16: 15- 20
رُفع يسوع إلى السماء وجلس عن يمين الله
أرادت خاتمة إنجيل مرقس (16: 9- 20) أن تجمع في بضع كلمات كل ما حدث بعد القيامة. كان مر 16: 8 قد تركنا في صمت لا يُطاق، وفي جوع لا يُحتمل: خرجت النسوة هاربات وما أخبرنَ أحداً بشيء، لأن الخوف إعتراهنّ. في الواقع، هذا ما أتاح لنا أن نشاهد سرّ المسيح من خلال ما تستطيع الكلمات أن تقوله. ولكن ها نحن في انطلاقة جديدة.
تتالت الأحداث، خصوصاً حول الصعود. وما نقرأه اليوم تحيط به كرازة (أو: إعلان) وآيات. وبّخ يسوع الأحد عشر على قلّة إيمانهم، ثم أرسلهم حالاً إلى الرسالة. إن واقعية هذه الملاحظة تعيد الثقة اليوم إلى الذين يعلنون الإنجيل بإيمانهم الضعيف.
لن يقبل الجميع هذا التعليم. ولكن الحمد لله، سيؤمن آخرون. وستكون لهم آيات.. وتلك الآيات غير المنتظرة هي السيطرة على الحيّات وعلى السمّ. هذه ليست لغة الأناجيل العادية، إلاّ إذا فكّرنا في أع 28: 3- 5 (تعلّقت الحية ببولس فنفض الحيّة في النار من غير أن يمسّه أذى). كل ما هو سمّ ومسمّ يخيف الاقدمين. نستطيع أن نرى في هذه الآيات كل السموم التي نحاربها وننتصر عليها، من المخدرات إلى كل الكذبات الايديولوجية التي تسمّم حياتنا. ليس التلاميذ سحرة. إنهم مدعوّون إلى الحذر من فخاخ عالم معادٍ. والآيات الأخرى (الحرب ضدّ الامراض) هي نشاط خلاصي يرتبط بالبشارة الإنجيلية إرتباطاً جوهريّاً.
والتكلّم بالألسن أمر طبيعي لاناس يذهبون إلى العالم كلّه. نحسّ هنا بسيطرة سفر الأعمال ومداه الارسالي. نحسّ وكأننا في حقبة انتشار الإنجيل من خلال تجميع هذه الملاحظات التي تدلّ على أن الشهود لا يُقهرون. كما تدلّ على إرادة الانفتاح والتعاطف الأساسي بالنسبة إلى جميع الأحياء.
ويسوع الذي رُفع وجلس عن يمين الآب هو جزء من عالم الصعود الرمزي. فالشاب الذي رأته النسوة في القيامة، كان جالساً عن اليمنين (16: 5). فالصورة تحيلنا إلى التمجيد وإلى إعادة الكرامة إلى شخص حُكم عليه بالإعدام (رج 12: 36 و14: 62). كما إنها تؤثر على تصرّفنا. لقد تغلّبنا الآن على كل تردّد كما بسحرٍ ساحر.
التلاميذ والمسيح يعملون معاً. وكل شيء ينتهي في حالة من النصر والمجد. نحسّ كأننا أمام كلمة لا يقف بوجهها شيء. والأمور تسير بسرعة مذهلة. الصعود هو اختطاف يحمل الخير إلى التلاميذ، ويعطي القوة للباقين على الأرض. تبدو السماء وكأنها في نهاية الشارع. تبدو قريبة منا وفي متناول أيدينا. لماذا؟ لأنّ لا شيء يغلب أيدي التلاميذ. يضعون أيديهم على الناس فتلتحم الجماعة الكنسيّة.
نستطيع أن نلمس لمس اليد مستقبل الإنسان الذي حوّله الإيمان. لا شكّ في أنه يبقى حراً بأن يختار ما يشاء. وهذه الحرية هي أعظم علامة بأن الرب يسوع يعمل لا القلوب. إنه يوقّع في آخر الصفحة وبطريقة مقروءة فعل حضوره الواقعي والمستمرّ في الكون.
اليوم الأول، اليوم الثامن، اليوم الأربعون، اليوم الخمسون، في الصفحات الفصحية التي نقرأها في الأناجيل وفي أعمال الرسل. فتعداد الأيام لا يتوقّف عند كل عدد، بل عند الأعداد التي تشير إلى أحداث بيبليّة. فإذا أردنا أن ندرك مدلولها، يجب أن نترك عقلياتنا الحسابيّة الخاضعة لدقّة الجمع والطرح حتى الليرة والقرش، وحتى عُشر الثانية.
إن أرقام الزمن الفصحي تتضمّخ بمدلول يبعدها عن عالم الحساب. إنها مليئة بالتلميحات إلى أحداث بيبليّة وبالتالي إلى مبادرات الله وأعماله في الكون. يوم القيامة، يوم الفصح، هو اليوم الأول، لأنه يوم الخليقة الجديدة، اليوم الذي فيه يُعيد الله خلق الحياة إلى الأبد. وهو يوم ثامن، لأن القيامة تجدّد الخليقة المكمّلة في الاسبوع الأول والمجروحة بالسقطة والخطيئة. وخلال أربعين يوماً، سيرّ يسوع رسله لا أربعين سنة احتاج إليها الشعب الأول ليدخل إلى أرض الميعاد. السماء التي إليها ينظرون هي حاضرة على أرضنا، وقد جعلها يسوع قريبة في كنيسته. والخمسون يوماً هي أسبوع الأسابيع، اليوم الأبدي الذي فيه ينفح يوع شعبه بروحه.
هذا الزمن الجديد هو زمن الكنيسة، زمن جماعاتنا. إلى مَ سنوجّه عيوننا؟ أنرفعها؟ أجل، لكي نبارك الله. ولكننا لا نحوّلها عن الأرض التي لم يتركها يسوع، بل يسكنها منذ صعوده بواسطة جماعاتنا الكنسيّة. فإنجيل الصعود يصوّر الرسالة التي سلّمها المسيح إلى كنيسته التي يمثّلها الأحد عشر. فكل الأعمال والمبادرات التي تتضمّنها هذه الرسالة، هي التي أتمّها يسوع شخصيّاً وبصورة مباشرة قبل قيامته. وها هو يتمّها اليوم بواسطة كنيسته: إنّه يطلب منّا أيدينا وعقولنا ونظراتنا وخطواتنا. إنّه ينظّم شعبه “لتتمّ مهمّات الخدمة الرسوليّة ويُبنى الجسد”.
صعد يسوع إلى السماء، ولكن هذه السماء هي فينا. وهذا القرب يُدركنا بصورة خاصة في جماعة يوم الأحد التي تعبرّ عنها الأفخارستيا. هذا القرب يجعلنا في ها النهار الذي لا مساء له، يوم الله، اليوم الأول والثامن. وهو يؤوّن في وقت واحد، الأربعين يوماً التي فيها ظهر يسوع حيّاً وكلّمنا عن ملكوت السماء، والخمسين يوماً التي فيها ينفحنا بروحه لنكون جسده الحيّ في العالم.
إن سّر القيامة والصعود وإرسال الروح القدس على الكنيسة هو سرّ واحد يضم اليوم الحاضر وينشر عليه ثماره. إن عيّدنا الصعود يوم خميس أو يوم أحد، الأمر هو هو، لأنه يوم الأربعون في نظر الله.
إذ أدرك الرسل طريقة حضور القارئم من الموت، فتحوا عيونهم على “القامة” الحقيقية لذلك الذي عرفوه. معه بدأت لغة جديدة. به نصل إلى أب الجميع. فيه يصل الإنسان إلى وضع الإنسان الكامل. الصعود هو عيد يسوع نقرّ به مسيحاً، نقرّ به ربّاً ارتفع ليجتذب سجود الجميع ويوصل كلمته إلى العالم كلّه