وسيط

Mediateur

مقدمة

أولاً: الوسطاء في العهد القديم

1.
الوسطاء في تاريخ شب الله
:

2.
وسطاء الأزمنة الأخيرة
:

3.
الوسطاء السماويون
:

ثانياً: وسيط العهد الجديد

1.
الوسيط الواحد
:

2.
الوسيط الواحد وكنيسته
:

3.
الوسيط الواحد والوسطاء السماويون
:

الخاتمة
:

 

 

مقدمة

إن تدخل يوناتان لإنقاذ داود من يد شاول الذي كان يريد قتله (1 صموئيل 19: 1-7)، يعتبر مثلاً واضحاً للوساطات البشرية التي نصادفها في تاريخ شعب الله، كما في تاريخ البشرية جمعاء (1 صموئيل 25: 1- 35، أستير 7 : 1 – 7 أعمال 12: 20)، والتي قد تفلح أحياناً في استعادة علاقات آخذة في التدهور. ينتقل الوسيط من طرف إلى الآخر، متوسّلاً إلى الطرف الذي يهدد من أجل الطرف الذي يقع عليه التهديد، ويأتي إلى هذا الأخير بالسلام متى حصل عليه
.

هكذا كانت شريعة إسرائيل تفسر مجالاً لوساطة تحكيمية من هذا القبيل ما بين طرفين متساويين في المقدرة (خروج 21: 22، أيوب 9: 33). وخارج حالات النزاع هذه، قد تقبل أيضاً العلاقات البشرية العادية تدخّل وسطاء. ولكنّ لفظة (وسطاء) لها هنا معنى أوسع:تعني الرجال الذين يكلفهم رئيس ما برسالات عارضة أو بوظائف دائمة لدى مرؤوسيه
.

ليس في العهد القديم لفظ باللغة العبرية يدل على هؤلاء المحكمين أو الوسطاء، يقابل لفظة “وسيط ” (باليونانية
mesites).
ولا شك في أن هذه الظاهرة، في شأن مفردات التعبير، لها دلالتها فيما يختص بالعلاقات بين الله والناس. أجل، لا يدهشنا أن نرى الديانات القديمة، الغريبة عن الكتاب المقدس، تقيم بين البشرية وكبار الآلهة- الذين لم يكونوا متسامين حقيقة- سلسلة كاملة من الآلهة الثانوية أو الأرواح، ثم من الرجال (الملوك، الكهنة، الخ) ممن كانوا أشبه بالوسطاء أو الشفعاء
.

أما إله إسرائيل فوحيد يمتاز بسموَه المطلق. فمن إذن يستطيع أن يكون وسيطاً بين هذين النوعين من الكيان اللذين ليس بينهما قاسم مشترك، أي بين الله والبشر وعلى حد قول القديس بولس “الواحد لا وسيط له ” (غلاطية 3: 20). ومن جهة أخرى، فإن للإنسان في الكتاب المقدس إحساساَ مرهفاً بمسؤوليته الشخصية أمام الله. وكان هذا صحيحاً، حتى في تلك الحقبة من الزمن التي كان فيها الفرد مستغرقاً استغراقاً عميقاً جداً في الجماعة
.

وسبق أن قال عالي الشيخ قديماً: “إذا خطى إنسان إلى الرب فمن يصلي من أجله؟ ” (1 صموئيل 2: 25). وبكل حق،-خاطب أيوب الله: “ليس من حكم بيننا
” (mesites)
في الترجمة السبعينية) (أيوب 9: 33). ولذا، فمن الغريب أن نجد في العهد القديم وسطاء كثيرين، وإن كان ذلك بالمعنى الواسع أي أناساً وسطاء، عهد الله إليهم برسالة” لدى البشر
.

تشهد هذه المفارقة بأن الواحد الأحد، بدلاً من أن يعزل نفسه ” في وحدته، يريد أن يدخل في علاقة مع البشر. ففي هذا السبيل، يقيم وسطاء يرمزون مسبقاً إلى الوسيط الوحيد القادم ويهيئون الطريق قدّامه
.

ففي العهد الجديد، قد أتم يسوع المصالحة بين الله والبشر. من حيث هو الكلمة” الذي صار بشراً، يستطيع أن يتكلم ويعمل باسم الله وبالبشر في نفس الوقت. والمرة الأولى والأخيرة، يستحق شخص، بكيفية كاملة وبالمعنى الحصري التام، لقب ” الوسيط
” mesites
، بين الله والبشر ” (1 تيموتاوس 2: 5، راجع عبرانيين 8: 6، 9: 15، 12: 24
).

أولاً: الوسطاء في العهد القديم

1.
الوسطاء في تاريخ شب الله
:

الوسيط الأول هو ابراهيم الذي به ” يتبارك جميع عشائر الأرض ” (تكوين 12: 3) وهو السلف الأول الذي باركه الله ” و بواسطته يحصل إسرائيل على بركات الأرض والنسل. و بحسب بعض التقاليد يقوم ابراهيم بدور الشفيع عندما يتدخّل لصلح الملك الوثني أبيملك (20: 7 و 17- 18) أو لصالح سدوم (18 : 22- 32
).

ثم دعا الله موسى ليحرَر إسرائيل ويبرم العهد، ويعطي إسرائيل الشريعة ويقيم طقوس العبادة. ولما كان مسئولاً عن شعبه أمام الرب، كان يعمل كرئيس ومشرع باسم الله، ويتشفع مراراً لصالح الشعب (خروج 32: 11- 12 و 31- 34). ولاشك أن أهمية رسالته هي التي استحقت له أن يكون الشخص الوحيد مع يسوع المسيح الذي يطلق عليه الكتاب المقدس لقب وسيط (غلاطية 3: 19)، وإن كان ذلك بالمعنى الواسع
.

وبعد الخروج، توزّعت المهام التي كان يقوم بها موسى،على أشخاص مختلفين: الكاهن والملك والنبي، فأصبح الكهنوت في سلا أية لاوي التي اختارها الله لخدمة العبادة والشريعة. فالكاهن يذكّر الشعب، خلال الاحتفالات الطقسية، بأعمال الله العظيمة في التاريخ المقدس، ويبين متطلباته ويستمطر بركاته (عدد 6: 24- 27)، ويقدم لله تسبيح الجماعة والأفراد مع توسلاتهم
.

هل تبحث عن  هوت طقسى علم اللاهوت الطقسى 38

بعد القضاة، بدأ عهد الملوك، الذين ينالون نصيبهم من الروح (قضاة 6: 34، 1 صموئيل 10: 6، 16: 13). ويعلن الأنبياء اختيار الملك من الله لصالح الجماعة (1 صموئيل 9، 10، 16). أو المسيح، مسمياً الرب الذي يعامله معاملة ” الابن ” (2 صموئيل 7: 14، مزمور 2: 7). وتعتبره الرعية ملاك الرب (2 صموئيل 14: 17). وإنه يمثل كل شعبه أمام الله. وبالرغم من أنه لم يقبل لقب كاهن، إلا أنه يمارس طقوس العبادة: يحمل الأفود، ويقدم الذبائح ويتلو الصلاة باسم الجماعة. وأخيراً، نجد أن إله إسرائيل يقود تاريخ البشرية جمعاء، لا يخشى بعض الأنبياء أن يعيَنوا لملوك غرباء دوراً في القصد الإلهي: نبوكدنصر (إرميا 27: 6) وكورش (إشعيا 41: 2- 5، 44: 28، 45: 1- 6
).

وبخلاف الكاهن والملك اللذين يتوليان وظيفة وراثية، فإن النبي ” يقام بدعوة شخصية. ويتدخل الله مباشرة في حياته ليوليه رسالته. فقبل كل شيء لا بد للنبي من أن يقدم كلمة الله لشعبه: أي مطالبه، وأحكامه على الخطيئة، ووعوده للمؤمنين. ومقابل ذلك، يشعر النبي بتضامنه مع إخوانه الذين يرسله الله إليهم، فيشفع دائماً بهم، مثلما فعلى صموئيل (1 صموئيل 7: 7- 12، 12: 19- 23)، وعاموس (عاموس 7: 1- 6)، وإرميا (إرميا 15: 11، 18: 20، 42: 2… راجع نبي الله المؤثّر الوارد في إرميا 7: 16، 11: 14، 14: 11…، وراجع ظهور إرميا يهوذا المكابي: 2 مكابيين، 1: 13-16)، وأخيرا حزقيال (9: 8، 11: 13) الذي يرى نفسه،.بمثابة الحارس الذي أقامه الله لحماية بني شعبه (33: 1- 9، 3: 17- 21
).

وهكذا، يقيم الله، طوال تاريخ إسرائيل، رجالاً يجعلهم مسئولين عن شعبه، ويكلّفهم بتأمين السير الطبيعي للعهد. وهذه المهام لا تلغي العلاقات الشخصية بين الله والأفراد، بل تركزها في إطار الشعب الذي تمارس باسمه ولصالحه هذه الوساطات المختلفة
.

2.
وسطاء الأزمنة الأخيرة
:

إن الفكر النبوي الاسكاتولوجي يرجع إلى الأزمنة الأخيرة عناصر كثيرة من هذه الوساطات التاريخية. بل يتعدّاها ويرسم وجوهاً غامضة الملامح تنبئ بطريقتها الخاصة عن وساطة يسوع
.

في الإشارات الخاصة بالشعب الجديد، نجد وسطاء متباينين يلعبون دوراً شبيهاً بأدوار الوسطاء في الماضي: “تارة المسيا الملك وتارة النبي المبشر بالخلاص (إشعيا 61: 1- 3، تثنية 18: 15 بموجب تأويل التقليد اليهودي)، وفي حالات نادرة كاهن الأزمنة الجديدة (زكريا 4: 14)، العنصر الذي توسعت فيه تقليد قمران
).

إن عبد الرب في إشعيا 40: 55 وجه غامض الملامح، يمكنه أن يشخص، ما بين حقائق أخرى، البقية الباقية من إسرائيل في وظيفته كوسيط بين الله والبشر. إنه في دعاه الله أ ليبدي الحكم للأمم (إشعيا 42: 1)، وليجمع شتات إسرائيل ويكون ” نوراً للأمم ” (42: 6، 49: 5- 6)، وعهداً للشعب (42: 6، 49: 8)، أي ليكون الشعب الجديد الذي يجمع بين إسرائيل الذي افتداه الله والأمم التي هداها
.

لا تقوم رسالته فقط في إعلان بشارة الخلاص وفي تشفعه من أجل الشعب، مثلما كان يفعل الأنبياء السابقون. بل لا بد له الآن من أن “يحمل خطايا كثيرين ” ويسهم في افتدائهم بآلامه الشخصية (إشعيا 52: 14، 53: 12) وإذ هو يجعل نفسه ذبيحة إثم (إشعيا 53: 10)، يبدو تماماً أنه يقدم هكذا نوعاً جديداً من الوساطة الكهنوتية
.

وفي كتاب دانيال 7: 13 و 18 نجد شخصاً جديداً ألا وهو ابن البشر يمثل أولاً “قديسي العلي” المضطهدين من السلطات الوثنية قبل أن يرتفعوا بقضاء الله. وأخيراً، سوف يملك ابن البشر على الأمم (7: 14 و 27)، ويؤمن ملكّ الله على العالم
.

لم يوضّح العهد القديم العلاقة القائمة بين هؤلاء الوسطاء الاسكاتولوجيين. ولكن تحقيق النبوات، في شخص يسوع، سوف يظهر تطابق هؤلاء الوسطاء في شخص وسيط الخلاص الواحد
.

3.
الوسطاء السماويون
:

أحسّ الوثنيون منذ زمن طويل بعجز الوساطات البشرية، فلجأوا إلى تدخل سماوي لآلهة من الدرجة الثانية. رفض إسرائيل هذا الشرك، ولكن عقيدته الخاصة بالملائكة أعدت شعب الله لقبول فكرة الوسيط المتسامي عند إعلانها. ووفق قصة قديمة، رأى يعقوب حلماً في بيت إيل: ملائكة المقدس يقيمون اتصالاً بين السماء و الأرض (تكوين 28: 12
).

والواقع أن العقيدة الخاصة بالملائكة أخذت تتسّع بعد السبي اتساعاً عظيماً أكثر فأكثر. وحينئذٍ يرد وصف تشفعهم من أجل إسرائيل (زكريا 1: 12- 13)، وتدخلاتهم لصالحه (دانيال 10: 13- 21، 12:1)، والإسعافات التي يأتون بها للمؤمنين (دانيال 3: 49- 50، 6: 23، 14: 34- 39)، ويقيمون صلاتهم أمام الرب (طوبيا 12: 12
).

هل تبحث عن  م الكتاب المقدس مدخل إلى الكتاب المقدس 18

ويضف ملاخي رسولاً غامض الملامح، هو ملاك العهد، الذي ينشئ منه إلى الهيكل، الخلاص النهائي (الاسكاتولوجي) (ملاخي 3: 1- 4). ولم يعد المقصود هنا وساطة عن طريق خليقة ما، فمن خلال هذا الملاك الذي يحيط به اللغز، يتدخل الله عينه ليطهّر شعبه ويخلَصه
.

ثانياً: وسيط العهد الجديد

في مدخل الأناجيل، يبدأ جبرائيل، أحد الوسطاء السماويين بإجراء الحوار الذي يمهد للعهدّ الجديد (لوقا1: 5- 38). وتعطيه مريم الجواب الحاسم. وإذ هي تتكلم باسم شعبها “كابنة صهيون “، تقبل أن تصبح أم الملك المسيا، ابن الله
.

ولم يكن ليوسف (متى 1: 18- 25)، وأليصابات (لوقا1: 39- 56)، وسمعان وحنة (2: 33- 38)، أي لجميع من كانوا “ينتظرون الفرج لإسرائيل “، إلا أن يستقبلوا ” المخلص” (2: 11) المولود منها. فخلال مريم أولاً قد تعرّفت البشرية على يسوع، وكذلك تعرف يسوع على البشرية. و بالرغم من أن يسوع هو الابن (2: 41- 50)، فقد أظهر طاعة لإرادة أمه وإرادة يوسف (2: 51)، إلى اليوم الذي بدأ فيه خدمته (يوحنا 2: 1- 12
).

1.
الوسيط الواحد
:

إن يسوع المسيح هو وسيط العهد الجديد (عبرانيين 9: 15، 12: 24) بين الله والبشرية. وهذا العهد أفضل من القديم (8: 6). منذ ذلك الوقت، يتقرب الناس بيسوع إلى الله (7: 25)، وإن هذه الحقيقة موجودة في كل موقع من العهد الجديد على مظاهر متنوعة. فإن يسوع يموت ويقوم من بين الأموات ويقتبل الروح باسم بقية إسرائيل وباسم جميع الناس ولصالحهم. ويظهر أثر وساطته مقدماً في الخلق ” (كولسي 1: 16، يوحنا 1: 3) وفي تاريخ العهد القديم (1 بطرس 1: 11
).

وإن كان يسوع وسيطاً، فلأن أباه قد دعاه لذلك (عبرانيين 5: 5)، فلبّى هذه الدعوة (10: 7- 9). وقد كان الأمر كذلك بالنسبة إلى وسطاء العهد القديم (راجع 5: 4). ولكن، في يسوع، تقوم الدعوة والإجابة في عمق سر كيانه: لأنه، إذ كان هو ” الابن ” (1: 32)، قد ” شارك في الدم واللحم ” (2: 14) صائراً هو نفسه ” إنساناً ” (1 تيموتاوس 2: 5)، جامعاً في شخصه الطرفين، الله والإنسان، اللذين صالحهم في شخصه
.

وبذلك يضع الابن حداً للوساطات القديمة، بتحقيق الوساطة النهائية (الاسكاتولوجية). قي شخصه، وهو ” نسل إبراهيم ” (غلاطية 3: 16)، يرث إسرائيل والأمم البركات، التي وعد الله بها إبراهيم أبا شعب الله (غلاطية 3: 15- 18، رومة 4). فيسوع هو موسى الجديد، القائد لخروج جديد، وسيط العهد الجديد، ورأس شعب الله الجديد، ولكن يقوم بهذه المهمة بصفته الابن، وليس بعد بصفته العبد (عبرانيين 3: 1-6
).

إن يسوع، في آن واحد هو الملك ابن داود (متى 21: 4- 9)، وعبد الرب الذي تنبأ عنه إشعيا (متى 12: 17- 21)، والنبي الذي يبشر بالخلاص 1 لوقا 4: 17- 21)، وأبن البشر ديَان ” اليوم الأخير (متى 26: 64)، وملاك العهد الذي يطهر الهيكل بمجيئه (راجع لوقا 2: 22- 30، يوحنا 2: 14-17، ملاخي 3: 1- 4)، وهو فوق ذلك كله مرة واحدة، التحرر والخلاص وفداء شعبه. ويجمع في شخصه الملك والكهنوت والنبوة. وهو عينه كلمة الله
.

في تاريخ الوساطات البشريّة، يأتي مجيئه بجديد جنري ونهائي، ففي الهيكل الذي ” لم تصنعه أيدي الناس ” (عبرانيين 9: 11)، لا يزال “وسيطاً حياً باقياً ليشفع ” لإخوته (7: 25). وحقاً، كما أن ” الله واحد، فإن الوسيط بين الله والناس واحد (1 تيموتاوس 2: 5)، وهو وسيط العهد الأبدي
.

2.
الوسيط الواحد وكنيسته
:

إن وساطة المسيح لا تنهي دور البشر في تاريخ الخلاص، بل وساطته هذه تجعله يلجأ إلى بعض الناس، يكلفهم برسالة يؤدونها نحو كنيسته. ويشرك يسوع كلَ أعضاء جسده في وساطته
.

منذ زمن حياته على الأرض، يدعو يسوع بعض الناس إلى العمل معه لإعلان البشارة وإجراء الآيات التي تظهر حضور الملكوت (متى 10: 7- 8//). وهكذا، يواصل هؤلاء المرسلون، الأعمال الأولى لوساطته. والرسالة التي يكلفهم بها، للزمن الذي يعقب موته وقيامته، من شأنها أن تقدم إلى العالم أجمع ولجميع الأجيال (متى 28: 19- 20) الوساطة التي سوف يمارسها السيد المسيح بصفة غير منظورة. وسوف يكون رسله مسئولين عن كلمته وكنيسته، وعن المعمودية والأفخارستيا وغفران الخطايا
.

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس القس أنطونيوس فكرى عهد قديم سفر حزقيال 43

وابتداء من العنصرة، يمنح يسوع كنيسته الروح ” الذي قبله من الآب. ومنذئذٍ، ليس هناك إلا “جسد واحد وروح واحد، كما أنه هناك رب واحد… وإله واحد ” (أفسس 4: 4- 6). ولكن، في السعي لإدماج أعضاء جدد إلى هذا الجسد، لا بد من إعطاء المعمودية (أعمال 2: 38). ولمنح الروح، لا بد من وضع الأيدي (8: 4ا-17). ويكفل الروح حياة جسد المسيح ونموها بتوزيع المواهب المختلفة. ومن بين المتفتحين لهذه المواهب، يؤدي البعض خدمات عارضة، والبعض الآخر خدمات دائمة، ممّا يعدَ امتداداً لبعض وظائف الرسل أنفسهم، داخل هيئة الكنيسة. وليس من يكلفون هذه الخدمات وسطاء بمعنى الكلمة، فإنهم لا يبذلون وساطة تضاف إلى عمل الوسيط الواحد، لأنهم ليسوا سوى الوسائل الفعليّة التي يريد بها هذا الوسيط أن يصل إلى جميع الناس
.

وحالما يلتحق أعضاء جسد المسيح برئيسهم مجده تنتهي بالطبع هذه الوظيفة. ولكن إذ ذاك، إزاء أعضاء الكنيسة الذين لا يزالون في جهاد على الأرض، يقوم المسيحيون المنتصرون (أي الذين في السماء) بدور من نوع آخر، فباشتراكهم في ملك الوسيط (رؤيا 2: 26- 27، 3: 21، راجع 12: 5، 19: 15) يقدمون لله صلوات قديسي هذه الأرض (5: 8، 11: 18) الذين يطلبون من الله أن يعجل ساعة عدله (6: 9- 11، 8: 2- 5، راجع 9: 13
).

ويتم الانتصار النهائي في نفس الوقت، بفضل دم الحمل وشهادة الشهداء (رؤيا 12: 11). فئ صعوده إلى مجيئه الثاني، لا يمارس يسوع إلا وظيفته الملكية دون أن يشرك فيها شعبه، الذي هو في آن واحد موجود على الأرض (12: 6 و 14، 22: 17، راجع 7: 1- 8) ومتمتع منذ الآن بالمجد (12: 1، 21: 2، راجع 14: 1- 5
).

إن مكانة خاصة تؤول إلى مريم العذراء في ممارسة وساطة يسوع الممجد. فدعوتها كأم، في مجيء الوسيط على الأرض ة وتدخلها عندما حقق يسوع أولى آياته (يوحنا 2: 1- 12) لم يدع إلى التساؤل عن الدور الغير المنظور الذي يمكنها أن تقوم به بالنسبة إلى الكنيسة. ففي الكنيسة الأولى، تظهر مريم كعضو ضمن أعضاء آخرين (أعمال1: 14)، وإن كانت عضواً ممتازاً. فإنها لم تشغل أية وظيفة تقارن بوظيفة الرسل أو خلفائهم
.

ولكنّ الوسيط، عند موته، يعهد إليها برسالة أمومة بالنسبة إلى ذويه، ممثلين في شخص التلميذ الحبيب (يوحنا 19: 26- 27). فهل تكون مريم بموتها قد أدت هذه الرسالة؟ أو تستمر بالأحرى قائمة بها بطريقة غير منظورة؟ إن الله قد أشرك مريم مثل جميع المختارين في ملك يسوع ووساطته. ولكنّ العهد الجديد يوحي على الأقل بأن هذا الاشتراك يقوم على أساس خاص بها. فمريم وسيطة بوصفها أم ا لا بن ” وأماً ” لتلاميذه
.

3.
الوسيط الواحد والوسطاء السماويون
:

جاء الوسيط من لدن الله ثم رجع إليه. وهذا يقربه في الظاهر من الوسطاء السماويين في العهد القديم. وحمل هذا التشابه بعض المسيحيين، وذلك تحت تأثير الغنوصية الوثنية المنتشرة في آسيا الصغرى، على اعتبار المسيح والملائكة” في نفس المستوى بنوع ما
.

وقد تطلّبت هذه الأخطاء توضيحات تضع الأمور في نصابها (كولسي 2: 18- 19، عبرانيين 1: 4-14، راجع رؤيا 19: 10). وهي إن الوسيط رأس الملائكة (كولسي 2: 10) وسوف يدين المسيحَيون الملائكة بالاشتراك مع المسيح (1 كورنتس 6: 3). وفي العهد الجديد، يواصل الملائكة دورهم كشفعاء وخدام لتنفيذ تدابير الله (عبرانيين 1: 14رؤيا) ولكنهم يقومون بذلك “كملائكة ابن البشر” (منى 24: 30- 31)، الوسيط الواحد
.

الخاتمة
:

إن الوساطات العديدة التي أقامها الله بينه وبين شعبه كانت تعدّ وتعلن الوساطة التي كان شعبه عتيداً أن يقوم بها بينه تعالى وبين البشرية جمعاء. وتتحقق وساطة إسرائيل هذه في وساطة المسيح، الوسيط الواحد، الذي له وحده العظمة التي لا تدرك، وتحلّ له بوصفه الابن. إلا أنه، كرأس إسرائيل الجديد، يمارس وساطته بالاشتراك مع جسده، وعن طريقه
.

وبعد أن يختفي، بمجيء الابن، دور الوسطاء البشريين الوارد ذكرهم في تاريخ الخلاص، فإنه يزداد الاحتياج إليهم. والتعليل الأخير لوجود هذا الأمر الغريب هو أن الله محبة (1 يوحنا 4: 8)، وإذا أراد أن يكون مع البشر (متى 1: 23، رؤيا 21: 3) وأن يشركهم في ” الطبيعة الإلهية ” (2 بطرس 1: 4)، فإنه يعمل معهم منذ الآن على تحقيق قصده، واهباً لهم النور معه عن طريق مشاركتهم بعضهم بعضاً (1 يوحنا 1 : 3
) .

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي