بابل
– السبي البابلي

 

حدث
السبي البابلي ليهوذا علي يد نبوخذراصر ملك بابل الكلداني. فبينما تعرضت المملكة
الشمالية (إسرائيل) للكثير من الانقلابات وقيام أسرات ملكية في تعاقب سريع، ظلت
مملكة يهوذا موالية لبيت دواد، وقد ساعد علي ذلك وجود الهيكل والكهنوت في أورشليم
عاصمة يهوذا، وقد استمرت مملكة يهوذا نحو 150 سنة بعد القضاء علي المملكة الشمالية
– (إسرائيل) علي يد الأشوريين.

1- إنحلال الامبراطورية الأشورية: فبعد سرجون الذي
غزا السامرة في 722 ق.م. جلس علي عرش أشور بعض الملوك العظام الذين اشتهروا
بفتوحاتهم والمباني الكثيرة التي أقاموها والكتابات والنقوش العديدة التي خلفوها،
مثل سنحاريب وآسرحدون وأشور بانيبال. وعندما مات أشور بانيبال في 625 ق.م.، كانت
الامبراطورية الأشورية قد أوشكت علي الانحلال، فضعفت قبضتها علي الأقطار الغربية،
وبدأت الشعوب الخاضعة للجزية في التمرد وشق عصا الطاعة، فزحفت حجافل السكيثيين –
وهم قبائل بدوية من الجنس الآري – من المنطقة المحصورة بين جبال القوقاز وبحر
قزوين، علي الامبراطورية الأشورية حتي وصلت إلي فلسطين وحدود مصر. وتلقي نبوات
إرميا وصفنيا الضوء علي أسلوبهم في الحرب وطبائعهم الشرسة، ولكن مصر صدتهم، ويبدو
أنهم عادوا أدراجهم شمالاً دون أن يحاولوا غزو يهوذا.

2- سقوط نينوي في 606 ق. م.: أطبقت هذه الجحافل
الزاحفة من الشمال علي نينوي، وكانت قوة أشور قد بدأت في الاضمحلال في كل ناحية.
ويتنبأ النبي ناحوم في " وحي علي نينوي " عن ابتهاج يهوذا بسمع الأخبار
المفرحة عن سقوط نينوي القريب " " هوذا علي الجبال قدماً مبشر مناد
بالسلام! عيدي يايهوذا أعيادك أو في نذورك، فإنه لايعود يعبر فيك أيضاً المهلك –
قد انقرض كله " (1: 5 مع 3: 8 – 11)، واستعاد الميديون استقلالهم وتحالفوا
بزعامة ملكهم سياجزارس مع الكلدانيين الذين سرعان ما ثاروا بقيادة نبو بولاسار
نائب الملك علي بابل، وحشد نبو بولاسار حوله كل هذه القوي المتمردة وحاصر نينوي
عاصمة اشور في 606 ق.م. فسقطت نينوي التي كانت قصبة المملوك الاقوياء والفاتحين
العظام، والتي أكثرت تجارها أكثر من نجوم السماء (ناحوم 3: 16). سقطت نينوي مرة
واحدة ونهائياً أمام حجافل الميديين والكلدانيين، ولم تقم لها قائمة بعد ذلك.

3- تمرد فرعون نخو: ولاريب في أننا نفهم دواعي
ابتهاج يهوذا بسقوط نينوي والامبراطورية التي تمثلها. لقد نجت أورشليم برحمة الله
من حصار سنحاريب لها قبل ذلك بنحو قرن من الزمان، عندما سبي من البلاد المحيطة بها
150 ,200 من النفوس، ودمر مافيها من مدن وحصون. ولكن نير أشور البغيض استقر علي
يهوذا للنهاية، وليس علي يهوذا فحسب، بل وعلي مصر ووادي النيل. وفي 608 ق.م. تمرد
فرعون نخو ملك مصر علي سيده ملك أشور، وعزم علي الزحف شرقاً، ولم يكن في نيته أن
يحارب يوشيا ملك يهوذا، الذي كان لابد أن يعبر في أرضه، ولكن يوشيا – موالاة لسيده
ملك أشور – اعترض طريق المصريين، فقتله فرعون نخو في معركة مجّدو. ويبدو أن فرعون
عاد إلي مصر وأخذ معه يهوآحاز بن يوشيا، وأقام عوضاً عنه أخاه يهوياقيم ملكاً علي
يهوذا بعد أن غرَّم يهوذا جزية كبيرة (مئة وزنة من الفضة ووزنة من الذهب – 2 مل 23:
31 – 34)
.

4- هزيمة نخو في كركميش في 604 ق. م.: لم يرجع نخو
عن غايته في تكوين امبراطورية شرقية، فسار في طريقه حتي بلغ نهر الفرات حيث تقابل
مع الجيوش البابلية بقيادة نبوخذراصر، فهزمه بنوخذراصر هزيمة منكرة في موقعة
كركميش في 604 ق.م.، وبذلك أصبح الكلدانيون سادة أسيا الغربية بلا منازع، وأصبحت
مملكة يهوذا خاضعة للنفوذ البابلي بعد أن كانت خاضعة للنفوذ الأشوري.

5- الامبراطورية البابلية الجديدة في زمن نبوخذراصر
من 604 – 562 ق.م.: ولم يكن هناك فرق كبير بين قسوة طغيان السادة الجدد وطغيان
السادة السابقين، حيث يصف حبقوق الامبراطورية الكلدانية بالقول: "الأمة المرة
القاحمة … خليها أسرع من النمور وأحد من ذئاب المساء، وفرسانها ينتشرون، وفرسانها
يأتون من بعيد ويطيرون كالنسر المسرع إلي الأكل " (حب 1: 7 و 8). وبعد موقعة
كركميش، أصبح نبوخذراصر سيداً علي كل أسيا الغربية بما فيها يهوذا، وكان من العبث
أن تحاول يهوذا الارتماء في أحضان مصر، وهي تري أن لنبوخذراصر ذراعاً طويلة وقوية
يستطيع بها تأديب من يخرج من عبيده عن طاعته.

وكانت
رسالة إرميا النبي في هذه الفترة الحرجة من تاريخ يهوذا، وهي أن السبيل الوحيد
للنجاة من نقمة الله التي توشك أن تقع علي البلاد والشعب، هو الخضوع والطاعة لملك
بابل والإِصلاح الأدبي بعد أن استشري الفساد. ويخبرهم باسم الرب، بالدينونة
الوشيكة الوقوع علي يد الكلدانيين علي أوشليم والشعوب المجاورة، بل إنه ينبئهم
بمدة خضوعهم للكلدانيين: " وتصير كل هذه الأرض خراباً ودهشاً وتخدم هذه
الشعوب ملك بابل سبعين سنة " (ارميا 25: 11). ولكن لم تكن رسالة إرميا هذه
مقبولة عند أنصار مصر وعند الذين كانوا يعتقدون في مناعة اورشليم. ولكن النبي أعلن
مصير أورشليم في عبارات صارمة وتصوير قوي، فأدي رسالته بكل أمانة في مواجهة
اضطهادات عنيفه بل والمخاطرة بحياته.

6- تمرد يهوياقيم وعقابه في 608 – 597 ق.م.: كان
يهوياقيم – الذي كان خاضعاً أولاً لفرعون نخو، ثم لنبوخذراصر – مثالاً صادقاً لما
كان عليه شعبه من فساد وشر، فقد وبخه إرميا علي الطمع وسفك الدم الزكي والاغتصاب
والظلم (ارميا 22: 13 – 19). وكانت السنة الرابعة ليهوياقيم هي السنة الأولي
لنبوخذراصر، الذي انتشي بنصره في موقعة كركميش، فبسط سطوته علي العالم الغربي،
وأصبح ملك يهوذا الذليل خاضعاً لنبوخذراصر، واستمر في ولائه له ثلاث سنوات "
ثم عاد فتمرد عليه " ولكنه لم يجد تشجيعاً أو معاونة من الشعوب المجاورة، بل
بالحري "أرسل الرب عليه غزاة الكلدانيين وغزاة الأراميين، وغزاة الموآبيين
وغزاة بني عمون، وأرسلهم علي يهوذا ليبيدها حسب كلام الرب الذي تكلم به عن يد
عبيده الانبياء " (2 مل 24: 2). وتاريخ يهوياقيم بعد ذلك، يحوطه الغموض،
فنقرأ في سفر الملوك الثاني، أنه بعد أن ملك احدي عشرة سنة، اضطجع مع آبائه (2 مل
23: 36، 24: 6) مما نفهم أنه مات موتاً طبيعياً. ونقرأفي نبوة دانيال ": "
أنه في السنة الثالثة من ملك يهوذا ذهب نبوخذاصر ملك بابل إلي أورشليم وحاصرها
" وأخذ معه – بالإِضافة إلي آنيه بيت الله – أفراداً من النسل الملكي ومن
أشراف يهوذا، كان منهم دانيال النبي، ويبدو من سفر أخبار الأيام الثاني، أنه كان
بينهم أيضاً الملك يهوياقيم نفسه: " عليه صعد نبوخذناصر ملك بابل وقيده
بسلاسل نحاس ليذهب (؟) به إلي بابل " (2 اخ 36: 6). ويضيف المؤرخ في سفر
الملوك بعد أن سجل موت يهوياقيم، هذه العبارة الهامة: " ولم يعد أيضاً ملك
مصر يخرج من أرضه لأن ملك بابل أخذ من نهر مصر إلي نهر الفرات كل ماكان لملك مصر "
(2 مل 24: 7)
.

هل تبحث عن  الكتاب المقدس الكتاب الشريف عهد قديم سفر المزامير 17

7- حصار أورشليم واستسلامها في عهد يهوياكين في 597
ق.م.: ملك يهوياكين الذي خلف أباه يهوياقيم، ثلاثة اشهر، وهي نفس المدة التي ملكها
عمه يهوآحاز المسكين (2 مل 23: 31). وقد سبي يهوآحاز إلي مصر، أما يهوياكين فقد
سُبي إلي بابل، وكانا موضوع المرثاة الرائعة التي أمر الرب حزقيال أن يرفعها علي
رؤساء إسرائيل، حيث يشبهما بشبلين ابني لبوءة هي إسرائيل تعلما افتراس الفريسة
والتهام الناس، ولكنهما أُخذا في حفرة الأمم ووضعا في قفص بخزائم حتي لايسمع
صوتهما بعد علي جبال اسرائيل (حز 19: 1 – 9)
.

8- السبي الاول في 597 ق.م.: جاء نبوخذنصر بنفسه
بينما كان عبيده يحاصرون أورشليم، فاستسلم يهوياكين علي الفور، فأخذ نبوخذنصر
يهوياكين وأمه وعبيده ورؤساءه وقواده وجميع جبابرة البأس حتي بلغ عددهم عشرة الآف،
" لم يبق إلا مساكين شعب الارض " … " وأخرج من هناك جميع خزائن بيت
الرب وخزائن بيت الملك وكسَّر كل آنية الذهب التي عملها سليمان ملك اسرائيل في
هيكل الرب كما تكلم الرب
" … وجميع أصحاب البأس سبعة ألآف والصناع والأقيان ألف وجميع الأبطال أهل
الحرب سباهم ملك بابل إلي بابل. وملك ملك بابل متنيا عمه عوضاً عنه وغير اسمه إلي
صدقيا " (2 مل 24: 10 – 17). وتبدأ مدة السبي البابلي بسبي يهوياكين الملك في
597 ق.م. وقد عاش هذا الملك المسكين مدة 38 سنة في السبي، ويبدو أنه استعاد احترام
وولاء المسببين الذين عاش بينهم.

ويشير
إرميا إلي سبي الرؤساء والصناع والأقيان، برؤيته التي رأي فيها سلتي التين، في
إحدهما تين جيد مثل التين الباكوري، وفي الأخري تين رديء جداً لايؤكل من رداءته (إرميا
24: 1 – 3). والتين الجيد إشارة إلي سبي يهوذا الذي أخذ إلي أرض الكلدانيين للخير،
أما التين الرديء فإشار إلي صدقيا الملك ورؤسائه وبقية أورشليم الذين ستنصب عليهم
دينونات قاسية حتي يفنوا عن وجه الارض.

9- خدمة حزقيال: كان بين المسبيين إلي بابل الذين
وضعوا علي ضفاف نهر خابور، النبي الكاهن حزقيال، وفي السنة الخامسة من السبي بدأ
يري " رؤي الله العجيبة ويوضح معانيها للمسبيين عند انهار بابل .. ولم يستطع
حزقيال أن يكلم المسبيين البائسين والمثقلين بالهموم من جهة مملكة يهوذا التي لم
تكن قد انهارت بعد ومن جهة المدينة المقدسة التي لم تكن قد احترقت بعد، لم يستطع
ان يكلمهم إلا بالرموز والاستعارات عن دمار المدينة والأمة إلي اليوم الذي وصلتهم
فيه أخبار سقوطها بالكامل، فبدأ بعد ذلك يكلمهم لا بالمراثي مثل تلك التي تكلم بها
إرميا، بل بالحري بنبوات مفرحة عن المدينة وقد أعيد بناؤها، والمملكة وقد أعيد
تأسيسها، وعن هيكل جديد مجيد.

10- خدمة إرميا في أروشليم من 597 – 588 ق. م.: رغم أن زهرة السكان قد سبوا
إلي بابل، ونهبت كنوز الهيكل، فإن المدينة والهيكل ظلا قائمين. وكان لدي إرميا
رسالة للباقين في البلاد وكذلك للمسبيين في بابل. فقدم نصائحه للمسيبين بالخضوع
والاستقرار، وكيف أن العبادات الوثنية البغيضة المحيطة بهم يجب أن تدفعهم للعودة
إلي ناموس الههم وهكذا تعمل علي تجديدهم أدبياً وروحياً: " هكذا قال الرب …
أعطيهم قلباً ليعرفوني أني أنا الرب فيكونوا لي شعباً وأنا أكون لهم إلهاً لأنهم
يرجعون إلَّي بكل قلبهم " (إرميا 24: 5،
7). اما نبواته "لبقية
أورشليم " ونصائحه لهم، فكانت قاسية عرضته للشك في ولائه لشعبه ولإلهه، ولم
يكن في تحذيراته ما هو أعمق أثراً من الربط والآنيار التي أمره الرب أن يصنعها
لنفسه ويجعلها علي عنقه ويرسلها إلي ملوك أدوم وموآب وعمون وصور وصيدون الذين يبدو
أنهم كانوا يفكرون في تكوين حلف مع صدقيا ضد نبوخذراصر. وقد اضطر الملك صدقيا
للخضوع ولكنه ظل يعلل نفسه بأن ملك بابل سيسمح للمسبيين من يهوذا بالعودة، وقد ذهب
هو نفسه إلي بابل، ربما بدعوة من سيده ملك بابل (إرميا 51: 59). ولوجود حزب موال
لمصر في أورشليم كان يحرض الملك علي التحالف مع مصر، ولوجود فرعون شاب ميال للحرب،
علي عرش مصر – هو خفرع (إبريس) – ظن صدقيا أن الفرصة مواتية للحصول علي الاستقلال،
فتآمر مع ملك مصر وتمرد علي ملك بابل (2 مل 24: 20)
.

11- تمرد صدقيا وحصار أورشليم، 588 – 586 ق.م.: لقد كان تمرد صدقيا مغامرة
جريئة، ولكن نبوخذراصر لم يكن ليقبل مثل هذا العصيان من أتباعه، فزحف في الحال إلي
الغرب، وأوكل إلي نبوزرادن مهمة الأستيلاء علي أورشليم، أما هو نفسه فقد جعل مقر
قيادته في ربلة علي نهر الأورنت في سوريا، وفي هذه الأثناء اجتاز فرعون الحدود علي
رأس جيشه لنجدة حلفائه، فاضطر الكلدانيون إلي رفع الحصار عن أورشليم لمقابلته في
العراء (ارميا 37: 5)، ولكن فرعون خانته شجاعته وأثر السلامة، فرجع بسرعة بدون
الدخول في معركة، فعاد بنوزردان إلي حصار اورشليم حصاراً اشدَّ من الحصار الاول.

وفي
الفترة القصيرة التي شم فيها المحاصرون أنفاسهم لانسحاب الكلدانيين، خرج إرميا من
أورشليم ليذهب إلي موطنه في عناثوث علي بعد نحو اربعة أميال إلي الشمال الشرقي عبر
الجبل، لشأن عائلي (ارميا 37: 11 – 15) واكتُشف رحيله، فقبض عليه واتهم بأنه يقع
إلي الكلدانيين، ووضعوه في بيت السجن في بيت يوناثان الكاتب، وبينما هو هناك أرسل
الملك صدقيا وأخذه وسأله سراً، وقال له: " هل توجد كلمة من قبل الرب؟ "
فاجأبه إرميا بدون وجل: " توجد … إنك تدفع ليد ملك بابل ". وقد تمتع
إرميا، بعد ذلك – بتدخل من الملك صدقيا – بقسط أكبر من الحرية. ولكن بسبب مواصلته
المناداة في آذان الشعب بضرورة التسليم، تآمر أعداؤو علي قتله، فألقوه في جب موحل
لاماء فيه، حيث تعرض لخطر الموت اختناقاً أو جوعاً. ومرة أخري سعي الملك لمقابلة
إرميا وأعدَّ إياه سراَّ بانه لن يقتله ولن يدفعه إلي أيدي أعدائه ليقتلوه، فنصحه
ارميا مرة اخري بالتسليم، وظل ارميا يتمتع بقسط من الحرية.

12- تدمير اورشليم في 586 ق.م.: لكن المدينة كانت علي وشك أن تلقي مصيرها،
" ففي السنة الحاد ية عشرة لصدقيا (586 ق.م.) في الشهر الرابع في تاسع الشهر
فتحت المدينة " (ارميا 39: 1 و 2) فانقض الكلدانيون عليها بعد أن كانت شهور
الحصار والجوع قد فعلت فعلها. ويبدو أن صدقيا وكل رجال الحرب لم ينتظروا نهاية
الهجوم بل هربوا "ليلاً من المدينة في طريق جنة الملك من الباب بين السورين
" وساروا شرقاً في طريق العربة، ولكن جيش الكلدانيين سعر وراءهم "
فأدركوا صدقيا في عربات أريحا " فأخذوه أسيراً وأتوا به إلي نبوخذراصر إلي
ربلة فقتل ملك بابل بني صدقيا في ربلة أمام عينيه، وقتل كل أشراف يهوذا، ثم قلع
عيني صدقيا. وفي تلك المرة لم تنج المدينة ولا الهيكل ولا القصر " وأحرق (نبوزردان)
بيت الرب وبيت الملك وكل بيوت أورشليم، وكل بيوت العظماء أحرقها بالنار " (2
مل 25: 9)، وهدم جنوده ايضا جميع أسوار أورشليم مستديرا. ًوكل كنوز الهيكل وأمتعته
الثمينه – التي أفلتت من النهب في المرة الاولي – أخُذت إلي بابل. لقد حاق الدمار
الكامل بأورشليم. ويسجل سفر المراثي مدي ماأحس به شاهد عيان، من حزن وعار وندامة
علي المسبيين وخراب المدينة المقدسة: " أتم الرب غيظه، سكب حمو غضبه وأشعل
ناراً في صهيون فأكلت أسسها. لم تصدق ملوك الارض وكل سكان المسكونة أن العدو
والمبغض يدخلان أبواب أورشليم … ويل لنا لأننا قد أخطأنا. ومن أجل هذا حزن قلبنا.
ومن أجل هذه أظلمت عيوننا. ومن أجل جبل صهيون الخرب. الثعالب ماشية فيه " (مراثي
4: 11 و 12، 5: 16 – 18)
.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس د دقلة 1

13- السبي الثاني في 586 ق.م.: يقول النبي إلذي عاصر حصار المدينة وسقوطها:
" فسُبي يهوذا من أرضه " (إرميا 52: 27)، ويبدو شيء من الغموض في أعداد
المسبيين، فنقرأ في ارميا (52: 28 – 30) عن ثلاث دفعات للسبي، ففي 597 ق.م. سبي
3,023من اليهود، وفي 586 ق. م. سبي نبوخذراصر 832 نفساً.

14- السبي الثالث في 581 ق.م.: وفي 581 ق.م. سبي نبوزرادان رئيس الشرط 745
نفساً من اليهود، فتكون جملة النفوس 4,600 (ارميا 52: 30). ونجد في سفر الملوك
الثاني (24: 15 و
16) أن نبوخذراصر قد سبي في 597 ق.م. ثمانية الاف.
ويقدر دكتور جورج آدم سميث – بعد دراسة كل البيانات – أن أكبر رقم محتمل هو 62,000
– 70,000 من الرجال والنساء والاطفال (أي أقل من النصف السكان). ففي 597 ق.م. أخذ
نبوخذراصر الرؤساء والشرفاء والصناع والأقبان تاركاً فقط مساكين شعب الارض (2 مل
24: 14). وفي 586 ق.م. سبي نبوزرادان بقية الشعب الذين تركوا في المدينة، ولكنه
أبقي من مساكين الأرض كرامين وفلاحين " (2 مل 25: 12)، ويقول دكتور جورج آدم
سميث (في كتابه: " أورشليم " – المجلد الثاني، 268 – 270): " لقد
كانوا – كما يذكر الكتاب – مساكين شعب الارض، قد أخذ من بينهم كل إنسان لديه مال
أو قوة، مجرد مجموعات من الفلاحين بلاقائد وبلا مركز، مشتتين مكتئبين، يعضهم الجوع
بأنيابه، ويحيط بهم الأعداء من كل جانب، غير متعلمين، فريسة سهلة للوثنية التي
كانت تحاصرهم. ونحن نقدر صمت الكتاب بخصوصهم، مما جعلنا لانعرف أعداهم علي وجه
اليقين لقد كانوا كمية مهملة بالنسبة لمستقبل اسرائيل دينياً، كانوا بلاحافز،
لاحول ولاطول لهم، بل كانوا عبئاً ثقيلاً علي قادة الأمة الذين أعادوا بناءها بعد
العودة من بابل

".

15- جدليا حاكم اليهود: أقام نبوخذراصر ملك بابل جدليا بن أخيقام والياً
علي الشعب الذي بقي في أرض يهوذا، وجعل مقره في المصفاة، ومعه حامية من البابليين
للحراسة. وكان أمام إرميا أن يختار بين البقاء في أرض يهوذا أو الذهاب إلي بابل،
ولكنه فضل البقاء مع بقية الشعب تحت رعاية جدليا. وبمقتل جدليا بيد إسماعيل بن
نثنيا من النسل الملكي – الذي نجا بعد ذلك بنفسه وهرب إلي بني عمون – بدا أنه قد
باد آخر أثر لمملكة يهوذا. وأخذ يوحانان بن قاريح وكل رؤساء الجيوش الذين معه كل
بقية الشعب الذين استردهم من إسماعيل بعد مقتل جدليا، وعزم علي السير إلي مصر –
رغم نصيحة إرميا – وصمموا علي أن يأخذوا معهم إرميا وباروخ (ارميا 43: 1 – 7).
وهناك في مصر – وسط مشاهد الاحباط وخيبة الأمل التي كانت تحيط بهم – سجل ارميا لنا
المرحلة الأخيرة من سقوط يهوذا.. وقد اكتشفت آثار هامة لسلالة أؤلئك الذين
استوطنوا مصر. وتتكون هذه الآثار من برديات بالأرامية وجدت في أسوان، ترجع إلي عصر
لا يتجاوز القرن بعد موت إرميا. وهذه الوثائق عبارة عن حسابات وعقود وصكوك عقارية
من كل نوع، نعرف منها أنه في القرن الخامس قبل الميلاد كان هناك يهود – منفصلون عن
الآخرين كالعهد بهم – يعبدون الرب " يهوه " ولايعبدون معه إلهاً آخر، بل
لقد كان لهم معبد ومذبح للمحرقات التي كانوا يقدمونها لله كما فعل آباؤهم في
أورشليم قبل تدمير الهيكل. وهذه البرديات تعطينا لمحات – عظيمة القدر – عن الحالة
الاجتماعية والاهتمامات الدينية لاولئك المستوطنين.

16- المسبيون في بابل: ونعلم شيئاً عن أحوال المسبين الذين نقلهم نبوخذراصر
إلي بابل فأقاموا علي ضفاف أنهارها، من بنوات دانيال ونبوات حزقيال ومزامير السبي.
ونعرف من نبوات حجي وزكريا كيف فكروا في إعادة بناء الهيكل وكيف أتموه.
والاكتشافات التي أسفر عنها التنقيب في نيبّور، تلقي أمامنا ضوءاً قوياً علي
الحالة الاجتماعية للمسبيين. وهناك ألواح بالخط المسماري – محفوظة الآن في المتحف
العثماني باستانبول، بين ملفات أعمال شركة موراشو الفنية من أبناء نيبّور في أيام
أرتحشستا الأول وداريوس الثاني (464 – 405 ق.م.) – نقرأ فيها عدداً ملحوظاً من
الأسماء اليهودية. ومما يسترعي الانتباه أن الكثير من هذه الأسماء أسماء مألوفة
لنا من قوائم الأنساب الموجودة في أسفار الملوك والأخبار وعزرا ونحميا. ويستنتج
بروفسور هلبرخت (في كتاب: البعثة البابلية – المجلد التاسع – 13 ومابعدها) من فحص
هذه الألواح أن عدداً كبيراً من المسبيين اليهود الذين جاء بهم نبوخذراصر بعد
تدمير أورشليم، قد استقروا في نيبّور وماحولها، وهناك أدلة كثيرة علي هذه الحقيقة.
وفي هذه الوثائق مايؤيد ماجاء بالتلمود من أن نيبّور هي كلنة (تك 10: 10). ونعلم
من النقوش المكتشفة أن " نهر خابور في أرض الكلدانيين " الذي رأي عنده
حزقيال رؤياه، كان قناة واسعة صالحة للملاحة لاتبعد كثيراً عن نيبّور.

17- قيام اليهودية وتطورها: لايمكن المغالاة في تقدير أثر السبي في تطور
اليهودية، فكما يقول الدكتور فوكس جاكسون (في التاريخ الكتابي للعبرانيين، 316): "
إن السبي هو أحد الأحداث العظيمة في
تاريخ الديانة … فبالسبي
أنتهي تاريخ إسرائيل، وبدأ تاريخ اليهود "، فوجودهم في وسط ذلك الخضم من
الأمم الوثنية، جعل الجالية اليهودية تبتعد عن كل رجاسات المحيطين بهم، وتلتصق
بإيمان آبائهم في إله ابراهيم. ولأنهم كانوا معرضين للازدراء والسخرية من الأمم
التي كانت تحتقرهم، كوّنوا دائرة مقفلة علي ذواتهم، وهكذا نشأت عادة الانعزال التي
أصبحت من خصائصهم منذ ذلك الوقت. فبعد أن أصبحوا بلا وطن وبلا نظام طقسي وبلا أي
أساس مادي لحياتهم كشعب، تعلموا – كما لم يتعلموا من قبل – أن ينظروا بعين التقدير
لتراثهم الروحي الذي وصل إليهم من الماضي العريق، فأقاموا هويتهم الوطنية – في
محيطهم الجديد – علي أساس ديانتهم، ولقد شجعهم أنبياؤهم، وبخاصة إرميا وحزقيال،
وأيدوهم بتأكيد البركات الروحية والوعد بالعودة. لقد كانوا في حاجة إلي مبدأ ثابت
دائم لتنظيم كل حياتهم الاجتماعية والعائلية والروحية، وقد دفعت هذه الحاجة قادتهم
ومفكريهم إلي الرجوع إلي شريعة موسي والاعتماد عليها، وحل المعلم (الربي) والكاتب
في مكانة الكاهن الذي يقدم الذبائح، وشغل المجمع والسبت مركزاً جديداً في حياة
الشعب الدينية. لقد نضجت هذه المباديء اليهودية وغيرها، وبلغت أوجها بعد العودة من
السبي، فهو الذي خلق الحاجة إليهما. وبينما كان الأنبياء واضحين في التنبوء بالسبي،
فإنهم لم يكونوا أقل وضوحاً في التنبوء بالعودة من السبي. فإشعياء – بأقواله عن
" البقية " – وكذلك ميخا وصفنيا وإرميا وحزقيال وغيرهم قد أبهجوا قلوب
الشعب – كل منهم في أيامه – برجاء العودة، ليس ليهوذا فقط بل ولإسرائيل أيضاً،
فستعود الكروم للازدهار فوق جبال السامرة كما في وديان يهوذا، بل إن إرميا تبنأ
بمدة السبي عندما أعلن أن شعوب تلك البلاد ستخدم ملك بابل سبعين سنة (إرميا 25: 12،
29: 10)
.

هل تبحث عن  م الإنسان تنظيم الأسرة من وجهه نظر إلهية 12

18- العودة بتصريح من كورش في 538 ق.م.: تحققت آمال المسبيين باستيلاء كورش
ملك فارس علي بابل والقضاء علي الامبراطورية البابلية، لقد كان الفأس التي تنبأ
عنها إرميا لسحق بابل. كما تنبأ عنه إشعياء وعن مسيرته الظافرة كمخلص للشعب،
" هكذا يقول الرب … القائل عن أورشليم ستعمر ولمدن يهوذا ستبيين، وخربها أقيم،
القائل للجة انشفي، وأنهارك أجفف، القائل عن كورش راعي فكل مسرتي يتمم، ويقول عن
أورشليم ستبني وللهيكل ستؤسس " (اش 44: 24 – 28)
.

19- اعادة بناء الهيكل في 536 ق.م.: في السنة الأولي لدخول كورش إلي بابل،
صدر مرسوم بالتصريح للمسبيين بالعودة وبناء بيت الرب في أوشليم (2 اخ 36: 22 و 23،
عزرا 1: 1 – 4)، كما أخرج آنيه الهيكل – التي أخذها نبوخذراصر من أورشليم ونقلها
إلي بابل – وسلمها كورش لشيشبصر رئيس يهوذا، وأحضرها شيشبصر معه عند عودته
بالمسبيين من بابل إلي أورشليم.

ونجد
أخبار العودة من السبي مفصلة في سفري عزرا ونحميا ونبوتي حجي وزكريا. وقد عاد مع
شيشبصر 42,000 من المسبيين فضلاً عن العبيد. وبقيادة يشوع بن يوصاداق الكاهن
وزرابابل بن شألتئيل، بنو أولاً مذبحا للرب ثم وضعوا أساسات الهيكل. وقد تعطل
العمل ثم توقف نهائيا لمعارضة السامريين، لأن بني إسرائيل رفضوا اشراكهم معهم في
بناء الهيكل. وفي تلك الأثناء قام حجي وزكريا يحثان الشعب علي استئناف العمل،
ووجها اللوم للشعب علي بخلهم، كما تنبأ حجي بالمجد الذي سيكون للهيكل، مما جعلهم
يسرعون إلي بناء الهيكل، فتم العمل في شهر أذار في السنة السادسة لداريوس الملك (515
ق.م.). واحتفلوا بالفصح في رحاب المقدس الذي كمل بناؤه (عزرا 6: 15 – 18)
.

20- جهود عزرا ونحميا في الاصلاح: وتمضي بضعة عقود
من السنين، لايذكر الكتاب عنها شيئاً، حتي نأتي إلي عام 458 ق.م. عندما صعد عزرا
من بابل إلي أورشليم ومعه 1,800 من المسبيين، فوجد أن اليهود الذين قد عادوا من السبي،
قد ارتبطوا بشعب الارض بالزواج، وأصبحوا في خطر فقدان مميزاتهم القومية والذوبان
في الشعوب الوثنية (عزرا 9). وقد أمكن دفع هذا الخطر بجهود عزرا ونحميا وأقوال
ملاخي. وبعد ذلك بثلاث عشرة سنة (445 ق.م.)، سمع نحميا – ساقي الملك ارتحشستا –
بحالة الخراب التي كانت عليها المدينة المقدسة وقبور آبائه، فاستأذن سيده في
الذهاب إلي أورشليم، فأذن له الملك وأعطاه رسائل توصية إلي ولاة عبر النهر لكي
يجيزوه، وإلي حارس فردوس (غابة) الملك ليعطيه الأخشاب اللازمة للبيت وللأسوار.
وهكذا سار الي أورشليم فوصلها بسلام، وقام بفحص الأسوار، ثم استنفر الشعب للعمل
وترميم ما انهدم منها. وبالرغم مما تعرضوا له من الاستهزاء والسخرية والمقاومة
العنيفة من أعدائهم السامريين، أمكن لنحميا أن يري العمل وقد كمل والأبواب وقد
أقيمت والمدينة وقد أزدحمت بالسكان. عندئذ جمع نحميا وعزرا الشعب لسماع كلمات
الشريعة. وفي اجتماع مهيب قرأوا الناموس وفسروه للشعب، وبعد ذلك ختم الشعب علي
ميثاق يتعهدون فيه بحفظ ناموس موسي، وعدم التزاوج بينهم وبين الأمم، وحفظ يوم
السبت وعدم المتاجرة فيه، ودفع ثلث شاقل سنويا لخدمة الهيكل، وتقديم الباكورات
والعشور (نح 10: 28 – 39)
.

21- نظريات حديثة عن العودة: يعترض بعض علماء العصر
الحاضر علي رواية هذا التاريخ، فينكرون عودة المسبيين في أيام كورش، ويقولون إن
الذين بنوا الهيكل هم اليهود الذين بقوا في اليهودية وفي أورشليم، ويعتنق هذا
الرأي بروفسور كوسترز من ليدن ويؤيده بروفسور ه. ب. سميث واخرون، فهم ينكرون
تاريخية سفري عزرا ونحميا، ولكن الصعوبات التاريخية الموجودة في السفرين، لاتدعو
بالمرة إلي نكران حقيقة " العودة " وما قام به عزرا ونحميا، فالعودة من
السبي تؤيدها وثائق تحمل طابع الحق التاريخي مما لايمكن دحضه بمثل هذا الاستخفاف.
وعلاوة علي ذلك، فان مشروعاً ضخماً مثل هذا، يستدعي كل تلك الجهود والمهارات،
لايمكن إنجازه بواسطة البقية المسكينة بدون معونة خارجية، ولقد رأينا من قبل مدي
عجز البقية التي كانت تتكون من مساكين الأرض. كما أن صمت حجي عن موضوع العودة من
السبي لايمكن أن يكون حجة علي ذلك. إن قصة السبي نفسها تدل علي حاجة البقية
المسكينة إلي قوة دافعة من يهود بابل الذين امتلأت نفوسهم غيرة وحماسة مما عانوه
في السبي.

22- أهمية فترة عزرا ونحميا: لقد كان لعصر نحميا
والفترة التي سبقته مباشرة، بالغ الاثُر في مستقبل الأمة، " ففي أثناء تلك المئة
السنة، رسخت شريعة موسي كأساس للحياة القومية، وبدأت الخطوات الأولي في تحديد
أسفار الكتاب المقدس، وأخذ المجتمع الإِسرائيلي الطابع الذي مميزه في العصور
التالية التي طورته دون أن تغيره تعييراً جذرياً. ففي خلال تلك الفترة أخذ المجتمع
اليهودي الصورة التي كان عليها في أيام ربنا يسوع المسيح، فتكونت القوي التي عارضت
المسيح وكذلك القوي التي وقفت إلي جانبه، فقد رأي ذلك القرن قيام الأحزاب التي
أصبحت بعد ذلك الطوائف المعروفة بالفريسيين والصدوقيين، كما وضُع فيه أساس علماء
اليهود (الربيين)، وتحدد موقف اليهود من الأمم، ووضُع الكهنة علي الطريق للسيادة
العليا، وحدث الانفصال عن السامريين " (دكتور ب. هاي هنتر في كتابه "
مابعد السبي " – القسم الأول – الفصل السادس عشر)
.

 

 

 

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي