أخلاق

 

مقدمة: سيعالج هذا البحث:

(1) طبيعة ووظيفة علم الأخلاق بوجه
عام مع بيان أوجه الاختلاف والاتفاق بينه وبين فروع المعرفة الشبيهة به.

(2) سنعرض باختصار لتاريخ علم
الأخلاق في مراحل تطوره المختلفة التي مهدت الطريق أمام الأخلاق المسيحية.

(3) سنقدم موجزاً للأخلاق في
الكتاب المقدس يتضمن المفاهيم الأخلاقية في العهد القديم ثم المبادئ العامة
والصفات الرئيسية التي قام عليها التعليم الأخلاقي في العهد الجديد.

 

أولاً – طبيعة ووظيفة علم الأخلاق:

علم الأخلاق هو ذلك الفرع من الفلسفة الذي يختص بالسلوك البشري، فهو يتناول
الإنسان كمصدر للفعل أكثر منه موضوعاً للمعرفة، فهو يتناول حياة الإنسان أو شخصيته
في نزعاته الداخلية ومظاهره الخارجية وعلاقاته الاجتماعية. وكان أرسطو هو أول من
أعطى هذا العلم اسمه وشكله النظامي، بحسب المفهوم اليوناني للكلمة، فهو علم
العادات والسلوك. ونظراً لأن كلمة " العادات " لا تشير – كما يبدو – إلا
للسلوك الخارجي أو الأعراف، فهي بهذا تحد من طبيعة البحث.

 

(1) نشأة علم الأخلاق:

تسبق حياة الإنسان تفكيره، كما أن أفعاله تسبق تمحيصه لأسباب الفعل. وطالما
كان هناك توافق بين عادات الفرد أو الجماعة، ومتطلبات الحياة العملية، فليس ثمة
مشاكل أخلاقية. ولكن ما أن تبرز إلى الوجود صعاب أو مشكلات جديدة تتعلق بالحقوق
والواجبات، لا يمكن للتقاليد والعادات القائمة أن تحلها، حتى يثور الشك ومعه
التفكير العميق في الأخلاقيات الفعلية التي تحكم الحياة. أي أن علم الأخلاق يبدأ
في الظهور عندما يبدأ الناس في مناقشة تقاليدهم وأنماط سلوكهم وإعادة النظر في
موقفهم من التقاليد القديمة واهتماماتهم الجديدة، فعلم الأخلاق ليس درساً في
الأخلاق، بل هو التأمل العميق فيها. ولذلك عندما استخدم أرسطو كلمة " علم
الأخلاق " – متبعاً في ذلك سقراط وأفلاطون – لم يقصد به أن يكون مجرد وصف
للحياة الخارجية للانسان، بل بالحري مصادر النشاط والأهداف التي يجب أن ترشد
الإنسان إلى السلوك الصحيح في الحياة وهكذا تصبح " الفلسفة الأخلاقية "
و"علم الأخلاق" مترادفين، فكلاهما يعني بوجه عام التفسير العقلاني
لطبيعتنا وأفعالنا وعلاقاتنا ككائنات عاقلة مسئولة. فعلم الأخلاق إذاً يمكن تعريفه
بأنه الدراسة النظامية للسلوك البشري، ووظيفته هي أن يبين كيف يجب أن تصاغ الحياة
الإنسانية لكي تحقق غايتها وأهدافها.

 

(2) الأخلاق كعلم:

وإذا أخذنا بهذا التعريف العام، فقد نسأل كيف يمكن أن نتحدث عن علم يبحث في
السلوك؟ ألا تبحث العلوم في الحقائق الأساسية لاستنباط النتائج من الأسباب ولصياغة
القوانين العامة التي تعمل على أساسها هذه المسببات، ولاستخلاص النتائج الضرورية
والحتمية؟ لكن أليست الشخصية الإنسانية أمراً لا يمكن فيه التكهن بنتائج محددة؟
أليس الشخصية الإنسانية أمراً لا يمكن فيه التكهن بنتائج محددة؟ أليس السلوك الذي
يعتمد على الإرادة البشرية أمراً لا يمكن تفسيره كمحصلة لقوى محسوبة؟ فمتى كانت
الإرادة حرة، فلا يمكن أن نحدد مسبقاً الاتجاه الذي سوف تسلكه،كما لا يمكن التكهن
بالشكل الذي ستتخذه الشخصية. ومن المؤكد أن كل مفهوم الأخلاق كعلم سينهار إذا
سمحنا بدخول عنصر ثابت ومحسوب في السلوك.

غير أن هذا الاعتراض مبني جزئياً على سوء فهم وظيفة العلم، وجزئياً على
التصنيف الضيق للعلوم، حيث أن دور العلم لا يقتصر على البحث في العلة والمعلول
والسبب والنتيجة والقوانين التي تجري على ساسها اساسها الظواهر، لكنه يعالج بطريقة
نظامية كل الحقائق المعروضة أمامنا. وهناك مجموعة كبيرة من الحقائق لا تنتمي إلى
عالم الأحداث الطبيعية والمادية التي يمكن دراستها والربط بينها. فعلم الأخلاق لا
يتناول السلوك كحقيقة طبيعية تحدث نتيجة لأسباب ماضية تعقبها نتائج معينة في
المستقبل، ولكنه يهتم بالحكم على السلوك، الحكم بصواب السلوك أو خطئه قياساً على
معيار معين أو غاية معينة.

ومن هنا جاء التمييز بين العلوم الطبيعية والعلوم القياسية.

(3) العلم القياسي:

العلوم الطبيعية – ببساطة – هي العلوم التي تبحث في ظواهر الطبيعة أو الفكر
والأحداث الواقعية التي يلزم تحليلها وتصنيفها. أما العلوم القياسية فهي العلوم
التي لا تبحث في الحقائق المجردة للزمان أو المكان، بل في الأحكام على هذه الحقائق
بمقاييس أو غايات معينة، وتقيم الحقائق بمقتضاها. ولا يمكن تفسير الإنسان بالقانون
الطبيعي، فهو ليس مجرد جزء من العالم أو حلقة في سلسلة السببية، فحينما نتأمل في
حياة الإنسان وعلاقته بالعالم نجد أنه واعِ لذاته كغاية، وأنه قادر على وضع أهداف،
واقتراح غايات جديدة، كما أنه قادر على توجيه أفكاره وأعماله لتحقيق هذه الغايات،
وتطويع الأشياء لخدمته.ومثل هذه الغاية، أو هذا الغرض يشكِّل قانوناً لتنظيم
الحياة. والقوانين التي يجب مراعاتها لتحقيق مثل هذه الغاية هي موضوع العلم
القياسي. إذاً فعلم الأخلاق يبحث في معايير أو مقاييس الصواب والخطأ، وهو قبل كل
شىء يختص بالقوانين التي تنظم أحكامنا وتضبط أفعالنا.

(4) علاقة علم الأخلاق بالعلوم
المشابهة:

ما من شك في أن الإنسان وحدة متكاملة، غير أنه يمكن النظر إلى وعيه بذاته
من ثلاثة أوجه مختلفة، واعتبار شخصيته المكونة من عنصر عقلاني وعنصر حسي وعنصر
إرادي. وهناك مقابل هذه الأوجه الثلاثة – التي هي في واقعها واحد، ولكنها منفصلة
فكرياً – ثلاثة علوم عقلية متميزة لكنها مترابطة وهي:

(أ) علم الميتافيزيقا (أو ما وراء
الطبيعة) الذي يتناول علاقة الإنسان بالكون، الذي هو جزء منه.

(ب) علم النفس (السيكولوجيا) الذي
يبحث في طبيعة وتكوين وتطور قدراته ومشاعره ككائن نفساني.

(ج) علم الأخلاق الذي يتناول
الإنسان بالبحث ككائن إرادي يملك الإرادة ويقرر وجوه نشاطه.

 

(أ) علم الأخلاق وعلم الميتافيزيقا:

يرتبط علم الأخلاق بعلم الميتافيزيقا من جهة وبعلم النفس من جهة أخرى
ارتباطاً وثيقاً رغم تميزه عنهما. فإذا تناولنا علم الميتافيزيقا في أوسع معانيه
بما يشمله من علم اللاهوت الطبيعي، وبما يفترضه من غاية عظمى يسعى النظام الكامل
للعالم إلى تحقيقها، لأمكننا أن ندرك بسهولة أن الميتافيزيقا أساس ضروري لعلم
الأخلاق. ولأن العالم مخلوق لأجل غرض عاقل ومحكوم به، ولأن الإنسان جزء من هذا
العالم له مكانه ووظيفته في هذا الكون الغائي (المرتبط بغاية في نشأته)، فيعتبر
العالم والإنسان من الفروض الأساسية للحياة الأخلاقية، ويجب قبولهما كأساس لأي
دراسة في علم الأخلاق. ولم يظهر التمييز بين الميتافيزيقا وعلم الأخلاق منذ
البداية، فقد كانا متحدين في الفلسفة اليونانية القديمة اتحاداً وثيقاً، بل حتى
الآن لا يمكن الفصل بينهما تماماً.

ويعود أصل علم الأخلاق إلى الميتافيزيقا أو – على الأقل – إلى علم اللاهوت.
وكل نظام فلسفي يعتبر أن للكون هدفاً أو غاية عظمى، وأن صالح الكائنات البشرية هو
ذاته الصالح العام أو هو جزء منه.

(ب) علم الأخلاق وعلم النفس:

يرتبط علم الأخلاق بعلم النفس ارتباطاً وثيقاً رغم تميزهما. فالموضوعات
التي تتعلق بالسلوك تؤدي حتماً إلى التساؤل عن حالات معينة لعقل الشخص موضوع البحث،
إذ لا يمكننا الحكم على فعل ما بالصلاح أو الفساد من الوجهة الأخلاقية، إلا بتقصي
خصائص النية والقصد والدافع والنزعة التي تشكَّل أساس هذا الفعل. لذلك يُجمع دارسو
علم الأخلاق على أن الموضوع الرئيسي لأبحاثهم يجب أن يتعلق بالناحية النفسية لحياة
الإنسان، سواء الذين تمسكوا بأن غاية الإنسان العظمى هي أن يوجد في محيط اللذة
والمتعة، أو الذين دافعوا عن أن سعادة الإنسان تكمن في تحقيق الفضيلة. والموضوعات
المتعلقة بوجود ونشوء وصلاحية قدرة أخلاقية، والموضوعات المرتبطة بعلاقة اللذة
بالرغبة، وتلك المتعلقة بمعنى صلاحية العمل الإرادي، والمتعلقة بالتطور التاريخي
للعادات والمثل الأخلاقية، وعلاقة الإنسان في كل مرحلة من مراحل وجوده بالمؤسسات
الاجتماعية والسياسية والدينية، كل هذه الموضوعات تنتمي إلى علم الأخلاق، غير ان
جذورها تمتد إلى علم النفس.

يتوقف كيان علم الأخلاق على الإجابات التي يقدمها علم النفس عن مثل هذه
الأسئلة: مثلاً إذا قررنا أنه لا توجد عند الإنسان قدرة مثل الضمير، وأن الحاسة
الأخلاقية ما هي إلا ظاهرة طبيعية نشأت مع التطور الطبيعي والاجتماعي للإنسان (كما
يقول دارون وسبنسر)، وأن أنكرنا قدرة الإنسان على أن يقرر لنفسه، وافترضنا أن حرية
الإرادة ليست إلا وهماً أو أنها عنصر يمكن إهماله، وتعاملنا مع الإنسان باعتباره
ظاهرة من الظواهر الكثيرة في هذا الكون المادي، عندئذ يمكننا حقاً أن نستمر في
الحديث عن علم الحياة الأخلاقية، كما يتحدث عنه بعض الكتَّاب الطبيعيين. غير أن
هذا العلم لن يكون هو علم الأخلاق كما نفهمه.

ومهما يكن تفسيرنا للضمير والحرية، فيجب ألا تحط أي نظرية – عن هذه القدرات
– من شخصية الإنسان. ويمكننا – بحق – أن نشك في صحة أي منهج سيكولوجي يقلل من
تأثير الحاسة الأخلاقية أو يمهد الطريق إلى الشعور بعدم المسئولية.

(ج) الواجب: فعلم الأخلاق يقوم على
افتراض أن الإنسان له حقوق وعليه واجبات، لذلك فهو مسئول عن نواياه كما هو مسئول
عن أفعاله. ولا تشتمل فكرة الشخصية على الإحساس بالمسئولية فحسب، بل تشتمل أيضاً
على الإحساس بوجود قانون يجب أن يخضع له الإنسان، ومثال أعلى يجب أن يهدف إليه.
فغاية الحياة بكل مضامينها، تشكِّل موضوع علم الأخلاق، فهو لا يهتم بماهية الإنسان
أو عمله فقط، بل يهتم بصفة خاصة بما يجب أن يكون عليه، وما يجب عليه عمله. لذلك
تعتبر كلمة " يجب " أبرز الكلمات استخداما في علم الأخلاق، فواجب الحياة
يشكل الغاية أو المثال والقانون للإنسان، فهو يشمل غاية وقاعدة ودافع الفعل ولذلك
فموضوع علم الأخلاق هو البحث في الخير الأسمى للإنسان.

(5) علاقة علم الأخلاق المسيحي
بالفلسفة الأخلاقية: إذا كان أساس علم الأخلاق بوجه عام، هو مسلمات علم الفلسفة
وعلم النفس، وترتكز مبادئه في كل مراحل الوعي الإنساني، على وجهه نظر العالم
والإنسان، فإن علم الأخلاق المسيحي يفترض مسبقاً وجه النظر المسيحية للحياة كما
أعلنها المسيح وأنها متفقة مع المُثُل العليا المسيحية. فعلم الأخلاق المسيحي هو
العلم الذي يتناول الأخلاق كما تشترطها المسيحية، وببحث في طبيعة وقوانين وواجبات
الحياة الأخلاقية المحكومة " بالخير الأعظم " أي " الله "،
والذي يؤمن المسيحيون باستعلانه في حياة يسوع المسيح وتعليمه. فعلم الأخلاق
المسيحي فرع أو تطبيق خاص لعلم الأخلاق العام. وعلم الأخلاق المسيحي لا يتناقض مع
الفلسفة الأخلاقية، لكنه نتيجة حتمية لتطور الفكر، لأننا إذا كنا نؤمن أن الله قد
أعلن ذاته في المسيح، فإن هذا الاعتقاد هو أكبر عامل مؤثر في حياتنا ومصيرنا الذي
يجب أن يحكم كل وجهة النظر الإنسان ويعطي قيمة جديدة لأهدافه وواجباته.

(أ) عدم التناقض: تواجهنا في
المسيحية قوة دافعة لشخصية عظيمة دخلت تاريخ البشرية. وهذه القوة الروحية الفائقة،
الشخصية الفريدة، توجه حياة الانسان الأخلاقية، ومعنى هذا أن الحياة الأخلاقية لا
يمكن إدراكها إلا بالرجوع إلى القوة الخلاَّقة لهذه الشخصية. فإذا كان هناك مكان
لعلم متميز للأخلاق المسيحية، فيجب البدء من المثال الأخلاقي الأعلى الذي تجسد في
شخص المسيح. ومن هذا المنطلق تنبع شريعة أخلاقية للهداية العملية في الحياة
المسيحية. ولكن بينما تعطي هذه الحقيقة لعلم الأخلاق المسيحي شخصيته المتميزة
وقيمته الفائقة، فإنها لا تنقض علم الأخلاق الفلسفي، كما أنها لا تفصل بين الاثنين
فصلاً قاطعاً، فهناك الكثير من المجالات المشتركة بينهما، فكلاهما يغطي دائرة
واسعة في السلوك. كما أن للفضائل الوثنية – كما يسمونها – أهميتها. فالكثير منها
يتفق مع الفضائل المسيحية، فالإنسان حتى في حالته الطبيعية لا يخلو من معرفة
الصواب والخطأ، لأنه مخلوق لحياة أخلاقية (رو 20: 1)، وليست إنجازات القدماء
الأخلاقية " رذائل "، فقد يختلف " الواجب " في مضمونه لكنه
يظل هو " الواجب " تحت أي نظام، فالطهارة هي الطهارة، وعمل الخير هو عمل
الخير، وكلاهما فضيلة سواء في المسيحي أو في الوثني. وبينما يتخذ علم الأخلاق
المسيحي نقطة انطلاقه من إعلان الله وظهور إمكانات الإنسان في المسيح، فإنه يتقبل
نتائج الفلسفة الأخلاقية ويستخدمها، طالما أنها تلقي الضوء على الحقائق الأساسية
للطبيعة البشرية.

 

إذاً فالمسيحية كنهج أخلاقي تعتبر شاملة لأنها تأخذ في الاعتبار كل
المعلومات، وتعتبر الحقائق المؤكدة جزءاً منها وتكمِّل النقص الموجود في المناهج
الأخرى طالما أن استنتاجاتها مبنية على نظرة غير شاملة للحقائق. وبالاختصار، فإن
علم الأخلاق المسيحي يتناول الشخصية في أسمى درجات قوتها الأخلاقية ووعيها الروحي،
ويسعى لتفسير الحياة بأعظم إمكاناتها وأرفع إنجازاتها، كما ظهرت في المسيح.

(ب) فروض فلسفية: لتوضيح ما سبق
ذكره يمكننا أن نلاحظ خاصيتين متميزتين للأخلاق المسيحية، يغفلهما علم الأخلاق
الفلسفي أو يقلل من شأنهما وهما:

1 – يفترض على الأخلاق المسيحي
وجود قوة روحية كامنة في الإنسان تنتظر روح الله ليستنهضها. فيقول " نيومان
سميث " إن الطبيعة البشرية تجد كيانها في دائرة أخلاقية تهدف إلى غايات
أخلاقية حيث أنه توجد طاقة طبيعية للحياة الأخلاقية يدل عليها كل تكوين الإنسان،
ويمكن أن يقال أن المادة ذاتها توجد من أجل الروح، كما أن الروح بدورها توجد من
أجل الروح القدس. ولا يمكن لأي نظرية تتعلق بالنشأة المادية للإنسان أن تعترض
افتراض وقوف الإنسان على مستوى أخلاقي، وأنه يقدر أن يعيش حياه تتشكل بحسب الغايات
الروحية، ومهما يكن تاريخ الإنسان وتطوره، فقد خلقه الله منذ البداية على صورته
وهو يحمل الطابع الإلهي في كل ملامح الجسد والنفس، ولا يمكن لسقطته أن تمحو أصله
النبيل، كما يشهد فساده الفعلي بإمكانية قداسته، فليست الأخلاقيات المسيحية، إلا
تلك الأخلاقيات المعدة منذ الأزل، كما أنها ليست سوى التحقيق الأسمى لكل ما كانت
تسعى إليه الفضيلة الوثنية، فهذا هو رأي الرسول بولس بالنسبة للطبيعة البشرية، فهو
يرى أن يسوع المسيح هو غاية الخليقة كلها وذروة كمالها، ففي كل مكان إمكانية
للمسيح، والإنسان ليس ما هو عليه الآن، بل ما سيصير إليه (1كو 47: 15 – 49).

2 – تتصل بهذه الخاصية خاصية أخرى
تبين الفرق بين علم الأخلاق المسيحي وعلم الأخلاق الفلسفي. وهي موضوع التجديد أو
إعادة خلق الشخصية. فالنظريات الفلسفية لا تفعل أكثر من صياغة المطالب الأخلاقية،
فهي تصف ما يجب عمله أو الامتناع عنه، أما المسيحية فتهتم قبل كل شىء بالسؤال: "
بأي قوة أستطيع أن أفعل الصواب أو الصلاح؟ ". فالمسيحية تعتبر أن الطبيعة
البشرية في حاجة إلى تجديد، وتبين الطريقة التي يمكن بها تجديد وتغير الطبيعة
البشرية مؤكدة أنها " قوة الله للخلاص لكل من يؤمن " (رو 16: 1).

وهكذا يفترض على الأخلاق المسيحي إفتراضاً مزدوجاً معلناً بذلك اختلافه –
في هذا الصدد – عن علم الأخلاق الفلسفي، وتلك الحقيقة المزدوجة هي أن المثل الأعلى
للبشرية استعلن في شخص يسوع المسيح، وأن منه يستمد الإنسان قوة ليصبح على ما يجب
أن يكون عليه، وكل ما يجعل حياته واعدة غالبة.

3 – الأسلوب: وإذا ما تركنا مدلول
الأخلاق المسيحية وأتينا إلى الحديث عن الأسلوب، نجد أن هناك أموراً كثيرة مشتركة
بين علم الفلسفة والأخلاقيات المسيحية، فالاسلوب في كليهما هو الأسلوب العقلاني،
فالمثل الأعلى أو القدوة في المسيحية – رغم أنه يتمثل في المسيح – يلزم فحصه
وتحليله وتطبيقه بنفس القدرات التي يستخدمها الإنسان بالنسبة للمسائل الفكرية. وكل
علم يجب أن يعالج حقائق، وتكون وظيفته هي التفسير السليم لهذه الحقائق. وبينما يجد
المفكر المتأمل الحقائق في دستور العالم الأخلاقي على اتساعه، فإن المسيحي يجدها
في الأسفار المقدسة، وبخاصة في تعليم المسيح. ويكفي أن نقول أنه بينما تشغل الأمور
الأخلاقية جانباً كبيراً من العهد الجديد، ليست هناك أي محاولة لصياغة تلك القواعد
الأخلاقية صياغة علمية، ففيه المادة للمعالجة النظامية للمسائل الأخلاقية، ولكن
واجب تنسيقها وتصنيفها يقع على عاتق المفسرين. فالمادة موجودة، ولكنها تحتاج إلى
تفسيرها وتوحيدها وتطبيقها لتكون منهجاً نظامياً للأخلاق، وبالتالي يجب على مفسري
الكتاب المقدس أن يستخدموا الأسلوب العلمي في تناولهم للحقائق، وهو أسلوب يعتمد على
البحث العقلاني والمنهج الاستقرائى وهو الأسلوب المفترض في حل المشاكل العقلية
بحكم طبيعة العقل ذاته. والمرجع الذي يستند إليه علم الأخلاق المسيحي ليس وحياً
خارجياً يفرض أوامره بطريقة آلية، إنما هو مرجع مجسم في صور جلية يدركها العقل،
وتحتكم إلى القدرات العقلية في الإنسان. فالأخلاق المسيحية ليست قانوناً روتينياً
جاهزاً، بل لابد للإنسان أن يفكر فيها مالياً وأن يربطها بكل علاقات الحياة بواسطة
قواه المفكرة. وليس علم الأخلاق خلاصة مركزة من القواعد المصبوبة في قوالب جامدة
يقدمها الكتاب المقدس أو الكنيسة لتخلص الإنسان من متاعب التفكير. ونسيء تماماً
فهم طبيعة الأسفار المقدسة والقصد من مثال المسيح وتعليمه، إذ افترضنا أنها تقدم
لنا معايير آلية يجب النهج على منوالها وطاعتها طاعة عمياء، فالمسيح يتحدث إلى
الطبيعة العقلانية في الإنسان، وكلمات المسيح روح وحياة طالما تُفهم بطريقة ذكية،
لتصير بالاقتناع الداخلي والتقدير الشخصي مبادئ للتفكير وللعمل.

(6) علاقة علم الأخلاق المسيحي
بالعقائد المختلفة: في مجال علم اللاهوت، هناك عنصران أساسيان في التعليم المسيحي
هما: العقيدة والأخلاق. وإن كان من الأيسر أن نتناول كلاً منهما على حدة، إلا
أنهما في الحقيقة وحدة واحدة ويمثلان وجهين لموضوع واحد، ومن العسير أن نعين
حدودهما فنقول أين تنتهي العقيدة وأين تبدأ الأخلاق.

وقد نميز بينهما أحياناً، فنقول أن العقيدة علم نظري أما الأخلاق فعلم عملي،
فالحقيقة أن الأخلاق أقرب إلى الحياة اليومية، وتعالج أساليب السلوك العملي، بينما
تهتم العقيدة بالمعتقدات وأصولها وشرحها، إلا أن علم الأخلاق من جهة أخرى، يناقش
الأفكار وكذلك الأفعال ويهتم بالأحكام الداخلية اهتماما لا يقل عن اهتمامه
بالإنجازات الخارجية وفي كل عقيدة جانب عملي، كما أن هناك جانب نظري في كل
الأخلاقيات. فإذا انفصل اللاهوت العقائدي عن السلوك العملي، فيخشى أن يصير مجرد
سفسطة، فحتى العلوم التي تعتبر نظرية بحتة مثل الميتافيزيقا، لها ما يبرر في
تأثيرها على الحياة.ومن جهة أخرى فإن علم الأخلاق يفقد قيمته العلمية ويصبح مجرد
تعداد للوجبات، إن لم يكن له أساس عقائدي، وإن لم يستلهم الدوافع من المعتقدات،
فالعبارة الشائعة التي تقول: إن العقيدة هي ما يجب أن نؤمن به، أما الأخلاق فهي ما
يجب أن نفعله، عبارة غير صحيحة على علته، علاوة على أنها غير وافية، حيث أن
القوانين والمبادىء الأخلاقية هي أيضاً من موضوعات الإيمان، كما أن ما نؤمن به له
طابع أخلاقي والتزامات أخلاقية.

(أ) العلاقة: لطالما اتهم "
شلاير ماخر " (
Schleurmacher) بأنه يتجاهل الفرق بين الاثنين، إلا أنه إتهام غير
عادل لأنه بينما هو يعتبر العلمين فرعين للعقيدة المسيحية، ويؤكد الصلة الوثيقة
بينهما، فإنه لا يغفل الاختلاف بينهما. إلا أن بعض علماء علم الأخلاق المسيحي
المحدثين (دورنر) (
Dorner)، مارتنزن Martensen، ووطك Wittke،
وهيرنج
Haering، وليم Lemme) يميلون إلى تأكيد هذا التمييز مطالبين بمناقشة كلاً
منهما على حده، إلا أن الصلة الأساسية بينهما لا يمكن تجاهلها بدون خسارة
للناحيتين. فما يؤدي إلى الارتباك أن نتحدث عن أخلاقيات بدون عقيدة، إذ أن أي
محاولة لتناول موضوعات أخلاقية بدون الإشارة إلى مضامينها العقيدية، لن يجرد علم
الأخلاق المسيحي من طبيعته المتميزة وتبرير وجوده فحسب، بل يهبط به إلى مجرد نظام
من الانفعالات العاطفية. وعليه يمكن اعتبار العقائد والأخلاق علمين متلازمين يخدم
أحدهما الأخر، فعلم الأخلاق يحفظ العقيدة من أن تتحول إلى مجرد حالة من التأمل
الخيالي، ويجعل لها أساساً راسخاً من الحقيقة عن طريق تقديم اختبارات الحياة
وإمكانية الاستفادة منها. ومن جهة أخرى فإن العقائد تمد علم الأخلاق بالمبادئ
الفعَّالة والمقاييس العيارية، وتحفظ الحياة الأخلاقية من الانحطاط إلى حالات من
أوهام التعصب أو تبلد الاستسلام للقدرية.

(ب) التمييز: بينما يشكّل علم
الأخلاق والعقيدة الجانبين المتكاملين لعلم اللاهوت ويخدم أحدهما الآخر إلا أن علم
الأخلاق يفترض مسبقاً وجود العقيدة بل ويقوم على أساس مسلماتها، فالعقيدة تقدم
جوهر الوعي الديني ومضامينه وهدفه، أما علم الأخلاق فيقدم هذا الوعي كقوة تحدد
الإرادة البشرية، فتنظر العقائد إلى الحياة المسيحية من جهة اعتمادها على الله أما
علم الأخلاق فينظر إليها من وجهة نظر الحرية الإنسانية. وتتناول العقائد الإيمان
في علاقته بالله باعتباره وسيلة قبول النعمة الإلهية، أما علم الأخلاق فيتناول
الإيمان من حيث علاقته بالإنسان، كنشاط بشري وبصفته العامل في السلوك. فالعقيدة
تبين لنا أن اختيارنا لملكوت الله هو عمل المحبة الإلهية، أما علم الأخلاق فيبين
كيف أن معرفتنا للإخلاص تظهر في محبة الله ومحبة القريب ويجب أن تعمل في كل علاقات
الحياة.

هل تبحث عن  هوت روحى كلمة منفعة 37

(ج) الافتراضات اللاهوتية: ومن
وجهة النظر هذه نجد أن العقائد تزود علم الأخلاق ببعض الافتراضات التي يمكن ان
نوجزها هنا:

(1) علم الأخلاق والفكرة المسيحية
عن الله: فالله ليس مجرد قوة أو خالق كما تقدمه الفلسفة، إذ أن القوة الإلهية يجب
أن تتصف بما يمكن أن نطلق عليه صفات الله الأدبية، فنحن لا ننكر أنه كلي القدرة
ولكن ننظر إلى محبته التي تسمو فوق القوة، أي أننا ننظر إلى الله في المسيح، كما
ندرك أن هناك ترابطاً بين صفات الله الأدبية:

1-الإحسان والرحمة.

2- ويقابل ذلك صفة أخلاقية دقيقة
وهي العدل الإلهي، إذ أن رحمة الله ليست رحمة عمياء لكنها رحمة حكيمة ومميزة.

3- وعلى قمة الصفات الإلهية تأتي
المحبة الإلهية أو النعمة الإلهية التي تجمع بين الرحمة والعدل في صفة شاملة. فالله
الذي تقدمه العقيدة إلى علم الأخلاق هو الله في المسيح.

(2) علم الأخلاق يفترض ما تنادي به
العقيدة المسيحية عن الخطية: وليس من اختصاص علم الأخلاق أن يبحث في منشأ الشر، أو
أن يضع نظرية عن الخطية، ولكن لابد أن يكون المنهج الذي ينتهجه متفقاً مع حقائق
الإعلان الإلهي ومنسجماً مع حقائق الحياة. فأي مفهوم زائف أو غير وافيِ عن الخطية،
يسىء إلى علم الأخلاق كما يسيء إلى العقيدة. ويتوقف على مفهومنا للشر – إلى حد
كبير – نظرتنا للحياة من حيث مشاكلها وغايتها وتجاربها وانتصاراتها. وتوجد ثلاثة
أراء في الخطية: فبالنسبة للبعض (كاليونانيين القدماء) ليست الخطية إلا نقصاً أو
تقصيراً أو أن يخطأ الإنسان الهدف. وبالنسبة للبعض الآخر هي مرض أو شىء كامن في
تكوين الإنسان، أو على الأقل هي ضعف أو قصور كامن في الجسد ناتج عن الوراثة
والبيئة.

وبينما هناك شىء من الصواب في كلا الرأيين إلا أن كليهما به نقص لأنهما لا
يأخذان في الاعتبار – بدرجة كافية – عنصراً هاماً هو عنصر الإرادة الذاتية،
فالخطية – بهذا المفهوم – هي سوء حظ أو قضاء وقدر مما ينتفي معه الإحساس بالذنب.
والنظرة المسيحية تتضمن هذه المفاهيم مع إضافة فكرة مميزة تعطي لهذه الأفكار
قيمتها، فليست الخطية مجرد فعل سلبي، بل هي فعل إيجابي وقوة باطنية مسيطرة، كما
أنها ليست مجرد نقص، بل هي تعدٍ، وليست مجرد مرض موروث متأصل، بل هي إنحراف
إختياري وهي ليست غريزة كامنة في الجسد أو مجرد دوافع حيوانية أو عواطف جسدانية،
بل هي بالحري تختص بالعقل والإرادة، وأساسها الأنانية. فهي الإختيار الإرادي للذات
وتفضيلها على الله. وهي عصيان شخصي متعمد. وعلى ذلك يجب للتغلب عليها، ليس قمع
الجسد أو استئصال الأهِواء، بل قبول مبدأ جديد في الحياة وتغيير الإنسان تغيراً
كليًا. وهناك – بالتأكيد – درجات ومراحل من عمل الشر، كما أن هناك ظروفاً تقابل
ذلك يجب أخذها في الاعتبار عند تقييم أهمية الشر، إلا أنه في النهاية يفترض علم
الأخلاق المسيحي حقيقة الخطية باعتبارها عصياناً شخصياً ضد قداسة الله، كاختيار
مقصود للذات، وكانحراف متعمد من كل قوى الإنسان نحو وسائل الشر.

(3) يفترض علم الأخلاق المسيحي
مسئولية الإنسان: كنتيجة للفكر المسيحي عن الله وعن الخطية. فعلم الأخلاق المسيحي
يعتبر كل إنسان مسئولاً عن أفكاره وعن أفعاله، ومن ثم فهو قادر على اختيار الصلاح
كما هو معلن في المسيح. والمسيحية رغم أنها لا تنكر سيادة الله المطلقة، أو تقلل
من غموض الشر، بل وتعترف بأن الخطية قد عمت العالم، فإنها تؤكد بكل قوة مبدأ حرية
الإنسان ومسئوليته، فالأخلاق تصبح مستحيلة لو افترضنا ضرورة الخطية من جانب، وأن
عمل النعمة لا يقاوم، من الجانب الآخر، إذا كان فعل الشر محتماً. ومهما تكن
عقيدتنا في هذه الأمور، فعلم الأخلاق يؤكد حرية الإرادة.

وهنا يبرز سؤال هام، وهو: هل يمكن اختيار الصلاح بدون معرفة المسيح؟ ورغم
صعوبة هذا السؤال، ورغم إجابة أوغسطينوس وكثيرين من الأباء الأولين عليه، بالنفي،
فإن النظرة الحديثة – ولعلها أكثر النظرات إنصافاً – هي أنه لا يمكن إعتبار الناس
مسئولين ما لم نمنحهم أكبر قسط من الحرية. فلو كان قد قُدِّر لغير المسيحيين أن
يعملوا الشر، فلا يمكن أن يحسب عليهم ذنباً، لكن التاريخ يثبت أنه كان هناك نوع من
حب الخير في بعض الأحيان، كما حدثت حالات متفرقة من الطهارة والرحمة بين أناس لم
يعرفوا شيئاً عن المسيح.والعهد الجديد يعترف بوجود درجات من الفاسدين الأمم
والأفراد، وكذلك بوجود قدر من التطلع نحو السمو والسعي الجاد نحو الصلاح في
الطبيعة البشرية العادية. ويعلن الرسول بولس بوضوح وجود بعض المعرفة والأعمال
الصالحة بين الوثنيين، ورغم أنه يوبخ فسادهم بعبارات قاسية، إلا أنه لا يؤكد أن
المجتمع الوثني قد فسد تماماً لدرجة أنه فقد كل معرفة للصلاح الأدبي. (انظر رومية
15: 2).

 

ثانياً – عرض تاريخي لعلم الأخلاق:

من الطبيعي أن تشمل المعالجة الشاملة لموضوع الأخلاق، تاريخ علم الأخلاق
منذ العصور الأولى حتى الوقت الحاضر، لأن علم الأخلاق كفرع من الأبحاث الفلسفية قد
شارك في التطور التاريخي للفكر الإنساني. وما يعرضه علم الأخلاق اليوم من موضوعات
يمكن تقييمه تقييماً صائباً في ضوء مفاهيم ومعايير معينة مثل الغاية والصلاح
والفضيلة والواجب واللذة وحب الذات والإيثار، والتي تطورت في المراحل المتعاقبة من
حركة الأفكار في علم الأخلاق. وكل ما سنحاوله هنا هو عرض موجز بسيط للأحقاب
المختلفة للفكر الأخلاقي، للدلالة على المراحل التمهيدية لاكتشاف تطور علم الأخلاق.

 

(أ) الفلسفة اليونانية:

(1) السفسطائية: كل الديانات
الكبرى في العالم، التي ظهرت في الهند وفي فارس وفي مصر، كانت لها مفاهيمها
الأخلاقية وكانت هذه المفاهيم تتكون في غالبيتها من وصايا أو مأثورات غير مترابطة،
ولم يكن هناك علم للأخلاق بالمعنى الدقيق قبل العصر الذهبي للفلسفة اليونانية. وقد
نشأ الوعي الأخلاقي لدي اليونانيين على يد السفسطائيين – وبخاصة سقراط – الذين
كانوا أول من احتج ضد العادات العتيقة والتقاليد القديمة في بلادهم. وكان الناس
المدعوون " حكماء " علماء في الأخلاق – إلى حد ما – إلا أن أقوالهم وحكمتهم
لم تكن إلا أمثالاً متفرقة لا تشكل وحدة ولا تربط بينها صلة، فقد انشغلت الفلسفة
الخاصة أساساً بالمسائل الميتافيزيقية البحتة، أو بالموضوعات الوجودية الصرفة، مثل
طبيعة الكائنات وشكل وأصل عناصر العالم الأولية، ولم تتناول الفلسفة الموضوعات
الأخرى مثل معنى الحياة أو السلوك، إلا بعد أن فقدت الديانة اليونانية والشعر
الإغريقي سيطرتهما على المثقفين، وداخل الناس الشك في معتقداتهم الماضية.

 

(2) سقراط: وجه السفسطائيون النظر
إلى الغموض والتناقض في الرأي العام، وبدأوا في تعليم الناس فن السلوك، غير أن
سقراط هو الذي – كما يقال – جذب الفلسفة من السماء إلى الأرض، وحوَّل عقول الناس
من التفكير في الأمور الميتافيزيقية البحتة، إلى الحياة البشرية، فكان بحق أول
فيلسوف أخلاقي، لأنه بينما تكلم السفسطائيون عن العدل والقانون والاعتدال وضبط
النفس، إلا أنه لم يمكنهم – عند مناقشتهم – أن يعرِّفوا كنه هذه الأمور. كانت أول
مهمة لسقراط هي أن يكشف جهل الإنسان فيقول سقراط أن كل التخبط والمجادلات الدائرة
حول " الخير " تنبع من الحاجة إلى المعرفة الواضحة.مستهدفاً بذلك "
المعرفة " – ليس سعياً وراء المعرفة في حد ذاتها – بل لأنه كان يعتقد أنها
أساس كل سلوك قويم، فما من إنسان يفعل الشر طواعية وبإرادته. ويضيف سقراط قائلاً: "
علَّم الإنسان ما هو صالح، أي ما هو نافع حقاً، وهو يفعله ". ومن هنا جاءت
المقولة الشهيرة لسقراط: " الفضيلة معرفة، والرذيلة جهل " ورغم عقلانية
سقراط، إلا أنه كان من المؤمنين بمذهب اللذة، أي أن اللذة هي الغاية العظمى.
للحياة.

فيجب ألا نتصور أنه اعتقد أن معرفة الفضيلة أمر متميز على المنفعة، فكل
إنسان يسعى نحو الخير لأن الخير مرتبط بسعادته، فالرجل الحكيم هو بالضرورة الرجل
السعيد، من ثم فإن معرفة الإنسان لنفسه هي معرفته لسر السعادة.

 

(3) أفلاطون: بينما كان سقراط أول
من وجه النظر إلى طبيعة الفضيلة، إلا أن مفهومه للفضيلة، القاصر و المتحيز، كان
موضع معالجة متسعة من جانب أفلاطون الذي حاول أن يعرف طبيعة الإنسان و غايته من
خلال موقعه من الكون، ولهذا ربط أفلاطون ما بين علم الأخلاق وبين الميتافيزيقا (ما
وراء الطبيعة) وافترض عالماً مثالياً يضم نموذجاً أصلياً لكل ما هو أرضي وبشري،
فالنفس الإنسانية مأخوذة من عالم النفس وهي مثله خليط من عنصرين، فهي – من جهة
بفضل العقل – تشارك في عالم الأفكار أو حياة الله، ومن جهة أخرى – بسبب الدوافع
الحيوانية – تشارك في عالم الفناء أو العالم الجسداني. ويرتبط هذان الجزءان
المتباينان من النفس مع بعضهما البعض بعنصر وثيق، دعاه أفلاطون باسم
"ثيوموس" (
thumos) وهو يتضمن الشجاعة وحب الكرامة والشرف و العواطف
القلبية. مما يمكن ترجمته لكلمة "الإرادة ". ويظهر تكوين الإنسان
الداخلي في هيئته الخارجية، فالرأس هي موضع العقل، والصدر موضع القلب والعواطف،أما
الجزء السفلي من جسم الإنسان فهو أعضاء الرغبة الحيوانية. فإذا تسائلنا فمن هو
الإنسان الكامل؟ يجيب أفلاطون أنه ذلك الإنسان الذي يتوائم فيه العناصر الثلاثة السابق
ذكرها معاً، وبذلك نصل إلى النظام الذي يدعى "الفضائل الرئيسية" التي
ثبتت عبر كل العصور ووجهت كل حوار اخلاقي. وهذه الفضائل هي "الحكمة والشجاعة
وضبط النفس" وهي مجتمعة معاً تعني "العدالة" وهكذا نلاحظ أن
الفضيلة لم تعد مجرد "المعرفة"، ولكن هناك -إلى جانب الجهل – شكل آخر من
السلوك السيء، وهو الإضطراب الداخلي والصراع النفسي، حيث تتصارع الدوافع الدنيا مع
الدوافع السامية. ويعتبر هذا كما سنرى خطوة متقدمة عن موقف سقراط المنحاز إلى جانب
واحد. غير أن أفلاطون لم ينجح في التغلب على الازدواجية في محاولته التوفيق بين
الحركتين في صراع الحياة. فالدوافع الداخلية تسحب الإنسان دائماً إلى أسفل، بينما
تكمن سعادة الإنسان في بلوغه حياة العقل. لذلك وإن كان في نظرية افلاطون بعض
اللمحات من حل أسمى فإنه يستند إلى الفكرة القائلة بأن بلوغ الفضيلة إنما يتم بكبت
الرغبات الحيوانية وإماته الحياة الدنيا. ويقدم لنا أفلاطون العناصر الأولية لعلم
الأخلاق الاجتماعية. فالأخلاق كما يفهما أفلاطون ليست أمراً يخص الفرد فحسب، لكنها
لا تتحقق تماماً إلا في الدولة، فليس الإنسان إلا صورة من الكون الأكبر وأنه قادر
على أن يحقق حياته الصحيحة لا كفرد بل كمواطن.

(4) أرسطو: نظرية الأخلاق عند
أرسطو تكمل نظرية أفلاطون ولا تختلف عنها جوهرياً. وأرسطو هو أول من تناول موضوع
الأخلاق كعلم، وصار لديه جزءاً من علم السياسة. فالإنسان كما يقول أرسطو – هو بحق
"حيوان اجتماعي". وهو يتعامل مع الإنسان بأكثر تحديد عن أفلاطون كجزء من
المجتمع. ويبدأ أرسطو كتابه العظيم عن الأخلاق، بمناقشة ما هو "الخير
الأسمى"، ويعلن أنه هو السعادة أو الرفاهية، لكن السعادة لا تكمن في اللذة
الحسية ولا في السعي نحو الشرف والكرامة، بل في حياة التأمل المنظم، في"نشاط
النفس في توافق مع العقل". ولكي نصل إلى التفكير السليم والفعل الصحيح، يلزم
لذلك ظروف مواتية ومعرفة سليمة، ولا تصبح الفضيلة فضيلة ما لم تصر عادة. والطريقة
الوحيدة ليصير الإنسان "فاضلاً" هي ممارسة الفضيلة.

وهكذا نلاحظ أن أرسطو يوازان بين نظرية سقراط ذات الجانب الواحد، وبين رأي
أفلاطون عن المعرفة، وذلك بإصراره على أهمية العادة. ولابد أن يرتبط النشاط بالعقل،
كما يجب الاعتراف بأن الماضي والحاضر، البيئة والمعرفة، عناصر في صنع الحياة.
فالفضائل إذاً عادات، ولكنها عادات بالاختيار المدروس، ولذلك فالفضيلة عمل أو نشاط
يسعي دائماً إلى تحقيق الوسط بين طرفين متناقضين.

وتتميز قائمة الفضائل التي وضعها أفلاطون بالبساطة، ولكن تلك التي وضعها
أرسطو وإن كانت أكثر اكتمالاً، إلا أنه ينقصها النظام. وتتكون بوجه عام من الأفعال
الصحيحة التي تُحدَّد بتوسطها بين نقيضين. ومن بين نقائصها التي يندهش لها الفكر
الحديث، أن الإحسان لا يحسب بين الفضائل إلا باعتباره نوعاً من السخاء. وبوجه عام
فإن الفضائل الرفيعة، فضائل التضحية البارزة في المسيحية، ليس لها مكان في تلك
القوائم. إن الفضائل التي يذكرها أرسطو هي اساساً فضائل أرستقراطية ومستحيلة على
العبيد. وبينما أحسن أرسطو صنعاً في معارضته للفلسفة السابقة في إدراك وظيفة
العادة، إلا أنه لابد من الإشارة إلى أن العادة ذاتها لا يمكن أن تجعل الإنسان
فاضلاً، بل قد تكون العادة عائقاً وليست عاملاً مساعداً على تحقيق الغايات السامية.
ولا يمكن أن تتحول الأخلاق إلى مجرد سلسلة متعاقبة من الأعمال المعتادة. إلا أن
الخطأ الرئيسي في معالجة أرسطو "للفضيلة" هو أنه اعتبر العواطف أموراً
لا عقلانية ولا أخلاقية، ولم ير أن العاطفة بهذا المفهوم لا يمكن أن يكون لها حد
وسط، فلو كان فيك الكثير من الصلاح، فلا يمكن أن يكون فيك شيء من الشر. فالدوافع
والرغبات في الإنسان لا يمكن ان تكون لا عقلانية على اطلاقها، فالعقل يدخل في كل
رغبات الإنسان ويعطي جسده وكل قواه البدنية قيمة أخلاقية ونفعاً أدبياً، فلن نصير
أفاضل بكبت العواطف، بل بتحويلها إلى وسيلة للخير.

وقد تأثر أرسطو بدرجة لا تقل عن افلاطون بالثنائية أو الازدواجية اليونانية،
التي تجعل تناقضاً بين العقل والعاطفة، وتعطي للعقل مكانة أسمى.

(5) الرواقيون والأبيقوريون: نتج
عن الصراع بين العقل والعاطفة اللذين لم يستطع أفلاطون و أرسطو أن يوفقا بينهما،
ظهور تفسيرين متضادين للحياة الأخلاقية. فاختار الرواقيون الطبيعة العقلية لتكون
المرشد الصحيح للنظام الأخلاقي ولكنهم أعطوها السيادة بصورة كادت تهدد بالقضاء على
العواطف. أما الأبيقوريون الذين تمسكوا بمبدأ أن السعادة هي الخير العظم، فقد
ركزوا بقوة على الجانب العاطفي حتى أنهم أباحوا كل أنواع اللذات الحسية. ويتفق
كلاهما على أن الهدف النهائي للسلوك الأخلاقي هو سعادة الفرد. ولا يلزمنا هنا أن
نعرض بالتفصيل معتقدات أبيقور وأتباعه، ولا نجد ضرورة للتركيز على آرائه، لأنه
بالرغم من أن الأبيقورية والرواقية يمثلان الاتجاهات الرئيسية في الدراسات
الأخلاقية وكان لهما أثر بالغ على الجانبين الفكري والعملي في العصور اللاحقة، إلا
أن مفاهيم الرواقيين كانت أقرب صلة بالمسيحية.

(6) الفلسفة الرواقية: بدون الخوض
في المفهوم الرواقي عن العالم باعتباره وحدة كلية يتداخل معها ويحكمها روح كامن
فيها، وما تبع ذلك من مفهوم للحياة بأنها منبثقة من الله، وأنها في كل جوانبها
إلهية، يمكن أن نلاحظ أن الرواقيين مثلهم مثل أفلاطون و أرسطو قد اعتبروا أن تحقيق
الغرض الطبيعي للإنسان هو السعادة الحقيقية والخير الأسمى. وقد صاغوا هذه الفكرة
في مبدأ يقول: "الحياة حسب الطبيعة" فالإنسان الحكيم هو من يجاهد ليعيش
في وئام مع طبيعته العقلانية في كل ظروف الحياة، فقانون الطبيعة هو تجنب ما هو ضار
والسعي نحو ما هو ملائم، وتتحقق اللذة كأمر مصاحب لحصول الإنسان على ما يلائمه،
إلا أنه لا بد أن تعتبر اللذة والألم مجرد أحداث أو عوارض في الحياة، ويجب على
الرجل الحكيم أن يقابلها بعدم الاكتراث، فالرجل الحكيم هو وحده الحر، وهو سيد نفسه
وسيد العالم حوله، ويقر بسيادة العقل المطلقة محرراً ذاته من الشهوات الأرضية.
وحياة الحرية هذه متاحة للجميع، فالناس جميعاً سواسية، وهم أعضاء في جسد واحد كبير.
فالعبد الرقيق يمكنه أن يكون حراً، مثله في ذلك مثل الحاكم، وكلاهما يمكنه أن يخضع
العالم لخدمته بالعيش معه في انسجام ووئام.

وهناك قدر معين من السمو في الأخلاق عند الرواقيين فقد استجابت لفلسفتهم
العقول النبيلة وتأثر بها غالبية الشخصيات العظيمة في العهود الأولى للامبراطورية
الرومانية، وشجعت كل محاولة لتحقيق كرامة النفس البشرية وحريتها. إلا أننا لا يمكن
أن نغض الطرف عن عيوب الفلسفة الرواقية، فلم يكن حديثها عن الحلول الإلهي والعناية
إلهية سوى حديث عن مصير مبهم يسود الكون كله. ولم يكن "الانسجام مع
الطبيعة" أو "الحياة حسب الطبيعة" سوى إحساس بالغطرسة والاكتفاء
الذاتي.

فالرواقية تمجد العقل إلى حد كبت كل العواطف، وليس في الرواقية ادنى إحساس
حقيقي بالخطية. فالخطية في الفلسفة الرواقية هي ما لا يتفق مع العقل، ويكمن الخلاص
في التحكم الخارجي في العواطف بالفتور وعدم الاكتراث الناتجين عن ضمور الشهوة. إلا
أن الميزة الكبرى للرواقيين هي تأكيدهم على سلامة الأخلاق الداخلية كشرط وحيد لكل
فعل صائب وللسعادة الحقيقية. كما أنهم أكدوا في عصر الانحلال والفساد على ضرورة
الفضيلة، وبتفضيلهم أفراح الحياة الداخلية واحتقار كل المسرات الحسية، والتأكيد
على الواجب والدفاع عن الإنسانية المشتركة، إلى جانب إيمانهم بالعلاقة المباشرة
بين كل نفس إنسانية وبين الله. فالرواقية – كما نراها في كتابات "سنيكا"
(
Seneca) و"ماركوس أوريليوس" (Marcus Aurelius) و"أبيكتيتيوس" (Epictetus)
لم تبين فقط كيف أن الوثنية في أفضل أحوالها يمكن أن تصل إلى مستوى عال، لكنها
أثبتت أنها كانت إلى حد ما تهيء الطريق للمسيحية التي تشترك مع الفلسفة الرواقية رغم
كثرة عيوب الرواقية في الكثير من المباديء العملية.

(7) الفلسفة الرواقية والرسول بولس:
كثيراً ما أشير إلى تشابه الفلسفة الرواقية والتعاليم الأخلاقية عند بولس. ولا
يمكن تبرير ذلك التشابه بينهما لغة وفكراً بأنه محض صدفة. ولكن كان في الفلسفة
الرواقية بعض العناصر التي لم يكن ممكناً للرسول بولس أن يتقبلها، أو يتعاطف معها،
فمثلاً فكرة الوحدة بين الله والكائنات، والمفهوم المادي للعالم، والافتخار بالذات،
وغياب كل احساس بالخطية والحاجة إلى الغفران، واللامبالاة والكبت غير الطبيعي
للمشاعر، كل هذه السمات لم تكن لتثير في فكر الرسول إلا المقاومة الشديدة. ولكن
كانت هناك بعض الصفات المعروفة النبيلة التي ضمن أخلاقيات الرواقيين، والتي يرى
البعض أن الرسول بولس وجد فيها أفكاراً مقبولة لم يتردد في استخدامها لخدمة
الإنجيل.

وبدون التركيز كثيراً على هذا النهج الفكري، يمكننا أن نذكر من هذه
المباديء والآراء فكرة عظمة الله ووجوده في كل مكان كالعلة لكل حياة وكل نشاط،
وفكرة الحكمة أو المعرفة كمثل أعلى للإنسان، ومفهوم الحرية كحق وامتياز للفرد،وفكرة
الاخاء كهدف تسعى إليه البشرية.

(ب) الفلسفة السكولاستية: التي
سادت العصور الوسطى، فبعد أن انقضت القرون الأولى من العصر المسيحي، عانت الأخلاق
المسيحية (كما يبدو لنا من الرسائل)، كما عانى علم اللاهوت المسيحي من فساد
الغنوسية، كما عانت مؤخراً من "السيكولاستية" فتجمد الحق المسيحي في شكل
قائمة من الفرائض الدينية. ففي عصر الآباء الأولين (برنابا، اكليمندس، أوريجانوس
وغريغوريوس) لم يكن ثمة تمييز بين التعليم الأخلاقي والتعليم العقائدي. وقد ناقش
"كبريانوس" المسائل الأخلاقية من وجهة نظر التأجيب الكنسي. وقد قام
"أمبروزيوس" بأول محاولة حقيقية لدراسة علم الأخلاق المسيحي، ويعتبر
مبحثه عن "الواجبات" محاكاة لما كتبه شيشرون تحت نفس العنوان. بل أن
أوغسطينوس رغم نظرته الثاقبة في طبيعة الخطية عالج المسائل الأخلاقية بطريقة عارضة.
ولعل "أبيلارد" (
Abelard) في كتاب "الأخلاق" و
"بيتر لومبارد" (
Peter Lombrd) في كتاب "أقوال"، وعلى
رأسهم "توما الأكويني" (
Thomas
Aquinas
)
في كتابه " المختصر" هم الكتَّاب الوحيدون من بين الفلاسفة السكولاستيين
باستثناء "ألكوين" (
Alcuin) في كتابه "الفضائل
والرذائل" الذين قدموا عملاً أو بحثاً علمياً وافياً عن الأخلاق.

(ج) عصر الإصلاح الديني: جاء
التحرر من الالتزام الناموسي لأول مرة مع عصر الإصلاح الديني الذي كان في جوهره
نهضة أخلاقية. فقد أعيدت صياغة العلاقة بين الله والإنسان في ضوء الحق الكتابي،
وتكشفت قيمة الإنسان وحقوقه كإنسان بعد طول غموض، وتحرر الضمير، وأصبح
"لوثر" بطل "حرية الفرد".

"ديكارت" (Descartes) و "سبينوزا" (Spinoza): إن أكثر الكتَّاب تعبيراً عن الروح
البروتستانتية في ميدان الفكر البحت، هما "ديكارت" و
"سبينوزا"، وبهما اتخذ التأمل في طبيعة الإنسان المتميزة والتزامه
منطلقاً جديدا. وبدون تتبع ما آلت إليه الفلسفة من مصير في القارة الأوربية، حيث
اتخذت شكلاً من وحدة الوجود في ألمانيا، ونغمة مادية في فرنسا،(رغم أن "جان
جاك روسّو" قد وجه الفكر الأوربي إلى تكوين الإنسان)، يمكن أن نقول إن الفكر
الفلسفي في إنجلترا اتخذ طابعاً عملياً، وعلى أساس أبحاث "جون لوك" (
Locke) و"بركلي"(Berkeley) وهيوم (Hume)
في طبيعة وحدود الفهم الإنساني، برزت موضوعات مصدر الالتزام الأخلاقي، والقدرة على
الحكم الأخلاقي، إلى المقدمة.

(د) فلاسفة علم الأخلاق في إنجلترا:
يمكن تصنيف فلاسفة علم الأخلاق في إنجلترا حسب آرائهم. فيؤكد "هوبز" (
Hobbes) أن الإنسان أناني بطبيعته. وأنه في كل أعماله يراعي مصلحته
الشخصية. أما "كدورث" (
Cudworth) و"مور" (More) و"ولستون" (Wallaston) و"شافتسبري" (Shaftsbury) وهتشيسون (Hutchiuson) و"آدم سميث" (Adam Smith) وغيرهم فقد قاموا بدرجات متفاوتة من النجاح ببحث
العلاقة بين فضائل الفرد وفضائل المجتمع، ويتفقون بصفة عامة على أن التوازن
المضبوط بينهما يرجع إلى الحس الأخلاقي الذي يرشدنا في الأمور الأخلاقية، مثل
التذوق أو الإحساس بالجمال. ويستند كل أولئك الكتَّاب انصار مذهب الفطرة إلى غريزة
أنانية أصيلة. فالأنانية مهما حاولنا اخفاءها أو دعوناها "منفعة" هي
المنبع الفكري والمعيار الحقيقي لكل فعل. وقد اتخذ "بتلر" (
Butler) في كفاحه من أجل إثبات سيادة الضمير وتفرِّده موقفاً مستقلاً،
لكنه ليس أكثر منطقية. وقد عانى كل من "بتلر" وعلماء الأخلاق اللاحقون "بالي"
(
Paley) و"بنتام" (Bentham) و"ميل" (Mill) من نظرة سيكولوجية ضيقة متكلفة تتفهم القدرات المختلفة على أنها
عناصر منفصلة ومستقلة كامنة في الإنسان.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس م مدراش صموئيل ل

(ه) مذهب النفعية: ومذهب النفعية
هو مجموعة من النتائج المترابطة التي ترى الجانب الأخلاقي من السلوك في التأثيرات
والأحاسيس. وأصحاب هذا المذهب رغم اختلافهم في التفاصيل يتفقون على أن الغاية
الرئيسية للإنسان هي السعادة. وقد حاول "بنتام" و"ميل"
استنتاج حقيقة أن الخير نابع من نقطة الأنانية، إذ يقول "ميل": "لا
يمكننا أن نبرر السبب في أن السعادة العامة مرغوبة إلا إذا كان كل إنسان يرغب في
سعادة نفسه، والسعادة العامة هي الخير لمجموع الناس".

غير أن أصحاب النفعية المتأخرين إذ لم يرضهم هذا الاستنتاج الذي لا يتفق مع
المقدمات، وأنكروا مذهب اللذة الشخصية تمسكوا بمبدأ السعادة العامة التي يدفعنا
إليها العقل. ولكن ما هو العقل ولماذا يجب أن أستمع له؟

(و) مذهب التطور في الأخلاق: ارتبطت
نظرية الفطرة مؤخراً بنظرية التطور العضوي، فيقول "سبنسر" (
Spencer) إن المشاعر من حب الذات وحب الخير هي في واقعها نتاج التطور،
تطور الغرائز والدوافع للخير الاجتماعي، وإن كانت كائنة في شكل بدائي حيواني،
لكنها تطورت بفعل البيئة والوراثة والنظم الاجتماعية التي خضع لها الإنسان خلال
تاريخه الطويل.

غير أن هذه النظرية تعود بالمشكلة إلى الوراء، حيث أنه كما
يقول"جرين" (
Green): "لابد أن تمر اجيال لا حصر لها حتى يتسنى
للكائن الحي خلالها أن يتطور تدريجياً بالتفاعل مع بيئته… إلى أن يتحقق الشعور
بالذات.. مما يزيد الأمر عجباً، ولكنه لا يستطيع أن يغير النتائج".

(ز)"عمانوئيل كنط" (Kant): إن فلسفة "كنط" هي الفلسفة المنافسة لفلسفة اللذة
والمتعة حيث أنها تنادي بمبدأ "الواجب من أجل الواجب". وكان
"كنط" أول من نادى بهذه الفلسفة. وقد هدم مبدأه عن "الواجب من أجل
الواجب" نظرية "اللذة من أجل اللذة ". والضمير عند "كنط"
ليس سوى العقل العملي. والقوانين عنده هي قانون واحد. فرغم أن العقل في معرفته
للأشياء قاصر على الظواهر المحسوسة فقط، إلا أنه في نطاق الممارسة العلمية يتخطى
الظواهر الى الواقع، وينقلنا استقلال الارادة من عالم الظواهر الى عالم ما وراء
الحس. ويقرر مبدأ الحقيقة المطلقة أو القانون الأخلاقي في عبارة "يجب
عليك" كما يقرر مبدأ سلوكياً بغض النظر عن الرغبة أو الغاية. وبناء على طبيعة
"الواجب من أجل الواجب" فإن صيغة الفضيلة هي: "اعمل بناء على مبدأ
يناسب القانون العام في كل الأوقات".

غير أن هذا المبدأ له عيوبه، فبينما يحدد الجانب الشخصي أو الشكلي للواجب،
فإنه لا يقول شيئاً عن الجانب الموضوعي أو عن مضمون الواجب،فقد نتعلَّم من
"كنط" عن عظمة الواجب في تجرده والحاجة إلى طاعته، إلا أننا لا نتعلَّم
منه ماهية الواجب. ويظل قانون "كنط" قانوناً شكلياً ومجرداً بلا مضمون،
ولا علاقة له بجوهر الحياة العملية.

(ح) المثاليون الألمان: كان هدف
الفلسفة المثالية التي بدأت من "كنط" هو التغلب على التجريد وإضفاء
المضمون على قانون العقل، وتحقيقه في مباديء وعلاقات الحياة.

(1)"هيجل" (Hegel): وقد سار على نهج "فيتشيه" (Fiche)
الذي اعتبر الأخلاق عملاً يتفق مع أفكار العقل، وأن الوعي الذاتي يتحقق في عالم
الأفعال ومن خلاله. ويبدأ "هيجل" بتلك الفكرة كأساس لكل الحقيقة ثم يطور
مفهوم "الشخصية الواعية" والتي تصل تدريجياً إلى الوحدة الكاملة وتحقيق
الذات في إدراك العالم والله، وذلك بالتغلب على التناقض بين العاطفة والعقل.
وقانون "الحق" أو قانون المثال الأخلاقي هو "كن انساناً واحترم
الآخرين كأناس".

والإنسان "كذات" له جذوره في ذات أو شخصية لا نهائية. والوعي
الذاتي للفرد مستمد من الوعي الذاتي الشامل واللانهائي الأبدي، ومستمر بسببه.
ولذلك فالمعرفة ليست سوى اكتشاف العقل للأمور تدريجياً والتحقق المتوالي للعالم
باعتباره الظهور الذاتي لشخصية لا نهائية تتحد معها عقلية الإنسان المحدودة. ومن
ثم فإن الأخلاق هي الإكتشاف التدريجي للقصد الأبدي الذي هدفه هو كمال الإنسان.

(2)الشعاران: " اللذة
والواجب": رأينا أنه في تاريخ علم الأخلاق ظهر شعاران متنافسان هما
"اللذة والواجب"، أو بعبارة أخرى "الأثرة والإيثار" أو
"الأنانية والغيرية"، ولكل منهما ما يبرره. إلا أن كلا منهما على حدة،
مجرد ومنحاز.والمشكلة في علم الأخلاق هي كيفية التوفيق بين هذين النقيضين دون
القضاء على الطرفين، وكيفية التوحيد بين الواجب الاجتماعى والحق الفردي في وحدة
أسمى. وقد رأينا أن علم الأخلاق الفلسفي قد سعى إلى جمع هذه القوى المتصارعة في
مفهوم أدق لشخصية الإنسان، الشخصية التي تتفق مثالياتها وأنشطتها مع شخصية الله
الشاملة والأبدية.

وتعترف المسيحية أيضاً بالحق الموجود في الأنماط العديدة للفلسفة الأخلاقية
التي ذكرناها، إلا أنها تضيف إليها شيئاً هو من صميم المسيحية، ومن ثم تضفي معاني
جديدة للسعادة والواجب والذات والآخرين.

الموالفة المسيحية: كما تؤكد المسيحية كذلك على تحقيق الشخصية بكل ما
تتضمنه باعتبارها الهدف الحقيقي للإنسان. لكن بينما يأمر المسيح الإنسان بالقول: "كونوا
أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل"، فإنه يبين لنا أننا لن
نجد ذواتنا إلا في الآخرين، وأننا لا نحيا إن لم نمت،وأننا بالتسليم الكامل
والتضحية نحقق ذواتنا ونبلغ الخير الأسمى.

 

ثالثا مباديء وخصائص علم الأخلاق الكتابي:

ما استعرضناه آنفاً هو موجز لتاريخ علم الأخلاق لبيان الآراء التي أعطت
الفكر الحديث شكله وساعدت على تفسير وجهة النظر المسيحية في الحياة كقمة محاولات
الإنسان لتفسير الخير الأسمى. وسنتناول هنا القسم الثالث من موضوعنا، وهو يشتمل
على: مناقشة عامة لعلم الأخلاق الكتابي معالجاً أولاً علم الأخلاق في العهد القديم،
ثم الأفكار الرئيسية في العهد الجديد:

(1)علم الأخلاق في العهد القديم: يرتبط
انجيل المسيح بالشريعة العبرية ارتباطاً وثيقاً، ويتمم الوحي في العهد الجديد
الوعد الموجود في العهد القديم ويكمِّله. وقد رأينا كيف أن المفكرين اليونانيين
والرومانيين قد أسهموا في تطور العالم المسيحي وعاونوا على تفسير التعليم الكتابي
فيما يتعلق بالحق والواجب، لكن ليس بينهم و بين المسيحية علاقة جوهرية عميقة كتلك
التي بين علم الأخلاق المسيحي والأخلاقيات في العهد القديم، فقد استخدم السيد
المسيح نفسه والرسول بولس بصورة أكبر أقوال العهد القديم قاعدة لتعليمه. وقد شكلت
المباديء الأخلاقية والدينية التي في "الشريعة" الأساس، كما يقول الرسول
بولس: "كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح" (غل 24: 3و25)، أي أن الناموس
كان خادماً وظيفته أن يقودهم إلى المسيح. ونستطيع أن نرى في أسفار العهد القديم،
أسفاراً تمثل الآراء الأخلاقية المتعاقبة عند اليهود كشعب، رغم أن هذه الأسفار
تغطي حقبة طويلة من الزمن حدثت خلالها تغيرات عديدة في حياة الشعب وأفكاره، كما
تعاقبت خلالها مراحل سياسية مختلفة.

(أ) السمة الدينية للأخلاق العبرية:
إن الانطباع الأول الذي نلاحظه هو أن المُثل الأخلاقية اليهودية كانت مُثلاً دينية،
فقد كانت الالتزامات الاخلاقية تعتبر وصايا إلهية، والشريعة الأخلاقية إعلاناً
لمشيئة الله. وكان العبرانيون يعبدون إلهاً واحداً هو إله البشر، فكان الله
بالنسبة لليهود هو المصدر الأسمى للناموس الاخلاقي، كما كان الواجب – عندهم –
تجسيداً لمشيئة الله. فمنذ البدء نجد العناصر الأساسية للأخلاق اليهودية كامنة في
قصة جنة عدن والسقوط. فوصية الله هي المعيار الذي تقاس به مدى طاعة الإنسان لله،
والشر الذي مصدره قوة معادية، رغم انها قوة أضعف هو خرق لوصية الله.

(ب) الوصايا العشر: اول مرحلة من
مراحل علم الأخلاق في العهد القديم هي التشريع الموسوي في الوصايا العشر (خر 20،تث5).
وتحتل الوصايا العشر مكانة اساسية سامية في التعاليم الأخلاقية في العهد القديم،
وكل الوصايا وهي في غالبيتها نواهي ما عدا الخامسة منها عبارة عن قوانين أخلاقية
بحتة تنظم السلوك الخارجي وتنهي عن الأفعال بغض النظر عن النية والقصد. وتحمي
الوصيتان السادسة والسابعة حقوق الإنسان، بينما تحمي الوصية الثامنة
"الممتلكات". ورغم أن هذه القوانين لها جذورها في الوعي الأخلاقي
للبشرية، وهي بذلك يمكن تطبيقها في كل الأزمنة ولكل البشر، إلا أنه من الواضح أن
الإسرائيليين اعتبروا تنفيذها مقصوراً عليهم.

(ج) القوانين المدنية: وقد نشأ عن
القوانين المدنية الخاصة بالأرض، عنصرًا آخر من عناصر التربية الأخلاقية لإسرائيل
كما يتضح لنا في "كتاب العهد" (خر 20 23). و إلى جانب ما يبدو لنا من
قسوة في موضوع الأخذ بالثأر: "عين بعين وسن بسن.."، توجد مواد تتميز
بالرحمة مثل قانون تحرير العبد وحماية العبيد الهاربين، وترتيبات الحصاد وإعطاء
الفرصة للفقراء للالتقاط وراء الحصادين، ونظام سنة اليوبيل.

(د) القوانين الطقسية: وترتبط
القوانين الطقسية ارتباطاً وثيقاً بالقوانين المدنية، فهي تشكل عنصراً هاماً في
الحياة الأخلاقية لإسرائيل. فبينما تحدد القوانين المدنية علاقة الإنسان بأخيه
الإنسان، فإن القوانين الطقسية تحدد علاقة الإنسان بالله. والفكرة السائدة فيما
يتعلق بالله إلى جانب السلطان المطلق هي القداسة والانفصال عن كل دنس. وارتبطت
بالشريعة الموسوية القوانين الكهنوتية، والغرض منها هو حماية اسم الله، وحماية
أشخاص المتعبدين من الدنس. وتتعلق هذه التشريعات بالذبائح و التقدمات والطقوس التي
لها مراميها الروحية. ثم الأوامر والنواهي المتعلقة بالسلوك الشخصي فيما يتعلق
باطعمة وأشربة وغسلات مختلفة (عب 10: 9) ولبعض هذه الأوامر أهميتها الصحية، بينما
كان الهدف من بعضها الآخر حماية الحياة اليومية من دنس الوثنية.

(ه) النبوة: تمثل أقوال الأنبياء
عنصراً أساسياً في أخلاقيات العهد القديم، فقد كان الانبياء – وليس الكهنة – هم
أكبر دعاة الأخلاق في اسرائيل، فهم أبطال البر وسلامة الحياة السياسية، والدعوة
لطهارة الفرد، كما كانوا شهود الله اللذين نددوا – بلا هواده – بكل أنواع الوثنية
والارتداد عن الله كما شجبوا الرذائل الاجتماعية التي تعرض الشعب للوقوع فيها.
فنراهم يكرزون بإنجيل اجتماعي، ويدينون أخطاء الإنسان في حق اخيه الانسان، وينادون
الحكومة و الشعب إلى الاصلاح الفوري للأخطاء، واضعين أمام الأمة مثالاً رفيعاً.
ولم يكن الأنبياء مجرد مبشرين فحسب، بل كانوا فلاسفة الأمة، يوجهون افكار الناس
إلى الجوانب الروحية والمثالية من الأمور، وينددون بشدة بالاتجاهات المادية و
الدنيوية.

ويفضل افكارهم بدأت النظريات عن اصل وطبيعة الشر في الظهور، كما تأكدت قيمة
الحياة وعظمتها، فمن جهة ظهر اتجاه مسئولية الفرد، ومن جهة اخرى تطورت فكرة الخطية
الوراثية، ووضح أن تبعات الخطية يمكن أن تنال من البريء، فقد يرث المرء التعب
ويصيبه العقاب لا بسبب أخطائه الشخصية، بل بسبب وضعه ومكانه من الجنس البشري. وقد
أثارت مثل هذه الأمور حيرة عميقة يتردد صداها في الانبياء وفي سفر أيوب وبعض
المزامير. وظهر الحل في الفكرة القائلة إن الله يعمل من خلال الشر ويخرج منه أسمى
خير للإنسان. وتصل هذه المفاهيم إلى الذروة في القسم الثاني من سفر إشعياء وبخاصة
في الصحاح الثالث والخمسين، فالله يشتاق دائماً إلى أن يغفر للإنسان وأن يستعيده
في محبته. كما يذكر مراراً قصور الطقوس وفشل كل الوسائل المادية في الاستمتاع
بالعلاقة مع الرب "يهوه" تمهيداً للطريق إلى تعليم الخلاص، فنجد في سفر
المزامير كتاب العبادة، الذي يعكس الحياة الأخلاقية والدينية للأمة في مراحل
تطورها المختلفة نفس طبيعة الله السامية كإله البر والقداسة، الذي يمقت الشر،
والغيور على عبادته.كما نجد الاحتقار العميق للخطية، والدعوة السامية للإنسان.

(و) أسفار الحكمة: وبدون الدخول في
تفاصيل عن الأفكار الأخلاقية في الأسفار التي تعرف بأسفار الحكمة في العهد القديم،
وهي أيوب والأمثال والجامعة، يمكن أن نلاحظ أن التعاليم التي تحويها هذه الأسفار
موجهة على الأكثر إلى الأفراد، وهي وصايا عملية تتعلق بالحكمة والفطنة والبساطة،
وإن كانت الدوافع ليست هي الدوافع الأسمى لأنها كثيراً ما تأخذ في اعتبارها النجاح
الدنيوي. ولكن يجب ألا نغفل أن السلوك الأخلاقي يرتبط في غالبية الأحوال بمخافة
الله، وأن الاختيار السليم للحكمة هو ما تمليه التقوى والفطنة.

وتتحدث هذه الأسفار عن "الرجل العاقل والرجل الجاهل"، فالعاقل هو
الذي يرتب حياته طبقاً لشرائع الله، أما الجاهل فهو الرجل العنيد الذي تفتقر حياته
إلى المباديء ولا يعرف النجاح. وطبيعة الحكمة لا تكمن في المعرفة العقلية بقدر ما
تكمن في التحكم في العاطفة والضبط الحكيم للرغبات. وترتبط فكرة الحكمة البشرية في
هذه الأسفار بالمفهوم السامي للحكمة الإلهية التي تصطبغ بها هذه الأسفار كما يصطبغ
بها سفر المزامير.وتتجسد الحكمة، في بعض العبارات الرائعة، كما في: "كنت عنده
صانعاً وكنت كل يوم لذته.. ولذاتي مع بني آدم" (انظر أمثال 8، أيوب28).

(2)حدود الأخلاق في العهد القديم: عند
تقييم الأخلاق في العهد القديم بوجه عام، يجب ألا ننسى أنها كانت مرحلة تمهيدية من
مراحل الإعلان التدريجي لمشيئة الله.لذلك لا نعجب إذا وجدنا قياساً على المستوى
الأخلاقي المطلق في العهد الجديد أن الأخلاقيات في العهد القديم تنقصها بعض الأمور
في شمولها وفي أهدافها، في روحها كما في اتساعها.

(أ)الهدف: نلاحظ أن هنا اتجاهاً
للتركيز على كفاية الأعمال الظاهرة أكثر مما على الطبيعة الداخلية للإنسان، ولكنا
نجد في كتابات الأنبياء المتأخرين وفي بعض المزامير تركيزاً على ضرورة النقاوة
الداخلية. وبينما نجد النموذج الموضوع أمام الشعب وأمام الفرد هو هذا المثال
السامي: "تكونون قديسين لأني أنا قدوس"، غير أن طبيعة الله تبدو أحياناً
وكأنه إله صارم (خر24،عدد18: 14، تك18، 2صم 17: 24)، وفي نفس الوقت ينقص بعض هذه
الأسفار ذكر صفات الله الرحيمة (إش 17: 1،ميخا8: 6). كما أنه كثير ما يعبر عن
الأبوة الإلهية. ورغم صرامة قانون العقوبات وقسوة الناموس الطقسي، فإن الكثير من
مواده تشع منها الرحمة كما يظهر ذلك في حماية العامل والفقير والعاجز، وكذلك في
التعليمات المختصة بالعبيد والغريب بل الحيوانات الدنيا (تث14: 24و15، إرميا13: 22و17،
ملاخي5: 3،تث4: 25).

(ب) الدوافع المادية: سبق أن أشرنا
إلى أن الدوافع التي يذكرها العهد القديم هي في غالبيتها دوافع مادية إذ يلعب
النجاح المادي دوراً كبيراً في الاغراء على السلوك الأخلاقي. والخير الذي كان يصبو
إليه الآباء الأتقياء هو الوفرة من الخيرات الأرضية التى تغنيهم هم وعائلاتهم.ولكن
يجب ألا ننسى أن الله يعلن أغراضه ومقاصده بالتدريج، وأن معاملاته مع البشر معاملات
تربوية، لذلك كان من الطبيعي أن نجد مواءمة تطبيق الشريعة الإلهية للمراحل
المختلفة التي مر بها الشعب اليهودي وطبقاً لمفهومه الأخلاقي، كما نجد تطوراً في
مفهوم البشر لمعنى الحياة، وتقدماً في تقييمهم لطبيعة البر. وهكذا نجد الشعب ينتقل
بالتدريج من الوعد بالمزايا المادية إلى البركات الروحية التى يعتزون بها. وإذا
كنا نجد في رسائل الأنبياء قدراً من الإنذارات والعقوبات، فعلينا أن نتذكر أن
الشعب الذي كان الأنبياء يتعاملون معه، كان شعباً عنيداً صلب الرقبة لا تسمو
أفكاره عن الأمور المادية الوقتية. ولا بد أن ننظر إلى أفضل ما في النبوة، فنجد أن
مسألة الثواب والعقاب التي تشغل مكاناً بارزاً في أخلاقيات العهد القديم لم تكن
إلا مناخس لتحفيز المتكاسلين، فلم تكن هذه العقوبات أو المكافآت غايات في ذاتها أو
وعوداً أو تهديدات تعسفية، ولكنها كانت وسائل للوصول إلى مثل عليا.

(ج) من حيث الاتساع: بالنسبة لمدى
تطبيق المثل العليا العبرية، يجب أن نقرر أنه في هذا المجال أيضاً نجد الأخلاق في
العهد القديم أضيق مجالاً بالمقابلة مع شمول المسيحية، فكثيراً ما كانوا يرون الله
إلهاً لإسرائيل فقط وليس لكل البشر. وأبرز وصية أعطاها الله لإسرائيل هي ما أكده
ربنا يسوع المسيح: "تحب قريبك كنفسك" (لا18: 19)، ولكن يبدو أن مدى
الوصية كان محدداً في أذهانهم لارتباطهم بالجزء الأول من الآية: "لا تنتقم
ولا تحقد على أبناء شعبك" رغم أن الكلمة العبرية المستخدمة للدلالة على"
القريب"أوسع مضموناً لأنها تعني قريباً في الإنسانية، أي أنها تشمل أي إنسان،
ونحس مدى اتساع معنى كلمة " قريب"في إحلال كلمتي "الغريب" و
"النزيل" محلها (لا33: 19و34) فالغريب أيضاً موضع عناية خاصة من الله.ومهما
يكن الأمر، فإن اليهود لم يكونوا في الناحية العملية على الأقل أمناء للناحية الإنسانية
من الناموس. وفي معاملاتهم مع الشعوب القديمة أظهروا ميلاً إلى اعتبار الله إلهاً
خاصاً لهم، و مراحمه لا تتعدى حدود أرضهم، وانتهجوا – عبر تاريخهم – منهج التعالي
و الاعتزال عن غيرهم من الشعوب. وفي نفس الوقت كان واجب الضيافة يعتبر مقدساً، وقد
مارسه الناس في القديم (تك 1: 18-9). ولكن يجب ألا ننسى أن وعد الله لإبراهيم كان
يتضمن وحده البشر (تك 3: 12). كما أن العديد من النبوات والمزامير تتطلع إلى بركة
عالمية شاملة (إش61، مز 27: 22، 2: 48و10، 87). ويقول إشعياء عن الله "إله كل
الأرض يدعى" (إش 5: 45). وتبرز العدالة المجردة كصفة أخلاقية سامية. كما أن
أبوة الله الجامعة – وإن كانت لا تذكر بوضوح – نلمحها في الكثير من الفصول، ففي
نبوات إشعياء و هوشع نجد عبارات من أرق وأروع الإعلانات عن الرحمة الإلهية، وإن
كانت موجهة لاسرائيل أساساً، فقد استخدمها الرسول بولس لتوضيح أن رحمة الله وخلاصه
يشملان كل البشر.

(3)الخطوط العريضة لعلم الأخلاق في
العهد الجديد: سنتناول بايجاز الخصائص المميزة لعلم الأخلاق في المسيحية، مكتفين
بذكر المباديء الأساسية والخصائص الرئيسية، وسنعالج الموضوع في ثلاثة أقسام هي: المثل
الأعلى المسيحي، والقوة المحركة، والفضائل والواجبات ومجالات النشاط المسيحي.

(1)الأخلاق في تعليم الرب يسوع وفي
تعليم الرسول بولس: وقبل الدخول في التفاصيل، نجد من المناسب أن نتحدث قليلاً عن
العلاقة بين الاخلاق في تعليم الرب يسوع والأخلاق في تعليم الرسول بولس، حيث قيل
حديثاً إن هناك تضارباً بينهما وإن هناك فجوة عظيمة بين الأناجيل والرسائل، وإن
يسوع كان معلماً للاخلاق، أما بولس فكان لاهوتياً، فكان الرب يسوع يتهم بأمور
الحياة وبالسلوك الأخلاقي، أما بولس فكان يهتم بتفصيل العقيدة.

ولكن من الواضح أن هناك مبالغة كبيرة في هذا الرأي، فما من انسان يقرأ
الرسائل الا ويلحظ السمة الأخلاقية لجزء كبير من تعليمها، كما يلاحظ أنه حتى
المباديء اللاهوتية العظيمة التي نادى بها الرسول بولس، كان لها مضمون أخلاقي عميق،
ولا يبدو لنا فرقاً جذرياً بين التعليمين.

(2)الخُلق: إن كلا منهما يؤكد
أهمية الخُلق. وأقوال المسيح العظيمة هي نفسها أقوال الرسول بولس، والنبع الداخلي
للحياة الجديدة، حياة المحبة، واحد لديهما. والهدف العظيم لتعليم بولس هو أن يُخلي
الانسان من ذاته ويجعله في حالة القبول أمام الله. وهذه الفكرة الرئيسية في تعليم
بولس هي نفسها في تعليم المسيح، فهي أول قانون في الملكوت حيث تبدأ بها الموعظة
على الجبل: "طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات" (مت 3: 5).
فإذا حللنا هذه العبارة الرائعة، فسوف نجد – بلا شك – أنها تتضمن خلاصة أقوال
الرسول بولس ولبَّها. ويتفق مع هذا تماماً الأهمية الكبرى للإيمان في كلا التعليمين،
فالإيمان – لديهما – أكثر من مجرد قناعة عقلية، بل أكثر من مجرد ثقة صادقة في
العناية الإلهية، إنه الرؤية الروحية في الإنسان للمثل الأعلى باعث الحياة.

(3) حقيقة الدافع: إن السمة
المميزة للأخلاق عند المسيح هي أهمية الجانب الباطن للناموس الأخلاقي الذي يختلف
عن مظهرية الناموس الطقسي. ويؤكد الرسول بولس – في عبارات مماثلة – الحاجة إلى
النقاء الباطن، أي نقاوة القلب، الإنسان الباطن. كما يؤكد الاثنان أهمية اتمام
واجباتنا نحو الآخرين. كما يتفقان في القول بأن الإنسان مدين للآخرين بما هو أكثر
من مجرد الواجب. فيقول الرب يسوع: "تحب قريبك كنفسك" (مت 22: 39). ويقول
الرسول بولس: "لا تكونوا مديونين لأحد بشيء إلا بأن يحب بعضكم بعضاً"
(رو 13: 8). فالسيد المسيح يحوِّل الأخلاقيات من مجرد كلمات روتينية إلى حياة. كما
أن الصلاح – لدى بولس – ليس صورة خارجية بل طاقة تلقائية تنبع من النفس. وليست
الفضائل – في التعليمين – سوى تعبيرات مختلفة عن مبدأ حيوي واحد هو "المحبة
هي تكميل الناموس" (رو 13: 10). والقوة المحركة في العبادة القلبية لله – في
تعليم المسيح – "هي محبة الله لنا"، وفي تعليم بولس: "محبة المسيح
تحصرنا" (2كو 5: 14).

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس م مليكو و

(4)المثل الأعلى للحياة: وإذا ما
تركنا دافع الخدمة ومنبعها لنتحدث عن الغرض من الحياة، لوجدنا أيضاً اتفاقاً
جوهرياً بين السيد المسيح و الرسول بولس، فما يطلبه المسيح هو: "كونوا كاملين
كما أباكم الذي في السموات هو كامل" (مت 48: 5)، كما أن الرسول بولس كان يسعى
إلى بلوغ حياة الكمال إلى "جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع" (في
14: 3).

(5)الغاية القصوى: كما لا اختلاف
بين التعليمين حول مفهوم الخير الأعظم للعالم، فهدف المسيح من خدمته على الأرض كان
هو فداء البشرية وإعادة بناء المجتمع الإنساني الذي دعاه المسيح "ملكوت الله"،
كما أن الرسول بولس بمفهومه الرائع للبشرية، يرى هذا الملكوت محققاً في حياة الرب
المقام. وبالنمو إلى قامة المسيح الذي هو رأس الجسد، يصبح الجسد كله كاملاً بكمال
كل أعضائه، فهذا هو ما يعنيه الرسول في تلخيصه للهدف الأسمى لإيمان الإنسان وسعيه:
" إلى أن ننتهي جميعاً إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله، إلى إنسان كامل،
إلى قياس قامة ملء المسيح " (أف 13: 4). ويقرر بولس في كل رسائله أنه تلميذ
للرب يسوع وأنه يعلِّم بكل طرق المسيح (1كو 17: 4).

ومما لا شك فيه أن تعاليم الرسول بولس في عمقها وصلاحيتها للحياة العملية تتفق
اتفاقا جوهرياً مع مبادىء الموعظة على الجبل، وتشترك معها في الهدف، وهو أن "
يحضر كل إنسان كاملاً في المسيح يسوع " (كو 28: 1).

(4) المثل الأخلاقي الأعلى: الهدف
الرئيسي في علم الأخلاق هو الإجابة على السؤال: ما هو الخير الأسمى للإنسان؟ ما
الذي ينبغي للإنسان أن يعيش لاجله؟ وباختصار ما هو المثل الأعلى للحياة؟

والدراسة الدقيقة للعهد الجديد تكشف لنا عن ثلاث حقائق رئيسية يتضمنها ما
أسماه المسيح " ملكوت الله ":

فالخير الأسمى للإنسان يكمن – بوجه عام – في تنفيذ مشيئة الله، وبخاصة في
البلوغ إلى مشابهة المسيح وتحقيق الإخاء الإنساني في علاقة مع الله ومع المسيح ومع
الإنسان. فالأمر الأول هو الضوء الصافي الوهاج للمثل الأعلى، والأمر الثاني هو
تحقيق المثل الأعلى في حياة كاملة تعتبر قياساً أو معياراً، والأمر الثالث هو
تحقيق المثل الأعلى تدريجياً في الحياة الإنسانية التي هي مجال الحياة الجديدة.

(1) القداسة كاتمام للمشيئة
الإلهية: هي – كما رأينا – المثل الأعلى كما في قول السيد المسيح: " كونوا
أنتم كاملين كما أن اباكم الذي في السموات هو كامل " (مت 48: 5) وهو ما يقوله
الرسول بولس: " وهذا أيضاً نطلبه كمالكم " (2كو 9: 13). والبر والقداسة
– صفتين من صفات الله – هما أيضاً من خصائص ملكوت الله أو ملكوت السموات،والتي يضع
السيد المسيح باستمرار تحقيقها هدفاً أسمى للإنسان. كما أن الرسول بولس يشدد في كل
رسائله بالقول: " لكي تسلكوا كما يحق لله الذي دعاكم إلى ملكوته ومجده "
(1تس 12: 2). فالسير مع الله وتنفيذ مشيئته بكل إخلاص وطهارة هما بالنسبة للمسيحي
– كما لليهودي – قمة الأخلاق. فالحياة ذات قيمة سامية مقدسة لأن الله هو غايتها،
ولكي تكون إنساناً لابد أن تتمم في شخصك قصد الله من الإنسان. وأمام كل إنسان –
لمجرد كونه إنساناً فيه نفخة إلهية، وقد خلقه الله لتحقيق قصده – يوجد دائماً هذا
الهدف المطلق لوجود، ألا وهو تحقيق الحياة الكاملة حسب فكر الله.

(2) التشبه بالمسيح: إذا كان
التشبه بالله أو القداسة هي الغاية، فإن التشبه بالمسيح هو المثال أو النموذج الذي
تتحقق فيه هذه الغاية. فقد أعلن الله لنا نفسه في يسوع المسيح. والصورة المطلقة
للقداسة والبر نراها مجسمة في شخصية حية يجب أن يتمثل بها الأحياء. ويقدم لنا
العهد الجديد المسيح مثلاً أعلى بطريقتين: فهو المثال، وهو مصدر وقوة الحياة
الجديدة.

(أ) فهو مثال الصلاح: الذي يجب أن
يظهر في حياة الإنسان. وكتَّاب أسفار العهد الجديد لا يكتفون بأوصاف خيالية للصلاح،
ولكنهم يقدمون المثل الأعلى للصلاح في صورة حية وذلك في شخص ربنا يسوع المسيح الذي
عاش على هذه الأرض.

(ب) وهو مصدر الحياة الجديدة: فهو
ليس مجرد المثال ولكنه أيضاً قوة الحياة وباعثها ومصدرها لكل من يؤمنون به (أف 19:
1 و 20).ولا يقول الرسول بولس تشبهوا بالمسيح فحسب، بل يقول أيضاً: " ليكن
فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً " (في 5: 2)، فليس للتقليد الحرفي
للمثال إلا أهمية محدودة، والمسيحية ليست هي المحاكاة الآلية. ويذهب " كنط
" إلى القول بأن " المحاكاة ليس لها مكان في الأخلاق ". ومجرد
تقليد المسيح في السلوك يعطي مفهوماً قاصراً للعلاقة الحيوية الحميمة التي بين
المسيح والإنسان، " فليست المسألة مجرد محاكاة " (كما يقول شولتز)
" بل هي أن تتشكل حياته فيك، أن تقبل روحه فيصبح هو العامل فيك.هذا هو الواجب
الأخلاقي المسيحي ". فالرسول بولس يقدم المسيح باعتباره القوة المحركة
الخلاَّقة، إذ يقول: " يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضاً إلى أن يتصور المسيح
فيكم " (غل 19: 4)، بل لا يمكننا أن نحاكي المسيح حقيقة ما لم يكن المسيح
فينا، فهو مثالنا لأنه مصدر الحياة الجديدة، وهو الذات السامية في المؤمن "
فالمسيح حياتنا " (كو4: 3)، " والمسيح فيكم رجاء المجد " (كو27: 1).

(ج) الإخاء ووحدة الإنسان: اقتصر
حديثنا حتى الآن على كمال الفرد، ولكن المسيح ورسله قد أوضحوا أن الإنسان لا يمكن
أن يبلغ الكمال بمفرده، فلا يمكن لإنسان أن يحقق ذاته، ما لم يقم بواجباته. ونفس
الإنسان الواحد لا تكمل إلا بإخوته من البشر. وتتضمن فكرة الملكوت – كما ذكر الرب
يسوع – هذا العامل الاجتماعى.والكثير من تعاليم الرسل لا يشير إلى الأفراد بل
للبشرية ككل، فالكنيسة هي جسد المسيح، والأفراد هم الأعضاء الذين يلزم أحدهم الآخر،
وجميعهم يستمدون حياتهم من الرأس أي المسيح. فالإنجيل اجتماعى كما أنه فردي، وهدفه
هو ملكوت الله، أي الإخاء الإنساني. ويعلن الرسول بولس أن الجميع واحد وعلى حد
سواء أمام الله " ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر ولا أنثى
لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع " (غل 28: 3).

(د) القوة المحركة للحياة الجديدة:
وهنا نصل إلى الخاصية الأساسية والمميزة للأخلاق المسيحية. فالأخلاق عند
اليونانيين، وإن كانت تبدو رائعة، لكنها بلا أساس فيظل المثل الأعلى عند أفلاطون
مجرد نظرية، كما أن شخصية الإنسان الفاضل – الذي نادى بها أرسطو – لا وجود لها إلا
في ذهن مبتكرها. ولم يكن الرواقيون بأكثر نجاحاً في جعل فلسفته أمراً واقعياً. فكل
هذه المثل القديمة – رغم ما يبدو فيها من جمال – كانت تنقصها القوة الدافعة، القوة
التي تحوِّل الأحلام إلى حقائق.

وللمسيحية أن تفخر بأنها استطاعت أن تحل المشاكل التي عجزت الفلسفة
اليونانية عن حلها، فليست الأخلاق المسيحية أموراً نظرية، إذ قد ظهر الصلاح – في
أكمل صورة – في حياة واقعية: " فالكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده
مجداً كما لوحيد من الآب " (يو 14: 1). إنه قوة جديدة خلاقة، روح جديد جاء من
عند الله ليحل في الحياة ويمنحها القدرة على تحقيق هذه المثل العليا.

1 – الجانب الإلهي للقوة المحركة: والمشكلة
التي واجهت الرسول بولس هي: كيف يمكن للإنسان أن يحقق ذلك الصلاح الذي تجسد في
حياة الرب يسوع ومثاله؟ وبالإيجاز، يمكن أن نقول إن أصالة الإنجيل تكمن في أنه لا
يعلم الصلاح فحسب، بل يكشف أيضاً عن القوة التي تجعل الصلاح ممكناً، وذلك بالحصول
على حياة جديدة، بالولادة الجديدة بعمل روح الله. وقد سار الرسول بولس على نهج
سيده حينما تحدث عن الحالة الأخلاقية الجديدة للمؤمنين واصفاً لها بأنها "
ولادة ثانية " من الروح القدس، فهي عمل القوة الإلهية الخلاقة.

وبدون أن نستعرض كل أقوال الرسول بولس، يمكن القول إن بولس الرسول يربط عمل
الروح القدس بحقيقتين في حياة المسيح هما عنده أهم حقيقتين في التاريخ، وهما موت
الرب وقيامته. ولسنا هنا بصدد معالجة موضوع الكفارة، ولكن ما نعالجه هنا هو حقيقة
وجود الخطية حائلاً بين الإنسان وبين الحياة الجديدة، فلابد – قبل أن تتم المصالحة
مع الله – من التغلب عليها ومحوها سواء في مذنوبيتها أو في سلطانها، وذبيحة المسيح
هي وحدها التي تحقق هذا الأمر. وبفضل ما حققه المسيح بموته، نشأت علاقة جديدة فسار
الله والإنسان في توافق أدبي وإتحاد حيوي.

وليست القيامة باقل أهمية بالنسبة لمنح الحياة الجديدة، فهي ختم الذبيحة
وتاجها، فيقينية قيامة المسيح هي التي أعطت موت المسيح قيمته كذبيحة كفارية: "
إن لم يكن المسيح قد قام فباطل إيمانكم، أنتم بعد في خطاياكم " (1كو 17: 15).
فالخليقة الجديدة هي عمل المسيح، ولكن قوته الخلاَّقة ليست تأثيراً خارجياً بل هي
روح الحياة.وفي الحقيقة، إن كل ما يجعل الحياة حياة حقيقية ووجوداً سامياً مكتملاً،
إنما هو الروح القدس بناءاً على عمل المسيح الذي مات وقام.

2 – الفاعلية من الجانب البشري: وإمتلاك
القوة يتضمن إلتزاماً بإستخدامها. فعندما يُعطى الإنسان قوة يتحتم عليه أن
يستخدمها لأن روح المسيح لم يُمنح ليعفى الإنسان من واجبات الحياة والتزاماتها
الأخلاقية، فليس الإنسان مجرد مستقبل سلبي للقوة الإلهية، بل عليه أن يمتلكها
ويستخدمها بعزيمة حرة. وعندما نتساءل: ما الذي يكوِّن العنصر الإنساني؟ نجد فعلين
في العهد الجديد، على النفس – عند دخولها إلى العالم الجديد في المسيح – أن تقوم
بهما، وهما التوبة والإيمان، وهما فعلان متكاملان يكوِّنان معاً ما يسمى "
بالتجديد ".

والتوبة – في العهد الجديد – هي الإبتعاد، في حزن وندم، عن حياة الخطية
والإنفصال عن الشر، وذلك من خلال عمل المسيح. فالتوبة تتطلع إلى الماضي وتهجره،
أما الإيمان فيتطلع إلى الأمام ويقبل عليه. فالإيمان هو إنصراف الإنسان كله نحو
ربه، والطاقة البشرية التي بها يستقبل الإنسان حياته في المسيح، فيصبح المسيح
حياته.فليس الإيمان هو مجرد القبول العقلي، أو الثقة الأدبية، بل بالحري هو طاقة
أو قوة للطاعة الجديدة.وكأساس للتطبيق الأدبي، له جذوره في الثقة الشخصية بالمسيح،
وله ثماره في الخدمة المسيحية. وبالإيجاز، الإيمان هو الموقف المميز للشخصية
المسيحية بكاملها، ولعملها فيما يتعلق بالبركة الروحية التي وهبت لها في المسيح.

(ه) فضائل ووجبات ومجالات الحياة
الجديدة: بقى أن نبين كيف تظهر هذه القوة الجديدة في الخُلق وفي السلوك العملي،
فالفضيلة تعبر عن الخُلق، أما الواجب فمشروط بالموقف والعلاقات.

1 – الفضائل: إن التعداد النظامي
للفضائل لمن أصعب المهام في علم الأخلاق.فلم يحدث في الماضي ولا في الحاضر أن نجحت
محاولة تصنيف الفضائل نجاحاً كاملاً، فقائمة الفضائل لأفلاطون هزيلة جداً، أما
قائمة أرسطو فينقصها النظام كما يعيبها إغفال بعض الفضائل. ولا نجد في أي موضع من
الكتاب المقدس وصفاً كاملاً لكل الفضائل النابعة من الإيمان،لكن إذا جمعنا بين
أقوال السيد المسيح وتعاليم الرسل، لوجدنا مجموعة غنية من الفضائل (مت 5، 6، غل 22:
5و23، كو 12: 3 و13، في 8: 4، 1بط 18: 2و19، 7: 4و8، 2بط 5: 1-8، 1يو 3، يهوذا 1 –
25) ويمكن تصنيف هذه الفضائل في ثلاث مجموعات:

أ – الفضائل البطولية: والتي يطلق عليها أحياناً الفضائل الرئيسية، وقد
إنتقلت إلينا من العصور القديمة وهي: الحكمة ورباطة الجأش، والإعتدال والعدالة.وهذه
الفضائل،وإن كانت مقبولة وموضع دراسة من قبل، إلا أن المسيحية قد طورت من طبيعتها
حتى جعلت منها فضائل جديدة تماماً. وكما يقول " سترونج " (
Strong): " ظلت نفس العملة الأدبية القديمة متداولة ولكن بعد أن
أعيد صكها ".

ب – فضائل المحبة: وهي ليست مجرد إضافات للفضائل الوثنية، لكنها امتزجت بها
وأعطتها معنى جديداً مختلفاً كل الإختلاف عن المعنى الذي كان مألوفاً. فبينما يركز
أفلاطون على النواحي العقلية والبطولية من الأخلاق، تضع المسيحية الفضائل الأرقّ
في المقدمة. ولعل هناك سببين جعلا الكتَّاب المسيحيين يركزون على جانب إنكار الذات:
أولهما مقاومة الروح العسكرية وعبادة القوة المادية السائدة في العالم القديم.
وثانيهما وهو السبب الرئيسي، أن الفضائل الهادئة الرقيقة المضحية بالذات تعبر اصدق
تعبير عن روح المسيح. فالعنصر الوحيد في السلوك الذي يجعله جميلاً ومؤثراً وشبيهاً
بالمسيح،إنما هو المحبة، أي عنصر التضحية. وتظهر المحبة في التواضع الذي يقلل من
الطموح الزائف والاعتداد بالذات. وترتبط الوداعة إرتباطاً وثيقاً بالتواضع، وكذلك
بشقيقتها طول الأناة التي هي سمة المسيحي في مواجهة التجارب والأخطاء.وترتبط أيضاً
بهذه الفضائل القناعة والصبر والاحتمال واللطف والشفقة على الآخرين، ثم هناك فضيلة
الغفران لأنه لا يكفي أن يكون الإنسان متواضعاً حليماً لأن علينا واجباً نحو
المذنبين إذ يجب أن نكون على إستعداد لأن ننسى ونغفر (رو20: 12) "كونوا لطفاء
بعضكم نحو بعض شفوقين متسامحين كما سامحكم الله أيضاً في المسيح " (أف 32: 4).

ج – الفضائل المسيحية العظمى: وهي الإيمان والرجاء والمحبة. ويرى البعض في
هذه الفضائل الثلاث خلاصة السمو المسيحي، فهي أساسية في تعليم الرب يسوع المسيح،
ولا يمكن الفصل بينها فهي نسيج واحد، فالذي يؤمن لابد أن يحب، ومن يؤمن ويحب لابد
أن يكون عنده رجاء.

 

و" المحبة " هي الكلمة الأولى والأخيرة في كرازة الرسل بالمسيحية،
فهي أقوى كلمة للتعبير عن روح المسيح. ولم تكن المحبة – بهذا المعنى – معروفة
عملياً في العالم القديم، فالفلسفة – السابقة للمسيحية – رفعت من شأن العقل بينما
أهملت القلب. ولكن المحبة في أسمى معانيها قد أعلنها الإنجيل، فقد ظلت مكنوزة إلى
أن جاء المسيح وأتباعه للكشف عنها وتعليم الناس معنى المحبة وليجدوا فيها ناموس
الحرية.فالمحبة لا غنى عنها للسلوك المسيحي الحقيقي، وبدونها لا قيمة للإيمان أو
الأعمال الصالحة (1كو 13)، فهي النبع الفياض لكل ما هو جميل في السلوك. والإيمان
نفسه يعمل من خلال المحبة، وفيها يجد مجالاً لعمله، فإذا كان الإيمان هو الذي
يشكِّل السلوك، فإنه لا يحيى إلا بالمحبة. ونفس هذا الأمر ينطبق على الرجاء فهو
شكل خاص من الإيمان يتطلع إلى المستقبل، إلى حياة مكتملة. فالرجاء هو الإيمان الذي
يرنو إلى المستقبل، فهو رؤيا مبعثها ودعامتها المحبة.

2 – الواجبات: أما بالنسبة
للواجبات في الحياة المسيحية، فيكفي أن نقول أنها بالنسبة للمسيحي ذات جوانب ثلاثة:
واجبه نحو نفسه، وواجبه نحو إخوته في الإنسانية، وواجبه نحو الله. وهو تقسيم غير
منطقي تماماً، لأنها متداخلة، وكل منها يرتبط بالأخر. فمحبة الإنسان لنفسة تتضمن
محبته للأخرين، وواجبات الإنسان نحو الأخرين هي إلتزام نحو الله.فالفرد والمجتمع
مرتبطان إرتباطاً وثيقاً في ملكوت المحبة بحيث لا يمكن أن يصل أحدهما إلى هدفه
بدون الأخر.

أ – واجبات الإنسان نحو نفسه: يذكرها العهد الجديد بكل وضوح، فوصية الرب: "
تحب قريبك كنفسك " (مت 39: 22) تجعل محبة الذات محبة سليمة ومقياساً لمحبة
القريب. لكن واجبات الإنسان نحو نفسه لم تذكر إلا عرضاً. وبينما نجد تركيزاً على
أن قيمة النفس ثابتة أكيدة، فإن الانشغال المستمر بالتفكير في الذات، لدليل على
الأنانية المريضة، وليس على الشخصية السوية الصحيحة. ولعل السبب الأساسي في عدم
اسهاب العهد الجديد في ذكر واجبات الإنسان نحو نفسه، هو أن تحقيق الذات – حسب روح
الإنجيل – يكمن في التضحية بالذات، " فمن يهلك نفسه يجدها "، فالإنسان
يجد نفسه، ليس بالقلق أو الحرص عليها، بل بتكريسها بتمامها لخير الأخرين.

وفي نفس الوقت هناك عدة واجبات هامة منها:

ثبات الغرض أو وحدانية الهدف، والإستقلال في الرأي، وسيادة الضمير،
والتقييم السليم للذات.

ويرتبط بذلك إحترام المسيحي للجسد بإعتباره هيكل الله، وعدم الإزدراء به،
بل تقديمه ذبيحة حية. وكذلك موقف الإنسان من المتاع الدنيوي، والتزامه في العمل،
وحقه في الإستجمام، وقناعته بمركزه.. كل هذه واجبات يمكن القيام بها على أساس
المبدأ الرسولي: " الذين يستعملون هذا العالم كأنهم لا يستعملونه " (1كو
31: 7). فالمثل الأعلى للمسيحية ليس هو الزهد لمجرد الزهد أو إنكار الذات لمجرد
إنكار الذات، بل يجب أن ينتفع الإنسان بكل امكاناته على أفضل ما يكون الإنتفاع، إذ
يجب أن يستخدم كل مواهبة وممتلكاته، وكل طاقات الحياة ومسراتها، وسائل الخدمة
الروحية ليكون الإنسان نافعاً لملكوت الله الذي ينتمي إليه.

ب – واجبات الإنسان نحو الآخرين: أو المحبة الأخوية، وتحدد مداها علاقة
المؤمن بالمسيح، ومظاهرها الرئيسية:

 

1 – العدالة وتشمل:

* احترام الآخرين وتجنب الإيذاء من
الجانب السلبي، وتقديم التكريم والاحترام من الجانب الإيجابي.

* الصدق في القول والعمل: "
صادقين في المحبة ".

* الحكم العادل مع تجنب النقد وعدم
التسامح.

 

2 – الرحمة أو الإحسان وتشمل:

* التعاطف.

* الخدمة.

* عمل الخير العملي الذي يفي
بالحاجة المادية، ويمنح راحة وعزاء، ويحقق البنيان بالمثال الصالح والإرشاد
المباشر.

 

3 – الصبر ويشمل:

* طول الأناة.

* المسالمة.

ج – واجبات الإنسان نحو الله: وهنا تتحول الأخلاق إلى دين، ويتحول الواجب
إلى عبادة ومحبة، وتقوم المحبة على معرفة الله كما هو معلن في المسيح، وتعبر عن
نفسها بالتكريس. والتعبير عن المحبة لله يتم – بوجه عام – من خلال:

1-الشكر.

2-التواضع والخضوع.

3-الثقة والاتكال وبخاصة في
العبادة وفي الشهادة للرب لكي نزين التعليم بجمال الحياة

3 – المجالات والعلاقات: ومن بين
المجالات المختلفة التي يجد فيها المسيحي متسعاً للمارسة حياته الروحية وتنميتها،
نذكر الأسرة والدولة والكنيسة. ولكل مجال من هذه المجالات الثلاثة واجبات خاصة
ونظام خاص. فبينما يلتزم الوالدان بالعناية بأطفالهم وتنشئتهم في التقوى، يلتزم
الأبناء بطاعة والديهم. ويمكن بسهولة معرفة علاقة الفرد بالدولة والدولة بالفرد من
تعليم العهد الجديد، فلا يقتصر واجب الدولة على إجراء العدل بل يتعداه إلى إنشاء
وتدعيم المؤسسات والهيئات التي تعمل على تنمية المجتمع وتحقيق الخير والسعادة
للمواطنين مع ضمان الحرية الكاملة للمواطن للانتفاع بأقصى ما يمكن من حياته. ومن
جهة أخرى على الفرد أن يقوم بالتزاماته المدنية كعضو في مجتمع حي، وإطاعة قوانين
الدولة.وتتولى الدولة سيادتها من خلال صوت الشعب. وكما يكون الأفراد هكذا تكون
الحكومة.

(و) الخلاصة: وفي الختام يمكننا أن
نقول إن السمات الثلاثة المميزة للأخلاق المسيحية هي أنها: مطلقة، داخلية عميقة،
وشاملة.

ويجب أن يكون الإنجيل هو الموجه الأول في الحياة وفي الأخلاق، فما من خبرة
– بالنسبة للمسيحي – تعتبر دنيوية فحسب، وما من واجب غير مهم، لأن كل الأشياء هي
لله، ويجب أن يسيطر روح المسيح على الحياة بجملتها. وتعد الأخلاق المسيحية فريدة
في نوعها وأصيلة، ليس في مجال تطبيقها العملي فحسب، بل لأنها تنم عن مثل أعلى هو
قوة الحياة الجديدة ومثالها. وهذا المثل الأعلى هو المسيح الذي تظهر فيه الحياة
بكمالها، وهو الذي يمنح القوة لتحقيق هذه الحياة. فالحياة قوة، والشخصية تنمو
وتكبر من بذرة خفية، ولذلك لا مكان في الأخلاق المسيحية للبلادة أو السلبية أو
الجمود كما هو الحال في البوذية والرواقية وكاثوليكية القرون الوسطى، بل إن
الأخلاق في المسيحية كلها حياة ونشاط وجهاد وسعي مستمر.

وثمة تفاصيل كثيرة في الحياة الاجتماعية الحديثة، لا يتناولها العهد الجديد
مباشرة، مثل المشاكل الأخلاقية المعاصرة، وعلم الاقتصاد ونظرياته المختلفة وهي
أمور لا نستطيع أن نرجع فيها إلى أصحاح معين أو آية بذاتها، سواء في الأناجيل أو
في الرسائل، إلا أن المبادئ العظيمة التي ذكرها العهد الجديد عن تضامن البشرية
والأخوة الإنسانية والمساواة في المسيح وحرية العبادة والمحبة، والتعاليم المختصة
بالكنيسة وملكوت الله والأسرة والدولة، ووصاياه بخصوص الطهارة الشخصية وكيفية
استخدام الثروة، والواجب نحو العمل. كل هذه تحتوي على البذور التي إنبثقت عنها
النهضة الأوروبية، وما زالت تحتوي على القوة الفعَّالة القادرة على التغيير
الإجتماعي والسياسي لخير البشرية.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي