رأينا في العدد السابق كيف أن فرعون موسى احتال لكي يُبيد الشعب ويمنع نموهم وتكاثرهم. لكن محاولاته فشلت، فنما الشعب وازداد كثيرًا جدًا. وفي هذا العدد سنرى فرعون مرة أخرى، وهو رمز واضح للشيطان، يحاول جاهدًا أن يمنع خروج الشعب من أرض مصر بواسطة موسى ليعبد الرب في البرية. وكان هدفه أن يحتفظ بهم تحت سيطرته. وهذا ما يفعله الشيطان، إذ يستعبد الإنسان ويُذله ويهدّده بالموت؛ والإنسان خوفًا من الموت يظل كل حياته تحت العبودية. لكن الرب يسوع جاء إلى العالم وذهب إلى الصليب، لكي يُبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس، ويعتقنا من عبوديته القاسية، وينقذنا من سطوة العالم الحاضر الشرير (عبرانيين2: 14، 15؛ غلاطية1: 4).
في البداية، كان فرعون يرفض رفضًا باتًا خروج الشعب ويُنكر حق الرب في شعبه. فقال لموسى: «الرب لا أعرفه، وإسرائيل لا أُطلقه». فضرب الرب فرعون وأرض مصر ضرباتٍ ثقيلة، وعندئذ غيَّر فرعون أسلوبه، ولجأ إلى المساومة، واقترح على موسى أربعة اقتراحات، فيها نرى أساليب الشيطان للسيطرة على النفوس لكي لا تُفلت من قبضته.
1- قال فرعون لموسى: «اذهبوا اذبحوا لإلهكم في هذه الأرض» (خروج8: 25). كان هذا أول اقتراح من فرعون. وهذا يعني أن الشيطان يوافق على تديُّن الإنسان، وأن يمارس أي صورة من العبادة الشكلية، بشرط أن يظل تحت سيطرته. وهذا يُذكِّرنا بالمتدين الأول قايين، الذي قدَّم قربانًا من ثمار الأرض، مع أنه كان «من الشِّرير (الشيطان)، وذبح أخاه… لأن أعماله كانت شريرة وأعمال أخيه بارة» (تكوين4: 3؛ 1يوحنا3: 12).
إن الملايين في عالم اليوم ساروا وراء قايين في طريق التدين والأعمال، بِغَضِّ النظر عن حالة القلب والعلاقة الصحيحة مع الله. إنهم يعيشون في الفجور والشرور، ومع ذلك فهم مُتدينون ويُقدِّمون عبادة شكلية روتينية بحسب أفكارهم. وهذه العبادة مرفوضة ولا يمكن أن الله يرضى عنها. إنهم عبيد للشيطان ويريدون أن يعبدوا الله. فكيف يقدر الإنسان أن يخدم سيدين (متى6: 24)؟! إن مصر ترمز إلى العالم، وهو دائرة سيادة الشيطان. ويجب أن يتحرر الإنسان من هذه السيادة أولاً، ويصبح تحت لواء وسيادة المسيح، حتى يستطيع أن يقدِّم العبادة المقبولة ويخدم الخدمة المرضية.
لهذا قال موسى: «لا يصلح أن نفعل هكذا، لأننا إنما نذبح رجس المصريين للرب إلهنا. إن ذبحنا رجس المصريين أمام عيونهم أفلا يرجموننا؟» (خروج8: 26). إن الصليب، وهو أساس عبادتنا وسجودنا، يتضمن دينونة هذا العالم ورئيس هذا العالم. لهذا فإن العالم يرفض ويبغض فكرة الصليب. فكيف نسجد ونحن في مناخ العالم وتحت سيطرة المبادئ الشيطانية؟
2- قال فرعون: «أنا أطلقكم لتذبحوا للرب إلهكم في البرية، ولكن لا تذهبوا بعيدًا» (خروج8: 28). وهذا الاقتراح الثاني يتضمَّن أن الشيطان مستعد أن يعطينا مساحة من الحرية بشرط أن نظل في متناول يده، ويستطيع أن يجذبنا ويتحكم فينا متى أراد، فلا نستطيع أن نفلت نهائيًا من يده. «لا تذهبوا بعيدًا». هذا يعني عدم التشدد والتمسك بالحق، واعتبار هذا نوعًا من التطرف. إنه يريد منا التساهل وقبول كل الأفكار والمعتقدات، ويحاول تقريب وجهات النظر، والبحث عن نقاط التقابل مع كل التوجهات بغض النظر عن مطابقتها لكلمة الله. كأنه يقول: «لا تذهبوا بعيدًا» بمعاني الكتاب، بل لنأخذ الأمور ببساطة، ونعيش بمبادئ مُختلطة مع الآخرين. إنه يرفض فكرة الانفصال عن العالم، ويرحب بالعروج بين الفرقتين والحلول الوسط. وهذه هي حالة «لاودكية»، «لست باردًا ولا حارًا، هكذا لأنك فاتر» (رؤيا3: 15). وبالأسف، فإن بعض الشباب اليوم يميلون لهذا الفكر، وتحكمهم الصداقات والعلاقات الاجتماعية أكثر كثيرًا من المبادئ الكتابية، ولا يدركون أهمية الانفصال عن العالم وعن الشرور الأدبية والتعليمية.
3- قال فرعون: «مَنْ ومَنْ هم الذين يذهبون؟ فقال موسى: نذهب بفتياننا وشيوخنا. نذهب ببنينا وبناتنا… قال لهما (أي فرعون):… ليس هكذا. اذهبوا أنتم الرجال واعبدوا الرب» (خروج10: 8-11). هذا الاقتراح يعني أن الشيطان يحاول أن يحتفظ بالنساء والأولاد في قبضته، بحجة أنه ما الداعي أن تتعبوا هؤلاء، وهم الفئة الضعيفة، في مسيرة شاقة في البرية؛ يكفي أن يذهب الرجال للعبادة، ولكن ما دور النساء والأطفال في عبادة الرب. إن الشيطان يحاول أن يحتفظ بالجيل الثاني، ويسيطر على النشء الصغير. وهل يصلح أن جزءًا من العائلة يعبد الرب والجزء الآخر يخدم فرعون؟! إن فكر الله الواضح هو «أنت وأهل بيتك». والرب يريد أن يبارك الصغار مع الكبار (مزمور115: 13). وبالأسف فإن الكثير من الشباب اليوم لا يشعر بالانتماء لكنيسة الله ويعتبر أن اجتماعات الكنيسة هي للكبار فقط.
4- أخيرًا قال فرعون: «اذهبوا اعبدوا الرب. غير أن غنمكم وبقركم تبقى. أولادكم أيضًا تذهب معكم» (خروج10: 24). ولو بقيت الأغنام والأبقار في مصر فإنهم سيرجعون حتمًا، لأنه «حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا» (متى6: 21). رفض موسى هذا العرض حيث أنهم سيخرجون لكي يذبحوا منها للرب. لذلك قال لفرعون: «تذهب مواشينا أيضًا معنا. لا يبقى ظلفٌ» (خروج10: 26). فينبغي أن نكون نحن، وكل مَنْ لنا، وما لنا، قُدسًا للرب. والشيطان يكره المؤمن الساجد، بينما هذا ما يطلبه الآب. لهذا فإن الشيطان يحاول تعطيل الساجد عن السجود أو يجعله يذهب بدون ذبيحة. وكم مرة يوجد المؤمن في الاجتماع وليس عنده شيء يقدّمه للرب، فالذهن شارد والقلب بارد واليد فارغة.
كانت هذه هي محاولات فرعون لاستبقاء الشعب تحت سيطرته، ولكن موسى رفض كل الاقتراحات، وكان مُحدَّدًا وصلبًا في مواجهة العدو، وهو ما ينبغي علينا أن نعمله فنرفض كل الحلول الوسط، ونقف في صف الرب بكل أمانة لكي نعبده ونخدمه الخدمة المرضية بخشوع وتقوى.