برّ

Justice

مقدمة

القسم
الأول: البر بالنسبة إلى الدينونة

أولاً:
البر البشري

العهد
القديم

1. العدالة الاجتماعية:

2. البرّ كمحافظة على الشريعة:

3. البر كثواب:

4. ارتباط البرّ بالحكمة والصلاح:

العهد
الجديد

1. تعليم يسوع:

2. المسيحية في العصر الرسولي:

ثانياً:
البر الإلهي

العهد
القديم:

العهد
الجديد:

القسم
الثاني: البر بالنسبة إلى الرحمة

أولاً:
بر الإنسان

العهد القديم

العهد الجديد

ثانياً:
البر الإلهي

العهد القديم:

العهد الجديد:

1. يسوع:

2. القديس بولس:

 

 

مقدمة

تستدعي
كلمة "بر" إلى أذهاننا، لأول وهلة، معنًى قانونياً، وتشير إلى عمل
القاضي الذي يحكم بالعدل، ويفرض احترام العرف الجاري أو الشريعة. إلا أن مفهومها
الأدبي أوسع من هذا: فالبر (أو العدالة) يكفل لكل واحد حقه حتى وان لم يقرّه عرف
أو شريعة وضعية. وفي القانون الطبيعي، يؤدي الالتزام بالعدل في النهاية إلى
المساواة التي تحقق من خلال التبادل أو التوزيع. أما في المفهوم الديني، أي في شأن
علاقات الإنسان بالله، فليس للعدالة ومشتقاتها سوى تطبيقات محدودة. فلا شك أننا
عادة نتصوّر الله باعتباره القاضي العادل فنطلق لفظ الدينونة على المواجهة الأخيرة
بين الإنسان والله. غير أن هذا الاستخدام الديني لمصطلحات البرّ يبدو محدوداً جداً
بالنسبة إلى بر الله كما يقدّمه لنا الكتاب المقدس. ومع أن لفظة "برّ"
قريبة في المعنى من كلمات أخرى كثيرة مثل الصلاح، القداسة، الاستقامة، الكمال…
الخ، إلا أنها تتركّز حول هذه اللفظة مجموعة من الاصطلاحات المحددة المعنى، مثل
البار، البرّ، يبرر، التبرير (بالعبرية "صيديق"، وباليونانية
(dihaios)

وبحسب
تيار فكري قديم يتخلّل الكتاب المقدس كله، يعتبر البر الفضيلة الأدبية المعروفة
التي تتّسع لتشمل حفظ جميع الوصايا الإلهية، وتُفهَم دائماً على أنها حجّة للتبرير
قدّام الله. وتباعاً لذلك، يظهر بر الله (عدله) في نزاهته التامّة أولاً في قيادته
للشعب والأفراد، ثم في كونه إله المجازاة، معاقباً أو مكافئاً كل واحد بحسب أعماله.
وهذا هو موضوع القسم الأول: البر (العدالة) بالنظر إلى الدينونة. وهناك تيار فكري
آخر في الكتاب المقدس يحمل نظرة أعمق للنظام الذي يريد الله فرضه على خليقته ويعطي
للبر معنى أوسع، وقيمة دينية مباشرة أقوى. فليست الاستقامة البشرية سوى انعكاس
وثمرة لبرّ الله الأسمى وللرقة العجيبة التي يقود الله بها المسكونة، ويغفر بها
مخلوقاته.

فبرّ
الله هذا الذي يدركه الإنسان بالإيمان يتطابق في النهاية مع رحمته تعالى، وهو
مثلها ينمّ تارة عن صفة موجودة في الله وتارة أخرى عن مواهبه الفعلية التي يوفرها
بسخاء لقصد الخلاص.

وهذا
التوسّع في معنى البر لا تدركه إلا بعض الأوساط الكهنوتيّة المتخصصة. فالقارئ
المسيحي، حتى المثقّف، خلال قراءته للرسالة إلى أهل رومة 3: 25. يعسر عليه أن يعرف
أن البر الذي كشفه الله في يسوع المسيح هو تماماً بره الخلاصي، أي رحمته الأمينة.
وسنستعرض في القسم الثاني مفهوم البر الخاصة بالكتاب المقدس بالنسبة إلى الرحمة.

القسم
الأول: البر بالنسبة إلى الدينونة

أولاً:
البر البشري

العهد
القديم

1. العدالة الاجتماعية:

كانت
شريعة بني إسرائيل القديمة تدعو القضاة إلى النزاهة في ممارسهّ وظيفتهم (تثنية 1: 16،
16: 18 و20، لاويين 19: 15 و36). كذلك نرى أقدم الأمثال تشيد بعدل الملك (أمثال 16:
13، 25: 5). وفي نصوص مماثلة، نرى أن "البار" هو صاحب الحق (خروج 23: 6-
8)، أو في حالات نادرة، هو القاضي النزيه (تثنية 16: 19) الذي ينبغي، بحكم وظيفته،
أن ينصف البريء أي يقضي ببراءته، أو يردّ إليه حقوقه (تثنية 25: 1، أمثال 17: 15
).

ويشجب
أنبياء ما قبل السبي، مراراً وبشدة، الظلم الذي يرتكبه القضاة وجشع الملوك والجور
على المساكين وينذرون بالويل جزاء لمثل هذه المظالم (عاموس 5: 7، 6: 12، اشعيا 5: 7
و23، ارميا 22: 13 و15). وأخذوا ينادون بالأبعاد الأخلاقية والدينية للظلم، فما
كان يعتبر مجرد مخالفة للقواعد المرعيّة والعادات، يصبح اهانة لقداسة الله شخصياً.

هذا
هو السبب الذي لأجله تؤدي المظالم إلى ما هو أجسم بكثير من العقابات العادية: إنها
تستدعي قصاصاً مروّعاً يدبّره الله نفسه. وفي سياق مآخذ الأنبياء، لا يزال البار
إذاً صاحب الحق، ومن يشار إليه، في أغلب الأحيان، وهو في إطار وضعه الواقعي وبيئته:
هذا البريء هو المسكين وضحية العنف (عاموس 2: 6، 5: 12، اشعيا 5: 23، 29: 20- 21
).

وكثيراً
ما أضاف الأنبياء على مآخذهم هذه التوجهات الإيجابية: "أجروا الحكم بالحق
والعدل" (هوشع 10: 12، ارميا 23: 3- 4). وهم، إذ يدركون خاصة تعرّض العدل
البشري للزلل، يتطلّعون قبل كل شيء إلى المسيا المنتظر، بصفته الملك المستقيم الذي
يصنع البرّ دون ما شائبة (اشعيا 9: 6، 11: 4- 5، ارميا 23: 5، راجع مزمور45: 4- 5
و7- 8، 72: 1- 3 و7
).

2. البرّ كمحافظة على الشريعة:

منذ
ما قبل السبي، يعني البرّ الحفظ الكامل للوصايا الإلهية، أي السلوك المطابق
للشريعة. هذا ما نشاهده في عدد كبير من الأمثال (أمثال 11: 4- 6 و19، 12: 28). وفي
روايات متنوعة (تكوين 18: 17- 19) وفي نبوّة حزقيال (حزقيال 3: 16- 21، 18: 5- 24).
وتبعاً لذلك، يعتبر باراً، في إطار هذه الملابسات، الشخص النّقي، العبد الذي لا
يلام، حبيب الله (أمثال 12: 10، تكوين 7: 1، 18: 23- 32، حزقيال 18: 5- 26). ويظهر
هذا المفهوم التقوي للبرّ بوضوح في فترة ما بعد السبي، في المراثي (مزمور 18: 21
و25، 119: 121)، وفي الأناشيد (مزمور 15: 1- 2، 24: 3- 4، 140: 14
).

هل تبحث عن  الكتاب المقدس بولسية عهد جديد رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 10

3. البر كثواب:

قد
حصل تطور في المعنى منذ ما قبل السبي، عندما كان السلوك المطابق للشريعة مستوجباً
الأجر والخيرات الوفيرة صارت كلمة "بر"، التي كانت تعني هذا السلوك،
تنطبق أيضاً على مختلف مكافآت العدالة.

فالتصرف
بوداعة وحلم يعتبر براً قدام الله بمعنى أنه مستوجب أجراً (تثنية 24: 13، راجع 6: 24-
25). في أمثال 21: 21 "من اتّبع العدل والرحمة يجد الحياة والعدل
والمجد". فكلمة العدل الواردة في المقطع الثاني من الآية توازي الحياة والمجد.
وفي مزمور 24: 3- 5، نجد أن البر الذي يناله المرء من الله ليس سوى البركة الإلهية
التي تكافئ الحجاج الأتقياء (راجع مزمور 113: 1 و3 و9، 37: 6
).

4. ارتباط البرّ بالحكمة والصلاح:

نجد
في كتب العهد القديم الأخيرة كل المواضيع التقليديّة المشار إليها من قبل، مع بعض
الملامح الجديدة. فالبرّ، بالمعنى الحصري، يقوم في تنظيم علاقات الناس فيما بينهم
(أيوب 8: 3، 35: 8، جامعة 5: 7، سيراخ 38: 33)، وإلى هذا المعنى يضيف كتاب الحكمة
اعتباراً جديداً (حكمة 1: 1 و15). فالبرّ هو الحكمة في حيّز الممارسة. والتأثير
اليوناني واضح في حكمة 8: 7، حيث تؤدي كلمة
"dikaiosyne" معنى
البر بالمعنى الحصري حيث ترشد الحكمة إلى الاعتدال، والفطنة، والعدل والقوة، وهي
الفضائل الأربع الرئيسية التقليدية.

وفي
الكتب الأخيرة من العهد القديم، تستعمل كلمة برّ للدلالة على الصدقة. "الماء
يطفئ النار الملتهبة، والصدقة تكفّر عن الخطايا" (سيراخ 3: 30، طوبيا 12: 8-
9، 14: 9- 11). ولهذا التطور في معنى الألفاظ، قد نجد تفسيراً ملائماً: فبالنسبة
للعقلية الساميّة، لا تقوم العدالة في موقف سلبي حيادي بقدر ما هي التزام إيجابي
من جانب القاضي لمصلحة صاحب الحق مما يقتضي أن تشير العدالة إلى نتيجة الحكم، أي
الإفراج عن المتّهم، ولأن هذا المعنى الواقعي يتضمن "انعاماً" فهو يمهد
لمعنى الصدقة. وتبعاً لذلك، يتصف البار بالطيبة والمحبة (طوبيا 7: 6، 9: 6، 14: 9).
"وإن الصدّيق ينبغي أن يكون محبّاً للناس" (حكمة 12: 19
).

العهد
الجديد

1. تعليم يسوع:

لا
تنصبّ رسالة يسوع على الحثّ على البرّ، بمعناه القانوني. فلا نجد في الإنجيل لا تنظيماً
لواجبات العدالة، ولا دعوة ملحّة إلى إنصاف طبقة من المظلومين، ولا تقديماً
للمسيّا كقاضٍ عادل. نستطيع أن ندرك بالكفاية أسباب إغفال هذه الناحية. فإن قوانين
العهد القديم، وان كانت تعبيراً عن الأوامر الإلهية فقد كانت أيضاً دستوراً لحياة
الجماعة. أما في زمن يسوع، فالرومان يتولون جزئياً تحقيق العدالة ولم ينصِّب يسوع
نفسه مصلحاً اجتماعياً أو مسيّا قومياً. كما أنه لم يرَ في الظلم الاجتماعي الشر
الأول والسائد بين معاصريه، بل كان متفشّياً شر آخر ذو طابع ديني محض، ألا وهو
الشكلية والرياء في العبادة. ولذا يحتلّ التنديد بالروح الفريسية، في كرازة يسوع،
المركز الأساسي الذي كان يحتلّه شجب الأنبياء لصور الظلم. وهذا لم يمنع يسوع أن
يحثّ معاصريه على ممارسة العدالة في المعاملة "اليومية"، وان كنّا لا
نجد أثراً لذلك في النصوص؛ أما الكلمة المذكورة في متى 23: 23
(krisis) فتعني
العدل بالمعنى الحصري.

وفي
أسلوب المسيح، يحتفظ البرّ بمعناه الكتابي أي التقوى القائمة في ممارسة الشريعة.
ولو أن هذا لم يكن محور رسالته، فلم يخش يسوع أن يعرّف السلوك الأدبي بمثابة بر
حقيقي، وبمثابة طاعة روحية لوصايا الله.

ونميّز
هنا بين مجموعتين أساسيتين من الأقوال. فالأولى تدين برّ الفريسيين المزيّف.
ويتفوّق يسوع على كبار الأنبياء في شجب الرياء الديني، إذ يرى فيه لوناً من التدين
البشري المحض المصطبغ بالكبرياء (متى 23
).

وبالعكس
يصف يسوع في الحطاب الافتتاحي البر الحقيقي ألا وهو برّ التلاميذ (متى 5: 17- 48،
6- 1- 18) فبه يتحرر التلميذ من المفهوم الحرفي الضيّق للوصايا، لتظل حياته متّسمة
بالبرّ أي بالأمانة لقواعد معينة. على أن هذه القوانين، على ضوء تعاليم يسوع
الجديدة، تلتقي من جديد بالشريعة الموسوية، لكن في روحها، أي من حيث هي إرادة الله
النقية الكاملة.

2. المسيحية في العصر الرسولي:

هنا
أيضاً لا ينصبّ الاهتمام على البر بمعناه الحصري. فعالم الكنيسة الناشئة يزيد عن
بيئة الأناجيل اختلافاً، من حيث الأوضاع التي كانت سائدة في جماعة إسرائيل.
فالمشاكل التي تواجه الكنيسة هي رفض اليهود للإيمان، وعبادة الأصنام عند الوثنيين،
أكثر من موضوع العدالة الاجتماعية إلاَّ أنه عندما تعرض المناسبة، يظل الحرص على
العدالة قائماً وحيّاً (1 تيموتاوس 6: 11، 2 تيموتاوس 2: 22
).

نجد
أيضاً، في العهد الجديد، فكرة البر بعمق القداسة. فالتقوى القائمة في ممارسة الشريعة
عند أشخاص مثل يوسف (متى 1: 19) وسمعان (لوقا 2: 25). فهي كانت تهيئهما لقبول
الوحي الخاص بمجيء المسيّا (راجع متى 13: 17). وإذ يكتب متى أن يسوع عند اعتماده
"قد أتم كل برّ"، يبدو انه يعلن موضوعاَ خطيرا من بشارته، أي أن يسوع
أوصل إلى نهايته البر القديم، أي الديانة المبنيّة على الشريعة (متى 3: 15
).

ويوضح
مفهوم متى في التطويبات أن في المسيحية صورة مجددة للتقوى اليهودية (5: 6 و10): فالبر
الذي يجب أن يبتغيه المرء والذي من أجله ينبغي أن يتألم، يبدو انه هو الأمانة
لقاعدة سلوكية تظلّ بمثابة شريعة.

وأخيراً
نجد في الكتب الرسولية معنى خاصاً سبق ولاحظناه في العهد القديم، حيث يعني البر،
في بعض الأحيان، جزاء المحافظة على الشريعة. ويصبح البر بمثابة ثمر (فيليبي 1: 11،
عبرانيين 12: 11، يعقوب 3: 18)، واكليل (2 تيموتاوس 4: 8)، كأنه جوهر الحياة
الأبدية (2 بطرس 3: 13
).

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ر ربة المدينة الكبيرة ة

ثانياً:
البر الإلهي

العهد
القديم:

تمجّد
القصائد الحربية والدينية القديمة البر الالهي في حيثياته الواقعية. فتارة هو حكم
قصاص تأديبي ضد أعداء إسرائيل (تثنية 33: 21)، وتارة أخرى (خاصة بصيغة الجمع: أعمال
عدالة، أي أعمال الله في إنقاذ الشعب المختار (قضاة 5: 11، 1 صموئيل 12: 76، ميخا
6: 3- 4). ويردّد الأنبياء هذا الأسلوب ويتعمقون فيه. فالله لا يوجّه تأديباته -أي
برّه- ضد أعداء الشعب، بقدر ما يوجهها ضد الخطأة، حتى من الإسرائيليين (عاموس 5: 24،
اشعيا 5: 16، 10: 22
…).

من
جهة أخرى، يقوم بر الله في الحكم الصادر لمصلحة صاحب الحق، أي في إنقاذه (ارميا 9:
23، 11: 20، 23: 6). ومن هنا، يأتي استخدام الفعل المقابل "يبرّر" (1
ملوك 8: 32
).

ويرد
هذا المعنى المزدوج نفسه في بعض المراثي، حيث نرى الشخص المتألم تارة يتوسل إلى
الله بأن يتفضل عليه بالحياة، بحسب أمانته (مزمور 71: 1- 2)، وتارة أخرى، يعترف
بأن الله، بتأديبه له، يكشف عدله الكلي النزاهة (دانيال 9: 6- 7، باروك 1: 15، 2: 6)،
ويظهر ذاته باراً (عزرا 9: 15، نحميا 9: 32- 33، دانيال 9: 14). وإنه لأمر طبيعي
أن تعظّم الأناشيد بصفة خاصة الجانب الإيجابي للبرّ في إنقاذ الملتمس (مزمور 7: 18،
9: 5، 96: 13) فالله البار العادل هو الإله الرحمان (مزمور 116: 5- 6، 129: 3- 4
).

العهد
الجديد:

بعكس
الأنبياء ومرنّمي المزامير، فالعهد الجديد لا يفسح مجالاً لتدخّل عدل الله القضائي
في حياة المؤمن أو الجماعة. لكنه يركز بالأحرى الاهتمام على الدينونة الأخيرة. والمعروف
أنه في تلك الدينونة النهائية، يظهر الله باراً، وعادلاً، إلاّ أننا لانجد
المصطلحات الخاصة بالبر (العدل) إلاّ نادراً، وفي أماكن متفرّقة. ذلك لأن يسوع
-دون أن يستبعد الألفاظ التقليدية المتعلقة بالدينونة الأخيرة (متى12: 36- 37، 41-
42)- يعلن الخلاص بمثابة عطية إلهية تُمنح عند توفّر الإيمان، والتواضع.

وان
ظلت الكنيسة، في عهدها الرسولي، محافظة على هذا الأسلوب (يوحنا 16: 8 و10- 11، 2
تيموتاوس 4: 8)، إلا أنها تجد نفسها مضطرة إلى الإلحاح على صرامة الحكم الإلهي،
كأنها تعود مرة أخرى إلى الاصطلاحات الخاصة بالنظام الأخلاقي المبني على الأعمال
(متى 13: 49، 22: 14، متى 7: 13- 14، لوقا 13: 24)، وإلى اتّباع أسلوب يجمع بنوع
ما بين موضوع الدينونة وبين الدعوة الإنجيلية إلى الخلاص بإلايمان.

وأكثر
من ذلك، فإننا نشاهد بعض آثار هذه الثنائية المتعارضة عند القديس بولس نفسه. حقاً،
سيفصّل بولس عقيدة النعمة والإيمان بملء مداها، كما سنرى فيما بعد، إلا أنه يستمر
في استخدام التعبيرات اليهودية في كلامه عن قضاء الله العادل الذي سوف يجازي كل
واحد بحسب أعماله (2 تسالونيكي 1: 5- 6، رومة 2: 5
).

القسم
الثاني: البر بالنسبة إلى الرحمة

أولاً:
بر الإنسان

العهد القديم

يرتكز
التقيّد بحرفيّة القانون على المطابقة بين البرّ وحفظ الشريعة. وهذا المفهوم سابق
تماماً لزمن السبي. فالشريعة هي قاعدة الحياة الأدبية. وبر المؤمن يعطي للمؤمن
حقاً في السعادة والمجد، إلاّ أنه من الأهمية بمكان أن نشير إلى بعض النصوص التي
تظهر أن هذا البر، بحسب الشريعة، باطل وعديم الجدوى. وتذكر بعض النصوص القديمة غزو
أرض الموعد بنبرات تنبئ مسبقاً بمفهوم بولس عن الخلاص بإلايمان: "لا تقل في
نفسك… لأجل برّي، أدخلني الرب لأملك هذه الأرض" (تثنية 9: 4- 6
).

وعلى
ضوء ذلك يمكن تفسير المقطع الشهير في كتاب التكوين: "فآمن (ابراهيم) بالرب
فحسب له ذلك براً" (تكوين 15: 6). وسواء كان البر الوارد هنا يعني السلوك
الذي يرضي الله، أو كان -بحسب تطور الكلمة المشار إليه مقدماً- الثواب نفسه أو
الحق في الثواب، فإن الإيمان في كلتا الحالتين هو الذي يحظى بالمديح، بصفته الطريق
لإرضاء الله. وهذا الارتباط الأساسي بين البر والتسليم لله يبعدنا عن المفهوم
القانوني الجامد للبر، كما وضّح ذلك القديس بولس. وقد وردت هذه العبارة في 1
مكابيين 2: 52، ولنا ما هو أشبه بصدى لهذا المفهوم في 1 مكابيين 14: 35، حيث يظهر
البر بمعنى "الوفاء الذي حفظه سمعان المكابي لشعبه
".

وأخيراً
يمكن أن نعتبر تساؤلات أيوب المفجعة "ونظرة التشاؤم الملهمة"، في كتاب
الجامعة التي تضع عقيدة المجازاة موضع الشك، تهيئة للأذهان لتستقبل وحيا أسمى: "صديق
يهلك في بره" (جامعة 7: 15، راجع 8: 14، 9: 1- 2). كيف يبرّ الإنسان تجاه
الله؟ (أيوب 9: 2، راجع 4: 17، 9: 20
…).

العهد الجديد

1. تعلق رسالة يسوع بكل تأكيد الاهتمام القاطع على
الثقة بالله، أكثر منه على حفظ الوصايا. إلا أنه يبدو أن يسوع، دون تحويل مصطلحات
البرّ إلى اتجاه جديد، قد أسبغ معنى جديداً على مفردات أخرى مثل المسكين، المتواضع،
الخاطئ. ومع ذلك، فربما يكون يسوع قد سمّى البر الحقيقي إيماناً، وأشار إلى الخطأة
أنهم الأبرار الحقيقيون (راجع متى 9: 13)، وعرّف التبرير بأنه المغفرة الموعود بها
للمتواضعين (لوقا 18: 14
).

2. كان بولس يسعى، قبل اهتدائه إلى الإيمان، إلى بر
الشريعة (فيليبي 3: 6). هذا البر الذي يناله الصدّيق بمقدار أعماله الصالحة، (رومة
9: 3- 31، 10: 3). وعلى هذا الأساس، يمكن تسميته البر الآتي من الشريعة (رومة 10: 5،
غلاطية 2: 21، فيليبي 3: 9)، أو من الأعمال (رومة 3: 20، 4: 2، غلاطية 2: 16). ولم
يغيّر هذا الاهتداء كل مفاهيم الرسول دفعة واحدة. غير أن الخلاف الذي وقع في
أنطاكية يعتبر نقطة تحول حاسم. فقي غلاطية 2: 11- 21، يقابل بولس بين أسلوبين
للتبرير ويعطي للفعل "تبرر" طابعه المسيحي: "ونحن أيضاً آمنا بيسوع
المسيح كيما يبررنا الإيمان بالمسيح لا العمل بأحكام الشريعة" (غلاطية 2: 16
).

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس هـ هلنستية ة

وعلى
هذا الأساس، يتبدّل مفهوم بولس في التبرير تبديلاً كاملاً. ومنذ ذلك الحين يؤمن
الإنسان بالله، والله "يبرره"، أي يضمن له الخلاص بالإيمان بالمسيح
والاتحاد به. فمنذئذٍ أصبحت كلمة "البر" ومشتقاتها تعني الحقائق
المسيحية الخاصة بالخلاص. وفد حصل المؤمن على اليقين من محبة الله بصورة ملموسة: فالروح
(غلاطية 3: 2) و الحياة (2: 19- 21) يشهدان بهذا التبرير، ويشكّلانه في آن. فقد
انتقل محور الاهتمام من الدينونة الأخيرة إلى بر يعتبر حالة حاضرة، ولكنه يظل في
تطلع نحو الأيام الأخيرة لأنه عربون الخيرات السماوية.

ثانياً:
البر الإلهي

العهد القديم:

عندما
يمارس الله بره الفضائي، يتولى في أغلب الأحيان نجدة المظلومين. وهذا التحرير، في
حدّ ذاته، يظل في إطار العدالة القضائية، ولكن باعتباره إنعاماً يصلح اتّخاذه
كنقطة انطلاق نحو مفهوم أسمى لبر الله.

ومن
الناحية الأخرى، لقد أدرك العهد القديم أن الإنسان لا يستطيع أن ينال رضى الله
ببره الذاتي، وأن الإيمان بالأحرى هو الذي يجعلنا مقبولين من الله. وهذه الفكرة
تعتبر ركيزة ثانية تصل بنا إلى مفهوم بر الله الشاهد على رحمته ومدخلاً لتفهم سر
التبرير.

وقد
تمّ هذا التوسّع في المفهوم مبكراً. فحسب كتاب التثنية، لا يكتفي الله بأن يقيم
العدل لليتيم: إنه يحب الغريب "ويرزقه طعاماً وكسوة" (تثنيه 10: 18).
وفي هوشع، (2: 21) يبذل الله وعداً بأن يخطب شعبه "بالعدل والحكم، وبالرأفة و
المراحم
".

أن
الشاكي، وهو يحدّث في ضيقه، إذ يلجأ إلى عدل الله، يترقب مما هو أكثر بكثير من حكم
عادل: فهو يطلب الحياة: "أحيني بعدلك" (مزمور 119: 40 و106
و123، 36: 11)،
بل يتجاوز ذلك منتظراً براً قائماً في مغفرة الخطيئة (مزمور 51: 16، دانيال 9: 16
).

لكنّ
تبرير الخاطئ عمل يبدو غريباً، بل متناقضاً مع منطق العدالة القضائية، حيث إن
تبرئة الأثيم هي الجرم الأكبر.

وفي
أناشيد كثيرة من كتب المزامير، نشاهد تناقضاً مماثلاً: يظهر الله بره بإفاضة خيرات
مجانية، كثيراً ما تكون شاملة وتفوق من كل وجه ما يحق للإنسان أن يتوقعه (مزمور 65:
6، 111: 3، 140: 7 و17، راجع نحميا 9: 8
).

وفي
أشعيا 40: 66، يتخذ تعبير "بر الله" أهمية وبعداً يمهّدان لتعليم القديس
بولس الأساسي. ففي هذه الإصحاحات من اشعيا، يمثّل بر الله تارة خلاص الشعب الأسير،
وأخرى رحمة الله وأمانته. هذا الخلاص مقدّم كعطية تفوق بكثير فكرة النجدة أو
الثواب. وهو يشمل منح الخيرات السماوية مثل السلام، والمجد لشعب لا فضل له سوى
كونه مختاراً من الله (اشعيا 45: 22- 24، 46: 12- 13، 51: 1- 3 و5 و8، 54: 17، 56:
1، 59: 9). وسوف يتبرّر كل شعب إسرائيل، أي يتمجد (45: 25). وهكذا يظهر الله نفسه
باراً، بمعنى أنه يكشف عن رحمته، ويتمم مجاناً وعوده (41: 2 و10، 42: 6 و21، 45: 13
و19- 21
).

العهد الجديد:

1. يسوع:

لكي
يعبّر يسوع عن الإعلان العظيم بالخلاص الإلهي الذي يتحقق بمجيئه إلى العالم، فهو
لا يتحدث عن ظهور بر الله، كما فعل إشعيا، وكما سوف يفعل القديس بولس، ولكنه
يستخدم تعبيراً مماثلاً ألا وهو ملكوت السماوات. وقد ظلّت المسيحية الناشئة
باستثناء القديس بولس، قريبة من أسلوب يسوع. فلم تستخدم، هي الأخرى، تعبير
"بر الله" للدلالة على النعمة الإلهية التي تجلّت في شخص يسوع المسيح.

2. القديس بولس:

وبعكس
ذلك، يشرح القديس بولس هنا الموضوع بوضوح ودقة. ولم يقم بهذا العمل "بالتحديد
في مطلع خدمته، فالرسائل التي كتبها لأهل تسالونيكي، وإلى أهل غلاطية تخلو من ذكر
هذا الموضوع. وقد كان تعليمه عن الخلاص في البداية حاملاً طابعاً اسكاتولوجياً،
متفقاً في ذلك مع مجمل الكرازة الأولى (1 تسالونيكي 1: 10) ويتميز تعليمه بالتركيز
على النجاة، أكثر منها على الغضب، إلا أن هذا التحرير يمثل بالأكثر الجانب
الإيجابي في الحكم، ويظل الأمر إذاً في إطار برّ الله القضائي. ولكنّ محاولات بولس
مع المسيحيين من ذوي الأصل اليهودي، قد أدت به إلى أن يحدد البر الحقيقي بأنه نعمة
موهوبة في الوقت الحاضر. وهذا ما يحمله، في رسالته إلى أهل رومة على تعريف الحياة
المسيحية أنها "برّ الله". ويمتاز هذا التعبير بأنه يحتفظ بالطابع
الاسكاتولوجي المرتبط منذ البداية بالخلاص والملكوت، وبأنه في الوقت نفسه، يؤكد
على أنّ البرّ هو أيضاً نعمة حاضرة من حيث معارضته الآتي من الأعمال. فبرّ الله هو
إذن النعمة الإلهية، وهي في حد ذاتها اسكاتولوجية بل رؤيوية، ولكنها متحققة فعلاً
ومنذ الآن في الحياة المسيحية بصورة مسبّقة.

وسوف
يقول القدير بولس إن بر الله ينزل من السماء (رومة 1: 17، 3: 21- 22، 10: 3)،
ويأتي لكيٍ يجدّد البشرية. هو خير خاص بالله في أساسه، يصبح خاصاً بنا، دون أن
يفقد طابعه السماوي.

وفي
الوقت نفسه، يفرض القديس بولس ضمناً أن اشتراكنا في هذا البر يرجع إلى أمانة الله
نحو عهده، أي في النهاية إلى رحمته. بل في بعض الأحيان، يعبّر عن هذه الفكرة بوضوح،
فنصل إلى المعنى الثاني "لبر الله" عند القديس بولس، ويكون مرادفاً
للرحمة كصفة إلهية. وهذا ما نشاهده في رومة 3: 25- 26: "ويظهر الله بره في
الزمن الحاضر، ليكون باراً ومبرراً من له الإيمان بيسوع المسيح". وفي رومة 10:
23 يقارب المفهومان: "جهلوا بر الله (النعمة الممنوحة للمسيحيين) وحاولوا
إقامة برّهم فلم يخضعوا لبرّ الله" (الرحمة
).

وهكذا
نرى أن مفهوم البر في الكتاب المقدس له طابع مزدوج. فنظرا إلى الدينونة الإلهية
التي تمارس على مجرى التاريخ، ينبغي للإنسان أن "يصنع البر". وهو يدرك
هذا الواجب بصورة تزداد روحانية، فتنتهي إلى "العبادة بالروح والحق"
(يوحنا 4: 24
).

ومن
جهة أخرى، نظراً إلى تدبير الخلاص، يدرك الإنسان عجزه في الحصول على هذا البر،
بفضل أعماله الشخصية، لكنه يناله كهبة من جانب النعمة. وفي آخر الأمر، لا يمكن
إرجاع برّ الله إلى فعل من أفعال الدينونة، إنما هو، فوق كل شيء، رحمة وأمانة نحو
قصده الخلاصي: فهو يخلق في الإنسان البرّ الذي يطاله به.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي