حياة

 

من
الواضح أن مفهوم "الحياة" في أسفار الكتاب المقدس يتحرك في إطار
المفاهيم الكونية الكبرى للخليقة و السقوط و الفداء و الآخرة.

وتتجه
فكرة "الحياة" في غالبية فصول الكتاب المقدس، إلى "الحياة
الأبدية" بما تتضمنه من "نوعية الحياة" بارتباطاتها الأخلاقية العميقة،
كما تتضمن الدوام اللانهائي في الدهور الآتية:

 

أولاً:
الفكرة الكتابية عن التجديد و الاخرويات:

(I)توجيه أساسي: ان الدراسات المتعمقة التي قام بها
"جيمس أور

(James orr –
في كتابه: "النظرة المسيحية لله و العالم") و
"ألكسندر هيدل
"
(A.Heidel
في كتابه: "ملحمة جلجامش وما يقابلها في العهد القديم") قد
أبرزت السمو الفريد للمفهوم الكتابي للخلود عن كل ما يزعمون أنه ورد في الكتابات
الوثنية. فالخلود في الكتاب المقدس ليس مجرد بقاء النفس، ولكنه حياة الإنسان ككل
جسداً ونفساً . فيقول "أور": "يقولون إنه ليس ثمة تعليم في العهد
القديم عن الخلود، ولكني أجيب بأننا نجد "الخلود" وارداً فيه منذ
البداية، لأن الإنسان خرج من يد خالقه ليحيا حياة الخلود. لقد كان الإنسان في جنة
عدن خالداً، كان مفروضاً أن يحيا لا أن يموت … و الكتاب المقدس لا يتحدث عن خلود
النفس فحسب – فهذا متروك للفلاسفة – بل يتحدث عن خلود الانسان، ككل جسداً ونفساً
معاً. هذا هو الرجاء المسيحي وهكذا … كان الرجاء عند العبرانيين أيضاً".
وكتب "هيدل" بعد ذلك بخمسين عاماً مؤيداً ما سبق أن اكتشفه
"أور"، حيث يقول: "ان حضارة ما بين النهرين كانت تعتبر أن الإنسان
قد خلق ليموت، فالموت هو النتيجة الطبيعية لتكوينه. أما العبرانيون فكانوا يؤمنون
بأن الإنسان قد خلق ليحيا حياة لانهاية لها، لذلك كان الموت – عندهم- أمراً غير
طبيعي … حتى أحدث السجلات البابلية والأشورية لا تذكر شيئاً عن قيامة الجسد، وهو
الأمر الذى يعلنه بوضوح كل من إشعياء ودانيال … وهذه الفروق تجعل البعد بين
عقيدة أهل بلاد النهرين و عقيدة العبرانيين كبعد المشرق عن المغرب. و هكذا نجد أن
أساس العقيدة الكتابية عن الحياة، موجود في تكوين الإنسان منذ الخليقة و في رجاء
الفداء السماوي – المؤسس على النعمة – من الخطية و الموت، فهناك خط مستقيم يمتد من
عدن فالسقوط الي ظهور آدم الأخير وعمله الفدائي. وحياة الفداء تشمل الماضي و
الحاضر و الموت و القيامة وظهور المسيح ثانية، واشتراك الإنسان الخاطي في التجديد
الشخصي و القيامة الشخصية
.

(II) موت الرب يسوع المسيح وقيامته كأساس لحياة الفداء: يكفينا هنا أن نشير
إلى فلسفة التاريخ في نظر الوحي الإلهي كما نراها في الأصحاح الثاني من الرسالة
إلى العبرانيين فالقصد الإلهي في الفداء والغلبة، هو في الوعد المذكور في المزمور
الثامن، بإخضاع كل شيء تحت قدمي الإنسان في"العالم العتيد". ولأجل هذا
ذاق "ابن الله" المكلل بالمجد و الكرامة الموت لأجل كل واحد، فقد أباد
بموته وقيامته وهما أمران مرتبطان لا ينفصمان ذاك الذي له سلطان الموت وأنقذ الذين
كانوا تحت العبودية. "فبعدما قدم عن الخطايا ذبيحة واحدة (مرة واحدة وإلى الأبد)
جلس إلى الأبد عن يمين الله (مكان السيادة المطلقة) منتظراً بعد ذلك حتى توضع
أعداؤه موطئاً لقدميه. لأنه بقربان واحد قد أكمل إلى الأبد" (عب 10: 12 15)
.

 

(V) الولادة الثانية للفرد:

(1) الحياة في ارتباطها بالتجديد: هذه الحياة،
المرتبطة بشفاء الإنسان من الخطية، هي في أساسها مفهوم أخلاقي و روحي. والموت هو
الضد منها هو الموت بالذنوب والخطايا .فالحياة تتضمن التجديد، "التغيير
الجذري العميق وتصويب توجهات طبيعة الإنسان وأخلاقياته و ولائه، إنها "ميلاد
جديد". والشخص المتجدد أصبح في ملكوت الله (كو 1: 13)، ولكن كان هناك وجهاً
مستقبلياً للملكوت، سيدخل إليه (يو3: 3 و5، مت 7: 21). وهذان الوجهان للملكوت هما بعبارة
أخرى "الحياة"، فمن يؤمن بالمسيح "له حياة" (1 يو 5: 12)،
و"سيدخل الحياة" (مرقس 9: 43 و45)، التي هي الملكوت (مرقس 9: 47)
.

والروح
المقدس يمنح الحياة في الميلاد الثاني (يو 3: 1، كو 12: 13)، وهو سيحيي أجسادنا
المائتة (رو 8: 11) لندخل إلى الحياة أو "العالم الآتى" . فوجود الروح
وعمله هما أساس الملكوت، فعمله في الميلاد الثاني هو الذي يفتح الباب أمام المؤمن
إلى الملكوت، وعمله في القيامة (وتغيير الأحياء 1كو 15: 51 54) هو الذي يهيء
المتجدد لميراث الملكوت (1كو 15: 5)، فوجها الملكوت يقابلان وجهي
"الحياة"، ويسيران جنباً إلى جنب، وأحدهما مشتمل في الآخر. وهذه الأحداث
من الاشتراك في الحياة والدخول إلى الحياة هما عطايا من نعمة الله (رو 6: 23)،
وأساسهما الوحيد هو عمل المسيح الفدائي (يو 20: 31،1بط 1: 3 5، تي3: 5 8)، وهذه
العلاقة بين الملكوت والحياة بعمل الروح، هي أيضاً العلاقة بالعهد الجديد أو
الموعد(غل 4: 24 و28 و29، عب 8: 10 12، 9: 15). كما يمكن النظر إلى هذين الوجهين
للحياة أو للملكوت كميراث حاضر من حيث أننا أبناء (غل 3: 29) وما يستتبع ذلك من
دخولنا في المستقبل إلى الميراث (مت 25: 34، أع 20: 32، 1كو 15: 50، 1بط1: 3و4،
1يو 3: 2و3، رؤ21: 7
).

(2) الانتقال من الموت إلى الحياة، في رسائل بولس: نجد
في رسائل الرسول بولس اهتماماًخاصاً بتحليل الانتقال من الموت إلى الحياة في
اختيار الفرد، فعمل الروح المقدس في منح الإيمان والحياة يجري في دائرة
"الدعوة" ونجد ترتيباً بليغاً رائعاً للمقاصد الإلهية فيما جاء في
الرسالة إلى رومية (8: 29 و30)، فالمختارون دعاهم وبررهم، فمن المنطق يقيناً، أن
يمجدهم. كما نجد نفس الشيء في غلاطية (3: 22 26)، فقبل أن يجيء الإيمان،كان بولس
تحت لعنة الناموس وقصاصه مغلقاً عليه إلى الإيمان كالرجاء الوحيد للإنسان في حالته
التعيسة، حالة المذنوبية واليأس.ونجد في الرسالة إلى أفسس (4: 1)"الدعوة"
التي دعينا بها، كما فيها أيضاً أنه قد صار لنا فيه حق الاقتراب إلى الله
بالإيمان(أف 2: 12 18) وهو في ذلك يتجاوب مع قول الرب: "أنا هو الطريق والحق
والحياة، ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي" (يو14: 6)، فهو الطريق الوحيد إلى
الآب. وهنا نجد صورة بارعة للدخول إلى خيمة الاجتماع (عب 10: 19 22)، كما يبدو
أننا نجد نفس الصورة في الرسالة إلى الكنيسة في روما حيث "صار لنا الدخول
بالإيمان إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون" (رو 5: 2). ونجد في الرسالة
إلى الكنيسة في فيلبي، تحليلاً لاختبار بولس حيث يستند إيمانه استناداً كاملاً على
معرفة المسيح المخلصة (في 3: 8 10). كما نجد في الرسالة إلى الكنيسة في كولوسي
وصفاً لعمل الروح القدس في منح الحياة في العهدين القديم والجديد في صورتي الختان
والمعمودية والقيامة في حياة جديدة. وتركز الرسالتان إلى الكنيسة في تسالونيكي على
" الاختيار" الذي أدى إلى "الدعوة" (2 تس2: 13و14) . و نجد في
الرسالة إلى تيطس ربطاً جميلاً بين عمل الروح القدس في منح الحياة، والتبرير
بالنعمة الذي هو النتيجة الحتمية، والذي يجعل المؤمن وارثاً حسب رجاء الحياة
الأبدية (تي3: 4 7
).

هل تبحث عن  م الأباء أغسطينوس الروح والحرف 59

(3)الولادة الثانية في العهد الجديد: نجد في
الرسالة إلى تيطس (3: 4 7) تعبيراً رائعاً يستلفت الانتباه، وهو كلمة
"تجديد" التي تنظم كل مفهوم حياة الفداء. و لا توجد هذه الكلمة في موضع
آخر سوى في إنجيل متى (19: 28). وفي كلتا المرتين تمثل هذه الكلمة المركز المهيمن
على مرحلتي استعادة الحياة. فالمعنى واضح في الرسالة إلى تيطس (3: 4 7) هو عمل الروح
القدس في تجديد نفس الفرد، أما في إنجيل متى فتشير الكلمة إلى وقت القيامة وعتق
الخليقة من الأنين (هو ما سنوضحه فيما بعد)، ففي إنجيل متى لا تشير كلمة
"تجديد" إلى تجديد الفرد، بل إلى تجديد الكون الذي سيحدث في النهاية.و
يبدو أن هذا الاستعمال للكلمة يضفي عليها المعنى الواسع للتجديد الكامل الشامل،
فإذا كانت الكلمة في الرسالة إلى تيطس تشير إلى تجديد الفرد بهذا المعنى الواسع،
فإنها تتطابق في المعنى مع "الميلاد الثاني" ولا تختلف عنه إلا كما
تختلف العبارة المجازية البليغة عن التعبير الحرفي عن نفس الفكرة، وكان الرسول
يريد أن يقول إن خلاصنا ليس شيئاً نبلغه بجهدنا، ولكنه شيء يتم فينا بعمل الله في
رحمته العظيمة "بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس
".

(1) شهادة يوحنا عن الانتقال من الموت إلى الحياة: يكلمنا يوحنا أيضاً عن
هذا الانتقال الهائل من الموت إلى الحياة،ويؤكد أن الإيمان والحياة صنوان لا
يفترقان: "من له الابن فله الحياة،ومن ليس له ابن الله فليست له الحياة"
(1يو5: 12 انظر أيضاً يو5: 24).ويقدم لنا إنجيل يوحنا في الكثير من المواجهات
الشخصية بين المسيح ومن يتقدمون إليه بأسئلتهم، صوراً حية للارتباط المباشر الوثيق
بين الإيمان والحياة، فلحظة الإيمان هي نقطة الذروة أو النقطة الفاصلة في الموضوع،
كما في قصة خادم الملك(يو4: 50)، والمرأة السامرية (يو4: 25و26).و في حالات أخرى
نرى ازدياد الإيمان واليقين عند المؤمنين، كما في حالة مرثا(11: 23 27)، ويوحنا
(20: 8 و9)، وتوما(20: 27 29)، وبطرس(21: 15 17) . فدائماً نجد التوكيد على
الارتباط الوثيق بين الإيمان والحياة، كما نرى ذلك في الخاتمة الرائعة: "لكي
تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه" (يو20: 31)
.

(2) ظهور الحياة في الأعمال الصالحة: بعد الحصول على الحياة بالإيمان، يسلط
الكتاب المقدس الضوء على الحياة والسلوك، فيفترض دائماً أن الدعوة الفعالة لا بد
أن تؤدي إلى الأعمال الصالحة، فلا غموض أو وهن في الاهتمام القوي العميق بالقداسة
العملية، والتوافق القلبي مع ناموس الله،فالانتقال المنطقي في رسائل الرسول بولس
هو من التعليم إلى التطبيق الأخلاقي، وأوضح مثال لذلك هو ما جاء في الرسالة إلى
الكنيسة في روما (12: 1و2). وشتان بين أعمال الجسد، وثمر الروح (غل 5: 16 25).
والهدف من موت المسيح هو"لينقذنا من العالم الحاضر الشرير" (غل 1: 4،انظر
أيضاً6: 14)، وهذه النصرة لا تتحقق إلا بعمل الروح المقدس(غل5: 5و25
).

ومقياس
السلوك الأخلاقي ناموس الله (غل5: 14، رو13: 8 10) فقوة الروح المحررة تعمل على
إتمام بر الناموس في من يسلكون بحسب الروح (رو8: 2 4)، وهكذا يصبح الناموس الكامل،
ناموس الحرية،"الناموس الملوكي" بسيادته على كل جوانب الحياة هو النور
والمرشد للمسيحي. فقد كان "الناموس للحياة" (رو 7: 10)لا ليمنح الحياة
بل ليكون قاعدة و مرشداً لمن يعمل فيه الروح بقوته المحررة مانحة الحياة. وتتجه كل
ظواهر الحياة الأخلاقية بقوة عمل الروح القدس إلى هدف الكمال، ويعبر الرسول بولس
عن النمو في الحاضروالهدف النهائي بالقول: والرب ينميكم ويزيدكم في المحبة بعضكم
لبعض وللجميع كما نحن أيضا لكم، لكي يثبت قلوبكم بلا لوم في القداسة أمام الله
أبينا في مجيء ربنا يسوع المسيح مع جميع قديسيه" (1تس3: 12 و13)، كما يقول
أيضا: "وإله السلام نفسه يقدسكم بالتمام ولتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة
بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح"(1تس5: 23). فالمؤمنون يتوقعون بشوق شديد
التقديس بالتمام، والكمال في القداسة عند مجيء ربنا يسوع المسيح وقيامه المؤمنين.

(3) الطبيعة الأخلاقية للحياة الجديدة: الحياة التي تمنح للإنسان الميت
بالذنوب و الخطايا هي حياة أخلاقية مقدسة بكل معاني الكلمة.لقد دخل الموت إلى
العالم لأن الإنسان قد أفسد الطبيعة المقدسة التي أعطاها الله له. ولكي يمكن لروح
القداسة أن يسكن مع الناس وفيهم، ويقودهم بقوة خارقة للحياة المنتصرة كما يرسمها
الكتاب المقدس، كان لا بد أن يرفع حمل الله خطية العالم. والمشهد الرهيب المرّوع،
و ابن الله يحمل خطايا البشر، لأعظم دليل على أن الله لا يتهاون في قداسته عندما
يصفح عن الخاطيء، فقد استوفت العدالة حقها، فدم المسيح يطهر الضمير من الأعمال
الميتة ويمنح السلام. والحياة التي يمنحها الروح المقدس لكل من يؤمن،تتجلى في
الصراع ضد الخطية، والسعى حثيثاً نحو القداسة التي بدونها لن يرى أحد
الرب"(عب12: 14
).

والقيامة
هي انتظار كل المؤمنين لأنها تعني كمال القداسة،أي التقديس الكامل للإنسان ككل.
فالسماء ليست مجرد الوجود الأبدي بل ظهور كمال باهر لكل ما قصد الله منه نحو
الانسان أن يكونه "وعبيده يخدمونه وهم سينظرون وجهه واسمه على جباههم"
(رو22: 3و4
).

(4) تجديد الفرد في العهد القديم: لقد ثار جدل كثير حول الحالة والامتيازات
الروحية للمؤمنين قبل الصليب. والأرجح أن الجميع يسلمون بأن: "الإسرائيلي
المؤمن كان مولوداً ولادة ثانية" (انظر يو 3: 3و5 مع لوقا 28: 13). فهذه
العبارة – التي ذكرها سكوفليد – تعبر عن مفهوم المؤمنين بالكتاب المقدس، و النقطة
الرئيسية هنا هي أن الولادة الجديدة – باعتراف الجميع – هي ما يميز المفديين في كل
العصور.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ن نَرْكيسّوس س

وقد
لا ينتهي الجدل حول محتوى إيمان المؤمنين قبل الصليب، وحول امتيازاتهم الروحية وكل
علاقاتهم بالروح القدس، ولكن إذا سلمنا بأن كل المؤمنين هم مولودون ثانية، فعلينا
أن نسلم بأنه ليس ما يدعم هذه الحياة، إلا الوجود الدائم للروح القدس واستمرار
عمله.

كما
نجد أن الرسل في شرحهم لكيفية خلاص الإنسان من الخطيئة والموت، ينظرون إلى العهد
القديم باعتباره المقياس الذي يرجعون إليه، فالرسول بولس يرى بركة التبرير
بالإيمان قي اختبار ابراهيم وداود (رو 1: 4 – 8، اقتباسا من تك 16: 15، مز 1: 32و2).
وبعد أن شدد الرسول على الدعوة إلى قداسة الحياة (2كو 14: 6 -18) مع ذكر سلسلة من
الوعود والتحريضات اقتباساً من إشعياء (إش 11: 52، 6: 43) ومن هوشع (10: 1)، يقول:
"فإذا لنا هذه المواعيد أيها الأحياء لنطهر ذواتنا من كل دنس الجسد والروح
مكملين القداسة في خوف الله
".

ويجمع
في الرسالة إلى العبرانيين بين شعب الله القديم والمؤمنون في العهد الحاضر بالقول:
"وبيته نحن" (عب 6: 3). ويقول الرب: "متى رأيتم إبراهيم واسحق
ويعقوب وجميع الأنبياء في ملكوت الله" (لو 28: 13) و هو الملكوت الذي سيدخله
جميع المولودين ثانية. كما أن إبراهيم "كان ينتظر المدينة التي لها أساسات …
(عب 10: 11) وهي نفس المدينة التي نحن جميعا نطلبها: "لأن ليس لنا هنا مدينة
باقية لكننا نطلب العتيدة" (عب 14: 13)، إذ سبق الله فنظر لنا شيئاً أفضل لكي
لا يكملوا بدوننا" (عب 40: 11
).

وللعهد
القديم لغته الخاصة في التعبير عن تجديد القلب، فنقرأ "يختن الرب إلهك قلبك
وقلب نسلك لكي تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك" (تث 6: 30)، ونتيجة
"ختان القلب" هي محبة الرب من كل القلب ومن كل النفس. كما يجمع في نتيجة
نبوة حزقيال بين عمل الروح وتجديد القلب، مع الوعد "بقلب جديد" للسلوك
في ناموس الرب (حزقيال 25: 36-27). ونصل إلى الذروة في نبوة إرميا، حيث نستمع الي
هذه النبوة العظيمة: "هذا هو العهد الذي أقطعه … بعد تلك الأيام يقول الرب:
"أجعل شريعتي في داخلهم وأكتبها على قلوبهم وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لي
شعباً …" (إرميا 33: 31، انظر عب 8: 8). وإرميا هنا يحث ذلك الجيل المتمرد
المتكل على بره الذاتي، بالقول: "ولا يعلمون بعد كل واحد صاحبه وكل واحد أخاه
قائلين: اعرفوا الرب … لأني أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيئتهم بعد" (إرميا 34:
31)، فواضح هنا أنه كان من المتاح – في أيام إرميا – الصفح عن الإثم وكتابة
الشريعة على القلب، أما التوبيخ فموضوعه هو أنه سيأتي يوم في المستقبل المجيد فيه
يعرف الجميع الرب ولا تعود هناك حاجة إلى أن يعلّم أحدهم الآخر.

وقد
أقر رجال الإيمان المذكورين في الأصحاح الحادي عشر من الرسالة الي العبرانيين: بأنهم
غرباء ونزلاء على الأرض"، وأنهم كانوا يبتغون وطناً أفضل أي سماوباً"
(عب 13: 11و16)، "المدينة التي صانعها وبارئها الله" (عب10: 11
).

وقد
قال الرب يسوع: "إني حى فأنتم ستحيون" (يو 19: 14). كما أننا نقابل في
سفر المزامير (كما يقول فوس): "أفكار السلام والشمول، والفردوس المسترد،
ومسكن الرب في الأرض، ورؤى الله، والتمتع بالمجد والنور،وسد كل الأعواز، والنظر
إلى ما وراء الموت، إلى الاتصال بالله اتصالاً لا ينقطع، والقيامة". ولكن
أعظم الحجج – للتجديد الكامل الخارق للطبيعة لمؤمني العهد القديم – إنما نستمدها
من كفاية صليب المسيح، فكل ما يمكن أن يستمتع به البشر الخطاة، لا بد أن يأتي
نتيجة لصليب المسيح، لأنه الذبيحة الوحيدة التي تكفر عن الخطيئة. فهو ذبيحة فريدة
بلا نظير أو مثيل، وليس ثمة ذبيحة أخرى عن الخطيئة. وإذا سلّمنا أن البشر في كل
العصور حصلوا على بركات لا تحصى بسبب عمل النعمة الواحد على صليب الجلجثة، فما من
سبب يمنع الروح القدس من أن يمنح بركات هذه الكفارة – التي كان لا بد أن تتم
يقيناً – لكل الأجيال منذ البداية.

 

(د) تجديد الخليقة عند القيامة وفي الدهر الآتي:

(1) الحياة في المرحلة الوسيطة: مع أن الحياة الروحية الأبدية ’تعطي للناس
في هذه الحياة، إلا أن الموت الجسدي ما زال يعمل عمله. ويقدم الكتاب المقدس
–للمؤمن- تأكيداً قاطعاً بأن "الموت هو ربح" (في 21: 1) كما يقدم لنا
هذا التأكيد الهادي: "سينقذني الرب من كل عمل رديء ويخلصني لملكوته
السماوي" (2تي 18: 4). وكان الرسول بولس يشتهي أن "يتغرب عن الجسد
ويستوطن عند الرب" (2كو 8: 5)، ولكنه كان يشتهي بالأكثر أن يلبس جسد القيامة
(في 3: 20و21). وفي المرحلة الوسيطة تصبح النفس كاملة في القداسة وتستمتع بالشركة
مع المسيح، وتظل محفوظة إلى لحظة القيامة. ونلمح من الصورة الخاطفة التي يرسمها
الرسول يوحنا عن "النفوس تحت المذبح"، وقد أعطوا كل واحد ثياباً
بيضاء" (رؤ 9: 6و11)، أن الله قد جعل من الموت نفسه فرصة لتكميلهم و تقديسهم
تماماً، فهنا "أرواح أبرار مكملين" (عب 23: 12) في انتظار القيامة.

(2) الحياة وعلاقتها بالقيامة: إن مفهوم قيامة
الأموات في المسيح، أمر لازم لتكميل الخطة الكتابية لخلاص الإنسان خلاصاً كاملاً من
الخطيئة والموت، فبالقيامة أو تغير الأحياء في لحظة عند مجيء الرب (1كو 51: 15و52)،
يصبح المؤمنون مؤهلون لميراث الملكوت (1كو 50: 15
). وترتبط القيامة ارتباطاً وثيقاً بالحياة حتى
ليقال عن "الذين قتلوا من أجل شهادة يسوع … فعاشوا" أو عادوا للحياة
(رؤ 4: 20)، أو كما يقول الرسول بولس: الذي أقام المسيح من الأموات سيحيى أجسادكم
المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم" (رو 11: 8). أما ما يزعمه البعض من أن
مفهوم القيامة لا يعني إلا "الحياة الروحية" أو "استمرار الشخصية
عبر الموت"، فبعيداً تماماً عن الدقة التاريخية للتفكير الكتابي، فلا علاج
لهذا الانفصال الهائل بين النفس و الجسد في كيان الإنسان، إلا بقيامة الأموات حيث
تتجلى قوة الله (مت 29: 22
).

هل تبحث عن  م الأباء كتب اللاهوت فى فكر الآباء 10

(3) تجديد الخليقة: لا بد أن يؤول تجديد الفرد الى
القيامة، وعند هذه النقطة في بحثنا، تفتح الرسالة إلى الكنيسة في رومية أفاقاً
جديدة أمامنا، فالرسول بولس يربط ربطاً منطقياً بين قيامة المؤمنين و عتق الخليقة
ذاتها، فحيث أن الإنسان مرتبط بالخليقة عن طريق جسده، فمن المنطقي أنه عندما يصبح
الجسد خالداً، لا بد أن تعتق الخليقة أيضاً لتقاسم الإنسان نفس المجد و نفس الحرية،
وهكذا تتجدد.

واستخدم
كلمة "التجديد" في إنجيل متى (28: 19) يعطينا أساساً متيناً لبعض
التفاصيل عن تجديد الخليقة، فسيجسد هذا عندما يجلس "ابن الإنسان على كرسي
مجده". وبالجمع بين هذه العبارات وما جاء في إنجيل متى (31: 25) وفي سفر
الرؤيا (21: 3)، نجد دليلاً قاطعاً على أن المسيح سيملك في المستقبل ملكاً يختلف
عن ملكه الحالي الذي فيه يجلس مع أبيه في عرشه، فملكه الحالي – كما نراه في
المزمور المائة و العاشر- هو استمرار لسيادته المطلقة. وكلمة "اجلس"
("كاتو") في العبارة
"اجلس عن يميني"، تعني
"احتفظ بمكانك عن يميني"، مما يفسح المجال لملكه في المستقبل في عرشه
المجيد. ويقابل ذلك في إنجيل لوقا: "أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي. وأنا
أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتاً. لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي" (لو
28: 22 – 30). ويؤيد ذلك أيضاً ما جاء في الرسالة إلى الكنيسة في كورنثيوس: "لأنه
يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداد تحت قدميه" (1كو 25: 15
).

ويقول
ج. فوس (في كتابه: "الأخرويات عند الرسول بولس") إن النهاية ستعقب
الظهور مباشرة فليس ثمة مجال "للملك". ويستنتج من ذلك أن ملك المسيح (في
القول: " لأنه يجب أن يملك" – 1كو 25: 15) لا بد أنه قد بدأ عند قيامة
المسيح و ليس في المستقبل. ومع تقديرنا الكبير "لفوس"، فإننا تختلف معه
هنا، فهو لم يجمع بدقة بين الحقائق الثلاث، ولم يتناول – على نحو كاف – موضوع
قيامة الأشرار، التي يجب معالجتها في ضوء أقوال الرسول بولس عن قيامة الأبرار
والأئمة (أ ع 15: 24) والتتابع الزمني في الاصحاح العشرين من سفر الرؤيا. وعندما
نضم إلى هذه الصورة ما يتصل بها مما جاء في إنجيل متى (28: 19) وسفر الرؤيا (4: 20
– 6) عن ملك وحكم الذين قاموا للحياة (1كو 2: 6)، وعندما نربط بين بطلان آخر عدو
وهو الموت، وطرح الموت و الهاوية في بحيرة النار (أي تفريغ ما في قبضتهما في بحيرة
النار)، فالنتيجة الحتمية هي أنه لا بد من وجود مرحلة ثالثة للقيامة (1كو 24: 15)
تعقب ملك المسيح الذي هو تجديد للخليقة.

والخلاصة
– كما نراها – هي أن ثمة مدة طويلة من الزمن يملك فيها المسيح والقديسون الخالدون،
وهي جزء هام من عملية التجديد، تجديد الخليقة وتحقيق الغرض من الخليقة، وهي أن
الإنسان – الذي فداه المسيح- يجب أن يملك من خلال المسيح، وهكذا يتحقق الوعد
الوارد في المزمور الثامن
.

 

ثانياً
– الحياة في الحالة الأبدية

(I)تسليم الملكوت: "في النهاية" (1كو 24:
15و28) سيسلم الابن الملك للآب "متى أبطل كل رياسة وكل سلطان وكل قوة"
بما في ذلك "الموت" الذي هو "آخر عدو يبطل" (1كو 26: 15)،
وهذا الموت يختلف عن "الموت الثاني" (رؤ 14: 20،8: 21) فالأموات الأشرار
لا نصيب لهم في "التجديد" ولكن الانفصال غير الطبيعي بين النفس و الجسد،
لا بد أن ’يرتق قبل تسليمهم لمصيرهم النهائي الأبدي. وستنتهي سلطة الشيطان على
الموت، إذ أن المسيح مصدر كل الحياة، سيقيم كل الأموات (يو 21: 5 -29) وهكذا تثبت
الحقيقة أن "له حياة في ذاته" (يو 26: 5
).

(II) الحياة المنتصرة في حالة الكمال الأبدية: وهكذا
تصل الخطة الكتابية لشفاء الإنسان من الخطية و الموت، إلى غايتها بالقيامة و
الحياة الجديدة المنتصرة، وهكذا يدخل المفديون إلى ملكوت المسيح الأبدي، وهو
الحياة الأبدية. وإذ نلمح بالخيال هذه المناظر السماوية الرائعة للحياة الأبدية،
نذكر هذه الحقيقة الجلية: "وهكذا نكون كل حين مع الرب" (1تس 17: 4)، وهو
ذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم وهم يكونون له شعباً و الله نفسه يكون
معهم" (رؤ 3: 21
).

والحقيقة
الكتابية الأساسية
"للحياة
" لا تضيع أبداً، فالأشرار سيدخلون إلى مصيرهم النهائي الأبدي، الذي هو الموت
الثاني (رؤ 8: 21)، أما الأبرار فسيدخلون إلى الحياة، وقد كتبت أسمائهم "في
سفر حياة الخروف" (رؤ 27: 21) وسيستمتعون بنهر ماء الحياة وشجرة الحياة (رؤ 1:
22و2و4
).

ويسلط
الكتاب المقدس الضوء بقوة على الجوانب الأخلاقية لحياة المفديين، بالقول: "ولا
تكون لعنة في ما بعد. وعرش الله و الخروف يكون فيها وعبيده يخدمونه. وهم سينظرون
وجهه واسمه على جباههم" (رؤ3: 22و4
).

 

الحياة
سفر الحياة:

يذكر
سفر "الحياة" كثيراً من الكتابات الرؤوية، ويرتبط عادة بإعلانات
الدينونة. و"سفر الحياة" هو سجل بأسماء المفديين، ومن يغلب لن يمحو الرب
"اسمه من سفر الحياة" (رؤ 5: 3). ويذكر سفر الرؤيا أنه سيكون على الأرض في
زمن الوحش أناس "ليست أسمائهم مكتوبة في سفر الحياة منذ تأسيس العالم"
(رؤ8: 17)، وهم سيسجدون للوحش الذي مصيره للهلاك في بحيرة النار (رؤ8: 13، 20: 19).
أما الذين كتبت أسمائهم في سفر الحياة فسيدخلون المدينة المقدسة (رؤ27: 21) وهنا
الفارق بين الذين لم يؤمنون بالمسيح، والذين يؤمنوا به.و"سفر الحياة" هو
"سفر الخروف الذي ذبح" (رؤ8: 13،27: 21) الذي "فيه كانت
الحياة" (يو4: 1)، وهذا السفر غير "الأسفار" التي سيدان الناس مما
هو مكتوب في الأسفار بحسب أعمالهم" (رؤ12: 20 15، دانيال10: 7
).

وتوجد
إشارات أخرى لسفر الحياة(انظر خر 32: 32، إش3: 4، لو20: 10، في3: 4، عب23: 12
).

 

 

 

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي