معمودية الأطفال في الكنيسة الأولى
عدنان طرابلسي
معمودية الأطفال من المسائل التي تُثير جدلاً منذ ظهور البروتستانتية وحتى يومنا الحالي. ولكي يستوفي الموضوع حقه، وجدتُ من الواجب أن أقدّم للقارئ دراسة مفصّلة عنه يمكن مراجعتها في جزء الملاحق في نهاية هذا الكتاب. أما هنا فسأسرد جوباً مختصراً (1).
مفهوم المعمودية بصورة عامة متباين بصورة كبيرة بين الأرثوذكس والكاثوليك من جهة والبروتستانت من جهة أخرى. هذا له دور كبير في رفض معظم الفئات البروتستانتية لمعمودية الأطفال ولسوء فهمها لها. أعداء معمودية الأطفال مغرمون بالاقتباس من الكتاب المقدس لدحض معمودية الأطفال. هنا سيشمل الجواب دراسة من الكتاب المقدس ومن الكنيسة الأولى (القرون الثلاثة الأولى).
كل مقولات العهد الجديد عن المعمودية تأتي في وسط البشارة المسيحية، لهذا لم يتم ذكر معمودية الأطفال بصورة منفصلة أو خاصة لأن الأطفال كانوا مشمولين ضمن العائلة الواحدة التي كانت تقبل الإيمان المسيحي. أيضاً، هدف كتابة العهد الجديد كانت أن تقود الناس إلى معرفة يسوع المسيح لينالوا حياة إذا آمنوا باسمه (يو 2: 30-31)، ولم يكن العهد الجديد أبداً كتاباً طقسياً. وبما أن معمودية الأطفال لم تُذكر بصورة خاصة، فهذا يعني بالاستنتاج أنها لم تكن موضع شك وجدل في الكنيسة الأولى. لهذا نجد أنه لا بد من العودة إلى إيمان الكنيسة الأولى الرسولية وممارستها لمعرفة موقف العهد الجديد من معمودية الأطفال. خاصة وأن علماء الكتاب المقدس يمكنهم أن يتلاعبوا بآيات الكتاب المقدس للوصول إلى مرامهم المقرّر سلفاً بحسب خلفياتهم الإيمانية.
توجد عدة نقاط يجب أخذها بعين الاعتبار:
1- صيغة “وأهل البيت”: النصوص التي تتكلم عن اهتداء ومعمودية “كل البيت” (1كور1: 16؛ أع 11: 14؛ أع 16: 15، 16: 33، 18: 8؛ 1كو 1: 16) تدل على أنه في حالة وجود أطفال (مهما كان عمرهم) في بيت دخل فيه الوالدان في المسيحية، فإن كل الأطفال في هذا البيت كانوا يُعمَّدون (بغض النظر عن عمرهم) مع الكبار البالغين في الوقت نفسه.
2- معمودية الدخلاء إلى اليهودية هي معمودية الوثنيين الداخلين على اليهودية. توجد تشابهات كبيرة في طقس وطريقة ممارسة معمودية الدخلاء إلى اليهودية وبين المعمودية المسيحية الأولى. بالنسبة لمعمودية الأطفال في الكنيسة الأولى فإن كل الدلائل تشير إلى أنه في حالة الأمم الداخلين إلى المسيحية، فإن الأطفال من كل الأعمار (بما فيهم الرضّع) كانوا يُعمَّدون. بولس الرسول في كولوسي 2: 11 يؤكّد هذه النقطة. فبولس هنا يسمّي المعمودية ب “الختانة المسيحية” ويصفها بأنها السر المسيحي الذي يحلّ محل الختانة اليهودية ويُستبدل بها. وفي 2كور 1: 22 (أيضاً أفسس 1: 13 و4: 30) فإنه ينقل صفة الختانة ك “ختم” (رو 4: 11) إلى المعمودية. وبما أن الختانة كانت تتم على كل الأطفال في عمر الثمانية أيام، الذين هم أعضاء في البيت الوثني الذي كان يدخل إلى اليهودية، فإن وصف المعمودية على أنها “الختانة المسيحية” يدلّ على أن الأسلوب المتبع في المعمودية كان نفسه المتّبع في الختانة، أي أن كل الأطفال من كل الأعمار كانوا يُعمَّدون عندما كان والديهم يقبلون الإيمان المسيحي.
3- أعمال 2: 38-39 تدل بصورة غير مباشرة على معمودية أطفال أهالي اليهود الداخلين إلى المسيحية.
4- معمودية أطفال الأهالي الوثنيين الداخلين إلى الكنيسة: توجد شهادات لا يُرقى لها شك على معمودية أطفال العائلات التي تتقبل الإيمان المسيحي. هذه الشهادات الآبائية تؤكد النقطة الإنجيلية المتعلقة بمعمودية “أهل البيت” بكامله. هذه الشهادات تشمل هيبوليتوس الذي يذكر أن معمودية الأطفال تعود إلى عهد أقدم من عهده (حتى القرن 2 م). وأيضاً تشمل ترتليانوس في أفريقيا في القرن الثاني يذكر معمودية الأطفال وكان أولاً مَن ذكر دور العرابين واشتراكهم في طقس المعمودية. وأخيراً كتابات كلمندس المنحولة في سوريا.
5- معمودية أطفال الأهالي المسيحيين: ماذا فعلت الكنيسة الأولى عند ولادة طفل لوالدين مسحيين؟ من نص (أع 21: 21) نتعلّم أنه في سنة 55 م كان الرضع الذكور المولودون في كنيسة أورشليم يُختَنون. وبالوقت نفسه نتعلّم أنه في سنة 55 م كان الرضع الذكور المولودون في كنيسة أورشليم يُختَنون. وبالوقت نفسه نتعلّم من أعمال 21: 21 أنه في مناطق بشارة بولس فإن جميع الوالدين من أصل أممي لم يختنوا أولادهم في اليوم الثامن. وبما أن بولس قد عيّن المعمودية على أنها الطقس الذي يحلّ محل الختان كما في كولوسي 2: 11 فمن المحتمل جداًَ أن هؤلاء الأطفال كانوا يُعمَّدون.
6- بعد دراسة مرقس 10: 13-16، يقول جيريمايا أنه بالإضافة إلى حضّ الكنيسة للأهالي على إحضار أولادهم إلى يسوع لنيل البركة، فإن الكنيسة قد رأت في هذه القصة أمراً بإحضار الأولاد إلى يسوع في المعمودية. أول مكان يظهر فيه هذا النص في الأدب المسيحي الأول هو في ترتليانوس (2) (حوالي سنة 200). هذا الموضوع يُظهر بأن كلمات يسوع السابقة قد فُهمت بصورة عامة على أنها فرضٌ بمعمودية الأطفال.
7- كانت أبرز علامة على العهد بين الله وشعبه هي الختان. فالله نفسه أمر بختان كل طفل ذكر بعمر ثمانية أيام (تك 17: 12). بالطبع لم يكن طفل الثمانية أيام هذا يُسأل فيما إذا كان يريد الانضمام إلى شعب الله، بل كان إيمان الوالدين هو شرط ختانة الطفل وانضمامه. من جهة أخرى، من السهل ملاحظة العلاقة بين الختان من جهة والمعمودية المسيحية من جهة أخرى. فالقديس بولس الرسول يقول: “وبه (المسيح) أيضاً خُتنتم ختاناً غير مصنوعٍ بيد يخلع جسم (الخطايا) البشرية بختان المسيح، مدفونين معه في المعمودية التي فيها أُقمتم أيضاً معه” (كول 2: 11-12). إذاً، بالنسبة للمسيحي، إن المعمودية هي تحقيق ختان العهد القديم. وفي الإشارات الأخرى إلى المعمودية في العهد القديم نجد اعتماد جميع العرابين لموسى في السحابة وفي البحر (1كو 10: 2)، و”جميعهم” تشمل الأطفال أيضاً. فلك نوح رمزٌ للمعمودية أيضاً (1بطر 3: 20-21). هنا لا يمكن تصوّر استثناء الأطفال من فلك نوح وتركهم يهلكون بالطوفان فقط لأنهم أطفال غير قادرين على فهم ما يحصل.
8- الروح القدس يحلّ على الأجنّة والأطفال: دعا الله أشعيا من بطن أمه (أشع 49: 1-2). قدّس الله إرميا وأقامه نبياً قبل خروجه من بطن أمه (إرم 1: 4-6). يوحنا المعمدان امتلأ من الروح القدس وارتكض ابتهاجاً وهو بعد جنين في بطن أمه (لو 1: 15 و41 و44). إن كان الروح القدس له المجد قد حلّ ويحلّ على الأجنة والأطفال وهم بعد قاصرون غير واعين، ويباركهم ويقدّسهم ويكرّسهم، فهل يعجز عن الحلول على الأطفال أثناء تعميدهم؟ على العكس تماماً، إن معمودية الأطفال لاهوتياً هي امتداد لحلول الروح القدس على الأطفال في كل الأعمار.
9- الرب يسوع يبارك الأطفال: يسوع شفى غلام قائد المائة (متى 8: 5-13)، وأقام ابنة رئيس المجمع من الأموات (متى 9: 18-26)، وشفى ابنة الفينيقية (متى 15: 22-28)، إلخ. هذه الحوادث وسواها تُظهر لنا أموراً مهمة بما يتعلّق بموضوعنا. أولاً: لم يكن عمر الطفل أو الطفلة حاجزاً أو مانعاً لقبول نعمة المسيح. ثانياً: لم يكن للطفل (أو الطفلة) أي دور في قبول نعمة المسيح ولم يوجد وعيٌ من جهته ليقرر فيما إذا كان سيقبل نعمة المسيح أم لا. ثالثاً: الرب يسوع شفى الطفل (أو الطفلة) بناء على طلب أحد أفراد عائلته أو المقرّبين منه والذي أبدى إيماناً بالرب يسوع وقدرته على الشفاء. إذاً، هنا أيضاً نجد أن لاهوت معمودية الأطفال هو لاهوت كتابي، بينما مَن ينكر صحّة هذه المعمودية فإنما يطعن بالكتاب المقدس نفسه عن جهل أو عن معرفة. ودور العرّابين في معمودية الأطفال إنما هو أمر كتابي أيضاً.
10- الرب يسوع يشفي المجانين: الرب يسوع شفى أخرساً ممسوساً (متى 9: 22-23)، وممسوساً أعمى وأخرس (متى 12: 22)، وشفى الابن الممسوس المصروع (متى 17: 14-18)، الخ. الإنسان الممسوس (المجنون) لأي سبب هو إنسان غير متمالك لقواه العقلية, رغم ذلك، لم يمتنع الرب عن شفاء المجنون بحجة أنه لا يعي ولا يفهم ولا يعرف، الخ. الأطفال عند معموديتهم هم غير ناضجين عقلياً، ولا يعون أو يفهمون أو يعرفون، ومع ذلك يولدون ثانية بالمسيح ولادة روحية (كما ولدوا من أمهاتهم ولادة أولى جسدية بدون وعيهم وإدراكهم وموافقتهم). فلو كان غياب الإيمان الواعي والعقل الصحيح في الطفل سبباً للطعن بصحة معموديته، لما استطاع أن يخلَّص أي مختل عقلياً لأنه لن يُعمَّد بحسب أعداء معمودية الأطفال! خاصة وأن الرب يسوع نفسه هو القائل “من أفواه الأطفال والرضّع هيّأتَ تسبيحاً” (متى 21: 16).
11- هل يحتاج الأطفال إلى المعمودية المسيحية؟: عادةً مناوئو معمودية الأطفال يقولون إن الطفل لا يحتاج إلى مغفرة الخطايا إذ لا خطايا لديه، وبالتالي لا يحتاج إلى معمودية مسيحية إلا بعدما يكبر ويُخطئ. هذا الجهل باللاهوت المسيحي فاحش. إن كان الطفل لا يحتاج إلى معمودية، فهذا يعني أنه لا يحتاج إلى الروح القدس لأنه بالمعمودية المسيحية يُعطى الروح القدس (أع 1: 8)، ولا يحتاج إلى الولادة من الماء والروح (يو3: 3 و 5)، وإلى الولادة من فوق وبالتالي لا يحتاج أن يرى ملكوت الله، لأنه بدونها لا يقدر أحدٌ أن يرى ملكوت الله (يو3: 5)، ولا يحتاج إلى دفن مع المسيح وقيامة معه (رو 6: 3- 6؛ كول 2: 11- 12)، ولا يحتاج إلى صلب إنسانه العتيق في المعمودية (رو6: 3- 6)، ولا يحتاج أن يلبس المسيح (غلا 3: 27)، ولا يحتاج إلى الدخول إلى “جدّة الحياة” (رو 6: 3-6)، ولا يحتاج أن ينغرس في جسد المسيح، الكنيسة، ليصير عضواً فيه (1كور 12: 13؛ أفسس 4: 4)، ولا يحتاج إلى الخلاص (1 بطر 3: 18). لاحظ أننا ذكرنا الكثير عن المعمودية ولم نذكر بعد غفران الخطايا، أفلا تكفي الأسباب السابق ذكرها لتجعل والديه يركضون به إلى جرن المعمودية “الرحم الثاني المولِّدة”؟! هل رأيتم كم يُخطئ الذين يحاربون معمودية الأطفال مهما كان سبب رفضهم هذا؟! رغم هذا كله، فالطفل يحتاج إلى مغفرة الخطايا. لا لأنه أخطأ (3)، بل لأنه مولود من آدم العتيق، وقد ورث عنه كل نتائج الخطيئة الجدّية الأولى (من ألم وعذاب وأهواء وتجارب وضعفات وموت، إلخ…) (4). فالخلاص ليس مسألة فطرية في الإنسان، والقداسة ليست مجردو امتناع عن ارتكاب الخطايا. هذا كان قبل المسيح. أما في المسيح فالإنسان مدعوٌ للقداسة والاتحاد بالثالوث القدوس، والتألّه ليصير “شريكاً للطبيعة الإلهية” (2 بطرس 1: 4). هذا لن يحدث بدون ولادة جديدة وبدوت اتحاد بجسد المسيح والغَرف من النعمة.
12- توجد شهادات من الكنيسة الأولى (بوليكاربوس، أوريجنس، إيريناوس، هيبوليتوس، ترتليانوس) تشير بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى ممارسة الكنيسة الأولى لمعمودية الأطفال بصورة لا تقبل الشك. أيضاً شواهد القبور من القرون الثلاثة الأولى تشير إلى معمودية أطفال كثيرين بأعمار مختلفة قبل رقادهم.
—————————–
(1) اعتمد المبدأ العام التالي: كل الانحرافات عن الإيمان الأرثوذكسي ظهرت في زمان معيّن وأثارت ردة فعل في الوسط الأرثوذكسي. كفر آريوس بألوهة الابن وكفر مكدونيوس بألوهة الروح القدس فثارت ثائرة الكنيسة ضدهما فكان دستور الإيمان. أضعف نسطوريوس اتحاد الطبيعتين ورفض عبارة العذراء مريم “والدة الإله”، فكان المجمع الثالث في 431. قال أوطيخا بابتلاع الطبيعة الإلهية للطبيعة البشرية فكان المجمع الرابع. زادت روما على دستور الإيمان عبارة انبثاق الروح القدس من الابن فكان انشقاق 1054. وهكذا دواليك. البدع البروتستانتية ظهرت في الأعوام 1518-2003 كخروج على تقليد الكنيسة فسقطت في الهرطقات. هم، إذاً، خوارج على التيار الرسولي (اسبيرو جبور).
(2)
De Baptismo 18: 5
.
(3) الطفل يُخطأ، ولكن بدون معرفة.
(4) راجع د. عدنان طرابلسي “وسقط آدم”