إسكندرية

 

1-تاريخها: فى عام 331 ق . م. والإسكندر الأكبر فى
طريقه لزيارة معبد آمون فى صحراء مصر الغربية، لينال رضى الآلهة، توقف عند جزيرة
"فاروس " فى غربي الدلتا، وهو مكان هبوط "أدوسيوس " (كما جاء
فى الأوديسا)، وببصيرته النفاذة، أدرك الإمكانيات الاستراتيجية لهذا الموقع الذى
تحتله القرية المصرية الصغيرة
"راقودة" (أو راكوتيس)، فقرر أن
يبنى هنا وبسرعة مدينة عظيمة تسيطر على مدخل أغنى أقطار إمبراطوريته، وأن تسمى هذه
المدينة باسمه. ومنح حرية كامله لأشهر مهندس معمارى في عصره، وهو
"دينوكراتيس" الذى اشتهر ببناء هيكل ديانا الشهير. وكالحلم شيدت أشهر
المدن وأجملها فى العالم القديم (باستثناء روما)، بل ومن أشهر مدن العالم الحديث
مدينة تميزت بشوارعها المستقيمة والمتوازية، كان عرض بعضها أكثر من مائتى قدم،
وأقيمت فيها قلاع ومعابد وقصور ومبانى حكومية وحدائق غناء، نسقت جميعها فى تصميم
هندسى فنى رائع . ويذكر بلينى أن محيط المدينة كان خمسة عشر ميلا. ومن كان ينظر
إليها من أعلى، كان يراها مثل المعطف المكدونى الذى كان يرتديه أسلاف الإسكندر
الأبطال . كما أقيم حاجز ضخم ليربط الجزيرة بالشاطئ، وبذلك نشأ مينا مزدوج، أصبح
أفضل الموانى . وقبل وفاة الإسكندر، كانت الإسكندرية قد أصبحت العاصمة التجارية
للعالم . وفيها وضع تابوته الذهبى فى ضريح يليق به وقد بلغت مدينة الإسكندرية قمة
رخائها فى عصر البطالسة الأولين بفضل عنايتهم بها،فكانت منتجات الصعيد تأتى عن
طريق نهر النيل إلى بحيرة مريوط، وعن طريق البحر الأحمر كانت تأتى السفن محمله على
الدوام بكل ثروات الهند وبلاد العرب . كما تميزت الإسكندرية بمصانعها الكثيرة،
وكان من أهم الصناعات بناء السفن، السفن التجارية والسفن الحربية الكبيرة التى
كانت تصل حمولتها إلى ألف شخص، كما كانت تطلق النيران بقوة رهيبة. واحتفظت
الإسكندرية بمكانتها الرفيعة فى أيام حكم الرومان إلى القرن الخامس الميلادى حين
بدأت فى التدهور ورغم ذلك عندما استولى العرب عام 641م على الإسمكندرية فى ايام
الخليفة عمر بن الخطاب، أرسل القائد عمرو بن العاص تقريرا عن الإسكندرية يقول فيه:
" استوليت على مدينة بها 4.000 قصر،4.000 حمام، 400 مسرح" وسموها "
مدينة المرمر " واعتقدوا أن المسلات العظيمة الضخمة التى تقف على قواعد من
البللور، وجزيرة فاروس والبرج الحجري الأبيض الذى يبلغ ارتفاعه 400 قدم والذى كان
يعتبر من عجائب الدنيا، اعتقدوا أن كل هذا ليس من صنع بشر بل من صنع الجن!! وبشئ
من المبالغة التى عرف بها الشرقيون، ذكروا أن أحد المسارح يتسع لمليون متفرج، وأنه
كان من العسير السير ليلا فى المدينة بسبب الأنوار المنعكسة من القصور ناصعة
البياض . ولكن المدينة بدأت فى التدهور بعد الفتح العربى، وضعفت قيمتها عندما
أصبحت القاهرة عاصمة للبلاد (حوالى عام 1000م) وجاء اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح
ضربة قاضية على المدينة (حوالى عام 1500م) واليوم تقع الإسكندرية القديمة إما تحت
مياه البحر أوسفل المنشآت الحديثة . والشئ الوحيد الباقى من الآثار القديمة، والذى
يمكن مشاهدته اليوم هو ما يسمى عمود بومباى (عمود السواري) الذى يرجع تاريخه إلى
حكم دقلديانوس
.

وبدأت
بعثات إنجيليزية عمليات التنقيب عن الآثار فى عام 1895، ثم بعثات ألمانية (1898
–1899)ولكن النتائج كانت ضئيلة، رغم أن د.ج. بوتى اكتشف معبد سيرابيس وبعض المقابر
الشاسعة، وفى 1908م تم اكتشاف بعض تماثيل أبى الهول . ووصل تعداد المدينة فى أوج
ازدهارها إلى بما بين 600.000 إلى 800.000 نسمة، كان نصفهم على الأقل من العبيد .
وفى نهاية القرن السابع عشر لم يكن عدد سكانها يتجاوز 7.000 نسمة . ولكنها برعاية
الخديويين استردت أهميتها القديمة ويربو عدد سكانها اليوم على المليونين
.

2-اليهود ف الإسكندرية: يقال إنه وجد بين أوراق
الإسكندر الأكبر الخاصة مسودة لخطة طموحه لتأسيس إمبراطورية يونانية تجمع جميع
الأجناس فى وحدات منسجمة، ولهذا وجد الأوربيون والأسيويون والأفارقة، فى
الإسكندرية موطنا لهم . وفى أيام البطالسة – الذين واصلوا هذه السياسة- كان
الأجانب فى مدن عديدة يتمتعون بامتيازات تفوق امتيازات أهل البلاد . وتم التوافق
بين اليونانيين والمصريين عن طريق اعتناق ديانة مشتركة تجمع بين الديانتين
اليونانية والمصرية القديمة، فعبدوا إله اليونان العظيم باعتباره " اوزوريس
" إله العالم السفى عند المصريين، والذى تظهر روحه فى شكل العجل أبيس .
وانتشر هذا الدين الجديد انتشارا منقطع النظير . وتمشيا مع هذه السياسة أمكن
لليهود فى الإسكندرية أن يحصلوا على امتيازات خاصة وإن كانوا لم يتمتعوا بكافة
الحقوق المدنية، إلا أنه" كان لهم من النفوذ فى الإسكندرية أكثر مما كان لهم
فى أى مكان آخر فى العالم القديم " (دائرة المعارف اليهودية) . ولتجنب
الاحتكاكات- التى لا داعى لها – أعطى لليهود قسم خاص بهم، ولليونانيين قسم خاص بهم
أيضا وللمصريين كذلك . وكانت قصور البطالسة والمتحف والمكتبة فى القسم اليوناني .
وكان فى القسم المصري معبد سيرابيس (اوزوريس – أبيس) الذى لم يكن يضارعه فى الجمال
والروعة إلا الكابيتول فى روما نفسها وكان لليهود مجامع كثيرة فى القسم الخاص بهم،
وفى أيام فيلو، كان لليهود حرية الانتقال بين هذه الأقسام جميعها، ولعل بعض
المجامع اليهودية كانت تعتبر حرما مقدساً مثلها مثل المعابد الوثنية. وكان لكل
حكومة مستقلة، وكان القسم اليهودى في البداية، يحكمه حاكم عبراني، ولكن فى أيام
أوغسطس قيصر، أصبح يحكم القسم اليهودي مجلس من الشيوخ مكون من 71 أرخنا. وقد وصل
اليهود إلى مراكز هامة بسبب ثرائهم وتعليمهم ووضعهم الاجتماعى . ففى أيام بطليموس
السادس وكليوباترا كان قائدا الجيش من اليهود، كما كان فى جيش بطليموس الأول 30.000
جندى من اليهود، وقد اكتشفت ثكناتهم منذ عهد قريب ولعل الاضطهادات فى أيام أنطيوكس
أبيفانس (فى القرن الثاني قبل الميلاد) كان ذا نفع، لأنه أوقف تحول اليهود إلى
الثقافة اليونانية . وفى أثناء حكم الرومان، احتفظ اليهود بحقوقهم فى ماعدا فترات
قصيرة من الاضطهاد على يدى الحاكم المجنون " كاليجولا. كما كان اليهود
يحتكرون معظم الصناعات الهامة وكذلك كانوا يحتكرون تجارة القمح . وعندما أصبحت
المسيحية هى ديانة الدولة، بدأ اضطهاد اليهود، فعندما انتصر هرقل على الفرس فى
عام629م، أعقب ذلك مباشرة مذبحة لليهود، ومازال أقباط مصر، إلى اليوم، يسمون
الأسبوع الأول من الصيام الكبير (الذى يسبق عيد القيامة) " بصوم هرقل " .
كما أن كتابات الحكمة هى الكتابات اليهودية، قد كتبت أصلا فى الإسكندرية . ومما لا
شك فيه أن معظم الوثائق التى اكتشفت حديثا فى القاهرة ومقابرها جاءت أصلا من
الإسكندرية . ولكن الأهمية الحقيقية للإسكندرية، بالنسبة لليهود كانت فى التعاليم
التى هيأتها لقبول الإنجيل الذى صار للعالم كله، والذى كان على وشك أن يكرز به
عبرانيون من الجليل قد تثقفوا بالثقافة الهيلينية
.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس أ أشـرئيلـة ة

3- الإسكندرية والكتاب المقدس:

أ-
نجد فى الإصحاح الحادي عشر من سفر دانيآل، أن بطالسة الإسكندرية وزوجاتهم هم موضوع
هذه النبوة. كما أن " أبلوس " الرجل الفصيح كان من الإسكندرية (أع 18: 24)
. ويذكر لوقا مرتين أنه وبولس قد أبحرا فى " سفينة إسكندرية " (أع 27: 6،28:
11)، كما أن حوار استفانوس فى أورشليم كان فى مجمع " يقال له مجمع
الليبرتينيين .. والإسكندريين " (أع6: 9) . ومع أن الإشارات إلى الإسكندرية
قليلة، إلا أن أثر المدينة فى الكتاب المقدس أثر بالغ
.

ب-
تحتفظ الترجمة السبعينية التى ترجمت فى الإسكندرية فيما بين القرنين الثالث
والثاني قبل الميلاد، بترجمة نص عبري يرجع إلى ذلك العهد. وهذه الترجمة،إن لم يكن
الرب يسوع قد استخدمها،فمن المؤكد أن الرسول بولس وغيره من كتبه العهد الجديد قد
استخدموها كما يتضح من الاقتباسات المذكورة فى العهد الجديد . وهى ترجمة، واضح –
حتى من أبسط الأشياء فيها – أنها ترجمة مصرية. وهذه التوراة باليونانية، لم تفتح
الباب للمرة الأولى، أمام الأمم إلى الأقوال الإلهية، وبهذا أصبح للعهد القديم
أثره فى كل العالم فحسب، بل كان له أيضا أثره البالغ فى التطور اليهودي والمسيحي
أيضا.

ج-
المخطوطة المعروفة " بالإسكندرانية (ما بين القرنين الرابع والخامس) هى أول
مخطوطة قديمة تقع بين أيدى العلماء فى العصر الحديث، وقد وجدت فى الإسكندرية،
وقدمت هدية لملك إنجلترا (عام1628) من كيرلس لوكاريس بطريرك القسطنطينية . كما أن
المخطوطتين السينائية والفاتيكانية وغيرها من المخطوطات الكتابية الهامة عبرية
ويونانية وقبطية وسريانية، جاءت أصلا من الإسكندرية
.

د-
ويرى البعض أن إنجيل يوحنا والكثير من كتابات العهد الجديد، قد تأثرت بفلسفة تلك
المدينة، فلم يكن ممكنا فهم أسلوب وأفكار الإنجيل الرابع، إلا فى عالم انتشرت فيه
تعاليم الإسكندرية
.

4- أثر الإسكندرية فى الحضارة: بتأسيس جامعة
الإسكندرية بدأت " الحقبة الثالثة العظيمة من تاريخ الحضارة " (ماكس
مولر) . وقد بنيت هذه الجامعة على نمط مدرسة أثينا العظيمة بل وتفوقت عليها لكونها
أساسا " جامعة التقدم " (ما هافى) فلأول مرة فى التاريخ أنشئت مدرسة
جمعت بين العلم والأدب، كما زودت تلك الجامعة بإمكانات ضخمة للقيام بالأبحاث
الأصلية كما أن مكتبتها الشهيرة التى حوت – فى أزمنة مختلفة – ما بين 400.000، 900.000
من الكتب والرقوق وكان للرقوق من الأهمية ما للكتب تماما. وكانت مبنى رائعا متصلا
بالمتحف ببهو من الأعمدة الرخامية . كما توفر فى تلك الجامعة أشياء هامة مثل: مرصد
ومعامل خاصة للتشريح وحدائق للنبات والحيوان، كما كان للأستاذة المشهورين من مختلف
الكليات أماكن خاصة لإقامتهم داخل قاعات المتحف، وكانت لهم رواتب ثابتة من الحكومة
. كما كان هناك اهتمام خاص بالرياضيات والفلك والشعر والطب (وكان يجرى عادة تشريح
المجرمين) وكان العالم كله يتطلع إلى مهندسى الإسكندرية للاستفادة منهم، كما تمتع
المخترعون الإسكندريون بشهرة عالمية مماثلة. وما زال أثر الفن الإسكندري واضحا فى
" بومبى". وكان أى رسام إسكندري يعتبر منافسا غير مرغوب فيه "لأبلس
" أشهر رسامى عصر الإسكندر . فى تلك الجامعة كتب إقليدس " مبادئ علم
الهندسة "، وهنا سجل أرشميدس – الذى يعتبر " اشهر عالم فى الرياضيات
والمخترع العبقري فى العالم القديم " – اكتشافاته المذهلة فى الهيدروستاتيكا
والمحركات المائية، وهنا أيضا حسب أراتسطينى حجم الكرة الأرضية وغيرها من
الاكتشافات الخالدة، وهنا درس بطليموس لمدة اربعين سنة ونشر دراساته عن الكون
والنجوم التى أقرها العلماء طيلة أربعة عشر قرنا، ووضع نظريات فى الرياضة ما زالت
حتى الآن أساس علم حساب المثلثات . ويقرأ أ. ويبر: "منذ أن بدأت هذه الحقبة
من الزمن ونحن نجد أفكارا كثيرة مازالت سائدة إلى اليوم بين العلماء مثل كروية
الأرض وقطبيها ومحورها وخط الإستواء والدائرتين القطبيتين الشمالية والجنوبية،
ونقطتى الاعتدال، والانقلابين الصيفى والشتوى، واختلاف المناخ باختلاف المكان على
سطح الأرض. كما كان النظام القمرى بأوجهه المختلفة معروفا جيدا. كما درسوا باهتمام
– وإن لم يكن بنجاح كامل – الأبعاد بين النجوم المختلفة. كما ازدهر الأدب والفن
تحت حماية ورعاية الدولة، وأصبح الأدب وتاريخه وأصول اللغة والنقد علوما
تدرس" . ولعل تلك الحقبة لم تأت بجديد أو بشئ أصيل فى الأدب رغم أن "
قصص الحب " والشعر الرعوي الذى يصور حياة الريف، بدأت تلك الحقبة (ماهافى)،
ومع ذلك فإن عصر أوغسطس لا يمكن فهمه تماما " دون التقدير الواجب لمدرسة
الإسكندرية" . وليس فى وسع أحد أن ينكر الصبر الطويل والجهد الكثير اللذين
احتاجت إليهما كتابة وترجمة ونشر المخطوطات فى ذلك العصر. كما أن النصوص المعترف
بها للشاعر هوميروس والكتابات الكلاسيكية الأخرى، إنما جاءت إلينا من الإسكندرية
وليس من أثينا، فكل الكتب المشهورة كانت ترسل إلى مكتبة الإسكندرية لنسخها وليس ما
يدعو إلى الشك في رواية يوسيفوس من إن بطليموس فيلادلفوس طلب من اليهود ترجمة
العهد القديم إلى اليونانية، فقد كانت هذه سمة العصر. ويقال إن بطليموس ايرجيتس
أرسل إلى أثينا وأحضر كل أعمال أسكيلوس وسوفوكليس وأوريبدس وغيرهم إلى الإسكندرية،
ولما تم نسخ هذه الأعمال، احتفظ بجميع الأصول في الإسكندرية، و أرسل نسخا خطية
جميلة إلى أثينا ولم تكن هناك مكتبة أخرى في العالم تضارع مكتبتى الإسكندرية
باستثناء المكتبة التى حوت الأسفار النبوية فى أورشليم. وأما قصة حرق العرب
للمكتبة فى القرن السابع الميلادي، فما زال ينقصها الدليل كما يقول بتلر على أى
حال يذكر التاريخ وجود مكتبات عظيمة فى الإسكندرية بعد ذلك العصر، لكن المكتبة
الكبرى التى كانت تعتبر من عجائب الدنيا، فقد اختفت
.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ف فرساوس س

5- أثر الإسكندرية فى الفلسفة: رغم أنه لم يكن هناك
قسم خاص بالفلسفة فى المتحف الكبير، إلا أنه من القرن الثالث قبل الميلاد إلى
القرن السادس بعد الميلاد، كانت الإسكندرية تمثل مركز الثقل فى عالم الفلسفة، فهنا
نشأت " الفيثاغورثية الجديدة"، كما بلغت " الأفلاطونية الجديدة
" ذروتها فى الإسكندرية وهى الفلسفة التى نادت بالتأملية والتقشفية كرد فعل
المادية الرواقية، وتأثير الأفلاطونية الحديثه على التفكير الديني يفوق كل تقدير،
فقد امتزجت أعمق التأملات الآرية بأسمى المفاهيم السامية فى هذه الفلسفة لقد اعتبر
أفلاطون بنيامين من الأنبياء واعترفت اليونان بالوحدة الإلهية التى التزم بها
العهد القديم، وهنا اعترف اليهود بأن أثينا- مثلها مثل أورشليم – كان لها رؤية عن
الله نادت بها . وكانت هذه أول محاولة لتشكيل ديانة عالمية واحدة، وكانت فلسفة
الإسكندرية كإيليا فى إعداد الطريق لمخلص العالم . وقد تأثرت أفكار الصدوقيين
والفريسيين بهذه الفلسفة كما أن الأدب اليهودي الذى سبق ظهور المسيحية، قد تشبع
بها . ففقد نبهت الأفلاطونية الجديدة إلى العلاقة بين المادة والروح وبين الخير
والشر، وبين المحدود وغير المحدود، كما أظهرت التنافر والعداء بين عالم الطبيعة
وعالم الروح، بين الواقع والمثالية . كما نادت بضرورة وجود شئ من الاتحاد السري
بين البشر وبين الله. إنها عبرت عن المشكلة ولكنها لم تستطيع أن تحلها . وآخر ما
قالته هذه الفلسفة هو الهروب وليس المصالحة. ويقول كيرد: "إن الأفلاطونية
الجديدة" هى البذرة التى خرج منها علم اللاهوت المسيحي، ولو أنها بعد ذلك
صارت قوة معادية، ورغم خطورة تعليمها عن الشر، إلا أنها كانت تدعو إلى التقوى
فمهدت الطريق للتصوف وتعاطفت مع أعمق وأنقى عناصر الديانة الروحية
.

6- الكنيسة المسيحية فى الإسكندرية: تتفق التقاليد
جميعها على أن مرقس البشير هو الذى حمل رسالة الإنجيل إلى الإسكندرية، وأن جسده
بقى هناك حتى نقل إلى البندقية فى 828م (وقد أقيم احتفال عظيم عام 1966 بمناسبة
إعادة الجسد إلى مصر فى عهد البابا كيرلس السادس) . ومن الإسكندرية انتشرت
المسيحية فى كل مصر ومنها إلى النوبة والحبشة . وفى خلال القرن الرابع عقدت عشرة
مجامع فى مدينة الإسكندرية باعتبارها مركز الدراسات اللاهوتية والكنسية. وفي
الإسكندرية بدأ أول اضطهاد عنيف ضد المسيحية على يدي الامبراطور ديسيوس (فى 251م)
وتبعته اضطهادات أخرى كثيرة، حدث أقساها فى ايام دقلديانوس (303-311م) حتى أن الكنيسة
القبطية تؤرخ به تقويمها وتسميةعصر الشهداء. وعندما أصبحت للمسيحيين القوة
السياسية، استخدموا نفس الوسائل فى تحطيم المبعد القيصري فى 366م، ثم معبد
السيرابيوم فى 391م، وقد كان سيرابيس (أوزوريس – أبيس) أحب الآلهة للشعب، وقد كان
معبده مبنيا من أثمن أنواع المرمر وازدحم بالتماثيل التى لا تقدر بثمن، وبين
جدرانه كانت المكتبة الثانية بعد المكتبة الكبرى التى كانت بالمتحف
.

 وعندما أصبحت المسيحية الديانة الرسمية فى مصر، قام الفلاسفة المصريون
بدافع من وطنيتهم بمظاهرة تأييدا للإله سيرابيس، ولكن الامبراطور ثيودسيوس حرم
عبادة الأوثان فى عام 391م فقامت مظاهرة بقيادة الأسقف هاجمت المعبد واستولت عليه،
وكسر أحد الجنود بفأسه التمثال الذى لعله كان يمثل العبادة الوثنية فى أفضل صورها،
وبعد أن حطموه جروه فى شوارع المدينة، وكما يقول تشيندورف: "فى ذلك اليوم
تلقت الوثنية المصرية الضربة القاضية وتحولت إلى أشلاء (كتاب تاريخ مصر) . ومنذ
ذلك الحين لجأت العبادة الوثنية إلى الإختفاء فى المغاير والكهوف ورغم ذلك كان
الولاء السري لسرابيس سببا فى اضطهاد تابعيه حتى الموت أحيانا. وحدثت أفجع المآسى
فى عام 415م وعندما جروا الفيلسوفة العذراء هيباتيا- التى اشتهرت أيضا بجمالها
وفضيلتها وعلمها- إلى الكاتدرائية وهناك جردوها من ثيابها وقطعوها إربا إربا أمام
المذبح. وقد استخدم الكثيرون من القادة المسيحيين نفوذهم لإيقاف هذه الأعمال
الوحشية، ولكن المسيحيين المصريين كانوا يشتهرون بميلهم للإثارة والتطرف، فقد
كانوا يقتلون الهراطقة بسهولة، كما كانوا يفضلون أن يموتوا هم أنفسهم، عن أن
يتنازلوا عن أبسط شئ فى عقيدتهم اللاهوتية، فكان – مثلا – تغيير كلمة واحدة فى
الترجمة المألوفة، كافيا لإثارة مظاهرة عنيفة . وقد خرجت إلى النور حديثا بعض
المخلفات الغريبة للكنيسة المصرية . وقد ثبت من أقدم خطاب خطى معروف (من القرن
الثالث الميلادي
 ) أن الكنيسة استخدمت كبنك، إذ كان
ينتظرون من رجال الكنيسة (سواء كانوا كهنة أو أساقفة، كانوا يطلقون لقب عليهم
" بابوات ") مساعدة تجار البلاد فى تعاملهم فى الأسواق الرومانية . كما
يوجد ستون خطاب من القرن الرابع مرسلة لضابط مسيحي من سلاح الفرسان فى الجيش
المصرى . كما تدل البرديات والقطع الخزفية التى يرجع تاريخها إلى حوالى عام 600م،
على أنه فى ذلك الوقت، كان لا يمكن تعيين شماس إلا بعد أن يحفظ عن ظهر قلب إنجيلا
بأكمله أو خمسة وعشرين مزمورا ورسالتين من رسائل بولس الرسول . كما يوجد خطاب من
أسقف فى نفس ذلك العصر، ملئ بالشواهد الكتابية، يعلن فيه الحرم على كل من يظلم
الفقير" ويقول إن من يظلم الفقير كمن بصق على وجه السيد الرب على الصليب،
وكمن ضرب يسوع على رأسه بالقصبة (أدولف ديسمان فى كتابه " " نور من
الشرق القديم " 1910م) . ولم يكن اضطهاد اليهود والهراطقة أمرا ممنوعا فى ذلك
العصر، بل أن مصر كانت فى القرنين الخامس والسادس مسرحا للمعارك بين مختلف الطوائف،
فكانت كل طائفة تضطهد الأخرى، حتى عندما استولى العرب فى عهد عمر بن الخطاب على
المدينة فى يوم الجمعة الحزينة عام 641م، قضت الكنيسة يوم عيد القيامة فى تعذيب من
رمتهم بالهرطقة!! وأخليت المدينة فى صباح اليوم التالي، وحظى اليهود والأقباط من
العرب بمعاملة أفضل من معاملة الرومان أو رجال الكنيسة اليونانية .وبعد الفتح
العربى، استراحت الكنيسة من الاضطهاد فازدهرت وربحت كثيرا من النفوس حتى بين غير
المسيحيين .. ولكن سرعان ما سادت الحضارة العربية والديانة الإسلامية بطريقة
منتظمة . واضطرت الديانة والثقافة الوطنية إلى الهروب الصحراء . وبحلول القرن
الثامن، حلت اللغة العربية محل اللغتين اليونانية والقبطية، ليس فى المكاتبات
الرسمية فحسب، بل وفى الحياة اليومية أيضا. ومنذ ذلك الوقت – ولمدة ألف عام – لم
يعد للكنيسة القبطية أى أثر فى الحضارة أو فى علم اللاهوت بعد أن كان لها أبلغ
الأثر الذى يمكن رؤيته فى الفن والعمارة والطقوس، بل وفى الفلسفة وعلم اللاهوت
ولعل
أبرز
أثر لها هو تشجيعها لاحترام الصور والأيقونات واهتمامها بحياة الرهبنة والتقشف .
وما يستدعى النظر هو أن أول ناسك (انطونيوس) كان مصريا، وأول مؤسس لدير جماعي هو
" باخوميوس " وكان أصلا راهبا مصريا وثنيا قبل أن يتجدد ويصير مسيحيا
.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ح حاريم حريم م

 واليوم أصبحت الإسكندرية – مرة أخرى مدينة كبيرة ومقرا لأسقفية قبطية ويوجد بها
كنائس للأقباط والروم الكاثوليك واليونان الأرثوذكسية والأرمن والمارونيين
والسريان والخلقدونيون والبروتستانت وتمثلهم الكنيسة الإنجيلية وكنيسة اسكتلندة
الحرة والكنيسة الإنجيلية الألمانية والكنيسة الإنجيلية المصرية المشيخيه وغيرها.

7- المدرسة اللاهوتية فى الإسكندرية: تأسست فى
الإسكندرية أول مدرسة لاهوتية فى المسيحية ولعلها قامت على نظام المدارس الغنوسية
السابقة، التى أقيمت لدراسة فلسفة الأديان. وكانت الدراسة بها تستغرق ثلاث سنوات
وكانت الدراسة مجانا، فكان الأغنياء من الطلبة يقدمون العطايا للمحاضرين . وكان
" بانتنيوس " أول رئيس لها (180م) وكان أصلا من الفلاسفة الرواقيين قبل
أن يتجدد . ثم خلفه أكليمندس عام 202م، ثم أوريجانوس عام 232م فى أيامه وصلت
المدرسة إلى قمة مجدها . وكانت المدرسة تقوم بالدفاع فلسفيا عن المسيحية . ومن
أعظم كتابها " يوليوس افريكانس " (215م) وديونيسيوس (295م) وغريغوريوس (270م)،
ويوسابيوس (315م) وأثناسيوس (373م) وديديموس (347م)، ولكن أوريجانوس كان قمة هذه
المدرسة فإليه يرجع الفضل فى الانتصار على الوثنية وعلى الغنوسية مستخدما فى ذلك
أسلحتهم، كما استطاع أن يزود الكنيسة بما يسمى " بالوعى العلمي " .
وتفسيره الثلاثى للكتب المقدسة، كان له أثره الواضح فى تفسير الكتاب حتى القرن
الماضي . كما أن آريوس كان معلما فى تلك المدرسة . كما أن أثناسيوس المعروف "
بأبي الأرثوذكسية " والشخصية الرئيسية فى العصر النيقوى (شاف)، رغم أنه لم
تكن له علاقة رسمية بهذه المدرسة، لكنه – بلا شك – تأثر بها لأنه نشأ وتعلم فى
الإسكندرية
.

 وأغلقت المدرسة فى أواخر القرن الرابع بسبب المنازعات اللاهوتية فى مصر،
ولكن استمر عملها فى قيصرية ومراكز علمية أخرى، وكان لها أثرها القوى فى حياة
علماء الغرب مثل جيروم وأمبروزيوس كما أنها سيطرت تماما على الفكر الشرقى ومنذ
البداية كان هناك اتجاه وميل إلى الصوفية والدوستية، فوجهات نظر هذه المدرسة عن
الوحي وطرق تفسير الكتاب، التى كانت تفترض على الدوام وجود معرفة سرية لمن تتوفر
فيه الشروط، قد نبعت من الأفلاطونية الجديدة . وعلى مدى بضعة قرون، بعد اغلاق تلك
المدرسة، ظلت مدرسة أنطاكية تقاوم عقائدها، ولكن بحلول القرن الثامن، كان العالم
كله شرقا وغربا قد قبل أراء مدرسة الإسكندرية اللاهوتية
.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي