هدف اللاهوت الأدبى
الإنسان الحي
إن هدف اللاهوت الأدبيّ، على غرار هدف علم الأخلاق بنوع عام، هو مساعدة الإنسان على أن يحيا حياة أكثر إنسانية. فعلم الأخلاق واللاهوت الأدبي لا يهدفان إلى تثقيل كاهل الإنسان ولا إلى الحدّ من حريته بشرائع تناقض طبيعته وتُفرض عليه من الخارج دون أن يعرف في معظم الأحيان مصدرها وغايتها. فالخُلق (وجمعها أخلاق) هو ما خلق عليه الإنسان، هو طبيعته وسجيّته. وعلم الأخلاق واللاهوت الأدبيّ لا يمكن أن يناقضا طبيعة الإنسان إنما على العكس من ذلك يبحثان في الأمور التي يستطيع الإنسان من خلالها معرفة طبيعته التي خُلق عليها، وإكمال خلق ذاته بما يلائم تلك الطبيعة. وبما أن الإنسان خُلق “على صورة الله ومثاله”، فالأخلاق هي تحقيق صورة الله في الإنسان، هي التألّه. وهذا ما تعنيه لفظة علم الأخلاق في اللغة اليونانية واللغات المشتقّة منها. الإنسان كائن حي مدعو إلى النمو بحسب طبيعته، وهو كائن حر مدعو إلى أن يتّخذ هو نفسه القرارات التي يراها مناسبة لنموّه. وعلم الأخلاق واللاهوت الأدبيّ هما في خدمة الإنسان لإرشاده إلى أفضل السُبُل التي يجب عليه اتباعها للوصول إلى تحقيق ذاته، وفي الوقت نفسه، لهما أن ينظرا في أعمال الإنسان ويحكما على أخلاقيّتها، أي على مدى ملاءمتها للغاية التي يتوخّاها الإنسان من خلالها، وهذه الغاية هي دوما تحقيق الإنسان ذاته في كل أبعادها.
أمّا الفرق بين علم الأخلاق, الذي هو نوع من فروع الفلسفة, وعلم اللاهوت الأدبي الذي هو فرع من فروع اللاهوت, فيمكن في الأسس التي يرتكز عليها كل من هذين العلمين. فعلم الأخلاق يستند, في بحثه عن تلك السبُل وحُكمه على تلك الأعمال, إلى العقل البشري وحسب. أمّا اللاهوت الأدبي فمع استناده إلى العقل البشري, يستند أيضا إلى ما أوحى به الله في الكتاب المقدّس. ولا تناقض بين تطلّبات العقل البشري السليم وأنوار الوحي الإلهي. فالعقل البشري إنما خلقه الله, والمؤمن يرى فيه صورة الله. لذلك لا يمكن أن يكون تناقض بين صورة الله في الإنسان وكلام الله للإنسان المدوّن في كتب الوحي الإلهي. وإذا كان الإنسان, حسب تطلّبات العقل البشري, يسعى إلى السعادة وإلى تحقيق ذاته الإنسانية وكماله, فالوحي الإلهي أيضا يهدف إلى مساعدة الإنسان على تحقيق ذاته الإنسانية في كل أبعادها، وفقا لقول القدّيس إيريناوس: “مجد الله هو الإنسان الحي”. فنحن المؤمنين نؤكد أن الإنسان بقدر ما يتحد بالله, يصير أكثر إنسانية. لذاك يسعى الفكر المسيحي، في اللاهوت الأدبي, إلى أن يسلّط على كيان الإنسان وأعماله أنوار العقل البشري والوحي الإلهي في آن واحد.
بما أن اللاهوت الأدبيّ إذن يهدف إلى مساعدة الإنسان على تحقيق ذاته الإنسانية بكل أبعادها، لا بدّ من التساؤل أولا عن كيان الإنسان. فما هو الإنسان؟ وما هو معنى حياته؟
أولا- الإنسان كائن حي يعطي هو نفسه معنى لحيإنه
ينطلق اللاهوت الأدبيّ من أن الإنسان كائن حي غير مسيَّر بغريزته, بل هو مدعو إلى بناء ذاته بوعي وحرية. فالهدف الأخير لحياة الإنسان هو الوصول إلى اكتمال ذاته، وهذا الاكتمال هو عينه الخير الذي هو موضوع كل من علم الأخلاق واللاهوت الأدبي. فالخير هو، لغويا, كما نقرأ في المعجم, “حصول الشيء على كمالاته”. وخير الإنسان هو, فلسفيا ولاهوتيا, وصوله إلى اكتمال ذاته. وهذا ما يجب التركيز عليه في كل الأبحاث الأخلاقية وكل الأجوبة على المسائل الأخلاقية التي يعالجها اللاهوت الأدبيّ. في كل المواضيع يجب أن يظهر جليا أن الجواب الذي يقدّمه اللاهوت الأدبيّ يهدف إلى خير الانسان، أي إلى اكتمال ذاته.
ا) الإنسان مُخيّر وليس مسيّرا
الإنسان كائن حي مخلوق. والكائنات الحية المخلوقة، من طبيعتها، تنمو وتترعرع وتتكاثر ثم تموت. وجودها هو مسيرة. تلك صفة عامة يتسم بها كل كائن حي، أنباتا كان أم حيوانا أم إنسانا. ولكن هناك فرق جذري بين النبات والحيوان من جهة والإنسان من جهة أخرى. فحياة النبات والحيوان تسيّرها الطبيعة أو الغريزة وفقا لنواميس يعمل الإنسان على اكتشافها ودرسها في العلوم الطبيعية وعلم الأحياء وعلم الحيوان. لذلك هي “مُسيّرة”. أمّا الإنسان، وإن كانت الحياة التي فيه تخضع لكثير من النواميس المشتركة بينه وبين الكائنات الحية الأخرى، إلا أنه يتّسم بسمة خاصة هي وعيه لذاته وما ينجم عن هذا الوعي من حرية تتيح له أن يختار بين اتجاهات متعدّدة. الحيوان “مسيّر”، أمّا الإنسان “فمخيّر”، يختار بحريّته، وهو مدعو إلى أن يقرّر هو نفسه اتجاه مسيرة وجوده. ففيما يحقق الحيوان كيانه الحيواني بدافع من غريزته ودون وعي منه، منذ أول لحظة من وجوده حتى موته، يجابه الإنسان في كل لحظة من لحظات حياته اختيارات متعدّدة يرى نفسه مدعوا من خلالها إلى تحقيق معنى حياته بحرية ومسؤولية. أن يعطي الإنسان معنى لحياته يعني أن يختار الاتجاه الذي يريد أن يسير فيه، والذي يستقطب كل نشاطاته. وهذا الاتجاه يكون أمّا خيرا وأمّا شرا. والخير هو، بنوع عام، كل ما يقود إلى بناء الحياة واكتمال الإنسان، والشر هو كل ما يقود إلى هدم الحياة وتشويه الإنسان. فكون الإنسان مخيّرا لا يعني أنه يحق له على السواء اختيار الخير أم الشر. فالخير والشر لا يتساويان. فالاختيار، لغويا كما نقرأ في المعجم، هو انتقاء الخير. وعلم الأخلاق واللاهوت الأدبيّ، في حكمهما على أعمال الإنسان, يقولان أن هذا الإنسان، في عمله، قد أحسن الاختيار، أي إنه انتقى الخير الذي يوصله إلى اكتمال ذاته، أو إنه قد أساء الاختيار، أي إنه انتقى الشر الذي ينتج منه هدم كيانه الإنساني. والأديان كلها والفلسفات، في أحكامها الأخلاقية وفي وصاياها وشرائعها، لا تهدف إلا إلى مساعدة الإنسان على حسن الاختيار للوصول إلى اكتماله الذاتي. وكلها تنطلق من المبدأ الأخلاقيّ العام: “يجب على الإنسان فعل الخير واجتناب الشر”. ولا يقوم الخلاف بينها إلا في تحديد الخير والشر في تفاصيل هذا العمل أو ذاك.
يقول المجمع الفاتيكاني الثاني: “الإنسان يتجه نحو الخير بملء حريته، هذه الحرية التي يعتبرها معاصرونا اعتبارا عظيما ويبحثون عنها بكل حماس، وهم في ذلك على حق. ولكن غالبا ما يعززونها بطريقة منحرفة، إذ يعتقدون أنها إجازة لصنع كل شيء يجلب السرور، حتى وإن كان شرا. غير أن الحرية الحقيقية هي في الإنسان علامة مميزة عن صورة الله فيه لأن الله أراد أن “يتركه لمشورته الخاصة” (راجع سي 15: 14), حتى يتمكن بذاته من أن يبحث عن خالقه ويتحد به بحرية. ويبلغ هكذا إلى تمام سعادته الكاملة. إن كرامة الإنسان تتطلّب منه أن يتصرف استنادا إلى اختيار حر وواع, لا يدفعه ولايحدد موقفه إلا الاقتناع الشخصي، دون أن يتأثر بالدوافع الغريزية أو الضغط الخارجي فقط. ويحصل الإنسان على هذه الكرامة عندما يتخلص من عبودية الأهواء, إذ يختار الخير حرا فيسير نحو مصيره ويسعى حثيثا ليؤمن بالفعل الوسائل لتحقيقه ارتكازا إلى مهارته. غير أن الحرية الإنسانية، التي جرحتها الخطيئة, لا تستطيع أن تسير نحو الله كليا بطريقة فعلية إلا بمعونة النعمة الإلهية. وعلى كل إنسان أن يؤدي حسابا عن حياته أمام منبر الله عن الخير أو الشر الذي فعله (راجع 2 كو 5: 10) (الكنيسة في عالم اليوم، 17).
2) الفرق بين اللاهوت الأدبي والعلوم الإنسانية الوضعية: “القواعد” و”الوقائع”
اللاهوت الأدبيّ يحكم على أعمال الإنسان. وفي هذا الحكم يتميز عن العلوم الإنسانية الوضعية التي تدرس مسلك الإنسان كما هو، في وضعه الفردي والاجتماعي، كعلم النفس وعلم الاجتماع والجغرافيا البشرية والتاريخ, تلك العلوم التي تبحث في مسلك الإنسان كما هو، فتتقصّى الوقائع الإنسانية والأحداث البشرية دون أن تبدي حكما أخلاقيا على ما تراه ويتبين لها. ومن تحليلها يمكنها الوصول إلى نواميس عامة تضعها في إطار نظريات علمية تقصد من خلالها تفسير سلوك الإنسان الفردي والاجتماعي. إلا أنه ليس من شأنها إبداء أي حكم على أخلاقية هذا التصرف أو ذاك.
فيما تُعنى العلوم الإنسانية الأخرى بالوقائع والأحداث، يُعنى اللاهوت الأدبي بقواعد السلوك الإنساني. وفي دراسته لمسلك الإنسان في مسيرة وجوده, يبدي حكمه على هذا المسلك, فيوضح ما هو الخير، أي ما هو المسلك الأفضل الذي يسير بموجبه الإنسان لتحقيق كيانه الإنساني الفردي والجماعي، ولإنماء الحياة فيه. فالعلوم الإنسانية الأخرى تبحث في مسلك الإنسان كما هو، أمّا اللاهوت الأدبيّ فيبحث في مسلك الإنسان كما يجب أن يكون, ليصل الإنسان إلى تحقيق ملء كيانه الإنساني. فالعلوم الإنسانية الأخرى تحلل وقائع السلوك البشري، واللاهوت الأدبيّ وعلم الأخلاق يحددان قواعد السلوك الخيّر والصالح. وهذا ما طلب أن يعرفه الإنسان الذي تقدم إلى السيد المسيح وسأله: “يا معلّم, ماذا يجب علي أن أعمل الصلاح لأنال الحياة الأبدية؟” (متّى 19: 16).
والحياة الأبدية هي حياة الله التي يبدأها الإنسان على هذه الأرض عندما يحقق صورة الله فيه. لذلك يجيبه السيد المسيح: “لِمَ تسألني عما هو صالح؟ إنما الصالح واحد. فإن شئت أن تدخل الحياة, فاحفظ الوصايا” (متّى 19: 17). الصالح واحد، هو الله، وهو الذي يقضي في الصلاح ويكشفه للناس بوصاياه التي هي موجز لإرادته.
لنُعطِ بعض الأمثلة على الفرق بين العلوم الإنسانية واللاهوت الأدبيّ. فعالم الاجتماع، مثلا, أو عالم الاقتصاد, في دراستهما موضوع المخدرات, يبحثان فيه كما يبحثان في أي سلعة تجارية أخرى. فيتقصيان إنتاج المخدرات وتصنيعها وتوزيعها واستهلاكها, ويستخدمان في بحثهما الوسائل العلمية, كنواميس السوق، والعرض والطلب والمنافسة الخ.., ثم يخلُصان إلى التحقق من وجود نسبة مئوية معينة من تعاطي المخدرات في هذا البلد أو ذاك. وقد تكون تلك النسبة, في نظرهما, طبيعية، أي إنه، في الحياة المعاصرة, من الطبيعي, من الناحية العلمية، توقع وجود هذا العدد من متعاطي المخدرات, كما أنه من الطبيعي, من الناحية الاجتماعية، توقع حصول نسبة معينة من حوادث السير في المناطق المزدحمة بالسكان. ولكن هذا الأمر الطبيعي لا يصير بالفعل عينه أمرا مباحا. فعلم الاجتماع يجب أن يقتصرعلى دراسة وقائع السلوك البشري والحكم عليها من الناحية الاجتماعية والعلمية, ولكنه لا يجوز له أن ينتقل من الحكم العلمي إلى الحكم الأخلاقي، فيقول إن تعاطي المخدرات بنسبة كذا في هذا البلد أو ذلك أمر جائز ومشروع ومحلل.
هناك مثل آخر يوضّح الفرق بين اللاهوت الأدبيّ وسائر العلوم الإنسانية. فاستفتاء الآراء في موضوع ما من السلوك البشري, كالإجهاض أو اللجوء إلى الحرب, يبين “وقائع السلوك البشري” وآراء الناس في هذا السلوك. ولكن نتيجة هذا الاستفتاء لا تعني حتما القاعدة التي يجب أن يسير عليها الإنسان في مسلكه. فهناك أحكام مغلوط فيها قد تكون منتشرة لدى الأكثرية من الناس. ويعود إلى اللاهوت الأدبيّ تمييزها ونقدها وإصلاحها، انطلاقا من قواعد أخلاقية سنوضح في ما بعد أسس تكوينها. بيد أن اللاهوت الأدبيّ يمكنه الإفادة من سائر العلوم الإنسانية لمعرفة كل “وقائع” السلوك البشري. فمعرفة سلوك الإنسان في كل أبعاده وكل دوافعه أمر لابد منه للحكم على هذا السلوك ومساعدة الإنسان على التقدم في عمل الخير, ومساعدة المجتمع على أن يصير مجتمعا أكثر إنسانية وعدالة وأخوة.
ثانيا- الإنسان جسد ونفس
1) الإنسان في كيانه جسد ونفس
الجسد والنفس هما عنصران متميزان، منهما يتكون الإنسان. إنهما متميزان ولكنهما غير منفصلين, إذ إنهما معا يكوّنان الإنسان في وحدة تامة. إنهما متميزان، لأن لكل منهما خصائص تميزه عن الآخر. فالجسد مادي ومعرّض للانحلال. إنه مكوّن من أجزاء مختلفة, هي أعضاء الجسم, بحيث إن فقدات بعض الأعضاء لا يعني حتما موت الجسد كله. أمّا النفس فهي مبدأ روحي غير مركّب. إنها مرتبطة بالجسد الذي تحييه، ولكنها لا تنحصر فيه. إنها تتمتع بإمكانات خاصة بالفكر المجرّد والإرادة الحرّة وتلك الإمكانات ندعوها “ملكات النفس”. ولأن النفس مبدأ روحي لا ينحصرفي الجسد، فهي لا تفنى بعد انحلال الجسد. الجسد يفنى لأنه مركّب من أعضاء مختلفة تنحل الواحد تلو الآخر. أمّا النفس، فلأنها مبدأ روحي بسيط غير مركّب, فهي غير معرّضة للانحلال والفساد. هذا هو أساس عقيدة “خلود النفس” التي تؤمن بها معظم الفلسفات والأديان.
نضيف أن الجسد والنفس متميزان, ولكنهما غير منفصلين. وهذا يعني أن جسدي ليس أمرا غريبا عني. جسدي هو “أنا” من حيث ارتباطي بالعالم الخارجي المحسوس. وهذا الارتباط بالعالم الخارجي، أي بالعالم الخارج عن الإنسان، ليس أمرا عرضيا في تكوين الإنسان. إنه من صلب كيان الإنسان، من صلب جوهره وطبيعته كإنسان. لذلك تؤمن المسيحية, ويؤمن الإسلام أيضا، بقيامة الأجساد في الدينونة العامة، أي بارتباط الأنفس بالعالم الخارجي ارتباطا جديدا. ولأن هذا الارتباط يمر من خلال مجد الله الذي تتمتع الأنفس بمشاهدته وجها إلى وجه، يدعو الفكر المسيحي هذه الأجساد “أجسادا ممجّدة”. في هذا يقول المجمع الفاتيكاني الثاني: “الإنسان نفس وجسد. غير أنه حقا واحد. وهو, بوضعه الجسدي ذاته، صورة مصغّرة لعالم الأشياء التي تجد فيه ذروتها وتستطيع بحريّة أن تسبّح خالقها (راجع دا 3: 57- 95). فلا يجوز للإنسان احتقار الحياة الجسدية. بل بالعكس، عليه أن يقدّر ويحترم جسده الذي خلقه الله, والمدعو إلى القيامة في اليوم الأخير. ومع ذلك، بما أن الخطيئة جرحته، فالإنسان يشعر في ذاته بثورات الجسد. وكرامته نفسها هي التي تقضي بأن يمجّد الله في جسده (راجع 1 كو 6: 11- 25)، فلا يكون عبدا لأميال القلب الشريرة.
“أجل إن الإنسان لا يغلط عندما يعترف بأنه أسمى من العناصر المادية, ويعتبر أنه ليس مجرّد جزء يسير من أجزاء الطبيعة, ولا هو عنصر مجهول من عناصر المجتمع البشري. إنه, بحياته الداخلية، يفوق عالم الأشياء. وإلى هذه الأعماق الداخلية يعود عندما يرجع إلى ذاته, حيث ينتظره هذا الإله الذي يفحص القلوب (راجع 1مل 7: 16، 17: 10)، وحيث هو يقرر مصيره بذاته تحت نظر الله. وهكذا فإنه عندما يعترف بأن له نفسا روحية خالدة، فهو ليس بألعوبة خلقها الوهم ويمكن تفسيره بأنه وليد الظروف الطبيعية والاجتماعية، بل هو، على خلاف ذلك، يبلغ حينئذ عمق أعماق الواقع” (الكنيسة في عالم اليوم، 14).
2) ترابط الجسد والنفس في أعمال الإنسان
الإنسان إذن في كيانه جسد ونفس في آن واحد. وهو أيضا في أعماله كلها جسد ونفس في آن واحد. لذلك تتسم أعماله بسمتين: سمة جسدية وسمة روحية. وهذا التعريف بالإنسان مهم جدا لإدلاء أي حكم على الأعمال الإنسانية. فإذا كان الإنسان, كما سبقنا وقلنا, هو نفسه صاحب قراراته بإرادته الحرة, إلا أنه لا يتخذ قراراته ولا يستخدم إرادته وحريته بمنأى عن جسده. فالإنسان، بجسده، يرتبط بالعالم الخارجي، وبجسده يمارس إرادته وحريته. فمرض الجسد يؤثر في إرادة الإنسان وحريته. وإثارة شهوة الجسد بالإغراء ومختلف أنواع المشاهد الإباحية تؤثر أيضا في إرادة الإنسان وحريته. كما أن إخضاع الجسد للتعذيب والتنكيل قد يصل إلى حد يفقد فيه الإنسان إرادته. لذلك، في أي حكم نصدره على أعمال الإنسان ومدى مسؤوليته فيها، لابد لنا من أن نأخذ بعين الإعتبار حالة جسده في أثناء قيامه بتلك الأعمال. فالإنسان يتحمّل مسؤولية أعماله بنفسه وكل طاقاته من صحة وسلامة واتّزان. فالجسد إذن يشارك النفس في تحمل مسؤولية أعمال الإنسان.
وكذلك يشارك الجسد النفس في كرامة الشخص البشري. فكل تعد على الجسد هو بالوقت عينه تعد على كرامة الشخص البشري. وكل مس بالجسد هو مس بالإنسان في كامل كيانه. وهذا المبدأ يجب أن يكون دوما نصب أعيننا في أحكامنا الأخلاقية في شتى الميادين, ولاسيما في مسائل القتل والإجهاض والزنى.
في هذا الإطار من التفكير يجب تفسير ما ورد في أسفار الكتاب المقدّس عن الجسد. فلفظة “الجسد” في الكتاب المقدّس تعني أمرين: تعني أولا الإنسان من حيث ارتباطه بالعالم الخارجي كما بينا أعلاه، وتعني ثانيا الإنسان من حيث وضعه الخاطئ الذي يدفع به إلى ارتكاب مختلف أنواع الشر.
كما أن لفظة “العالم” تعني أيضا أمّا العالم الخارجي, وأمّا العالم الخاطئ. فيجب التمييز بين هذين المفهومين. بالمعنى الثاني, يتكلم بولس الرسول عن التناقض بين الجسد والروح في الإنسان. فالجسد في هذا المعنى، هو كل ما يميل بالإنسان، في كامل كيانه جسدا ونفسا, نحو الشر. والروح هو الإنسان في كامل كيانه جسدا ونفسا من حيث هو ممتلئ من نعمة الله، ومتحد بروح الله الذي يميل به نحو عمل الخير. في هذا المعنى يقول بولس الرسول “اسلكوا بالروح, فلا تقضوا شهوة الجسد. فات الجسد يشتهي ما يخالف الروح, والروح يشتهي ما يخالف الجسد. فكلاهما يقاوم الآخر حتى إنكم تصنعون ما لا تريدون” (غلا 5: 16- 17). “السلوك بالروح” أو “بحسب الروح”, و”السلوك بالجسد” أو “بحسب الجسد”، هذان التعبيران يشيران إلى اتجاهين مختلفين للشخص كله، وليس إلى سلوك هذا الجزء أو ذلك من الإنسان.
ثم يعدد بولس أعمال الجسد وأعمال الروح, وفي كل هذه الأعمال يشترك الجسد والنفس معا:
“وأعمال الجسد بيّنة: الفجور والنجاسة والعهر؟ وعبادة الأوثان والسحر, والعداوات والخصومات والأطماع, والمغاضبات والمنازعات والمشاقات والبدع, والمحاسدات والسكر والقصوف وما أشبه ذلك. وعنها أقول لكم، كما قلت أيضا سابقا: إن الذين يفعلون أمثال هذه لا يرثون ملكوت الله.
“أمّا ثمر الروح فهو المحبة والفرح والسلام, وطول الأناة واللطف والأمانة, والوداعة والعفاف. وأمثال هذه ليس ضدها ناموس. لأن الذين هم للمسيح يسوع, صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات. فإن كنا نحيا بالروح، فلنسكن أيضا بحسب الروح.. إحملوا بعضكم أثقال بعض, وهكذا إنموا ناموس المسيح” (غلا 5: 19- 6: 2).
تقوم الحياة المسيحية على أن يثمر الإنسان في سلوكه ما حصل عليه بمعموديته. لقد ولد بالروح ولادة جديدة وصار ابن الله. فيجب أن تكون حياته الخلقية حياة أبناء الله. لقد تجدد كيانه بروح الله، فيجب ن يكون سلوكه الخلقي تحقيقا لكيانه الجديد. هذا معنى قول بولس في ختام تعداده: “إن كنا نحيا بالروح، فلنسلكنّ أيضا بحسب الروح” (غلا 5: 25). أي إذا كان الروح القدس مبدأ حياتنا، فيجب أن يظهر ذلك في سلوكنا, على صعيدي النفس والجسد. الجسد والنفس هما إذن مبدأان يتداخلان في تكوين الإنسان. ولا يصير الإنسان إنسانا بقدر ما ينفصل فيه الجسد عن النفس, بل, على خلاف ذلك, بقدر ما يتحقق فيه الانسجام والوحدة بين الجسد والنفس. وكذلك على صعيد الحياة المسيحية, لا يصير الإنسان مسيحيا بقدر ما ينفصل فيه الجسد عن النفس، بل بقدر ما يملأ روح الله جسده ونفسه، وبقدر ما يعمل في جسده ونفسه بحسب روح الله.
ثالثا- الإنسان كائن يكتمل بارتباطه بالعالم الخارجي
أن الإنسان, كالكائنات الحية المخلوقة كلها، غير مكتمل في ذاته، ولا يمكنه البلوغ إلى هذا الاكتمال إلا بالانفتاح على العالم الخارجي في جسده ونفسه. وهذا الانفتاح يظهر في رغبات الإنسان المتنوعة التي تميل إلى ما هو خارج عنه من أمور مادية وأمور فكرية وأمور روحية. وتنقسم تلك الرغبات إلى رغبات بيولوجية كالطعام واللباس والسكن, وفكرية كالمعرفة والعلم, واجتماعية كالصداقة والحب. هذه الرغبات تنسجم كلها وطبيعة الإنسان البشرية، وبتحقيقها يكتمل كيان الإنسان. والمؤمن يدرك في ذاته رغبة روحية في المطلق ويعتقد أن كيانه الإنساني لا يكتمل إلا باتحاده بالله.
1) نزعة العقل إلى المعرفة
الإنسان كائن عاقل, وعقله منفتح على المعرفة وعلى الحقيقة وعلى الخير. وهناك انسجام بين العقل والحقيقة. فمتى وجد العقل الحقيقة ارتاح لها. وربما لن ينتهي بحثه عنها لأنها أوسع من أن يستطيع الإحاطة بها كلها. والتاريخ شاهد على محاولات الإنسان المستمرة في اكتشاف ميادين العلم وسَبر أعماق الحقيقة. وكلما اكتشف العقل بعض الحقيقة ارتاح لها, ونشرها في ما حوله وعلّمها لتلاميذ في مدارس فلسفية.
وكذلك هناك انسجام بين العقل والخير. والعقل يتطور في اكتشاف الخير, ومتى اكتشفه ارتاح له, وراح ينشره في مختلف الأديان ويسنّه في مختلف الأنظمة والقوانين والشرائع.
ولأن الإنسان كائن روحي من طبيعته، أي غير محصور كالحيوان لا بجسده ولا بالعالم الخارجي الملاصق له، فرغباته لا حد لها. فهو يستطيع أن يرغب في أمور جديدة ويعمل على تحقيقها. لذلك يشهد العالم على الدوام اكتشافات جديدة. وبهذه النزعة الديناميكية إلى الخارج, يسهم الإنسان في نمو البشرية وتطورها على مختلف الأصعدة كالعلم والثقافة والاقتصاد والأخلاق.. الإنسان كائن غير مكتمل, وسيبقى دوما غير مكتمل, لأن ما فيه من روح يتخطّى المادة ويضعه أمام ممكنات لا حد لها. نهجه هو دوام تطور. وما دام في الكون بشر, لن تتوقف مسيرة التطور. يقول خليل رامز سركيس: “لأسئلة الحياة أجوبة في مستوى الحياة نفسها. الموضوع اثنان في واحد: القضية وحلها, أو لا أبقى. على الدهر بقيت. كنت البرهان أن لا قضية بدون حل. وشيكا أتى أم في بعيد. فأمّا التقدم حلا، وأمّا خطر الفناء”.
اللاهوت الأدبيّ يرافق سعي الإنسان نحو الحقيقة, ويسير معه في تطوره وفي اكتشافه جوانب جديدة للحقيقة، كما يرافق سعيه نحو الخير وتطبيقه على الظروف الجديدة التي تمر بها البشرية في اكتشافاتها الحديثة.
2) الإنسان كائن حي اجتماعي
الإنسان, بعقله ينزع إلى المعرفة، وبقلبه ينزع إلى الحب. وفي كلا الأمرين يخرج من ذاته ويرتبط بالآخر، أشخصا كان أم عملا يلتزم الإنسان تحقيقه. وبخروجه من ذاته يُنشئ مع العالم الخارجي علاقات بناءة تساعده على اكتمال ذاته. يقول أرسطو: “إن الإنسان كائن حي اجتماعي”. هذه الحقيقة وعاها البشر منذ أقدم العصور. وعندما أراد الفلاسفة، التعريف بالإنسان، رأوا أنه لا يمكن التعريف به بمعزل عن الآخرين. فعلاقة الإنسان بإخوته البشر هي من صلب تكوينه كإنسان. لذلك لا يمكنه الوصول إلى كمال ذاته إلا بالعلاقة مع الآخرين. الإنسان كائن حي ناطق. ومَلَكَة الفكر والنطق عند البشر ليست فقط عنصر تأكيد للذات الإنسانية, بل هي سبيل للعلاقة والتعارف والتفاهم والتضامن بعضهم مع بعض.
أ) قيمة الشخص البشري
اللاهوت الأدبيّ, في حكمه على أعمال الإنسان, ينظر نظرة خاصة إلى قيمة الشخص البشري، الذي هو “فرد” أي كائن يتمتع بوجود “فريد” خاص إزاء الكون وإزاء الآخرين وإزاء الله. هذه السمة الفريدة يجب ألا تنحل وتذوب في الجماعة. والجماعة تنمو وتزدهر بقدر ما تعترف لكل فرد من أفرادها بما منحه الله من قيمة مطلقة. والقيم التي تنادي بها الجماعة تفقد معناها إن لم تتجسد في أفراد. فالكلام على الفكر والحرية والكرامة يمسي كلاما فارغا إن لم يتجسد في أفراد يتمتعون بالفكر والحرية والكرامة.
إن كرامة الفرد في اللاهوت المسيحي تنتج من عقيدة الخلق التي تؤكد أن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله. ولفظة “الإنسان” في هذه الجملة ليست مفهوما مجرّدا كالإنسانية, بل تعني كل إنسان بمفرده، فكل إنسان بمفرده هو صورة الله، والله أحبه حبا شخصيا كما يحب الآب كلا من أبنائه بمفرده.
كل إنسان يحمل اسما دعاه به الله: “الراعي الصالح يدعو خرافه الخاصة بأسمائها” (يو 3: 10). لذلك يجب أن تكون له قيمة مطلقة في نظر الناس، لأن له قيمة مطلقة في نظر الله. والله وحده يستطيع أن يسبر أعماق القلب البشري. كل إنسان يعيش في سرّ محجوب عن أنظار البشر، ولا يدركه إلا الله وحده.
مع تأكيدنا قيمة الفرد البشري, يجب أن نؤكد في الوقت عينه أن الفرد البشري هو “شخص”. ونعني بالشخص الفرد البشري من حيث هو مرتبط بالآخرين, “يشخَص” إليهم (أي يذهب إليهم), أو “يشخص” عنهم. فالشخص هو إذا الفرد المرتبط بالآخرين ارتباطا لا يزيل الفرق بين الأفراد, بل يبقى فيه كل شخص إزاء الآخر كإننا يتمتع بذات خاصة يجب على الآخر أن يقف إزاءها (كما يقف إزاء شخص) باحترام وتقدير. لا يمكن أن تذوب الأشخاص بعضها في بعض. حتى في الزواج يقول جبران خليل جبران: “ستكونون معا حتى في سكون تذكارات الله. ولكن فليكن بين وجودكم معا فسحات تفصل بعضكم عن بعض, حتى ترقص في ما بينكم أرياح السماوات”. هذه الفسحات ضرورية بين الأشخاص، لئلا يعتبر أي إنسان الآخر مجرد شيء يمكنه امتلاكه والتصرف به على هواه، وتذويبه وتدمير شخصيته. وبقدر ما يكون لكل إنسان شخصيته الفريدة, يستطيع الناس أن يتعاونوا ويتفاهموا ويتضامنوا. فالإنسان من طبيعته كائن منفتح على الآخر، وفي الآخر يعرف ذاته, ومع الآخر يبني ذاته ويبني المجتمع ويبني التاريخ.
ب) الشخص في التجمّع والمجتمع والجماعة
إن كيان الشخص الاجتماعي يتحقق بوجوده مع أشخاص آخرين بطرق متنوعة, يختلف بعضها عن بعض باختلاف العلاقات التي تجمع بين الأشخاص.
التجمع هو مجموعة أشخاص يلتقون معا بدافع من عوامل خارجية تؤثر في عاطفتهم وتقودهم إلى اتخاذ مواقف والقيام بأعمال لا يشارك فيها وعيهم ولا إرادتهم إلا بالنّزر اليسير. وهذا ما يعرفه محرّكو الجماهير الذين, في توجّههم إلى التجمعات الشعبية, لا يستندون إلى ثقافة الأشخاص الذين يشاركون فيها ولا إلى عقلهم وقناعتهم، بل إلى شعورههم وعاطفتهم. فالشخص في تلك التجمعات ليس له أي قيمة خاصة، إنما هو فرد في مجموعة, قد تخلّى عن إرادته الشخصية لينقاد لرأي فرد آخرعرف أن يسيطرعلى آراء الأفراد المشاركين في التجمع.
المجتمع هو مجموعة أشخاص يلتقون لتحقيق هدف معين, وتربط بعضهم ببعض الوظيفة التي يقوم بها كل منهم للبلوغ إلى هذا الهدف. هذه الشركات التجارية والمؤسسات الصناعية التي لا يُنظَر فيها إلى الإنسان من حيث قيمته الشخصية بل من حيث مهارته في تحقيق هدف المجتمع. وإذا استقال شخص أو توفي, يُستبدل به غيره وتنقطع العلاقة بينه وبين المجتمع. إن تنظيم الدولة هو من نوع تنظيم المجتمع، إذ أن لكل مواطن وظيفة عليه القيام بها للوصول إلى هدف الدولة، وهو تأمين السلام والحقوق لكل المواطنين. ولكن الدولة الحقيقية يجب أن تبث في نفوس المواطنين روح الأخوّة التي تتميز بها “الجماعة”، لئلا تنحطّ مع الزمن إلى مستوى التجمعات.
الجماعة هي مجموعة أشخاص يعيشون معا ويربط بعضهم ببعض هدف واحد يسعون إليه جميعهم, ومحبة متبادلة, بحيث يعرف كل عضو من أعضاء الجماعة أن الآخرين قد قبلوه وأحبوه بمجرد انضمامه إلى الجماعة. من هذا القبول المتبادل تنشأ روح جماعية تحمل كل عضو على تقديم مصلحة الجماعة على مصلحته الفردية. تلك هي حال العائلة, والجماعات الرهبانية, والكنيسة.
لا شك أن الجماعة لا يمكن أن تحقق أهدافها إن لم يكن من بين أعضائها شخصيات قوية تؤثر إيجابيا فيها وتضمن لها الاستمرار والتقدم. وكما أن هناك تأثيرا من الشخص في الجماعة, كذلك أيضا هناك تأثير من الجماعة في الشخص. وكثير من تصرفات الشخص تكون صورة للجماعة التي ينتمي إليها. إلا أن نمو الشخص في الجماعة يجب أن يصل به إلى اكتساب قناعات شخصية، فيحقق هدف الجماعة بملء إرادته وكامل وعيه ومسؤوليته. الجماعة هي المكان الملائم لتحقيق الإنسان ذاته بانفتاحه على الآخر واكتماله بالآخر. في الجماعة يدرك الإنسان قيمته وكرامته عندما يعترف الآخرون بقيمته وكرامته. وفي الجماعة يغتني الإنسان بتبادل الفكر والحب مع غيره. الإنسان من طبيعته منفتح على المعرفة والحب. وتحقيق هذ الانفتاح بتبادل المعرفة والحب في الجماعة يغنيه ويحققه ويسعده في آن واحد. في الجماعة تتخذ أبسط الأعمال، كالطبخ والجلي والغسيل والتنظيف, بعدا علائقيّا لأنها تُتَمم حبا بأعضاء الجماعة. وتلك الأعمال تساعد الإنسان على تحقيق ذاته لأنه من خلالها يرتبط بسائر أعضاء الجماعة. فالأم التي تقوم بأعمال بيتها من طبخ وغسيل وترتيب..، محبّة بزوجها وأولادها، تعتبر عملها وسيلة لتحقيق علامة المحبة بينها وبين أفراد عائلتها, ويُمسي عملها، لا استعبادا وسخرة, بل اكتمالا لكيانها.
ج) المساواة الجوهرية بين الناس في الطبيعة البشرية وفي الحقوق والواجبات
كل ما نقوله للتعريف بالإنسان ينطبق على كل الناس, مهما كانت الفروقات بينهم في الجنس واللون والعِرق والدين والثقافة والوضع الاجتماعي. يقول المجمع الفاتيكاني الثاني: “إن جميع البشر قد خُلِقوا على صورة الله وتزينوا بنفس عاقلة، فهم ينتمون إلى الطبيعة نفسها ويتحدّرون من الأصل نفسه. إنهم ينعمون جميعهم بالدعوة ذاتها وبالمصير الإلهي ذاته، لأن المسيح افتداهم. فيجب إذن أن نعترف دائما وبمزيد من التعمق بالمساواة الجوهرية في ما بينهم” (الكنيسة في عالم اليوم، 1: 29).
إن تأكيد قيمة الشخص البشري هو تأكيد للمساواة الجوهرية بين الناس في القيمة والكرامة. إن الطبيعة البشرية تتحقق دون شك بأوجه متعددة في الناس حسب مواهبهم وإمكاناتهم. ولكن هناك بنية إنسانية مشتركة بين الجميع, منها تنبع الحقوق والواجبات المشتركة بين الجميع.
قلنا إن الإنسان كائن يحقق ذاته بذاته ويكوّن مصيره الشخصي بملء إرادته وحريته, وهذا هو أساس كرامته والاحترام الواجب له. من هذه القيمة الجوهرية ينتج حقه الأساسي في الحصول على كل ما هو ضروري لتحقيق ذاته. ومن هذا الحق الأساسي تتفرّع مجموعة حقوق يمكن اعتبارها امتدادا للشخص البشري، بحيث إن إنكارها هو بالفعل عينه إنكار للشخص البشري وإنكار لقيمته السامية. وقد أصبح اليوم الاعتراف بهذه الحقوق أمرا شاملا، ولاسيّما بعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من قِبل هيئة الأمم المتحدة، سنة 1948. وهذه الحقوق هي التجسيد العملي للشريعة الطبيعية التي يعمل العقل البشري مع الأيام وخبرة الأجيال على اكتشاف تطلّباتها.
ويقابل هذه الحقوق واجبات ناتجة من كون الإنسان يحيا مع غيره, وعليه ان يحترم حقوق الآخرين. فالحياة الجماعية لا يمكن أن تتم دون تبادل وتضامن. فكل إنسان ملتزم باحترام حقوق الآخرين، ولاسيما في الأمور الأساسية المرتبطة بمصير الإنسان وتحقيق تطلّبات كيانه الشخصي. هذا الالتزام هو في أساس الواجب الخُلقي الذي بدونه لا يمكن أن يلتقي الناس ضمن جماعة، عائلية كانت أم مهنية أم سياسية أم دينية. وبقدر ما يمتد إلى كل أفراد الجماعة ويتعمق في ضميرهم هذا الواجب الخُلقي الذي يفرض على كل إنسان احترام حقوق غيره، تزول من تلك الجماعة شريعة الغاب التي يأكل فيها القوي الضعيف ويهضم حقوقه، فيسود فيها السلم والتفاهم والتضامن، وتزدهر الحضارة الحقيقية، ويتاح لكل عضو من أعضاء هذه الجماعة الوصول إلى تحقيق ذاته.
رابعا- الإنسان كائن روحي منفتح على الله
النظرة المسيحية تؤكد ما يؤكده الفلاسفة من أن الإنسان كائن حي عاقل يحقق ذاته في الانفتاح على ما هو خارج عنه. ولكنها تعتبر أن هذا الانفتاح لن يحقق كيان الإنسان ما لم يتخطّ الكون والإنسان الآخر للاتحاد بما يسمو الكون والإنسان, بالله المتسامي والمتعالي. انفتاح الإنسان على الله يتحقق على ثلاث مراحل: الانفتاح على الله من خلال طبيعة الإنسان، الانفتاح على الله من خلال النعمة, وأخيرا الانفتاح على الله من خلال مشاهدة الله في المجد السماوي.
ا) الانفتاح على الله من خلال طبيعة الإنسان
كل كائن حي ينمو بحسب طبيعته: النبات بحسب طبيعته، والحيوان بحسب طبيعته, وكذلك الإنسان مدعو إلى النمو بحسب طبيعته. والنظرة المسيحية إلى الإنسان تعتبر أنه “خُلقَ على صورة الله ومثاله”. وصورة الله في الإنسان تقوم على ما ينعم به من روح وعقل وحرية وإرادة. ومثال الله فيه هو ما يصنعه من خير وصلاح. الإنسان, بروحه وعقله وحريته وإرادته, يتسامى عن المادة والحيوان، وفي هذا التسامي تكمن صورة الله فيه. والإنسان ينزع من طبيعته إلى صنع الخير والصلاح, وفي تلك النزعة يكمن مثال الله فيه. فصورة الله هي في كيانه الروحي، ومثال الله في عمله الصالح. وصورة الله ومثاله هما في الإنسان حقيقة، وفي ذلك الوقت عينه منهاج عمل. فتلك الحقيقة ليست مكتملة, لأن الإنسان يعيش في التاريخ والزمن. وفي التاريخ والزمن عليه أن يحقق في ذاته تلك الصورة الإلهية وذلك المثال الإلهي. وبقدر ما يصنع الصالحات ويسير بمقتضى روحه وعقله وحريته وإرادته, يحقق في ذاته تلك الصورة الإلهية وذلك المثال الإلهي, وفي الوقت عينه يحقق ذاته الإنسانية.
واللاهوت الأدبي, بمختلف مواده وفصوله, إنما يهدف إلى إظهار بهاء تلك الصورة وذلك المثال وإلى مساعدة الإنسان على التوصّل إلى تحقيقهما في ذاته.
2) الانفتاح على الله من خلال النعمة والتبني والتأله
تؤمن المسيحية بأن الله ظهر لنا في كمال وحيه في شخص ابنه وكلمته وصورة مجده يسوع المسيح وفي حلول روحه القدوس. وكل إنسان يقبل هذا الوحي فيتحد بابن الله وروح الله, ينفتح على الله بنوع جديد. هذه هي النعمة. “فإن الناموس قد أعطي بموسى, وأمّا النعمة والحق فبيسوع المسيح قد حصلا” (يو 17: 1). وهذا هو التبني: “لأن الذين سبق فعرفهم, سبق أيضا فحدّد أن يكونوا مشابهين لصورة ابنه, فيكون هكذا بكرا ما بين إخوة كثيرين” (رو 8: 29) “ولمّا بلغ ملء الزمان, أرسل الله ابنه مولودا من امرأة, مولودا تحت الناموس, ليفتدي الذين تحت الناموس، وننال التبني. والدليل على أنكم أبناء, كون الله أرسل إلى قلوبنا روح ابنه، ليصرخ فيها: أبّا، أيها الآب. فأنت إذن لست بعدُ عبدا, بل أنت ابن, وإذا كنت ابنا فأنت أيضا وارث بنعمة الله” (غلا 4: 4-7). وهذا هو التألّه الذي يتكلم عنه الآباء القديسون منذ القديس إيريناوس: “صار كلمة الله إنسانا لكي يصير الإنسان إلها”.
إن قبول الإنسان نعمة الله ودعوته إلى التبني والتأله هو الاختيار المسيحي الأساسي, وهو يدعى أساسيا لأنه أساس كل الأخلاق المسيحية وعليه يبني المسيحي حياته كلها. هذا الاختيار الأساسي يعبّر عنه الإنجيل المقدّس بتعابير متنوعة. فيتكلم عن طلب ملكوت الله: “أطلبوا أولا ملكوت الله وبرّه، وهذا كلّه يُزاد لكم” (متّى 6: 33). أن يُخضع الإنسان كل شيء في حياته لمقتضيات ملكوت الله هو تعبير كتابي عن الاختيار المسيحي الأساسي.
وترد أيضا في الإنجيل المقدّس عبارة تتميم مشيئة الله: “ليس كل من يقول لي: يا رب, يا رب، يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يعمل إرادة أبي الذي في السماوات” (متّى 7: 21), “إن كل من يعمل إرادة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمّي” (متّى 50: 12). والسيد المسيح قال عن نفسه: “إنما طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله” (يو 34: 4). وعلّمنا في الصلاة الربية أن نصلّي: “لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض” (متّى 10: 6). فتتميم مشيئة الله هو تعبير كتابي آخر عن الاختيار المسيحي الأساسي.
ويتكلم أيضا العهد الجديد عن اتباع السيد المسيح: “من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه وليحمل صليبه, ويتبعني” (متّى 16: 24), وعن الاقتداء بالله وبالمسيح: “كونوا مقتدين بالله كأولاد أحباء, واسلكوا في المحبة على مثال المسيح الذي أحبكم” (أف 5: 1- 2), “ليكن فيكم من الأخلاق ما هو في المسيح يسوع” (في 5: 2).
كما يتكلم أيضا العهد الجديد على محبة الله، وعلى المحبة على مثال الله وعلى مثال السيّد المسيح. هذه التعابير المتنوعة يكمّل بعضها بعضا, ويجب النظر إليها كلها لتكوين صورة كاملة عن الأخلاق المسيحية. فالملكوت هو حياة الله التي يشترك فيها المؤمن الذي خُلق على صورة الله ومثاله. وبما أن “الله محبة” (يو 16: 4), فهذه الحياة لن تكون سوى حياة المحبة. فدعوة الإنسان إلى تحقيق ذاته وتحقيق صورة الله فيه هي دعوة إلى المحبة على مثال الله:
“سمعتم أنه قيل: عين بعين وسن بسن. أمّا أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرير. بل من لطمك على خدك الأيمن, فقدّم له الآخر أيضا.. سمعتم أنه قيل: أحبب قريبك وأبغض عدوّك. أمّا أنا فأقول لكم: أحبوا أعدائكم, وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم, لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات, فإنه يطلع شمسه على الأشرار والصالحين, ويمطر على الأبرار والأثمة. فإنكم إن أحببتم من يحبكم فأي أجر لكم؟ أليس العشّارون أنفسهم يفعلون ذلك؟ وإن لم تسلّموا إلا على إخوانكم فقط, فأي عمل خارق تصنعون؟ أوَليس الوثنيون أنفسهم يفعلون ذلك؟ فأنتم إذن, كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل” (متّى 5: 38-48).
دعوتنا إلى المحبة هي إذن دعوة إلى التمثّل بالله. وقد عرفنا الله ورأيناه من خلال ابنه وكلمته وصورة جوهره يسوع المسيح. وهو الذي قال لنا: “إني أعطيكم وصية جديدة: أن يحب بعضكم بعضا, أجل أن يحب بعضكم بعضا كما أحببتكم أنا. بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي, إذا كنتم تحبون بعضكم بعضا” (يو13: 34-35), “هذه وصيتي: أن يحب بعضكم بعضا كما أحببتكم أنا. ليس لأحد حب أعظم من أن يبذل الحياة عن أصدقائه. فأنتم أصدقائي إذا صنعتم ما أنا موصيكم به.. فما أوصيكم به إذن, هو أن يحب بعضكم بعضا” (يو15: 12-17).
ما هو جديد في وصية السيد المسيح هو أن نحب بعضنا بعضا كما أحبنا الآب وكما أحبنا السيد المسيح. إن انفتاح الإنسان على الله بالنعمة والتبني والتألّه يصل إلى هذا الحد في الأخلاق المسيحية: أن يجسّد الإنسان في محبّته محبة الله الآب ومحبة السيد المسيح, في كل علاقاته مع إخوته البشر.
إن انفتاح الإنسان على الله لا يعني انعزاله عن الكون وعن الآخرين, بل هو تعميق وتقديس وتأليه لانفتاحه على الكون وعلى إخوته البشر, بحيث يمكننا التعريف بالأخلاق المسيحية بأنها التخلّق بأخلاق الله كما ظهرت لنا في حياة السيد المسيح وتعاليمه.
3)الانفتاح على الله في تَوق الإنسان إلى السعادة
السعادة تَوق كل إنسان. والاتجاه الذي يختار الإنسان أن يسير فيه, إنما يختاره لأنه يرى فيه ما يجلب له بعض السعادة. والأعمال التي يقوم بها, إنما يقوم بها, أخَيرا كانت أم شرّا, لأنه يرى فيها ما يوصله إلى السعادة. هذا التوق إلى السعادة هو في نظر الإيمان ونظر اللاهوت المسيحي دليل على انفتاح الإنسان, في عمق كيانه وجوهر طبيعته, على الله الحي. ولن يصل الإنسان إلى السعادة إلا باتحاده الكياني بالله, بالإيمان على هذه الأرض, وبالمشاهدة وجها لوجه في حياة الأبد.
أ) الإنسان كثيرا ما يخفق في سعيه وراء السعادة
السعادة هي حالة الكائن الحي الذي يصل إلى تحقيق كيانه, فتوق الإنسان إلى السعادة هو في الواقع توق إلى اكتمال ذاته. ولكن الإنسان كائن محدود, وسيبقى على هذه الأرض غير مكتمل وفي مسيرة دائمة لاكتمال ذاته. لذلك فالأفراح الجزئية, كالصحة والرفاهية والمال, والعلم والمعرفة, والصيت الحسن وتقدير الناس, والحب, والسلطة, وإن كان بعضها عناصر مهمة على طريق السعادة, إلا أنها لا يمكن أن تكون لها صفة المطلق. واعتبارها مطلقة وكافية لجلب السعادة هو الذي يجعل الإنسان تعيسا. فشقاء الإنسان لا يأتيه من سعيه وراء السعادة, فهذا السعي لابد منه, إذ إن البحث عن اكتمال الذات هو ميزة الإنسان الجوهرية. ولكن شقاء الإنسان يإنيه عندما يجعل المطلق في ما هو جزئي ووقتي. إن في الإنسان عطشا نحو المطلق, ولا يختبر في خيرات هذا العالم إلا النسبي والجزئي والوقتي. ههنا يكمن شقاؤه.
فإذا تقصينا ذلك البحث عن السعادة لدى الإنسان، رأينا أن إشباع أي حاجة من حاجات الإنسان ينشئ فيه رغبة في إشباع حاجة أخرى. وأفق الحاجات والرغبات يتسع أمامه على الدوام. وفي كل مرة يشعر الإنسان بخيبة أمل لدى اختباره استحالة إشباع جميع رغباته. في هذا الإطار يمكننا إدراج اختبار يتميز به الإنسان عن الحيوان, وهو الشعور بالحزن وبنوع من الفراغ لدى إشباعه إحدى رغباته مهما كانت محلّلة وشريفة. فالشخص البشري يبحث على الدوام عن أمر يجلب له سعادة أكبر. وهذا ما نختبره لدى الطفل الذي يرغب في الحصول على لعبة يظن فيها سعادته, وما إن يحصل عليها ويلعب بها, بعض الوقت, حتى يسأم منها ويرمي بها خارجا. ثم إن تقدم العلم والتقنية قد أدى إلى تصنيع مواد استهلاكية جديدة تُعرض بغزارة على الناس مع الوعد بأنها ستجلب لهم السعادة, من مشروبات ودخان وعطور, ومختلف أنواع الرفاهية والتسلية. والخبرة في هذا المجال أيضا تدل على أن المجتمع الجديد الذي نشأ من تقدم العلم ودُعي “المجتمع الاستهلاكي” لم يجلب للإنسان السعادة بل السأم والرتابة وخيبة الأمل. وكذلك من يظن السعادة في الحب وحده, سريعا ما يختبر أن ممارسة الحب لا تشبع رغباته بل تخلق فيه كل مرة عطشا جديدا لا يرتوي.
زد على ذلك الشرور المتعددة التي يشهدها الإنسان في حياته, أكانت خللا في الطبيعة كالأمراض والأوبئة والزلازل, أم خللا في أعمال الإنسان كالحروب والجرائم والتعديات على الناس, مما يقود الإنسان إلى اليأس من إمكان حصوله على السعادة. وقد عبّر الشعراء في مختلف الآداب عن خيبة الإنسان هذه. ونجد صدى لخبرة الإنسان في بعض مقاطع من أسفار الكتاب المقدّس الحكمية.
فالمزمور 89 يعبّر عن هذا الاختبار المر بقوله: “سنونا تشبه العنكبوت, أيام سنينا سبعون سنة, وعلى الأكثر ثمانون سنة. ورغدها إنما هو تعب ووجع، وقد مرّت بنا سريعا مرور الطير”.
وسفر الجامعة، في تأمله في مصير الإنسان، يؤكد الوجه السلبي في حياته، فيقول:
“باطل الأباطيل، كل شيء باطل.
أي فائدة للإنسان من كل تعبه،
الذي يعانيه تحت الشمس..
رأيت جميع الأعمال التي عُمِلت تحت الشمس،
فإذا كل شيء باطل وسعي وراء الريح” (2: 1-3، 14).
ويخلص إلى أنه على الإنسان الاكتفاء ببعض الأفراح الجزئية الوقتية:
“إني رأيت العمل الذي جعله الله لبني البشر ليعملوه:
صنع كل شيء حسنا في وقته، وجعل الأبد في قلوبهم،
من غير أن يدرك الإنسان أعمال الله،
من البداية إلى النهاية.
فعلمت أنه لا خير للإنسان،
سوى أن يفرح وتطيب نفسه في حياته،
وإن كل إنسان يأكل ويشرب،
ويذوق هناء كل تعبه،
إنما ذلك عطية من الله” (10: 3-13, راجع 11 و12).
ب) الرغبة في المطلق
إزاء هذا الاختيار المر لابد لنا، استنادا إلى العقل وإلى الوحي، من تقديم جواب على عطش الإنسان المستمر إلى السعادة. إن خبرة الإنسان هذه تُظهر أن الإنسان في عمق كيانه يشوبه نقص أساسي لا يمكن لأي شيء من أشياء هذه الدنيا أن يملأه. وهذا النقص يدعوه الفلاسفة واللاهوتيون اليوم “الرغبة” بالمعنى العام الواسع، ويميزون تلك الرغبة عن الحاجات. فالشعور بعدم الاكتفاء لدى إشباع الإنسان حاجاته هو دليل على أن هناك نقصا ملازما للإنسان طالما هو على قيد الحياة. تلك هي “الرغبة” التي بها يبقى الإنسان مشدودا إلى أمر لا يمكن أن يكون إلا المطلق. وكل المؤمنين في مختلف الأديان يدعون هذا المطلق “الله”. والإنسان يشعر بالسعادة بقدر ما يحقق في ذاته الاتحاد بالله. فالسعادة التامة لن يحصل عليها إلا بالاتحاد الكامل بالله بعد هذه الحياة, حيث يرى الله وجها إلى وجه. وبقدر ما يحيا مع الله على هذه الأرض ويقوم بأعماله بالاتحاد مع الله وعلى مثاله, يشعر بالسعادة.
ج) مسيرة السعادة تبدأ على هذه الأرض وتكتمل في السماء
الإنسان بانفتاحه على الله, يحقق رغبته في المطلق ولكن فقط في جذورها, ويحصل على السعادة في مبدإها, كما أن الشجرة كلها موجودة في البزرة. والدرب أم ام الإنسان طويل للوصول إلى مبتغاه. فكيانه محدود في الزمان والمكان، ولابد من الوقت لكي “تنمو حبة الخردل, أصغر جميع البزور التي على الأرض, لتصير أكبر من جميع البقول, وتفرع أغصانا كبيرة, حتى أن طيور السماء تقدر أن تأوي إلى ظلها” (مر 4: 30-23). ولابد من الوقت لكي “يخمّر اليسير من الخمير العجين كله” (لو13: 21). لكن الإنسان، بانفتاحه على الله، قد حصل على الزرع الإلهي, “وسواء أنام أم استيقظ, في الليل وفي النهار، فالزرع ينبت وينمو، ولا يدري كيف. فالأرض من ذاتها تثمر: تخرج الساق أولا, ثم السنبلة، ثم الحنطة ملء السنبلة. فإذا أدرك الثمر، أعمل فيه المنجل, لأن حصاده قد حان” (مر 4: 26- 29).
إن الزمن الذي نعيش فيه على هذه الأرض هو زمن العمل للوصول إلى الكمال. فالمؤمنون “يسمعون الكلمة بقلب نبيل صالح، فيحفظونها ويثمرون بالصبر” (لو 15: 8). السعادة التي خُلقوا لأجلها ويعدهم بها الله, يحصلون عليها على مرحلتين: مرحلة هذا الزمان حيث يُبنى الملكوت، ومرحلة ما بعد الموت حيث يتم بكماله. ولابد من إدراك التكامل بين المرحلتين, بالرغم مما تتميز به كل منهما. فمرحلة هذا الزمان هي مرحلة العمل الدائم والتضحيات الشتى، والقرارات والاختيارات التي قد تكون في معظم الأحيان صعبة وشائكة, لإحلال المحبة وتحقيق إرادة الله في تقلبات الحياة الحاضررة. لذلك يلقي صليب المسيح بظله على كل أعمال الإنسان التي يجاهد من خلالها لتتميم إرادة الله. يقول المجمع الفاتيكاني الثاني:
“إن كلمة الله.. يلفت انتباهنا إلى أن هذه المحبة يجب إلا تمارس فقط بأعمال تبهر, بل بالأعمال اليومية قبل كل شيء. وأنه, بقبوله أن يموت لأجلنا جميعا نحن الخطأة, علّمنا بمثله أنه علينا أن نحمل ذلك الصليب الذي يلقي الجسد والعالم بثقله على أكتاف الذين يسعون وراء العدل والسلام” (الكنيسة في عالم اليوم، 38).
مرحلة هذا الزمان تتسم بالصبر والسهر والعمل الصالح: “لتكن أحقاؤكم مشدودة، وسُرُجكم موقدة, وكونوا كرجال ينتظرون سيدهم عند عودته من العُرس، ليفتحوا له حالما يوافي ويقرع.. من, ترى، الوكيل الأمين الحكيم، الذي يقيمه سيده على خدمه, ليعطيهم قسمتهم من الحنطة في حينها؟ طوبى لذلك العبد الذي يأتي سيده فيجده يفعل هكذا! في الحقيقة أقول لكم: إنه يقيمه على جميع أمواله” (لو35: 12- 44).
أمّا مرحلة ما بعد الموت فهي مرحلة السعادة الأبدية التي يتمتع بها الإنسان في السماء، ويصوّرها السيد المسيح في تشابيه مستقاة من حياة معاصريه: “يشبّه ملكوت السماوات بملك صنع عرسا لابنه، وأرسل غلمانه ليستقدموا المدعوين إلى العرس” (متى 22: 2- 10, لو 16: 14- 24, راجع أيضا لو29: 13), “يشبّه ملكوت السماوات بعشر عذارى أخذن مصابيحهن وخرجن للقاء العريس” (متى 25: 1- 13). وسفرالرؤيا يصف لقاء الإنسان مع الله في صورة حياة دائمة في أرض جديدة لا حزن فيها ولا موت: “ورأيت سماء جديدة وأرضا جديدة, لأن السماء الأولى والأرض الأولى قد زالتا، والبحر لا يكون من بعد. ورأيت المدينة المقدّسة، أورشليم الجديدة، نازلة من السماء، من عند الله، مهيّأة كعروس مزيّنة لعريسها. وسمعت صوتا جهيرا من العرش, يقول: هوذا مسكن الله مع الناس، سيسكن معهم، ويكونون له شعبا, وهو “الله- معهم” يكون إلههم، ويمسح كل دمعة من عيونهم، ولا يكون بعد موت، ولا نوح، ولا نحيب, ولا وجع, لأن الأوضاع الأولى قد مضت” (رؤ 21: 1- 4).
إن المرحلة القصوى من سعادة الإنسان يجب إلا تفسّر بمعنى زمني وحسب, أي كسعادة يحصل عليها الإنسان بعد هذه الحياة، كمكافأة لحياة صالحة. بل يجب تفسيرها أيضا بمعنى وجودي ملازم لحياة الإنسان على هذه الأرض. الحياة مع الله هي عينها الملكوت الذي يبدأ على هذه الأرض. لذلك عندما “سأل الفريسيون السيد المسيح: متى يإني ملكوت الله؟ أجابهم وقال: إن ملكوت الله لا يجيء بوجه منظور، ولن يقال: هو هنا, أو: هناك! فها إن ملكوت الله في داخلكم” (لو 17: 20- 21).
لذلك يمكن القول أن السعادة التي بها يكتمل كيان الإنسان تبدأ على هذه الأرض, إنها الجو الذي يدخله الإنسان عندما يتحد بالله، ويعيش في أرجائه عندما يتمم وصايا الله. من يحفظ وصايا الله، يسكن فيه الله. يقول السيّد المسيح: “من كانت عنده وصاياي وحفظها، فهو الذي يحبني, والذي يحبني يحبه أبي, وأنا أحبه وأظهر له ذاتي.. إن أحبني أحد يحفظ كلمتي, وأبي يحبه وإليه نأتي, وعنده نجعل مقامنا” (يو 15: 21- 23).
من يقيم فيه الله يحصل على السعادة، ومن تنفتح عيناه ويرى نور الله يجد السعادة، ومن يسمع كلمة الله له الطوبى: “طوبى لعيونكم لأنها تبصر، ولآذانكم لأنها تسمع. الحقّ أقول لكم: إن كثيرين من الأنبياء والصدّيقين قد اشتهوا أن يروا ما أنتم راؤون ولم يروا, وأن يسمعوا ما أنتم سامعون ولم يسمعوا” (متّى 16: 13- 17).
لأجل ذلك يعلن السيد المسيح “الطوبى” للمساكين بالروح، أي الذين يرغبون دوما في الله ويعيشون بالاتحاد معه. واتحادهم بالله هو الذي يجعلهم على الدوام ودعاء، باكين, جياعا وعطاشا إلى البر، رحماء، أنقياء القلوب، فاعلي السلام، صابرين على الاضطهاد من أجل البر. لقد أوضح السيد المسيح في هذه التطويبات الثماني أن الطريق إلى الله هي طريق السعادة، وأن تلك الطريق تمر حتما من خلال أعمال المحبة تجاه القريب:
“طوبى للودعاء بالروح، فإن لهم ملكوت السماوات,
طوبى للودعاء، فإنهما يرثون الأرض،
طوبى للباكاين, فإنهم يُعزَّون,
طوبى للجياع والعطاش إلى البر, فإنهم يشبعون,
طوبى للرحماء, فإنهم يُرحمون,
طوبى لأنقياء القلوب, فإنهم يعاينون الله,
طوبى لفاعلي السلام، فإنهم يدعون أبناء الله،
طوبى للمضطهدين من أجل البر، فات لهم ملكوت السماوات”
(متّى 5: 3-10).