إرادتهم الشريرة بلا حاجز.
وإلا فكيف يسوغ أن نتهم أناساً بتعدي الناموس لم يسبق لهم أن سمعوا حتى عن وجوده؟
لذلك فمن الصعب أن نسمى شرهم تعدياً على الناموس. إن خطية التعدي على الناموس يعبر
عنها بعبارات أخرى صريحة تختلف كل الاختلاف عن الكلمة الأصلية التي يذكرها الرسول
هنا والتي تعني "صنع الإرادة الذاتية".

 

وإني
افترض أن كل مسيحي فطن قد سمع المعنى الصحيح المقصود من هذا العدد لأن كثيراً من
خدام الله ظلوا ينادون به سنين عديدة وبإصرار يحمدون عليه فالخطية ليست مجرد
الشهوات الجسدية والعالمية التي حذرنا الرسول ضدها في العدد 16 من الإصحاح الثاني.
إن العبارة هنا ذات شقين متبادلين أولهما أن "الخطية هي التعدي"
وثانيهما أن "التعدي هو الخطية"فالخطية تبعاً لذلك هي صنع الإرادة
الذاتية سواء كان ذلك ناتجاً عن الجهل بإرادة الله أو عن عدن الاكتراث بها. وهنا
ليس المقصود صنع خطية معينة بل "فعل" الخطية فماذا يفعل سوى الخطية؟ كيف
يتجنبها طالما هو لا يزال خاطئاً؟ إن الخطية هي حالة طبيعته. وإذ هو ساقط – ولا
أكثر – فلا يسعه إلا أن يخطئ. إنه لا يفعل البر، وهو أبعد ما يستطيع عن القداسة،
ولا يفعل سوى الخطية. وكل من يفعل الخطية (سواء كان يهودياً أو أممياً) يفعل
المعصية أو الإرادة الذاتية. أما اليهودي فيضاعف جريمته لأنه بخطيته يكسر الناموس
أيضاً، في حين أن الأممي الذي هو "بلا ناموس" فيكفي أنه يفعل إرادته
الذاتية لكي يحسب خاطئاً ولو أنه لا يمكن أن يتهم بتعدي الناموس. والكتاب لا يصف
الأمم هكذا بل ينعتهم بالقول "أمم خطاة" وإلا فأين نقرأ أنهم وصفوا بهذا
الوصف كما نقرأ عن اليهود؟ ومع ذلك فهم جميعاً مذنبون. جميعهم تمموا إرادتهم
وعملوا مشيئات الجو للإنسان ليفعل ما يسره، وما فعله لأنه يحبه، ولكن من يجرؤ على
مقاومة الله؟ إن الله لا يشمخ عليه،،لا بد أنه سيأتي به يوماً ما إلى الدينونة
لقاء ما فعل. قد يصم أذنيه الآن، ولكن الأمر سيكون مرعباً له في يوم آخر.

 

من
هنا نرى أن الإباحة أو إتمام الإرادة الذاتية تعني ما هو أكثر من التعدي، سيما وأن
عبارات كثيرة ذكرت في الكتاب عن تعدي الناموس، مثال ذلك ما ورد في (رؤ 2: 23، 19،
عب 2: 2، 9: 15)، أما الكلمة الأصلية في العدد الذي أمامنا فمعناها الإباحة أو عدم
التقيد بأي إرادة أو ناموس وهو معنى يختلف كل الاختلاف عن تعدي الناموس.

 

ثم أن
الجزء الأخير من العدد "والخطية هي التعدي" يجلو هذا المعنى لأنها
تتناول كل شخص خاطئ وكل حياته إذ هي سلسلة إباحة وعمل الإرادة الذاتية. ولكن مثل
هذا الشر هو نقيض المسيح على خط مستقيم. لذلك نرى الرسول يسارع فيذكره في العدد
التالي (ع 5) دون أن يسميه صراحة "وتعلمون أن ذاك أظهر لكي يرفع خطايانا وليس
فيه خطية" إذن فهو قد أظهر لكي يرفع خطايانا – ليس فقط لكي
"يحملها" كما في (1 بط 2: 24) بل لكي يرفعها وقد أتم الأمرين بعملية
واحدة إتماماً كاملاً. ولا ريب لدينا في من هو المقصود بهذا ومن هو الذي تألم
هكذا. ليس هو الله الآب، بل الابن وليس غيره، الرب يسوع هو وحده الذي حمل ورفع إلى
الأبد خطايانا على الصليب. وهنا يستبعد الوحي كل فكرة ترمي إلى إلصاق هذه العملية
بكل حياته فهو قد حمل خطايانا ورفعها أثناء وجوده على الصليب فقط. عملية وقتية لم
تستغرق سوى ساعات معدودة ولكن أثرها يدوم على الدهر وكفايتها تبقى إلى الأبد. أما
عن حياته فهناك القول "وليس فيه خطية" هذا ينطبق على شخصه العزيز طوال
حياته من ولادته إلى أن مات وقام وصعد إلى المجد السماوي.

 

ليس
بين المؤمنين من يشك في أن هذا الوصف صحيح فيما يتعلق بحالته الإلهية كالابن
الأزلي، غير أنه لم يخل الحال بكل أسف من شكوك أثارها البعض فيما يتعلق بناسوته
بسبب ولادته من مريم وبرغم معجزة التجسد (لو 1: 35) ولكن ها هو الوحي يقول
"ليس فيه خطية" – لم يكن فيه ولن يكون ولا يمكن أن يكون. ففي المسيح هنا
على الأرض تجد الصورة المضادة للخاطئ على خط مستقيم، فإن الخاطئ ليس فيه سوى
الخطية. وحتى في عواطفه وكل أفكاره لا يوجد الله بل ذاته. وهذه ليست المحبة التي
كانت في الله وفي المسيح والتي يستمدها المسيحيون من شخصه الكريم. قد نرى في بعض
الناس عواطف الوداد والإيناس. ولكن حتى هذه نجدها في بعض الحيوانات كالكلاب أو
القطط لأنها ليست جميعها شرسة. إن نفس الإنسان خالدة تعطي لعواطفه صفة أسمى وأنبل
من الحيوان، ولكن الإنسان خاطئ في حين أن الوحوش ليست خاطئة!! ومع ذلك فإن للإنسان
نفس خالدة، بغض النظر عمن يكون هو أو هي. ولهذا السبب سيأتي يقين إلى الدينونة.
أما الكلب أو أي حيوان آخر فلا. الإنسان وحده، من بين ساكني الأرض جميعاً، هو الذي
سيدنا. أنا هنا لا أتكلم عن الملائكة، فإن الملائكة الساقطين سوف يدانون هم أيضاً.
ولكن من بين جميع الكائنات الأرضية، الإنسان وحده هو الذي تكوّن هكذا، أي بنفس
خالدة ومن أجل ذلك هو المسئول مباشرة أمام الله.

 

إذن
فنحن هنا أمام هذه الصورة الصحيحة الفريدة للمسيح – ليس فقط إنه كان بلا خطية بل
إنه جاء لكي يرفع خطايانا مهما كلفه الأمر. وفي الواقع نحن مدينون بكل شيء للمسيح
ومن واجبنا أن نحرص كل الحرص لكي يكون سلوكنا متفقاً مع علاقات النعمة التي صارت
لنا الآن بفضل عمله فينا ولأجلنا عالمين أن "كل من يثبت فيه لا يخطئ".
أما إذا رأينا إنساناً لا يثبت فيه بل ينحرف إلى مسالك ضالة، فهل نعجب إن هو أخطأ
إنه حينئذ لا يكون سالكاً كمسيحي إذ هو لا يثبت في المسيح. أي نعم. ارني شخصاً
واثقاً بالرب متكلاً اتكالا قلبياً عليه مبتهجاً وفرحاً في شخص ابن الله، أريك فيه
شخصاً لا تزل قدماه، فما من شيء يحصن المؤمن ضد الخطأ ويحفظ قدميه من الزلل سوى
الثبات في المسيح، لأن "كل من يثبت فيه لا يخطئ. كل من يخطئ لم يبصره ولا
عرفه". إن الرسول يتكلم هنا عن الطبيعة الجديدة وعن الحياة من حيث المبدأ.
فهو ينظر إلى الإنسان في نور طبيعته الجديدة لا غير، أما الطبيعة الأخرى، الطبيعة
القديمة، فهي مصدر خجله ومبعث حزنه، وهو يدين كل مظهر من مظاهرها إدانة كاملة سواء
في نفسه أو في رفقائه المسيحيين. لكن الطبيعة الجديدة تتميز بالمسيح وهي لا تخطئ
ولا تستطيع أن تخطئ.

 

"كل
من يخطئ لم يبصره ولا يعرفه". إن ارتكاب الخطية يتنافى مع حب المسيح حبا
صادقا. والمقصود بالخطية حالة الاستقلال الذاتي التي يعيش فيها الإنسان البعيد عن
الله. هذه طبيعته وهذه عادته، فالخاطئ شخص لا يبصر المسيح ولا عرفه. فلو انه قبل
المسيح فعلا كابن الله، لأمن به. ولو انه عرفه كهذ ا، لحصل على حياة فيه، ومن ثم
كان يبغض الخطية، ولو انه حصل على حياة فيه وبذلك صارت له هذه الطبيعة الجديدة
المقدسة التي لا تنفر من الخطية وتنكرها، لكان يتطلع على الدوام إلى المسيح ويعتمد
عليه لكي يصونه من الشر ويحفظه بارا كما هو بار. أما بدون المسيح فلا يستطيع
الإنسان أن يفعل شيئا ولا أن يثمر لله. قد يبقى الشخص المتجدد بعض الوقت مربوطا
بربط الذات مشدودا إليها ببعض التعاليم الخاطئة وقد يبقى تبعا لذلك ضعيفا، شقيا
كما في رو 7 :7 – 24، لكنه حينما يتخلى بالنعمة عن الذات كشيء رديء لا رجاء فيه
ويستعيض عنها بالمسيح في قوة المنقذ ة، فعندئذ يتحرر من ناموس الخطية والموت
ويتمتع بالحرية المسيحية. إن الرسول بولس وحده هو الذي تناول عملية الإنقاذ
والتحرير بالشرح الوافي والتفصيل الكافي. أما يوحنا فيتجاوز هذه القضية وينظر إلى
كل عائلة الله كحاصلين على السلام الثابت وقائمين على الأساس المسيحي الصحيح. حتى
الأطفال فيهم، وذلك لان الحياة الجديدة في المسيح هي موضوعه الرئيسي.

 

ومن
هنا كانت الناحية الثمينة لشهادة الرسول يوحنا التي يستمدها من قول الرب في
يو20:14"في ذلك اليوم (وقد بدأ من يوم الخمسين) تعلمون أني أنا في أبى وانتم
في وأنا فيكم". فإذا كان هذا نصيبا فعلا فقد صارت لنا "أنا"
الجديدة ليس بعد في الجسد والخوف من الدينونة المفزعة بسب فشلي، بل في المسيح
المقام الذي هو حياتي في الروح. ولكن علينا أن نحذر من الظن أن هذا التغيير هو
مجرد إدراك عقلي أو معرفة ذهنية بل هو امتلاك فعلى حقيقي لفكر المسيح و حياة
المسيح بحسب الروح، ولا هو الناموس طالبا مني ما هو صواب وحق بل ناموس روح الحياة
في المسيح يسوع الذي حررني من الناموس الخطية والموت.

 

واضح
أن الرسول يذهب الأعداد إلى ما هو أبعد من الشهوات وغرور الناس بدون المسيح كما
رأينا في الإصحاح الثاني. فهو هنا يقدم المسيح لجميع القديسين في طهارته المطلقة
المنزهة عن الخطية وفي خدمته لرفع خطايانا. كذلك هو يصور لنا أصل الخطية تصويرا
كاملا، مشيرا إلى رئيسها وقائدها الشخصي بكل وضوح، ذلك الرئيس الذي تنعكس كبرياؤه
واستقلاله العاصي عن الله في أولئك الذين يقال عنهم"من إبليس" (عدد 8).
ولكن هاهو الوحي بجانب ذلك يؤكد لنا أن ذاك الذي أظهر لكي يرفع خطايا خاصته قد
أظهر أيضا لكي ينقض أعمال إبليس، وهي عملية تتجاوز خطايا الإنسان وتتناول كل نشاط
خبيث أو سعي ماكر الإهانة الله وإيذاء الإنسان. وهنا لا يفوتنا أن نرى بوضوح أن
ابن الله يقف شخصيا في هذه المقابلة ضدا لإبليس كما أن محبة العالم تقف موقف
العداوة السافرة لمحبة لآب في الإصحاح الثاني.

 

وفي
العدد الثالث من إصحاحنا يتجلى السبب السري في هذا الفارق الكلي" كل من هو
مولود من الله لا يفعل خطية لأن زرعه يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من
الله" فليس الأمر في ما بعد أمر الإنسان الأول، مشيئة الجسد أو مشيئة الرجل.
لا هذا ولا ذاك فاللحم والدم ليس فيهما ما يمكن أن يكون مصدرا للحياة الجديدة على
الإطلاق. قد يكون هناك شيء من الإقناع الأدبي ولكن الإقناع الأدبي مجرد من القوة
ككل فريضة أو وصية دينية لان " المولود من الجسد جسد". فلا بد من أن
يولد الإنسان من الله. ولكن هذه الولادة هي بالإيمان بابنه موضوعيا، أي كغرض القلب
ورجاء النفس، ويعمل روحه بالكلمة داخليا كزرع الحياة. على هذا المنوال يولد المؤمن
من الروح. وهنا يصدق القول أيضا أن المولود من الروح هو الروح (يو6:3) طبيعتان
مختلفتان كل الاختلاف من حيث مصدرها وهدفها، ولا يحتملان أي تبديل أو تحسين أو
اختلاط أو تعديل – كل منها تبقى محتفظة بعناصرها وميولها وأهدافها تبعا لي لأصلها
ومصدرها.

 

فليس
الأمر مجرد تبرير بالإيمان ولا هو أيضا مجرد تطهير القلب بهذا الإيمان صحيح أن عمل
الرب الكفارى لأجل الخاطئ وعمل الروح القدس فيه أمران حقيقيان لا شك فيهما. غير أن
هناك ما هو أكثر من ذلك هنالك حياة جديدة ليست من الإنسان الأول بل من الثاني،
حياة توهب للخاطئ لأول مرة عند إيمانه بالفادي وقد كان إلى ذلك الوقت ميتا روحيا
كما علم الرب في (يو 5: 24 و25) بصراحة وجلاء. هذا ما يفسر لغة الرسول هنا في قوله
أن المولود من الله لا يخطئ، فهو ينظر إليه بموجب الطبيعة الإلهية التي أعطته
النعمة أن يكون شريكاً فيها (2بط 4:1) والمفروض فيه أنه يرفض ويبغض طبيعته
القديمة، طبيعة الخطية، ويحيا الحياة الجديدة التي له في شخص الابن، ساهراً ضد
مكائد إبليس وتجاربه وغواياته العديدة المنوعة التي يؤثر بها على الإنسان العتيق.

 

فباعتباره
حاصلاً على حياة المسيح أصبح مسئولا أن يميز حركات الطبيعة القديمة ويبغضها
ويقمعها، ومع ذلك فهي ليست مسؤولية ثقيلة مفروضة عليه فرضا ًبل هي طبيعة أمينة
لنفسها كما هو شأن الطبائع وتكوينها. وبما أن الطبيعة الجديدة هي الآن طبيعته
المعطاة له من الله فهو يحيا طبقاً لها. لا شك إنها تختلف في ماهيتها عن الخليقة
القديمة الساقطة غير أن إيمانه يؤكد له أنها لا تقل عن هذه من حيث حقيقتها وجودها
الفعلي بل إنها تزيد عنها بما لا يقاس من حيث أهميتها وخطورتها، عل هذا الأساس،
وهو أساس حق للغاية، يقال عنه ليس فقط انه " لا يخطئ" بل أنه " لا
يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله". والسبب في انه لا يخطئ هو"لأن زرعه
يثبت فيه" أي حياة المسيح الموهوبة له بقوة الله المنعمة، والتي لا تخضع لي
الانحلال والموت نظير الخليقة العتيقة. هذه الحياة هي زرعه وهي ثابتة فيه.
فالطبيعة الجديدة منزهة عن الخطية ولا تستطيع أن تخطئ، وكل من له هذه الطبيعة في
المسيح يتميز بها وحدها مع إغفال الخطية في الجسد باعتبار أن الله قد سبق ودانها
في المسيح الذي جعل ذبيحة خطية على الصليب. هذه هي طريقة العتق الإلهي من ناحيتها
السلبية ولكن الرسول يوحنا لا يقول شيئاً هنا عن طريقة العتق الإلهي هذه، ولا عن
طبيعتنا الخاطئة التي يجب أن نكتب عليها حكم الموت وإنما هو يحدثنا عن المؤمن
متميزاً بالإنسان الجديد، الذي يعيش في ذاك الذي هو مصدره ومتكله الدائم أما حينما
يكف المؤمن عن السلوك بالإيمان والاستناد على الرب، فحين إذن تنزلق الطبيعة
القديمة أو تسقط في الخطية.

 

ولكن
مع أن الحياة هي لنا فقط في المسيح كمن هو فينا فإنه من المهم للغاية أن نرى كيف
يحرص الروح القدس على أن يحفظ شخص الابن قدام عيوننا لكي يحرسنا من فلسفة التأله
أو"الحلول" التي شرك الصوفيين أو من العجاب الذاتي الذي هو اكبر شرك في
سبيل النفوس التقية، لذلك فأنه يثبت أنظارنا على ذلك الرجاء الأسمى وهو صيرورتنا
مثل المسيح حينما نراه كما هو. وهنا يجدر بنا وبالقارئ العزيز أن يلاحظ النبرة
المشددة في قول الرسول "وليس فيه خطية" – هذه الحقيقة الثمينة الغالية
على قلب المؤمن وهو ينظر إلى الإنسان، المسيح يسوع، كالصورة الفريدة المنيرة اللامعة
بالمقابلة مع كل صورة أخرى في الوجود. أي نعم، فكم هي مفزعة وبغيضة لروح المؤمن
تلك المحاولة الماكرة من جانب الشيطان الذي جعل البعض يزعمون تحت ستار العطف علينا
والرثاء لضعفنا – أنا المسيح لم يكن معصوما لأنه – مع اعترافهم بان الله الحقيقي –
تنازل لكي يربط الطبيعة الناسوتية بلا هوته! هذه هجمة خبيثة من هجمات العدو
القديمة الجديدة ولكننا لا نجهل أفكاره ويكفينا لصدها واحتقارها قول الوحي الكريم
" وليس فيه خطية". وكل قول أو ظن غير ذلك يتنافى مع شخصه الإلهي ويهدم
الكفارى من أساسها. ليت الرب يحفظ جميع البسطاء من أضاليل أضداد المسيح، وليته
يحفظنا من تحويل أبصارنا عنه حتى ننجو من كل غرور وعثار.

 

 الخطاب
التاسع

ا يو
3: 7 – 10

"أيها
الأولاد لا يضلكم أحد. من يفعل البر فهو بار كما أن ذاك بار. من يفعل الخطية فهو
من إبليس لأن إبليس من البدء يخطئ. لأجل هذا أظهر ابن الله لكي ينقض أعمال إبليس.
كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية لأن زرعه يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطئ لأنه
مولود من الله. بهذا أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس. كل من لا يفعل البر فليس من
الله وكذا من لا يحب أخاه".

 

يجمل
بنا هنا أن نلخص ما سبق واستعرضناه فيما يتعلق بالمبدأين العظيمين اللذين
يتناولهما الرسول في هذه الأعداد بغية إيضاحهما في عبارات مركزة غير مرهقة
بالتفصيلات لأنهما في الحق مبدأان عظيمان من كل وجه ولهما من الأهمية والخطورة في
حياة المؤمن ما يجعلهما يستحقان منه كل عناية وتقدير ولا عجب إن كان الرسول
يقدمهما لنا في عبارات متكررة ومنوعة،مرة سلبياً وأخرى إيجابياً ولو أن العبارة
التي يقدم بها المبدأ الثاني تبدو غريبة على بعض المسامع، وهي قوله أن المولود من
الله لا يفعل خطية…… ولا يستطيع أن يخطئ. ولكن وإن بدا هذا الأسلوب غريباً على
بعض الآذان فمما لاشك فيه أنه قيل بحكم الله وما هو إلا جهلنا الذي يجعله يبدو
غريباً ولكن مهما كان مبلغ فهمنا للأمر فلنثق تمام الوثوق أن ما يفعله الله أو
يقوله لا بد وأنه دائماً أفضل عمل وأكمل قول.

 

لقد
رأينا في العدد الأخير من الإصحاح السابق أول إشارة صريحة إلى موضوع برنا. والواقع
أنه من هناك يبدأ برنا من حيث المبدأ والسلوك ذلك لأننا رأينا الله باراً في العدد
التاسع من الإصحاح الأول وأنه لأمر عجيب حقاً أن يقال عن الله هناك أنه أمين وعادل
(أو باراً) حتى يغفر لنا خطايانا ويطهر من كل إثم (أو من كل عدم بر) فالشيء
الطبيعي الذي يتبادر إلى ذهن الإنسان هو أن يفهم بر الله (أو عدله) على أنه شدته
أو صرامته في إدانة الشر، ولكن المسيح بموته الكفاري قد غير كل شيء بالنسبة
للمؤمن، بحيث أن غفران خطاياه لم يعد بعد من مجرد نعمة الله بل من مقتضيات بره
وعدله وأساس ذلك شخصه الكريم، يسوع المسيح البار، وموته من أجل خطايانا، ذلك الموت
الذي كان من آثاره أن استطاع الله لا أن يعاملنا فقط بالنعمة التي لا نستحقها بل
أن يغفر – طبقاً لبره وعدله – خطايانا البغيضة على نفسه والتي هي اعتداء صارخ على
جلاله. ولكنه حق أيضاً أننا إذا ولدنا من الله صرنا نحن أيضاً نبغض الخطايا
ونمقتها فقد تعلمنا أن ندين الخطية نفسها كما ندين أنفسنا من أجل ذنب خطايانا. ألم
يتحقق هذا في المؤمن منذ لحظة رجوعه إلى الله؟ أنه يمقت نفسه وخطاياه كما في حضرة
الله. قد يعرف القليل ولكنه يعرف هذا القليل معرفة شخصية وحقيقية بواسطة تعليم
الله. فإنه إذ آمن بعمل الرب يسوع وقبله في قوة الروح. بل إذ نال المؤمن عطية
الروح نفسه، فإنه يستطيع حينئذ ولو كان حديثاً في الإيمان أن يرى الأمور على
حقيقتها كما هي في نظر الله، وليس فقط الأمور في نظر الله بل يعرف الله نفسه في
محبته الكاملة نحو خاصيته.

 

غير
أننا نرى هنا برنا غير منفصل عن ميلادنا الجديد. وهذا ما يزعج أحياناً المؤمن حديث
الإيمان لأنه بالطبيعة يوجه بصره فوراً إلى داخل نفسه وهناك لا يجد أساساً لراحته
ولن يجد، فالذي علينا أن نعمله هو أن نبادر أولاً فنستريح على المسيح الذي صار لنا
براً. هذا هو الاتجاه الصحيح للإيمان إذ لن يجد الإيمان من وراء البحث في داخلنا
أي هدف يشبع أشواقه ويستريح عليه بل بالعكس يجعلنا نختبر ضعفنا المطلق ولن نختبر
الراحة الكاملة إلا حينما يملأ المسيح أفق العين الروحية فحينئذ، وحينئذ فقط، تكمل
قوته في ضعفنا، وعلى الأثر يأتي البر العملي.

 

في
هذا القسم من الرسالة يتحول الرسول إلى عائلة الله في مجموعها وعلى لسانه هذا
المبدأ العظيم "إن علمتم أنه بار هو فاعلموا أن كل من يصنع البر مولود
منه". لقد لاحظنا فيما سبق أن البر سواء فما يتعلق بالله بحسب قياسه الكامل
المطلق أو بنا كمولودين منه بحسب قياسنا الضعيف يعني به في كلتا الحالتين الانسجام
أو التوافق مع العلاقة أو النسبة. ومن أجل هذا السبب رأينا الرسول وقد بدأ يحدثنا
عن موضوع البر في العدد الأخير من الإصحاح الثاني يتركه إلى حين ويتحول على الفور
هاتفاً بتلك الكلمات العجيبة المأثورة في مطلع الإصحاح الثالث "انظروا أية محبة
أعطانا الآب حتى ندعو أولاد الله". إذن فهو قبل أن يسترسل في موضوع البر يود
أن يقرر علاقتنا الجديدة التي صارت لنا بالنعمة محدثاً إيانا عن محبة الآب الحاضرة
وعن المجد العتيد الذي أصبح نصيبنا بفضل هذه المحبة الفائقة عينها إذ سنكون مثل
المسيح "لأننا سنراه كما هو. وكل من عنده هذا الرجاء به (أي بالمسيح) يطهر
نفسه كما هو المسيح (المسيح) طاهر"، واضح أنه ليس المسيحي هو الذي يقال عنه
هنا أنه طاهر وإلا فما به من حاجة لأن يطهر نفسه. أما والمسيح هو المثال، وهو له
المجد طهر مطلق الطهر، فإن التناقض في أحد أتباع المسيح لسبب عدم طهارته – مع أن
له المسيح كحياته وبره – يجعله يحس أنه لا يسعه إلا أن يطهر نفسه من كل ما لا يليق
بشخصه المحبوب. ومن فضول القول أننا إذا أمعنا النظر في سيرنا اليومي فإننا نصطدم
بالخيبة في كثير من الأحيان. ولكن مشغولية يوحنا ليست بالقصور كقاعدة عامة بل المبدأ
– مبدأ الحياة المسيحية – ومن أجل ذلك هو يرسم هذا المبدأ في كل بساطته كما من حقه
أن يفعل.

 

ولنلاحظ
أن هذه في الواقع هي الطريقة الصحيحة لمعالجة أي مبدأ من المبادئ بقطع النظر عما
قد يخالطه من طوارئ محتملة أو فعلية فالمبدأ هو مبدأ ولابد من تقريره في كل بساطته
أما اللف والدوران ذات اليمين وذات الشمال فلا يديننا من مواجهة المبدأ مواجهة
حقيقية لأنه عرضة لأن يضيع من أمام عيوننا بسبب تطلعنا إلى الظروف وهي متغيرة
متقلبة. أما المبدأ فهو كل الظروف إذا كان من مبادئ النعمة المعطاة لنا في المسيح
ونحن على الأرض. ولسنا نرى في هذا ما يعيننا على تفهم السبب الذي حدا بالرسول في
حكمة الله لأن يعلن غنى النعمة المجد بعد أن ابتدأ الكلام عن البر العملي فلا يكاد
ينطق جملة واحدة عن البر حتى يهتف قائلاً "انظروا أية المحبة!". ولماذا
يتكلم هكذا هنا؟ لأن كل تلك النعمة لازمة لابد منها للبر العملي. إذ كيف يتسنى
لهذا البر أن يواصل طريقه المستقيم بغير هذا النبع الدافع القوى. وكيف يتسنى
للمسيحي أن يجد التعزية والتشجيع الكافي في الوسط الذي يعيش به – العالم من خارج
والجسد من داخل – وأن يثابر في صنع مشيئة الله بفرح وثقة ما لم يكن له اليقين لمحبة
الآب الكاملة؟ إذن فقد جاء ذكر محبته العجيبة في الوقت المعين والمكان المناسب ولو
أنه قد يبدو لأول وهلة أنه انحراف عن موضوع البر الذي كان يتكلم عنه من قبل. ولكن
حاشا، فقد أراد الرسول، مسوقاً بالروح القدس والحكمة الإلهية، أن يرينا أن لنا في
موارد محبة الآب أفضل الدعائم والمقويات للبر العملي.

 

والواقع
إننا لن نستطيع أن نؤدي واجباتنا لله وللآخرين على الوجه الصحيح إلا إذا سمونا
بالنعمة فوق مستوى هذه الواجبات. أما إذا سمحت بنفسك بأن تنخفض تحت مستوى واجباتك
فلا معدي من أن يصادفك الفشل والتقصير لأنه سيكون هناك بالضرورة بعض أمور لا
تستطيع أن ترق إليها وكثيرون من القديسين يقنعون بهذا التقاعس في الطريق فتكون
خطواتهم متثاقلة هزيلة ويكفيهم أن يكون لهم رجاء متواضع في أنهم سينجون من الهلاك
فتسمع الواحد منهم يقول "إنني برحمة الله أثق متواضعاً أنه سوف لا يلقي بي
إلى جهنم وإني من أجل خاطر المسيح سأصل إلى السماء"، بهذا القدر من الرجاء
الهزيل يسيرون ي طريقهم وكأن الإنجيل لم يمنح أكثر من ذلك. ولكن هل هذا مما يتفق
وعلاقة الولد بأبيه؟ إنه في الواقع دون ما هو معلن هنا بكثير وما هو مقدم للإيمان
لكي يملأ المسيحي بغبطة ثابتة وفرح كامل وشبع سرور منذ الآن، هذا هو نصيب المسيحي
الموهوب له من الله ولا شيء أقل منه. ولماذا؟ المسيح هو الجواب. عليه يتوقف كل شيء
لصالح المؤمن وسبيله لذلك هو الإيمان دون سواه فمنذ أن دخلت الخطية إلى العالم لم
نستمد أية بركة من الله عن غير طريق الإيمان، وما من أحد شهد له إلا عن طريق
الإيمان بما هو الله في المسيح وقد علمنا أن الله في المسيح هو للمؤمن إله خلاص.
نعم فهو وحده يخلص، ولكنه لن يرضى أن يخلص بطريقة أخرى غير الرب يسوع، والروح
القدس الذي يمجد المسيح يعمل في المسيحي لكي يختبر هذا عملياً لأن الحق مهما كان
مباركاً في حد ذاته، يظل بعيداً عنه بدون قوة روح الله الساكن فيه، ولكن متى
استراح الإنسان على المسيح وفداءه فإن الروح القدس يجعل الحق شيئاً فعلياً في
الباطن محولاً حتى أقصى الضيقات لفرحنا الكامل ومن الخطأ أن نزعم أنه كان امتيازاً
قاصراً على المسيحيين الأوائل أن تكون لهم شركة مع الروس بولس حين يهيب بهم قائلاً
"افرحوا في الرب كل حين وأقول أيضاً افرحوا". ولئن كان أولاد الله
يتذوقون القليل نسبياً من هذا الفرح الآن، فجميل بنا مع ذلك أن نسائل أنفسنا عما
إذا كنا نفعل ذلك أم لا. وليتنا نبذل جهدنا حتى يتحقق فينا وفي إخوتنا ما نقرأه في
الكلمة بحسب نعمة المسيح التي لهم ولنا.

 

هنا
إذن نجد العلاقة الجديدة معروضة أمامنا بصورة لامعة. وإلى أي مدى قد سمت هذه
العلاقة يا ترى؟ هل أننا فقط صرنا غرباء ونزلاء نظير إبراهيم؟ كلا. صحيح أننا
كذلك، أو يجب أن نكون كذلك، ولكن أليس من مزيد على هذا القياس؟ لقد أفرز إبراهيم
عن الأمم لأنهم كانوا وثنيين ولقد دعي هو وعائلته لأن يخرجوا لله ويسيروا معه
بالانفصال عن العالم. ولقد احتاجوا في سبيل ذلك إلى حماية ليست بالهينة إذ صار
الله نفسه ترساً لهم وسط أعداءهم الذين أبغضوهم بسبب انفصالهم لاسمه الكريم. فلو أنهم
امتزجوا بهم وخالطوهم وتزاوجوا معهم كمواطنين متمدنين ولو أنهم شاركوهم في أهدافهم
وغاياتهم ومحالفهم. وأمنوهم في محالفاتهم وحروبهم، لأحسنوا وفادتهم وساروا معه على
أحسن ما يستطيعون. والمبدأ هو بالنسبة إلينا الآن. غير أن المسيحيين قد خسروا
الكثير من أفراحهم الخاصة وميزاتهم المقدسة يوم نزلوا إلى العالم وساهموا في مختلف
ميادينه، متأثرين كسائر أهل العالم بعشرة أخلاط الناس ذوي المبادئ الثورية كالبوير
والألمان واليابانيين والشيوعيين ومن على غرارهم. ولكن ما لنا ولهؤلاء جميعاً؟ لو
أننا مجرد أناس قوميين، إنجليزاً كنا أو مصريين، أو لو أننا مجرد أناس في الجسد
لجاز اشتراكنا في هذه الميادين اشتراك الإنسان الطبيعي الخاطئ المجرم الهالك. أما
ونحن مسيحيون فلسنا لذواتنا بل قد اشترينا بثمن، قد خلصنا وأتى بنا إلى الله لكي
نعيش لا لأنفسنا فيما بعد بل لذلك الذي مات لأجلنا وقام، وقد دعينا لكي نصنع مشيئة
الله في الوقت القصير الذي نحياه على الأرض في وسط عالم شرير. إن علاقتنا ونسبتنا
لهي أسمى بكثير من ربط الأرض.

 

كان
إبراهيم بحاجة إلى الحماية، وقد وجدها كاملة في الله باسمه الكريم
"كالقدير" ويا له من اسم يتفق والعلاقة الجديدة التي أصبح فيها إبراهيم
وخاصته؟ لقد كان أعداؤه يعيشون بالقرب منه ويملئون الأرض حواليه وكان من اليسير أن
تسلل إليهم الأخبار أن نسله سيرث أملاك الأموريين وغيرهم فما من شك أن كثيراً من
الإسرائيليين كانوا يذيعون أن الله قد أعطى كنعان لآبائهم ونسلهم إلى الأبد أو على
الأقل كان مجيء إبراهيم وإقامته في تلك الأرض نذير شؤم للكنعانيين وباثي الشعوب
هناك، أفلم يكن استقراره في تلك الأرض بمثابة إعلان إخلاء ونذير قضاء؟ وهل من
المحتمل أن تلك الشعوب قابلت ذلك براحة وهدوء بال؟ صحيح أن الجنس المختار كان قلة
في بادئ الأمر، غير أن ذلك ما كان ليخفي الحقيقة التي ولا شك راحت تظهر وتتجلى
كلما تكاثر الشعب واشتد ساعده، سيمتا بعد خروجهم من مصر بتلك الذراع الرفيعة وذلك
العمل الفدائي الجبار بعد أن تضاعف عددهم رغم كل الجهود التي قام بها ذلك الملك
الخبيث لإبادة الذكور.

 

ثم
جاء بنوا إسرائيل إلى جبل سيناء وهناك، بل حتى قبل أن يصلوا إليه، وفي سياق عملية
خلاصهم من مصر – خلاصاً خارجياً طبعاً – أشار الله ضمناً سيعلن نفسه لشعبه باسم
جديد، وكان هذا الاسم هو "الرب-الكائن" أو الرب. أما اسم
"الآب" فلم يكن ليصدق عليهم لن معظمهم كانوا غير متجددين، فإن المسألة
يومئذ لم تكن مسألة تجديد بالنعمة بل أن الله اختار شعباً ليملك عليهم ويحكم،
والحكم ليس بحاجة إلى شعب حاصل على حياة إلهية بل العكس هو الأصح فإن الحكم يفترض
وجود شر يكبته ولذلك اتخذ الله في مبدأ علاقته معهم اسم الحاكم الإلهي إله آبائهم
وهاهو الآن يعرف باسم "الرب-الكائن" الرب. لقد تعهد الشعب عند جبل سيناء
أن يطيعوا الله كشرط مقامهم أمامه وبركته لهم. لكنه تعالى كان يعلم جيداً أنهم سوف
لا يخضعون لناموسه بل سينحرفون أكثر فأكثر إلى التمرد والعصيان. فمن المؤسف والمذل
حقاً أن اهتمام الجسد أو الذهن الجسدي لا يعرف إلا مبدأ الإرادة الذاتية ولن يخضه
لله بل بالعكس عداوة له ويبغض مشيئته. ولهذا كان من المحقق – وكان موسى يعرف ذلك
مقدماً – أن المسألة كلها ستنتهي بالفشل الذريع وأنهم سيتركون الرب ويركضون وراء
آلهة غريبة وأنهم لذلك سيطردون من الأرض الجيدة. ويا له من درس تتلقاه الأمم عن
شعب كان الله يجري معهم أعظم أعماله ويعاملهم بأوسع مراحمه ولكنهم الآن قد صاروا
على عصاة متمردين فحسب بل ملحدين مرتدين استحقوا أقصى أنواع القصاص على مرأى من
العالم أجمع وعلى أيدي شر أعدائهم الذين كانوا أداة انحطاط وإذلالهم.

 كل
هذا أظهرته أعلنته معاملات الرب-الكائن في نطاق العلاقة أو النسبة اليهودية إلى أن
ظهر ابن الله. وقد حدث منه بعد ذلك ما هو أشنع وسيحدث ما هو أنكى وأشر في مستأنف
الدهور. ولكن ابن الله قد ظهر في صورة إنسان وهي الطريقة الوحيدة التي كان يمكنه
أن يظهر بها بالنعمة ليتمم الغرض من ظهوره بل هي الطريق الوحيدة التي كان لابد –
طبقا للمكتوب – أن يظهر بها. ذلك لأنه في تلك الطبيعة التي في كل من عداه قد أثمرت
الشر باستمرار قد ظهر ابن الله ليس فقط ليأتي بالله إلى العالم بل لي يرفع الخطية
من العالم ولو أن ذلك في الواقع ما كان ليتم في الحال ودفعة واحدة. على أن الأنكى
والأشر ما أظهره اليهود في شناعة عدم إيمانهم إذ رفضوا الرب يسوع باعتباره مسيح
الرب أو مسيا الرب-الكائن في الوقت الذي قدم لهم فيه أدلة ساطعة وبراهين قاطعة على
أن المسيا بحق. ومع ذلك فان إرادتهم المتمردة العاصية أبت أن تقبله ولذلك كانوا
الأدلة الرئيسية في الإتيان به إلى الصليب الأمر الذي أحجم عنه الرومان الوثنين.
لقد كان بيلاطس معروفا بين حكام الرومان بالقسوة والصرامة ومع ذلك فما أعظم الفارق
بينه وبين رئيس كهنة اليهود وشيوخهم وكتبتهم وسائر طوائفهم، لا فرق بين جماهيرهم
أو مجامعهم، عامتهم أو خاصتهم، فالكل قد ملأهم العداء والحنق ضد مسيحهم وقد أعمت
الإرادة الجسدية عيونهم ومع ذلك فهذا ما يسمه الناس "حرية الإرادة".

 

ولكنها
حرية إرادة الشيطان والخاطئ. وإلا فأخبرني أي حق للإنسان، كإنسان، إن تكون له
إرادة حرة؟ أليس هو ملتزماً – بوصفه مخلوقا ًعاقلاً – أن يكون عبداً لله؟ إذن
فدعوى ممارسة حرية الإرادة إنما هي دعوى باطلة و غير معقولة. وكخاطئ وساقط، أليس
هو عبداً للشيطان؟ أليست هذه الحالة التي ولدنا عليها وعشنا فيها – أنا وأنت أيها
القارئ وجميع الناس الآخرين – إلى أن اخذ الله بناصرنا أعطانا أن نتقبل حكم الموت
على نفوسنا وبالإيمان نحصل على حياة جديدة في ذلك الذي جاء من السماء، الذي هو ابن
الله وابن الإنسان، قد أعلن لتلاميذه يوم كان يخدمهم على الأرض أن هناك اسماً
جديداً لله يعلمه للمؤمنين، وهو ذات الاسم الذي كان يعرفه هو ويحبه ليس فقط حينئذ
بل منذ الأزل اسم "الآب". هذه هي العلاقة الجديدة التي أدخلنا فيها له
المجد والتي أعطانا أن يكون لنا معه فيها نصيب – هو بحقه الإلهي ونحن بالنعمة
الغنية المطلقة.

 

هذه
هي ثمرة المحبة التي وصلت إلى قلوبنا التي كانت يوما مظلمة، وهي الثمرة التي يشير
إليها الرسول هنا كشيء يستحق أن ننظر إليه باستمرار معجبين ساجدين "انظروا
أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله" – ليس فقط أن نحصل على الغفران
وتبرير بل أن ندعى أولاد الله. وكأن الوحي المبارك لم يكتف بالعدد الأول من
إصحاحنا العجيب هذه الحقيقة الهائلة فيردفه بالعدد الثاني مؤكداً في صراحة ووضوح
تام أننا هكذا منذ الآن، فليس هو لقبا سيتحقق تحقيقاً في السماء أو في حالة
القيامة فقط بل "الآن نحن" أولاد الله. ولنلاحظ كما قلنا قبلاً أن لقب
"أبناء" ليس هو الذي يصفنا به الرسول هنا بل "أولاد". أية
علاقة أو نسبة يمكن أن تكون اقرب إلى الله من هذه النسبة؟ إن الإنسان لا يستطيع قط
أن يجعل الغريب عنه ولداً له. أما الله فيستطع، وهو يفعل ذلك، وهذه هي العلاقة أو
النسبة التي صارت لنا بالنعمة. نعم فان لم يدع الله أباه فقط بل قال أن أباه هو
أبونا، وقد أضاف على ذلك انه "إلهه ألهنا" بعد أن احتمل كفاريا دينونة
خطايانا وقام من بين الأموات. وانه لمما يدعو إلى تأمل عميق انه لم تكن من عادة
سيدنا أن يتخاطب مع الله كالله بل كالآب، وعندما قام من الأموات، بعد أن أكمل عمل
الفداء، لم يقل "أبوكم" فقط بل "ألهكم". ونستطيع أن نلمس قوة
هذا التعبير وندرك مغزاه وجماله بأكثر وضوح إذا قارناه بالوقت الذي نطق فيه سيدنا
بتلك العبارة العظيمة "إلهي إلهي لماذا تركتني". ففي أيام جسده، وحتى
وهو على الصليب قبل أن ينطق بهذه الكلمة الرهيبة، كان دائما يتكلم عنه أو معه
كالآب. بعد أن جعل خطية، وكان من اجل ذلك متروكا من الله، عاد مرة ثانية يخاطبه
"كالآب" حتى قبل موته وتسليم روحه، ذلك لكي نعرف أن كل ما كان ضدنا قد
تسوى وانتهى، لأنه كان قد انحنى بخطايانا تحت ثقل تلك الدينونة الرهيبة وإذا أحس
بروحه أن عمله قد تم وصار مقبولاً استطاع أن يقول "يا أبتاه" قبل لحظة
الموت لأن العمل كان قد انتهى فعلاً. أما القيامة فكانت البرهان العلني على إتمام
السلام. ولكنه قبل أن يموت قال "يا أبتاه في يديك استودع روحي". فالإله
القدوس الذي التقينا به عند الصليب هو نفسه أبونا!

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ل لعنة الوالدين ن

 

وبناء
على ذلك صار لنا هذا الامتياز العجيب وهو أن الآب قد أعطانا لقب "أولاد
الله". هذه هي ماهية اللقب، ولكن لكي يوضح أكثر أنه ليس مجرد لقب بل طبيعة
حقيقية موهوبة لنا يضيف القول "أيها الأحباء، الآن نحن أولاد الله" بعد
أن سبق وقال بصفة عامة أن كل من يصنع البر – كما انه بار هو – "مولود من
الله".

 

وهذه
كلها أمور هامة وطيرة للغاية والغرض منها وضع أساس راسخ وأكيد لبرنا فإنه ليس
صحيحاً على الإطلاق أن هناك مجموعة معينة من الواجبات علينا أن نتممها لكي نحصل
على البر. ذلك كان أساس الإسرائيلي الذي وضع الناموس أمامه واجبات معينة كان عليه
أن يتممها ليحصل على الحياة، ومع ذلك فهو لم يتمم تلك الواجبات مطلقاً ولم يستطع
الناموس إلا أن يدينه ويحكم عليه، لكن الأمر مختلف عن ذلك كل الاختلاف فيما يتعلق
بالمسيحي وهذا يوضحه لنا الوحي عندما يؤكده لنا أننا أولاد الله وأن الله أبونا
كما أنه أبو ربنا يسوع المسيح مع هذا الفارق وهو أنه أبو ربنا يسوع في حدود
استحقاق شخصه الإلهي أما نحن فبأفضال النعمة وحسب، ولكن أليست علينا واجبات؟ وما
هي؟ إنها واجبات أولاد الله، لقد جيء بنا إلى نسبة تسمو فوق جميع الواجبات وإلا
فهمها أدينا من واجب هل يمكننا أن نصل بذلك إلى الدرجة تقارن بنسبة صيرورتنا أولاد
الله؟ طبعاً كلا، ولذلك فنحن دائماً فوق مستوى الواجبات. لقد صرنا قريبين إلى الله
قرباً لم يستطع أن يوصلنا إليه أي واجب نوفيه. وقد حصلنا على هذه النسبة العجيبة
بفضل النعمة السامية حينما كنا في أردأ حالاتنا – أبناء الغضب كالباقين، ولكن الله
تبارك اسمه، أعطانا حياة في ابنه، وإنها لحياة تقصر دونها جميع الواجبات.

 

هذه
حقيقة مباركة على الكثيرين أن يعرفوها، وهي أن واجباتنا تصدر عن نسبة قائمة قد
صارت لنا فعلاً، لا أننا نقوم بها لنحصل على تلك النسبة، إن واجباتنا لا تدخلنا في
النسبة بل النسبة هي التي تحدد نوع الواجبات التي تلائمها وتليق بها. ونسبتنا
القريبة المباركة – وما كان ممكناً أن يكون لنا أقرب منها – مؤسسة على كوننا
أولاده. وهي حقيقة ثابتة لا يستطيع شيء أن يغيرها، إلا أن يدعي شخص بأنه مسيحي
ويظهر فيما بعد أن شيئاً من المسيحية لم يكن متأصلاً فيه لأنه ترك المسيح وتخلى
عنه، وهذا مما سيعطي عنه حساباً ويكون شاهداً عليه في دينونته ولكن واضح جداً أنه
مبدأ عام ومن اليسير إدراكه حتى فيما يتعلق بالواجبات الطبيعية، ومنه نرى خطأ أهل
العالم الذين يبنون عليه نظرياتهم الأخلاقية إذ هم لا يقيمون الواجب على أساس
العلاقة بل على أساس قوة الإنسان الأدبية، فهم يزعمون أن الإنسان يستطيع أن يؤدي
واجبه إن أراد، ولذلك فليس من واجب الإنسان ما يحسب له أي حساب سوى استطاعته
وقدرته. غير أن الحقيقة المؤلمة بكل يقين هي أن الإنسان يفسد دائماً في واجباته
نحو الله. ولكن هذا لا يهم الفلاسفة في كثير أو قليل، ومنه نرى أن نظام الأخلاق
عندهم لا يستمد مصدره أو أساسه من الإعلان الإلهي بل من الإنسان الساقط، ولذلك كان
أساساً واهياً فاشلاً إذ هو لا يعرف حق الله ولا حقيقة الإنسان كما هو في نظر
الله.

 

خذ
توضيحاً لذلك، العلاقة الأبوية. ما هو أساس واجب الولد نحو أبويه؟ أساسه العلاقة
الأبوية لا شك. فلأنه ابن أبيه لذلك هو تحت التزام أن يحب الذي ولده وأن يعطيه.
وليس من يستطيع أن يحل محل الوالد. فلو أن الولد بدأ يعد الآخرين في درجة المساواة
مع أبيه، أو لو أنه سمح لهم أن يسلبوا أباه منزلته ومكانته، لكان في ذلك الدليل
أكبر على أن هناك خطأ أساسياً في نسبة الولد. خذ أيضاً علاقة الزوج بزوجته، فليس
أوضح منها في تفسير ما نحن بصدده إن من واجب الرجل أن يحب امرأته حباً لا يجدر
بغيرها حتى ولو كانت تبدو متعبة في بعض الأحيان، كما أن من واجبها أن تعطيه ولو
عانت في سبيل ذلك أحياناً.

 

إن
الواجبات شيء مستقل كل الاستقلال عن الظروف العبرة، وهي ليست متوقفة على إرادة
الرجل أو إرادة المرأة بل مهما كانت أفكارهما أو مشاعرهما فإن واجب أحدهما نحو
الآخر مستمد من العلاقة القائمة بينهما وسواء أقام كل منهما بواجبه أم لم يقم
فالعلاقة هي التي تنشئ الواجب وتدعو إليه، وكذلك في علاقة الخدم بأسيادهم نجد شيئاً
من نفس المبدأ وإن كان ضعيفاً في طبيعته وبخاصة في أيامنا الحاضرة حيث الخدم
يتبرمون بأسيادهم والأسياد يتبرمون بخدمهم وقد يستغنون عنهم لأتفه الأسباب. ولا
عجب فإن علاقة الخادم أو العبد كما يقول الرب في (يو 8) علاقة وقتية وليست دائمة.
أما العلاقتان الأخريان (العلاقة الأبوية والعلاقة الزوجية) فهما باقيتان مدى
الحياة ولذلك فإنهما خير الأمثلة لتوضيح العلاقات التي أنشأتها النعمة والتي لن
تنتهي.

 

ونحن
من حقنا بموجب كلمة الله أن نؤمن بهذا، ولكن طالما الجسد فينا فإننا بحاجة إلى
النعمة (وهو يعطي نعمة أعظم) لكي نتمم الواجبات اللائقة بعلاقتنا سواء بالله أو
بإخوتنا، فإن أصغر العلاقات تنطوي على واجب يتفق معها، ولكن أعظمها وأهمها هي التي
تعتمد على حقوق الله العليا. وهنا نرى الله يأخذ مكان المحبة التي لا مثيل لها.
"انظروا أية محبة". فهي محبة تسمو فوق كل عاطفة يمكن أن يتصورها الإنسان،
ولم تكن ممكنة إلا لله وحده وقد أعطانا إياها تحت اسم الآب كما عرفه الرب يسوع
وكما أعلنه لنا بعد موته وقيامته. ولذلك فإن هذه البركة التي تسمو فوق كل فكر بشري
والتي صارت من نصيبنا الآن وهي التي تشجعنا على تأدية الالتزامات التي تقتضيها تلك
العلاقة العجيبة السامية.

 

أي
ليس للعلاقة إذن دخل كبير في البر العملي؟ وإذا كن الأمر كذلك، فهلا نستطيع أن نرى
على الفور مبلغ ما في هذه الأعداد التي أمامنا من مناسبة وجمال وقوة إذ تحدثنا عن
علاقتنا بالله وما تقتضيه هذه العلاقة من سلوك يليق بها. فها هو الوحي يحدثنا هنا
أكثر مما يفعل في أي مكان آخر عن حقيقة علاقتنا في كل سموها وفي كل قوتها ونعمتها
الغنية الحاضرة إذ يؤكد لنا أننا الآن نحن أولاد الله، بل إنه يذهب بها إلى
المستقبل الأبدي، إلى حضور الرب ورؤيتنا إياها بالعيان ويوم نكون مثله لأننا سنراه
كما هو. وهكذا تسطع علاقتنا بنور إلهي كامل ينير جواب الموضوع كله. وقد قصد بذلك
أن يكون لنا من وراء النظر والتأمل في هذه العلاقة السامية العجيبة حافز على
القيام بواجب البر العملي وباعث لفرح مقيم وتعزية في جميع الظروف.

 

وهل
يفوتنا الخطر الذي ينجم عن إهمالنا لعلاقتنا أو التشكك في بنوتنا لله؟ ألسنا نكون
في هذه الحالة مهيئين للعالم والوقوع في الخطية؟ في الواقع أنه لا يوجد مكان للعجب
إذ كنا نتحول إلى مسالك شريرة ما دمنا لا نتمتع بعلاقة حاضرة حية وأبدية مع الله.
ولكن إذا تمتعنا بهذه العلاقة فلا يكون حينئذ أي عذر للوقوع في الخطية. فهناك الطبيعة
الجديدة، والرابطة الوثيقة القريبة، والمحبة التي تفوق كل وصف، كالباعث على حياة
البر. إن الطبيعة الجديدة يمكن أن ينظر غليها عاملة بالارتباط مع العلاقة أو
مستقلة عنها، ولكن الطريقة الأكمل والأفضل هي الإتيان بهما معاً ليكون لهما
تأثيرهما في الموضوع الذي نحن بصدده وهذا ما يفعله رسولنا بطريقته الخاصة العجيبة
في الثلاثة الأعداد الأولى من الإصحاح الثالث كجملة عرضية بين العدد الأخير من
الإصحاح الثاني (وهو العدد الذي استهل به الكلام عن البر العملي) والعدد الرابع من
الإصحاح الثالث حيث يستأنف الحديث عن هذا الموضوع الخطير.

 

فبعد
أن أشار الرسول إلى محبة الآب وإلى علاقتنا كأولاد وما يتبع هذه العلاقة من رجاء
منير، يعود مرة أخرى إلى الجانب الأدبي متعمقاً إلى أصل الخطية، الأمر الذي لم
يفعله من قبل. وهو لا يسمى الخطية "تعدي الناموس" وذلك لأسباب على أعظم
جانب من الأهمية. فهو مزمع أن يتناول الخطية من ناحية أوسع من مجرد علاقتها
بالناموس أو اليهود. لقد كان اليهود يعرفون معنى الإثم أو البر إلى حد ما ولو أنهم
أساءوا فهم البر بسبب عدم إيمانهم، ومع ذلك فقد قرأوا الشيء الكثير عنه في الكتاب
ولم يسعهم إلا أن يعجبوا لعمق معنى البر عندما سمعوا عنه من الرب نفسه حينما أضاء
بينهم كالنور الحقيقي.

 

أما
الأمم فما هو مبلغ فهمهم للبر؟ إن الأمم لم تكن لهم علاقة بالله الذي كان بالنسبة
إليهم إلهاً مجهولاً، ولئن كان ينتابهم شيء من الشعور الأدبي في حضرة أوثانهم التي
كانوا يوقرونها ويعبدونها فلم يكن فلم يكن هذا الشعور سوى بالخوف. ولم تكن لديهم
أقل فكرة عن أن الله هو إله المحبة، أما آلهتهم فلم يكونوا سوى سدنة للرذيلة
والدعارة، لا يتسامون قط فوق الأنانية ومحبة الذات. وإن تصادف ونزل أحد إلى الأرض
حيث الإنسان فذلك كان في الغالب لأغراض سافلة ومنحطة. وهم الإغريق القدامى، هل
استطاعت ديانتهم الوثنية أن توصلهم إلى شيء أسمى من آلهة منحطة لا ذرة فيها من
القداسة أو المحبة؟ هل كان منهم واحد بالعدد لم يكن بذيئاً ردياً من زفس إلى ما
دون؟ إن آلهتهم لم تكن إلا صورة مكبرة لأشخاصهم وأخلاقهم. أما هنا فنجد حق الله،
عاملاً بالنعمة المطلقة ليباركنا دون أدنى استحقاق من جانبنا، فإن المسيحي يستطيع
في غير حرج أن يأخذ مكانه الجدير به وهو مكان لفشل والخراب التام في الإنسان الأول
ثم البر الكامل والنعمة المطلقة في المسيح يسوع، فإن كل فضيلة وكل كفاية وكل بركة
إنما تأتي من الله الذي يهب كل شيء بسخاء ومجاناً للإيمان في المسيح. وهل كان هناك
ما يستطيع أن يفعله إلهنا وأبونا للمؤمن لإنكار الذات والتخلي عن كل معطل أكثر من
أن يجعله يعترف باسم سيده ومخلصه ويتمتع ببركة نسبته الوثيقة للآب في حياة جديدة
معطاة بالنعمة؟.

 

إن
حقيقة كون المؤمن باراً باعتباره مولود من الله وبالتبعية شريكاً مع المسيح في بغض
الخطية هو شيء عظيم حقاً، لأن العمل يتبع الحياة والمسئولية تتبع المقام وكل من
يصنع البر مولود من الله ويعرف أن له نسبة وثيقة لأنه موضوع محبة الآب التلقائية
الكاملة. وهكذا نرى الطبيعة والعلاقة تتلاقيان وتسيران معاً يداً بيد وهو ما يفسره
لنا الرسول هنا. ولكنه ولقد أوضح الجانب المنير في كل بهائه وقوته سواء في حقيقته
الراهنة أو ما يرتبط به من رجاء فائق مبارك فإنه يتقدم مبيناً بكل حزم وإصرار
النتيجة الحتمية لذلك وهي مجافاة طبيعة الله سواء في المسيح أو فينا لكل خطية.

 

يقول
"كل من يفعل التعدي أيضاً. والخطية هي التعدي" (عدد 4)[5] إن عمل الخطية
يقصد به عادة اقتراف عمل عين كما لو قلنا فلان عمل خطية. أما "فعل الخطية
" فمعناه كما هو المقصود هنا مبدأ الإنسان، خطته وسلوكه فليس في طبيعته سوى
الميل لفعل الخطية. وعمن يتكلم الرسول؟ يتكلم عن كل إنسان بالطبيعة. لأن هذا هو
بالضبط ما يفعله كل إنسان بحسب نظر الله. والأمر في ذلك يس قاصراً على الأممي بل
يشمل اليهودي أيضاً. لأنه من هذا الوجه لا فرق بين الاثنين، ولو أنه من المحتمل أن
يقاوم أحدهما الآخر ويبادله الكراهية والاحتقار. هكذا كان الحال، وقبل أن يعلن
الله في المسيح لم يكن هناك أدنى مجال للافتخار. فإن الإنسان كخاطئ مكانه في
التراب.

 

فمن
هو الخاطئ إذن سوى كل إنسان في حالته الطبيعية. وألم تكن هذه هي حياتي وحياتك أيها
القارئ قبل أن نتعلم المسيح؟ لقد كانت نفوسنا تجهل الله جهلاً تاماً إلا من ناحية
الخوف منه – الخوف من أن يلقي بنا إلى جهنم النار يوماً ما. وإذا قيل بحق أن الله
لم يكن في أفكارنا فإن الخطية كانت فيها. وماذا يكون طابعها الحقيقي حينئذ؟ لا شيء
سوى التعدي أو فعل الإرادة الذاتية بالاستقلال الكلي عن الله ومن عجب أن الإنسان يشق
عليه أن يستقل عن زملائه بينما لا يجد صعوبة قط في عدم المبالاة بالله إطلاقاً. يا
لها من حقيقة غبية أثيمة مرعبة! إن الله ليس في أفكاره، وهذه هي الخطية. وفي
اللحظة التي فيها تأتي بهذا التعريف الصحيح للخطية كما هو معلن هنا فإنك واجد على
الفور أنها تنطبق بكل يقين على كل إنسان، يهودياً كان أو أممياً. لقد كان اليهودي
يدعي البر لأنه كان تحت الناموس. لكنه إن أخطأ كان يضيف ذنباً آخر على خطيته وهو
كسر ناموس معروف هو ناموس الله، فهو من أجل ذلك "متعد" الأمر الذي لم
يكن ممكناً أن ينطبق على الأممي لأنه بصفة عامة لم يكن يعرف شيئاً عن الناموس، بل
إن أغلبهم لم يسمعوا عن الناموس ولو مجرد سمع الأذن. فمن الخطأ في التطبيق إذاً أن
نتحدث عن الأمم كما لو كانوا متعدين. والكتاب لا يتحدث عنهم هكذا مطلقاً وإنما
يدعوهم بلا ناموس (
Lowless) أو
خطاة كقول الرسول مثلاً في رسالة غلاطية "من الأمم خطاة" (غل 2: 5).

 

أما
الآن فنقرأ لا عن تعدي الناموس بل عن فعل الإرادة الذاتية (
Lowlessness) حتى فيما يتعلق باليهودي الذي إن لم يؤمن بالمسيح فهو أيضاً يكون
"بلا ناموس" رغم كل تفاخره بالناموس لأن فعله للخطية دليل على أنه عائش
بدون الله. لما كان الهيكل موجوداً كان يدخل اليهودي ويقدم قربانه. كل يهودي كان
يفعل ذلك، لأن الناس – حتى أفظعهم شراً – يحبون أن يتحلوا بشيء من الدين، فقايين
لم يحب العالم فقط كما بدأه بل أحب كذلك ديانة العالم بحسب فكر الإنسان، فلم يكن
قايين واحد من أولئك الذين ليس لهم كنيسة أو معبد على طريقتهم الخاصة. بل بالعكس
نراه حريصاً على تقديم قربان من ابتكاره، قربان لم يكن يحمل في طياته سوى إهانة
حقيقة لله الذي من حقه وحده في كل زمان ومكان أن يرسم طريق خط عبادته. قدم قايين
هذا القربان الباطل متجاهلاً أنه خاطئ، فجاء للرب بثمار الأرض وزهورها. والناس في
الوقت الحاضر يفعلون شيئاً من هذا القبيل في الجنائز التي يعتبرونها مواسم للزهور
حتى عند القبور. والواقع أن الإنسان لا يمكنه أن يتصور شيئاَ مستهجناً أكثر من
الزهور فوق النعوش،ففي محاولة من الإنسان لتغطية خطورة الموت وآثاره الرهيبة. فما
هو الموت بالنسبة للقديس سوى انطلاق للوجود مع المسيح؟ وما هو الموت بالنسبة
للخاطئ سوى الإيذان بدينونة عادلة لا محيد عنها؟ فما قيمة الزهور بالنسبة لأحدهما
أو للآخر؟ هل نعجب إذا وجدنا أنه حتى من بين العقلاء من أهل العالم من يرسلون
بطاقة النعي إلى أصدقائهم "مع رجاء عدم إرسال الزهور". على كل حال إنها
عادة غبية، ولو أنها أمر طبيعي للبستاني وتجارة رابحة تتوقف على المزاج لا أكثر
ولا أقل.

 

"وتعلمون
أن ذاك أظهر لكي يرفع خطايانا وليس فيه خطية". بعد أن حدثنا الرسول عن الخطية
في طبيعتها الأصلية باعتبارها فعل الإرادة الذاتية وهي شيء لا يخلو منه إنسان بحسب
الطبيعة، يقدم لنا على الفور الجانب المناقض لهذا على خط مستقيم. فأين نتوقع أن
نجد شخصاً خالياً تمام الخلو من فعل الإرادة الذاتية؟ واحد فقط، هو أعرف من أن
يعرف، بحيث لم يكن الرسول بحاجة لأن يذكر اسمه بصراحة. نعم، فنحن نعلم أن ذاك "ربنا
يسوع المسيح وليس آخر" قد أظهر لكي يرفع خطايانا. ويا له من عمل يوافق
أقنوماً إلهياً هو في الوقت نفسه إنسان حقيقي كامل! فهو وحده الذي كان يبغض الخطية
وهو وحده الذي يقال عنه هنا بعد الإشارة إلى إتمام عمله "وليس فيه خطية"
– ليس فقط أنه "كان" بلا خطية قبل مجيئه وأنه "سيكون" بلا
خطية بعد قيامته بل على طول الطريق "ليس فيه خطية". هذه هي حقيقة مطلقة
غير مقيدة بزمن. على أن هذا الشخص الكامل المنزه عن الخطية هو بعينه الذي جعله
الله خطية لكي نصير نحن (الذي كنا خطاة فعلاً) بر الله فيه، والجزء الأول من العدد
يتناول العدد الفريد الذي أكمله على الصليب والغرض العظيم من موته الكفاري بينما
يشير الجزء الثاني إلى طابع حياته الكاملة القدوسة التي أظهرت وامتحنت في هذا
العالم فظهر مجدها الأدبي الفريد لكل ذي عينين، إلا من كانت عينه عمياء أو رمداء.

 

"كل
من يثبت فيه لا يخطئ" نعم، إنه لا يوجد علاج ضد الخطية غير الثبات فيه
والتوكل المستمر عليه والثقة به. وليس الوقاية أو الحفظ في مجرد ادعاء باسم الرب
ولو أن ذلك بداية حسنة ولكنها ليست كل شيء فإن كثيرين من الذين يقولون الآن
"يا رب يا رب" سيقال لهم في ذلك اليوم "لم أعرفكم قط"، أما
الثبات في الرب فهو برهان الإيمان الحي بالمسيح، الإيمان الذي ليس بلا ثمر بل
العامل بالمحبة كما قيل للغلاطيين الذين تظاهروا بالناموس. هذا هو السبيل الوحيد
الذي لا يوجد غيره. "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا (الإنسان العتيق) بل المسيح
يحيا فيّ. فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان: إيمان ابن الله الذي
أحبني وأسلم نفسه لأجلي". وهو لا يستحي أن يدعون إخوة وقد برهن على محبته لنا
إلى المنتهى بطريقة اختص بها وحده ولكنها كانت طريقة لازمة لابد منها. فالآب
والروح القدس لم يتجسدا لكي يظهروا كمال الطاعة في الحياة أو ليحتملاه في الموت
دينونة خطايانا من يد الله العادلة. أما هو فقد فعل ذلك. وفي هذا دافع قوي لنا على
البر العملي وبخاصة وقد أعطينا طبيعة بارة وعلاقة وثيقة بالله لم يكن لغير محبة
الآب السامية أن تهبها لنا.

 

والآن
نأتي إلى الأربعة أعداد التالية التي لم نستكمل إيضاحها قبلاً (ع 7 – 10).
"أيها الأولاد لا يضلكم أحد". نعم، فأين هو الموضوع الذي تحصل بشأنه
أخطاء وأضاليل أكثر من هذا الموضوع؟ بل أين هو الموضوع الذي يتعرض فيه الناس أكثر
من أي موضوع آخر ليس فقط للخطأ فيما يتعلق بذواتهم بل لتضليل الآخرين ممن يثقون
بهم؟ وإلى من نذهب إزاء هذا كله؟ إن أمننا وسلامتنا في المسيح وحده، في كلمته وفي
روحه. وماذا يجدي العلم هنا؟ أقول بل أن التقوى ذاتها لا تجدي كثيراً ما لم تكن
مصحوبة بالثبات الصحيح في المسيح. "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً"
ومن هنا كان القول أننا إن ثبتنا فيه فإن الشرير لا يمسنا لأننا وإن كنا نتعرض
دائماً لحيله لكننا لسنا نجهل أفكاره. إنه لا يخشنا ولكنه يخشى المسيح قاهره،
وإيماننا وثباتنا في المسيح يضع المسيح بيننا وبين إبليس الذي سرعان ما يرى
المقاومة بهذه الصورة حتى يهرب منا. ليس الأمر أن طبيعتنا القديمة، الجسد، قد
تحولت بالنعمة والحق إلى طبيعة صالحة كلا، فإن الجسد بل ونفس اهتمام الجسد هو شر
لا يمكن شفاؤه. وقد نفذ الله عليه الدينونة بحسابنا نحن الذين نؤمن بالمسيح كذبيحة
خطية. والآن وقد مات وقام أعطانا من حياة قيامته خليقة جديدة، ليس الخليقة القديمة
محسنة ومصلحة فهذه قد طرحت جانباً إلى الأبد ودينت في صليب المسيح، وما هي حياة
المسيح التي أعطانا منها؟ هل وجدت بها ذرة واحدة من الخطية لطختها وشوهت جمالها؟
هل تسرب إليها قط شيء ولو طفيف من الدنس؟ من فضول الكلام أن نقول كلا وألف كلا.
وهذه هي الحياة التي لنا الآن، ومن أجل هذا تستقر علينا أفراح محبة الله كأولاده –
أولاد الله الآب. إذاً فنحن لنا الطبيعة الجديدة، وهي طبيعة بارة، قبل أن نطالب
بفعل البر الذي هو شيمة تلك الطبيعة والتي لا يعرف الإثم إليها سبيلاً لأنه غريب
عنها.

 

أما
في حالة الإسرائيلي فكان الناموس يخاطب إنساناً له طبيعة خاطئة لأن الناموس كان
يفترض فيه مثل هذا الاستعداد ومن أجل ذلك قد أحيط بمجموعة من الروادع والنواهي.
فكان عليه ألا يعترف بآلهة الكاذبة ولا أن يكون له تمثال أو صورة للإله الحقيقي
لأن السجود وقف على الإله الحقيقي الوحيد الغير المنظور الذي أخرج إسرائيل من أرض
مصر والذي كان على الإسرائيلي ألا ينطق باسمه باطلاً كما كان محظوراً عليه أن يأخذ
أملاك الغير ولا حتى أن يطمع في شيء مما لقريبه أو جاره. وأن يحفظ السبت في اليوم
السابع وأن يكرم والديه. وكل ذلك خشية عقوبات صارمة يوقعها الله عليه. لماذا؟ لأنه
إذا كان في طببيعته ما يضاد مشيئة الله فهو لذلك غير بار. وكان الناموس يعد
بالحياة ويتوعد بالموت: الحياة لمن يطيع والموت لمن يعصي. وملعون الإنسان الذي لا
يقيم كلمات هنا الناموس ليعمل بها – ويقول جميع الشعب آمين. ولأجل ذلك قد صدر حكم
الموت على إسرائيل منذ زمان طويل. ولكن سيأتي يوم فيه هم أيضاً سيحيون ومن ثم
يفعلون البر نتيجة للحياة. إن النفس التي تصنع البر، والطبيعة التي تحب البر لها
حياة جديدة في المسيح، حياة يهبها الله من محض نعمته وبلا أي مقابل من جانبنا
وروحه القدوس هو الذي يعمل فينا للتوبة والإيمان بالإنجيل. وبهذه الحياة الجديدة
تبدأ المسؤولية المسيحية الجديدة. لأننا نكون مطالبين حينئذ أن نسلك كما يحق
للمسيح الذي أعطيت لنا حياته البارة "من يفعل البر فهو بار كما أن ذاك
بار" لأن طبيعة المسيح لا تفعل سوى البر، كما أن طبيعة الإنسان الساقط لا
تفعل سوى الخطية.

 

يتقدم
الرسول بعد ذلك إلى ما هو أعمق فيكشف عن مصدر الشر كله. "من يفعل الخطية فهو
من إبليس" لقد أرانا مدر البركة، وها هو يكلمنا عن أقصى منابع الخطية – لا ما
فعله آدم وحواء فحسب، بل ما نفثته الحية في قلبيهما. وما الذي يشغل بال إبليس من
ذلك الوقت إلا أن يزيد عن خطية الرأس إثماً جديداً لكل واحد من الجنس؟ وهنا يقال
"من يفعل الخطية فهو إبليس". فهو الزعيم الذي ينضوي الإنسان تحت لوائه،
قد يفاخر الإنسان بأجداده، ولكن هناك آخر لم يكن أباً له حرفياً. غير أن الإنسان
الساقط قد جعل الشيطان إلهه في الواقع ولذلك فإن الكتاب يسميه إله هذا الدهر، ورئيس
العالم. فما أصدق القول "من يفعل الخطية فهو من إبليس". ليس فقط إنساناً
خاطئاً بل "من إبليس" هذا هو قول الله وليس قول إنسان. "لأن إبليس
من البدء يخطئ" أي من الوقت الذي لم يقنع فيه بأن يكون أحد ملائكة الله فأخذ
يتصرف في كبريائه بالاستقلال عن الله. من ذلك الوقت كانت بدايته كإبليس، وكان ذلك
بالطبع لاحقاً لتاريخ خلقته كملاك. وهنا أيضاً نرى أن عبارة "من البدء"
لا تعني "في البدء" فهذا الاصطلاح الأخير قيل فقط عن الكلمة الابن في
الأزل قبل الخليقة أو في أول سفر التكوين مشيراً إلى عمل الله وليس إلى وجوده. أما
عبارة "من البدء" فإنها تعني كيفما وردت وحيثما وردت الوقت الذي فيه بدأ
الشخص المتكلم عنه يظهر نفسه. فحينما قيل عن المسيح "الذي كان من البدء"
فالمقصود هو الوقت الذي فيه أظهر المسيح نفسه. وعل هذا القياس نفهم من القول
"إبليس من البدء يخطئ" إنه الوقت الذي ابتدأ يظهر فيه إبليس ليس صفاته
كملاك بل كبرياء ضد الله أولاً ثم الحقد بعد ذلك، وهو ثمر كبرياء المؤكد في
الآخرين أيضاً.

 

"لأجل
هذا أظهر ابن الله لكي ينقض أعمال إبليس". من الواضح أن هذا القول لا يقصد به
مجرد رفع خطايانا. لا ريب أن هذا الغرض العظيم – أي نقض أعمال إبليس – يتناول
أيضاً رفع خطايانا ولكن لنذكر جيداً أن لموت المسيح مدى أبعد جداً من مجرد رفع
خطايانا. صحيح أن رفع خطايانا هو كل شيء بالنسبة إلينا، أو في القليل هو أول أعمال
نعمة الله فيما يتعلق بخطايانا. ولكن المسيح صار عبداً لله وبذلك صار بطله الجبار
ضد الشيطان عدو الله وعدو الإنسان الذي لا يكف عن المقاومة والمناهضة، وقد أظهر
المسيح ليس فقط لكي يصالحنا مع الله بموته بل لكي ينقض كل ما عمله الشيطان في
تاريخه الطويل السود. وهكذا سيفعل في المستقبل فنحن نعلم أن للشيطان شأناًً كبيراً
بالحروب والمجاعات والزلازل والأوبئة وما إلى ذلك كما نتعلم من مطلع سفر أيوب
وغيره من الأسفار الكتابية. صحيح أن الله يحول للخير جميع هذه الأشياء يعملها
الشيطان للشر. ولكن قلب الشيطان طافح بالأذى في كل زمان لا يهدأ حتى ينشر مساوئه
وويلاته، في حين أن لنا محبة الله التي لا تكف عن فعل الخير لجميع الذين يستمعون
إليه. وبخاصة في ما أعلنه عن الرب يسوع. "كل من هو مولود من الله لا يفعل
خطية". البر هو حياته للسلوك كما للتقوى. والمؤمن متميز بالطبيعة الجديدة
التي لا تخطئ. ولنضرب مثلاً: رجلاً كان منذ ولادته عبداً، وفي يوم من الأيام تدخل
إنسان شريف من رعايا دولة قوية مستقلة وأنقذه من أغلال عبوديته – فالرجل يصبح على
الفور حراً طليقاً بمقتضى قانون تلك الدولة التي ينتمي إليها محررة، وهو جميل لا
يقوم بثمن في نظر العبد. فعندما يفكر أو يتكلم عن نفسه من تلك اللحظة هل يظل يفكر
في أنه لا يزال عبداً مأسوراً؟ كلا طبعاً. فكرة كهذه لن تخطر له على بال. مرة كان
عبداً مغلولاً أما الآن فقد صار رجلاً حراً، هنا قد يتعرض واحد بالقول أن الإنسان
العتيق لا يزال في المسيحي. وجوابي هو أن الله قد حرره من ذلك العتيق بموت المسيح.
فالمثل الذي ضربناه فيه من أوجه الشبه ما يكفي لتبرير استخدامه هنا. ولكن مما يؤسف
له أن حظ الأمور الروحية من فهم الناس وإحساسهم هو أقل من حظ الأمور الطبيعية.

 

"كل
من هو مولود من الله". هذه هي نقطة البداءة فالولادة منه هي البداية الحقيقية
ليس من ناحية المشورات الإلهية بل من ناحية عمل الله في النفس. والرسول لا يتكلم هنا
عن الحياة الطبيعية القديمة، بل عن كل من ولد بطبيعة لا تخطئ. فمهمتنا هي ألا نسمح
للطبيعة القديمة بالظهور بل أن نقمعها ونخضعها تحت قوة موت المسيح ونميت كل ما
يتصل بها، وبالنعمة لا ندعها تعمل. قد نفشل، ولكن الذنب يكون ذنبنا لأن لنا الروح
القدس ساكناً فينا لكي يقاوم حتى أننا بلا عذر إن كنا ننهزم. على أن البر هو مبدأ
حياتنا من أولها، وإنها لحقيقة مباركة أن صار لنا كذلك باعتباره طبيعتنا الجديدة
فهو ليس شيئاً نتوقعه كجعالة خارجة عنا نظير الإسرائيلي، بل هو فينا وقد جعلته
النعمة السامية ملكاً لا، ليس فقط لأجلنا من حيث التبرير كما يخبرنا الرسول بولس
بل فينا كطبيعة جديدة كما نرى هنا. لقد أعطانا الله البركة ولذلك وجب علينا أن
نتصرف بما يليق بها معتمدين على الله مصدرها وعلى الرب يسوع مجراها وواسطتها،
لنثبت فيه، وذلك لكي نأتي بثمر كثير لمجد الآب كل الطريق.

 

"كل
من هو مولود من الله لا يفعل خطية لأن زرعه يثبت فيه". إن الرسول لا يقول أنه
ينبغي ألا يفعل خطية بل هو فعلاً لا يفعل خطية. إن كل مخلوق يعمل طبقاً لطبيعة،
ومن خواص طبيعة المسيحي الجديدة أنه لا يستطيع أن يخطئ هذا هو شأن الطبيعة الجديدة
بكل يقين. أما الخطية فهي الأثر المحزن لإطلاق الحرية للطبيعة الساقطة الفاسدة لأن
تعمل عملها – الأمر الذي هو مخالف كل المخالفة لمشيئة الله الذي يريدها مخضعة تحت
موت المسيح. ألم نمت عنها من الأول يوم انتقلنا من الموت إلى الحياة؟ أليس في
معموديتنا شهادة على ذلك؟ أن الشيء الدنس الميت يجب أن يوارى من أمام عيوننا ويجب
أن يبعد عنا ما أمكن. "ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله". لاشك أن
الرسول يستعمل هذا الأسلوب القاطع المانع مستنداً على خواص الطبيعة الجديدة.

 

"بهذا
أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس. كل من لا يفعل البر فليس من الله". وليس ذلك
فقط، بل هناك امتحان آخر هو امتحان المحبة ومن هنا يضيف الرسول قوله "وكذا من
لا يحب أخاه" فإذا ما انعدمت ظاهرة المحبة فذلك دليل على أن صاحبها لم يحصل
على الطبيعة الجديدة التي تحب البر وتعيش فيه.

 

وهنا
أود أن ألفت النظر إلى اللغة الحازمة التي يستخدمها الوحي في الكلام عن هذين
الفريقين – فمن عادة الكثيرين من المسيحيين الأفاضل أن ينكروا على القديسين حقهم
في ممارسة هذا الحكم مستندين في ذلك إلى قول الرب في (مت 7: 1 – 2) "لا
تدينوا لكي لا تدانوا. لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون وبالكيل الذي به
تكيلون يكال لكم". غير أنهم مخطئون في هذا التطبيق، ذلك أن الرب هنا لا ينحي
باللائمة إطلاقاً على التمييز الروحي للأشخاص أو الأمور، الأمر الذي هو امتياز
عظيم للمسيحي ولازم له جداً سواء لإرشاده هو شخصياً أو لمساعدته للآخرين أو
تحذيرهم. وعلى هذا يقول الرسول في رسالة كورنثوس (1 كو 2: 15) أن الروحي (بعكس
الطبيعي) يميز أو يحكم في كل شيء أما هو فلا يحكم فيه من أحد. أما الرب فكان يحذر
التلاميذ ضد عادة المراقب والانتقاد التي تؤدي غالباً إلى اتهام الآخرين ببواعث
شريرة لا أساس لها والتي لا تتفق وغرائز المحبة المقدسة. ولكننا نخمد أنفاس المحبة
إذ نحن سلمنا برأي القائلين بعدم التحقق ممن هم أولاد الله. فلو أن حيل بيننا وبين
تمييزهم فكيف يتسنى لنا أن نحبهم؟ الواقع أن القرينة ذاتها تدل على أننا نستطيع
الحكم والتمييز ومن واجبنا أن نحكم ونميز لأن الرب يفترض أن هذا التمييز ليس فقط
شيئاً ممكناً بل ضرورياً وواجباً يقول تبارك اسمه "لا تعطوا القدس للكلاب ولا
تطرحوا درركم قدام الخنازير". فإذا كنا هكذا تحت التزام أن نميز الطاهرين،
فما أسعدنا بالأحرى أن نعرف ونميز غنم مرعى الله وخرافه، وأن نأخذ بأيديهم بباعث
المحبة ونساعدهم عند الحاجة بقدر طاقتنا.

 

ولكن
لا داعي للابتعاد كثيراً عن آية تأملنا لنعرف أين الحق في هذا الموضوع "بهذا
أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس". إن الرسول يرى الفارق واضحاً بحيث لا يحتاج
إلى شرح كثير. وهو كعادة ينظر إلى الأدلة العريضة الواضحة العملية، غير عابئ بمراء
قد يوجد هنا أو هناك ويظل كذلك وقتاً مادون أن يكشف أمره أو ينفضح ستره، لأن
اهتمام الرسول هو أن يحول أنظار عائلة الله إلى ما له أهمية دائمة وما هو نافع
لجميعهم. والواقع أنه لا توجد صعوبة لتكون رأي صحيح فيما يتعلق بالأفراد الذين
نعرف أخلاقهم سواء كانوا من السالكين بالبر أو العائشين في الشر. على أنه ليس
جائزاً لنا أن نسيء الظن فنزعم أن هنالك شراً خفياً بينما لا يكون في الظاهر شيء
من هذا، أو نبالغ في حسن الظن فننسب إلى البعض الآخر أفضالاً من نتاج التصور
والخيال. أما الحكم العادل – سيما في تطبيق عام كهذا التطبيق – فيقوم على أسس
واضحة لا يمكن لأية نفس مستقيمة كريمة أن ترتاب فيها.

 

ولئن
كان الإنسان العادي يعيش محيطاً نفسه بهالة من الغموض والتظاهر الباطل، فليس
للمسيحي أن يكون هكذا وهو الذي عليه أوضح واجب بكم علاقته بالله والقديسين أن
يتصرف تصرفاً مناسباً، فهو يتعامل كل يوم وكمبدأ عام مع أناس هم إما أولاد الله أو
أولاد إبليس. والمحبة الإلهية العاملة فيه لا يمكنها أن تقف موقف الحياد وعدم
الاكتراث بالنسبة للفريقين بل تتخذ حيال كل منهما موقفاً يختلف عن الآخر كل
الاختلاف. والرسول على كل حال لم ير عائقاً في هذا السبيل وها هو يشجعه أن يعمل
لله وللآخرين معطياً إياه الأسانيد التي تحفظه من التسرع في تكوين رأيه على أسس
غامضة فيقول "بهذا أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس". ولنتأكد أن البر
والمحبة لا يمكن أن يكونا بلا آثار منظورة أمام الجميع. فكلاهما ظاهر بلا ريب في
أولاد الله. وكلاهما منعدم في أولاد إبليس إن لم يكن فيهم ما هو عكسهما على خط
مستقيم.

 

وإنه
لمن المؤلم حقاً أن نرى القديسين ينزلقون في هذا الخطأ الجسيم فيحورون جزءاً من
الكتاب ويهملون جزءاً آخر فما أكثر الأقوال الإلهية التي يتبين منها إنه في ميسور
حتى أبسط المؤمنين أن يميزوا إخوتهم ويحبوهم، بينما هم في نفس الوقت تحت التزام أن
يربحوا المتهاونين فيخلصوهم من الخطر المحدق بهم وينذروا الساخرين المستهزئين.
ولكن حالة الخراب التي سادت في النصرانية هي علة التهاون في هذا الواجب المقدس مع
أنها كان يجب أن تكون أدعى إليه. فالعالم أصبح كنسياً والكنيسة أصبحت عالمية وهكذا
ضربت الفوضى أطنابها على حالة القديسين الفعلية فاختلطوا بقوم مجردين من كل باعث
روحي ولا يمكن أن ينتظر منهم إلا أن يؤثروا بظلمتهم على أولئك الذين كان ينبغي أن
يظلوا أحراراً للرب ظاهرين أنهم له. وهل من يرتاب في أن القديس لا يستطيع أن يرفع
رفيقة غير المتجدد إلى مركز الشركة مع فكر الله؟ وهل نرتاب أيضاً أنه متى وجد
الروحي تحت نير مع الطبيعي فإن الثقل الميت لهذا الطبيعي لابد وأن يغوص بشريكه
الروحي إلى درجة التشبه بأفكاره وطرقه الرديئة؟

 

الخطاب
العاشر

1 يو
3: 11 – 17

"لآن
هذا هو الخبر الذي سمعتموه من البدء أن يحب بعضنا بعضاً. ليس كما كان قايين من
الشرير وذبح أخاه. ولماذا ذبحه؟ لأن أعماله كانت شريرة وأعمال أخيه بارة. لا
تتعجبوا يا إخوتي إن كان العالم يبغضكم. نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى
الحياة لأننا نحب الإخوة. من لا يحب أخاه يبق في الموت. كل من يبغض أخاه فهو قاتل
نفس. وأنتم تعلمون أن كل قاتل نفس ليس له حياة أبدية ثابتة فيه. بهذا قد عرفنا
المحبة أن ذاك وضع نفسه لأجلنا فنحن ينبغي لنا أن نضع نفوسنا لأجل الإخوة. وأما من
كانت له معيشة العالم ونظر أخاه محتاجاً وأغلق أحشاءه عنه فكيف تثبت محبة الله
فيه".

 

لقد
لاحظنا الجزء الأخير من العدد العاشر السابق لهذه الأعداد كان بمثابة حلقة الاتصال
أو بالحري حلقة انتقال من الكلام عن البر إلى الكلام عن المحبة. إن الناس يضعون
كلاً من هذين الشيئين موضع المناقضة للآخر، ولكنهما متحدان تمام الاتحاد في المسيح
الذي هو كمال البر وكمال المحبة. ومن هنا كانت القاعدة منطبقة على المسيحي تمام
الانطباق لأن المسيح هو حياة المسيحي. ونحن قد قبلنا بالحق وبالفعل بواسطة الإيمان
تلك الحياة التي كانت في الرب نفسه، لا حياة آدم التي لجميع الناس بل حياة جديدة
لم تكن في أي واحد منا قبل أن نؤمن بالرب يسوع. إن الحياة ليس لها علاقة خارجية
كالأشياء المادية المحسوسة، ولا هي شيء منظور يقدم نفسه لنا بطريقة ملموسة، ومع
ذلك فنحن نعرف مكان وجودها من أعمالها وآثارها. فإن كان الأمر كذلك فيما يتعلق
بالحياة الطبيعية فكيف ينتظر أن يكون الأمر أقل من ذلك فيما يتعلق بالحياة الروحية
التي هي فوق الطبيعة؟ إنه ليس لنا أن نتساءل عن ماهية الحياة لأننا لا نعرفها. على
انه مهما تكن صعوبة تعريف الحياة وتحديد معناها فإن كل إنسان يعرف أنه متى أدبرت
الحياة حل الموت. قد يعمل الموت في أجسادنا قبل أن نرحل، بل من المحقق أنه يعمل
هكذا منذ دخلت الخطية إلى العالم، وهذا ما يعبر عنه في كلمة الله لأن الجسد
"مائت" (
mortal) أي
قابل للموت. أما الموت نفسه فيجيء عندما تتم هذه القابلية دورها. ويستطيع كل إنسان
بصفة عامة أن يعرف إذا كان كائن ما قد مات أم لا. قد تحدث استثناءات من حين لآخر،
كما لكل قاعدة استثناء، وكما لكل حقيقة صعوباتها، ولكن الصعوبات لا تعرف سبيلها
إلى كلمة الله مع الفطنة الروحية لا شك أن الذين ليست لهم معرفة بالله يصطدمون
بالصعاب هنا وهناك ولكن شكراً لله فإن هذه المعرفة تعطى لنا بإيمان المسيح كما قال
له المجد "هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع
المسيح الذي أرسلته".

 

ومن
هو الذي يملك الطبيعة الجديدة؟ يملكها كل مسيحي من بدء طريقه، ويظل مالكاً إياها
إلى الأبد، يملكها الآن وفي أكمل صورة لأن سيدنا وهو هنا على الأرض تكلم عن
امتلاكنا لهذه الحياة الأفضل "أما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم
أفضل". وما أجمل هذه الكلمة "أفضل". كم كنا نتمنى أن تسعفنا اللغة
البشرية بوصفها بحيث يشعر أولاد الله بعظمة هذه الحياة التي صارت لهم بفضل إتيان
الرب إلى أرضنا وبفضل موته وقيامته لأجلنا. وما هو الفرق بين شقي هذا العدد؟ وما
هو الفرق بين "لتكون لهم حياة" وبين "لتكون لهم (هذه الحياة)
أفضل"؟ يتجلى الفرق إذاً ما قارنا حياة التلاميذ قبل موت المسيح وحياتهم بعد
قيامته وصعوده. إن الحياة التي حصل عليها التلاميذ حينما كان سيدنا على الأرض لم
يكن في مقدورها أن تنفصل علناً عن الهيكل وعن النظام اليهودي ولكن بعدما مات ربنا
يسوع وقام – وهو الذي تنازل وأخضع نفسه للنظام اليهودي فيما يتعلق بالناموس بصفة
عامة – هل كان له شأن مع الناموس فيما بعد.

 

كلا.لقد
انقطعت علاقة سيدنا بالناموس وكل طقوسه منذ لحظة قيامته ه المجد، وما كان ممكناً
أن نقرأ بعد ذلك عن ذهاب المسيح المقام إلى الهيكل أو مساهمته في شيء من طقوس
اليهود كالأعياد وخلافها ولو أن شيئاً من هذا القبيل قد قيل لكان موضع استغرابنا
جميعاً. وهذا بالضبط ما كان مقصوداً أن يتعلمه التلاميذ وكان حرياً بهم أن يتخذوا
منه درساً، ولكنهم لم يستطيعوا أن يحققوه كاملاً من أول الأمر. فنحن عرضة للتباطؤ
في تعلم مثل هذه التغييرات العظيمة، وللقديم دائماً سطوته على نفوسنا. غير أن حياة
المسيح، حياة القيامة، موجودة في المؤمن وبها قد مات لهذه الأمور جميعها. فالمسيح
لم يمت فقط لأجل خطايانا بل لأجل الخطية التي لم تكن فيه البتة ولكنها كانت متأصلة
فينا نحن. ومع ذلك فما عاد للمسيح أي شأن بالخطية فيما بعد، إذ قد مات لها مرة
واحدة وإلى الأبد. لقد كان خالياً منها خلواً مطلقاً وما كان لحركاتها أي سبيل إلى
نفسه البارة القدوسة، وكل ما استطاعت أن تعمله طوال حياته هنا على الأرض وهو
استدرار حزنه ورثائه لأولئك الذين كانت تغرر بهم وتضلهم. أما عندما مات فقد أتم
أعظم وأقوى عمل كان يمكن لله أن يعمله من جهة الخطية.

 

وحتى
عندما يأتي ثانية في مجده، فسوف لا تكون مظاهر ذلك المجد سوى إعلان فضائله
مصلوباً، وذلك بطرقة علنية وقوية. إذن فهذه الحياة الجديدة، ولو أنها ليست ذات
طابع خارجي محسوس، وهي حياة ذات قوة لا تنحل ولا تضمحل. قوة معطاة لها بالروح
القدس الذي ليس هو روح الخوف بل روح القوة والمحبة والنصح. لقد قبل للرسل أنهم
سينالون قوة، وذلك لأنهم كانوا عتيدين لا أن يصبحوا شهوداً للآخرين فحسب، بل أن
يتعلموا لأنفسهم أموراً كثيرة وعظيمة لم يكونوا يستطيعوا أن يتحملوها يومئذ. وقد
برزت هذه الأمور جهاراً يوم أن نالوا لا حياة القيامة فقط بل الروح القدس المرسل
من السماء. وحذار أن نخلط بين الأمرين أو أن نحصر أو نقيد عمل الروح القدس في
دائرة الألسنة والآيات أو غيرها من القوات والمعجزات التي لم تكن سوى علامات
خارجية لإثبات حقيقة واقعية. أي نعم أن قوة الروح الداخلية كانت أعظم بكثير من كل
العلامات الخارجية التي رافقتها. إن العلامات الخارجية قد سحبت من المشهد عندما
تراخت الكنيسة وفشلت في المحبة والحق والنور. وكيف كان يمكن أن يستقي الله ختم
رضائه على حالة غير لائقة كهذه؟ أننا نجد أنه حتى الكنيسة في أفسس كانت مهددة،
وذلك لأنها كانت قد سقطت وتركت محبتها الأولى يوم أن كتب يوحنا رسالته إليها في
سفر الرؤيا. وهذه في الواقع هي صورة الحالة العامة التي أعقبت رحيل يوحنا الحبيب
لأن الرسل أثناء وجودهم كانوا حائلاً كبيراً وسداً منيعاً ضد تيار الانحراف الذي
كان يهدد الكنيسة في أيامهم بمثل هذه القوة.

 

ونحن
نصنع حسناً أن نتأمل في الحياة الجديدة بهذه الصورة لأنها تربط ما بين بر المؤمن
العملي ومحبته العاملة. فالرسول يتكلم هنا لا عن محبة الله، ولو أن هذه لها قيمتها
في الموضوع، ولكن عن محبتنا نحن، كما أنه لا يتكلم عن البر في المسيح الذي هو خارج
عنا ولازم لتبريرنا، بل عن برنا نحن، برنا العملي. وواضح أن هذا البر يتكون من
أثمار جيدة وكيف يمكن أن تكون هناك أثمار جيدة بدون شجرة جيدة؟ أما المحقق فهو أنه
ليس في حالتنا الطبيعية ما يمكن أن يكون شجرة جيدة، وإنما كانت شجرتنا رديئة تحمل
ثمراً رديئاً فلكي نثمر الثمر الجيد لابد من توصيل طبيعة إلهية إلينا. إن الأمر لا
يمكن أن يكون غير هذا، وهذه الحياة الجديدة، الحياة الأبدية، هي موضوع مشغولية
يوحنا هنا. ليس البر المحسوب لنا، أي البر الخارجي الذي لم يكن لنا شيء منه والذي
صرناه في المسيح، بل البر الداخلي الذي ينشئ برنا العملي يوماً فيوماً. إن الناس
قد لا يحبون سماع الحق ولكن ها هو واضح وصريح في أقوال الرسول.

 

فمن
الخطورة والحالة هذه أن نرى البعض يستخف ويستهين بحقيقة ما حصلنا عليه مع أن
الواقع أنه ما من مسيحي حقيقي إلا وله في المسيح (خارجاً عنه) والطبيعة البارة في
داخله التي هي الطبيعة الجديدة بفضل استحقاق المسيح وما يليق به. إذن فنحن لنا
البران: أولهما ما نسميه اصطلاحاً البر "الموضوعي" أي الخارج عنا
وثانيهما البر "الشخصي" أي ما نحن، وذلك لأن المسيحيين لهم بالضرورة
حياة المسيح. وهذه الحياة لا تختلف عن شخصه الكريم، وق أعطانا إياها لكي نحياها
ونحيا بسببها، وهي ذات الحياة التي عاشها المسيح وكانت فيه.

 

ومن
هنا بدأ الرسول قوله "لأن هذا هو الخبر الذي سمعتموه من البدء" ولعل
القارئ يذكر أننا في العدد الخامس من الإصحاح الأول التقينا بنفس هذه العبارة في
قول الرسول "وهذا هو الخبر الذي سمعناه منه" وهنا نلتقي بنفس العبارة
مرة أخرى ولمن في أكثر تحديد. فالمسألة لم تكن قبل البدء بل "من البدء".
وكلا التعبيرين يجعلان الأمر محدداً، وكل ما زاده الناس على ذلك أو ابتدعوه لا
قيمة له على الإطلاق، وأما هذا فهو الذي يبقى إلى الأبد، حق المسيحية الذي لا
يتغير، وهو حق كلي الأهمية، سيما وأنه يتعارض تماماً مع أوهام الناس وأفكارهم
البشرية،وبخاصة مع ما يسمونه التطور، تلك النظرية الباطلة من أساسها والتي هي في
الأمور الروحية أكثر بطلاً منها في الأمور الطبيعية، فهي ضرب من الحدس الوثني
القديم راح البعض يستعيده مؤخراً فيما يتعلق بالطبيعة، وهي نظرية تنكر سلطان الله
ومشيئته في تحديد الأجناس.في حين أن الأجناس وتنوعها، شأنها شأن سائر النواميس
الطبيعية الأخرى الثابتة، هي في ذاتها الأساس الصحيح لعلم الحيوان وليست مجد تقسيم
بشري مبني على المشابهات الخارجية السطحية. فنظرية التطور والحالة هذه تتعارض على
خط مستقيم مع الخلق بمعناه الصحيح، أي مع حقوق الله في الخليقة، ولكن كم هو مخجل
حقاً أن فكرة وثنية جريئة كهذه تجد لها مكاناً بيننا إلى يومنا هذا، لقد كان أمراً
طبيعياً أن تتسلل قديماً إلى أفكار قوم كانوا جالسين في الظلمة الحالكة "لا
يعرفون الله" فكانت تداعبهم وتبللهم أفكارهم قبل داروين وأشياعه بأزمان
طويلة، لكن ها هي اليوم – مع الأسف الشديد – قد ملكت على البعض لبهم وأصبحت هواية
وفتنة من يدعون "فلاسفة" ومن يسيرون في ركابهم من أتباع، هم جميعاً عبيد
أذلاء لفكرة خاطئة هي وليدة الوهم والخيال. وهي وإن كانت نظرية شريرة في تطبيقها
على الحيوانات الدنيا إلا أنها أشر وأنكى في تطبيقها على الإنسان فلو أن المسألة
كانت قاصرة على الحيوانات لهان الأمر لولا مساسه بحقوق الله، فللقوم أن يتصوروا ما
شاء لهم التصور كيف أن فأراً أو قرداً أو أي حيوان آخر قد تطور. أما والأمر يمس
الإنسان وعلاقة الإنسان بالله فهنا الخطورة وكل الخطورة. فالقول بأن الإنسان سليل
عشب من أعشاب البحر أو ما على غرارها مما يسر القوم أن يجعلوه الأصل في الطبيعة،
فهو قول لا يقبله العقل السليم بل هو ضلال خطير بقدر ما إنه يقضي على الضمير وينزع
مسئولية الإنسان الأدبية ويلغي مطاليب الله وحقوقه على البشر باعتبارهم ذريته. إن
الكفر والإلحاد الذي تنطوي عليه نظرية التطور هو الذي يجعلها بغيضة غير محتملة وهو
الذي دعانا لأن نناقشها بمثل هذه الصراحة.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ط طفر ر

 

وهنا
موضوع شيق جديد لأن هذا هو "الخبر" نظير الخبر السابق الذي طالعتنا به
كلمات الإصحاح الأول الافتتاحية بعد الحديث عن ظهور المحبة الإلهية والحياة في ابن
الإنسان على الأرض. هناك كان فحوى الخبر أن الله نور، وأن لهذا النور علاقته بنا
وتأثيره علينا، وهو حق أكيد من حقائق المسيحية كالحق الآخر تماماً الذي فحواه أن
الله محبة. والواقع أن الحق الأول وهو أن الله نور جاء ذكره قبل الإعلان الفعلي
للحق الثاني وهو أن الله محبة. فمع أن الأربعة الأعداد الأولى تضمنت بكل وضوح أن
اله محبة، إلا أن هذه الحقيقة لم تذكر صراحة وتعلن بعبارات فعلية إلا بعد ذلك وهذا
ترتيب إلهي لا بد منه لأنه من الأهمية بمكان أن الإنسان وقد أتت به النعمة المطلقة
إلى الله يظل ذاكراً ولا ينسى أبداً أن الله نور، وأن اقتبالنا الحياة الأبدية في
المسيح ما كان ليقلل من أهمية قداستنا العملية. فإن بركتنا الجديدة التي ننالها من
الله من شأنها أن تجعل الخطية بغيضة لنفوسنا كما برهن الله أنها كذلك في نظره يوم
أن ترك الرب يسوع وهو حامل على الصليب عبئها الثقيل الذي لا يطاق. وإذا كان هو قد
أعطانا تلك البركة التي لا تقدر فلا يسعنا الهروب من المسئولية الأدبية التي
تفرضها علينا وهي السلوك كما في النور. وهي في الواقع ليست مسئولية فقط بل امتياز
عظيم أيضاً. فكم هو جليل ومبارك أننا نحن الذين كنا قبلاً ظلمة بسبب الخطية قد
انتقلنا إلى ذلك النور العجيب، ليس أننا سننتقل عندما نذهب إلى السماء بل قد
انتقلنا الآن فعلاً ونحن هنا في هذا العالم وقد دعينا لأن نسلك بموجب هذا
الانتقال، ولو أننا تركنا لنسير في هذا الميدان بدون ملاحظة الآب المستمرة
واستقرار عينه علينا لكان الأمر فوق طاقتنا وكنا ننفصل عن الله كلما وقعنا في
خطية. إن الخطية تعطل الشركة لا محالة ولكنها لا تلاشي حياة المسيح فينا. إن حياة
المسيح تختلف عن كل حياة أخرى في أنها لا تستطيع أن تفشل. فهي في طبيعتها أبدية –
الأمر الذي يعزينا جداً ولو أنه يؤثر على قلوبنا وضمائرنا تأثيراً قوياً.

 

على
أن الرسول يعود ثانية فيقول "هذا هو الخبر الذي سمعتموه من البدء". وما
هو هذا الخبر الذي سمعوه من البدء؟ هو أن المسيح جاء بالمحبة وأنه أعطانا حياة
وأننا مدعوون ليس فقط أن نؤمن بمحبة الله لنا بل أن يحب أحدنا الآخر كما أحبنا هو.

 

وإنها
لبركة، وإنها لدعوة عجيبة تليق بالمسيح وتفترض تغييراً كاملاً، فإنه إذا كان هناك
شيء يتميز به الإنسان الساقط فهو أن ذاته هي دائماً محور أفكاره ومشاعره. والذات
بكل تأكيد ليست هي المحبة. ولكن ها هم أهل العالم، حتى في لغتهم الدارجة، يطلقون
على الذات "رقم واحد" نعم، فإن "رقم واحد" بالنسبة للإنسان،
ليس هو الله، بل الذات البائسة التاعسة الساقطة، فهي معبود الإنسان وإلهه. على أن
الواحد الأحد، هو، ويجب أن يكون الله الصمد. أي نعم، أن "رقم واحد" يجب
أن يكون مكان الله في نفسي، وقد كان من الطبيعي أن يكون الأمر كذلك لو لم أكن
إنساناً ساقطاً خاطئاً، أما الآن فقد وضع الرب حداً لكل هذا البعد الفاصل بيني
وبين الله وذلك بواسطة دعوة النعمة التي هي ثمرة تنازل الله في شخصه الكريم ليكون
مباركنا، ليس فقط يعمل قام به لأجلنا بل بحياة يحياها ويمنحنا إياها، وهكذا أصبحت
المسيحية العملية عيشة لله وطبقاً لكلمته ليس مجرد اتكال وراحة على المسيح وعمله
خارجاً عنا فقط بل حصولنا على المسيح في داخلنا أيضاً. وكلا الأمرين حق وهما حق
منذ بكور التاريخ المسيحي، لأنه "من البدء" قد سمع الخبر، ولا يمكن أن
يعتريه تغيير إلا للشر. وكم واضح من هذا أن "من البدء" شيء مختلف كل
الاختلاف عن "في البدء" حيث كان اللاهوت موجوداً وحده، وحيث لم يكن من
يسمع ما يدور بين أقانيم اللاهوت حتى ولا ملاك وبالأحرى الإنسان، أما إذا قيل
"من البدء" سمعتم هذا الخبر فواضح أنه يقصد به من الوقت الذي ظهر فيه
المسيح بيننا على الأرض. ثم أن فحوى هذا الخبر ليس أن يحب أحدنا قريبه كنفسه فذلك
كان صوت الناموس قبل المسيح أما دعوة المسيح فهي شيء أسمى من ذلك بكثير كما سنرى
مما يلي:

 

إن
"قريبك" الذي كان الناموس يقصده وكما يجب أن يفهم هو أولاً وقبل كل شيء
الشخص اليهودي، هكذا كانت تفهم هذه الكلمة فإن اليهود لم يحبوا الأمم. ربما لم
يجدوا صعوبة كبيرة إزاء الأمم الذين كانوا يأتون ليحتموا تحت جناحي إله إسرائيل
لأن أفراد كهؤلاء قد يحسبون أقرباءهم بالنعمة. على أن هؤلاء الأقرباء من الأمم
مجموعين معاً كانوا قلة بالنسبة لباقي البشر. كانت راعوث واحدة منهم إذ جاءت تستظل
تحت جناحي إله إسرائيل. ومع أنها لم تكن من نسل إبراهيم فقد اقترنت بشخص خطير
وعظيم في إسرائيل استطاع أن يشركها معه في سلسلة الانتساب التي كان معيناً أن يأتي
منها راعي إسرائيل الرب نفسه – فأمثال راعوث كانوا عملياً أشخاص إسرائيليين. مع
ذلك فلسنا بحاجة هنا لمناقشة هذه النقطة إذ الكل يعلم أن "تحب قريبك"
كانت حتى مجيء المسيح تنصرف إلى أضيق دائرة. لقد وسع الرب تخومها يوم أثار احد
الكتبة هذه المشكلة "من هو قريبي" كما هو الحال دائماً حين يسطع الحق
ولا يستطيع السامعون أن يتخلصوا منه بسهولة فيلجأون إلى الأسئلة التي يظنونها
محيرة. ومن أجل ذلك نطق الرب يومئذ بذلك المثل الجميل المعروف، مثل السامري
الصالح. ويا له من مثل كان كالخنجر في قلب الكبرياء اليهودية! فهو ليس مثل "
الإسرائيلي الصالح"، وهنا قوة المثل. فلم يكن سامرياً آخر هو الذي كان بحاجة
إلى معونة ذلك السامري الصالح. بل شخصاً إسرائيلياً تحول عنه الكل ما عدا هذا
السامري غريب الجنس. حتى أن كان لاوياً هو الذي رأى البائس المتألم، أو لأن كان
كاهناً هو الذي رآه – فما شأن كل منهما به. إن الأمر لا يعنيهما ولا يدخل في دائرة
اختصاصهما. وهكذا تجاهل كل مهما قريبه مع أن الظرف كان يتطلب محبة وعطفاً. أما
السامري فلم ينح نحوهما، بل ضمد جراحه وعنى به. ألم يكن هذا السامري رمزاً مناسباً
للرب نفسه؟ ويا له ممن مثل مبارك إذ كان الرب قد قصد بإعطائه أن يكون رمزاً له، فإن
ذاك الذي أخلى نفسه وتنازل ليكون "عبداً" لم يكن ليضيره أن يستتر في
صورة "سامري". لقد جاء ليحمل خطايانا في جسمه على الخشبة، يحملها وحده،
ويتألم عنها وحده، البار من أجل الأثمة، لكي يمحوها إلى الأبد فلا عجب إن لم يخجل
من أن يكون سامرياً في المثل. ولكن كم كان الأمر محطاً في نظر اليهود الذين لقبوه
بهذا الاسم ازدراء وتحقيراً!

 

غير
أن المحبة المسيحية نوع آخر على الإطلاق فهي محبة من نوع محبة الله ومستمدة منها.
ولمن أظهر الله محبته أولاً إظهاراً كاملاً؟ لأولاده، ولا شك أن قليلاً من الإدراك
لهذه المحبة يكشف عن مبلغ الانحراف الذي انحدرت إليه النفوس في النصرانية وبخاصة
في هذه الأيام الأخيرة. إن أضعف مسيحي يكن في قلبه عطفاً غير قليل نحو الخطاة
الذين هم في خطر الهلاك. ها هو شعور المسيحيين الحقيقيين بصفة عامة من نحو الخطاة
ولكن قلما يهمهم أمر قديسي الله وهل هم يمجدون الله وابنه أم لا. إنهم يرون في
تجديد الخطاة غايتهم القصوى، أما ما عدا ذلك فأشياء ثانوية. أفليس أمراً محزناً
الوقوف عند هذا الحد؟ هل هو شعور الله؟ وهذا هو كل ما عنى به ابنه العزيز يوم كان
على الأرض لقد كان له المجد غرض محبة الله ورضاه كل حياته قبل أن يأخذ مكاننا
كخطاة ويحمل خطايانا على الصليب، وهكذا كان تبارك اسمه الإعلان الكامل لمحبة الله
فكيف به لا يحب أولاد الله؟

 

والآن
– فيما خلا الكفارة – قد حللنا محله وصار لنا مكانه. فنحن أولاد الله ونفس المحبة
التي استقرت عليه تستقر الآن علينا كما يخبرنا الرب في ختام (يو 17). وهذا شيء
أعظم بكثير مما يتصوره مع الأسف معظم أولاد الله فيما يتعلق بأنفسهم صحيح أنهم لا
ينكرون كلمات سيدهم ولكن هل يبدو عليهم أنهم يفهمونها، وأنهم يتكلمون ويتصرفون كما
لو كانوا يشعرون بقوتها، وأنها تحمل في طياتها نموذج امتيازهم ومسئوليتهم؟ ولا شك
أن شعورنا بأننا محبوبون بهذا المقدار وبهذا النوع من الحب يجعل قلوبنا تتجه
بالمحبة نحو أولئك الذين هم غرض ذلك الحب نظيرنا بالسواء.

 

ولكن
من المهم أيضاً أن نفهم أن محبة مثل محبته هذه كانت شيئاً جديداً لم يسبق لها
مثيل. فمن ذلك اليوم فقط، أي منذ أن ظهرت هذه المحبة الجديدة، صارت الوصية أن يحب
أولاد الله بعضهم بعضاً، وقد أسماها الرب "وصية جديدة"، والواقع أنه كان
شيئاً جديداً أن نعلم أن الله آخذ الآن في تكوين عائلة، وعائلة تجمع معاً في واحد
– هم أولاد الله الذين كانوا متفرقين ذلك كان شيئاً جديداً كل الجدة لم يعمل مثله
قبل ذلك قط، ولكن هو ما يعمله الله الآن في صورتين خاصتين، فهي وحدة عائلية في
كتابات يوحنا، وهي جسد المسيح الواحد في كتابات بولس وكلتا الصورتين تتفقان معاً
في كونها وحدة إلهية بطريقتين متميزتين: إحداهما أن المسيح قد جاء بطبيعة الله
ليهبها لمن يقبلها على الأرض، والذين قبلوها، أولاد الله، يجمعهم إلى واحد وهذه هي
الوحدة العائلية، والثانية صورة الجسد الواحد لأن المسيح ممجد في السماء ونحن
بالروح قد اتحدنا به في الأعالي، وهذه هي وحدة الرأس والجسد فرأس الجسد هو الإنسان
الممجد، ومركز العائلة هو يسوع ابن الله والمسيح في الأعالي هو كلاهما.

 

فهنا
إذن نرى حدود تلك المحبة وهي أن نحب أحدنا الآخر، فهي ليست المحبة التي تحمل
الإنجيل للناس الهالكين، ولا هي محبة الناموس أو محبة القريب، إنما هي محبة
العلاقة الإلهية متجهة نحو أفراد عائلة الله. والمحبة لأولاد الله هي لجميعهم على
السواء في أقاصي الأرض كما لمن يحيطون بنا عن قرب. فهم جميعاً أعضاء جسد المسيح
على السواء. ومطلوب منا تطبيق هذه الحقائق على البعيدين منهم كما على الذين هم
بمقربة منا، وإذا لم نعمل بها فإننا حينئذ نكون مقاومين لكلمة الله أو مزدرين بها،
ونحزن الروح القدس الذي فينا ليعيننا على تتميم مشيئة الله في حياتنا.

 

وهنا
ينتهز الرسول الفرصة لكي يتعمق أكثر، فيوازن بين أولاد الله وأولاد إبليس موازنة
قوية حاسمة، متعقباً كلاً منهما إلى اصل البذرة، فلا يكتفي بأن يسمي الفريق الآخر
أشراراً أو أبناء الغضب كالباقين بل يدعوهم هنا "أولاد إبليس". وهذه
التسمية تحدد الأمر تحديداً قاطعاً وتجعل الفارق خطيراً مرعباً، ومما يزيد في
خطورة الأمر أنه يرجع إلى أوائل أيام الإنسان الساقط على الأرض بعد أن ولد أولاد
لآدم وحواء فيبدأ بأكبر الولدين إذ يقول "ليس كما كان قايين من الشرير".
فقايين ليس هو قياسنا الذي نحتذيه. بل يجب أن نبتعد عنه ونتحاشاه. ولماذا؟ لأنه
"ذبح أخاه" مدفوعاً بشره وحقده. لا شك أن ذلك لم يكن حباً بل بغضاً
وكراهة، وهذا ما يريد يوحنا أن يينه ويبرزه. فهو لا يسمح بحالة وسطى بين المحبة
والكراهية، ولا يوافق على ذلك الخليط من المشاعر والأفكار الذي يروق بعض الناس
ويستهويهم. فإن كل محاولة لتبرير فعلة قايين والتماس العذر له إنما هي تشويه للحق.
ومن الأهمية مكان أن نعرف أنه لابد من إقامة فاصل واضح وحدد بين ما هو من الله وما
هو من إبليس، وهذا ما نراه هنا.

 

ومما
هو جدير بالملاحظة كشيء عجيب يبين مدى خطورة الحق الذي يعالجه الرسول هنا أن قايين
كان القائد والزعيم لابتكارين أو تجديدين.فهو أول من أنشأ الديانة الجسدية أو
الطبيعية، إن قايين لم يكن ما يسميه الناس رجلاً لا دينياً، إذا كان المقصود من
ذلك أنه لم تكن له ديانة. يوافقه في هذا رجل يومنا الذي يذهب بانتظام إلى كنيسته
أو معبده. إن ديانته كانت مجرد ديانة الجسد أو الطبيعة، فلم نثر في نفسه أقل تساؤل
عما إذا كان قربانه يوافق حالته أو يطابق فكر الله والناس بوجه عام لا يهتمون بذلك
على الإطلاق ويكفيهم أن آباءهم كانوا يذهبون إلى تلك الكنائس أو المعابد وقد أخذوا
هم عنهم. لقد تعمدوا، وتثبتوا، وتناولوا الأفخارستيا أو أصبحوا – على حد تعبيراتهم
– أعضاء في الكنيسة أو الجماعة. وهي كلها أشياء تليق بالإنسان الراقي المهذب.

 

هكذا
كان قايين الذي اختار لنفسه نوعاً من العبادة بها يقترب إلى الله بطريقته الخاصة
فربما قال في نفسه: هوذا لا يوجد فضل من الأزهار والأثمار التي أبدعها الله في هذا
العالم الجميل، وقد غاب عنه أنه عالم ساقط وأنهم جميعاً مطرودون من الجنة ولكنهم
سرعان ما نسوا ذلك، وسرعان ما نسوا السبب في ذلك. لقد نسى قايين الخطية الخاطئة
المتمردة التي اضطرت الله أدبياً أن يصدر أمر الطرد على آدم وحواء. ومن هنا رأى أن
واجبه الديني يحتم عليه أن يقدم ما ظنه أفضل نتاج الأرض، ولا شك أن ذبيحة أخيه
هابيل أفزعته وربما قال في نفسه: يا له من غر بليد! إنه يزمع أن يقدم حملاً صغيراً
يذبحه قدام الرب! ما هذا العمل! كم هو مفزع للرب، وكم هو وحشي في حد ذاته! وأي ذنب
فعله الحمل! ولماذا يتخذ الذبيحة من أبكار غنمه ومن سمانا! لا ريب أنه أخطأ فهم
صفات الرب. فهل هو يسر بالدم أو الشحم؟ هل يلتذ بذبح حيوان مسكين بريء سبق أن منحه
الوجود؟

 

هذه
خواطر وأفكار لابد جالت حينذاك في رأس قايين كما تجول في رأس الكثيرين اليوم بصفة
عامة. وهذه بالضبط أساس كل ديانة طبيعية جسدية من أي نوع كانت وفي أي زمان وجدت.
ديانة منشأها تفكير الإنسان في ما يوافقه ويروقه شخصياً ويروق الآخرين في علاقتهم
بالله ولكن بما أن الإنسان هو مصدرها الوحيد فلا شيء فيها من الله، بل كل ما فيها
ادعاء الإنسان واعترافه الأجوف.

 

وماذا
عن هابيل؟ لقد فكر هابيل بالإيمان في هذه الأمور تفكيراً عميقاً، ولقد اهتدى على
الأقل إلى تلك الحقيقة المرعبة وهي أنه إنسان خاطئ قدام الله فلا شك أنه كان قد
تعلم من أبويه ما قاله الله عن السقوط، كما تعلم أيضاً أن الله قد تكلم عن شخص آخر
عتيد أن يتوسط في المشهد، وهو نسل المرأة الذي سيتمم عملاً لم يكن في مقدور أي
مخلوق أن يقوم به، ألا وهو إبادة الحبة ونسلها اللذين هم أعداء كذلك. بل أكثر من
هذا فلم يكن أمراً تافهاً لدى هابيل أن يسمع أن الله قد ألبس أبويه أقمصة من جلد
بدلاً من أوراق التين. هذا العمل لم يكن له أية أهمية في نظر قايين. أما هابيل فقد
أدرك بكل يقين على حق هام وعظيم. لقد أدرك فيه الموت بكل معانيه. الموت! وكيف
يتسنى الاكتساء بثماره؟ لا شك أنه ليس موتي أنا الذي هو أجرة الخطية بل موت شخص
آخر غامض وعجيب! ذلك أن الرب-الكائن الرب كان يشير في نعمته – كما آمن هابيل وكما
نؤمن نحن أيضاً. إلى الكساء الوحيد للإنسان الساقط الخاطئ، رجلاً كان أو امرأة،
أولئك الذين كانوا برغم أوراق التين (أي لباس الطبيعة) عراة في خطيتهم. فقبل أن
يقع أبوانا في الخطية كان عريهما بريئاً، أما بعد السقوط في التعدي الجريء فقد
انكشف عريهما إلى أوراق التين يستتران بها على أنهما لم يكونا أقل من قايين
التماساً للحيلة. مع فارق واحد وهو أن الله تنازل وصحح تصرفهما وهما من جانبهما
قبلا التصحيح. "وصنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة من جلد وألبسهما" –
وكان لباساً مؤسساً على الموت ومن هنا تعلم هابيل بالإيمان أن يجمع هذه الأمور
معاً، وبمقتضى ما أدركه أحضر أبكار غنمه. "إنه بدون إيمان لا يمكن إرضاء
الله"، والإيمان يستند ويستريح على شهادة الله أنه ليس أي ولا لك أن نحدد مدى
ما وصل إليه إيمان هابيل، غير أن الشيء الذي لا شك فيه هو أن فطنته كانت فطنة
إيمان، أما قايين فلم تكن له هذه الفطنة. قد تكون فطنة محدودة ولكنها واضحة
وحقيقية بقدر ما هنالك من نور وإعلان. وهذه هي النقطة المهمة، أن يكون الإيمان
حقيقياً ومن الله.

 

لقد
كان إيمان هابيل على جانب عظيم من البساطة ولكنه تميز في الوقت نفسه بالإدراك
الروحي. لقد أحضر من أبكار غنمه حملاً ليموت. لم يكن قربان قوة، لا ذئباً ولا
أسداً ولا دباً ليصارع الحية، بل على العكس حملاً صغيراً ليموت. "فنظر الرب
إلى هابيل وقربانه". نعم، ألم ير فيه، كعهده من قبل وطوال الأزل، ما كان بعد
غامضاً حتى في نظر أي مؤمن؟ ألم ير فيه الحمل الذي بلا عيب ولا دنس المعروف سابقاً
قبل تأسيس العالم ولكنه العتيد أن يظهر في المسيح وفي دمه لأجلنا في الوقت المعين؟
هنا تبدو بذرة الحق الإلهي وبها قد استمسك هابيل رافضاً الأفكار البشرية. أما الرب
فلم ينظر إلى قايين ور إلى قربانه المأخوذ من ثمر الأرض.

 

لقد
لاحظنا من قبل كيف أن قايين كان أول من ابتدع مباهج العالم، ولكن هناك ما هو أهم
من هذه المظاهر الخارجية بكثير إذ كان هو أول من أدخل ديانة العالم أيضاً. وهذه
النقطة الأخيرة هي مشغولية الروح البارزة في رسالة يهوذا التي تشبه رسالة يوحنا الأولى
أكثر من أية رسالة أخرى مع ما بينها وبين رسالة بطرس الثانية من مشابهة عجيبة.ووجه
المشابهة بين رسالة يهوذا ورسالة يوحنا هو أن كلتيهما تشيران إلى الارتداد، هذا هو
الخط الأسود الحالك الذي يميز كلتا الرسالتين، ذلك الشر الدفين، روح الارتداد
العامل في السر (الذي مع ذلك ما كان ممكناً أن يخفي عن عيني ذاك الساكن في
الكنيسة) والذي هو نذير الارتداد الأكبر القادم فإن يوحنا يتكلم في رسالتيه عن
أضداد كثيرين للمسيح قد ظهروا في يومه، هم طلائع ضد المسيح الأكبر، ولكن يهوذا،
أخو يعقوب وعبد يسوع،يتكلم عن "طريق قايين" وطريق قايين غير محصورة في
قتل أخيه، بل نرى فيها الشر الديني كما في بلعام وقورح سيما وأن المسألة الدينية
كانت الباعث المباشر للقتل. زد على ذلك أن قايين كان في أخلاقه العامة رجلاً سوراً
داعياً شريراً، كما يقول الكتاب أن "أعماله كانت شريرة وأعمال أخيه بارة"
فهو والحالة هذه كان خير رجل يصلح لأن يكون مؤسس "العالم" والديانة
الطبيعية ولا عجب إذا كان يرى وطنه يضيق به، وكأن لسان حاله يقول: تباً للوحدة
والعزلة. إن الاتحاد قوة. فلنتحد. وإذا كان رجلاً نشيطاً فقد استطاع أن يقنع آخرين
ويحملهم على الاتفاق معه، وفد كانت إرادته أقوى من إرادتهم، فكان أول من بنى مدينة
ولك أن تثق أنه كان حاكم المدينة عندما بدأت تظهر. وهذه هي طبيعة ا؟لإنسان
ومشيئته. فهو يحب القوة والنفوذ، وقد رأيناهما في قايين ولكنه قبل ذلك أدعى التدين
أيضاً. وهذه كانت بصفة خاصة المناسبة العلنية لسقوطه لأنها كانت نقطة انفصاله عن
الله ومنشأ جريمة القتل التي نتأمل فيها والواقع أن ديانة العالم وحضارته تسيران
معاً جنباً إلى جنب. صحيح أن آدم وحواء لم يكونا همجيين كما يقول بعض الأردياء،
ولكن من ذا الذي يزعم أن حالتهما كانت نوعاً من الحضارة؟ على أن العيشة طبقاً
لمشيئة الله هي بلا شك أسمى بكثير من الحضارة. وما هي قيمة كل هذا التقدم الذي
يتفاخر به الناس؟ وما هي قيمته في نظر الله، أو ما هي قيمته لخير النفس والروح؟

 

إن
العالم جذلان اليوم لما أصابه من تقدم وها هو الكتاب يرينا أن بواكير هذا التقدم
كانت اختراعات قايين. ففي أسرته قام من اخترع العود والمزمار والآلات القاطعة من
نحاس وحديد أو بعبارة أخرى آلات الرفاهية والطرب والفخفخة والعيشة المريحة الهنيئة
في الحياة الأرضية، ولما كان التقدم لا يستقيم ما لم تصاحبه صناعة التعدين، فقد
نشطت سرة قايين لتوفير الخامات اللازمة في غير إبطاءأسرة قايين لتوفير الخامات
اللازمة فيغير أأأأ أتناتناعناعنأسرة قايين لتوفير الخامات اللازمة في غير إبطاء.
ثم جاء لامك وأدخل مبدأ تعدد الزوجات. والغريب أن أول نظم شعري نسمع به في التاريخ
البشرية نطق به الرجل موجهاً إياه ليس إلى الله في تسبيح أو توبة بل إلى زوجتيه.

 

هناك
أنشد هذا الرجل قطعة صغيرة من شعر الأغاني لامرأتيه عادة وصلة يبرر فيها فعلته
ويعظم ذاته ويهذي من روعها في نغمة تنم عن التحدي وغير خالية من الادعاء الآثم
بموافقة الله ومصادقته حيث يقول أنه إذا كان ينتقم لقايين سبعة أضعاف فسبعة وسبعين
ينتقم له، وهكذا يحول لامك كل شيء لتعظيم ذاته.

 

هذا
هو العالم وهذه هي ديانته وهي بعد في أكمامها. ولكن هنا تربض الحقيقة "ولما
ذبحه؟ لأن أعماله كانت شريرة وأعمال أخيه بارة" في هذا العدد يكشف لنا الروح
القدس عن حالة كل منهما الأدبية سواء قبل التقدمة أو قبل ابتناء المدينة، أعمال
قايين كانت شريرة وأعمال أخيه بارة، أعني أن هذه كانت حالتهما العادية قبل
المناسبة التي أثارت سخط قايين. ولكن من المفيد أن نرى السبب المباشر في ثورته
وانفجاره. كل ما هنالك أن الرب قبل هابيل وقربانه ورفض قربان قايين. هذا كل ما
حدث، وهذا ما لم يطقه قايين ويحتمله، وقد زاد اشتعالاً ما كان عليه من كبرياء. ولم
يقف سخطه عند حد. وحيث أنه لم يكن في استطاعته أن يفعل شيئاً ضد الرب شخصياً فقد
تحول بغله وغيظه إلى أخيه. إنما الضربة كانت موجهة في الحقيقة إلى الرب، لأن رفض
الله إياه كان في عينيه أشنع بكثير من قبول أخيه ولو أن هذا ضاعف من غيظه وهياجه.
ولم يكن ضميره يحس بالخطية ولا بالله. فالإحساس بالخطية والإحساس بالله يساير
أحدهما الآخر، لأن الإحساس بالخطية هو الذي يستحضر الله أمام النفس، ويستحضره
كديان للخطية. فماذا تكون عاقبة ذنبنا في عينيه؟ القضاء والإدانة لا محالة. ولكن
أليست هناك رحمة للخاطئ؟ نعم هناك رحمة، بل إلى الأبد رحمته، كما يعرف المسيحي،
وكما سيعرف إسرائيل بكل يقين في يوم قادم بالنعمة. إلا أن قايين لم يؤمن بهذا،
ولذلك تحول من العناد إلى اليأس. وإذا كان شريراً في ذاته فلم تكن لديه أية فكرة
عن وجود صلاح في الله حتى لشرير الذي يرجع إلى الله عندما يدعوه بالنعمة. لقد عرف
جيداً واختبر في نفسه أنه إذا أخطأ في حقه شخص ما فلن يجد عنده ذرة من الرحمة.
وإذا لم يشعر قط بحاجته إلى مخلص ولم يتقبل من الله بيد الشكر أو أشد من حيث عدم
الرحمة بالمذنب.

 

وبعد
ذلك يأتي التطبيق. "لا تتعجبوا يا إخوتي إن كان العالم يبغضكم". ومن
المهم أن نلاحظ الفروق في التعبيرات. فقد سبق أن خاطب "الأولاد" بصفة
عامة، كما خاطب الآباء والأحداث والأولاد الصغار بصفة خاصة، وهاهو الآن يخاطب
"الأخوة". وليس من العسير أن ندرك صلاحية كل واحد من هذه التعبيرات فإنه
مزمع أن يتحدث عن المحبة الأخوية ولذلك أخذ يخاطبهم كإخوة. وينبغي ألا نمر على أية
كلمة من أقوال الله دون أن نزنها ونعيرها لاهتمام اللازم لنعرف لماذا استخدم الله
هذه الكلمة دون غيرها. والإيمان يعلم أن طريقة الله هي دائماً الأحسن والأصوب.

 

"لا
تتعجبوا يا إخوتي إن كان العالم يبغضكم" وهنا نحن نتساءل: ممن يتكون العالم؟
ومن هم أولئك الذين يشير إليهم الرسول بصفة خاصة؟ مبدئياً على الأقل هم أولئك
الذين كانوا مرة في شركة الكنيسة ثم هجروها. وهم دائماً شر الكارهين. لأن الذين
يتحولون عن الحق يبغضون لا الحق وحده بل ومن يتمسكون به إذ هم لا يطيقون أياً
منهما. لماذا؟ لنفس السبب الذي أثار قايين، وهو وجوب إدانة الذات، فلا شيء يستفز
المرتد الشرير إلا أن يقال له أنه يستحق الدينونة أو أنه يجب أن يدان. فهو يحاول
أن يستبعد كل شبهة تتعلق بشره إذ قد أعماه العدو وبما أنه واقع تحت أكذوبة الشيطان
فإنه أيضاً يشاركه في روحه القتالة.

 

هذه
إذن هي روح العالم، وبخاصة أولئك الذين كانوا مرة يعترفون بالحق وقد هجروه. أمثال
هؤلاء هم الذين يشار إليهم بصفة خاصة خلال هذه الرسالة. لقد ظهروا مرة بمظهر من
تركوا العالم وراءهم، وهاهم قد عادوا أدراجهم إلى ذلك العالم الذي كانوا قد رفضوه
ظاهرياً. إنما كان ذلك انفصالاً سطحياً لا غير، والرابطة التي كانت تربطهم بالعالم
لم تنقطع انقطاعاً حقيقياً، ومن ثم فقد عادوا بقلوبهم – التي لم تعد تستهويها جدة
الحق – إلى حبيبهم الأول، وكان في ذلك البرهان كل البرهان على أن اسم يسوع لم
يربحهم لله قط ولو أنه له في بعض الأحيان تأثيراً واضحاً حتى على غير المتجددين.

 

ومن
المهم بهذه المناسبة أن نرى تأثير المخلص على بعض الغارقين في العالم. خذ مثلاً
طبقة الفنانين، الذين لا يسعك إلا أن تحكم على الفور أن التقوى ليست من خصائصهم
كفريق، بل هم على العكس غارقون في الاستهتار والمتع العالمية من كل نوع. نحن نعرف
بالطبع أنه وجد عدد غير قليل من الرسامين المسيحيين، لذلك لست أفكر في أن أتجاوز
الواقع فيما يتعلق بهم إذ أتكلم عن الرسامين كفريق. ثم خذ طبقة الشعراء. إن صديقنا
المفاضل مستر كوبر الشاعر كان يرى في زملائه رأياً قاسياً للغاية. فقد قال فيهم
أنهم طغمة فاسدة بصفة عامة، ليس هناك على ما نعتقد من يحق له أن يصفهم الوصف
الصحيح مثل كوبر. فمع أنه كان شاعراً أصيلاً من الطراز الأول إلا أنه سر أن يبرئ
نفسه من كل أنواع المشاركة مع زملائه لأنهم – نظير الرسامين – ميالون لأن يشبعوا
غريزة البطل والغرور في الرجال والنساء بكاذب المديح والإطراء وأن الكثيرين منهم
في الواقع يتعيشون من ذلك، سيما وأن الآباء بطيعة الحال يهمهم كثيراً أن يحتفظوا
برسوم أبناءهم. على أن الرسامين قد تأثروا كثيراً بصورة الرب يسوع التقليدية
الخيالية. فكل من له إلمام بتماثل القدماء لا يسعه إلا أن يحكم أن تماثيل اليونان
كانت شهوانية نظير أصحابها تماماً. فقد كانت تماثيلهم صورة حقيقية لأخلاقهم. ولكن
نقوش العصور الوسطى (أي بعد دخول المسيحية) وبخاصة المتأخر المشهور منها الذي وصل
إلى أيدينا في الوقت الحاضر قد تأثر تأثيراً عجيباً بصورة المسيح التقليدية. وما
أعظم الفرق بينها وبين تماثيل القدماء. فإنه حتى في هذه النقوش والرسوم تستطيع أن
تلمح جمال القداسة معكوساً بقدر ما استطاع إنسان عالمي أن يظهرها كفكرة. هناك
تستطيع أن ترى وداعة التواضع وإمارات التوكل على الله غير المنظور. هناك أيضاً لا
تعود ترى تلك الصور الماجنة التي تلطخت بها العصور القديمة. فاختلفت صورة أفروديت
وأبولو التي عبثت بأخلاق الإغريق وأحدرتهم إلى مهاوي الفساد، وحلت محلها صورة
العذراء وطفلها، مما حمل الكثيرين على توقير الطهارة وتمجيدها أكثر من كل ما كان
يخطر بال أولئك القوم من قبل. ومع ذلك فحاشا لي أن أرى في هذا كله أكثر من تأثير
سطحي. بل على العكس أن قلب الإنسان هكذا شرير حتى أنه استغل هذه الصورة فهوى إلى
عبادة الوثنية في الأم على حساب ابن الله الجدير وحده بكل عبادة وإجلال.

 

غير
أن هذا على كل حال كان مبلغ تأثير اسم الرب يسوع (ذلك التأثير القوي وإن كان
سطحياً) على أولئك الفنانين والشعراء الذين لم يتساموا قط فوق ما هو بشري ولم يكن
لهم الإيمان الحقيقي بالآب والابن.

 

فلا
يدهشنا الأمر كما قدمنا أن نرى الأشخاص الخادعين نفوسهم الذين دخلوا الكنيسة خلسة
قد تأثروا تأثراً عميقاً بكل ما يحيط بهم وبما لذلك الاسم المبارك من تأثير روحي
عظيم. ولكنها تأثيرات لم تتعد عقولهم. فالمسيح لم يكن حياتهم وإلا فما كانا
ليتركوه، وما كان ليتركهم. "لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا".وما داموا
لم يبقوا فماذا كان من أمرهم؟ أخذوا تدريجياً موقف المقاومة العلنية وبخاصة عندما
رفض المسيحيون أن يخلعوا اسم المسيحية عليهم وعلى المرتدين أمثالهم. ولذلك
"لا تتعجبوا يا إخوتي إن كان العالم يبغضكم". لقد أصبحوا جزءاً من ذلك
العالم القاييني الذي بدأ بالادعاء الديني وانتهى بالقتل.

 

ولكن
الرسول يفارق بين هذه الحالة وبين المسيحية الحقيقية فيقول "نحن نعلم إننا قد
انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الاخوة". وهذه عبارة جديرة بكل تقدير
واهتمام لأنها ترتبط مباشرة بأقوال أخرى خطيرة جاءت في الإنجيل. ففي (يو 5: 24)
استخدم الرب نفسه الفقرة الأولى من العبارة مطبقاً إياها على المؤمن الفرد دون
الجمع حيث يقول "الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله
حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة".

 

إذاً
فنحن أمام مشابهة لفظية بين عددين مختلفين. ولكن المشابهة اللفظية ليست كل شيء،
يقولون أن ما يميز الإنسان الذكي هو مقدرته على كشف المشابهة بين الأمور المتخالفة
مما يثير دهشة الكثيرين وإعجابهم، ولكن هناك ما هو أفضل بكثير من الذكاء وهو الحكم
الصحيح الذي يمتاز باكتشاف الفروق بين الأمور التي تبدو متشابهة وهو مع الأسف ما
يفشل فيه الكثيرون.

 

فما
الفرق بين العددين؟ في الإنجيل نرى الرب يوضح كيف يحصل الإنسان الآن على الحياة
الأبدية بواسطة تصديق شهادة الله عن ابنه، حتى أنه بذلك لا يأتي إلى الدينونة التي
هي مصير كل إنسان بعيد عن المسيح. هذا ما يقوله سيدنا والواقع أن كل من يأتي إلى
الدينونة لن يستطيع الخروج منها. فالدينونة معناها احتمال الإنسان ما يستحقه. وما
الذي استحقه أنا وأنت أيها القارئ؟ ألم نكن مجرمين فجاراً عديمي القوة على فعل
الخير والصلاح إلى أن خلصنا بالنعمة؟ فلا تظن أن أي إنسان يستطيع أن يذهب إلى
الدينونة كما هو ثم يخرج منها. كلا. فإن مآل الدينونة بحيرة النار التي لا مفر
منها. ولكن ليس هكذا يعامل الله الذين يؤمنون. إن المؤمنين لهم حياة أبدية ولا
يأتون إلى دينونة. هذا ما يقوله الرب بفمه الطاهر بكل صراحة ووضوح، وذلك لأنه له
المجد احتمل في نفسه دينونة خطايانا على الصليب. إن فكرة الدينونة مع الحياة
الأبدية فكرة شنيعة ولا معنى لها في الواقع. إذ كيف يتأتى أن يكون للإنسان حياة
أبدية ثم يؤتى به إلى دينونة؟ ولتأييد هذه النعمة وتدعيمها أكثر يقول السيد
"وقد انتقل من الموت إلى الحياة" إن الموت كان قبلاً حالته الهالكة بسبب
الخطية أما الآن فهو حي بحياته (أي حياة المسيح). وهذا التغيير قد تم للنفس من
الآن ولو أنه لم يتم للجسد بعد ولكنه مضمون له ومؤكد في قيامة الحياة كما نقرأ في
(ع 29).

 

إذاً
فالعدد 24 الوارد في الإصحاح الخامس من الإنجيل ينطوي على كلمة مباركة جداً للخاطئ
المسكين الذي يريد أن يعرف كيف يحصل على الحياة الأبدية. ولكن هذه ليست على
الإطلاق القضية التي تتناولها الرسالة فالموضوع هنا ليس الإيمان للحصول على البركة
بل ما نعلمه "نحن" الإخوة المؤمنين فعلاً، وبرهانه العملي أننا نحب
الاخوة. لا شك أننا لم نكن أكفاء لهذه المحبة بدون الحياة الأبدية باعتبارها الطبيعة
الإلهية التي تحب بحسب الله. ومن هنا كان التحديد بضمير المتكلم "نحن"
مشيراً إلى الاخوة المؤمنين فقط واضحة لا تقبل الشك ولذلك فالعدد 14 في الرسالة
يختلف كل الاختلاف عن العدد 24 في الإنجيل. ولكن ليس معنى هذا الضمير
"نحن" ينصرف إلى الاخوة المؤمنين في جميع الأحوال، فالقرينة هي التي
تحدد معناه ومن الجهالة بالمكتوب الزعم بأنه متشابه في كل مكان. أما هنا فيقصد به
جماعة المؤمنين على وجه التحديد إذ يقول "نحن نعلم (علماً باطنياً) إننا قد
انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الاخوة". وما أعظمه من فارق!

 

فما
الذي يعرفه غير المؤمن عن هذا التغيير؟ ومن أين له أن يعرفه؟ إن عديم الإيمان هو
في الموت والخطايا، وإلى الدينونة يمضي. والإيمان وحده هو الذي يتناول البركة التي
يقدمها المسيح هنا. أما الاخوة فيحبون بعضهم البعض كإخوة في عائلة واحدة هي عائلة
الله وكمن قد آمنوا فعلاً. فالمفروض أننا نحن الذين آمنا للحصول على الحياة
الأبدية نحب إخوتنا، وإذ قد انتقلنا من الموت إلى الحياة فإن محبتنا لهم هي
البرهان على هذه الحقيقة. نحن لنا هذا العلم الشعوري، ويجب أن يكون لنا، بالمفارقة
مع أولئك الذين اصطنعوا من أوهامهم وخيالاتهم علماً فارغاً مجرداً من كل عاطفة
إلهية. فالمؤمنون وحدهم، الاخوة في الرب يستطيعون دون سائر الناس على وجه البسيطة
أن يقولوا "نحن نعلم" إننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب
الإخوة. وهذه المحبة هي الشهادة على هذا الانتقال والبرهان العملي عليه، غير أن الإيمان
وحده هو الذي أدخلنا بنعمة المسيح إلى دائرة هذه البركة، فنحن لم نحصل على الحياة
الأبدية أو ننتقل من الموت إلى الحياة بسبب محبتنا للاخوة، فإننا في ذلك الحين،
قبل الإيمان، كنا نبغض الاخوة إذ كنا أمواتاً في الخطايا. لكننا إذ آمنا بالله،
انتقلنا من الموت إلى الحياة الأبدية وعندئذ فقط عرفنا الاخوة لنحبهم من تلك
اللحظة فصاعداً وإلى الأبد.

 

لذلك
رأينا الرسول يضع هذه البديهية المسيحية "من لا يحب أخاه يبقى في
الموت". يا لها من نتيجة خطيرة! فلا حياة، ولا انتقال من الموت، إن كان
الإنسان لا يحب على هذا المنوال. ولكن لماذا يقول الرسول "أخاه"؟ إنه
تعبير مطلق ينصرف إلى جميع المعترفين بالمسيحية. والرسول يتلذذ بمثل هذا النوع من
التعبيرات التي يحرص مدعو المعرفة على تجنبها ولكن حاشا للرسول أن يتقيد بالحرف
إنه يحاسب الإنسان على أساس اعترافه ويعلن أن "من لا يحب أخاه يبق في
الموت" لأن مثل هذا الشخص يبرهن على أنه ليس أخاً حقيقياً بهذه الكراهية
عينها ولاحظ دقة التعبير. فهو لا يقول فقط أن من لا يحب أخاه ميت بل يبق في الموت
فمهما يكن اعترافه فإنه كان دائماً ميتاً روحياً ويبقى في الموت، وآية ذلك إنه لم
يحب الذي دعي لأن يحبه باعتباره من عائلة الله. لم تكن عنده محبة في حين أنه كان
لابد أن تكون عنده محبة لو إنه حصل على حياة المسيح في نفسه.

 

ثم
يعود الرسول فيصيغ القضية في أسلوب أشد "كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس".
هذه عبارة شديدة الصرامة، لأننا هنا أمام شخص لا يكتفي بأن يقف الموقف السلبي فلا
يحب بل يتجه إلى الناحية الإيجابية فيبغض. إن أقواله القاسية على "أخيه"
وتصرفه الساخط يكشفان عن بغضائه وبذلك يسمى "قاتل نفس" والرسول هنا
يتناول الأمور من أصلها وأساسها. فبما أن روح هذا الشخص تتميز بالبغضاء ساعة
التجربة والامتحان فإنه قاتل نفس من حيث المبدأ. شأنه شأن الرجل الذي يصفه الرب
بأنه زاني لتركه الشهوة تعمل في قلبه بدلاً من أن يدينها ويتذلل من أجلها. إن الله
يتعامل في المسيحية مع القلب وليس مع الظواهر فقط.وكل معترف يحاسب على أساس حركاته
الداخلية ونتائجها الخارجية مهما كان هذا مستحيلاً وغير معترف به في المحاكم
العالمية. "أنتم تعلمون أن كل قاتل نفس ليس له حياة أبدية ثابتة فيه".
هذه صورة مناقضة كل التناقض للمسيح ومشابهة كل الشبه لإبليس. فأي شيء غير هذا يمكن
أن يكون أكثر شبهاً بخصمنا الذي هو كذاب وقاتل منذ البدء؟

 

"بهذا
قد عرفنا المحبة أن ذاك قد وضع نفسه لأجلنا". وهنا أيضاً نلاحظ الدقة في
التعبير. فهو لا يقول "قد عرفنا محبة الله" بل يكتفي بالقول "قد
عرفنا المحبة" ثم يتبعها بالقول "لأن ذاك قد وضع نفسه لأجلنا". لا
شك أنها محبة الله أيضاً ولكن الرسول يخلط متعمداً بين الله والمسيح، ولو أن
المسيح وحده هو الذي وضع نفسه لأجلنا. وهذا ما رأبناه مراراً وتكراراً قبل
ذلك.فالله قد بين محبته في الصليب والصليب هو البرهان الأعظم الذي لا يدحض على
المحبة اللانهائية، المحبة الغير المحدودة، المحبة التي من الله، ولو أن المسيح هو
وحده الذي أظهرها وبينها إذ وضع نفسه لأجلنا.وإنه لمن الفضول القول، ومما يضعف قوة
وجلال هذه العبارة، أن نقارن عمل سيدنا بما يفعله صديقه بدافع المحبة العظيمة أو
يخاطر بحياته ليخلص شخصاً غريباً. أيها الأخ العزيز تأمل فقط في ذاك الذي صار
إنساناً لكي يتمم العمل ويتجرع كأس الموت في أشنع الآلام وأرهبها! وذلك كله لأجلنا
حينما كنا هالكين ولا نملك سوى خطايانا!

 

"فنحن
ينبغي لنا أن نضع نفوسنا لأجل الاخوة". لقد كانت محبة المسيح فريدة في نوعها،
عميقة جداً لا يسبر غورها، ولا يمكن أن يعدلها شيء من أي وجه من الوجوه. ومع ذلك
فقد صارت النموذج أمام الذين هم للمسيح. وهل للمحبة حدود؟ إن المقصود بالمحبة أن
تتخطى كل الصعاب، ومن شأن محبة الله التي اتجهت إلينا ونحن بعد في خطايانا أن تخلق
فينا محبة ليس فقط لله بل لأولاده الذين هم إخوتنا، "فنحن ينبغي أن نضع"
ولا يقول "فنحن نضع…." ولو أنه وجد قديسون وضعوا حياتهم ليس فقط لأجل
المسيح بل لأجل إخوتهم، لكنه يقنع بالقول إنه "ينبغي" وذلك لأن محبتنا
باعتبارها من الله قادرة على هذا النوع من التضحية. فإذا كان في موتي فائدة لأخي،
فينبغي أن أكون مستعداً للبذل.

 

على
أن الرسول يعلمنا أنه بجانب هذا البرهان النادر، وبدون الحاجة إلى الذهاب في ميدان
التضحية إلى هذا الحد الأقصى، هناك من الدواعي ما يمس قلوبنا عن قرب وفي متناولنا
أن نستجيب لها يوماً فيوماً. فبالقرب منا، وعلى كلا الجانبين، مطالب تدعونا
لممارسة المحبة التي في قلوبنا دون الذهاب بعيداً. قد لا يتوافر لنا في الحياة أن
نبذل نفوسنا لأجل الاخوة ولكن هناك أعواز يعرفها كل منا في دائرته أخ أو أخت في
حالة العوز الشديد فما هو تقديرك لهذه الحالة وما هو جواب محبتنا لآلام أخينا
الفقير أو أختنا المحتاجة؟

 

"وأما
من كان له مشيئة العالم" أي خيراته وموارده "ونظر أخاه محتاجاً" أي
لم يره فقط مجرد الرؤية العابرة بل نظر وتأمل وأخذ فكرة صحيحة عن حاجة أخيه. ربما
لم يظهر الأخ أية علامة لم يشك إطلاقاً ولم يذكر تجربته لآخر. فهل تقف المحبة
مكتوفة اليدين؟ إن هذا الصمت من جانب أخينا المحتاج ينبغي أن يكون فيه أقوى صوت
لقلوبنا وأكبر دعوة للعون والنجدة. فهو محتمل الضغط بلا تذمر، وهي تعاني وتحتمل
الضيق دون أن تخبر به أحداً سوى الله، ومع ذلك فإننا ونحن ننظر حاجة أخينا وأختنا
وعيوننا مفتوحة لمشاهدة ضيقته أو ضيقتها نقف جامدين مترددين. تتوفر لأحدنا وسائل
المعونة والنجدة ولكن بدلاً من مد يد المساعدة "يغلق أحشاءه".
"فكيف تثبت محبة الله فيه"؟ إن الرسول يعالج الأمر بحرص وهدوء ولكن
بخطورة وعمق. "كيف تثبت محبة الله فيه"؟ إنه لا يطالبني بأن أموت لأجل
أخي ولكنه يطالبني بأن تمتلئ يدا محبتي بالوسائل التي تزيد عن حاجتي الضرورية
لقدمها للأخ المتألم من البرد أو المرض أو الجوع أو أي علة أخرى. فإذا كان في مقدور
إنسان أن يمد يد العون ليخفف عن أخيه ولا يفعل "فكيف تثبت فيه محبة
الله"؟

 

فكما
أن المحبة هي نشاط طبيعة الله فهي كذلك بالنسبة لطبيعة أولاد الله الجديدة، ومقصود
بها أن تكون في جريان مستديم نحو الآخرين، ليس فقط في المناسبات الكبيرة بل في
أصغر أمور الحياة. ليتنا لا يفوتنا ما لغة الرسول من لياقة وجمال. فقد كفاه في عدد
16 أن يذكر المحبة بغير تحديد في حين جاءت الأقوال التي بعدها تبين جلياً أنها
محبة ذاك الذي وضع نفسه لأجلنا. وفي الإصحاح الثاني لم تكن "المحبة" فقط
بالمفارقة مع العالم ولا "محبة الله" بل "محبة الآب" أما في
العدد الذي أمامنا فلم يكن من دقة القول أو المناسب أن يستخدم "محبة
الآب" بل "محبة الله" التي تعني وتهتم بأصغر مخلوقاته والتي من
شأنها أن توبخ كل ابن له يغلق أحشاءه عن أخيه المتضايق.

 

ختاماً
أود أن نلاحظ كيف يتنوع تطبيق موت المسيح في هذا الإصحاح ففي العدد الخامس كان
الباعث على الموت لكي يرفع خطايانا كفارياً، وفي العدد الثامن لكي ينقض أعمال
إبليس، أما العدد 16 فنراه له المجد يضع حياته لأجلنا كنموذج المحبة لنا ولأجلنا
كل ذلك اجتمع في موته كما نرى بأكثر إيضاح في (عب 2: 9، 10، 14، 17).

 

الخطاب
الحادي عشر

1يو
3: 18 – 24

"يا
أولادي لا نحب بالكلام ولا باللسان بل بالعمل والحق. وبهذا نعرف أننا من الحق
ونسكن قلوبنا قدامه. لأنه إن لامتنا قلوبنا فالله أعظم من قلوبنا ويعلم كل شيء
أيها الأحباء إن لم تلمنا قلوبنا لنا ثقة من نحو الله. ومهما سألنا ننال منه لأننا
نحفظ وصاياه ونعمل الأعمال المرضية أمامه. وهذه هي وصيته أن نؤمن باسم ابنه يسوع
المسيح ونحب بعضنا بعضاً كما أعطانا وصية. ومن يحفظ وصاياه يثبت فيه وهو فيه.
وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا".

 

هنا
نطرق موضوعاً جديداً لم يتناوله الرسول من قبل ولكنه مرتبط بالمحبة المتبادلة بين
أولاد الله التي كنا نتأمل فيها قبلاً. فيخاطبهم الرسول أولاً بصفتهم الأولاد
الأعزاء وهي كلمة تعني هنا كما في كل مكان آخر عائلة الله بأكملها بما فيهم الآباء
والأحداث والأطفال.

 

وهو
هنا يدعونا لأن نحب لا بالكلام أو اللسان بل بالعمل والحق. وبهذه الكيفية يقودنا
إلى الموضوع الجديد فيقول "بهذا نعرف أننا من الحق". ومن الخير أن نعلم
أن هذه المعرفة متوقفة على نوع سلوكنا، ولا نشير إلى حالتنا في المسيح فالحياة
الأبدية مثلاً التي امتلكناها الآن في شخصه الكريم هي حقيقة ثابتة ومعرفتها ثابتة
كذلك. أما هنا فهو ينظر إلى ثقة القلب التي ننالها بالسلوك المستقيم قدام الله في
حياتنا اليومية وبخاصة في المحبة،لأن هذا التزام يخدع الكثيرون فيه أنفسهم. فليس
أيسر علينا من أن نطالب الآخرين بالمحبة ونشكو نقصها لديهم، ولكن الواقع هو أن
أكثر المتذمرين ضد الآخرين هم أقل المؤمنين اهتماماً بالمحبة ومقتضياتها من جانب
أنفسهم. فهم يحسبون أنفسهم جديرين بأن يكونوا موضوع المحبة، في حين أن الطريقة
الصحيحة هي أننا أنفسنا نحب إن كنا نريد حقيقة أن نحب. إن اتجاه القلوب بالطبيعة
والصلاح وبدون غرض أناني يفعل في القلوب الأخرى، بينما التي تسارع للكلام عن
المحبة تنتهي عند تلك النقطة. ومن أجل هذا رأى الروح القدس أن يجعل من هذه العبارة
حلقة اتصال تربط بين الأقوال السابقة والأقوال اللاحقة.

 

"لا
نحب بالكلام ولا باللسان". لا شك أن كل مسيحي مهما كانت حالته يعرف أن هذه
ظاهرة ينبغي عليه أن يرفضها، ولكنه إن لم يكن في حالة عملية طيبة مع الله فإن
محبته تكون جوفاء وبلا تأثير. إن الإنسان الطبيعي يتكلم عن المحبة بطريقته الخاصة،
أما المسيح فقد برهن عليها في كامل حقيقتها ومن واجبنا نحن الذين نعترف به أن نسلك
في نفس البساطة والحقيقة.

 

واضح
أن هذا كله ينبع من الحياة الأبدية التي نمتلكها إن كنا نؤمن به، وهي الحياة التي
يسميها بولس باصطلاحه الفريد "حياة الله"(أف 4: 18) أو "المسيح
حياتنا" (كو 3: 3 و 4) أو عبارات مماثلة في (غلا 2: 20). ومن أجل هذا رأينا
يوحنا يخلط بين الله والمسيح بحيث نكاد لا نفرق مَن من الأقنومين المباركين هو
المقصود بالذات. ولكنه يفعل هذا عمداً ولقصد جليل. فإن الابن هو الله كما أن الآب
هو الله ولا رسول يوحنا يريدنا أن ننسى ذلك على الإطلاق بل أن نحمله في بالنا على
الدوام. فلا يظنن أحد أن كتابته بهذه الطرقة ترجع إلى أي إهمال أو عدم دقة في الأسلوب.
إن الرسول يوحنا كان يعرف جيداً ما يفعله وكان يقصد أن يقول ما كتبه تماماً بالحرف
الواحد. إنما القوم الأغبياء الواثقون في أنفسهم هم الذين يجسرون أن يقولوا شيئاً
غير ذلك عن الرسول الملهم. أما السبب الحقيقي فهو أن الآب والابن هما الله. ومع أن
المسيح صار إنساناً إلا أنه بقي في اللاهوت ويبقى إلى أبد الآبدين كالآب والروح
القدس على حد سواء،فإن بمجيئه في ثوب الاتضاع بقصد تمجيد اله وبركة الإنسان لم
يفقد مجده الإلهي لحظة واحدة. كان هو الإله الحقيق يوم تنازل ليولد من امرأة. ومع
ذلك فنحن نعرف كم يعتمد الطفل الوليد اعتماداً مطلقاً على أمه أو مرضعته، فليس من
كائن على وجه الأرض مدين لعناية المحبة ورعايتها أكثر من الطفل وليد المرأة. ولكن
المسيح حتى في هذا الظرف كان الله الحقيقي كما كان تماماً يوم أن أقام لعازر أو أي
شخص آخر من الأموات. وكذلك عندما مات كان هو نفسه الإله الحقيقي، رغماً عن كل
الظروف المناقضة. فما كان ممكناً أن يتوقف عن أن يكون الإله الحقيقي وما كان
ممكناً لموته أن يؤثر في حقيقة لاهوته، فإنه حتى في حالة الإنسان لا تتأثر النفس
والروح بالموت، فما الموت سوى انفصال الحلقة التي تربط الجسد بالإنسان الباطن، من
باب أولى تصدق هذه الحقيقة – بل وأكثر منها بكثير – على الرب يسوع الذي كان الابن
دائماً. صحيح إنه دعي يسوع المسيح بعد صيرورته إنساناً ولكنه والكائن على الكل
إلهاً مباركاً إلى الأبد، تماماً نظير الآب والروح القدس الذين لم يتجسدا قط.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ب بيسيدية 2

 

قلنا
أن المحبة هي ما يميز نشاط الله، ويا لها من حقيقة مباركة في ذاتها بالنسبة لنا!
فالدينونة ليست طبيعته وما كانت لتسرى على الإنسان إلا بعد ظهور الخطية، وما كان
هناك إي مجال لمعاملة كهذه سوى عن طريق الخطية، أما الله فكان دائماً محبة، ولما
جاءت اللحظة المناسبة لإظهار محبته في تجسد المسيح وعمله الكفاري تجلت أعمال
المحبة بطرق لا مثيل لها، تجاوزت حدود إحسانه في الطبيعة بأسرها وعظمت جداً فوق كل
ترتيبات حكمته ورأفته، مع عُظمها وجلالها جميعاً، من نحو جميع المخلوقات من نبات
وحيوان، وفاقت بالأكثر حينما نقارنها بمواد صلاحه في الخليقة من نحو الإنسان.

 

إننا
نفعل حسناً أن نتأمل في ما يحيط بنا. لقد أشار أحياناً إلى أشيا خارجة عنا قائلاً
إنه إذا كان الأمر معها هكذا فكم بالحري يكون معنا. فكم من دروس عظيمة يتلقاها
التلاميذ من مشاهدتهم طيور السماء أو زنابق الحقل. أشياء تدل جميعها ليس فقط على
القوة الإلهية بل على الحكمة والصلاح والرعاية التي تهتم بكل صغيرة وكبيرة – وهو
صلاح يدوم ويبقى رغم خطية الإنسان وشره. فقد كان ممكناً – بعد أن سقط الإنسان – أن
يغير الله خضرة الحقل الجذابة إلى حمرة دامية مؤذية كإشارة مزعجة للدينونة
العتيدة، ولكنه تبارك اسمه لم يحدث تغييراً كهذا فالحقل الأخضر لازال هو الحقل
الأخضر والزنابق والأزهار لازالت جميلة وجذابة تملأ الجو برائحتها العطرة المنعشة.
لسنا نقول إنها اليوم كما كانت جميعاً في الفردوس إذ أن كل شيء على الأرض قد تأثر
بالسقوط يقيناً لكن لا جدال في أن المثل الأعلى لازال هو هو مما لا يتسنى أن يصل
إليه أي إنسان. فسليمان في كل مجده لم يكن يلبس كما تلبس زنابق الحقل دون أي دخل
في الإنسان على الإطلاق.

 

على
أنه من المهم أن نرى المحبة الإلهية خارجة بالكلية عن نطاق الخليقة وأسمى بالضرورة
عن الطبيعة البشرية المجردة فهي فوق الطبيعة نظير الحياة التي هي الطبيعة الجديدة
ومركز عمل روح الله. نعم، فلابد من أن تكون هناك طبيعة تحمل ثماراً تليق برضاء
الله، وأنت لا يمكنك أن تأتي بأي ثمر بغير ينبوع حي. فمن أين يصدر ذلك الإحساس
الجيد والنشاط الفريد اللذان يختلجان في النفس المتجددة ويقصر دونهما الإنسان
كإنسان؟ ما هو ذلك الينبوع في المؤمن الذي يصدر عنه كل ما هو محبة من نحو الله
والناس؟ هو الحياة الأبدية. وبدون هذه الحياة لا يمن أ، تكون هناك طبيعة تثمر
ثمراً جيداً. ولسنا نحن أنفسنا شهادة كافية على هذه الحقيقة؟ لقد كنا مرة أناساً
مميزين بكل المؤهلات المدهشة التي يضفيها الله على الإنسان، وهي في الواقع مؤهلات
عظيمة بغض النظر عن الخليقة الجدية وامتيازاتها الخاصة. ومن هذه الامتيازات
الأخيرة لم نكن نملك شيئاً عندئذ، وما كنا نفهم ما يقال عن النعمة مما لا يرى فيه
الإنسان الطبيعي سوى هراء وثرثرة، كما هو الحال دائماً، ولو أن شيئاً من الذوق قد
يمنع اللسان من التصريح بهذا. ولكن الناس يشعرون أنهم بعيدون عن فكر الله، ولا
يستطيعون الدخول في رحابه. بل حتى روح الإنسان – وهو أفضل ما فيه – لا يستطيع أن
يعي فكر الله، إن روح الإنسان تحلق فوق مستوى طبيعته الأدنى ومع ذلك فإن أسمى جزء
في طبيعة الإنسان لا يستطيع أن يفهم أمور الله (يو 3: 3 – 6)نعم. إن روح الإنسان
لا يستطيع أن يسمو فوق أمور الله (كو 1: 9 – 11) أكثر مما يستطيع حيوان أن يفهم
حركات الساعة مثلاً. فالحيوان له طبيعة الحيوان وليس طبيعة الإنسان الذي يمتاز
بذكاء متجدد على الأيام والذي يمارس حذقه الشخصي مستعيناً بخبرة الآخرين ومسترشداً
بالمسببات والوسائل الميكانيكية المختلفة حتى يصل في النهاية إلى هدفه الجديد
المحدود وهو صنع الساعة. قد تصبح هذه العملية على مر الأيام وبفضل المران عملية
ميكانيكية لا تقتضي من الإنسان جهداً كبيراً أو تفكيراً جباراً ولكن هذا لا ينسينا
ما بذله من فكر وجهد ومهارة الإنسان الذي صنع الساعة الأولى. ربما كانت تلك الساعة
ضخمة الحجم، غير جميلة الشكل، وكثيرة الخلل. ولكن هذا لا يمنع أن الجهد الفكري
الذي بذل في اختراعها كان أعظم بكثير من كل المهارة التي أمكنها فيما بعد أن تخرج
أحسن ساعة عرفها العالم. ومع التسليم بكل هذه الجهود الفكرية والنشاط الذهني
فهنالك أيضاً الإحساس بالمسؤولية نحو الله والشعور الأدبي الذي هو أسمى بكثير من
النشاط الذهني، وهي مميزات قد اختص بها الإنسان وحده دون سائر المخلوقات على وجه
الأرض.

 

والخلاصة
أن أمور الله تسمو فوق إدراك أفضل الناس بحسب الجسد وفوق أسمى جزء في الإنسان بقدر
ما يسمو تركيب الساعة أو أية آلة مماثلة فوق طبيعة الحيوان أو أي غريزة من غرائزه.
وكم هو محط لنا أدبياً أن ننسى هذه الحقيقة أو نتجاهلها! وأنه في الحق لفارق كبير
وبالغ الأهمية ولا يسعنا متى أحسسنا به إحساساً صادقاً إلا أن نرفع الشكر لإلهنا،
بينما هو في الوقت نفسه يعظم نعمة الله ويكشف عن أعماقها، لأنه تعالى وهبنا نحن
المؤمنين حياة قادرة على الدخول في أفكاره وعواطفه وإدراك مقاصده ومشوراته، بإرشاد
روح القدوس الذي يفحص كل شيء حتى أعماق الله.

 

فإنه
من المسلم به إننا بحاجة إلى روح الله في هذا الأمر أيضاً. فليس يكفي أن نولد من
الروح، لأن قديسي العهد القديم كانوا مولودين منه، لكنهم لم يكونوا ليستطيعوا إلى
ذلك الوقت أ، يحصلوا على الروح القدس نازلاً من السماء ليسكن فيهم، وهو لم يعط لأي
قديس قبل إتمام فداء المسيح، ولا ينال أي إنسان عطية الروح القدس الآن ما لم تستقر
نفسه على الفداء. ولما كان بعض المسيحيين بالاسم يخلطون بالفداء أموراً أخرى من
تراث العهد القديم، فقد أعوزهم الروح القدس مقيماً ماكثاً فيهم، وهذا هو سبب ما
تراه فيهم من جهل وقصور روحي فهم لا يستطيعوا أن يتجاوزا أركان الحق الإلهي أو
عناصره الأولية وذلك لأنهم لم يحصلوا على قوة الروح وبالتالي لم يفوزوا بعد
بالسلام التام مع الله. قد يكون لهم شيء من المعرفة المسيحية ولكن حقيقة الأمر هي
أنهم ليسوا مستقرين على فداء المسيح ومن ثم ليس لهم ثمر ذلك الفداء وهو السلام
التام، فهم يسعون وراء حاجة نفوسهم ويجاهدون كما يقولون ليحصلوا على ما لم
يمتلكوه، وقد فاتهم أن السبيل الوجيد للحصول على الحرية التي في المسيح إنما هو
التخلي عن الذات وجهودها قطعياً والاستقرار الكلي على المسيح وعمله الفدائي، وذلك
لأن العمل الكفاري قد تم وما عليهم إلا أن يقبلوا نتائجه المباركة بالإيمان.

 

وهذا
القصور في الإيمان، أو هذه السطحية الجوفاء فيه دخلت كطوفان بعد رحيل الرسل، ففي
أيام الكنيسة الأولى لم يكن ليسمح لأي شخص أن يدخل في شركة الكنيسة إلا من كانوا
مختومين بالروح القدس ولكن بعد أن بدأت الكنيسة تستقر في العالم وبد أن هدأت فورة
الاضطهاد، وبعد أن انضم إلى جماعة المؤمنين كثيرون من الحكماء والأغنياء والأقوياء
والنبلاء صار من الأهداف التي تستحق الاعتبار أن يتآخى الإنسان مع مثل هذه
الشخصيات الكبيرة التي صارت بحكم المحبة المسيحية أقرب إلى المودة والألفة والأخاء
أكثر جداً مما لو كانوا في العالم، فكان ذلك باعثاً لنفر غي قليل أن يتبعوهم، كما
رأى بعضنا في تاريخنا القصير شيئاً من هذا القبيل. لكن سرعان ما تذبل المحبة في
مثل هذه الأحوال، ومن هنا نفهم ضرورة قول الرسول "لا نحب بالكلام أو باللسان
بل بالعمل والحق".

 

"وبهذا
نعرف إننا من الحق" أي متى سلكنا في المحبة. هذه تعزية كبرى للمؤمن ولكن كم
هو خطأ أن نضعها أمام النفس الغير المتجددة كطريقة الحصول على الغفران! إن أي شخص
يعرف الإنجيل لا يمكنه أن يطلب من أمثال هؤلاء أن يظهروا ثمار المحبة هذه. أما
بالنسبة للقديسين فهو ذات الشيء الذي ينبغي أن يحسوه في نطاق ما يسمى بحق حكومة
الله الأدبية ذلك إننا متى جئنا إلى الله نصبح موضوع اهتمام الله كأب يحكم على
تصرفاتنا كل يوم (1 بط 1: 17) وقد أبرز الرب هذه الحقيقة في رمز الكرمة والكرام
(يو 15) معلناً نفسه الكرمة الحقيقية وتلاميذه الأغصان. ولاحظ أن هذا الرمز ليس
خاصاً بالولادة الجديدة التي موضوعها (يو 3: 3-6)ولا بالوحدة كما يظن البعض خطأ.
ففي كلتا الحالتين (أي الولادة الجديدة والوحدة مع المسيح) لا يمكن أن يوجد شيء
كضياع الحياة الأبدية أو قطع أعضاء المسيح. وهو فارق يكفي لدحض هذا التطبيق الخاطئ
ونقضه من أساسه. أما الكرمة فتعلمنا ضرورة الشركة العملية مع المسيح لأن الثبات
فيه وهو فينا هو قوة الإتيان بالثمر. إذ ماذا يعين التلميذ على الإتيان بالثمر
أليس الاعتماد على المسيح وثبات أقواله فينا مع الصلاة (يو 15: 7)؟ فالمسيح هو
مصدر كل ثمر والأغصان إنما تحمل الثمر باعتمادها عليه وبدونه لا تستطيع شيئاً.
والآب هو الذي ينقي الغصن لكي يأتي بثمر أكثر. ولكن الكرمة (المسيح) هو الذي يمد
الأغصان المرتبطة به بكل العصارة التي هي قوة الحياة المثمرة.

 

لاشك
أن سيدنا صنع ما هو أعظم من ذلك بكثير ولكن هذا هو ما يصنعه في سبيل الإتيان
بالثمر، فإن أنت فصلت الغصن عن الكرمة فماذا تكون الحال؟ هل يقدر أن يثمر عنباً
مرة أخرى؟ وهل يزداد ثمره؟ كلا. لقد قرأنا عن أناس كانوا يوماً يسيرون مع المسيح
فجاء عليهم وقت لم يسيرون معه ومعنى ذلك إنهم فصلوا أنفسهم عنه، ولم يعودوا
أغصاناً في الكرمة. لسنا ننكر أن واحداً هنا أو هناك قد يتوب ويطلب الرجوع، حاشا
لنا أن ننكر أنفسنا أو نثبط عزيمتها ولكن الذين يتركون المسيح يصبحون بصفة عامة
قساة ومقاومين إلى درجة ما. والواقع إنه من النادر نسبياً أن يرجع إلى الرب من
يعطيه القفا يوماً من الأيام. أما إذا عملت التوبة عملها الحقيقي، فما أرحب الصدر
الذي يقبلهم! إنه لا يوجد حد لمحبة المسيح أما الذين نشير إليهم هنا فإنهم عوض أن
يحكموا على أنفسهم قد ملأوا أدمغتهم وقلوبهم بأفكار قاسية عن المسيح وتخلو عن كل
مظاهر التوقير والإجلال لشخصه الكريم محاولين الخفض من قدره والاستهانة بعمله
مدللين بذلك على إنهم لم يحصلوا إلا على عقائد دون الحياة الأبدية.

 

لذلك
كان من الخطورة بمكان أن نعي في بالنا أن حكومة الله الأدبية تتعامل مع النفوس
الآن ولها عمل مزدوج. فمن الجهة الواحدة يشرف الله على كل قديس ويحكم على كل خاطئ
ولكن في أمانة المحبة. ومن الجهة الأخرى هناك من يسيئون الظن به فلا يحتملون
معاملاته ولذلك ترهم يقاومون أو يحقرون التجارب التي يستخدمها الله كوسائل لرد
نفوسهم. فإنه يؤدب، وكل تأديب لا يرى للفرح في وقت التأديب (لأن الفرح في هذا
الظرف معناه نكران صفات الله) ولكنه نافع، وأخيراً يعطي الذين يتدربون به ثمر بر
للسلام. والخلاصة أن الله كاب يحكم الآن على كل واحد منا بحسب عمله، وهذه هي
حكومته الأدبية. هكذا هو يتعامل مع أولاده أو على الأقل مع الذين يعترفون أنهم
أولاده، فإن الله يعامل الناس من هذا الوجه على أساس اعترافهم. أما الذين لم
يحملوا قط اسم الرب يسوع فإنه يعاملهم بطريقة تختلف عن ذلك كل الاختلاف.

 

لذلك
كان لازماً على كل من يسمى اسم الرب أن ينفصل عن الإثم وهكذا يستيقظ ويتخلص من فخ
إبليس لئلا يسيطر في النهاية على نفسه، ويا لهول سيطرته! وكلما طال الانتظار كلما
ساء الحال، وهذا التسويف أمر رديء للغاية في حالة أولئك الذين يظنون إنه في
مقدورهم أن يعيشوا كوحدات مستقلة منعزلة ويخشى أن كثيرين يقنعون بهذه العزلة كما
لو كان ذلك يخليهم المسؤولية وسط الفوضى الضاربة أطنابها في النصرانية وهم يرون في
أخطاء المسيحيين الآخرين مبرراً لاعتزالهم وتجنبهم متاعب السير برفقة القديسين
كإخوة، يحصون عليهم تقصيراتهم التي ما أسرعهم إلى رؤيتها، وفي غير رحمة. غير أن
حالتهم هذه خالية من الإحساس بما هو جدير بمجد الله. ويا لها من حالة تعيسة أن
تبرر أنفسنا بأخطاء آخرين! ولكن هل تصرف كهذا أفضل حقاً من تصرف الذين لم يعترفوا
قط بالمسيح؟ وليس شأنهم في هذا مع الأسف من يسلكون بنور نارهم وبشرارة من وقودهم؟
فليحذروا من أن يضطجعوا في الغم والوجع. إن مسلكهم ليس مسلك البر ولا مسلك المحبة،
ونعلم أمن المسيحية تربط الاثنين معاص بحسب حق المسيح.

 

إذاً
فقط تعلمنا أنم سر قوتنا في سلوكنا كقديسين هو الاعتماد على المسيح وأليست الكرمة
تعلمنا هذه الحقيقة أكثر من أي رمز آخر؟ فتش في كل دائرة الطبيعة فلن تجد شجرة
نظير الكرمة يتمثل فيها مبلغ حاجة الأغصان للثبات في الكرمة واعتمادها عليه
للإتيان بالثمر، وهذا هو المبدأ عينه مع المسيحي بالنسبة للمسيح، وهكذا هو الحال
هنا. فإذا كانت المحبة مجرد كلام ولسان، وإذا لم تكن بالعمل والحق، ألا تكون
مُسيئة لله؟ألا تكون إهانة لروح الله؟ فإذا كنا نسلك كأولاد نور، فإننا أيضاً ننفذ
مبدأ المحبة الإلهي أي إننا نطلب خير بعضنا البعض بلا غرض أناني هذا هو نوع المحبة
التي نعرفها في الله، وقد صار المسيح إنساناً ليظهرها بطريقة لم يكن مكناً إظهارها
إلا بالتجسد. فهل من عجب أن نرى الله يغار غيرة دافقة على اسم ابنه يسوع ربنا؟ لقد
تجلت المحبة الإلهية في اتضاع المسيح إذ صار إنساناً احتم الآلام التي اقتضتها
تضحيته بنفسه إلى حد احتمال دينونة الله للخطية التي وضعت عليه. وهذا لم يكن
ممكناً أن يفعله الله كالله، غير إنه ذات الشيء الذي صار لنا من الله في كفارة
المسيح عن خطايانا. هنا أضاء نور الله ومحبته وحقه بطريقة تسمو فوق فكر الإنسان
وهذه هي المسيحية.

 

ولكن
الجانب العملي في المسيحية ليس مجرد البر أو الطاعة كما رأينا، بل هناك جانب آخر
ضروري هو في الواقع أساس الأمر كله. ذلك الجانب هو المحبة، فقط لتكن عملية كما
يقول الرسول. ومتى كانت كذلك فإننا "نعرف" إننا من الحق. والرسول هنا
يضم نفسه مع سائر أولاد الله، الأمر الذي يضفي على أقواله جمالاً خاصاً.
"بهذا نعرف (أنا وأنت، الرسول وجميع القديسين) إننا من الحق". ولكن مع
الضمير الغير الصالح تختفي خدمة المحبة وكل ما يصدر عن الحياة الإلهية. ولست أقصد
من هذه الإشارة أولئك الذين ليسوا أولاد الله بل أقصد أولاد الله. فهم وحدهم الذين
تضيق خطواتهم بسبب الضمير الغير الصالح وهم وحدهم الذين يتألمون بما يخسرون إذ
يتوقف فرحهم حينما تتعطل شركتهم. قد يظنه البعض أمراً عجيباً أن الشركة حساسة إلى
هذا الحد حتى إنها تتأثر بأي شر من جانبنا في حين أن الحياة التي وهبها لنا لله في
المسيح هي حياة أبدية. والحق أن شركتنا حساسة للغاية بحيث إنها تتعطل فور سقوطنا
من أية جهالة من جهالاتنا مهما كانت صغيرة. ولماذا؟ لأن الشركة معناها التمتع
المتبادل بالبركة. فكيف يتسنى لله أن يقاسمنا أو يشاركنا في أي جهالة ولو كانت
صغيرة؟ إنه لا يمكنه أن تكون له شركة مع أي نوع من الخطايا كما أنه لا يمكن أن
نكون في هذه الحالة سالكين في المسيح. والنتيجة أن التمتع بالشركة يتوقف في الحال.
حاشا لله أن يقول إننا فقدناها أو أضعناها بحيث لا نستطيع استعادتها من جديد. ومع
أنه في استطاعتنا أن نحمده ن أجل الحياة الأبدية التي لا ينطبق عليها مبدأ
الاستعادة لأنها أبدية، فإنه من الضروري أن نعود إلى الشركة التي يعطلها أي نوع من
الشر. قد يكون هذا الشر مجرد فكر رديء أو شعور غير طيب، ولكن الشركة تتعطل حتى
يدان مثل هذا الشر الخفي. أما إن سمحنا له بالاستمرار فهو كفيل بتعطيلنا كأي شر
ظاهر أو علني.

 

من
أجل ذلك يقول الرسول "بهذا نعرف إننا من الحق ونسكن (أو نطمن) قلوبنا
قدامه". إن كوننا "من الحق" هو أساس الصدق في السلوك، لأن فقدن
الحق أو إهماله يستتبعه على الفور السلوك في طرق كاذبة تعرض الإنسان للمحبة
بالكلام أو اللسان بدلاً من المحبة بالعمل والحق. ليس معنى هذا أنه كان عليهم أن
يرجعوا للوراء للتثبيت ما إذا كانوا مختارين أو متجددين. فلم يقصد الله من هذه
الحقيقية أو تلك أن تمدنا بالتعزية والتشجيع حينما يكون مهاناً من جانبنا من هذه
الصورة بل العكس هو الأصح لأن يقيننا بأننا متجددون يكون في مثل هذه الأحوال مدعاة
لخجلنا. أفليس من المحزن أن شخصاً قد أتى به إلى الله إتياناً حقيقياً يتصرف هذا
التصرف الشائن؟ أما إذا كنا بالعكس ساهرين متيقظين قدام الله ونحب إخوتنا بكل
تواضع، فحينئذ "نعرف أننا من الحق". وهذا يوحي إلينا بالشجاعة أو الثقة
أمام الله، وهو المعنى الذي يقصد إليه الرسول هنا. فليس المقصود التثبت من مقامنا
أو التأكد من إيماننا، بل ثقة القلب أمام الله في السلوك بالمحبة العاملة بلا
رياء. "بهذا نعرف أننا من الحق ونسكن (ليس فقط نطمن أو نركز بل نقنع) قلوبنا
قدامه". هذا هو المعنى الحرفي للكلمة وهو يوضح لنا قصد الروح القدس منها ومدى
ما لها من تأثير وقوة على نفوسنا ومبلغ الثقة نمتلئ بها أمام الله بفضل سلوكنا
بالإخلاص القلبي البسيط في المحبة المسيحية الحقة.

 

إن
بعض المسيحيين مع الأسف لا يدركون الحياة الأبدية في المسيح ويتصرفون أكثر من
اللازم إلى عواطفهم الخاصة. لاشك أن نعمة الله في الإنجيل تترك مجالاً فسيحاً لأحر
العواطف وأعمقها فللمشاعر الروحية مكانها اللائق بها ولكن أعظم منها بما لا يقاس
النعمة والحق اللذان بيسوع المسيح واللذان يخلقان هذه المشاعر ويوجهانها ومع ذلك
فالمفروض على جميع القديسين أن يكونوا أصحاء بحسب كلمة الله وروحه. ولكن لنحذر من
الجهة الأخرى أن تطرف إلى الجانب الآخر الذي يظن أن الأمر كله ينحصر في شيء واحد
وهو التثبت من حقيقة كوننا مختارين وبذلك يكون لنا الحق في كل تعزية مهما كانت
حالتنا العملية. فمثل هذا التعليم يخفي حكومة الله الأدبية تحت أطباق الانصراف إلى
حقيقة الاختيار. لا ريب أن الاختيار حقيقة عظيمة ومباركة نحمد الله من أجلها، ولكن
ليس المقصود بها أن تكون باعثاً لنا على الاستخفاف بإهانتنا لله بأي تصرف من
تصرفاتنا. ولماذا نطلب التعزية لنفوسنا رغم الحقيقة أننا أسأنا إليه؟ إن هذا لا
يليق بنا كأولاد الله الذي يريدنا أن نتذلل بسبب ذلك، وهو عين ما نراه هنا على
الفور. "لأنه إن لامتنا قلوبنا" – نعم، فإن هذا ما تفعله قلوبنا حينما
نسلك سلوكاً غير مرضى ونحزن روح الله ولم نحكم على ذواتنا قدامه. وإذا عرفنا أن
قلوبنا تلومنا فإننا نستنتج بحق أن الله يعرف أكثر مما نعرفه مما يقتضي ملامتنا.
"فالله أعظم من قلوبنا ويعلم كل شيء". ومن أس أن البعض يفسرون هذا القول
هكذا: إن لامتنا قلوبنا فإن الله في نعمته لا يلومنا!! كم هو محزن حقاً أن تخسر
النفس ما في كلمة الله من فائدة بمثل هذا الانحراف المنظم عن معناها الواضح! أما
المعنى المقصود فهو إنني إذا كنت أدين نفسي فإن الله أعظم مني، فهو يعسلم الكل في
حين إنني لا أعلم إلا الجزء.

 

ولعلهم
يخشون أن يؤثر هذا التفسير على ثبات مقامنا. ولكن الأمر هنا لا دخل له مطلقاً
بمقامنا في المسيح وإنما هو يتعلق بحالتنا اليومية. إنه يتناول فقدان الشركة
ويدعونا للحكم على ذواتنا في نور محضر الله وأمام عينيه بدلاً من الرجوع إلى
الوراء للتثبت من الاختيار أو المقام. إن الاختيار والمقام ثابتان لا يتزعزعان. ما
في شك على الإطلاق، ومن الخطأ أن يرتاب مؤمن في أيهما. ولكن إن لامه قلبه فليثق أن
الله أعظم منه علماً بكل شيء وعليه أن يتذلل ويضع وجهه في التراب قدامه وبذلك ينال
العون الإلهي لاستكشاف دقائق قلبه فيمقت تهاونه وإهماله لأنه موضوع نعمة عظمى
كهذه.أعني إننا نحكم على حالتنا الرديئة ونحن ممسكون بحقيقة مقامنا في المسيح
المعطى لنا من الله، فهذا المقام يبقى ثابتاً واضحاً ولكن حالتنا هي التي ساءت
والله يريدنا لا أن نخفيها أو نبررها بل أن نحكم على أنفسنا بلا رفق أو مهانة.

 

إنه
لأمر مؤسف للغاية أن يقع المؤمن بين براثن هذه الأنظمة البشرية. لاشك أن بين هذه
الأنظمة عدداً غير قليل من قديسي الله المحبوبين ولكنهم يعانون الكثير من جراء هذه
التعاليم التي لا سند لها من الحق تعاليم من لا يعطي المجد الكافي لنعمة الله في
الحياة الأبدية، أو الذي لا يعطي للشركة الشخصية مكانها اللائق الأمر الذي يستتبعه
غالباً الارتياب في حقيقة اختياره. كما قال أحدهم مرة "إن كنت لا ترتاب في
نفسك فأنا أرتاب فيك" فهم إما أن يخفوا خطاياهم أو ينادوا بنظرية التشكك. لقد
كان رجلاً تقياً ذلك الذي قال هذا القول وله عدة ترنيمات من تأليفه، ولست أستطيع
إلا أن أرجو مخلصاً أن تكون ترنيماته أفضل من تعليمه لأن مثل هذا الشك غير جدير
ليس فقط بالمسيحي بل بالأحرى بشخص المسيح إذ هو نكران صحيح للإنجيل الذي يعلن
الخلاص بنعمة الله ويدعونا للتمتع به في ملء السلام. ومن هنا في الواقع ضعف البعض
ممن يشغلون أنفسهم بقضية الاختيار أكثر من مشغوليتهم بمحبة الله للعالم أو بمعدات
النعمة لنفوسهم. فالاختيار يحتل في عقيدتهم المكان الأول بحيث يجعلون منه السند
والمرجع لكل عمل، ولكن هذا قصور شنيع في إدراك نعمة الله وحقه. إن في المسيح
مجالاً فسيحاً لكل ما يتمسك به الفريقان من حق، ولأكثر جداً مما لا يتمسك به كل
منهما، إنه لمن المؤلم حقاً أن قديسي الله لا يسقطون من حسابهم هذه النظريات
العقائدية الجزئية ليتمسكوا فقط بإعلان الله كاملاً غير منقوص طارحين كل ما عداه
وغير راضين بغيره بديلاً. إن المسيحية متسعاً لكل حاسة نبيلة ولكل حكم سليم ورأي
سديد، وبالاختصار لكل ما على الإيمان أن يقبله من الله وما على المحبة أن تعمله
لمجده طليقة غير مغلولة.

 

إن
ملامة القلب هنا مردها الشعور بالتقصير في طرقنا والإيقان بأن الله في سياسته
الأدبية لنفوسنا يعرف عن طرقنا أكثر مما تعرف قلوبنا. وهذا أيضاً متضمن في القول
الكريم "اغفر لنا ذنوبنا كما نحن نفغر للمذنبين إلينا". فالإشارة هنا
أيضاً ليست إلى غفران خطايانا الكامل الذي نلناه بالإيمان بالإنجيل بل إلى مراقبة
الله لأولاده وعينه الساهرة باستمرار على طرقهم وتصرفاتهم. وهذا لا دخل له إطلاقاً
بحاجة الخاطئ المسكين، لأنه واضح أن الإنجيل لا يقدم غفراناً للخطايا على أساس روح
الغفران والتسامح مع الآخرين، وإنما النعمة هي التي تهب مغفرة الخطايا على أساس
الإيمان بالرب يسوع – الأمر الذي لا يتعرض له سيدنا في قوله الكريم الذي أشرنا
إليه والذي يعني إنك إذا فشلت – أنت أيها المسيحي – في التصرف بروح الغفران مع
الآخرين فإن الله لا يسر بك. وإنك بهذا تعطل شركتك معه وإنه لن يعيد إليك هذه
الشركة حتى تحكم على نفسك وتدين الخطأ إدانة صحيحة. انعدام الشركة هذا هو منشأ
إدانة القديس لنفسه ودليل اللوم من جانب الله.

 

لهذا
كان من الأهمية بمكان أن نميز بين أساس النعمة الذي عليه نقف للحياة الأبدية
والفداء، وبين تطبيق معاملة الله الأدبية معنا كل يوم حيث لابد أن يحكم على طرقنا
الخاطئة ويؤدبنا لكي نشترك في قداسته، وهذا يقودنا إلى إدانة انحرافنا وتصرفاتنا
النابية وإلى جعل مسلكنا مطابقاً لفكر الله من حيث كراهته للخطية وتشجيع كل ما هو
من المحبة والبر والحق.

 

يقول
الرسول "أيها الأحباء إن لم تلمنا قلوبنا فلنا ثقة من نحو الله" (عدد
21). نعم إن قلب الله يميل نحو الذين يسلكون باستقامة قدامه والرسول لا يقول هنا
"أيها الأولاد" بل "أيها الأحباء" فهو يسر أن يرى المحبة قد
تحققت في قلوبهم وهو لذلك يشجعهم على ممارسة نشاط المحبة في الصلاة حينما تكون
حالتهم هكذا حسنة. أما حينما تكون الأمور على غير هذا الوضع، وحينما نلزم روح الله
لأن يشغلنا بتقصيرنا فإننا لا نستطيع أن نسأل بحرية نعماً جديدة. فلا بد لنا إذن
من الخضوع لهذا المبدأ المذلل وهو أننا إذا كنا نلوم أنفسنا فيما يتعلق بطرقنا فإن
الله يلومنا أكثر. أما إذا كنا بقوته نتمتع بالشركة في هدوء فإن قلوبنا تستطيع أن
تطلب بثقة نعمة أعظم. "أيها الأحباء إن لم تلمنا قلوبنا فلنا ثقة من نحو
الله. ومهما سألنا ننال منه لأننا نحفظ وصاياه ونعمل الأعمال المرضية أمامه".
هذه حالة سامية ليس فيها ما يعرقل نشاط المحبة، أو ما يعوق هبات النعمة، فإن الطريق
أمام خيرات النعمة تكون مهددة ومفتوحة لأننا نكون سالكين في نور الله والقلب غير
مشغول بملامة النفس أو متحول إليها. وبعبارة أخرى نكون حينئذ قد فرغنا من الذات
لنتمتع بالمسيح. وهنا خيرنا الأعظم.

 

هذه
هي الحالة التي يليق بكل مسيحي أن يسلك فيها يوماً فيوماً وهي ما نرجوه ونسعى إليه
ولكننا مع الأسف كثيراً ما نفشل فيه. ولكن شكراً لله فإن هذا هو بعينه ما تدعونا
إليه النعمة. إن حياة السلام والثقة وبساطة العين لا يمكن أن تتحقق إلا بالسلوك
قدام الله طبقاً لحياتنا في المسيح. إما أن نعزي أنفسنا في حالة السقوط بأننا
حاصلون على الحياة الأبدية فذلك ما لا يليق بالله ولا ينفعنا في حالتنا. فإن كنا
نحيا بالروح فلنسلك أيضاً بالروح. وأمامنا بهذه المناسبة اختبار بولس عما حدث في
نفسه، ومن واجبنا لا أن نؤمن فقط بما قاله الروح القدس بفم ذلك القديس بل أن نحقق
اختباره في نفوسنا أيضاً "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ.
فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان: "إيمان ابن الله الذي أحبني
وأسلم نفسه لأجلي"" (غل 2: 20) فالتقليد باطل والطقوس لا نفع فيها. وها
هي قوة صليب المسيح قد وصلت إلى القلب. وها هو بولس يربط بالإيمان نفسه – فيما
يتعلق بحياته القديمة – بذاك الذي مات فوق الصليب لكي يعتقه منها، وها هو الآن
يحيا في ذاك الذي هو حي إلى الأبد، حياة في الإيمان في محبته. جداً أن نلاحظ أن
هذا التخصيص الفردي ليس أمراً شائعاً كثيراً في الكتاب حيث نجد أن محبة المسيح
وبذل نفسه ووضع حياته على الصليب تقال عادة إنها للقديسين بصفة عامة كما (أف 5: 1
و 2). أما هنا فالحديث فردي شخصي، وهو حديث ثمين حقاً، ولو أنه من القصور أن نكتفي
بما هو شخصي دون إدراكنا وتقديرنا لشركتنا مع الآب ومع ابنه في بركة عائلة الله
بأسرها – شركة جميع أولاد الله.

 

إن
السلام مع الله، سلام الضمير، وإن كان شيئاً ضرورياً لابد منه، ليس هو كل البركة
التي تريدنا نعمة الله أن نتمتع بها، ولا هي قاصرة على اليقين بغفران خطايانا
جميعها. فهذا نلناه كمن قد آمنا بإنجيل الله ولكنه ليس الموضوع الذي نتحدث عنه في
الأعداد من 19 – 22 في إصحاحنا. إن ذلك اليقين كان رحمة عظمى وضرورية لكل نفس في
مطلع حياتها المسيحية ولذلك فمن الخطأ في طريق الإيمان أن يسأل عن النفس إذا كانت
هي مؤمنة حقاً أم غير مؤمنة فإن الكتاب لا يعرف شيئاً عن مثل هذا الشك في شخص يؤمن
بالمسيح ولا هو يطلب إليه في أي مكان أن يرجع إلى ما هو في داخله ليستند عليه، ذلك
لأنه في طبيعته هالك ولهذا السبب عينه (أي لأنه هالك) يوجه الله التفافه إلى ابنه
كمخلص، وكالمخلص الكامل الذي لا يمكن أن يحوم حول كماله أي شك في قلب المؤمن. أما
العدد الذي أمامنا فهو خاص بمسلك المسيحي يومياً وثقة القلب العملية المرتبطة بهذا
السلوك. فقد أصبحنا بالنعمة في حالة من القرب الوثيق بالله بحيث إن أقل شيء، غير
لائق بأبينا وإلهنا لا يمكن أن يحتمل أو يطاق ومن أجل هذا قد أعدت النعمة بكل حرص
وعناية كافة الضمانات والوقاية ضد كل شيء من هذا القبيل مما يتنافى مع مقامنا.

 

كثيرون
منا يعرفون في محيط عائلاتنا شيئاً من هذا الاختبار إذ ما تصرف ولد من الأولاد
تصرفاً طائشاً أحياناً. أليس من فارق إذ كان الولد ذا عاطفة حقيقية؟ ألا يبدو
الولد في حالة من القلق حتى إذا كان أبواه يجهلان السبب؟ فبدلاً من أن يسارع
لملاقاتهما بابتهاج كعادته تراه يحس بأن شيئاً قد حدث يعرقل خطواته. وعلى قدر
استقامة الولد يكون شعوره بالانقباض والخجل. وهكذا هو الحال في علاقتنا بإلهنا
وأبينا مع الفارق وهو أنه لا يفشل أبداً وأن كل شيء معروف لديه ومن هنا كان أهمية
الحكم على الذات الذي لا غناء عنه بسبب ما نحن عليه. فإذا ما تصرفنا التصرف الصحيح
في حالة سقوطنا وحكمنا على ذواتنا عادت النفس إلى التمتع بالشركة التي كنا بالأسف
قد خسرنا لذتها. فالحالة اللائقة بنا هي حال الثقة من نحو الله. وهذه الثقة ليست
بشأن مقامنا الذي هو دائم وثابت في المسيح بل حالة القلب المعرضة للتعطل والاضطراب
بسبب التهاون والإهمال، فعندما نكون سالكين بالروح تكون هذه الثقة من نحو الله
حالتنا السعيدة، وهي الحالة الوحيدة اللائقة بالمسيحي وكم هو محزن البقاء في غيرها
والاستسلام لحالة الافتقار إليها والعلاج الوحيد هو بكل يقين الصراخ الحار إلى
الله يقودنا لاكتشاف العوامل التي أدت بنا إلى ما نحن فيه، وحينئذ سوف لا يطول
صراخنا فإن محبة الآب تريدنا أن نتذوق ونستمتع كل حين بحلاوة ولذة الشركة
وتعزياتها ونشعر بمرارة الحرمان منها، ذلك الذي تسببه أية غلطة غير محكوم عليها.
ولنا في ربنا يسوع شفيع عند الآب هو ملجأنا ومستودع مواردنا بدلاً من الالتجاء إلى
شفيع أرضي يأخذ مكان الرب وليست فيه الكفاية لهذه الخدمة الدقيقة الصعبة. وإنه لمن
امتياز أن نتقدم على الفور وبغير تردد بواسطة المسيح إلى عرش النعمة بل إلى محبة
الآب التي لن تسقط أبداً.

 

وجميل
جداً أن يستطرد الرسول قوله بعد ذلك "ومهما سألنا ننال منه" – وهو مثال
آخر للطريقة المطلقة التي يحب يوحنا أن يتكلم بها. فهو لا يتكلم عن أي قيد قد
توجبه ظروف عارضة أو أي عائق قد توجده طوارئ خاصة. هو يتجاوز عن هذا كله ويسقط من
حسابه الحالات الشاذة. وهو يفترض وجود حالة لا أثر فيها لملامة القلب، وإن الثقة
متوفرة من نحو الله وإننا متمتعون بالشركة معه. وما هو أثر الشركة؟ إنها تستبعد كل
طلبة مغلوطة فلا نسأل حينئذ أمراً غير متفق مع مشيئة الله، بل نطلب ما يوافقنا وهو
المجد لا يمنع خيراً عنا ويجد لذته وسروره في تمتعنا بكل ما هو لمجده. وهذا كله
وجدناه في المسيح الذي هو على الدوام مركز الجاذبية وحلقة الاتصال. نعم فالمسيح هو
الذي يختار لنا كل شيء. وما من نور أو نبع في قلوبنا إلا وهو مستمد من المسيح،
وهذا هو عين ما أعطانا إياه الله، وإذا كان الله قد أعطانا ابنه فكيف لا يهبنا معه
كل شيء؟ إذن فمهما سألنا ننال منه لأننا في هذه الحالة لن نطلب شيئاً غير لائق،
والسبب يرينا إياه الرسول هنا "لأننا نحفظ وصاياه". وهنا نرى أن أولئك
الذين لا يعتقدون بأن الموضوع الذي يتناوله الرسول خاص بسياسة الله الأدبية إزاء
حالة المسيحي العملية يسقطون في خطأ الخلط بين هذه السياسة وأساس الخلاص فيجعلون
هذا الخلاص مستنداً على شروط. ولكن هذا يبطل نعمة الله في خلاص الخطأ. أما الكلام
هنا فليس عن النعمة بل عن الحكم وهو بالضرورة شرطي في حين أن نعمة الله التي تخلص
نفوسنا وتمحو خطايانا كاملة ومجانية ومطلقة، والشرط الوحيد هنا – إن جاز لنا أن
نسميه شرطاً – هو إنكار نفوسنا كفجار وقبولنا هبة الله المجانية في المسيح.

 

أما
موضوع الكلام في الفصل الذي أمامنا فشيء آخر على الإطلاق وخلطه بموضوع النعمة هو
آفة ما يسمونه "علم اللاهوت" – ذلك اللاهوت المنظم الذي هو أشبه بكومة
من الأزهار والأوراق قطفت من الشجرة وجفت فلم يعد فيها أثر للنضارة أو الحياة، في
حين أن الكتاب نفسه هو "روح وحياة". هكذا هو الرب يسوع، الحي وكان ميتاً
وها هو حي إلى أبد الآبدين. وهكذا هو الروح القدس، روح الحق الذي يحيي والذي
أخذناه ليس فقط للحياة بل ليحفظ لكل جزء من الحق نضارته وقوته، وهكذا هي محبة الآب
الدائمة الجريان أن الإنسان يجعل أو يحاول أن يجعل من الإعلان الإلهي علماً. ولكن
ما أبعد الفرق بين الإعلان والعلم! وهل من أحد وجد حياة أو سلاماً في اللاهوت
المنظم؟ إنه يحاول أن يحيط هذا الحق أو ذاك بسياج من الأسلحة البشرية جاعلاً من
عقائده قلعة خيالية للإيمان ناسياً أن هذا كله ينحصر في المسيح عاملاً فينا
بالكلمة وروح الله. إننا في الكتاب وحده نجد الحق، كل الحق، ولا شيء غير الحق،
ولنا الروح القدس الذي كتب الكل ليرشدنا إلى كل الحق. ولذلك فإن ثقتنا هي في الله
وفي كلمة نعمته.

 

الكتاب
هو دستور والروح القدس قوتنا المرسل من أسماء ليمكث فينا ومعنا إلى الأبد فيا لها
من امتيازين عظيمين، فضلاً عن عطايا نعمة المسيح في الخدمة لكل عضو في الجسد
كبيراً كان أو صغيراً. ونحن مستودعون لهذا، والله يريدنا أن نحكم على كل معطل وهو
ما يعالجه الرسول في هذه الأعداد. فإذا كنا نستفيد في الإيمان والمحبة يتم فينا
القول إنه "مهما سألنا ننال منه لأننا نحفظ وصاياه ونعمل الأعمال المرضية
أمامه". وهذا بطبيعة الحال لا يمكن تطبيقه على موضوع الخلاص أن العبارة
الأخيرة هي عين ما قاله الرب عن شخصه الكريم وما يعمله دائماً (يو 8: 29). ولا غرو
فهو الكمال المطلق في كل ما نيط به. يقول تبارك اسمه "لأني في كل حين أفعل ما
يرضيه". وبما أن الله يرى ويسمع كل شيء فإنه يلاحظ أولاده ملاحظة خاصة، ليس
كمن هو ضدنا بل كمن هو لنا، وإذا كان الله لنا فمن علينا وحيث إنه لا يتغاضى عن
أية غلطة فلا حاجة بنا أن نأخذ (يو 17 أو رو 8) ستاراً تختفي وراءه بل بالحري نذلل
نفوسنا من أجل كل ما أحزن روح الله القدوس الذي به ختمنا ليوم الفداء. وبهذه
الكيفية تستعيد قلوبنا لذة الثقة من نحو الله، فتكون لنا الحرية والدافع على
الصلاة بحيث نطلب لا شيئاً واحداً بل "مما سألنا" ننال منه. ولاشك إننا
إذا سألنا الاعتماد على المسيح. فإن الله يسمع لنا، مشجعاً إيانا على الاستمرار
أكثر في الصلاة بالاستفادة أكثر من كلمته فهذه أشياء بحسب مشيئة الله كما إنها
وسائل ممارسة الحياة الأبدية والتمتع بها. وهذه الحياة هي قوام رسالة يوحنا
بأجمعها.

 

"وهذه
هي وصيته أن نؤمن باسم ابنه". فما المقصود بالإيمان باسم ابنه، باعتبار أن
الكلام موجه إلى عائلة الله المؤمنين فعلاً؟ في الكتاب المقدس تعبيرات مختلفة فيما
يتعلق بالفعل "يؤمن". فتارة نقرأ عن "الإيمان بالله" وأخرى
تصديق شهادة الله عن ابنه، وعندما يرد ذكر المسيح نقرأ عن "الإيمان
بالمسيح". هذه هي لغة الكتاب بصفة عامة (وإن كان حرف الجر في اللغة العربية
لا يبدو مختلفاً كما هو الحال في اللغات الأخرى أو لغة الكتاب الأصلية). وهنا نقرأ
عن الإيمان اسم ابنه. فحينما يكون عن تصديق شهادة الله عن المسيح فهذا معناه
الإيمان بما سجله الله عن المسيح، الإيمان بما يقوله الله لي عن المسيح فعندما
يقال إذن الإيمان باسم ابنه أفليس هذا معناه الإيمان بما يتضمنه ذلك الاسم؟ إن
الاسم هو إعلان الله لشخص الرب، أي لحقيقة ما هو، وما فعله، وهو تعبير جميل حقاً.
ليس المقصود أن اسمه كإنسان كان يسوع، أو مجرد لقبه كالرب، أو أية صفة من صفاته
الأخرى الكريمة بل الإيمان بالاسم.، أي بالإعلان الإلهي أو شهادة الله عن ابنه
يسوع المسيح الذي هو موضوع الإيمان العظم. ونحن نؤمن باسمه كما لو كان اسمه هو
شخصه. ليس فقط بما بدأنا به يوم آمنا حيث كان إيماننا يومئذ بالرب، بل يود الرسول
ويلذ له أن يتكلم عن شخصية المسيح وعن كل ما نناله فيه. وبواسطته كمؤمنين به.
ولذلك يستخدم هذا التعبير الفريد "نؤمن باسم ابنه". إيماننا الابتدائي
كان اعتماداً على المسيح، أما هنا فهو إيمان باسم ابنه يسوع المسيح، بكل ما يحمله
ذلك الاسم المبارك من إعلانات الله في كلمته. نؤمن باسمه.

 

هناك
قراءتان متعادلتان فيما يتعلق بكلمة "نؤمن" كما وردت في الأصل ففي رأي
بعض الثقاة تعني الاستمرار في الإيمان، وعند البعض الآخر تعني الإيمان مرة واحدة
وإلى الأبد. ولكن عندما نأتي إلى "المحبة" لا نجد إلا قراءة واحدة لا ظل
لأي خلاف فيها، وهي المحبة العملية يوماً فيوماً. هذا واضح وأكيد. ولكن الاثنين –
الإيمان والمحبة – يمتزجان ويجتمعان في وصية واحدة هي وصية المسيحية العظمى
بالمباينة مع وصية الناموس. هذه كانت توصي بمحبة الله والقريب. أما وصيتنا العظيمة
فهي الإيمان باسم يسوع المسيح والمحبة بعضنا لبعض نحن أولاد الله. وكم من المؤسف
أن نخلط بين أولاد الله وقريبنا! هذا ليس المعنى المقصود، وإن كانت المحبة ليس لها
حدود، ولكن القصودين بالمحبة هنا هم أولئك الذين لا يعرفهم العالم كما لم يعرف ذاك
الذي يؤمنون باسمه. وما من شك في أن هذا أمر يفوق أفكار الإنسان. وإلا فما رأيك في
شخص يطالبك في أن تحب أولاد لندن كما تحب أولادك؟ لاشك أنك تعتبر شخصاً كهذا ناقص
العقل، وهذا المثل الضعيف قد يساعد على إدراك سمو "وصيته" التي نحن
بصددها. إن هناك فوارق كثيرة بين أولاد الله وأولاد إبليس كما رأينا. قد يسكن
بجواري شخص من ألد أعداء المسيح. فمثل هذا لا يدخل في نطاق هذه الوصية. لا شك إنه
يجب على أن أبدي نحوه عواطف الإشفاق وأن أطلب له من الله أن يقبل كلمة الحق إنجيل
الخلاص، فإن مقاومته القاسية وتحديه لله إنما تقودنا أكثر لسكب التضرعات من أجله
أمام الله لعله يرحمه وتبارك اسم إلهنا فلقد طالما استجاب الصلاة في حالات كهذه
وأكرم إلحاح الصراخ الذي ارتفع إليه في إيمان وتواضع من أجل نفس آثمة. والأمر
يقتضينا قدراً فمثل هذا الجار لا يدخل بحال من الأحوال في نطاق هذه الوصية التي
إنما تنطبق على "بعضنا بعضاً" كما أعطانا وصية. إنها المحبة المسيحية
المتبادلة بين أولاد الله ولاشيء غير ذلك.

 

وهنا
نلتقي بمثال آخر من أمثلة الأسلوب الذي يختص به يوحنا وهو عدم التفرقة بين الله
والمسيح ففي مستهل العدد نقرأ بصراحة عن الله، فهو الذي منه نسأل ومنه ننال ما
نطلب، ونعمل الأعمال المرضية أمامه "وهذه هي وصيته أن نؤمن باسم ابنه يسوع
المسيح ونحب بعضنا بعضاً كما أعطانا وصية". ونحن نعلم جيداً أن المسيح هو
الذي أعطى الوصية. ومع ذلك فالضمير واحد لم يتغير في سياق الكلام كله. وما كان
ممكناً أن يصح هذا الأسلوب لو لم يكن المسيح هو الله بالحقيقة نظير الآب تماماً.
وهذا هو السر في الأمر كله. وقد استخدم يوحنا هذا الأسلوب قاصداً متعمداً لإكرام
الابن كما لإكرام الآب، ولم تكن مسألة زلة قلم من جانبه وليدة الغفلة أو الإهمال
فإن الكتاب المقدس لا يخالطه ما قد يخالط أشهر المؤلفات البشرية وأرقاها من غفلة
أو نسيان. ذلك أن الغرض الإلهي والحكمة التامة يسيطران في الكلمة المكتوبة.

 

"ومن
يحفظ وصاياه يثبت فيه". هنا ننتقل إلى موضوع جديد هو موضوع ثباتنا في الله
وثبات الله فينا. وهنا لا مجال لأي غموض. فبدون الطاعة لا يمكن أن يكون هذا
الامتياز العجيب. ومعنى هذه العبارة من الوجهة التفسيرية هو أن من يحفظ وصاياه
يثبت في الله والله فيه، ولكنها تنطبق أيضاً على المسيح وقد وردت كذلك في مكان
آخر، إذن فالعدد في ذاته يصح انطباقه سواء قلنا "يثبت في المسيح" أو
"يثبت في الله" لأن ثباتك في المسيح هو ثبات في الله كما أن ثباتك في
الله هو بالضبط ثبات في المسيح. لكن اضطرارنا لتفهم مجرى القرينة قد يحملنا على
اختيار أحدى الصيغتين خضوعاً لمبدأ التفسير الدقيق. هذا من المهم أن نراه دائماً
وهو سهل ميسور ولكنه من النافع والمفيد من الجهة الأخرى أن نتجنب الأخطاء فيما
يتعلق بالكتاب وأن نرى المميزات بلا فوارق أو اختلافات وأخيراً يختم الإصحاح
بالقول "وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا" ومن هنا نفهم
أن عطية الروح القدس هي القوة والبرهان على ثبات الله في المسيحي. وبهذه الطريقة
يثبت الله فيه إذ أعطاه الروح. أما الثبات في الله فهو الاعتماد الروحي عليه والسلوك
وهذا لا يتم ما لم يكن الروح القدس الساكن في القديس عاملاً فيه غير محزون لكي
يحفظه على الدوام معتمداً عليه مستمداً من موارده التي لا تنضب. أما إذا أحزنته
فمعنى ذلك أنني لست في تلك اللحظة ثابتاً في الرب بل قد تسلك من حضرته وقد أكون
سائراً إلى حين في هدى أفكاري وبحسب مشيئتي الخاصة وفي طريق رسمتها لذاتي، ولكن
مهما يكن تصرفي، سواء كان زلة عابرة أو غلطة استمرت وقتاً ما، فأنا على حال قد
ابتعدت عن التمتع بحضوره ولست ثابتاً فيه.

 

على
أننا نلاحظ أن النصف الأخير من العدد الذي أمامنا لا يحدثنا عن الحقيقتين (ثبوتنا
فيه وهو فينا) كما هو الحال في النصف الأول بل فقط عن ثبوت الله فينا وأساسه
الوحيد الروح المعطى لنا. نعم فعلى سكنى الروح القدس وحده يتوقف ثبات الله فينا،
وهو مؤسس على الفداء وثابت بكل تحقيق ثبوت الفداء، غير أنا ثبتنا نحن فيه مسألة
تتوقف على حالتنا الروحية ويتناولها الرسول بالشرح الكامل في الجزء الأخير من
الإصحاح الرابع، الذي نجد أن الأعداد الستة الأولى منه هي بمثابة فقرة اعتراضية
لها أهميتها القصوى من حيث كونها أساساً لكلا الحقين – ثبوتنا في الله وثبوت الله
فينا. ففي العددين الأخيرين (23 و 24) من الإصحاح الثالث يصور الرسول مركز ومكان
المسيح تصويراً دقيقاً كاملاً، وذلك مع أقل إشارة ممكنة للجانب السلبي الذي كان
موضع مشغولية الرسول بصفة خاصة في أقواله السابقة. أما في العددين المشار إليهما
فهو يحدثنا عن بركة امتيازاتنا من ناحيتها الإيجابية التي يضعها أمام جميع
القديسين بنفس البساطة والعمق اللذين تتصف بهما رسالته من أولها إلى آخرها. ففي
العدد 23 نرى سمات المسيحي الجلية الواضحة، وفي العدد 24 نرى الحقيقة التي قد تكون
أقل وضوحاً للعيان ولكنها لا تقل عن الأولى من حيث وجودها الفعلي وهي نشاط الحياة
الداخلي بقوة روح الله الساكن فينا والعامل في تلك الحياة مع الإشارة الخاصة كما
رأينا إلى الأثر السيئ الذي يجلبه التهاون في السلوك على تمتعنا بثقة القلب أمام
الله وهي الثقة التي يجب أن تكون من نصيبنا على الدوام.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي