أبلوس
أبلوس

ثم أقبل إلى أفسس يهودى اسمه

ابلوس اسكندرى الجنس رجل فصيح مقتدر فى الكتب “

(أع 18 : 24)

مقدمة
لعله من المناسب تماماً ونحن نذكر قصة أبلوس اليهودى السكندرى ، أن نذكر يهودياً اسكندرياً آخر كان من أشهر رجال عصره ، هو فيلو اليهودى السكندرى ، ويعتقد أن فيلو ولد حوالى 20 ق.م. ، وعاش إلى عام 45 م أى أنه عاش معاصراً لأبلوس ، وإن كان أكبر منه سناً فى ذلك التاريخ ، ونحن نعلم أن الإسكندرية كانت فى ذلك الوقت من أشهر المدن ، وأنه كان بها ما يقرب من مليون يهودى أى نصف سكان المدينة ، وأن منارها كان واحداً من عجائب الدنيا السبع ، ولعل مكتبتها كانت أعظم مكتبة عرفها التاريخ ، وكان فيلو واحداً من أشهر رجالها ، وكان أخوه اسكندر رجلاً غنياً جداً فى المدينة ، ويبدو أن فيلو لم يكن فيلسوفاً فحسب ، أو عالماً من علماء العهد القديم فحسب ، بل كان أكثر من ذلك من قادة اليهود فى المدينة ، وقد ذهب على رأس وفد إلى روما فى أيام حكم كاليجولا للدفاع عن بنى جنسه عندما تعرضوا للإضطهاد والضيق ، وهو يكاد ينسى نفسه فى حدائق موسينس عندما رأى رو ما فى مجدها العظيم ، .. وقد مزج فيلو الفلسفة بالدين ، وكان شديد الولاء ليهوديته ، ولكنه تأثر بالفلسفة الرواقية ، وبأفلاطون وأرسطو ، ويبدو أنه كان شديد الإعجاب بهوميروس الذى كان قد أدخل الرمزية فى الكتابات الدينية ، على ما نقرأ فى الألياذة والأودية ، … وكان موسى البطل العظيم المفضل فى ذهن فيلو وخياله ، وقد عمد إلى تفسير الأسفار الخمسة، وكتب الكثير من الكتب الدينية والفلسفية،… ومع أنه تحدث عن « اللوجوس » الكلمة ، وكان مأخوذاً فى تفسيره بالفكر الأفلاطونى كما « بالحكمة » فى سفر الأمثال ، …. إلا أن رحلته فى الحياة انتهت وهو فى اليهودية التى لم تعرف « الكلمة » المسيح مخلص العالم ، …. لكن أبلوس العبقرى الفصيح وصل إلى أكثر مما وصل إليه فيلو ، وكان واحداً من أعمدة الكنيسة فى أول خطى التاريخ المسيحى ، وها نحن نتابع قصته فيما يلى :
أبلوس الواعظ العظيم
يبدو لنا أبلوس من أول القصة أميراً من أمراء المنابر ، وواعظاً من من أفصح الوعاظ وأقدرهم يملك ناصية البيان وفصاحة التعبير كأروع ما تكون بلاغة الواعظ المتمكن من منبره ، وإذا كان قواعد علم الوعظ ، على ما يدرسه طلاب كليات اللاهوت ، تذكر الصفات والمقومات التى يملكها الواعظ الممتاز بأنها أربع صفات متلازمة ، نلاحظ أنها جميعاً كانت ملك أبلوس وتملأ كيانه ، وهى كما يلى :
التقوى
والمدقق فى قصة أبلوس وهو ينتقل من الإسكندرية ليحاضر ويعظ فى أفسس ثم يتجه إلى أخائية : « وهو حار فى الروح » ( أع 18 : 25 ) يدرك أن هذا الرجل تحرك من البداية بدافع الإحساس الروحى المتعمق فيه كيهودى أولا ، ثم كمسيحى ثانياً ، وأنه كان يحمل فى أعماقه قلباً متقداً بحب اللّه ، والولاء ليسوع المسيح ، أو فى لغة أخرى لقد كان الواعظ التقى الذىلا ينطق إلا بما يخرج من أعماق قلبه ، ويعبر عن مشاعره العميقة الصادقة ، وتلك هى السمة الأولى للواعظ المسيحى الناجح ، … والتقوى فى الواعظ هى إحدى خصائص النفس الروحية ، وهى أساس الحماس الأخلاقى البعيد الجذور الذى ينعكس عن الاختبار الدائم لعلاقة الواعظ باللّه ، وهى علاقة صداقة وشركة وحب ، يصبح بمقتضاها خليلا اللّه ، وهى فى لغة أخرى تكريس مهيب للّه ، وهى ليست شيئاً مصطنعاً أو أحجية أو تكلفاً ، وهى ليست جامدة ساكنة بل هى نشطة متحركة تمضى قدماً مزدهية بالحق وبمجد وفضائل النعمة المسيحية وبركاتها ، وهى ليست شيئاً ينتمى إلى عالم آخر ، بمعنى العزوف المتكبر ، أو الانطواء المترفع عن حاجيات الناس ومصالحهم ، بل هى تختلط بهم وتعاشرهم وتعاملهم فى الحياة مزودة بل مسلحة بالفضائل المسيحية . وهى ليست ضعيفة خائرة ، بل هى بطلة ، وبطولتها تتجلى فى انتصار الروح انتصاراً رائعاً على الجسد ، وهى الحقيقة الروحية التى لا تقبل أى تهادن أو تهاون مع الزيف أو الكذب أو الخداع أو التظاهر أو النفاق ، وهى تعترف بوجود أعداء الحياة الخلقية والروحية ، ومن ثم تتحداهم ، وليست من المبالغة أن نقول : إن هذه أول سمة فى الواعظ الناجح ، والضمان لتأثيره وأثره ، إذ أنها تلهب الواعظ نفسه بالغيرة المتلظية والحماس النارى ، وهى التى تبقى الشعلة حية متوهجة وسط كل تلك اللامبالاة الجليدية التى كثيراً ما يجد الواعظ نفسه مجابها ومحاصرا بها ، إن هذه التقوى هى التى تظفر للواعظ بتقدير موعوظيه وعطفهم ونواياهم الطيبة، بل إن أكثر الناس شراً بينهم ، سوف لا يتمالكون أنفسهم من الإقرار بأن ذلك الحماس الصادق من جانبه أمر خليق باحترامهم وجدير بكل ثناء وتقدير . ومثل هذا الواعظ الصادق والأمين لابد أن يبارك اللّه جهوده وأتعابه … ومن الخطأ البين الفصل بين حياة الواعظ والعظة التى ينادى بها ، فروعة البلاغة وقوة وسائل الإقناع والاستمالة ، تذهب هباء مالم يحرص الواعظ الذى يبشر بالإنجيل على أن ينمى فى شخصيته وحياته عنصر التقوى الشخصية ، ومن ثم فإنها لمأساة دونها كل مأساة ، أن يهمل الواعظ عنصر التقوى الشخصية فى حياته !! .
المواهب الطبيعية
كان أبلوس يملك المواهب الطبيعية للواعظ العظيم والتى تبدأ أولا بالقدرة على التفكير السليم الواضح : « مقتدر فى الكتب » و « خبير فى طريق الرب » ، .. لم يكن ضحل التفكير سطحى التأمل ، بل كان ناضج الذهن ، كما كان يملك العاطفة الملتهبة ، فالواعظ البارد المشاعر لا يصلح قط أن يكون واعظاً ، ولكن الواعظ الملتهب هو الذى يتجاوب مع عظته ، عندما وعظ الواعظ الأعمى جيمس وادل عن الصليب ، وجاء إلى كلمة المسيح : « يا ابتاه اغفر لهم » ، رفع الواعظ منديله إلى عينيه وانفجر باكياً ، … لأن العظة مست شغاف قلبه قبل أن تصل إلى الآخرين !! .. وإلى جانب العاطفة هناك الخيال المجنح الذى يرتفع بالواعظ ، ويرفع معه الموعوظيين ، كان لجورج هو يتفيلد القدرة الهائلة على التصور ، جلس « تشستر فيلد » يستمع إليه ذات مرة ، وسمعه وهو يشبه الخاطئ بشحاذ أعمى سقط عكازه ، فهوى الرجل فى هوة حتى صرخ تشستر فيلد : يا إلهى ضاع الرجل !! .. وإلى جانب الخيال هناك المنطق الذى ينبغى أن يتحلى به الواعظ لتكون له القدرة على الإقناع ، وقد كان أبلوس ، كما يبدو من الوصف الكتابى ، لا تعوزه المواهب الطبيعية من حيث الفكر والعاطفة والخيال والمنطق ، مما جعله من أقدر الوعاظ وأفصحهم !! .
المعرفة
من المسلم به فى علم الوعظ ، أنه إذا كانت التقوى قوة الواعظ ، والمواهب الطبيعية وسيلته ، فإن المعرفة هى مادته التى يصوغ منها عظاته وتعاليمه . والمعرفة الواسعة أمر جوهرى فى حياة الواعظ ، وقد كانت للخطيب الرومانى الأشهر شيشرون فكرة معينة مؤداها أن الواعظ أو الخطيب البليغ يجب أن يعرف كل شئ . ومن المسلم به أن الواعظ يستطيع أن يستفيد من أية معرفة ، ويفيد معه الآخرين ، ومن ثم ينبغى أن تكون المعرفة هى طموحه المقدس حيث يعرف كل ما يمكن تعلمه من الحقائق الدينية وسائر الحقائق الاخرى التى تلقى الضوء على كل جوانب الحياة ، ولن يتحقق هذا إلا عن طريق الدرس المستمر ، والصلاة المتعمقة !! ..
المهارة
قال المرنم : « فاض قلبى بكلام صالح متكلم أنا بإنشائى للملك . لسانى قلم كاتب ماهر» (مز 45 : 1 ) .. والمهارة هى ذلك الطابع المميز للواعظ فى أصالته ، عن غيره من الوعاظ ، وقدرته على التفرد بشخصية مستقلة لا تخضع لطغيان المؤثرات التى يمكن أن تحدثها البلاغة العالية أو تقليد الوعاظ الآخرين تقليداً ممسوخا ، ويبدو أن أبلوس كان من هذه الناحية شخصية رائعة متميزة ، لم تتأثر بأخطاء البلاغة اليونانية أو تقليد غيره من الوعاظ ، … ومن المعلوم أن البلاغة اليونانية شأنها شأن اللغة اليونانية ، كانت وسيلة نافعة مجدية فى توصيل الإنجيل إلى الأمم ، فلقد ظهرت المسحية فى عالم انتشرت فيه هذه البلاغة … وكانت المسيحية فى مطلع الأمر فى حذر منها ، إذ نشأت فى أرض فلسطين ، وكان رواد الوعظ المسيحى وجماهيره وخلفياته وصلاته الروحية مرتبطة باليهود ، ومن ثم كان طبيعياً بل وضرورياً أن يسير الوعظ المسيحى فى فلسطين على نمط الأنبياء والمعلمين فى الديانة اليهودية ، يضاف إلى ذلك أن البلاغة ، وإن كانت قد وصلت فى فجر المسيحية إلى قمتها فى الحجة والمنطق والتأثير عند العالم اليونانى والرومانى ، فإنها قد استخدمت فى كثير من المواطن أسوأ استخدام ، إذ غدت فى أيد غير نظيفة سواء كانت أيدى محامين أو معلمين مزيفين ، فتدهورت وفقدت سمعتها ومركزها الأدبى الذى كان مرموقاً ، بعد أن بدت وسيلة ماكرة خاتلة تحاول أن تجعل الأسود أبيض والأبيض أسود ، ومن ثم كان على الواعظ المسيحى الماهر أن يراقب هذه البلاغة أو يتعامل معها على حذر ، … على أن هذا كله قد تأثر بعاملين حيويين فيما بعد ، أولهما تضاؤل النفوذ اليهودى عندما انتشرت المسيحية بين الأمم ، وابتدأت الصور البالغية تدخل فى لباب الوعظ ، … ويعتقد الكثيرون أن أبلوس تأثر إلى حد كبير فى الإسكندرية بهذه الصور ، وأدخلها فى وعظه ، الذى سحر به الكورنثيين ، ففضله بعضهم على بولس نفسه ، … الأمر الثانى – أنه ربما كان من رجال الأدب والبلاغة ، وتحول إلى الوعظ وخلصه ولا شك من أساليب الختال والخداع التى طغت على المحامين والأدباء الذين استخدموا البلاغة اليونانية أسوأ استخدام .
وقد ظهر فى التاريخ الوعاظ المسيحيون الذين جنبوا وعظهم أساليب الخداع أو التمويه ، وكانت رسائلهم قوية مباركة أمثال أبلوس وباسيليوس وغريغوريوس وفم الذهب وأمبروز وأوغسطينوس ، … ومن المسلم به أن أبلوس اشتهر كواعظ فصيح بأسلوبه الخاص الذى تفرد به عن غيره ، ولسنا نعلم هل كان يتحلى بصوت موسيقى ساحر ، وإلقاء مدرب عظيم ولكن يبدو أنه كان كذلك ، … وأن مظهره ومخبره على المنبر كانا كما قال دافيد هيوم : إن سفر عشرين ميلا شئ هين مقابل التمتع بسماع جورج هو يتفيلد .
أبلوس وأكيلا وبريسكلا
لماذا ذهب أكيلا وبريسكلا إلى المجمع ، بل لماذا ذهب أيضاً أبلوس إلى هناك ، .. كان المجمع فى العادة مكان العبادة ، المكان الذى تلتقى فيه النفوس المتعطشة إلى اللّه ، وقد جرى المسيحيون على عادة الذهاب إلى الهيكل ليس للعبادة فحسب ، بل ليجدوا هناك الفرصة الصالحة المناسبة لجذب النفوس إلى يسوع المسيح ، .. وعندما ذهب بولس إلى كورنثوس ، كان من عادته أن يذهب إلى المجمع ، وهناك التقى بأكيلا وبريسكلا وقادهما إلى يسوع المسيح ، وهنا فعل أكيلا وبريسكلا الشئ نفسه ، إذ اقتادا أبلوس إلى الفادى . كان أبلوس قد تعرف على المسيحية لكن معرفته بها كانت ناقصة ومبتورة وكان يحتاج إلى المعرفة الأصح ،الأكمل ، ووجدها على يدى الزوجين العزيزين اللذين علماه طريق الرب بأكثر تدقيق . والأغلب أن وراء كل مسيحى مسيحياً أكثر منه قوة أو نضوجاً أو معرفة بطريق الرب ، والسلسلة العظيمة تسير من جيل إلى جيل ، .. عندما وعظ سافونارولا فى فلورنسا ، أثر وعظه تأثيراً عميقاً فى شاب اسمه « جون كولت » ، وقد تغيرت حياة الشاب تغيراً كلياً ، وذهب جون كولت إلى انجلترا ، والتقى « بأرازمس » وكانت النتيجة أن أرازمس تأثر وتغيرت حياته ، وذهب أرازمس إلى جامعة كمبردج ، وهناك كان سبباً فى تغير حياة توماس بلينى ، وأثر توماس بلينى بدوره فى حياة « لاتيمار » الذى استشهد مع « ردلى » وهو يقول له : كن رجلاً ، فإننا سنضئ فى انجلترا كمشعل ، بنعمة اللّه ، لن ينطفئ أبداً !! .. ومع أن أبلوس أصبح من أعمدة الكنيسة ، وحسب فى كورنثوس عند بعض مريديه نداً لبولس ، والأغلب أنه ترك أثاراً أعمق من أكيلا وبريسكلا ، لكنه مع ذلك كان فى حاجة إليهما فى مطلع الطريق ليعرف كيف يسير فى الطريق الصحيح من أول الأمر ، .. وكم من المسيحيين يؤثرون فى حياة الآخرين ، دون أن يصلوا إلى شهرتهم فيما بعد ومع ذلك كان من المستحيل على هؤلاء المشهورين أن يشقوا الطريق إلى الأمام دون هؤلاء المجهولين أو شبه المجهولين الذين اقتادوهم إلى المسيح ، ولعلنا قد ذكرنا ، على سبيل المثال ، فى بعض دراستنا ، قصة يوستنيان الشهيد ، وكان من سكان السامرة ، وكان شغوفاً بالفلسفة ، ولكن الفلسفة لم تروه أو تشفى غليله ، وحدث ذات يوم وهو يسير حزيناً بالقرب من شاطئ البحر أن التقى مصادفة برجل شيخ غريب عن الديار ، وإذ توقف هذا ليسأل الشاب عن حزنه وتعاسته ، وعرف سره ، وجهه إلى الدين المسيحى بأفاقه الواسعة ، ورؤاه الجميلة ، مشوقاً إياه إلى دراسة الكتاب ، فأقبل يوستنيان على دراسة كلمة اللّه ، فانكشفت أمامه روعة الإنجيل ، وحمله هذا على مواصلة الدرس ، فكتب يوستنيان كتبه الرائعة ، ومنها الحوار مع ترايفو اليهودى ، ودفاعه عن المسيحية أمام الإمبراطور !! .. ونحن لا نعلم من هو الشيخ المجهول الذى قاده ، ولكننا نعلم أنه قاد ، وهو لا يدرى ، أحد أبطال المسيحية وشهدائها الأوائل ممن أبلوا فى الدفاع عنها خير بلاء !! ..
يقول الكتاب : « فلما سمعه أكيلا وبريسكلا أخذاه إليهما وشرحا له طريق الرب بأكثر تدقيق » ( أع 18 : 26 ) ويبدو أن هذين الزوجين كانا من أنجح الناس فى ربح النفوس ، ولندع الكسندر هوايت يقول : « لو أننا كنا مكان هذين الزوجين لما تركنا الاجتماع قبل أن نعرف الناس من هو أبلوس هذا الذى يتكلم بالفصاحة والبلاغة ، ولكنه لا يفهم ألف باء المسيحية ، ويتكلم عنها متخبطاً دون وعى ، أو ربما كنا نبتسم أو نضيق بالاجتماع ونحن ننظر إلى الساعة فى قلق حتى ينتهى من كلامه .. لكن أكيلا وبريسكلا لم يفعلا شيئاً من هذا ، بل بحكمة ووداعة اقتادا الرجل فى هدوء إلى بيتهما ، وهناك فى الجلسة الهادئة علماه طريق الرب بأكثر تدقيق!!». وما من شك أن الرجل أحس عمق محبتهما التى أسرته ، وجاءت به إلى السيد المبارك ، على أننا ونحن نهنئهما على ذلك ، ينبغى أن نهنئ أبلوس أضعافاً مضاعفة !! .. لم يكن الرجل مصاباً بغرور العلم الكاذب بل بكل وداعة واتضاع تقبل تعليمهما كما يتقبل الصبى الصغير من معلمه الكبير الناضج ، .. ونحن لم نسمعه يصيح فيهما !! .. من أنتما حتى تعلمانى ؟! .. أنا خريج جامعة الإسكندرية ، والباحث المشهود له ، والعالم المتضلع فى اللغة العبرانية واليونانية ، والخطيب المفوه الذى يشار إليه بالبنان ، .. من أنتما حتى تتجاسرا على تنبيهى وتعليمى !! .. ذهبت الفتاة الصغيرة ، وكانت تسكن على مقربة من ألبرت اينشتين ، بعد خروجها من المدرسة إليه ليشرح لها درساً فى الرياضة ، وتأخرت عن موعد رجوعها إلى البيت ساعتين وقلقت أمها، ولما رجعت سألتها لماذا تأخرت ؟ ، فقالت إنها ذهبت إلى إينشتين ، وقضت معه ساعتين يشرح لها الدرس ، وفزعت الأم ،ذهبت تعتذر لإينشتين العظيم لأن ابنتها أخذت ساعتين من وقته ، .. وأجاب العالم بوداعة : لقد استفدت من الفتاة أكثر مما أفدتها !! .. كانت روح أبلوس تحمل هذا المعنى لأكيلا وبريسكلا !! ..
هل لنا أن نفكر بعمق فى أثر العمل الفردى فى الكنيسة ؟ إن كثيرين من المؤمنين يجهلون هذا الفن العظيم ، ولكن هل نضرب مثلا لما يمكن أن يحدث لو أن المسيحيين اهتموا به ؟ جاء فى إحدى المجلات الدينية فى عام 1951 ما يلى : « منذ عشر سنوات فى 41 نوفمبر سنة 1941 عقدنا اجتماعاً للصلاة ، وكان عددنا أربعة عشر شخصاً ، وقادنا الرب لأن نبدأ فى العمل الفردى بصفة جديدة ، فطبعنا إعلانات عن مواعيد الاجتماعات وتفرقنا نحن الأربعة عشر إلى المنازل المجاورة موجهين دعوة شخصية لكل عائلة لتحضر إلى الاجتماعات ، وبعد سنة أصبح عدد الأعضاء ثلثمائة وستة عشر عضواً ، وفى السنة التالية وصل العدد إلى ستمائة وستة وعشر ، ووصل العدد الآن إلى عشرة آلاف ، ووصل عدد العاملين فى مدارس الأحد إلى أربعة آلاف شخص وبلغت ميزانية الكنيسة أكثر من مليون دولار ولدينا محطة إذاعة لها برامج خاصة ، ولنا نشرات روحية توزع فى كل أنحاء العالم ، وقد بلغت مصروفاتنا لنشر الإنجيل عن طريق المطبوعات وحدها مليونى دولار ونحن ننسب نجاح العمل بهذه الصورة لبركة اللّه على عملنا الفردى ، ففى مساء كل يوم اثنين يجتمع بضع مئات من المؤمنين للصلاة ثم يخرجون اثنين اثنين لافتقاد المتغيبين ولدعوة أشخاص جدد إلى الاجتماعات . وفى صباح كل يوم ثلاثاء يجتمع عدد كبير من المؤمنات ويقمن بنفس العمل . ولكى نضرب مثلا لذلك نقول إنه فى ديسمبر سنة 1951 اجتمع أكثر من سبعمائة عضو فى الكنيسة وهؤلاء افتقدوا أكثر من عشرة آلاف عائلة فى ظرف ساعة ونصف ، وهذا العمل يتكرر من وقت إلى آخر حتى يحمل الأعضاء ، مسئولية العمل الفردى !! .. » .
وفى الواقع إن أهم صور العمل الفردى وأقدرها نجاحاً وإثماراً ترجع أساساً ، لا إلى القدرة الذهنية لرابح النفوس ، بل إلى حياته الروحية وتمكنه من الشركة المسيحية وعمق الاختبار ، وقد استطاع الأخ لورنس وهو يقوم بعمله كطباخ متواضع أن يعلم الكثيرين من لاهوتى عصره حياة التدرب على المثول أمام اللّه ، وقال يوحنا بنيان عن النعمة المتفاضلة : «إنها نعمة اللّه الصالحة التى دعتنى الدعوة العليا فى بدفورد ، إذ كنت أسير ذات يوم فى أحد شوارعها لأرى ثلاثاً أو أربعاً من النساء الفقيرات جالسات عند دورهن فى الشمس وكن يتحدثن عن أعمال اللّه ، وإذا كانت بى رغبة عميقة أن أسمع ماذا يقلن ، اقتربت منهن ، وكنت إلى ذلك الوقت محدود الدراية بالنواحى الدينية واستمعت إلى ما لم أستطع فهمه إذ كان أعلى كثيراً من إدراكى وفهمى ، لقد كن يتحدثن عن ولادة جديدة وعن عمل اللّه فى قلوبهن ، وكيف اقتنعن بتعاسة حياتهن الخاطئة بالطبيعة وكيف سكن اللّه فى قلوبهن بمحبته فى المسيح يسوع ، وكيف منحهن القوة ضد تجارب الشيطان ، وكن يتكلمن بفرح عميق وبسرور بالغ بالأقوال الكتابية ، وكانت النعمة ظاهرة على وجوههن ، فكن كمن اكتشفن عالماً جديداً ، وأنهن يسكن فى مكان منعزل عن الذين حولهن ، … وأصبح من عادتى أن أتردد بين الحين والآخر لاستمع لمثل هذه الكلمات منهن إذ لم أستطع أن أنظر أكثر . وقد وجدت أمرين عظيمين من وراء هذا كله ، أولا عذوبة وحلاوة ورقة القلب الممتلئ بهذه المشاعر ، والأمر الثانى جمال التأمل المستمر فى كلمة اللّه » . لقد أخذ بنيان طريقه العظيم فى مؤلفه الرائع « سياحة المسيحى » من نساء مسيحيات مختبرات ، وإن كن فقيرات بل شبه معدمات من الناحية المادية !! .
ابلوس وبولس
وهذا يأتى بنا آخر الأمر إلى علاقة أبلوس ببولس ، ومع أن بولس أسس كنيسة كورنثوس ، وتركها بعد سنة ونصف كنيسة كبيرة عظيمة إلا أن أبلوس جاء إلى المدينة ، وخدم فى الكنيسة تالياً للرسول العظيم غير أن الكنيسة هناك قد انقسمت شيعا وأحزابا ، فهناك حزب لبولس ، وحزب لأبلوس ، وحزب لصفا ، وحزب للمسيح ، تماماً كما تنقسم الكنائس إلىمذاهب مختلفة فى أيامنا الحاضرة ، وضاق بولس بهذا الانقسام ، وكشف عن نفسه وعن أبلوس ، فما هو إلا زارع غارس ، جاء بعده أبلوس ليروى ويسقى ، وكلاهما عاملان مع اللّه وللّه ، .. وهما خادمان ليس لأحدهما فضل فى الخدمة : « فمن هو بولس ومن هو أبلوس خادمان آمنتم بواسطتهما وكما أعطى الرب لكل واحد . أنا غرست وأبلوس سقى لكن اللّه كان ينمى . إذاً ليس الغارس شيئاً ولا الساقى بل اللّه الذى ينمى . والغارس والساقى هما واحد ولكن كل واحد سيأخذ أجرته بحسب تعبه . فاننا نحن عاملان مع اللّه وأنتم فلاحة اللّه . بناء اللّه . حسب نعمةاللّه المعطاة لى كبناء حكيم قد وضعت أساساً وآخر يبنى عليه . ولكن فلينظر كل واحد كيف يبنى عليه . فإنه لا يستطيع أحد أن يضع أساساً آخر غير الذى وضع الذى هو يسوع المسيح ( 1 كو 3 : 5 – 11 ) .. فإذا اختلف الكورنثيون حول الرجلين وأيهما أفضل فمن المؤكد أن الاثنين عاشا صديقين يخدمان سيدهما دون أن تتطرق عاطفة الأنانية أو الحسد أو حب الذات إلى الواحد منهما تجاه الآخر ، ويحسن أن نختم هنا بما قاله هربرت لوكاير من أن أبلوس كان وهو « حار بالروح » النبع العظيم من المياه المنعشة الباردة : « وأبلوس سقى » . وقد تدفق مجراه في الكنيسة على مر العصور وكلها مياه هادئة جميلة صافية حلوة منعشة رقراقة !! …

هل تبحث عن  القراءات اليومية ( يوم الاربعاء ) 26 نوفمبر 2014

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي