اسخاتولوجي

 

آخرة – أخرويات

 

أ الأخرويات في العهد القديم: (وكذلك في الكتابات الأبوكريفية والرؤى): الأخرويات
أو العقيدة عن الأمور الأخيرة، يعني بها الأفكار السائدة في أي حقبة عن الحياة
الآتية أي نهاية العالم (القيامة، الدينونة. وفي العهد الجديد: مجيء الثاني)
والمصير الأبدي للبشر. وسنحاول في هذا البحث استعراض المعتقدات في هذه الأمور كما
هي في العهد القديم مع الموجود في الأسفار الأبوكريفية وكتابات الرؤى اليهودية
التي تملأ الفجوة بين العهد القديم والعهد الجديد.

ب مؤلف دكتور تشارلز: هذا الموضوع الذي نطرقه الآن، سبق أن درسه كتّاب
كثيرون ولكن لم يبحثه أحد بحثاًً علمياً بمقدرة مثل الدكتور تشارلز في مؤلفه عن
الأخرويات عند العبرانيين واليهود والمسيحيين (التاريخ النقدي لعقيدة الحياة
الآتية في إسرائيل، في اليهودية، وفي المسيحية). ولكننا لا نستطيع مجاراة د. تشارلز
في الكثير من مواقفه النقدية التي تؤثر بقوة في الفكر المبني على الدلائل الأدبية،
وعلى تطور الديانة اليهودية، كما لانستطيع أن نحذو حذوه في تفسيره للديانة نفسها،
ولذلك فإننا سنتناول الموضوع من وجهة نظر مختلفة.

ج-الديانة الشخصية في إسرائيل: توجد نقطة خاصة يرى الكاتب نفسه غير قادر
على مجاراة د. تشارلز في معالجتها والتي يمكن ادراكها منذ البداية، وهي الفكرة –
المقبولة عند الكثيرين الآن – بأنه حتى قرب زمن السبي، لم تكن الديانة فردية، إذ
يظنون أن الله كان يهتم بخير الشعب ككل، وليس بكل فرد على حدته، " لم يكن
الفرد هو الوحدة الدينية، بل العائلة أو السبط ".

 

كيف يستطيع إنسان أن يقبل هذا الفكر في مواجهة الإشارات الجلية في العهد
القديم نفسه، التي تثبت عكس ذلك؟ إن هذا الأمر يبدو لغزاً أمام كاتب هذا البحث.
يوجد – حقاً – في العهد القديم التكافل بين الفرد والأسرة والسبط، ولكن لم يكن
معنى هذا في أي فترة من الفترات، إلغاء للعلاقة الفردية مع الله أو للمسئوليات
الأدبية والدينية للفرد. إن صور التقوى في سفر التكوين هي كلها – تقريباً – صور
لأفراد، والقصص بشأنهم – حتى من وجهة نظر النقاد – أقدم من القرن التاسع قبل
الميلاد، فآدم ونوح وإبراهيم ويعقوب ويوسف، كل هؤلاء أفراد عند كتّاب التاريخ،
كذلك موسى ويشوع وكالب كلهم أفراد، وأعمال هؤلاء الأفراد حُسبت لهم براً، بينما
قتلت الخطايا آخرين، ولو وجد عشرة أبرار في سدوم لنجت من الدمار (تك 18: 32). إن
خطية داود كانت على مستوى الفرد، كما أنه كفرد تاب فغفر له الله. وقد دين الملوك
بمقتضى سلوكهم الشخصي. ومن الضروري أن نؤكد على هذا من البداية، وإلا فكل مفاهيم
العهد القديم تتعرض للتشويه.

 

أولاً – أراء أساسية:

 

إن الأخرويات في العهد القديم، كما يراها د. تشارلز تعتمد على أراء أساسية
من نحو الله والإنسان والنفس، والحالة بعد الموت، وهي الأمور التي تشكل خواص
الديانة اليهودية، إلا أن هذه الأفكار تختلف في مفهومها، كما سنعرضه هنا، عما ورد
في بحث د. تشارلز.

 

1- الفكر عن الله:

 

ففي رأى د. تشارلز ظل " يهوه " – الذي أصبح إله إسرائيل في أيام
موسى – حتى عصر الأنبياء مجرد إله قومي، مرتبط بتلك الأرض وذلك الشعب فقط، لذلك
" لا يملك مسرة ولا مضرة للفرد فيما وراء القبر … لأنه حيث لم يكن لعبادة
يهوه أخرويات خاصة بها، أصبح اليهودي متروكاً لأفكاره الوثنية المتوارثة. ونجد أن
هذه المعتقدات كانت نوعاً من عبادة السلف ". وهذه نظرة معكوسة، فلم تكن هناك
فترة معروفة في العهد القديم، كان فيها " يهوه " – ولا حاجة للبحث عما
إذا كان هذا الاسم سابقاً لعصر موسى أم لم يكن – لا يعتبر إلهاً لكل الأرض، خالق
العالم والبشر، وديان كل الأمم. ففي الأصحاحين الأولين من التكوين، نراه الخالق
لآدم وحواء، اللذين منهما جاء كل الجنس البشري، كما دان كل العالم بالطوفان،
واختار إبراهيم ليكون بركة لكل قبائل الأرض (تك 12: 3) وسلطانه الشامل أمر معترف
به (تك 18: 25)، وفي نعمته غير المحدودة أظهر قوته على مصر، واختار إسرائيل شعباً
خاصاً لنفسه (خر 19: 3 – 6). وهكذا ينهار أساس انكار سلطانه على عالم الموتي.
وكلمات الرب يسوع المسيح للصدوقيين تناسب هذا المقام: " أفما قرأتم … أنا إله
إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب؟ ليس الله إله أموات بل إله أحياء " (مت 22: 31
و 32). كما أن حوادث قيامة الموتى في العهد القديم استجابة للصلاة، تؤيد ذلك (1 مل
17: 21، 2 مل 4: 34 مع مز 16: 10، 49: 15 … الخ).

 

2- الفكر عن الإنسان:

أ يعتقد دكتور تشارلز أنه يوجد في العهد القديم تصوران متناقضان عن تكوين
الإنسان وتأثيرات الموت. فالتصور السابق للفكر النبوي، يميز بين النفس والجسد في
الإنسان، ويعتقد أن النفس تظل حية بعد الموت (وهذا لا يتفق مع افتراضه الآخر،
القائل بأن النفس – " نفش " في العبرية – هي الدم) وتحتفظ ببعض الوعي
الذاتي والقدرة على الكلام والحركة في الهاوية. وهذا الفكر من نواح كثيرة يتفق مع
عبادة السلف التي يعتقد أنها كانت الديانة البدائية لإسرائيل. والفكر الآخر والذي
يظنه يتفق منطقياً مع ما ورد في التكوين (2: 7)، يفترض هلاك النفس عند الموت، حيث
نقرأ: " وجبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار
آدم نفساً حية ". " ونسمة الحياة " هي نفسها " روح الحياة
" (تك 6: 17) والتي فهم منها أن النفس ليس لها كيان ذاتي بل إنها في الواقع
وظيفة من وظائف الجسد المادي عندما أصبح حياً بالروح المجردة. " وبناء على
هذا الرأي يصبح فناء النفس أمراً حتمياً عند الموت، أي عند خروج الروح ".
ويقول إن هذا الرأي هو أصل الصدوقية، بل ويدعي أنه كان فكر بولس الرسول، الذي دحض
الصدوقية في هذا الأمر بصورة خاصة (أع 23: 6).

 

ب الجسد، النفس، الروح: إننا نرفض فكر دكتور تشارلز عن طبيعة الإنسان،
ونؤكد هنا متانة تعليم العهد القديم، فالرأي الكتابي لاعلاقة له اطلاقاً بعبادة
السلف، ففي التكوين (1: 26 و 27)، خلق الله الإنسان على صورته، وفي التفصيل الوارد
في التكوين (2: 7) صار آدم " نفساً حية " بعمل فريد هو " نسمة الله
"، فالنفس في الإنسان تنبع من نسمة الله (أي 32: 8، 33: 4، إش 42: 5) ومن ثم
فهي العامل الحيوي في الجسد (والدم مطيتها – لا 17: 11) بكل شهواته وميوله، كما
أنها مركز الادراك ومصدر القوى الذهنية والروحية.

 

هذه الأنشطة السامية للنفس، الواردة في العهد القديم، تسمى بنوع خاص "
روحاً ". ويوضح د. تشارلز هذا بطريقة صائبة فيما يقوله عن الرأي القديم (من
أن الروح قد أصبحت مركز الوظائف الروحية العليا في الإنسان)، فلا أساس مطلقاً
لاستنتاج الفناء من التكوين (2: 7) ففي كل مكان من سفر التكوين، نجد الإنسان
مخلوقاً لشركة حية مع الله، ومؤهلاً لمعرفة الله وعبادته وخدمته.

 

3-الخطية والموت:

 

ينتج مما سبق أن الإنسان يعتبر في العهد القديم، مخلوقاً مركباً مكوناً من
اتحاد الجسد والنفس (محتضنة الروح)، وكلاهما عنصران في شخص واحد، لم يكن مصيره
الموت بل الحياة، ليست الحياة بانفصال النفس عن الجسد (وجود بلا جسد)، بل باستمرار
الحياة الجسدية التي ربما كانت نهايتها تغييراً وانتقالاً إلى وجود أسمى (مثل
أخنوخ وإيليا، والقديسين في المجيء الثاني) هذا هو الرأي الأصيل الصادق عن خلود
الإنسان.

 

وعلى ذلك، يبدو أن الموت – كما يقول د. تشارلز – ليس حادثاً طبيعياً، لكنه
حادث غير طبيعي – إنه تشويه وفصل جانبين من كيان الإنسان، لم يكن القصد أبداً أن
ينفصلا – وذلك بسبب دخول الخطية كما توضح لنا الكتب المقدسة (تك 2: 17، 3: 19 و
22، رو 5: 12، 1 كو 15: 21 و 22). ويعترض البعض على أن العهد القديم لم يقل شيئاً
أكثر عن " السقوط " وخضوع الإنسان للموت نتيجة الخطية.

 

والحقيقة هي أن الصورة الكاملة للجنس البشري في العهدين القديم والجديد هي
أن العالم قد تحول عن الله، وفقد رضاه، ويجب النظر إلى الموت وجميع الشرور
الطبيعية، في ضوء هذه الحقيقة، فهذه وحدها تفسر لنا رؤية أناس الله القديسين
للموت، وتشوقهم للنجاة منه، ورجاء القيامة وموضوع القيامة " فداء الأجساد
" (رو 8: 23) على مثال قيامة المسيح (في 3: 21) التي لها أهميتها في المفهوم
المسيحي للخلود.

 

ثانيا – مفاهيم الحياة الآتية – الهاوية (شئول):

 

هل لم يكن لإسرائيل أي اعتقاد في الحياة الآتية؟

يعتقد الكثيرون بأن الإسرائيليين – بالمقابلة مع الشعوب الأخرى – لم يكن
لديهم مفهوم واضح عن الحياة الآتية إلى ما قرب زمن السبي، وعندئذ عن طريق تعاليم
الأنبياء، ومن واقع الاختبار، نبتت أفكار شخصية عن الخلود والدينونة. وفي هذه
العبارات الكثير من الغموض إن لم نقل التشويش الفكري. حقاً يوجد تقدم في التعليم
عن الحياة الآتية، ومن الحق أيضاً أن كلمات " الحياة " " والخلود
" في العهد القديم، هي كلمات لها معان أعمق من مجرد بقاء النفس والوجود
الغامض في الجحيم.

 

لكن عبارة " الحياة الآتية " بمعناها العام، لم يكن الإسرائيليون
أقل دراية بها عن غيرهم من الشعوب حولهم والأجناس التي تنسب إليهم مثل هذه الآراء.

 

1- الاعتراض بأن الآمال والعهود
كانت في أغلبها وقتية: بالتأكيد لم يكن لإسرائيل أساطير متطورة عن الحياة الآتية
مثلما كان عند المصريين، حيث كانت الحياة في العالم الآخر تلقي ظلالها على الحياة
الحاضرة، وبالمقابلة مع هذا – وربما بسبب هذا – كان الإسرائيليون أكثر حرصاً في
الحديث عن المستقبل. والآمال والمواعيد للأمة، وجزاء الأبرار وقصاص الآثام، كانت
كلها وقتية، وكان الاحساس بالمسئولية الشخصية – كما ذكرنا آنفاً – علاقة شخصية مع
الله. ولكن الشعور بالوجود المشترك، وبالعلاقة بين الفرد ونسله كان قوياً. والآمال
الموضوعة أمام الأمناء كانت ترتبط بكثرة النسل، والنجاح الظاهر والسعادة في الحياة
بعد الموت. وسوف نوضح الأسباب والدواعي لهذه العبارة فيما بعد، ولكن هذه الحقائق
العريضة المدونة في العهد القديم يمكن أن يكتشفها كل قارىء بنفسه.

 

لقد كان الوعد لإبراهيم أن نسله سيكون كنجوم السماء وأن ارض كنعان ستعطي
وطناً لهم (تك 12: 1 – 3)، وقد تشجع إسرائيل بوعود كثيرة ببركات زمنية (تث 11: 8،
28: 1 – 14) كما أنذر بأقسى اللعنات الزمنية (28: 15 الخ). كما حصل داود على الوعد
بأن نسله سيرث عرشه جزاء الطاعة (2 صم 7: 11 الخ). وفي سفر أيوب نجد أن أمانته
كوفئت بأن عادت له عظمته (ص 42). وهناك وعود زمنية كثيرة في الأنبياء (هو 2: 14،
إش 1: 19 و 26). وسفر الأمثال ملئ بمثل هذه المواعيد (3: 13 وغيرها). وكل هذا لا
يعني مطلقاً أن إسرائيل لم يكن لديه مفهوم أو اعتقادات عن الحالة بعد الموت أو أنه
اعتقد بأن موت الجسد هو نهاية الوجود، فهذا بعيد عن الحقيقة كل البعد، ولكن من
العسير أن نسمي ذلك " رجاء الحياة الآتية "، فليس ثمة شئ يوحي بالرجاء
أو الفرح أو الحياة بمعناها الطيب، في مفهومهم عن الموت أو ما بعد الموت.

 

الحياة الآتية لم تنكر:

 

لقد شابه الإسرائيليون أغلب الشعوب في أفكارهم البدائية، ولكن لم يكن من
عادتهم انكار الاعتقاد بالحياة الآتية، ومازالوا كما كانوا – مع بعض الفوارق التي
سنوضحها فيما بعد – على المستوى العام للجنس السامي في مفاهيمهم عن الحياة الآتية.
هذه أيضاً هي وجهة نظر د. تشارلز، حيث يقول بأن الفكر الإسرائيلي كان ينسب نوعاً
من الحياة والحركة والمعرفة والقوة للراحلين في الهاوية (شئول)، وشعب يفعل هذا، من
الصعب أن يكون جاهلاً بكل شئ عن الحياة الآتية. أما موضوع الهاوية فسنتناوله بأكثر
تفصيل، وسيظهر فيه اختلافنا مع د. تشارلز.

 

لم يكن إيماناً أسطورياً: لكم كان يكون مدهشاً لو أن إسرائيل – الذي سكن في
مصر طويلاً، حيث كان كل شئ يذكر بالحياة الآتية – ظل خالي الفكر تماماً عن هذا
الموضوع. ولكن من الواضح – كما سبق القول – أنهم لم يتبنوا شيئاً من الأفكار
المصرية، في ديانتهم، فبساطة إيمانهم في إلههم، إله آبائهم، حفظتهم ومازالت تحفظهم
من ادخال عناصر أسطورية في إيمانهم. ربمايقال إن " أمنتي " عند المصريين
هي أصل الهاوية (شئول) عند العبرانيين، ولكن لا يوجد في الفكر الإسرائيلي شئ مثل
أوزوريس ومعاونيه، أو المحاكمة في قاعة الدينونة، والمخاطر والمغامرات التي تتعرض
لها النفس بعد ذلك. إذاً ماهو الفكر اليهودي عن الهاوية (شئول) وما علاقته
بالمعتقدات الأخرى؟

 

بقاء النفس أو الجزء الواعي:

 

هناك اعتقاد، – ليس فقط بين من يطلق عليهم الشعوب الطبيعية، بل في كل
الديانات القديمة المتقدمة – بأن النفس أو جزءاً واعياً من الإنسان لايهلك بالموت
بل يمضي إلى حالة أخرى من الوجود، يعتبرونها حالة غامضة أو خامدة. والعقيدة
المصرية في " أمنتي " (مسكن الموتي) تحت سيطرة أوزوريس، – التي أشرنا
إليها آنفاً – " والأرالو " البابلية (ويرى البعض أن منها اشتقت كلمة
شئول) – أرض الموت التي لا عودة منها -، والهادز اليونانية، المسكن الغامض لأشباح
الراحلين، كل هذه شهادة قوية على وجود هذا المفهوم. والمفهوم العبري عن شئول
(الهاوية) لا يختلف عن هذا كثيراً في جوهره، فيقول د. سالموند إن التشابه بين
" شئول " العبرية، " الهادز " عند هوميروس، "
والأرالو" البابلية واضح. ويقول د. تشارلز إنها ترجع إلى عقيدة عبادة السلف،
ويفترض أن الأرجح هو أن الأصل في " شئول " اعتبارها مجموعة من قبور
القبيلة أو الأمة، وبذلك تعتبر المقر النهائي لها. ويصعب اثبات أن عبادة السلف
لعبت هذا الدور، الذي يشير إليه، في الديانة البدائية. وعلى أي حال، إنه يخلط بين
السبب والنتيجة، فعقيدة بقاء الروح أو الشبح سابقة لعبادة الأسلاف، والأيسر من ذلك
جداً هو أن الإنسان أدرك منذ البداية، وجود التفكير، وجود عامل نشيط في داخله،
يتلاشى عند الموت، ومن الطبيعي أن يرى أنه حي في مكان آخر ولو كشبح، أو في حالة
ضعيفة. ومهما يكن الأمر فإنه بالغريزة يفكر الناس على مختلف مستوياتهم الثقافية
بأن الجزء الواعي في موتاهم حي، وهذا مافعله العبرانيون، على ذات القاعدة، ولكن أمام
وجهة النظر الكتابية، يعتبر هذا النوع من البقاء أضعف من أن يوصف بالخلود.

 

4-شئول عند العبرانيين:

 

ليس من الضرورى أن نفعل أكثر من رسم الملامح الرئيسية للهاوية (شئول) عند
العبرانيين. وأصل الكلمة مشكوك فيه، فقد تكون من أصل بمعنى " يسأل " أو
بمعنى " أجوف ". وكثيراً ماتترجم خطأ " بقبر " أو "
هاوية ". إنها تدل – كما سبق القول – على مكان إقامة الموتى، ويظنونها في
أعماق الأرض (مز 63: 9، 86: 13، حز 26: 20، 31: 14، 32: 18 و 24، عد 16: 30، تث 32:
22)، حيث يجمع الموتى في مجموعات، ومن هنا جاء التعبير " انضم إلى قومه
" (تك 25: 8، 35: 29، 49: 33، عد 20: 24). هذا التعبير يدل – كما توضحه
القرينة – على شيئ يختلف تماماً عن الدفن، فيعقوب مثلاً " انضم إلى قومه
" وبعد ذلك حنطوا جسده، وبعد أيام كثيرة " دفن " (تك 50: 2). أما
الأوصاف الشعرية عن " شئول " فيجب إلا نأخذها حرفياً. وفي هذا أخطأ د.
تشارلز باستناده على هذه التفاصيل مثل " مغاليق " و " أبواب "
(أي 17: 16، 38: 17، مز 9: 13، إش 38: 10). وفي المفهوم العام، الهاوية هي مكان
الظلمة (أي 10: 21 و 22، مز 143: 3)، والسكوت (مز 94: 17، 15: 17)، والنسيان (مز
88: 12، جا 9: 5 و 6 و 10)، لا يذكر فيها الله ولا يحمد (مز 6: 5)، ولا معرفة بما
يجري على الأرض (أي 14: 21). هذه اللغة لا ينبغي أن تؤخذ حرفياً، فالبعض منها
تعبيرات بائسين أو مكتئبين (إش 38: 10)، أو من داخله الشك وقتياً (جا 12: 7 و 13
و14). إنها تعبيرات نسبية بالمقارنة مع لمعان وفرح ونشاط الحياة الدنيا (أي 10: 22)
حيث " إشراقها كالدجى " (أي 10: 22). وفي مكان آخر نجد أن الوعي موجود
(إش 14: 9) " فالأخيلة – لملوك كانوا عتاة يوماً ما – اهتزت لتقابل ملك بابل
النازل إلى هناك (انظر أيضاً حز 32: 21). وإذا كانت " شئول " توصف
أحياناً " بالهلاك " (أي 26: 6، 28: 22، أم 15: 11)، " وبالحفرة
" أو " الجب " (مز 30: 9، 55: 23) ,فإنها في بعض الأحيان توصف –
بالمقابلة مع ضيقات وأتعاب الحياة – بأنها مكان الراحة والرقاد (أي 3: 17، 14: 12
و 13). وكما هو الحال مع الشعوب الأخرى، نجد الوجود في " شئول " يوصف
بالضعف والخمول والغموض والخلو من مسرات الحياة وأهدافها، فهذه حالة الموتي. وما
يقوله د. تشارلز – كما سبق – من أن "شئول " خارجة عن سلطان الله القضائ،
تنقضه أقوال كثيرة من كلمة الله (تث 32: 22، أي 26: 6، أمثال 15: 11، مز 139: 8،
عا 9: 2 … الخ).

 

ثالثاً – الرجاء والحياة والقيامة:

 

1- الطبيعة والنعمة – فوارق أدبية:

 

" فشئول " شيئ مختلف
تماماً من وجهة النظر الطبيعية، عنها من وجهة نظر النعمة. فلم يكن هناك أثر
للتمييز بين الخاطئ والبار في " شئول "، فعنصر الجزاء يبدو غائباً،
فالجزاء والعقاب هنا في هذه الحياة، وليس فيما وراءها، ومع ذلك يجب على المرء أن
يحترس لئلا ينزلق إلى نتائج خاطئة. حقاً إن حالة الوعي الهزيل والخمول في الهاوية،
لا تدل على وجود فارق كبير، وقد يكون التفكير في مبادلة مسرات الحياة بذلك الوجود
الموحش في العالم السفلي، مزعجاً لأقسى القلوب ومثيراً للحزن والمرارة، بل إن
المسيحي يمكن أن يندب حياة تنتهي نهاية مفاجئة وفي غير أوانها.

 

ولكن حتى على أسس طبيعية، من الصعب أن نصدق أن الإسرائيلي التقي كان يظن أن
حالة انضمام رجال الله بسلام إلى قومهم، مثل حالة أولئك الذين هلكوا تحت لعنة غضب
الله، ونزلوا إلى " شئول " حاملين أوزارهم – هناك ثمة معنى يجب إلا يغفل
في القول: " الأشرار يرجعون إلى الهاوية " (مز 9: 17). " الهاوية
السفلى " التي فيها يتقد غضب الله (تث 32: 22) " أسافل الجب " (إش
14: 15، حز 32: 23) التي يذهب إليها كل متكبر ومستعل.

 

ويذهب د. تشارلز إلى وجود صفة قضائية للهاوية في المزمورين 49، 73، ونستروح
نسمات التعزية في مثل العبارات " " لاحظ الكامل وانظر المستقيم، فإن
العقب لإنسان السلامة " (مز 37: 37)، أو في الاشارة إلى انضمام الصديق من وجه
الشر القادم " يدخل السلام، يستريحون في مضاجعهم، السالك بالاستقامة "
بالمقارنة مع القول: " ليس سلام قال إلهي للأشرار " (إش 57: 2 و 21).
حتى بلعام في رغبته الملحة: " لتمت نفسي موت الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم
" (عد 23: 10)، يبدو قوله هزيلاً إذا اقتصر تفسيره على مجرد الرغبة في شيخوخة
يانعة مباركة.

 

2- رجاء الخلود:

 

لكي نصل إلى المصدر الحقيقي لرجاء الخلود في العهد القديم وطبيعة هذا
الرجاء، يبدو من الضروري أن نذهب إلى أبعد من مجرد الفكر عن حالة أسعد في الهاوية،
فذلك المكان الموحش لا يرتبط أبداً بفكرة " الحياة " أو " الخلود
" بأي شكل. إن الكتَّاب الذين يفترضون أن الأماني الواردة في المزامير
والأنبياء لها أي علاقة بالوجود في الهاوية، يشقون لأنفسهم مساراً خاطئاً. فموضوع
هذه الأماني لم يكن توقع حالة أسعد في الهاوية، ولكنه كان رجاء من الهاوية،
واسترداد الحياة والشركة مع الله. وهذا المضمون يستحق دراسة دقيقة:

 

أ الهاوية – مثل الموت – مرتبطة بالخطية:

 

لقد رأينا في العهد القديم أن الهاوية والموت ليسا النهاية الطبيعية
للإنسان، ونجد ضمناً أن ثمة علاقة بين الخطية والدينونة. وكيفما كانت الهاوية عند
عامة الشعب، وذوي الأفكار السطحية، أو عند النفس المتألمة التي أدركت الأفكار
الأساسية لعبادة الله، فإنها حالة على النقيض تماماً من المصير الصحيح للإنسان،
فكما رأينا كان الإنسان يتميز عن الحيوان، بأنه لم يخلق تحت قانون الموت، فالوجود
بلا جسد، الذي هو بالضرورة وجود جزئي غير كامل، لم يكن جزءأً من القصد الإلهي
للإنسان الذي كان يجب أن يكون خلوده في الجسد وليس منفصلاً عن الجسد، وانفصال
الروح عن الجسد – وهي حالة وجود الروح في الهاوية – راجع إلى عقاب الخطية. ولقد
أدرك د. سالموند هذا تماماً في بحثه في هذا الموضوع: " إن الاحساس بعقاب
الموت، يلّون كل ما يقوله العهد القديم عن نهاية الإنسان، فكراً وإن لم يكن قولاً
"، والمثال الحقيقي للخلود يظهر في حالات مثل أخنوخ (تك 5: 24، عب 11: 5)
وإيليا (2 مل 2: 11)، ولا يذكر الكتاب شيئاً عن " خلود النفس " مجردة.

 

ب _ الأصل الديني لرجاء الخلود:

 

في جميع الحالات، يرتبط فكر الخلود، بمعناه الكامل الحقيقي كما ورد في
العهد القديم، ارتباطاً وثيقاً بالإيمان والرجاء، وهو ليس له أصل طبيعي بل ديني،
إنه ينبع من ثقة المؤمن ويقينه في الله الحي، من اقتناعه بأن الله – إلهه – الذي
ربطه بنفسه بعهد أبدي والذي " أذرعه الأبدية من تحت " (تث 33: 27، مز 90:
1)، لن يتركه في الهاوية، بل سيكون معه هناك سيمنحه النصرة على أهوالها.

 

ليست الحياة مجرد وجود، بل هي تتوقف على رضى الله والشركة معه (مز 16: 11،
30: 5، 63: 3). وهناك أجزاء أخرى لها علاقة بهذا الموضوع في المزامير والأنبياء
سنعود إليها فيما بعد.

 

والمدرسة الحديثة مقتنعة بأن رجاء الخلود يرجع إلى مرحلة متأخرة في الديانة
اليهودية، إلى الحقبة التي تطور فيها الفكر التوحيدي، فنما الاحساس بالشخصية
الفردية، والوعي الواضح بمفارقات الحياة، فأصبحت – لأول مرة – هذه المغامرة
العظيمة للإيمان ممكنة. وهنا نسأل: هل كان الأمر هكذا؟ هل كان هذا الرجاء مجرد
" مغامرات حدسية وارهاصات نفوس مكرسة، في لحظات من الاختبارات العميقة أو
الصراعات الحادة " كما يقولون؟

 

ليس بالضرورة متأخراً: إنه لأمر بديهي، أن الرجاء في الخلود لا يوجد إلا
عند الإيمان القوي، فهل الإيمان القوي لم يوجد إلا في عصر الأنبياء والسبي؟

 

لقد سبق الاعتراض على القول بأن عقيدة التوحيد كانت طوراً متأخراً، وأن
إيمان الفرد بالله لم يكن موجوداً في العصور الأولى. فلا يمكن التسليم مطلقاً بما
يزعمونه الآن من أن سفر المزامير وسفر أيوب – اللذين يوضحان هذا الرجاء – قد كتبا
بعد السبي. وإذا كان الإيمان بالله، حافظ العهد، موجوداً منذ عصور الآباء وموسى،
فالسؤال إذاً هو: ليس لماذا لا يبعث على آمال مماثلة، بل بالحرى كيف يمنع من أن
يكون الأمر هكذا؟ إذا كان أب مثل إبراهيم سار حقاً مع الله ونال وعوده، فهل يمكن
أن يكون – وبالحري أي قديس ممن جاءوا بعده – عديم الثقة في قدرة الله أن يحفظه
وينجيه في الهاوية ومنها؟

 

إنه لمن العسير جداً التسليم بهذا. يقولون إنه لا يوجد دليل على هذا
الرجاء، وبالتأكيد لم يكتب هؤلاء القديسون القدماء مزامير، ولم يتحدثوا بألسنة
الأنبياء، ولكن ألا يوجد شيئ في سيرهم الواثق الهادئ، في موتهم المطمئن، في
انتظارهم لاتمام المواعيد التي لم تتم في أيامهم، في ثقتهم الوطيدة في الله في وسط
تقلبات الحياة، ألا يوجد في كل ذلك ما يدل على أنهم كانوا قادرين على أن يستودعوا
أنفسهم عند الموت في أيدي الله وأن يثقوا فيه بأن كل شيئ لا بد أن يكون حسناً لهم
في المستقبل؟ أليس هذا ما ذكره السيد المسيح (على الأقل في مت 22: 32)؟ أليس هذا
ما آمن به كتَّاب العهد الجديد (عب 11: 13 و 14)؟ ربما يتعثر الإيمان، ولكن لا بد
أن هذا الرجاء كان مرتبطاً بالإيمان منذ البداية.

 

ج- رجاء القيامة:

 

وهنا يعرض لنا سؤال ملح: ماهو الشكل الذي اتخذه رجاء الخلود؟ إنه – كما
رأينا – لم يكن خلوداً يستمتع به في الهاوية، فلا بد إذا أن يكون رجاء مرتبطاً
بالنجاة من سلطان الهاوية، أي أنه كان رجاء القيامة. ونعتقد أنه بسبب اغفال هذه
الحقيقة، تاه الكتَّاب في بحثهم عن الخلود في العهد القديم. لقد فكروا في حياة
مباركة للنفس في المستقبل (تشارلز ص 76 و 77)، بينما الفداء الذي يتكلم الكتاب
المقدس عنه، يشمل – على الدوام – كل كيان الإنسان نفساً وجسداً معاً. يجب أن نذكر
أن المسيح فسر: " أنا إله إبراهيم … " (مت 22: 32) كضمان أكيد، ليس
لمجرد استمرار الوجود، بل للقيامة. وهذا يتمشى مع ما سبق أن رأيناه في ارتباط
الموت بالخطية، وأنه أمر غير طبيعي في حالة الإنسان. إن الخلود الذي كان سيتمتع به
الإنسان، لو لم يخطئ، كان – ولا بد – خلوداً لكيانه كله. إن هذا هو ما يمكن أن
نراه في كل الأجزاء التي تكلمت عن رجاء القيامة في العهد القديم، فهي لا تعني مجرد
خلود النفس بل إن رؤياها تتضمن القيامة.

 

1- ليست عقيدة متأخرة أو غريبة: إذا
كان ما سبق صحيحاً، يكون من الخطأ أن نرجع بعقيدة القيامة إلى وقت متأخر جداً –
كما يزعمون – أو إنها أخذت عن الزرادشتية (كما يقول كين في " أصل المزامير
" – محاضرة 8) أو عن بعض المصادر الأجنبية.

 

إنها نتيجة طبيعية نابعة من العقائد اليهودية الأساسية عن الله والإنسان
والنفس والخطية والموت والفداء.

 

ويؤكد البروفسور جنكل " الأهمية القصوى " لهذه العقيدة، ويتحدث
عنها بأنها " من أهم الأمور التي وجدت في تاريخ الدين في كل مكان "
ولكنه يظن " أنها لا يمكن أن تأتي من داخل اليهودية ذاتها، ولكنها – ولا بد –
جاءت من الرؤى السائدة في الشرق، وفي العصور المتأخرة ". ولكي يثبت نظريته
كان عليه أن يسقط من حسابه كل الأدلة على هذه العقيدة التي تسجلها: أسفار العهد
القديم الأولي وهو مالم ينجح فيه، فقد سبقت الاشارة إلى بعض حالات القيامة التي
وردت في الكتب التاريخية (1 مل 17: 21 و 22، 2 مل 4: 34 – 36).

 

إنه ليس من المستحيل أن تكون تلك العناية التي أبداها الاباء من نحو موتاهم
– مثلما كان الأمر مع المصريين – قد نبعت من مثل هذا الرجاء (تك 23، 50: 5 و 25،
خر 13: 19، عب 11: 22). وعلى أي حال، إن الدراسة غير المتحيزة تثبت أن فكرة
القيامة تصبغ كل تعبيراتهم عن رجاء الخلود.

 

2- المزامير: الأجزاء الواردة في
المزامير والتي يرتفع فيها الإيمان إلى رجاء الخلود هي: مز 16: 8 – 11، 17: 15، 49:
14 و 15، 73: 24. وتوجد شواهد أخرى كثيرة ولكن هذه هي الأجزاء الرئيسية التي تعبر
عن رجاء الخلود في صيغة تعني القيامة. وسبق أن اعتقد الدكتور كين بأن هذه الأجزاء
تأثرت بفكر زرادشت، ولكنه الآن يقرر نقيض ذلك، إذ لا يوجد سبب معقول يجعلنا نضع
هذه المزامير في زمن لاحق لزمن السبي، وهكذا إذا أخذناها بمعناها الواضح، فإن
شهادتها تبدو قوية، فمزمور 16: 8 – 11 (اقتبسه الرسول في أع 2: 24 – 31 نبوة عن
قيامة المسيح): " جسدي أيضاً يسكن مطمئناً (أو في يقين) لأنك لن تترك نفسي في
الهاوية، لن تدع تقيك يرى فساداً. تعرفني سبيل الحياة … ". وفي المزمور 17: 15،
بعد أن شرح المرنم النجاح الظاهر للشرير، يقول " أما أنا فبالبر أنظر وجهك.
أشبع إذا استيقظت بشبهك ". ويعترف كين بأن هذا يشير إلى القيامة (كما يشاركه
القول ديلتز وبيراون)، بل إن الأمر يبدو أكثر وضوحاً في مز 49: 14 و 15 " مثل
الغنم إلى الهاوية يساقون (الأشرار) … ويسودهم المستقيمون غداة … إنما الله يفدي
نفسي من يد الهاوية لأنه يأخذني " والعبارة الأخيرة: " لأنه يأخذني
" لها علاقة – كما يقول بيراون وديلتز وكين، بل، ودوهم أيضاً – بحالات مثل
حالات أخنوخ وإيليا، ومع ذلك فإنها لا يمكن أن تعني انتقال الجسد فعلياً، بل لا بد
أنها تشير إلى القيامة. وشبيه بذلك مزمور 73: 24 " برأيك تهديني وبعد إلى مجد
تأخذني ". ويسلم دكتور تشارلز بأن مزموري 49، 73 يوضحان أن الله يأخذ الأبرار
إليه في السماء، ولكنه يفشل في ربط هذا بالقيامة.

 

3-سفر أيوب: ينبغي أن نلقي نظرة
على سفر أيوب – قبل النظر في أسفار الأنبياء – دون اعتبار لتاريخ كل منها (ولا
يمكن اعتبار سفر أيوب لاحقاً للسبي). فسفر أيوب يعكس الأحوال في عصر الآباء. ففي
الأصحاح الرابع عشر والعدد الرابع عشر يسأل: " إن مات رجل أفيحيا؟ " وما
يجب ملاحظته هو أن صيغة السؤال تعني قيامة الجسد. والمظاهر المنافية لعودة الإنسان
إلى الحياة متعددة (7: 12): " ليتك تواريني في الهاوية وتخفيني إلى أن ينصرف
غضبك، وتعين لي أجلاً فتذكرني … تدعو فأنا أجيبك تشتاق إلى عمل يديك " (13 –
15). والقول " تدعو " – كما يقول د. أ.ب. ديفيدز – يدل على " أنه
كان في ذهنه عودة كاملة للحياة، للإنسان ككل " ومع هذا ينبغي أن نضع في
الاعتبار ما جاء في أيوب (19: 25 – 27): " أما أنا فقد علمت أن ولييّ حيّ
" التي مهما حامت الشكوك حول ماتعنيه بعض العبارات، فإن هذا القول – بلا شك –
يوضح رجاء لا يقل قوة عما جاء في العدد السابق اقتباسه.

 

4-الأنبياء: لا يوجد أدنى شك في
وجود فكر القيامة عند الأنبياء، ولكنهم يزعمون أن هذه النصوص تعود إلى زمن السبي
أو إلى ما قبيل السبي، ويفسرونها على أنها ليست على مستوى الفرد (تشارلز 128 –
129). ويبدو واضحاً – على أي حال – أنه قبل أن تكون القيامة منطبقة على الأمة، كان
فكر القيامة موجوداً من قبل. ولا نستطيع مطلقاً أن نقول بأن قيامة الأفراد ليست
واردة. ولقد سلم كين بذلك عما ورد في إشعياء (25: 6 – 8، 26: 19)، فقال: "
هذا الانتظار لا يختص بجماعة المؤمنين كأمة فحسب، بل بكل الأفراد المؤمنين، سواء
كانوا يهوداً أو غير يهود، كل الذين يخضعون للرب الملك الحقيقي ". ولا داعي
على الاطلاق لأن نضع ماورد في هوشع: " يحيينا بعد يومين. في اليوم الثالث
يقيمنا فنحيا أمامه " (6: 2)، " من يد الهاوية أفديهم من الموت أخلصهم.
أين أوباؤك ياموت، أين شوكتك ياهاوية. تختفي الندامة عن عيني " (13: 14)، في
تاريخ لاحق لعصر ذلك النبي.

 

وفي كل هذه المواضع نجد فكر القيامة موجوداً ومطابقاً تماماً للصورة
الواردة في حزقيال (37: 1 – 10) عن البقعة المملؤة عظاماً يابسة. ونصل إلى الذروة
في إشعياء (25: 6 – 8، 26: 19) كما أشرنا سابقاً، إذ لا يمكن أن نستبعد منها قيامة
الفرد. وكما يقول سالموند: " إن موضوع هذا النص (إش 26: 19) قيامة شخصية، لا
قيامة عامة ".

 

5-دانيال – قيامة الأشرار. وأخيراً
نجد في العهد القديم عبارة بالغة الأهمية في دانيال (12: 2) " وكثيرون من
الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الأبدية، وهؤلاء إلى العار
للإزدراء الأبدي. والفاهمون يضيئون كضياء الجلد.. " و أهمية هذا النص، في أنه
لأول مرة يعلن عن قيامة الأشرار كما يعلن عن قيامة الأبرار (انظر يو 5: 28 و 29،
أع 24: 15، رؤ 20: 12).

 

والكلمة " كثيرون " يجب إلا تفهم على أنها على النقيض من كلمة
" كل "، وإن كان الأرجح أنها تعني إسرائيل فقط. والحادثة مرتبطة بزمن
ضيق (12: 1) بعد القضاء على أنطيوكس الذي يمثل " ضد المسيح ". والمشكلة
الحقيقية هي كيف وردت فكرة قيامة الأشرار؟ إن فكرة قيامة الأبرار – كما رأينا –
نتيجة طبيعية لأمانة عهد الله، لكن هذا لا ينطبق على الأشرار. إذا من أين أتت هذه
الفكرة؟ إنه الوحي! ولكن الوحي يرتبط بالأفكار والاختبارات الموجودة، وبالتأكيد لا
يمكن أن تجيئ قيامة الأشرار، مثل قيامة الأبرار، من إدراك الاتحاد الذي لا ينفصم
عن الله، ولكن قد تأتي عن اقتناع على نقيض هذا الاقتناع، ألا وهو دينونة الله. وإذ
ازداد الشعور بالشخصية الفردية – ولا شك في أن الأنبياء قد فعلوا الكثير في تقوية
هذا الشعور، كما ازداد اليقين بالجزاء الأدبي – كان لا بد أن يؤثر ذلك في مفهومهم
عن المستقبل، في تأكيد أن الأشرار – لا بد – سيعاقبون، كما أن الأبرار – لا بد –
سيجازون في الدهر الآتي. ومن الطبيعي – في مقابل الفكر الآخر – أن يتشكل ذلك في
صورة قيامة الدينونة. وهكذا نأتي كمرحلة أخيرة، إلى دراسة فكر الدينونة وتأثيراته
كما هو في تعاليم الأنبياء .

 

رابعاً – فكر الدينونة – يوم الرب:

 

الدينونة حقيقة واقعة: رأينا أنه في ظل النظام الموسوي كانت الوعود
والتهديدات من الله تقتصر أساساً على هذه الحياة الحاضرة. والاحساس بالفوارق في
الهاوية – مع أنه لم يكن غائباً تماماً – كان مهتزاً وغير واضح. وبمرور الأيام
تعلم الإنسان أن يؤمن بحقيقة الجزاء الأدبي.

 

وفي عصر الأنبياء، بينما كانت دينونات الله على الأمم والأفراد، ينظر إليها
أساساً على أنها قاصرة على هذه الحياة، كونت لنفسها – شيئاً فشيئاً – مفهوماً آخر
هو اقتراب اكتمال التاريخ، أو يوم الرب، عندما يقضي على أعدائه بالتمام، ويثبت بره
بالتمام، ويؤسس ملكوته الظافر على كل الأرض. ويمكن استعراض تطورات هذا الفكر
باختصار. ويلزمنا القول بأننا لا نقر ما يقوم به بعض النقاد من تشويه شديد للنصوص
النبوية والتي يوافق عليها د. تشارلز مع بعض التحفظات.

 

1- يوم الرب:

 

في الكتابات النبوية، يفهم يوم الرب – أحيانا – على أنه الإعلان العظيم
لقوة الله في الدينونة أو الخلاص (مثلاً الجراد في يوئيل 2)، وأحياناً أخرى يفهم
بصورة أخروية، أي أنه الأزمة النهائية في تاريخ ملكوت الله، وهي تشمل القضاء على
كل مقاومة والنصرة الأبدية للبر (انظر مثلاً: إش 2: 2 – 5، يؤ 3، عا 9: 11، زك 14
…) . ويوجد ارتباط بين المفهومين، فالأول مقدمة أو مرحلة توقع للآخر. وهذا الوجه
من الرؤية النبوية – الذي يقولون عنه أحياناً إنه فقدان للمنظور الصحيح – يبدو
جلياً في تجاهل الترتيب الزمني للأحداث، فيبدو " يوم الرب " وكأنه
الخلفية المباشرة لكل أزمة خطيرة تتعرض لها الأمة في وقت من الأوقات (الغزوات
الأشورية – الأسر البابلي – اضطهاد المكابيين) والأمر الوحيد المؤكد – في فكر
النبي – هو أن " اليوم " آت بالتحقيق، إنه الأمر الوحيد المخوف العظيم،
إلا أنه لشعب الله، هو حدث المستقبل السعيد، ولكن الخطوات التي بها يبلغ الهدف،
تعلن تدريجياً في مسار عناية الله.

 

أ العلاقة بإسرائيل: " اليوم " في مفهومه الأصلى هو يوم دينونة
(إش 2: 12)، ولا ينظر إليه بأنه يوم نقمة على أعداء إسرائيل فحسب (عا 5: 18)، بل
إن إسرائيل نفسه سيكون أول من تقع عليه ضربات تأديب الرب: " إياكم فقط عرفت
من جميع قبائل الأرض، لذلك أعاقبكم على جميع ذنوبكم " (عا 3: 2). وبينما
دينونة الله على إسرائيل هي للعقاب، إلا أنها أيضاً للتطهير والتنقية، فسوف تبقى
" بقية " تكون زرعاً مقدساً (إش 6: 13، عا 9: 9، صفنيا 3: 13 و 20)،
ويعرض لنا سفر هوشع هذه الخاصية لمعاملات الله عرضاً رائعاً.

 

ب علاقته بالأمم: وعلاقة " اليوم " بالإمم علاقة أوسع. يستخدم
الله الأمم أدوات لقضاء الله على إسرائيل (الأشوريون – الكلدانيون – الفرس) ولكن
هم أيضاً لابد أن يأتي عليهم الدور لقضاء الله (انظر النبوات على الأمم في إشعياء
وإرميا، وحزقيال، وناحوم، وحبقوق …)، فسوف تكون النهاية (مع أن ذلك غير واضح
تماماً في كل النبوات) بأن ترجع بقية من الأمم إلى الرب فتنجو من الدينونة (زك 14:
16) بل إن ملكوت الله سيمتد حتى تمتلئ الأرض من مجد الله (انظر إش 2: 2 – 5، ميخا
4: 1 – 5، إش 42: 4، 60، 66: 3 – 6، إرميا 12: 14 – 16، 11: 19 – 21 حز 16: 53 و
55 و 61) حيث سيرد الرب سبي سدوم وبناتها (عا 9: 11، حب 2: 14، مز 22: 27 – 31، 65:
2 و 5، 86: 9، مز 87)، فهذه الحوادث في لغة النبوة تختص " بالأيام الأخيرة
" (إش 2: 2، إرميا 48: 47، حز 38: 16، هو 3: 5، ميخا 4: 1).

 

في نبوة دانيال العظيمة عن الممالك الأربع، نراها تتحطم إلى أجزاء بواسطة
ملكوت السموات المشبه بحجر قطع من جبل بغير يدين (دانيال 2: 44 و 45 مع 7: 27)
وأعطى قديم الأيام المملكة إلى شبه " ابن الإنسان " (7: 13). كما يشارك
حجى وزكريا النبيان – بعد السبي – في هذه الآمال اللامعة (حجي 2: 6 و 7، زك 2: 10،
8: 20 – 23، 14: 16). وفي سفر ملاخي نجد واحداً من أقوى الأقوال النبوية: "
من مشرق الشمس إلى مغربها اسمى عظيم بين الأمم " (1: 11) ويختتم النبوة
بالإعلان عن المسيح مرسلاً من الله، فهو الذي سيأتي باليوم " العظيم والمخوف
" (ملاخي 4).

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس تفاسير أخرى عهد جديد إنجيل مرقس يوسف فخرى ى

 

2- الدينونة بعد الموت:

 

إن ما قيل عن " يوم الرب " يرتبط بالأرض، ولكن الإشارات إلى
القيامة، والفصول الختامية في سفر إشعياء (65: 17 و 66: 22) عن " السموات
الجديدة والأرض الجديدة " تتضمن رؤية أوسع، فقد سبق أن تكلمنا عن رجاء الخلود
– حياة القيامة – في حالة الأبرار، ولكن ماذا عن دينونة الأشرار بعد الموت؟ توجد
بعض تحذيرات غامضة عن المجازاة كما نراها في العقيدة القديمة عن الهاوية، وتوجد
إشارات عديدة إلى الدينونة في سفر المزامير، أحياناً دينونة على العالم (96: 13،
98: 9، 50) وأحياناً أخرى على الأفراد (1: 5)، ولكن من المشكوك فيه أن أياً منها
يشير إلى مابعد هذه الأرض، ولكن هناك أشياء كثيرة تجعلنا نضع هذه المسألة تحت
نظرنا:

 

أ عدم كمال النظام الأدبي: اشتد الاحساس بالمسئولية الفردية في العصر
النبوي (إر 31: 29 و 30، حز 18: 2)، وبعدم كمال النظام الأدبي في هذه الحياة من
ناحية الفرد. ومن السهل ملاحظة أثر النواميس الأدبية، ولكنها كانت قاصرة جداً فيما
يختص بالجزاء الفردي، فالحياة مليئة بالشذوذ الأدبي والألغاز (انظر سفر أيوب).

 

ب نجاح الأشرار: وهناك مشكلة في أن الشرير لا يلقي جزاءه دائماً في هذه
الحياة عن أفعاله الرديئة، بل على النقيض يبدو أن الأشرار دائماً نامون وناجحون في
مشروعاتهم، بل ومنتصرون على أولاد الله الذين هم دائماً مضطهدون ومذلون.

 

هذا هو اللغز المحير الذي شغل أفكار كتبة المزامير (مز 10، 17، 37، 49،
73).

 

والحل الذي وصلوا إليه هو أن نجاح الأشرار غير دائم وينتهي نهاية مفاجئة
(مز 37: 35 و 36، 73: 18 – 20) بينما للصديق جزاء مؤكد في المستقبل (مز 17: 15، 49:
15، 73: 24 …). وأحيانا لا يقع القضاء على الأشرار، بينما النهاية المفاجئة لا
تبدو عقاباً كافياً لحياة مملوءة بالإثم. وإذا كان البار سيجازى فيما بعد، فالفكر
الذي يتبادر إلى الذهن هو أن الشرير أيضاً سيجازى في المستقبل، بل يجب أن يجازى.

 

ج- معاناة البار مع الشرير: توجد حقيقة قريبة من السابقة، وهي أن المصائب
التي تفاجئ الشرير، يكون للبار دائماً نصيب فيها، فلا يعاني الشرير بمفرده، بل يتعرض
الأبرار أيضاً لزوبعة القضاء (حرب – أسر – أوبئة) التي تجتاحهم، بينما كان يجب أن
يكون هناك نوع من الإنصاف من إله البر.

 

3- الثواب والعقاب في الآخرة:

 

لهذه الأسباب صار من الضروري أن يبرز الفكر عن إمتداد عقاب الأشرار إلى
ماوراء القبر. ومن هنا – كما رأينا – أصبحت الهاوية – في العصور المتأخرة – تعني
نوعاً من القصاص للشرير، فهناك غضب الله الذي يتقد إلى الهاوية السفلي (تث 32: 22).
ولكن مسكن الأخيلة لم يكن للشرير – كما لم يكن للبار – المكان المناسب للجزاء
الأدبي، فإذا كانت المكافأة الكاملة للأبرار تحتم حالة القيامة، أفلا ينطبق هذا
على الأشرار أيضا؟ وثمة تساؤل عما إذا كانت الدينونة الفردية المذكورة في سفر
الجامعة (11: 9 و 12) تشير إلى الحالة بعد الموت. والأرجح أنها تشير إلى ذلك
(سالمنود). وأول إعلان واضح عن قيامة الأشرار ورد في دانيال (12: 2) وهو في نفس
الوقت يتضمن الدينونة. ولعل هناك تلميحاً لنفس الفكر في إشعياء (66: 24): ويخرجون
(والنبي يتحدث هنا عن السماء الجديدة والأرض الجديدة – عد 22) ويرون جثث الناس
الذين عصوا على. لأن دودهم لا يموت ونارهم لا تطفأ ويكونون رذالة لكل ذي جسد
".

 

ويربط د. تشارلز هذا الفكر بفكرة جهنم " كمكان للقصاص على كل مقاوم
ومرتد من اليهود " ويظن أن هذا ينطبق أيضاً على ما جاء في إشعياء (50: 11).
وكلمة " رذالة " هي نفسها كلمة " ازدراء " في دانيال (12: 2).
ويقول دكتور تشارلز أن الكلمتين تشيران إلى " جهنم "، والعقاب الذي
يتحمله الأشرار هو عقاب أبدي. ومن الصعب أن نستزيد من الكلام في هذا الموضوع في
حدود العهد القديم، ولكن ثمة تطورات أخرى حدثت في العصور اليهودية المتأخرة.

 

خامساً – مفاهيم يهودية في عصور متأخرة:

 

أسفار الأبوكريفا – الرؤى – كتابات علماء اليهود.

 

أ المصادر: مصادر معرفتنا بالمفاهيم الأخروية عند اليهود في العصر السابق
للمسيحية هي:

 

1- الأبوكريفا: وهي كتب الأبوكريفا
في العهد القديم (انظر الأبوكريفا) وهي مأخوذة عن الترجمة السبعينية باستثناء
إسدراس الثاني، والذي يشتهر باسم إسدارس الرابع، وهو من أسفار الرؤى، والسفر
الأصلي يحتوي على الأصحاحات من 3 – 14 فقط، مع جزء في الأصحاح السابع لا يوجد في
النسخة المألوفة وهو يرجع إلى العصور المسيحية (من 80 – 96).

 

2- أسفار الرؤى: وتشمل بقايا هذه
الكتابات: الأقوال السبلينية من القرن الثاني قبل الميلاد. وسفر أخنوخ ومزامير
سليمان (70 – 40 ق.م) مع باروخ (من 50 – 100 م) وسفر اليوبيل وسفر الآباء الاثني
عشر وصعود موسى (من القرن الأول الميلادي) وصعود إشعياء (قبل 50 م). ويتوقف الشيئ
الكثير على معرفة تاريخ كتابة هذه الأسفار، فالكثير منها كتب بعد بداية العصر المسيحي
(باروخ – صعود موسى – صعود إشعياء – إسدراس الرابع – وكتاب اليوبيل وكتاب الآباء
الاثني عشر).

 

3- الكتابات الحبرية (علماء
اليهود): ونعتمد في معرفة هذه الكتابات على كتب التلمود والترجوم، وهي بالنسبة
لزمنها المتأخر، تعتبر مشكوكاً فيها.

 

ب وجهات النظر المختلفة: لا يسعنا إلا أن نلخص بإيجاز، المفاهيم المتباينة
والمتعارضة عن الأخرويات، التي يمكن التقاطها من بين هذه الكتابات الكثيرة، فهي
تتناول هذه المواضيع بالكثير من الخيال، فهي ليست مبنية على أفكار العهد القديم،
وكل قيمتها هي في أنها قد تلقي بعض الضوء على تعاليم العهد الجديد، وباستثناء أمر
أو أمرين، فإننا لا نحصل من كتب الأبوكريفا إلا على القليل جداً، ويستحسن أن ندرس
هذا الموضوع تحت العناوين الآتية:

 

1- مفاهيم أقل تحديداً: نجد في سفر
يشوع بن سيراخ، نفس الفكر القديم عن الهاوية بأنها ليس فيها ذكر أو شكر أو مجازاة
(17: 27 و 28، 41: 3 و 4). ولكن توجد ملاحظة مختلفة في (21: 10)، وشبيه بذلك ما
جاء في باروخ (2: 17) وطوبيا (3: 6). ولا نجد في المكابين الأول إلا العبارات
المذكورة في أسفار العهد القديم " انضم إلى آبائه " (2: 69) " انضم
إلى قومه " (14: 30).

 

ونرى في كتاب الحكمة تأثير الفكر اليوناني في عقيدة الخلود للنفس فقط (2: 23،
3: 1 – 4، 4: 13 و 14، 15: 4، ولا شيئ عن القيامة) وربما عن سبق الوجود (8: 20)،
والأشرار يعانون القصاص في الهاوية (3: 1 – 10، 5: 1 – 14).

 

2- أفكار عن الهاوية: وعلى العموم
يظهر تغيير جذري في الفكر عن الهاوية في أسفار الرؤى، فهي مازالت مقر الأموات،
ولكن باعتبارها حالة متوسطة بين الموت والقيامة – لمن سيقامون – والأبرار فيها
منفصلون عن الأشرار الذين يقاسون قصاصهم هناك. فسفر أخنوخ يفرق بين أربعة مساكن
للراحلين، منها اثنان للأبرار واثنان للأشرار (21: 1 – 13). ففريق من الأشرار
(الذين نالوا العقاب في هذه الحياة) يبقون في الهاوية إلى الأبد، بينما يقوم
الآخرون ويمضون إلى عذاب جهنم (17: 2)، أما الأبرار ففي الفرودس، " جنة
الحياة " (61: 12) " جنة البر " (67: 3). وهذه الخاصية للهاوية
كمكان للعقاب (سواء كانت وقتية أو دائمة) تذكر كثيراً في كتاب اليوبيل (7: 29، 22:
22) وفي المكابين الثاني (6: 23) وفي مزامير سليمان (14: 6، 15: 11، 16: 2 ….).
ويقول د. تشارلز إنه في بعض المواضع: " صارت الهاوية مسكن النار، وبذلك فهي
وجهنم يعنيان شيئاً واحداً … وفي العديد من المواضع، في أخنوخ (91: 104) نجد
الهاوية وجهنم مترادفتين. وتوجد أفكار مشابهة في النسخة السلافية من سفر أخنوخ.

 

3- الملائكة الساقطون: نرى في سفر
أخنوخ اهتماماً خاصاً بالملائكة الساقطين (الذين زنوا مع النساء، تك 6: 2)، فهم
مفرزون في الدينونة للنار الأبدية المتقدة (أخنوخ 21: 1 – 6، 90: 20 – 25).

 

4- القيامة: تختلف الأفكار عن
القيامة، ففي أخنوخ 22، سيقام الأبرار وفريق من الأشرار، بينما نجد في مكان آخر أن
كل الأبرار سيقامون، ولكن لا يقوم أحد قط من الأشرار (أخنوخ 61: 5، 90: 23، مزامير
سليمان 3: 16). وأحياناً تذكر القيامة للكل من أبرار وأشرار (أخنوخ 51: 1 و 2).
ويتكلم سفر المكابين الثاني كثيراً عن القيامة التي تشمل كل إسرائيل (3: 16، 13: 9
و 14 و 23) لأن الأمم ليس لهم قيامة (7: 14 و 36). ونجد في أخنوخ (90: 38) أن
أجساد الأبرار ستتغير في القيامة. ويذكر التعليم عن القيامة العامة في سفر باروخ
(30: 2 – 5، 50: 51، وإسدراس الرابع 7: 32 – 37). ويقول يوسيفوس إن الفريسيين
كانوا يعتقدون في قيامة الأبرار فقط، ولكن هذا يتعارض مع أقوال الرسول بولس في سفر
الأعمال (24: 5).

 

5- الدينونة:

 

نجد في أغلب أسفار الرؤى تأكيداً قوياً على أن الدينونة الأخيرة تالية
للعقاب في الهاوية. فيتحدث سفر أخنوخ كثيراً عن الدينونة الأخيرة، ويصفها بأنها
" اليوم العظيم "، " والدينونة العادلة "، " يوم
الدينونة العظيم "، " الدينونة الأخيرة "، " دينونة كل
الأبدية (10: 6 و 12، 16: 1، 19: 1، 22: 4 و 11، 25: 4، 90: 26، 27.. الخ) فسيدان
الملائكة الأشرار والناس الأشرار، ويلقي بهم في جهنم في دينونة لا نهاية لها.

 

المسيا: وهناك نقطة هامة هي علاقة المسيا بهذه الدينونة وكل الأسفار
الأبوكريفية صمتت عن المسيا ما عدا سفر إسدراس الرابع. ويظهر المسيا في أسفار
الرؤى، ولكن ليس بنفس الوضوح دائماً. ففي الأقوال السبلينية (3) ومزامير سليمان
(17، 18) وسفر باروخ (39، 40) وإسدراس الرابع (13: 32) يرتبط ظهور المسيا بهزيمة
ودينونة القوى العالمية المعادية. وفي الأجزاء القديمة من أخنوخ (90: 16 – 25)
يجرىالله بنفسه هذه الدينونة، ويرأس جلسة المحاكمة، ولا يظهر المسيا إلا بعد ذلك.
وفي الأصحاحات 37 – 70 من سفر أخنوخ – من الناحية الأخرى – يظهر المسيا بجلاء بأنه
ديان العالم، وتطلق عليه ألقاب شبيهة بما جاء في العهد الجديد: " البار
" (38: 2، 53: 6)، " المختار " (40: 5، 45: 3 و4 … الخ)، وفوق الكل
" ابن الإنسان " (46: 2 -4 و 48: 2.. الخ). وهذه الأجزاء هي التي يظهر
فيها التأثير المسيحي، فلا ذكر لهذا المفهوم في الكتابات الرؤوية قبل العصر
المسيحي. وفي سفر اليوبيل – الذي يستند على سفر أخنوخ – لا تذكر هذه الأجزاء
أبداً. ولكن تظهر فكرة أخرى في كتب الرؤى المتأخرة، مثل حكم المسيا لفترة محدودة،
تحدث بعدها القيامة والدينونة. وفي سفر إسدراس الرابع نجد تلك العبارة الغريبة،
بأنه بعد حكم يدوم 400 سنة يموت المسيا (7: 28 و 29)، وهكذا يكون الله هو
الديَّان.

 

6-العصر المسياني والأمم: عندما
يفهم العصر المسياني على أنه تال للدينونة (الفكر القديم)، فهو غير محدود المدة،
ومركزه أورشليم ويضم في دائرة بركته الأمم المخلصين (الأقوال السبلينية 3: 698 –
726، أخنوخ 90: 30، 37 مع 48: 5، 53: 1، مزامير سليمان 17: 32 – 35) فالموتي
الأبرار من اليهود يقومون ليشاركوا في الملكوت. وفي سفر أخنوخ (90: 28، 29) يرد
هذا الفكر: أن أورشليم الجديدة ليست هي المدينة الأرضية بل المدينة النازلة من
السماء، فحيث أن العصر المسياني محدود – كما يذكر إسدراس الرابع – فالحياة السعيدة
ستنتقل بعد القيامة إلى السماء.

 

أفكار حبرية: يمكن إضافة القليل من المفاهيم الحبرية إلى ذلك، فمن الصعب الإلمام
بها كلها، وهي في الواقع مشوشة ومتعارضة، وأغلب الأفكار التي سبق ذكرها تظهر في
كتابات علماء اليهود، حيث نجد أن القضاءعلى جميع القوى العالمية مرتبط بظهور
" أرميلوس " أو ضد المسيح، وأن حكم المسيا محدد بوجه عام بمدة 400 سنة
(كما في إسدراس الرابع) ولمدة 1000 سنة (كما جاء في كتاب تاريخ الشعب اليهودي –
لشورر)، وفي نهايته تجديد العالم، القيامة (لليهود فقط مع استثناء بعض الطبقات)
والدينونة، والسعادة الأبدية للأبرار. وتعتبر دينونة الأشرار – غالباً – أبدية،
ولكننا نجد فكراً آخر بأن الدينونة محدودة المدة.

 

آخرة – الأخرويات في العهد الجديد:

 

أولا – الأهمية العقائدية والدينية:

 

يلعب موضوع الأخرويات دوراً هاماً في تعاليم العهد الجديد، فالمسيحية في
أساسها تحمل طبيعة أخروية. إنها تعني ظهور المسيا وتوليه الأمر، وهذه من وجهة نظر
العهد القديم جزء من الأخرويات. وفي الحقيقة، لا تعتبر أيام المسيا – في اللاهوت
اليهودي، دائماً – جزءاً من العصر الأخروي نفسه، ولكنها تعتبر دائماً – مقدمة له.
ومازال هذا الرأي – إلى حد ما – قائماً في العهد الجديد، وبخاصة بالنسبة لظهور
المسيا والإتمام الجزئي للنبوات في الوقت الحاضر، التي يصفها العهد القديم كحركة
واحدة متزامنة، ولكنها الآن تنقسم إلى مرحلتين، أي العصر المسياني الحاضر والحالة
الختامية في المستقبل. ومع كل هذا، فإن العهد الجديد يجعل العصر المسياني أقرب إلى
الحالة الأخروية، منه في اليهودية. ويرتكز التمييز بينهما في اليهودية، على إدراك
الفرق في النوعية بين المرحلتين، فمحتوى العصر المسياني أقل روحانية من الحالة
النهائية، بل يبدو وكأنه مقدمة لها.

والعهد الجديد، إذ يعطي كل مفاهيم العصر المسياني معني روحياً، يبدو أكثر
قوة في الربط بينه وبين الرجاء الأبدي الأسمى، وبالتالي يميل إلى جعلهما متطابقين،
وأن العصر الآتي هو ما يتوقعه العصر الحاضر. وفي بعض الحالات يأخذ هذا شكلاً
محدداً في الاعتقاد بأن التغييرات الأخروية بدأت تأخذ مجراها، وأن المؤمنين قد
حصلوا على الاستمتاع – ولو جزئياً – بالامتيازات الأخروية، فالملكوت الحالي – في
تعليم الرب – هو واحد في جوهره مع الملكوت النهائي. فبناء على ما جاء في إنجيل
يوحنا، تتحقق الحياة الأبدية – كمبدأ – هنا. وفي فكر بولس، كان موت المسيح وقيامته
مقدمة للقيامة والدينونة النهائية، والحياة في الروح هي باكورة الحياة السماوية
الآتيه.

وهذا المعني القوي يمكن أن نراه في الأقوال – التي تبدو متعارضة ظاهرياً –
بأن الحالة الأخروية قد أتت، وأن الحدث القاطع في التاريخ قد حدث (عب 2: 3 ,و 5، 9:
11، 10: 1، 12: 22 – 24). وحتى هذا الرأي المتطرف لا يمكن أن ينسخ الفكر المألوف
الذي يقول بأن الحالة الحاضرة ستظل على هذا الجانب من الأحداث الأخروية، ورغم أنها
ستؤدي إليها، إلا أنها ستظل جزءاً من العصر القديم ونظام هذا العالم. فالمؤمنون
يعيشون في " الأيام الأخيرة " " وإليهم قد انتهت أواخر الدهور
" " ولكن اليوم الأخير " أو " انقضاء الدهر " مازال في
طي المستقبل (مت 13: 39 و 40 و 49، 24: 3، 28: 30، يو 6: 39 و 44 و 54، 12: 48، 1
كو 10: 11، 2 تي 3: 1، عب 1: 2، 9: 26، يع 5: 3، 1 بط 1: 5 و 20، 2 بط 3: 3، 1 يو
2: 18، يهوذا 18).

ولم يكن الاهتمام بالأخرويات أمراً ثانوياً بالنسبة للمؤمنين الأوائل، بل
كان من أقوى الدوافع في اختبارهم الديني. فقد أوضح وجسَّد الصفة المعجزية القوية
والعقيدة الخلاصية للإيمان في العهد الجديد. إن العالم الآتي لا يمكن أن يكون وليد
التطور الطبيعي، ولكنه نتيجة التدخل الإلهي للتحكم في مجرى التاريخ. ولقد كان أقوى
محرك للأشواق لذلك العالم، هو الاعتقاد بالطبيعة الشاذة لهذا العالم الحاضر
والاحساس القوى بالخطية والشر. ويفسر لنا هذا سبب نمو عقيدة العهد الجديد في
الخلاص وتقدمها إلى حد بعيد، وذلك بفضل التداخل الوثيق مع التعليم الأخروي،
فالاختبار الحالي وجد تفسيره في نور المستقبل. ويلزم أن نذكر هذا جيداً حتى نستطيع
أن نقدر تقديراً صحيحاً ذلك الرجاء القوى في احتمال عودة الرب في القريب العاجل،
وكان لحسابات الرؤى في هذا أثر أضعف مما للاختبار العملي بأن الكنيسة قد حصلت على
عربون الحقائق السامية للحياة الآتية، ومن ثم لا يجب أن تتأخر الثمار الكاملة
طويلاً. ولعل تقلص هذا المفهوم الأخروي القوي – بعد ذلك – يرجع إلى الاختفاء
التدريجي لظواهر العصر الرسولي المعجزية.

 

ثانيا ً – الهيكل العام:

 

ترتبط الأخرويات في العهد الجديد، بالأخرويات في العهد القديم والعقيدة
اليهودية المبنية على أساس الوحي القديم. إنها – في الجملة – لا تقدم نظاماً
جديداً أو تعبيرات جديدة، ولكنها تحتوي على ماكان موجوداً، ولكن بصورة تعلن –
باختيار النقاط التي تركز عليها – الجدة الجوهرية لمضمونها. كان في اليهودية في
ذلك الوقت رأيان متباينان في النظرة إلى الأخرويات: كان هناك الرجاء القومي القديم
الذي يدور حول مستقبل إسرائيل، وفي نفس الوقت كانت هناك الصورة المتسامية لرجاء
شامل لكل الكون ولكل الجنس البشري. والرأي الأول يمثل الشكل الأصلي للأخرويات في
العهد القديم. ولذلك فهو يحتل مكاناً صحيحاً في بداءة العهد الجديد، وبخاصة في الإعلانات
المصاحبة لميلاد المسيح، وفي كرازة يوحنا المعمدان. ولقد دخل إليها عند اليهود،
عنصر فلسفة السعادة الفردية والجماعية، فتطابقت مع التفسير الحرفي للنبوة، الذي لم
يضع في الاعتبار – بصورة كافية – المفهوم الرمزي والأسلوب الشعري للنبوة.

 

أما الرأي الآخر، فمع أنه كان – إلى حد ما – نتاج تطور لاهوتي لاحق، إلا
أننا نجده في بعض النبوات المتأخرة، وبخاصة في سفر دانيال (وهي بمنجاة من أن تكون
مأخوذة عن مصادر بابلية أو فارسية – كما يؤكد البعض في الوقت الحاضر)، فهو يمثل
التطور الصحيح للمبادئ العميقة للإعلان النبوي في العهد القديم والتي تبدو بها
صورة الأخرويات في العهد الجديد، التي تستبعد الدوافع والعناصر غير الطاهرة التي
تلوثت بها أسمى صور الفكر الأخروي اليهودي.

 

ولقد جرت، في بعض كتابات الرؤى، محاولة التوفيق بين الفكرين، وذلك باعتبار
أن اتمام أحدهما يتبعه اتمام الآخر، فيتحقق الرجاء القومي أولاً بقيام مملكة
المسيا لمدة (400 سنة أو 1000 سنة)، ثم تليها – في النهاية – الحالة الأبدية. ولا
يسير العهد الجديد مع اللاهوت اليهودي في هذا الطريق، فمع أن العهد الجديد يعتبر
عمل المسيح الآن هو بمثابة مقدمة لنهاية كل شيئ، إلا أنه لا يفصل بين الاثنين، لا
في الجوهر ولا في النوعية، انه لا يستبعد المسيح من مكانه السامي في الدهر الآتي،
ولا يتوقع مملكة مسيانية مؤقتة في المستقبل، منفصلة عن ملك المسيح الروحي الحاضر،
والسابق للحالة الأبدية. وفي الحقيقة فإن شخص المسيح يشغل المركز في كل الأحداث الأخروية،
أكثر جداً مما يبدو في الفكر اليهودي.

 

كل مراحل هذه العملية، من القيامة والدينونة والحياة الأبدية، بل والحالة
الوسيطة، جميعها تحظي ببالغ الأهمية في الإيمان المسيحي (الذي يؤمن أن يسوع هو
المسيح). ومن خلال هذا المفهوم الذي يتركز في المسيح، فإن الأخرويات في العهد
الجديد تتميز بوحدة أقوى وبساطة أعمق من كل ما وسعته الأراء اليهودية. فقد انحصر
كل شيئ تقريباً في الأفكار العظيمة عن القيامة والدينونة كنتيجة لمجيئ المسيح مرة
ثانية، وبهذا يختفي الكثير من الزخرفة الرؤوية التي ليست لها أهمية روحية، فبينما
الخيال الجامح يميل إلى التزيد والتطرف، فإن الاهتمام الروحي يتجه إلى التركيز
والتبسيط.

 

 

 

 

ثالثاً – مسار التطور:

 

يمكننا أن نرى في تعليم الأخرويات في العهد الجديد تطوراً عاماً في اتجاه
محدد بدقة. ونقطة الانطلاق هي مفهوم الدراما التاريخيه للعصرين المتعاقبين، وهما:
" هذا الدهر "، " هذا العالم " أي " العصر الحاضر "
(مت 12: 32، 13: 22، لو 16: 8، رو 12: 2، 1 كو 1: 20، 2: 6 و 8، 3: 18، 2 كو 4: 4،
غل 1: 4، أف 1: 21، 2: 2، 6: 12، 1 تي 6: 17، 2 تي 4: 10، تي 2: 12)، " وذلك
الدهر " أو " الدهر الآتي " أو " العالم الآتي " (مت 12:
32، لو 18: 30، 20: 35، أف 2: 7، عب 6: 5).

ولا توجد في الكتابات اليهودية – قبل العهد الجديد – شواهد على هذه
الاختلافات المتطورة بين الدهرين أو العالمين، لكن من طريقة ورودها في تعاليم
المسيح والرسول بولس، يبدو أنها كانت موجودة في ذلك الوقت (وأقدم ذكر لها مسلم
بصحته، هو قول ليوحانان بن زكاى حوالي 80 م). والتناقض بين الدهرين (وبخاصة في
أقوال الرسول بولس) هو بين دهر الشر الوقتي، وبين الكامل والدائم، فلكل دهر خواصه
وترتيب الأشياء فيه، وبهذا فإن الفارق يجعل منهما " عالمين " متميزين،
بمعني نظامين متباينين (في العبري والأرامي، تستخدم كلمة " عولام "
للاثنين، أما في اليوناني فكلمة " أيون " تترجم إلى " جيل "
وأحيانا " عالم "، (عب 1: 2، 11: 3)، وكلمة " كوزموس " تعني
" العالم " وهي لا تستعمل مطلقاً عن العالم الآتي.

وبوجه عام، ينحصر تطور الأخرويات في العهد الجديد في اعتبار أن العصرين
يشيران إلى مجالين للوجود كائنين منذ القديم، وبهذا يكون مجيئ العصر الجديد بمثابة
إعلان وامتداد للنظام السماوي للأشيئاء، أكثر من أن يكون بروزاً لأول مرة إلى
الوجود، ويقدر ما يمثل العالم الآتي الكمال والدوام، وفي دائرة السماء، هذا الكمال
والنظام الأبدي موجودان فعلاً، فالانطباع الحتمي هو أنهما بمعني ما متطبقان. ولكن
الأهمية الجديدة التي يفترضها التعارض، لا تبطل الصيغة التاريخية الدرامية، فتداخل
العالم الأعلي في مجال الأدني، يأتي بالصراع إلى منتهاه. والانتقال من وجه إلى آخر
لا يدل – كما كانوا يؤكدون – على انحسار موجة الأخرويات، وكأن الاتجاه قد تحول من
المستقبل إلى الحياة الحاضرة، وبخاصة في الإنجيل الرابع، حيث يزعمون – بلا مبرر
حقيقي – وجود تقليل من شأن الأخرويات. والأساس الواضح لمثل هذه الخلاصة هو أن
حقائق الحياة الآتية، نحس بها حية وقوية في السماء، ومن هناك تعمل في حياة المؤمن،
حتى إن التفرقة بين ما هو الآن وما سوف يتم التمتع به في المستقبل، أصبحت أقل حدة،
فعوضاً عن احتجاب الأخرويات، حدث النقيض، فازداد التوقع الشديد لها.

 

ويجدر بنا ملاحظة أن هذا التطور يرتبط أشد الارتباط، ويتمشى تماماً مع
الكشف عن وجود المسيح منذ الأزل، لأن هذه الحقيقة ونزول المسيح من السماء، تقدمان
أجلى شهادة عن حقيقة نظام الأشياء السماوي، لذلك فهي واضحة بشكل خاص – ليس في
رسائل بولس الأولي حيث هيكل الفكر الأخروي ما زال في الخط الدرامي التاريخي – ولكن
في رسائل السجن الأول (أف 1: 3 و 20 – 22، 2: 6، 3: 9 و 10، 4: 9 و 10، 6: 12، في
2: 5 – 11، 3: 20، كو 1: 15 و 17، 3: 2، عب 1: 2 و 3، 2: 5، 3: 4، 6: 5 و 11، 7: 13
و 16، 9: 14، 11: 10 و 16، 12: 22 و 23).

 

ويوضح الإنجيل الرابع ذروة هذا الاتجاه في التعليم، وليس من اللازم بيان
كيف أن التناقض هنا بين السماء والأرض، بناء على التعليم المختص بلاهوت المسيح، هو
الذي يحدد تركيب ذلك الفكر. ولكن يبدو هنا أيضاً، كيف أن المحصلة النهائية لتطور
التعليم في العهد الجديد، كانت النتيجة المنتظرة لتعاليم المسيح السامية. ويمكن
تعليل هذا، بأنه كان من المناسب جداً، أن لا تأتي الإعلانات السامية المختصة بحياة
المسيح الشخصية، من خلال أي شخص ثالث، بل من فم المسيح رأساً.

 

 

رابعاً – الأخرويات العامة والفردية:

 

في العهد القديم، يطغي مصير الأمة الإسرائيلية على مصيرمذهب الفردية، عند
الأنبياء الأواخر – مثل إرميا وحزقيال – مذهب الانفرادية، عند الأنبياء الأواخر –
مثل إرميا وحزقيال – أثره في الفكر في الفترة المتوسطة. ونرى في الكتابات الرؤوية
اهتماماً ملحوظاً بالمصير النهائي للفرد. ولم يكن الجمع بين هذه الوجهين، إلا بعد
أن أعطى العهد الجديد مفاهيم روحية للأمور الأخيرة.

وبتركيز رجاء الأخرويات في المسيا، وربط مصير الفرد بعلاقته الشخصية
بالمسيا، أصبح لهذه الأحداث النهائية أهميتها للفرد، وفي ذلك أيضاً اتجاه لإعطاء
أهمية أعظم للحالة الوسيطة. ولقد حدد الفكر الرؤوي الطريق لذلك. ومع هذا فإن وجهة
نظر العهد القديم مازالت تثبت وجودها، فالأهمية الأساسية في العهدالجديد، ترتبط
بالتطور التاريخي للأحداث ككل، ولا يكاد يكون هناك شيئ عن الفترة الوسيطة، فقد ربطت
نبوات العهد القديم بين أزمات الحاضر والهدف النهائي، وهو ما نراه في "
أخرويات " العهد الجديد على مستوى الفرد، حيث نجد أن حياة الفرد مرتبطة لا
بحالته بعد الموت، بل بالحري بحالته بعد الدينونة النهائية، فالحياة الحاضرة في
الجسد والحياة المستقبلة هما القمتان البارزتان، أما ما بينهما – أي حالة الوجود
خارج الجسد – فيلفها الغموض. ولكن نفس هذا الربط بين الحاضر والآخرة، ينتقل من
العهد القديم إلى العهد الجديد، في رسم الأخرويات العامة، فأسلوب الهد الجديد في
رسم المستقبل، لا يتبع تسلسلاً تاريخياً، حيث نراه يجمع بين أمور تفصل بينها أزمنة
طويلة حسب التسلسل التاريخي، والتزام هذه القاعدة – بلا شك – ليس من مجرد محدودية
المعرفة الإنسانية الذاتية، بل من السير على نفس المنهج العام للإعلان النبوي في
العهدين القديم والجديد.

 

خامساً – المجئ الثاني (الباروزيا):

 

1- الباروزيا: وكلمة "
باروزيا " تعني " المجئ " أو " الوصول "، ولا تستخدم
مطلقاً للدلالة على تجسد المسيح، بل للدلالة على مجيئه الثاني فقط، فقد أصبحت
تعبيراً ثابتاً مختصاً بالمسيا. ومن ناحية أخرى كانت هناك وجهة نظر ترى أن ظهور
المسيح مستقبلا هو التعبير الوحيد المناسب عن عظمته ومجده. والتمييز الحاد بين
" المجئ الأول " " والمجئ الثاني " غير موجود في العهد
الجديد، ولكنه موجود في سفر عهود الآباء الاثنى عشر الأبوكريفي (92: 16)، ويكاد
يظهر في العبرانيين (9: 28) باستخدام كلمة " الظهور " للدلالة على ظهور
المسيح في الماضي وظهوره في المستقبل (2 تس 2: 8، 1 تي 6: 14، 2 تي 1: 10، 4: 1،
تي 2: 11 و 13).

 

واستخدام عبارة " المجئ الثاني " في المسيحية، يتلون – لحد ما –
بالاحساس بغياب المسيح جسدياً الآن عن خاصته، ومن ثم يتحول الفكر إلى حضوره الدائم
مستقبلاً (1 تس 4: 17). وعبارة " المجئ الثاني " وردت كثيراً في العهد
الجديد (مت 24: 3 و 37 و 39، 1 كو 15: 23، 1 تس 2: 19، 3: 13، 4: 15، 5: 23، 2 تس
2: 1 و 8، يع 5: 7 و 8، 2 بط 1: 16، 3: 4 و 12، 1 يو 2: 28). والكلمة المرادفة لها
هي كلمة " أبو كاليبسس " أو " استعلان " أو " ظهور
"، وهي تستخدم – على الأرجح – من قبل العصر المسيحي، وتفترض وجود المسيا في
صورة خفية قبل ظهوره، إمَّا في السماء أو على الأرض (باروخ الأبوكريفي 29: 3، 10: 1،
إسدراس الرابع (أو الثاني) 7: 28، عهود الآباء الاثني عشر، يو 7: 27، 1 بط 1: 20)..
وأمكن للمسيحيين استخدام هذه الكلمة لأن المسيح كان قد صعد إلى السماء، وسيستعلن
للجميع بأنه المسيح حقاً عند رجوعه، ولذلك فإنها تستخدم، بشكل خاص، في الإشارة إلى
الأعداء وغير المؤمنين (لو 17: 30، أع 3: 21، 1 كو 1: 7، 2 تس 1: 7 و 8، 1 بط 1: 13
و 20، 5: 4).

 

ويوجد أيضاً تعبير مرادف هو " يوم الرب "، " اليوم "،
" ذلك اليوم "، " يوم يسوع المسيح "، وهو ترجمة للتعبير
المعروف في العهد القديم. ومع أنه لايوجد أي سبب – في أي موضع من هذه المواضع –
لماذا لا تكون كلمة " الرب " هي " المسيح "، فالاحتمال قائم
بأنها في بعض الحالات تشير إلى الله (فهي " يوم الله " في 2 بط 3: 12).
ومن الناحية الأخرى، فان ما يذكره العهد القديم منسوباً إلى " الله "،
يتحول أحياناً – عن قصد – إلى " المسيح ". وكلمة " يوم "
بينما تستخدم عادة للتعبير عن المجئ الثاني، فهي – كما في العهد القديم – تكون
غالباً مرتبطة بالدينونة، حتى لتصبح مرادفة للدينونة (انظر أع 19: 38، 1 كو 4: 3).
وترد نفس العبارة في (مت 7: 22، 24: 36، مر 13: 32، لو 10: 12، 17: 24، 21: 34، أع
2: 20، رو 13: 12، 1 كو 1: 8، 3: 13، 5: 5، 2 كو 1: 14، في 1: 6، 2: 16، 1 تس 5: 2
و 4 (مع 5 و 8)، 2 تس 2: 2، 2 تي 1: 12 و 18، 4: 8، عب 10: 25، 2 بط 3: 10).

 

2- علامات سابقة للمجئ الثاني: تسبق
مجئ المسيح ثانية، بعض العلامات لإعلان اقتراب مجيئه. لقد صاغت اليهودية – على
أساس العهد القديم – عقيدة " ويلات المسيا " أي المصائب والضيقات
المصاحبة لختام الدهر الحاضر وبداءة الدهر الآتي، باعتبارها أوجاع مخاض الدهر
الآتي. وقد تحولت هذه إلى المجئ الثاني للمسيح. ولا ترد هذه العبارة إلا في (مت 24:
8، مرقس 13: 8). وتأتي الفكرة نفسها في (رو 8: 22)، والإشارة إليها في (1 كو 7: 26،
1 تس 3: 3، 5: 3). وعلاوة على هذه الويلات العامة، وبالتوافق أيضاً مع العقيدة
اليهودية، يسبق ظهور " ضد المسيح " هذه الأزمة النهائية. والعهد الجديد
يربط المجئ الثاني وكمقدمة له، بانسكاب الروح وخراب أورشليم والهيكل، وتجديد
إسرائيل، والكرازة بالإنجيل لكل الأمم – وهو ما لم يرد في العهد القديم. ومشكلة
التتابع والتداخل لهذه النذر المتعددة المتعلقة بالنهاية، لمن أصعب وأعقد المشاكل،
ويبدو أنه لا يوجد لها حل كاف حتى الآن. فالويلات التي ذكرها الرب في حديثه عن
الأيام الأخيرة (مت 24، مر 13، لو 21) تتفق – لحد ما – مع التعاليم اليهودية في
الأمور الآتية:

أ حروب زلازل وعجائب " مبتدأ الأوجاع ".

ب الضيقة العظيمة.

ج- نجوم السموات تتساقط (انظر رؤ 6: 2 – 17).

ولوجود هذا العنصر المشترك بين حديث المسيح، والرؤى اليهودية، افترض كولاني
ويفنباخ وفزاكر وفندت وغيرهم بأن هناك مصدرين قد خلطا معا: نبوة حقيقة للمسيح
ورؤيا يهودية مسيحية من أيام الحرب اليهودية (68 – 70 م)، فيعتقدون أن هذه الرؤيا
الصغيرة – كما يسمونها – موجودة في الأصحاح الثالث عشر من إنجيل مرقس (الأعداد 7 و
8 و 14 – 20 و 24 – 27 و 30 و 31).

 

لكن هذه النظريات تنبع غالباً من عدم الميل إلى إسناد توقعات أخروية واقعية
للمسيح. والإقتراض – الذي لا أساس له مطلقاً – بأن المسيح – لا بد – قد تحدث عن
النهاية بعبارات روحية خالصة. وكون الويلات اليهودية المحضة، لا تمت بصلة إلى
التلاميذ وإيمانهم، لا يعتبر سبباً كافياً لاعتبار التنبؤ عنها غير جدير بالمسيح.
ويقولون إنه يوجد تناقض واضح بين القولين: " إن المجئ الثاني سيحدث فجأة
وبدون توقع، والقول بأنه سيأتي مسبوقاً بهذه العلامات (وبخاصة في مر 13: 30 و 32).
ويمكن الرد على هذا بأنه حتى بعد استبعاد هذه الرؤيا المزعومة، فإن القولين
موجودان في الأجزاء المسلم بصحة نسبتها للمسيح (مر 13: 28 و 29 بالمقارنة مع 32 و
33 – 37، وبعض التحذيرات المشابهة عن وجوب السهر) فليس ثمة تناقض حقيقي بين عددي
30، 32، فالمسيح كان يؤكد الأمرين على الدوام: " لا يمضي هذا الجيل حتى يكون
هذا كله " " وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ". وبكل
تأكيد لا يمكن أن يكون الحل بأن نفهم " هذا الجيل " على أنه يعني جيل
الجنس اليهودي أو جيل الجنس البشرى بل ينبغي أن يفهم – حسب المفهوم العادي – بأنه
الجيل الكائن في ذلك الوقت. ومما يساعد على فهم الأمر، التمييز بين النبوة بالمجئ
الثاني في إطار حدود معينة متسعة، وانكار معرفة اليوم والساعة، ففي الحقيقة لا
تشير العبارتان إلى نفس الشئ مطلقاً، فعبارة " ذلك اليوم وتلك الساعة "
في عدد 32 لا تعود إلى " هذه الأشياء " في عد 30، فاسم الإشارة "
هذه وذلك " في كلتيهما مع " وأما " تجعل الأمر واضحاً، فهو يعني –
كما في أي مكان آخر – أن يوم الرب هو يوم الدينونة. أما " هذه الأشياء "
فيجب معرفة المقصود منها مما سبقها، فيقول المسيح بأن " هذه الأشياء "
ستأتي في هذا الجيل، أما المجئ الثاني " ذلك اليوم العظيم " فيؤكد أن
أحداً غير الله لا يعلم موعد حدوثه.

 

والمثل السابق يثبت صحة هذا الرأي (مر 13: 28 و 29) حيث نجد – بنفس الأسلوب
– تمييزاً بين " هذه الأشياء " والمجئ الثاني. ويبقى السؤال: إلى أي مدى
" هذه الأشياء " (مر 13: 29، لو 21: 21) " وهذا كله " (مت 24:
33 و 34، مر 13: 30). " والكل " (لو 21: 32)، يقصد بها تغطية ما جاء في
الحديث السابق؟ ويتوقف الجواب على معرفة ما يتصل بالتحذيرات عن النهاية، وما يعتبر
جزءاً من النهاية نفسها، وعلى مسألة أخرى، هي ما إذا كان المسيح يتنبأ عن نهاية
واحدة بعلاماتها المنذرة بها، أو أنه يشير إلى حادثتين كل منهما ستعلن بعلاماتها
الخاصة المتلاحقة. وثمة وجهتا نظر تستحقان الاعتبار: فالرأي الذي يؤيده زاهن (في
تفسيره لإنجيل متى، 652 – 66) يعتبر أن العلامات تذكر في متى (24: 4 – 14) فقط،
أما ما بعد ذلك، أي " رجسة الخراب " و " الضيقة العظيمة "
والأنبياء والمسحاء الكذبة، وتزعزع قوات السموات، وعلامة ابن الإنسان، كل هذه
تتعلق " بالنهاية " ذاتها، بمعناها المطلق، ولذلك فهي داخلة في المجئ
الثاني. ويفهم من النبوة أنها ستحدث في ذلك الجيل، بينهما تدخل أيضاً في دائرة
القول: إن الله وحده هو الذي يعلم ميعاد حدوثها. ومع أن خراب الهيكل والمدينة
المقدسة، لا يذكر بالتحديد في الأعداد 4 – 14، فإنه يدخل فيما ذكر عن الحروب
والضيقة. وبهذا التفسير تكون النبوة قد تمت حرفيا. وهناك بعض الاعتراضات على ذلك:

أ إنه ليس من الطبيعي أن نضع ما جاء في متى (24: 15 – 29) تحت "
النهاية " وذلك لأنه من الوجهة الشكلية لا تختلف عن الظواهر المذكورة في
الأعداد 4 – 14 " كعلامات ".

 

ب إنها تخلق مشكلة افتراض وجود الهيكل وعبادة الهيكل في أورشليم في الأيام
الأخيرة قبل المجئ الثاني مباشرة. " فرجسة الخراب " المأخوذة عن دانيال
_ 8: 13، 9: 27، 11: 31، 12: 11، وسيراخ 49: 2) – وهي عند البعض، تعني خراب الهيكل
والمدينة، أو بالحري تنجيس موقع الهيكل بإقامة شيئ وثني فيه، وبذلك يصبح خراباً –
والهروب من اليهودية، ويذكران بين الأحداث التي تشكل – مع المجئ الثاني – نهاية
العالم، وبذلك فهي تتضمن – بصورة قوية – الملك الألفي. وتبرز الصعوبة مرة أخرى في
التفسير الأخروي لما جاء في (2 تس 2: 3 و 4)، حيث نقرأ أن " إنسان الخطية
" يجلس في " هيكل الله " وكذلك في (رؤ 11: 1 و2) حيث " هيكل
الله " " والمذبح " " والدار خارج الهيكل "
"والمدينة المقدسة " تشكل حادثاً عارضاً بين صوت بوق الملاك السادس،
وصوت بوق الملاك السابع.

 

ومن الناحية الأخرى، يجب أن نذكر أن النبوات الأخروية تستخدم الأساليب
التقليدية القديمة من الصور المجازية والقوالب الثابته، التي – لجمودها وانطباقها
على جميع الأحوال – لا يمكن أن تفهم دائماً بالمعنى الحرفي، بل يجب أن تكون قابلة
– إلى حد ما – للتفسير الرمزي والروحي، فتدنيس الهيكل – في هذه الحالة – على يد
أنطيوكس أبيفانوس، من المحتمل أن يكون قد هيأ الصورة المجازية التي استخدمها
المسيح وبولس ويوحنا في وصف التطورات ضد المسيحية، والتي لا علاقة لها بإسرائيل
وأورشليم والهيكل، بالمفهوم الحرفي.

 

3- الكرازة بالإنجيل قبل النهاية: ليس
من السهل تصور أن تتم الكرازة بالإنجيل في كل الأمم في زمن ذلك الجيل. ولا شك أنه
يمكن الاستناد إلى (رو 1: 13، 10: 18، 15: 19 – 24، كو 1: 6، 1 تي 3: 16، 2 تي 4: 17)،
لتأييد هذا الرأي. ولكن في قول المسيح، نرى – على وجه التحديد – أن الكرازة
بالإنجيل لكل الأمم، لا بد أن تحدث قبل النهاية، بل إنها تسبق النهاية مباشرة
" ثم يأتي المنتهي " (مت 24: 14). والتمييز بين الكرازة بالإنجيل لكل
العالم واتمام الإرسالية للإمم – كم يفترض زاهن – هو عمل مصطنع.

 

وللرد على هذه الاعتراضات، يجب التسليم بأن وضع كل هذه الظواهر الأخيرة قبل
النهاية الحقيقية، يجعلنا نتغلب على المشكلة الناتجة عن كلمة " للوقت "
متى (24: 29)، وعن " في تلك الأيام " (رو 13: 24).

 

ولقد شرح " برجز " بوضوح وجهة النظر الأخرى (في " مسيح
الأناجيل " 132 – 165) فهو يجعل حديث المسيح منطوياً على أمرين: (1) خراب
أورشليم والهيكل، (2) نهاية العالم. ويفترض أنه قد حدث التلاميذ عن نقطتين: (1)
الوقت، (2) العلامات.

 

فبالنسبة للوقت، فإنه لا يفصل بين الأمرين فصلاً جازماً، فهما متحدان
كموضوع نبوي واحد، وإن كان المجيئ الثاني أكثر بروزاً. وتحديد الوقت في هذه الصيغة
المعقدة، نجدة: (1) سلبياً (مرقس 13: 5 – 8)، (2) إيجابياً (مرقس 13: 9 – 13). ومن
الناحية الأخرى يميز المسيح بين: (1) علامات خراب أورشليم والهيكل (مرقس 13: 14 –
20)، (2) علامات المجيئ الثاني (مرقس 13: 24: 27).

 

ويؤيد هذا الرأى أن خراب الهيكل والمدينة الوارد في سؤال التلاميذ، الذي
يبرز كحادثة أخروية، يعتبر هكذا في جواب المسيح، فلا يشار إليه – بصورة عارضة –
كعلامة من العلامات. وما جاء في إنجيل لوقا (21: 20 – 24) يثبت أنها " حادثة
" وليست علامة. وهذا الرأى يجعل من السهل فهم القصد (الوارد في مر 13: 30) على
الحادثة الأولى وعلاماتها، فهو يضع " رجسة الخراب " في زمن سابق "
للكارثة القومية ". ومما يؤيد وجهة النظر بأن الحادثتين قد ذكرتا بالتتابع،
هو اتجاه الفكر في العدد 32 وما بعده. وهنا بعد أن قارب الجزء الرؤوى نهايته، تحول
الموضوع إلى التلاميذ بنفس النظام الذي لاحظناه في النبوة. فنجد أولاً، تحديد
الموقف الحقيقي من جهة الكارثة القومية في مثل شجرة التين، والتأكيد الجازم بأنها
ستحدث في " هذا الجيل " (الأعداد 28 – 31)، ثم نجد تحديد الموقف الحقيقي
من جهة المجيئ الثاني (الأعداد 32 – 37).

هل تبحث عن  م الكتاب المقدس وحى الكتاب المقدس 00

 

والاعتراض الجدى الوحيد على هذا الرأي، يصدر عن الترابط الوثيق لهذا الجزء
المتعلق بالكارثة الوطنية، مع الجزاء المتصل بالمجيئ الثاني (مت 24: 29)، "
وأما تلك الأيام بعد ذلك الضيق " (مر 13: 24).

 

والسؤال هو ما إذا كان هذا الأسلوب من الكلام، يمكن أن يفسر على مبدأ تقصير
أبعاد منظور النبوة. ولا يمكن أن ننكر تماماً أن خاصية الرؤيا النبوية، ربما شكلت
أيضاً نظرة المسيح للمستقبل، التي (كما يظهر في عدد 32) كانت النظرة النبوية
كإنسان، منفصلة عن علمه الكامل كإله. ويحول دون إمكانية إساءة تفسير هذه الظاهرة،
وخلط تتابع المنظور مع التتابع الزمني في هذه الحالة، القول بأنه ينبغي أن يكرز
أولاً بالإنجيل لكل الأمم (أع 3: 19 و 25 و 26، رو 11: 25، رؤ 6: 2) قبل مجيئ
النهاية، وأن لا أحد يعرف ميعاد المجيئ الثاني إلا الله، وأن هناك فترة خراب بعد
تدمير المدينة، وأن مجيئ المسيح النهائي لشعب إسرائيل ليس للدينونة، بل سيكون
مجيئاً يرحبون به فيه قائلين: " مبارك الآتي " (مت 23: 38 و 39، لو 13: 34
و 35) وهو يفترض وجود فترة تكفي لتعليل هذا الموقف المتغير (لو 21: 24) " حتى
تكمل أزمنة الأمم ". وليس من الضروري الفصل بين هاتين الحادثتين اللتين يضمهما
السؤال كما قدمه التلاميذ في (متى 24: 3)، كما لو أن السؤال " متى يكون هذا
" يتعلق بخراب الهيكل فقط، لأن النصف الآخر من السؤال يتعلق بمجيئ المسيح
وانقضاء الدهر. وما يبرز هنا ليس هو الحادثتين، بل الحوادث (في مجموعها) متميزة عن
العلامات، " فهذه الأشياء " لها ارتباط، لا بما جاء في العدد الثاني
فقط، بل بالحري بما جاء في متى (23: 38 و 39)، فلم يرغب التلاميذ في معرفة متى
تحدث تلك الكارثة القومية المروعة فحسب، بل بالحرى متى يحدث مجيئ المسيح الذي
سيتلو، الكارثة والذي سيضع حداً للنتائج المحزنة لتلك الكارثة، والذي سينتج عنه
اقتبال إسرائيل مرة اخرى. وهذا يفسر لنا لماذا لم يبدأ المسيح حديثة بالكارثة
القومية، بل بدأ أولاً بموضوع المجيئ الثاني ليحدد – سلباً وإيجاباً – ميعاد ذلك
المجيئ، وذلك لتحذير التلاميذ الذين – في شوقهم الشديد لمجيئ النهاية – كانوا
يميلون لتقصير زمن التطورات المروعة السابقة للمجيئ. وواضح أن المسيح جمع بين
الكارثتين القومية والكونية، وذلك من مواضع أخرى كما في متى (10: 23)، حيث يتحدث
عن تدخله لإنقاذ التلاميذ المشردين: " مجيئ ابن الإنسان " (مت 16: 28،
مر 9: 1، لو 9: 27، حيث أن مجيئ ابن الإنسان في ملكوته (متى) أو مجيئ ملكوت الله
بقوة (مرقس) أو ظهور ملكوت الله (لوقا) موعود به لقوم من " ذلك الجيل ".
وفي الحقيقة غالباً ما تشير هذه الأجزاء إلى المجيئ الثاني، لأنه موضوع الحديث في
الأجزاء السابقة لها مباشرة، ومع ذلك لا يعني هذا أن المجيئ الثاني وهذا المجيئ
الموعود مترادفان، فالمجيئ القريب جداً، يشار إليه كمشجع على الأمانة والتضحية
مثلما تذكر المجازاة في المجيئ الثاني، لنفس الغرض. ومفهوم المجيئ القريب يظهر في
اعتراف المسيح عند المحاكمة (مت 26: 64) حيث أن " من الآن " تشير أيضاً
إلى المجيئ على سحاب السماء والجلوس عن يمين الله (انظر مرقس 14: 62، لو 22: 69).
ومرمى هذا القول هو أن من يقف الآن أمام الناس ليحاكم سيظهر في المستقبل القريب في
مجد ليدين قضاته الذين يمثل الآن أمامهم لمحاكمته.

وأقوال يوحنا الختامية لها هذا المفهوم، إن مجيئ المسيح لتلاميذه في
المستقبل القريب هو ليبقي معهم على الدوام، ولو أن هذا المجيئ يقترن بحلول الروح
القدس (يو 14: 18 و 19 و 21 و 23، 16: 16، 19: 22 و 23). ويجيئ نفس الفكر في سفر
الرؤيا حيث يتضح أيضاً أن ثمة مجيئ مبدئي للمسيح بخلاف المجيئ الثاني للدينونة (2:
5 و 16، 3: 3 و 20، وأيضاً " يوماً من أيام ابن الإنسان " – لو 17: 22).

 

 

4- حوادث تسبق المجيئ الثاني: والحوادث
التي تسبق المجيئ الثاني حسب التعليم المطرد للسيد المسيح وبطرس وبولس، هي تجديد
إسرائيل (مت 23: 39، لو 13: 35، أع 1: 6 و 7، 3: 19 و 21 حيث نجد أن بلوغ "
أوقات الفرج " " وأزمنة رد كل شيئ " يتوقف على إرسال السيد المسيح
لإسرائيل في نهاية الأيام)، وهذا بالتالي يتوقف على توبة إسرائيل وتجديدهم ومحو
خطاياهم، ونجد في رومية 11، أن مشكلة عدم إيمان إسرائيل تحل على أساس افتراضين:

أ إنه يوجد – حتى الآن – اختيار بحس النعمة بين اليهود.

ب- وإنه سيحدث تجديد شامل لإسرائيل في المستقبل (الأعداد 5 و 25 – 32).

 

وبين الانذارات بالمجيئ الثاني، ظهور " ضد المسيح " (1 يو 2: 18،
22، 4: 3، 2 يو 7)، كما أن المفهوم نفسه يرد في الاناجيل الثلاثة الأولى، وفي
رسائل بولس وفي سفر الرؤيا، ولا توجد أي إشارات عنه في الكتابات اليهودية.

 

وكلمة " ضد " قد تعني " بدلاً من أو ضد "، والمعني
الأول يتضمن الثاني. وليس من الواضح في إنجيل يوحنا أن الميول الهرطوقية أو
السلطات المقاومة المرتبطة بالحركة العدائية للمسيحية، ستدعى باطلاً شغل مركز
المسيا، لكننا نجد في الأناجيل الثلاثة الأولى نبوات عن مجيئ أنبياء كذبة ومسحاء
كذبة وأن هذا ليس من العلامات القريبة فحسب (مر 13: 6) بل أيضاً في نهاية الزمن
الأخروي (عدد 22). أما بولس فلايستخدم الكلمة نفسها. ولكن المفهوم واضح بأنه يعني
" ضد المسيح " ويقول عنه أنه " سيستعلن " وهي نفس الكلمة التي
يستخدمها فيما يتعلق بالمسيح (2 تس 2: 6 و 8).

 

اسلوب عمله ونتائجه الضارة تناقض تماماً أسلوب عمل إنجيل المسيح (الأعداد 9
– 12). ولا يتناول بولس هذا الفكر على أنه شيئ جديد، فلا بد أنه جاء من العهد
القديم والأخرويات اليهودية، وبلغ غايته في نبوات العهد الجديد (انظر دانيال 7: 8
و 20، 8: 10 و 11)، فهو صورة مكبرة للعدو العتيد، ويزعم جنكل وبوست أن مصدر
الاعتقاد بالصراع النهائي بين الله والعدو الأعظم، موجود في الأسطورة القديمة عن
هزيمة " كاوس " على يد " مردوخ "، وان ماحدث في بداية العالم
تحول إلى النهاية، فتجسم هذا أولاً في صورة مسياً كاذب، وبعد ذلك في صورة جبار
سياسي مضطهد ومقاوم.

 

ولكن لا حاجة – على الاطلاق – إلى افتراض أي مصدر آخر لفكرة العدو الأخير،
غير نبوات العهد القديم الأخروية (حزقيال ودانيال وزكريا). كما أنه ليس ثمة دليل
على أن فكر بولس عن ضد المسيح جاء من مصدر سابق للمسيحية، بل من المعقول أن نقول –
بما لدينا من دلائل – إن الجمع بين الفكرين عن العدو الأخروي وضد المسيح هو من
نتائج النبوة المسيحية، ففي الواقع لم يرد مفهوم وجود عدو واحد أخير في الكتابات
اليهودية السابقة للمسيحية، فقد جاء لأول مرة في سفر رؤيا باروخ الأبوكريفي (40: 1
و 2) الذي يغير المفهوم العام لسفر إسدراس الرابع، إلى هذا الاتجاه، بل أنه في
حديث المسيح عن الأيام الأخيرة، لا تتركز الفكرة في شخص واحد، لأنه يتحدث عن
" المسحاء الكذبة والأنبياء الكذبة " (بصيغة الجمع)، بينما يظل الشخص
المحرض على " رجسة الخراب " في خلفية الصورة. كما أن الرسول يوحنا يتكلم
أيضاً بصيغة الجمع (1 يو 2: 18 و 22، 2 يو 7) ومع أن فكرة مجيئ شخصية " ضد
المسيح " لم تكن معروفة لدى الكاتب والقاريء فحسب (1 يو 2: 18) " كما
سمعتم أن ضد المسيح يأتي " بل كان الكاتب يؤمن بها (4: 3) " هذا هو روح
ضد المسيح الذي سمعتم أنه يأتي إلى العالم، والآن هو في العالم " (اقرأ 2 تس
2: 7 – " سر الإثم الآن يعمل ") .

 

ولقد طرحت آراء كثيرة لشرح الملامح المحددة فيما ذكره الرسول بولس في (2 تس
2)، وأيضاً ما جاء في سفر الرؤيا (13، 17) ويقول شكنبرجر وويس إنه كان في فكر بولس
الشخص الذي سينادي به اليهود مسياً لهم، وأن هذا الفكر قد ترسب لدى بولس مما عاناه
من اضطهاد من جانب اليهود، فتوقع أن هذا المسيا اليهودي المزعوم – مزوداً بقوة
شيطانية – سيهزم السلطة الرومانية، وأن استمرار السلطة الرومانية، كان هو "
ما يحجز " أو ممثلاً في الامبراطور " الذي يحجز الآن " (2 تس 2: 6
و 7 – ويعكس وارفيلد الأدوار التي ستلعبها كل من القوتين).

 

والاعتراض على هذا، هو أن " إنسان الخطية … المقاوم "، – ليس في
فكر بولس أو من وجهة نظر مسيحية فحسب، بل من نيته المعلنة – سيقاوم ويرفع نفسه فوق
" كل ما يدعي إلهاً أو معبوداً، وهذا ما لا يمكن أن يفعله أي يهودي يدعي أنه
المسيا، فوضعه كمسيا يحول دون ذلك. ومفهوم " ضد المسيح " لا يستلزم أن يكون
من بيئة يهودية، لأن فكرة المسيانية قد اتسعت في فكر الرسول بولس عن مستواها
القومي الأصلي، واتخذت صيغة العالمية (انظر زاهن)، كما أن ما جاء في العدد الرابع:
" المقاوم " الذي يجلس في الهيكل، لا يؤيد هذا الرأي، فقد يكون تنجيس
الهيكل على يد أنطيوكس أبيفانوس وغيره فيما بعد، قد أضاف إلى صورة العدو الكبير،
صورته كمنجس للهيكل. وليس من الضروري افتراض أن بولس قد قصد ذلك حرفياً، فهي لا
تعني أكثر من أن المقاوم سيحاول أن يغتصب لنفسه مجداً سماوياً ويجعل من نفسه
معبوداً.

 

وقد أعطي آباء الكنيسة ومن جاء بعدهم من الكتَّاب، تفسيراً ألفياً لهذا
المشهد، مشيرين إلى إعادة بناء الهيكل في المستقبل. كما أن التفسير الرمزي – الذي
يرى في الهيكل رمزاً للكنيسة – وجد من يدافع عنه.

 

ولكن التعبيرات التي يوصف بها " المقاوم " تنفي مطابقته المزعومة
للكنيسة المسيحية. ويقول رأي آخر بأنه ليس شخصاً يهودياً بل وثنياً. ويزعم كرن
وبور وهجلنفلد أن الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي كتبت بعد عصر بولس، ويربطون
هذه النبوة بما كان شائعاً في ذلك الوقت من أن نيرون المضطهد الكبير، سيعود من
الشرق أو من الموت، وبمعونة الشيطان سيقيم مملكة معادية للمسيحية. ويزعمون وجود
نفس الفكرة وراء ما جاء في سفر الرؤيا (13: 3 و 12 و 14) " ورأيت واحداً من
رؤوسه كأنه مذبوح للموت وجرحه المميت قد شفي " وكذلك في (17: 8 و 10 و 11)
" الوحش الذي كان وليس الآن وهو عتيد أن يصعد من الهاوية " وهو (ملك)
ثامن وهو من السبعة. وليس في وصف بولس ما يجعلنا نظن أن نيرون سيعود أو يبعث حياً،
كما أن النبوة عن مجئ " المقاوم " لا تتضمن ذلك، لأن " المجيئ
" تعبير أخروي لا يعني " العودة " بل " الظهور "، كما لم
يوصف المقاوم بأنه " مضطهد " بينما كان نيرون مضطهداً عنيفاً. كما أن ما
ذكر عن " الحجز أو الذي يحجز " لا ينطبق على نيرون، لأنه لا يمكن أن
يقال إن من جاءوا بعد نيرون، يمنعون عودته. أما ما جاء في سفر الرؤيا عن الدور
الذي سيلعبه الوحش، فنرى أنه يتفق تماماً مع شخصية نيرون.

 

ولكن – كما يقول زاهن في تفسيره – هذا التفسير يتعارض مع تاريخ كتابة سفر
الرؤيا، فلا بد أن السفر قد كتب في زمن كان ينتشر فيه توقع عودة نيرون للظهور،
بمعني أن يعود من الشرق الذي هرب إليه، ولكن عندما طال اختفاؤه ولم يعد الزمن يسمح
باستمرار الاعتقاد بأنه مازال حياً، تغير هذا المعتقد إلى خرافة أنه سيعود من
الموت، ولكن هذا التغير في صورة الاعتقاد لم يحدث إلا بعد كتابة سفر الرؤيا،
وبالتالي لو كان المقصود في سفر الرؤيا هو نيورن، فلا بد أن يكون في شكل واحد عائد
من المشرق، ولكن الحقيقة هي أن الوحش أو الملك – الذي يرون فيه نيرون – المذكور
عنه في سفر الرؤيا (13: 1، 17: 8) بأنه مذبوح للموت وشفي من جرحه المميت، وأنه
يصعد من بئر الهاوية، يتناسب مع الصورة الأخيرة من التوقع، أي العودة من الموت.
لذلك أصبح من اللازم الفصل بين وصف الوحش ورؤوسه وقرونه فصلاً كاملاً عن تفاصيل
خلافة الامبراطورية الرومانية. إن النبوه واضحة المراحل، فوصف الوحش مكوناً من
حيوانات متعددة في الرؤيا (13: 2)، يشير إلى سفر دانيال، وهنا – كما في دانيال –
ينبغي أن نفهم أنها القوة العالمية الواحدة في صورها القومية المتتابعة، وهو ما
يستبعد إمكانية التفكير في تتابع ملوك من نفس الامبراطورية. فأحد الرؤوس المذبوح
حتي الموت والضربة المميتة التي شفي منها، يشيران حتما إلى القوة العالمية التي
ستصبح بلا قوة في أحد أدوارها، ولكنها بعد ذلك تنتعش في دور جديد.

 

وحيث أن النبوة تدل على أن الضربة المميتة قد شفيت، لا في رأس من الرؤوس
فحسب، بل في الوحش نفسه (قارن 13: 3 مع 13: 12). فيبدو أن نفس هذا التفسير،
تستلزمه العبارات الغامضة في الأصحاح السابع عشر، حيث المرأة الجالسة على الوحش
وهي عاصمة القوة العالمية، تغير عرشها مع الآخر، ولكنها تحتفظ – مثله – في كل
تغيراتها بنفس الصفات، حيث أنها تحمل نفس الاسم " بابل " (عدد 5). وهنا
كما في الأصحاح الثالث عشر، نجد للوحش سبعة رؤوس، بمعني أنه سيمر بسبعة أدوار،
وهذا هو نفس ما يعنيه بالقول بأن هذه السبعة الرؤوس هي سبعة ملوك (عدد 10). وكما
في الأصحاح السابع من دانيال، لا يمثل الملوك مجرد حكام، بل يشيرون إلى ممالك في
مراحل القوة العالمية. وهذا يوضح لماذا يوصف الوحش في العدد الحادي عشر، بأنه واحد
من الملوك، بينما التفصيلات في الأصحاح السابع عشر تتجاوز ما جاء بالأصحاح الثالث
عشر، بإضافة أن الوحش الذي كان وليس الآن وهو عتيد أن يصعد من الهاوية (عدد 8) وفي
عددي 10، 11 " خمسة (من الملوك السبعة) سقطوا وواحد موجود والآخر لم يأت بعد،
ومتي أتى ينبغي أن يبقي قليلاً " ويتبعه الثامن الذي ينطبق وصفه على الوحش
الذي وليس الآن، " وهو من السبعة ". وفك الاشتباك في هذه العبارات يكمن
في الافتراض بأن " الوحش "، بينما هو – بمعني ما – رمز للقوة العالمية
في كل أدوارها، يمكن أيضاً – يبعني آخر – أن يمثل تجسيد القوة العالمية الخارقة في
صورتها النموذجية في الماضي، وبالنسبة لهذا الدور الخطير، فإن الوحش كان وليس الآن
وسوف يظهر ثانية، فهذا الدور الخطير كان واحداً من الأشكال السبعة المتعاقبة لهذه
القوة العالمية، وعندما تعود للظهور، فستضيف الدور الثامن، ومع أن ذلك يعطينا معني
مزدوجاً لاستخدام هذه الأشكال، فهو ليس بأصعب من الرأي الآخر الذي يعتبر أن نيرون
هو الوحش، وأيضاً أحد رؤوس الوحش. أما تحديد الممالك في هذه الأدوار السبعة فأمر
قليل الأهمية، وهي في رأي زاهن: (1) مصر، (2) أشور، (3) بابل، (4) مادى وفارس، (5)
اليونان ممثلة في الإسكندر ودولته، (6) روما (7) امبراطورية – قصيرة الأمد – تخلف
روما، (8) أما الثامن والأخير فسيعيد الدور الخامس في خطورته، ويعد المشهد لظهور
ضد المسيح الذي تتجسد فيه صورة أنطيوكس أبيفانوس.

 

ومن الواضح أن الرائي كان أمامه دور القوة الرومانية للوحش، وهذا ما جعل من
الممكن له أن يعطي صورة أخرى للسبعةالرؤوس، مفسراً إياها " بسبعة جبال عليها
المرأة جالسة "، لكن هذا الوصف الرؤوي – الذي يبدو غير مترابط – لا يشكل
اعتراضاً – على الرأي السابق بيانه، حيث أن التفسيرين المختلفين للسبعة الرؤوس
كسبعة جبال وكسبعة ملوك، يظهران جنباً إلى جنب في عددي 9 و 10، كما أن الرقم
الغامض 666 الوارد في (13: 18)، لا يجب أن نستخدمه للتدليل على أن نيرون هو الوحش،
لأن- من ناحية – هناك الكثير من الحلول المعقولة وغير المعقولة قد اقترحت لحل هذا
اللغز، ومن ناحية أخرى فإن تفسيره على أنه نيرون كان مثاراً لاعتراضات كثيرة، فلكي
يطابق العدد حروف اسم نيرون، يجب أن يكتب اسم نيرون بالعبرية باسم " نيرون
قيصر " مع حذف أحد حروف كلمة قيصر، فتصبح في صورة لم تستخدم في الكتاب في أي
مكان آخر. ولهذا فإن تفسير صورة الوحش ورؤوسه، يجب أن يأخذ طريقاً مستقلاً عن سر
الرقم 666 الذي يبدو أنه لا يمكن الوصول فيه إلى نتيجة قاطعة.

 

سيوضح ما يلي، درجة التحديد – حسب رأي الكاتب – التي يمكننا بلوغها في
تفسير النبوة، فالعبارات التي ذكرها بولس، تذكرنا بوصف دانيال " للقرن الصغير
"، وكذلك يرتبط سفر الرؤيا بما جاء عن صورة الوحش في دانيال، فيبدو أن بولس
والرؤيا يشيران إلى تأليه الحكام لذواتهم في العصرين الإغريقي والروماني، ولذلك
يبدو أنه كان في ذهن كل منهما قوة عالمية سياسية منظمة تحت سيادة رأس عظيم. وفي
كلتا الحالتين، لا ينظر إلى هذه القوة كذروة العداوة لله، كنظام سياسي، ولكن –
بشكل خاص – بسبب تحقيق ذاتها في المجال الديني، لذلك يرقي المفهوم كله إلى مستوى
أعلى، حيث أن مبادئ روحية صرفة جرى تطبيقها في الدينونة المذكورة. ولذلك يطبق
الرسول بولس هذا المبدأ بالكامل في رسم صورته، فجانب الإغراء والتضليل – لتلك
الحركة – في مجال التعاليم الكاذبة، يرتبط مباشرة بشخص " الأثيم " نفسه
(2 تس 2: 9 – 12) وليس بعضو منفصل بنبوة كاذبة كما في الرؤيا (13: 11 – 17 – الوحش
الثاني). وفي سفر الرؤيا – كما ذكر سابقاً – نجد الدور النهائي والخطير للعداء
للمسيحية متميزاً بوضوح عن تجسيده في الامبراطورية الرومانية، ومنفصلاً عنها
بمرحلة وسيطة، ولا يظهر هذا بوضوح في كتابات بولس، حيث يبدو – إلى حد ما – أن
نبوات العهد الجديد كانت في أولى مراحلها، فيذكر بولس أن " سر الإثم الآن
يعمل " (في أيامه)، وليس معني هذا بالضرورة أن شخصية " الأثيم " –
الذي سوف يظهر فيما بعد – ترتبط بنفس الدور الكائن في ذلك الوقت للقوة العالمية،
الذي يربطه بولس بهذا السر الذي يعمل الآن، حيث أن الأدوار مستمرة ومتتابعة، وهذا
أيضاً يؤكد الاستمرارية بين القوة العامة وممثلها الشخصي، حتى ولو كان الأخير
سيظهر في مرحلة لاحقة. وإنه لمن المستحيل أن نقرر إلى أي مدى كان بولس يرى – فيما
وراء القوة الرومانية – نظاماً لاحقاً كأداة للمحاولات الأخيرة ضد المسيحية، ومن
الناحية الأخرى لا يمكن اثبات أن بولس اعتقد أن " الأثيم " كان موجوداً
فعلاً في ذلك الوقت، فلا يمكن استنتاج هذا من التشابه بين " استعلانه "
ومجيئ المسيح الثاني، لأن " استعلانه " له ارتباط بوجود خفي سابق في وقت
ما وفي مكان ما، وليس من الضروري أن يمتد هذا الوجود إلى زمن بولس أو إلى زمن
الامبراطورية الرومانية، وهو وجود لا يسمو إلى وجود المسيح في العالم الأسمي. كما
أن هذا الوجود لا ينضوي تحت ما يقوله بولس عن " الذي يحجز الآن "، فهو
لا بد أن يؤكد ذاته في ذلك الوقت، وهذا الحجز لا يمارس على " الأثيم "
مباشرة بل على السلطة التي سيكون هو ممثلها الأخير عندما تتحرك هذه القوة بحرية –
بعد " أن يرفع من الوسط الذي يحجز " – وعندئذ " يستعلن "
الأثيم. وبناء على ما جاء في العدد التاسع، سيكون " مجيئه بعمل الشيطان
"، ولا يمكن الجزم بالمقصود من ذلك، وهل يشير إلى جانب خارق للطبيعة في ظهوره
لأول مرة، أو أنه يشير إلى وجوده اللاحق ونشاطه في العالم الذي سيكون مصحوباً بكل
قوة وبآيات وعجائب كاذبة، فعنصر المعجزة موجود بكل تأكيد وإن كان من الخطأ الواضح
أن نفهم أن " الأثيم " سيكون هو الشيطان متجسداً، فالعبارة " بعمل
الشيطان " تستبعد هذا، " فالأثيم " سيكون شخصية بشرية حقيقية، فهو
" إنسان الخطية " (عدد 3 – انظر التمييز بين الشيطان " والوحش
" في رؤ 20: 10). (والقوة والآيات والعجائب " ليست مجرد مظاهر خادعة،
فوصفها بالكاذبة لا يقصد منه أنها تخرج عن دائرة المعجزات، ولكن يعني ببساطة إنها
تجرى لتأييد أكاذيب، مثل إظهار " الأثيم " لنفسه كإله. وأصعب شيئ هو
تحديد ما يعنيه بولس بقوله في العدد السابع: " الذي يحجز الآن "، والرأي
الشائع هو أن الإشارة هنا إلى السلطة الرومانية كمصدر للنظام المدني وحمايته، ولكن
ثمة اعتراضات قوية على هذا، فإذا كان بولس قد ربط بين " ضد المسيح " –
بأي صورة – وبين السلطة الرومانية، فإنه لا يمكن أن يعمد إلى الفكر المضاد في نفس
الوقت. وليس القوة الحاجزة فحسب، بل أيضاً الشخص الحاجز، إذ يبدو أنهما شيئ واحد،
وهو ما لا ينطبق على الامبراطورية الرومانية التي تعاقبت عليها سلسلة من الحكام.
وما زال من الصعب التخلي عن الفكر بأن " الذي يحجز " سواء كان سلطة أو
شخصاً، سيكون خارقاً للطبيعة، حيث أن العامل المعجزي واضح في عمل " الأثيم
"، ولهذا السبب، فإن هناك ما يستلفت النظر في الفكر القديم لهوفمان، الذي
يفترض أن بولس استعار من دانيال – علاوة على بعض الملامح الأخرى – هذه الظاهره
أيضاً، وهي أن الصراع التاريخي على الأرض له خلفية خارقة للطبيعة في عالم الأرواح
(انظر دانيال 10)، وليس ثمة تعبير آخر أكثر دقة من هذا.

 

وما تجدر ملاحظته – أخيراً – هو أنه كما في حديث المسيح عن الأيام الأخيرة،
ترتبط " رجسة الخراب " بالارتداد داخل الكنيسة عن طريق التعاليم المضلة
(مر 13: 22 و 23)، وهكذا يربط بولس ظهور " الأثيم " بالتأثير المدمر
للخطأ بين الهالكين الكثيرين (2 تس 2: 9 – 12).

 

وفكرة " الأثيم " بوجه عام، وفكرة " الارتداد " بوجه
خاص، تذكراننا بأن لا نتوقع تقدماً مضطرداً في تحول العالم للمسيحية إلى وقت
المجيئ الثاني. فكما أن سلطان الحق سيمتد، فإن قوات الشر أيضاً ستستجمع قوتها،
وبخاصة قرب النهاية، فالسيطرة الشاملة لملكوت الله، لا نتوقعها من العمل المرسلي
وحده، إنها تحتاج إلى تداخل أخروي من الله.

 

5- كيفية المجيئ الثاني: أما عن
كيفية المجيئ الثاني والظروف المصاحبة له، فإننا نعلم أنه سيكون منظوراً في دائرة
واسعة، مثل البرق (مت 24: 27، لو 17: 24 – ووجه المقارنة لا يقتصر على المفاجأة)،
فهو سيأتي بغتة لغير المؤمنين (مت 24: 37 – 42، لو 17: 26 – 32، 1 تس 5: 2 و 3)
وسيكون مسبوقاً، " بعلامة ابن الإنسان " التي لا يمكننا معرفة طبيعتها.
سوف يأتي المسيح " على السحاب "، " في سحاب " " في سحابة
" "بقوة ومجد عظيم " (مت 24: 30، مر 13: 26، لو 21: 27) مع ملائكته
(مت 24: 31، 13: 41، 16: 27، مرقس 8: 38، لو 9: 26، مرقس 13: 27، 2 تس 1: 7).

 

سادساً – القيامة:

 

تتزامن القيامة مع المجيئ الثاني والوصول إلى الدهر الآتي (لو 20: 35، يو 6:
40، 1 تس 4: 16)، ويستدل من تسالونيكي الأولى (3: 13، 4: 16) على أن الأموات
سيقومون قبل اتمام نزول المسيح من السماء. والأصوات الموصوفة في الجزء اللاحق تفسر
على هذا الأساس، على أنها مصاحبة للنزول (انظر خر 19: 16، إس 27: 13، مت 24: 31، 1
كو 15: 52، عب 12: 19، رؤ 10: 7، 11: 15. " بوق الله " أي (البوق الأخير
العظيم). والكلمتان اليونانيتان المعبرتان عن القيامة هما " أنجريان "
أي " يستيقظ "، " وأنستانيا " أي " يقيم " أو
" يقوم "، والكلمة الثانية تستخدم كفعل لازم أكثر منها كفعل متعد.

 

1- شموليتها: يعلم العهد الجديد في
بعض أجزائه وبوضوح كاف، بأن كل الأموات سيقومون، ولكن التأكيد ينصب إلى حد كبير،
على الصيغة الخلاصية للقيامة وبخاصة عند الرسول بولس، حيث ترتبط القيامة ارتباطاً
وثيقاً بالتعليم عن الروح القدس، حتى إنه قلما يشير فيها إلى غير المؤمنين. وكان
الأمر كذلك – إلى حد ما – في العهد القديم (إش 26: 19، دانيال 12: 2). وهناك
اختلافات كثيرة حول هذا التعليم في الكتابات اليهودية فيما بين العهدين، فأحياناً
نجد قيامة الشهداء فقط (أخنوخ 90) وأحياناً قيامة كل الأبرار في إسرائيل (مزامير
سليمان 3: 10، أخنوخ 91 – 94)، وأحياناً قيامة كل الأبرار وبعض الأشرار من إسرائيل
(أخنوخ 1 – 36)، وأحياناً كل الأبرار وكل الأشرار (إسدراس الثاني 5: 45، 7: 32،
رؤيا باروخ 42: 8، 50: 2). ويقول يوسيفوس إن الفريسيين كانوا يعتقدون بأن الأبرار
فقط هم الذين سيكون لهم نصيب في القيامة. ومما تجدر ملاحظته هو أن كل الكتابات
الرؤوية التي تثبت شمولية القيامة، تقدم لنا نفس الظاهرة الموجودة في العهد
الجديد، أي أنها تحتوي على فصول تتحدث عن القيامة فيما يتصل بمصير الأبرار، مما
يخلق الظن بأنه لا توجد قيامة أخرى. وكانت توجد أفكار متضاربة بين الفريسيين بخصوص
هذا الموضوع، طمس يوسيفوس معالمها. وفي حوار الرب مع الصدوقيين، أثبت قيامة
الأبرار، لكنه لم ينف قيامة الآخرين (مرقس 12: 26 و 27)، " وقيامة الأبرار
" في لوقا (14: 14) قد تدل على قيامة مزدوجة. ويرى البعض أن عبارة "
القيامة من الأموات " (لو 20: 35، أع 4: 2) تشير دائماً إلى قيامة عدد
محدودمن بين الأموات، أما عبارة " قيامة الأموات " فتشير إلى قيامة عامة
(بالمر – تفسير لوقا 20: 35)، ولكن مثل هذا التمييز ينهار عند دراسة النصوص.

 

ولا يصح الاستدلال على القيامة العامة من وجود الدينونة العامة، حيث أن
فكرة الدينونةللأرواح (بلا أجساد) أمر يمكن فهمه، وهو يجرى فعلاً، ومن الناحية
الأخرى فإن عقاب الأشرار – بالتأكيد القاطع – يشمل الجسد (مت 10: 28). ولا يمكن
اثبات أن كلمة " قيامة " تستخدم في العهد الجديد – فيما يتعلق بالآخرة –
بمعني إحياء الروح فقط، دون الإشارة إلى الجسد. وحوار الرب مع الصدوقيين لا يعني
أن الآباء في زمن موسى، قد حصلوا على القيامة، بل يعني أنهم كانوا يتمتعون بحياة
العهد فقط، التي لا بد، في الوقت المعين، أن تؤول إلى قيامة أجسادهم. أما تشبيههم
" بالملائكة " (مر 12: 25) فلا يعني وجودهم بلا أجساد، بل المعنى
المقصود هو حالة عدم الزواج والتكاثر. ويقال بأنه لا يوجد في العبرانين دلالة
مباشرة على قيامة الأجساد، (ولكن انظر عب 11: 22 و 35، 12: 2، 13: 20)، فالمفهوم
الروحي للرسالة بالارتباط مع تعليم الرسول بولس، يشير إلى أجساد سماوية روحانية،
لا إلى الوجود بدون أجساد.

2- العصر الألفي: يحصر العهد
الجديد حادثة القيامة في دور واحد، فهو لا يعلم جلياً بقيامة على مرحلتين – كما
يزعم الألفيون – إحداهما عند المجيئ وهذه للقديسين أو الشهداء، والثانية عند نهاية
الملك الألفي. ومع أن عقيدة ملك المسيا الذي يسبق نهاية العالم، هي من أصل يهودي
سابق للمسيحية، إلا انها لم تتطور في اليهودية لتصل إلى افتراض قيامة متكررة،
فالقيامة العامة تقع دائماً في النهاية. والفصول التي تبنى عليها عقيدة القيامة
المزدوجة، هي (أع 3: 19 – 21، 1 كو 15: 23 – 28، في 3: 9 – 11، 1 تس 4: 13 – 18، 2
تس 1: 5 – 12، رؤ 20: 1 – 6) ففي أول شاهد، يعد بطرس " بأوقات الفرج "
عندما يتوب إسرائيل ويرجع إلى الله، ويتزامن هذا مع إرسال المسيح إلى اليهود أي مع
المجيئ الثاني. ويقولون إن بطرس يذكر في عدد 21: " الذي ينبغي أن السماء
تقبله إلى أزمنة رد كل شيئ " (والفعل ينبغي أن تقبله، في صيغة المضارع)، بعد
مجيئ المسيح لخاصته، عودة الرب مرة أخرى للسماء، ثم يعقب ذلك – بعد فترة معينة –
أزمنة رد كل شيئ. وعليه فإن" أزمنة رد كل شيئ " تعني العصر الألفي حيث
يكون المسيح حاضراً بين شعبه. وبينما لا يوجد ما يمنع هذا التفسير لغوياً، إلا أنه
لا مجال له في السياق العام لتعاليم بطرس عن الآخرة، لأنه يقول – في مكان آخر – إن
مجيئ المسيح لا يعقبه وجود مؤقت للمسيح، بل مجيئ يوم الرب، يوم الدينونة (أع 2: 17
– 21). والرأي الصحيح هو أن " أوقات الفرج " " وأزمنة رد كل شيئ
" هما شيئ واحد، فالعبارة الثانية تشير إلى انتظار إسرائيل مثل العبارة
الأولى تماماً، ولا ينبغي أن تفهم بالمعني الحرفي. ان الفعل المضارع في عدد 21: "
ينبغي أن تقبله " لا يعني أن قبول السماء للمسيح ما زال رهن المستقبل، بل
يحدد مبدأ أخروياً ثابتاً، أي أنه بعد ظهوره الأول ينبغي أن يعود المسيح إلى
السماء إلى أن تأتي ساعة المجيئ الثاني.

 

ونجد في 1 كو 15: 23 – 28 " رتبتين " للقيامة، ويقولون إن ذلك
يعني أن هناك قيامة " للمؤمنين " وقيامة " لغير المؤمنين "،
ولكن لا توجد هنا أي إشارة إلى غير المؤمنين، فالمذكوران هنا هما المسيح والذين هم
للمسيح. " والنهاية " في عدد 24 ليست هي المرحلة الأخيرة من القيامة، أي
قيامة غير المؤمنين، بل هي نهاية سلسلة الأحداث الأخروية، وملكوت المسيح الذي سيصل
إلى ختامه مع النهاية، ليس ملكوتاً يبدأ بالمجيئ الثاني، بل يبدأ منذ تمجيد
المسيح، وهو بالنسبة لبولس ليس ملكوتاً في المستقبل بل هو ملكوت قائم فعلاً.

 

ولا يفترض في (1 تس 4: 13 – 18)، أن الذين كتب لهم، قد انزعجوا لإمكان
استبعاد موتاهم من ملك المسيح المؤقت ومن القيامة الأولي، ولكن لأنهم حزنوا مثل
باقي الأمم الذين لا رجاء لهم على الاطلاق، أي أنهم شكوا في حقيقة القيامة، وبناء
عليه، يقدم لهم بولس في عدد 14 التأكيد الشامل بأنه بقيامة المسيح، أصبحت قيامة
المؤمنين مضمونة. وكلمة " نسبق " في عدد 15، لا تعني أنه توجد أسبقية
زمنية في التمتع بالمجد، ولكنها مجرد صيغة تؤكد أن الموتي لن يتأخروا لحظة واحدة
في أن يتمتعوا مع الأحياء بسعادة المجيئ الثاني. وفي عدد 17: " وهكذا نكون كل
حين مع الرب " فإن عبارة " كل حين " تنفي فكرة الملك المؤقت. أما
(2 تس 1: 5 – 12) فتتضمن الفكر العام عن ارتباط الآلام بالمجد، والاضطهاد
بالميراث، ولا يوجد ما يدل على أن هذا المجد أو الملكوت شيئ آخر غير الحالة
النهائية، أي ملكوت الله (عدد 5).

 

ويقولون إنه في فيلبي (3: 9 – 11) يجعل الرسول بولس بلوغ القيامة معتمداً
على جهد خاص من جانبه، فكأنها بذلك ليست لجميع المؤمنين، وحيث أن القيامة العامة
هي للكل، فلا بد أن المقصود هنا هي نعمة خاصة للقيامة، أي أن يكون في عداد الذين
سيقومون في المجيئ الثاني عند بدء الملك الألفي. والجواب على ذلك هو أنه كان من
الممكن لبولس أن يجعل القيامة هكذا تعتمد على تقدم المؤمن في النعمة والمشابهة
للمسيح، باعتبار أنها ليست حادثة لا علاقة لها بحالته الروحية، بل باعتبارها ذروة
العملية الحيوية للتغيير الذي بدأ في حياته. وفي العدد العشرين، ترتبط قيامة الكل
بالمجيئ الثاني.

 

وقد يبدو – لأول وهلة – أن (رؤ 20: 1 – 6) يؤيد بقوة ملك المسيح الألفي
مشاركاً فيه الشهداء الذين سيعودون للحياة في القيامة الأولي، كما يتميز هذا الملك
بتعطيل أعمال الشيطان. ويقولون إن تتابع الرؤي يضع هذا العصر الألفي بعد المجيئ
الثاني المذكور في الأصحاح التاسع عشر.

 

ولكن من الصعب تحديد مسألة التتابع الزمني في سفر الرؤيا، ففي أجزاء أخرى
من سفر الرؤيا، يبدو أن مبدأ " التلخيص والإستعادة " أي معاصرة الأشياء
التي ذكرت بالتتابع لبعضها، يشكّل أساس هذه الرؤى. والأعداد في أماكن أخرى من
السفر لها معانيها الرمزية. هذه الحقائق تفتح المجال أمام امكانية اعتبار أن الألف
السنة متزامنة مع التطورات السابقة المدونة، وانها تصف رمزياً حالة الحياة الممجدة
التي يستمتع بها مع المسيح في السماء الشهداء في أثناء الفترة الوسيطة السابقة
للمجيئ الثاني. واللغة المستخدمة لا توحي بتوقع قيامة الأجساد، فالرائي يتحدث عن
" النفوس " التي عاشت " وملكت "، ويرى في هذا القيامة الأولي.
ومكان هذه الحياة والملك هو في السماء حيث رأى هناك أيضاً نفوس الشهداء (6: 9).
وعبارة هذه هي القيامة " الأولي" قد تكون انكاراً واضحاً للتفسير
الألفي، للعبارة. ورمزية الألف السنة تتلخص في أنها تقارن بين حالة الشهداء وبين
زمن الضيقة القصير الذي قضوه هنا على الأرض من ناحية، وبالحياة الأبدية من الناحية
الأخرى. أما تقييد الشيطان طيلة هذه المدة فهو بدء نصرة المسيح النهائيةعلى قوات
الشر متميزة عن نشاط الشيطان الذي سيحدث قرب النهاية، بإثارة قوات أخرى ضد
الكنيسة، لم تكن قد دخلت من قبل في هذا الصراع. وبالنسبة لسفر غامض كسفر الرؤيا،
فإنه من الخطأ الجزم بشيئ، ولكن عدم وجود فكرة العصر الألفي في التعاليم الأخروية
في سائر العهد الجديد، يقتضي الحذر قبل تأكيد وجودها.

 

 

 

 

 

3- قيامة المؤمنين: ولقيامة
المؤمنين جانبان: فمن الناحية الأولي، ترتبط القيامة بالجانب القضائي للخلاص، ومن
الناحية الأخرى ترتبط بالتغيير الروحي في عملية الخلاص، والناحية الأولي توجد بعض
آثارها فقط في تعاليم المسيح (مت 5: 9، 22: 29 – 32، لو 20: 35 و 36)، ويضفي بولس
على قيامة المؤمنين معني قضائياً مشابهاً لذلك (رو 8: 10 و 23، 1 كو 15: 30 – 32 و
55 – 58). والخاصية الثانية أي التفسير الروحي، أكثر وضوحاً عند بولس. وأصل حياة
القيامة، والاستمرار في حالة القيامة، يعتمدان على الروح (رو 8: 10 و 11، 1 كو 15:
45 – 49، غل 6: 8) والقيامة هي ذروة تغيير المؤمنين (رو 8: 11، غل 6: 8)، وهذا
الجانب من القيامة الذي ينسب إلى الروح، لا يجب أن يفسر بما جاء في العهد القديم
عن الروح كمصدر للحياة الطبيعية، فالعهد الجديد لا يكاد يشير إلى ذلك، بل بالحري
يجب أن يفسر في ارتباطه بالمبدأ العام لبولس من أن الروح هو العامل الحاسم في
الحالة السماوية في الدهر الآتي. وهذه الصفة الروحية للقيامة تربط أيضاً قيامة
المسيح بقيامة المؤمن، ولا يوجد هذا الفكر في الأناجيل الثلاثة الأولي، ولكنه يوجد
فى (يو 5: 22 – 29، 11: 25، 14: 6 و 19). وفي تعليم الرسل قد نجد أثراً لذلك في
(أع 4: 2)، بينما يبدو ذلك مبدأ راسخاً عند بولس منذ البداية. واستمرار عمل الروح
هنا وفي القيامة، لا يكمن في الجسد، فالقيامة ليست ختام التغيير الروحي الذي يحدث
في الجسد في هذه الحياة، فالجسد الروجي لا يتكون هنا على الأرض، فما جاء في (رو 8:
10 و 11، 1 كو 15: 49، 2 كو 5: 12، في 3: 12)، ينفي ذلك تماماً، كما أن ما جاء في
يوحنا (3: 18، 4: 7 – 18) لا سيتلزمه. والمجد الذي يتغير إليه المؤمنون عن طريق
النظر إلى مجد المسيح أو انعكاس مجده كما في مرآة، ليس مجداً جسدياً، لكنه مجد
داخلي ناتج عن اشراق الإنجيل. وظهور حياة المسيح في الجسد أو الجسم الفاني، يشير
إلى حفظ الحياة الجسدية في وسط الأخطار القاتلة. وكذلك لا سند للقول بأن بولس قد
ذكر أن لبس الجسد الجديد يتم فوراً بعد الموت، فقد زعموا أن هذا – مع الرأي الذي
فندناه – يحدد المرحلة الأخيرة في التطورات المتواصلة لعقيدة بولس في الأخرويات.
فالمرحلة الأولي لهذا التطور توجد في الرسالة الأولي إلى أهل تسالونيكي حيث
القيامة هنا هي قيامة الجسد. والمرحلة الثانية توجد في الرسالة الأولي إلى أهل
كورنثوس حيث نجد أن جسد المستقبل له طبيعة روحية، ولو أن ذلك لا يحدث إلا عند
المجيئ الثاني. والمرحلة الثالثة تزيل التناقض فيما سبق، بين طبيعة جسد المستقبل
ووقت الحصول عليه، وذلك بتحديد ذلك الوقت بلحظة الموت (2 كو 5، رو 8، كو 3)، ثم –
في قفزة خاطفة من الإيمان – يقترب الرأي إلى أن جسد القيامة هو في عملية تطور الآن
(تخمان، تشارلز). ولكن هذا الزعم لا أساس له اطلاقاً، وتسالونيكي الأولي لا تتحدث
عن أخرويات غير روحية (انظر 4: 14 و 16). والمرحلة الثانية وحدها، هي ما يعلم به
بولس، ولا يمكن اثبات أن الرسول قد تخلي عنها أبداً، ولا يوجد سند لزعمهم عن
المرحلة الثالثة في (2 كو 5: 1 – 10، رو 8: 19، كو 3: 4). وتفسير (2 كو 5: 1 – 10)
عسير ولا يمكن مناقشته هنا بالتفصيل. ان ما نفهمه من السياق العام لهذا الجزء الذي
يمكن أن نضعه في عبارة أخرى هي: إننا متيقنون من ثقل المجد الأبدي (4: 17) لاننا
نعلم أنه بعد فناء خيمة جسدنا الأرضي، سنحصل على جسد جديد، بيت فوق الطبيعي
لأرواحنا، وسيكون لنا إلى الأبد في السموات . وأكبر دليل على هذا يكمن في شوقنا
الشديد لهذه الحالة الأبدية. إنه ليس مجرد شوق للحصول على جسد جديد، بل – بالتحديد
– الحصول عليه في أقرب وقت ممكن، بدون فترة متوسطة من العري، أي وجود الروح بلا
جسد، وهذا ممكن إذا كنا سنعيش حتى المجيئ الثاني، وفي هذه الحالة نلبس فوقها
مسكننا الذي من السماء (أي الجسد فوق الطبيعي). وليس من الضروري أن نخلع الجسد
القديم أولاً قبل أن نلبس الجديد، ولكن يوضع الجديد فوق القديم، وهكذا لا يكون
هناك مجال لحالة العري أولاً، أي أن الجسد المائت يبتلع من الحياة (5: 2 و 4).
ولنا عذرنا في التطلع إلى هذا الأمل العظيم، حيث أن الهدف الأسمى الموضوع أمامنا
في كل حال، حتى إن متنا أولا، وصرنا عراة، ثم لبسنا الجسد الجديد فوق الروح
العارية، حيث أن الهدف الأسمى – كما ذكرت – يستبعد في كل الأحوال – حالة العرى عند
المجيئ الثاني (عدد 3). وبما أن هذه الحالة الجديدة، هي محط آمالنا – على أي حال –
فإننا نتوق إلى الوصول إليها في أقرب وقت وبأقل ألم، مع تجنب فترة العري المتوسطة.
ويستقر فهم هذا الجزء على التمييز الواضح بين " نلبس فوقها " أي التغيير
عند المجيئ الثاني بلا موت (العددان 2 و 4)، ونوجد " عراة " أي فقدان
الجسد عند الموت الذي ينتج عنه العري (عدد 4)، " وإن كنا لابسين " أي
لبسنا الإنسان الجديد بعد حالة العري (عدد 3). وبهذا التفسير يكون هذا الفصل
معبراً بجلاء عن رجاء الحصول فوراً على الجسد الروحاني حالاً بعد هذه الحياة، على
أساس افتراض أن نهاية الحياة ستكون عند المجيئ الثاني وليس في حالة حدوث الموت قبل
ذلك. وفي رومية (8: 19)، يسمي ما سيحدث للمؤمنين في النهاية " استعلان أبناء
الله "، ليس لأن جسدهم الممجد كان موجوداً من قبل، ولكن لان مقامهم كأبناء
الله هو الذي كان موجوداً من قبل، وسيستعلن هذا المقام عند حصولهم على الجسد
الممجد. ونقرأ في (كو 3: 3 و 4) عن " حياة … مستترة مع المسيح في الله
"، وعن " ظهور " المؤمنين مع المسيح في المجد عند المجيئ الثاني،
ولكن الحياة هنا لا تعني الوجود الجسدي. وبينما " الظهور " عند المجيئ
الثاني، يفترض وجود الجسد، لكنه لا يعني أن هذا الجسد قد سبق الحصول عليه من قبل،
كما هو الحال في جسد المسيح.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس أ أَكَّد د

 

وختاماً يجب ملاحظة أن هناك دليلاً قوياً في الرسائل المتأخرة على أن بولس
ظل ينتظر قيامة الجسد عن المجيئ الثاني (2 كو 5: 10، في 3: 20 و 21).

 

4- جسد القيامة: والفصل الرئيسي
الذي يحدثنا عن طبيعة جسد القيامة هو (1 كو 15: 53 – 58). والمشكلة التي يريد
الرسول بولس معالجتها هنا، لا تتعلق بمادة جسد المستقبل، بل بنوعه (عدد 35) "
بأي جسم يأتون؟ "، ولا يتناول المشكلة الأعمق والخاصة بالاختلاف في المادة،
إلا في العدد الخمسين. ووجه التشبيه " بالزرع "، لا تعني تحديد المادة،
بل بالحري، إن صعوبة صياغة مفهوم محدد لقيامة الجسد، ليس برهاناً على استحالتها،
لأن في كل نمو نباتي، يظهر جسم يختلف تماماً عما زرع، تتحدد طبيعته ومظهره حسب
ارادة الله. وليس من حقنا أن نذهب بهذا التشبيه في اتجاهات أخرى، لنلتمس الإجابة
على أسئلة أخرى. ووجود علاقة حقيقية بين الجسد الحالي وجسد المستقبل، يفهم ضمناً
لا تصريحاً. ويوضح العدد السادس والثلاثون أن التمييز بين الجسد الترابي وبذرة
الحياة فيه والتي تصاحبه إلى القبر، ثم تحيا في اليوم الأخير، غير موجود في فكر
الرسول لأن ما يزرع هو الجسد، فهو يموت ثم يحيا بكامله، وبخاصة أن التحول
بالتشبيه، في العدد السابع والثلاثين إلى " حبة مجردة " تلبس النبات
كثوب لها، يثبت أن المقصود منه ليس هو إعطاء معلومات عن درجة التطابق أو ربط
الاستمرارية بين الجسدين، فالحبة المجردة هي الجسد وليست الروح كما يظن البعض
(تيخمان) لأنه قيل عن الحبة إنها تموت، وهو ما لا ينطبق على الروح (انظر أيضاً عدد
44)، والحقيقية هي أنه في كل هذا البحث، لا تدخل الروح الذاتية للمؤمن في دائرة الاعتبار
هنا، فالموضوع كله يدور حول الجسد، ومتى ذكرت الروح فإنما هي روح المسيح.

 

أما بالنسبة لزمن الزرع، فإن بعض الكتاب يعتبرونه الحياة الأرضية بجملتها
وليس لحظة الدفن فقط (كالفن، تيخمان، تشارلز). وفي العددين 42 و 43 توجد بعض نقط
تتعلق بذلك، وبخاصة في العبارات الثلاث الأخيرة: " في هوان "، " في
ضعف "، " جسماً حيوانياً "، فهي تبدو أكثر إنطباقاً على الجسد الحي
منها على الجسد الميت. على أي حال، إذا اتسعت دائرة المفهوم بهذه الصورة، فإن
عملية الذفن تدخل بالتأكيد في عملية " الزرع ". ونقابل مرة أخرى
الاعتراض الناتج عن صعوبة ادراك جسد القيامة، في الأعداد 39 – 41، حيث يستند
الرسول بولس في ذلك على الأشكال الجسدية التي لا حصر لها والتي صنعها الله حسب
مشيئته. ويوضح ذلك من عالم الحيوان (عدد 39)، ومن الاختلاف بين الأجسام السماوية
والأجسام الأرضية (عدد 40)، ومن الاختلاف بين الإجسام السماوية نفسها (عدد 41). و
تتضح قوة الحوار من استخدام كلمتين يونانيتين للتعبير عن معني " آخر ".
والكلمة الأولى وهي " ألوس " (
allos) تعني اختلاف الأنواع في الجنس
الواحد. والكلمة الثانية وهي " هيتروس "
heteros))
تعني اختلاف الجنس (وهذا غير واضح في الترجمه). وفي كل هذا، لا يدور الحوار حول
مادة الأجساد، بل حول النوع، الصفة، المظهر. والخلاصة هي أن جسد القيامة يختلف في
النوع عن الجسد الحالي، فسيكون جسداً آخر مختلفاً (جنساً لا نوعاً فقط). والفروق
مذكورة في العددين 42 و 43 حيث توجد أربع مقابلات، ويبدو أن الثلاث الأولي – في كل
حالة – هي نتيجة للرابعة. فالتناقض الرئيسي هو بين الجسم الحيواني والجسم
الروحاني. ولا نظن أن الرسول بولس يريد أن يعلّم بأن " الفساد " و
" الهوان " و " الضعف " هي نتائج طبيعية حتمية ملازمة لطبيعة
الجسد الترابي، كما أن الصفات المقابلة ضرورية وطبيعية وملازمة للطبيعة الروحية
لجسد القيامة. والنتيجة هي أن الجسد الطبيعي قد أعطي للإنسان عند الخلق. وبناء على
العدد الثالث والخمسين، يسير الفساد والموت معاً، بينما الموت ليس نتيجة الخلق، بل
نتيجة دخول الخطية، حسب تعليم بولس الثابت في كل ماكتب. ولا توجد كلمة " جسم
" في العددين 46 و 47 حيث الاشارة فيهما إلى الخليقة، لأن هذه الكلمة ترتبط –
دائماً في فكر بولس – بالخطية. فالعلاقة إذاً بين الجسد الطبيعي والصفات الشاذة
المنسوبة إليه، ينبغي فهمها على أساس أنه بناء على الطبيعة الأولى، فإن الجسد –
وليس من الضروري من ذاته – سيسقط فريسة لهذه الصفات بدخول الخطية. في هذا يكمن
أيضاً فهم معنى الجسد " الحيواني أو الطبيعي "، فهو يعني الجسد الذي فيه
النفس الطبيعية هي العامل في الحياة، فهي التي تحفظ هذا الجسد حياً، ولكنها لا
تستطيع ذلك على مستوى السماء، حيث أنها معرضة دائماً للموت والفساد. والسؤال الذي
لا بد من مواجهته، هو: لماذا يرجع بولس إلى الحالة الأصلية لجسد الإنسان، ولا
يكتفي بالمقابلة بين الجسد في حالة الخطية والجسد في الحياة الأبدية؟ ونجد الجواب
في ختام الحوار، فقد أراد بولس أن يضيف إلى الحوار إمكانية وجود جسم مختلف، نتيجة
لهذا التشبيه بناء على طبيعة جسد الخليقة الأصلي، فجسد الخليقة – على مبدأ الإنباء
بالأمر قبل حدوثه – يشير فعلاً إلى جسد أسمى سوف نحصل عليه في المرحلة الثانية
للعالم، فإذا كان يوجد " جسم حيواني " فلا بد أيضاً أن يوجد " جسم
روحاني " (عدد 44)، والدليل في التكوين (2: 7).

ويظن البعض أن بولس هنا يتبني العقيدة الفيلونية في خليقة رجلين، وأن
الفقرة الثانية من العدد الخامس والأربعين، مقتبسة من التكوين (1: 27)، ولكن
القرينة تدل على غير ذلك لأن الإنسان الروحي يأتي في كتابات بولس أخيراً وليس أولا
كما في فكر فيلو. كما لايمكن أن تكون العبارة تصحيحاً لفكر فيلو، لأنه لا يمكن أن
يغفل بولس ذلك لو كانت هناك خليقة مزدوجة في (تك 1 و 2)، وبذلك يكون رأي فيلو هو
الوحيد الذي يمكن أن يصححه، مما يعني تصحيح الكتاب المقدس. وإذا كان بولس هنا يصحح
فيلو، فيكون معنى ذلك أنه يرفض التفسير الفيلوني الذي يرى خليقة مزدوجة في سفر
التكوين (انظر 1 كو 11: 7).

 

ومن الواضح أن بولس وجد في التكوين (2: 7) نفسه، اثباتاً لرأيه بوجود جسد
مادي وجسد روحي. وقد رأى بولس خليقة آدم الأول في ضوء كامل، فالخليقة الأولي أعطت
– فقط – الشكل الوظيفي الذي فيه تجسد قصد الله بالنسبة للإنسان، ومن ذلك تطلع إلى
تجسيد آخر لهذه الفكرة على مستوى روحي أسمى (انظر رومية 5: 14)، " الإنسان
الأول من الأرض ترابي، والإنسان الثاني الرب من السماء " (1 كو 15: 47).
وعبارة " من السماء " لا تعني مادة سماوية، لأنه – حتى هنا – بعدم ذكره
المقابل لكلمة " ترابي "، تجنب بولس موضوع المادية. " والجسد
الروحاني " ليس – كما يفترض البعض – جسداً مصنوعاً من الروح كمادة أسمي، لأنه
في هذه الحالة كان على بولس أن يستخدم كلمة " روحاني " مقابل " ترابي
".

 

أما موضوع المادة فقد لمسه بولس سلبياً في العدد الخمسين: " لحماً
ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت الله ". ولكن لم يذكر الرسول ما سيحل محلهما.
ولفهم المعنى غير المادي لكلمة " روحاني " انظر (رو 15: 27، 1 كو 9: 11،
10: 3 و 4، أف 1: 3، 5: 19، 6: 12، كو 1: 9)، والشيئ الإيجابي الذي نتعلمه من ذلك
هو أن جسد قيامة المؤمن سيكون على صورة جسد المسيح (عدد 49).

 

سابعاً – تغير الأحياء عند المجيئ الثاني:

 

 وهذا قاصر على المؤمنين، فالعهد الجديد لا يذكر
شيئاً عن تغيير يحدث في أجساد غير المؤمنين الأحياء الذين سيقامون عند المجيئ
الثاني. والفصول التي تشير إلى ذلك هي: (1كو 15: 51 – 53، 2 كو 5: 1 – 5، في 3: 20
و 21)، والشاهد الثاني منها سبق شرحه: إنه يتحدث عن التغيير مجازياً بتشبيهه بلبس
الجسد السماوي فوق الجسد الترابي، ونتيجة لذلك يبتلع من الحياة فيختفي. وهذا التشبيه
يبدأ بالجسد الجديد الذي يبتلع القديم. أما في (1 كو 15، في 3) – من الناحية
الأخرى – فنقطة الانطلاق هي من الجسد القديم الذي يتغير إلى الجديد. والفرق بين
القيامة وتغيير الأحياء يظهر في التشبيهين " نلبس "، " ونلبس فوقها
". (2 كو 5: 1 – 5).

 

ويجد بعض المفسرين في (1 كو 15: 51 – 53) وصفاً للعملية، صيغ في عبارات
عامة يمكن تطبيقها على الذين سيقامون والأحياء الذين سيتغيرون. وإذا أخذنا بهذا
الرأي، فإنه يقوم دليلاً جديداً على الاستمرارية بين الجسد الحالي وجسد القيامة.

 

ويرى البعض الآخر هنا أن بولس وقراءه كانوا جميعاً، " كلنا "،
يتوقعون أنهم سيحيون إلى المجيئ الثاني ويتغيرون أحياء، وهو، في هذه الحالة، لا
يلقي ضوءاً على عملية القيامة. والتفسير الأكثر قبولاً هو الذي يربط كلمة "
لا " " بكلنا " بدلاً من الفعل " نرقد "، وبذلك يكون
بولس قد أراد أن يؤكد أن ليس " الكل " سيموتون، ولكن الكل سواء كانوا
أحياء أم أموات سيتغيرون عند المجيئ الثاني. ولكن الصعوبة في هذا التفسير، تكمن في
محاولة تغيير صياغة الجملة.

 

أما في فيلبي (3: 20 و 21) فلا يوجد ما يسمح بالجزم بما إذا كان الرسول
يحسب نفسه وقراءه أحياء في لحظة المجيئ الثاني، أو أنه يتحدث بصفة عامة لتغطية كلا
الاحتمالين.

 

ثامناً – الدينونة:

 

ستحدث الدينونة في " يوم " (مت 7: 22، 10: 15، 24: 36، لو 10: 12،
21: 34، 1 كو 1: 8، 3: 13، 2تي 4: 8، رؤ 6: 17)، ولكن هذا يستند على مفهوم العهد
القديم " ليوم الرب "، ويجب إلا يؤخذ حرفياً حيث تستخدم كلمة "
ساعة " بدلاً من " يوم " (مر 13: 23، رؤ 14: 7). ومع أن الدينونة
لا تنحصر في يوم فلكي، فإنها بكل يقين فترة محدودة، وليست عملية غير محدودة. إنها
تتزامن مع المجيئ الثاني، ولا يتحدث العهد الجديد – في أي مكان منه – عن دينونة
فورية بعد الموت، حتى في العبرانيين (9: 27 و 28).

 

ومكان الدينونة هو الأرض كما يبدو من ارتباطها بالمجيئ الثاني (مت 13: 41 و
42، مر 13: 26 و 27) مع أن البعض يستنتج من (1 تس 4: 17)، فيما يختص بالمؤمنين،
إنها ستكون في الهواء. ولكن هذا الفصل لا يتحدث عن الدينونة بل يتحدث فقط عن
المجيئ الثاني، واجتماع المؤمنين مع المسيح.

 

والديان هو الله (مت 6: 4 و 6 و 14 و 18، 10: 28 و 32، لو 12: 8، 21: 36،
أع 10: 42، 17: 30 و 31، رو 2: 2 و 3 و 5 و 16، 14: 10، 1 كو 4: 3 – 5، 5: 13، عب
12: 25، 13: 4، 1 بط 1: 17، 2: 23، رؤ 6: 10، 14: 7)، ولكن أيضاً المسيح، ليس في
المشهد العظيم الموصوف في متى (25: 31 – 46) فحسب، بل أيضاً في (مرقس 8: 38، 13: 26،
مت 7: 22، لو 13: 25 – 27، أع 17: 31، 2 كو 5: 10، رؤ 19: 11)، ومن هنا يتغير
مفهوم العهد القديم عن " يوم يهوه " إلى " يوم الرب " (1 كو 5:
5، 2 كو 1: 14، 1 تس 5: 2، 2 بط 3: 10). وفي جلسة المحاكمة النهائية، لا نجد أن
الدينونة – في الأخرويات اليهودية المبكرة – من اختصاصات المسيا إلا في أخنوخ (51:
3، 55: 4، 61: 10 و 63). أما في الرؤى المتأخرة فيظهر المسيا كديان } عزرا الرابع
(أو إسدراس الثاني) 13، رؤيا باروخ 72: 2 – انظر الأقوال السبليانية 3: 286 { .
أما من جهة تنفيذ القضاء، فإن الدينونة – من البداءة – تشكل جزءاً من عمل المسيا،
وهذا ما قال به يوحنا المعمدان، وذكره بولس كثيراً _ مت 3: 10 و 11 و 12، لو 3: 16
و 17، 2 تس 2: 8 و 10 و 12). والمسيح ينسب الدينونة لنفسه بمعناها القضائي وهو
يمارس هذا الحق فعلاً الآن، في مغفرة الخطايا (مر 2: 5 و 10). وفي الإنجيل الرابع
ينفي أن عمله الحالي يشمل إجراء الدينونة (يو 8: 15، 12: 47) ولكن واضح (من 5: 22
و 27) أن هذا لا ينفي سلطانه القضائي الأخروي، (لاحظ القول: " كل الدينونة
" في عدد 22، مما يثبت أنه يتكلم عن " اليوم الأخير ")، ولكن حتى
في الحاضر، بطريقة غير مباشرة، حسب ما جاء في إنجيل يوحنا، للمسيح – بظهوره
ورسالته – حق إدانة الناس (8: 16، 9: 39)، وقد بلغ ذلك ذروته عند آلامه وموته:
" الآن دينونة هذا العالم، الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجاً " (12: 31،
14: 30، 16: 11).

 

وهناك نصيب في الدينونة للملائكة والقديسين (مت 13: 39 و 41 و 49، 16: 27،
24: 31، 25: 31، 1 تس 3: 13، 2 تس 1: 7، يهوذا 14 وما بعده). أما بالنسبة للملائكة
فهي خدمة خالصة، أما أن القديسين لهم نصيب فيها، فيؤكده ما جاء في (1 كو 6: 1 –
3)، فلهم دور، عليهم القيام به، في الدينونة نفسها، أما الإشارة إلى الدينونة في
فصول مثل (مت 19: 28، 20: 23، لو 22: 30، رؤ 3: 21)، فليست هي إشارة إلى الدينونة
بمعناها الصحيح، بل إلى الدينونة بمعني " الحكم "، فهو يعد بعض القديسين
بمراكز مرموقة في ملكوت المجد.

 

وتشمل الدينونة جميع الناس: صور وصيدون وسدوم، وكذلك مدن الجليل (مت 11: 22
و 24) وكل الأمم (25: 32، يو 5: 29، أع 17: 30 و 31، رو 2: 6 و 16، 2 كو 5: 10)،
كما تشمل أيضاً الأرواح الشريرة (1 كو 6: 3، 2 بط 2: 4، يهوذا 6). إنها دينونة
بحسب الأعمال، وليس ذلك في حالة غير المؤمنين فحسب، بل إن أعمال المؤمنين سيكون
لها أيضاً اعتبارها (مت 25: 34 وما بعده، 1 كو 4: 5، 2 كو 5: 10، رؤ 22: 12). وإلى
جانب هذا فإننا نعلم من الأناجيل الثلاثة الأولي أن العامل الحاسم سيكون اعتراف
الأفراد بيسوع، وذلك يتوقف بدوره على موقفهم من المسيح هنا، بصفة مباشرة أو غير
مباشرة (مت 7: 23، 19: 28، 25: 35 – 45، مر 8: 38). ويؤيد بولس مبدأ الدينونة بحسب
الأعمال، ولكن ليس كمجرد افتراض ذلك كمبدأ يسبق ويشكل أساس عمل الله لخلاص الإنسان
(رو 2)، ولذلك فهو ينطبق على غير المؤمنين الذين لا يوجد أساس آخر لدينونتهم،
ويسرى أيضاً على المؤمنين الذين حصلوا فعلاً – تحت التدبير الخلاصي للنعمة – على
تبرئة أبدية بالتبرير، وهذا يثير مشكلة مزدوجة:

 

أ لماذا لا يجعل التبرير الدينونة النهائية أمراً لا لزوم له؟.

ب لماذا تكون الدينونة النهائية للمسيحيين المخلصين بالنعمة على أساس
الأعمال؟.

 

أما عن (أ) فيجب أن نتذكر أن الدينونة النهائية تختلف عن التبرير، في أنها
ليست عملاً سرياً، ولكنها عمل علني عام، حيث يؤكد الرسول بولس عنصر العلانية (رو 2:
16، 1 كو 3: 13، 2 كو 5: 10)، وبالاتفاق مع هذا، فإن الله الآب هو دائماً منشيء
التبرير، بينما يظهر المسيح – كقاعدة عامة – رئيساً للمحكمة في اليوم الأخير.

 

أما عن (ب) فلأن الدينونة الأخيرة ليست سرية بل علنية، لذلك يجب أن يؤخذ في
الاعتبار أمر أبعد مما يدور عليه المصير الأبدي للفرد، فيمكن أن يكون هنا عدم
الرضا عن الأعمال، مع ذلك يخلص (1 كو 3: 15)، ولكن امتحان الأعمال ضروري لإثبات
عدالة الله، ولأجل هذا يجب أن تجرى الدينونة علناً لإعلان القضاء على الخطية
تماماً في الإنسان واتمام عمل البر فيه. ويشمل ذلك ليس مجرد تبرئته من الإثم، بل
أيضاً خلاصه من قوة الخطية، ليس بره المحسوب له فحسب، بل بر الحياة نفسها. ولكي
نوضح ذلك بالتفصيل، يجب أن تشمل الدينونة ثلاثة أشياء: الإيمان (غل 5: 5)،
والأعمال التي تتم في حياة المؤمن، والتقديس. علاوة على ذلك تظهر أعمال المسيحي
كمقياس للمكافأة أو الأجر العظيم (مت 5: 12 و 46، 6: 1، 10: 41 و 42، 19: 28، 20: 1
– 16، 25: 14 – 45، مر 9: 41، لو 6: 23 و 35، 1كو 3: 8 و 14، 9: 17 و 18، لو 2: 18،
3: 24، عب 10: 35). وهذه الأعمال لا تقَّيم – كما في اليهودية – على مستوى آلي أو
تجاري، لأن بولس يتكلم – بالحري – عن " العمل " بصيغة المفرد (رو 2: 7 و
15، 1 كو 3: 13، 9: 1، غل 6: 4، أف 4: 12، في 1: 6 و 22، 1 تس 1: 3، 2 تس 1: 11).
وهذا الناتج العضوي الواحد " للعمل " مرجعه إلى اًصل الإيمان (1 تس 1: 3،
2 تس 1: 11)، ويتحدث عنه الرسول كممارسة وعمل كل ما هو حسن بصورة منتظمة.

 

وتحدد الدينونة لكل واحد مصيره الأبدي، المطلق في طبيعته، سواء السعادة أو
العذاب، وإن كان من المسلم به أن هناك تفاوت في الحالتين. ولا توجد سوى جماعتين
متميزتين، هما المدانون والمخلصون (مت 25: 33 و 34، يو 5: 29) ولا يوجد بينهما
مطلقاً فريق وسط، غير محدد المصير. ودرجة المذنوبية تتوقف على مدى معرفة إرادة
الله في الحياة (مت 10: 15، 11: 20 – 24، لو 10: 12 – 15، 12: 47 و 48، يو 15: 22
و 24، رو 2: 12، 2 بط 2: 20 – 22). ونجد دائماً أن الدينونة تجري على أساس ما فعله
الإنسان وهو في الجسد، في هذه الحياة، ولا نجد في أي مكان أي إشارة إلى أن السلوك
في الحياة المتوسطة له أي أثر في الدينونة (2 كو 5: 10). والحكم الصادر هو حكم
نهائي دائم حيث يوصف بأنه "أبدي ". وبينما كلمة " أبدي "
لغوياً لا تعني أكثر ما يمتد إلى " زمن معين أو مدة معينة "، إلا أن
معناها الأخروي يربطها دائماً " بالدهر الآتي "، وحيث أن هذا " الدهر
" أبدي لا نهاية له، فكل حالة أو مصير يرتبط به، لا بد أن تكون له نفس الصفة.
لذلك من المستحيل – من الناحية التفسيرية – أن نعطي معني نسبياً لمثل هذه العبارات:
" نار أبدية " (مت 18: 8، 25: 41، يهوذا 7)، " وعذاب أبدي "
(مت 25: 46)، " وهلاك أبدي " (2 تس 1: 9)، " ودينونة أبدية "
(مر 3: 29، عب 6: 2). ويظهر هذا أيضاً في الأوصاف المجازية التي توضح المعنى
المقصود بكلمة " أبدي ": " نار لا تطفأ " (مت 3: 12)، "
دود لا يموت " (مر 9: 23 – 48)، " يصعد دخان عذابهم إلى أبد الآبدين
" (رؤ 14: 11)، " وسيعذبون نهاراً وليلاً إلى أبد الأبدين " (رؤ 20:
10) ودوام حالة العذاب إلى ما لا نهاية، تتطلبه أيضاً أبدية " الحياة الأبدية
" (مت 25: 46).

ولتدعيم عقيدة الخلود المشروط، يقولون إن بعض التعبيرات الوصفية لمصير
المدانين مثل: " هلاك "، " فساد "، " عطب "،
"موت " تشير بالأحرى إلى توقف الوجود. ولكن هذا يستند على تفسير غير
كتابي لهذه المصطلحات التي تدل – في كل مكان توجد فيه، في العهدين القديم والجديد
– على الوجود في حالة غير مرغوب فيها، ولا تعني مطلقاً النفي القاطع للوجود، كما
أن كلمة " الحياة " في الكتاب المقدس تدل على شكل إيجابي للوجود. والكلمات:
" هلاك، فساد، عطب، وموت " تستخدم في كل هذه الحالات بالإشارة إلى سعادة
الإنسان أو حالته الروحية الأخلاقية بدون التلميح إلى إفناء وجوده الجسدي.

 

ولا يوجد في العهد الجديد ما يؤيد القول بأن " رد كل شيئ " يشير
إلى " الخلاص النهائي لكل الناس ". وهذا التعبير: "رد كل شيئ
" لا يرد إلافي (أع 3: 21) حيث لا توجد له دلالة كونية شاملة، بل يتصل باتمام
الوعود لإسرائيل. ويستخدمها يوسيفوس للتعبير عن رد اليهود إلى أرضهم بعد السبي،
ويستخدمها فيلو للتعبير عن رد الميراث في سنة اليوبيل (ملاخي 4: 6، مت 17: 11، مر
9: 12، أع 1: 6). ويرى البعض " الخلاص الشامل المطلق " في (رو 5: 18، 1
كو 15: 22 و 28، أف 1: 10، كو 1: 20)، ولكن كل هذه الأجزاء إنما تشير إلى أن
الخلاص مقدم للجميع وليس فيها ما يشير إلى عقيدة خلاص كل فرد، فهذه العقيدة تتعارض
تعارضاً مباشراً مع كل أقوال بولس الواضحة في كل مكان عن مبدأ تعيين الله السابق
وأبدية مصير الأشرار.

 

تاسعاً – حالة الكمال:

 

بجانب التعبير " الدهر الآتي "، نجد التعبير " ملكوت الله
" الذي يصف حالة الكمال التي سيكون عليها المؤمنون بعد الدينونة. وبينما
يتكلم يسوع عن الملكوت كحقيقة واقعة، إلا أنه يستمر في الحديث عنه بمعناه الأخروي،
عن " الملكوت " الذي سيكون في المستقبل (مت 13: 43، 25: 34، 26: 29، مر
9: 47، لو 12: 32، 13: 28 و 29، 21: 31). كما يحمل هذا التعبير لدي بولس – في أكثر
الأحيان – معنى أخرويا، مع أنه في أحيان أخرى يستخدمه للتعبير عن حالة المؤمنين
الآن (رو 14: 17، 1 كو 4: 20، 6: 9 و 10، 15: 24 و 50، غل 5: 21، أف 5: 5، كو 1: 13،
4: 11، 1 تس 2: 12، 2 تس 1: 5، 2تي 4: 1 و 18). كما يرد المعني الأخروي في (عب 12:
28، يع 2: 5، 2 بط 1: 11، رؤ 11: 15). والفكرة هنا عامة ولاتنفي أن بعض الامتيازات
تشير بصفة خاصة إلى إسرائيل. ومع أن الملكوت الأخروي يختلف عن الملكوت الحالي،
وبخاصة في حقيقة أنه سيكون له تجسد منظور واضح، إلا أن هذا لا يمنع من أنه – في
اللب – مكون من حقائق وعلاقات روحية، هي نفسها التي تشكل الملكوت الحالي، بل وسيكون
له مظهره الخارجي كما يتضح من تعليم القيامة والأرض الجديدة. لذلك فإن التشبيهات
التي يذكرها الرب يسوع مثل الأكل والشرب والإتكاء في الوليمة – والتي لا يجب أن
تفهم حسياً – لا يجب أيضاً أن تفسر مجازياً وكأنها تشير فقط إلى عمليات روحية
باطنية تماما، فهي تشير بوضوح إلى، أو على الأقل تشتمل على، حالات وأنشطة خارجية،
– تحمل حياتنا الحسية بعض وجوه الشبه منها ولكنها ستكون على مستوى أعلي يصعب علينا
في الوقت الحاضر تكوين أي مفهوم محدد له أو التحدث عنه بغير لغة التشبيه والمجاز.
ومرادف " الملكوت " هو " الحياة " ولكن " الحياة "
تختلف عن الملكوت في أن لها _ على الدوام – في الاناجيل الثلاثة الأولى، مفهوماً
أخروياً، ويجب أن يكون هذا المفهوم موضوعياً، فهي حالة السعادة التي سيوجد فيها
القديسون، وليس مفهوماً ذاتياً كأنها طاقة ذاتية في الإنسان أو عملية تطور (مت 7: 14،
18: 8 و 9، 19: 16 و 29، 25: 46، مر 10: 30). وفي إنجيل يوحنا نجد " الحياة
" حالة واقعة، وبذلك يصبح لها مفهوم ذاتي، وتصبح عملية نمو وامتداد. ونجد نقط
الالتقاء مع هذا الفكر في الأناجيل الثلاثة الأولي في (مت 8: 22، لو 9: 60، 15: 24،
10: 38). وعندما توصف الحياة الأخرى بأنها " أبدية "، فالإشارة هنا ليست
دائماً إلى استمرارها إلى الأبد فحسب، إذ أن الكلمة تتضمن – بالإضافة إلى هذا –
معنى يدل على النوعية، فهي تصف نوع الحياة التي ستكون في حالة الكمال (فهذه الصفة
تستخدم بهذا المعنى مع بعض الأسماء الأخرى في: 2 كو 5: 1 و 2، 2 تي 2: 10، عب 5: 9،
9: 12 و 15، 2 بط 1: 11، ونجد توضيحاً لهذا المفهوم في 1 بط 1: 4).

والحياة عند بولس، لها أحياناً معني أخروي (رو 2: 7، 5: 17، تي 1: 2، 3: 7)،
ولكن يفهم منها – في أغلب الأحيان – أنها قد أعطيت فعلاً في الحالة الحاضرة،
بالنسبة للارتباط الوثيق بالروح (رو 6: 11، 7: 4 و 8 و 11، 8: 2 و 6، غل 2: 19، 6:
8، أف 4: 18). وفي التحليل الشامل لمفهوم بولس " للحياة " – وهو مماثل
لأقوال المسيح – نجد أنها تعتمد على الشركة مع الله (مت 22: 32، مر 12: 27، لو 20:
38، رو 8: 6 و 7، أف 4: 18).

والكلمة الثانية الملازمة لفكر بولس عن حالة الكمال، هي كلمة " المجد
" وهذا المجد هو دائماً انعكاس لمجد الله، وهذا ما يجعل له – في فكر بولس –
قيمة روحية، وليس مجرد التألق الخارجي الذي قد يبدو به، ومن هنا جاء عنصر "
الكرامة " الملازم له (رو 1: 23، 2: 7، 18: 21، 9: 23، 1 كو 15: 43)، وهو لا
يقتصر على الدائرة الطبيعية (2 كو 3: 18، 4: 16 و 17)، والمظهر الخارجي هو أداة
للاستعلان ودلالة على الحالة الداخلية للقبول لدى الله. وعلى العموم، فإن مفهوم
بولس للحالة النهائية مفهوم يرتفع إلى هذا المستوى الإلهي العظيم (1 كو 15: 28)،
إنه حالة الرؤيا المباشرة والشركة الكاملة مع الله والمسيح، فالحياة المستقبلة
وحدها، هي التي ستحقق البنوية الكاملة (رؤ 6: 10، 8: 23 و 29 – انظر لو 20: 36، 2
كو 4: 4، 5: 6 و 7 و 8، 13: 4، في 1: 23، كو 2: 13، 3: 3 و 4، 1 تس 4: 17).

 

ومكان الحالة الكاملة هو السماء الجديدة والأرض الجديدة وقد خرجتا إلى
الوجود بولادة ثانية أخروية، أي " التجديد " (مت 5: 18، 19: 28، 24: 35،
1 كو 7: 31، عب 1: 12، 12: 26 و 27، 2 بط 3: 10، 1 يو 2: 17، رؤ 21: 1 – وإن كان
بعض المفسرين يرون في الشاهد الأخير أن المدينة ترمز إلى الكنيسة أي شعب الله).
ولا يعلمنا الكتاب أن مادة العالم الحاضر ستفني (انظر مقارنة احتراق العالم
مستقبلاً بالطوفان في 2 بط 3: 6). وسيكون مركز إقامة المفديين في السماء، ولو أن
الأرض الجديدة ستظل في متناولهم وجزءاً من الميراث (مت 5: 5، يو 14: 2 و 3، رو 8: 18
– 22 – وكذلك المشاهد الأخيرة في سفر الرؤيا).

 

عاشراً – الحالة الوسيطة:

 

أي حالة الموتي قبل المجيئ الثاني، والعهد الجديد في معالجته لهذا الموضوع،
أقل وضوحاً مما يختص بالأخرويات العامة. ويمكن هنا ملاحظة النقاط التالية:

 

1- تشَّبه حالة الموت – في أغلب
الأحوال – " بالرقاد " أو " النوم " (مت 9: 24، يو 11: 11، 1
كو 11: 30، 15: 6 و 18 و 20 و 51، 1 تس 4: 13 و 15، 2 بط 3: 4). وهذا الاستعمال
المجازي، مع أنه تعبير يوناني محض، إلا أنه يستند على العهد القديم، مع هذا الفارق:
إنه في العهد الجديد (كما في كتب الأبوكريفا والكتب المزيفة) يستخدم غالباً في
الإشارة إلى الموتي الأبرار، وتقترن به فكرة استيقاظهم المبارك في القيامة، بينما
في العهد القديم يستخدم لكل الأموات بلا تفرقة، أما بولس فلا يستخدمه إلا للمؤمنين
فقط. وهذا التعبير لا ينطبق على " النفس " أو " الروح "، بما
يعني أنها في حالة من عدم الوعي إلى يوم القيامة، بل هو وصف للشخص، ونقطة المقارنة
هي: كما أن النائم ليس حياً بالنسبة لما يحيط به، هكذا الميت لم يعد في انسجام مع
هذه الحياة الأرضية. ومهما كان استعمال الكلمة أصلاً، فمن الواضح أنها أصبحت – قبل
العهد الجديد بمدة طويلة – تستخدم بصورة مجازية – مثل كلمة " يستيقظ "،
التي تستخدم أيضاً مجازياً – للدلالة على عملية القيامة. ولأن الموتي نائمون
بالنسبة لحياتنا الأرضية التي نحياها في الجسد، فإن ذلك لا يعني أنهم نائمون بالنسبة
لأي علاقات اخرى، أو أنهم نيام بالنسبة لحياة العالم الآخر، بمعني أن أرواحهم لا
تعي ولا تدرك. ونجد ما يناقض عدم إدراك الموتي في (لو 16: 23، 23: 43، يو 11: 25 و
26، أع 7: 59، 1 كو 15: 8، في 1: 23، رؤ 6: 9 – 11، 7: 9). ويظن البعض أن بولس
استخدم كلمة " رقاد " لكي يتجنب بلباقة استخدام كلمة " موت "
أو "يموت " التي اقتصر استخدامها على المسيح، ولكن (1 تس 4: 16) يثبت أن
هذا زعم لا أساس له.

 

2- يتحدث العهد الجديد عن
المنتقلين، بأوصاف مجسدة، وكأن مازالت لهم أعضاء جسدية (لو 16: 23 و 24، رؤ 6: 11،
7: 9). ولايمكن الاستدلال بهذا على نظرية وجود جسد في الحالة الوسيطة، حيث أنه
يقال نفس الشيئ عن الله والملائكة، وكذلك بناء على الفصول التي تشير بالتحديد إلى
الموتي على أنهم " نفوس "، " أرواح " (لو 23: 46، أع 7: 59،
عب 12: 23، 1 بط 3: 19، رؤ 6: 9، 20: 4).

 

3- لا يوجد في العهد الجديد ما
يشجع الأحياء على محاولة الحديث مع الموتي، فالكلام عن " الموتي" بأنهم
" نائمون " بالنسبة للحياة الأرضية، يدل بوضوح على أن مثل هذا الحديث
أمر غير طبيعي، وبذلك فإنه يرفضه ويشجبة، بدون التأكيد بجلاء على استحالته تماماً،
كما لا يثبت في أي مكان، إمكانية اطلاع الموتى على حياتنا على الأرض. والعبرانيين
(12: 1)، ليس من اللازم – وهو يتكلم عن قديسي العهد القديم " كشهود "
لنا في جهاد الإيمان – إنه يعني شهوداً بالمعنى الحسي، بل لعله يقصد المعنى
المجازي، بمعنى أنه يجب علينا أن نذكر مثالهم، وكأن الدهور الماضية وشخصياتها
التاريخية، تتطلع إلينا من الأعالي (لو 16: 29، أع 8: 9، 13: 6 وما بعده، 19: 13،
وما بعده).

 

4- أما بالنسبة للقديسين الراحلين
أنفسهم، فإننا نعلم يقينا أنهم يعرفون بعضهم بعضاً في الحالة الوسيطة، ويذكرون
حقائق وظروف الحياة الأرضية (لو 16: 9 و 19 – 31) ولا يوجد – في أي مكان من الكتاب
– ما يدل على أن اهتمام القديسين بأمورنا الزمنية، يعني قيامهم بعمل الشفاعة، أو
القيام بالشفاعة تلقائياً من جانبهم.

 

5- لا يعلمنا العهد الجديد بوجود
أي إمكانية لتغيير أساسي في الأخلاق أو الصفات الروحية، في الحالة الوسيطة. أما ما
يسمى بعقيدة " الفرصة الثانية للاختبار " فلا نجد لها أي سند حقيقي في
العهد الجديد، والفصلان الوحيدان اللذان يمكن الاستناد إليهما في وجود شبهة في هذا
الصدد، هما (1 بط 3: 19 – 21، 4: 6). وما نستطيع أن نذكره هنا، بكل بساطة، هو أن
القرينة لا تدل على امتداد فرصة التجديد إلى ما بعد الموت (وسنتكلم بالتفصيل عن
ذلك عند الكلام عن الأرواح التي في السجن). وخلاصة القول إن الفصل كله يتجه إلى
عكس ذلك، حيث أنه ينبر على خلاص هذا العدد القليل، " ثماني أنفس " في
جيل نوح (3: 20). وعلاوة على ذلك، فإنه من الصعب فهم لماذا تمنح هذه الفرصة
الاستثنائية لهذه المجموعة من الموتي بالذات، حيث أن معاصري نوح مثال للشر الفظيع،
حيثما يذكرون في الكتاب المقدس. حتى إذا افترضنا وجود فكرة التبشير بالإنجيل لغرض
الخلاص، في هذا الجزء، فإن هذا لا يقدم أساسًا كافياً لبناء الاعتقاد بوجود فرصة
ثانية للاختبار أمام جميع الموتي بوجه عام، أو أمام الذين لم يسمعوا الإنجيل في
حياتهم. فهذا الرأي الأخير بالذات لا يجد له أي سند في الآية، لأن جيل نوح قد كرز
لهم بالإنجيل قبل موتهم، كما لا يوجد ما يدل على أن هذا الإجراء المشار إليه، قد
تكرر أو استمر على وجه التحديد.

 

أما بخصوص الشاهد الثاني (1 بط 4: 6) فيجب النظر فيه على حدة وحسب القرينة
الخاصة به، فافتراض أن عبارة: " لأجل هذا بشر (بالإنجيل) الموتي " لها
معناها الذي حدده ما جاء في (3: 19 – 21)، كان له تأثيره السيء في التفسير.
والأرجح أنه لم يكن في فكر الكاتب أي ارتباط بين هذين الجزءين، لأن شرح الإشارة
إلى " الموتي " بالارتباط مع العدد السابق مباشرة، يكفي تماماً حيث نقرأ
أن المسيح " على استعداد أن يدين الأحياء والأموات " أي الأحياء
والأموات الذين سيكونون أحياء أو أموات عند المجيء الثاني، فكلا الفريقين قد بشر
بالإنجيل، ولذلك فالمسيح سيكون دياناً لكليهما، ولكن ليس ثمة ما يشير إلى أن
الإنجيل بشر به للموتي وهم في حالة الموت، بل على النقيض، نجد أن الجملة الإضافية
الهادفة: " لكي يدانوا حسب الناس بالجسد " تدل على أنهم قد استمعوا إلى
الإنجيل في حياتهم، لأن دينونتهم حسب الناس في الجسد، التي وقعت عليهم هي دينونة
الموت الجسدي. وإذاكانت ثمة علاقة وثيقة بين الأصحاح الثالث ومافي الأصحاح الرابع،
فإنما لتثبت صدق التفسير الذي يرى في الأصحاح الثالث أن الكرازة بالإنجيل تمت
لمعاصري نوح إبان حياتهم على الأرض، وبذلك يصبح من الطبيعي والمنطقي أن الدينونة
حسب الناس بالجسد كانت هي الطوفان.

 

6- بينما يعلن العهد الجديد أن
حالة الموتي قبل المجيئ الثاني هي حالة ثابتة، إلا أنه لا يطابق بينها – لا في
درجة السعادة ولا في درجة العقاب – وبين الحالة التي سوف تكون بعد القيامة، ومع
أنه لا يوجد أي أساس للظن بأن حالة الموت تعتبر بالنسبة للمؤمنين حالة مؤلمة كما
يستدل خطأ من (1 كو 11: 30، 1 تس 4: 13)، إلا أن بولس ينفر منه كما من حالة غير
مرغوب فيها نسبياً، حيث أنها تعني " عري " النفس، وهي حالة لا يستبعد
معها وجود درجة كبيرة نسبياً من السعادة في شركة مع المسيح (2 كو 5: 2 – 4 و 6 و 8
في 1: 23).

 

وعلى هذا المنوال، نجد فرقاً واضحاً في درجة أو كيفية الدينونة في الحالة
الوسيطة، عنها في " الدهر الآتي "، لأنه – من ناحية – ترتبط الدينونة
بأشخاص في الجسد (مت 10: 28)، ومن ناحية أخرى نجدها محددة بمكان معين هو "
جهنم " التي لا تذكر مطلقاً مرتبطة بالعذاب في الحالة الوسيطة، وتذكر كلمة
" جهنم " في (مت 5: 22 و 29 و 30، 10: 28، 18: 9، 23: 15 و 33، مز 9: 43
و 45 و 47، لو 12: 5، يع 3: 6، 2 بط 2: 4)، ويقابلها في الطرف الآخر " ملكوت
الله " الأخروي (مر 9: 47).

أما " أبوسوس " أي الهاوية، فتختلف عن " جهنم " في أن
لها علاقة بعذاب الأرواح الشريرة (لو 8: 31، رو 10: 7، رؤ 9: 21، 11: 7، 20: 1)،
وبالنسبة لها، لا يوجد تمييز واضح بين الدينونة المبدئية والدينونة النهائية (انظر
أيضاً: وفي سلاسل الظلام طرحهم في جهنم وسلمهم محروسين للقضاء " – على
الأرواح الشريرة – 2 بط 2: 4). ونفهم أن الحالة الوسيطة لها مكان معين، من كلمة
" هادس " المرادفة لكلمة " شئول " في العهد القديم، كما نرى
ذلك في (مت 11: 23، 16: 18، لو 16: 23، أع 2: 27 و 31، 1 كو 15: 55 حيث تذكر في
بعض النسخ على أنها " موت "، رؤ 1: 18، 6: 8، 20: 13 و 14) ويجب إلا
تفسر هذه الفصول بحسب اليونانية الكلاسيكية، بل في ضوء تعليم العهد القديم عن
" شئول " (الهاوية).

 

وفي بعض هذه المواضع لاتستخدم الكلمة للدلالة على مكان لحالة الموت (مت 16:
18 – وربما أع 2: 27، 31 -، 1 كو 15: 55، رؤ 1: 18، 6: 8، 20: 13)، والموضع الوحيد
الذي لها فيه دلالة مكانية هو (لو 16: 23)، وذلك في المثل الذي لا يهدف إلى إعطاء
معلومات طبوغرافية عن عالم ما بعد الموت، ولكنه يعطي صورة لما كان شائعاً. ولكن
حتى لو وجدنا هنا ما يشير إلى أن الهاوية مكان منفصل عن جهنم، فإن العبارات التي
تذكر أنها مكان عذا ب للغني، تثبت أن المراد منها ليس أنها مكان محايد لا سعادة
فيه ولا عذاب وأن الموتي كجماعة واحدة ينتظرون الدينونة الأخيرة. إن المثل يعلمنا
بوضوح – سواء كانت الهاوية مكاناً منفصلاً عن جهنم أو لم تكن – أن التمييز بين
السعادة والعذاب في طبيعته الجوهرية (عدد 26) قد بدأ فيها وأنه لن يبدأ عند
الدينونة.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي